مغامرة راكبة الدراجة في الطريق المهجور

في الفترة من عام ١٨٩٤ إلى ١٩٠١ كان السيد شيرلوك هولمز مشغولًا للغاية. ويُمكنني القول بكل ثقةٍ إنه ما من قضيةٍ عامة، أيًّا كانت درجة صعوبتها، إلا وكان يُستشار فيها طوال هذه السنوات الثماني، إلى جانب مئات القضايا الخاصة التي كانت ذات طابعٍ استثنائي وبالغ التعقيد، وكان له دورٌ بارزٌ في حلِّها. وكان نتاجُ هذه الفترة الطويلة من العمل المتواصل الكثيرَ من النجاحات المُبهِرة، وبعض الإخفاقات التي لم يكن منها مَناص. ونظرًا لاحتفاظي بما دوَّنتُه بالتفصيل عن كل هذه القضايا، ولمشاركتي شخصيًّا في كثيرٍ منها، يُمكن تصوُّر مدى صعوبة مهمة اختيار واحدةٍ منها لعرضها للعامة. ومع ذلك، سأظل ملتزمًا بقاعدتي السابقة، وأُعطي الأفضلية للقضايا التي لا تَستمد أهميتها من بشاعة الجريمة بقدْر ما تستمدها من براعة حلِّها وطبيعته الدرامية؛ ولهذا السبب سأعرِض للقارئ وقائعَ قضيةِ الآنسة فيوليت سميث، راكبةِ الدرَّاجة الوحيدة في تشارلينجتون، والنتيجة الغريبة لتحرِّياتنا، التي انتهت بمأساةٍ غير متوقَّعة. صحيح أن الملابسات لا تجعلها مثالًا توضيحيًّا بارزًا للقدرات التي اشتُهر بها صديقي، لكن ثَمَّةَ بعض النقاط في هذه القضية جعلتْ لها مكانًا بارزًا في السجلات الطويلة الحافلة بالجرائم التي أستمدُّ منها المادةَ التي تقوم عليها هذه الروايات القصيرة.

بالرجوع إلى مفكرتي لعام ١٨٩٥، أجد أنه في يوم السبت، الثالث والعشرين من أبريل، زارتنا لأول مرة الآنسة فيوليت سميث. لم تكن زيارتُها موضعَ ترحيبٍ على الإطلاق من جانب هولمز كما أذكر؛ إذ كان مُنهمكًا في تلك اللحظة في قضيةٍ عويصة ومعقَّدة للغاية تتعلَّق بالاضطهاد الاستثنائي الذي كان جون فينسنت هاردن، مليونير التبغ الشهير، يتعرَّض له. فكان صديقي الذي كانت أحب الأشياء إليه الدقة والتركيز عند التفكير، يستاء من أي شيءٍ يُشتِّت انتباهه للمسألة التي يَدرسها. ومع ذلك، ودون فظاظة، على خلاف طبيعته، كان من المستحيل أن يرفض سماعَ قصةِ سيدةٍ شابةٍ جميلةٍ وطويلةٍ وأنيقةٍ ذات طلَّة ملَكية مهيبة، جاءت لزيارتنا في شارع بيكر في وقتٍ متأخِّر من المساء، وناشدَته العون والنُّصح. ولم تكن هناك جدوى من الإصرار على أن وقته مشغول بالكامل؛ إذ جاءت هذه السيدة الشابة وكلها إصرار على إخبارنا بقصَّتها، وكان من الواضح أن لا شيء إلا القوة سيدفعها إلى ترك الغرفة حتى تفعل ذلك. وبنبرةٍ مستسلِمة وابتسامةٍ فاترة إلى حدٍّ ما، طلب هولمز من المتطفِّلةِ الجميلةِ الجلوسَ وإخبارنا بما يُزعجها.

قال لها، موجِّهًا عينَيه الحادتَيْن نحوها: «على الأقل لا يُمكن أن يكون له علاقة بصحَّتك؛ فراكبةُ درَّاجةٍ نشيطةٍ مثلك لا بد أن تكون مُفعمةً بالطاقة.»

نظرت بدهشةٍ إلى قدمَيها، ولاحظتُ التمزُّق البسيط على جانبَي نعلها الذي يُسبِّبه الاحتكاك مع حافة البدال.

«أجل؛ فأنا أركب دراجتي كثيرًا يا سيد هولمز، وهذا له علاقة بزيارتي لك اليوم.»

أمسَك صديقي بِيَدِ السيدة التي نزعَت عنها القفاز، وفحَصَها باهتمامٍ بالغ، ودون إبداء أي مشاعر، تمامًا مثلما يفحص العالِم عيِّنتَه.

قال لها وهو يترك يدها: «أستمحيكِ عذرًا، فهذا عملي. لقد كدتُ أخطئ في افتراض أنكِ تُمارسين الطباعةَ على الآلة الكاتبة، لكن بالطبع إنها الموسيقى. أتُلاحظ يا واطسون الأطرافَ المسطَّحةَ لأصابعها، الشائعةَ في المهنتَين؟ إلا أن وجهها يحمل طابعًا روحانيًّا» — وأدار وجهها نحو الضوء بلطف — «لا ينشأ لدى الكاتب على الآلة الكاتبة. إنَّ هذه السيدة عازفة موسيقى.»

«أجل يا سيد هولمز؛ فأنا أُدرِّس الموسيقى.»

«في الريف، على ما أظنُّ، من لون بشرتك.»

«أجل، بالقرب من فارنهام، على حدود سَري.»

«إنها منطقة جميلة وعامرة بأكثر المعارف المُثيرين للاهتمام. أتذكَّر يا واطسون أننا ألقينا القبضَ، بالقرب من هذه المنطقة، على أرتشي ستامفورد المزوِّر. والآن يا آنسة فيوليت، ماذا حدث لكِ بالقرب من فارنهام على حدود سَري؟»

أخبرتنا السيدة الشابة، بوضوح وهدوء بالغَيْن بهذا التصريح المُثير للاهتمام:

«إن والدي متوفًّى يا سيد هولمز. إنه جيمس سميث الذي كان يقود الأوركسترا في مسرح إمبريال القديم. وقد تركَنا أنا ووالدتي دون أيِّ معارف في العالم باستثناء عمٍّ واحد، يُدعى رالف سميث، كان قد ذهب إلى أفريقيا منذ ٢٥ عامًا، ولم نسمع عنه شيئًا منذ ذلك الحين. حين تُوفِّي والدي ترَكَنا في فقر شديد، لكن في أحد الأيام نمَى إلى علمنا وجود إعلانٍ في صحيفة «التايمز» يَستعلم عن مكاننا. لك أن تتخيَّل مدى سعادتنا الغامرة؛ إذ ظنَنَّا أن أحدًا قد ترك لنا ثروة. ذهبنا على الفور إلى المحامي الذي ذُكر اسمه في الصحيفة. وهناك التقَينا بسيِّدَيْن، السيد كاروثرز والسيد وودلي، اللذَين عادا إلى الوطن في زيارةٍ من جنوب أفريقيا. قالا إن عمي كان صديقهما، وإنه تُوفِّي منذ بضعة أشهر في فقرٍ مُدقِع في جوهانسبرج، وإنه طلب منهما وهو في النَّزع الأخير البحثَ عن أقاربه والتأكُّدَ من أنهم لا يُعانون الحاجة. بدا غريبًا لنا أن العمَّ رالف، الذي لم يهتمَّ لأمرنا في حياته، يهتمُّ برعايتنا بعد وفاته، لكن السيد كاروثرز شرح لنا أن السبب في هذا أن عمِّي لم يكن قد عَلِم بوفاة أخيه إلا توًّا، وعليه شَعَر بأنه مسئول عن مصيرنا.»

قال هولمز: «عفوًا، متى دار هذا الحوار؟»

«في ديسمبر الماضي، منذ أربعة أشهر.»

«أكملي رجاءً.»

«بدا لي السيد وودلي شخصًا بغيضًا للغاية. كان ينظر إليَّ طوال الوقت — كان شابًّا فظًّا مُمتلئ الوجه ذا شارب أحمر، وشعره يتدلَّى على كلا جانبَي جبهته. فكَّرتُ في أنه شخص بغيض تمامًا، وكنتُ متأكِّدةً من أن سيريل لن يَرغب في أن أعرف مثل هذا الشخص.»

قال هولمز مبتسِمًا: «آه، اسمه سيريل إذن!»

احمرَّ وجه السيدة الشابة خجلًا وضَحِكَت.

«أجل يا سيد هولمز، سيريل مورتون، مهندس كهرباء، ونعتزم الزواج بنهاية الصيف. يا إلهي! كيف وصلتُ إلى الحديث عنه؟ ما أردتُ قولَه أن السيد وودلي كان بغيضًا للغاية، لكن السيد كاروثرز، الذي كان يَكبُره بكثير، كان أكثر لطفًا. كان شخصًا داكن اللون، شاحب الوجه، حليق الذقن، وصامتًا، لكنه كان دمث الخلق وابتسامته لطيفة. سأل عن حالنا، وحين عَلِم أننا فقراء للغاية، اقترح أن أذهب إلى منزله وأُدَرِّس الموسيقى لابنته الوحيدة، التي تُناهز العاشرة. قلتُ له إني لا أحبُّ ترْكَ والدتي، وعليه اقترحَ عليَّ العودةَ إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع، وعرضَ عليَّ مائة جنيه في السنة، وهو بالطبع أجرٌ مُجزٍ للغاية؛ لذلك انتهت بي الحال إلى الموافَقة، وذهبتُ إلى تشيلترن جرينج، التي تَبعُد نحو ستة أميال عن فارنهام. كان السيد كاروثرز أرملَ، لكنه عيَّن مُدبِّرة منزل، وهي سيدة مُسنَّة في غاية الاحترام تُدعى السيدة ديكسون، من أجل رعاية المنزل. كانت الطفلةُ رقيقةً للغاية، وبدا كلُّ شيءٍ مبشِّرًا بالخير؛ فقد كان السيد كاروثرز بالغَ الطيبة ومُحبًّا للموسيقى، وكنَّا نقضي أمسياتٍ رائعةً معًا. وكنتُ أذهب إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع إلى والدتي في البلدة.

كان أوَّل ما أفسد عليَّ سعادتي وصول السيد وودلي ذي الشارب الأحمر؛ فقد جاء لزيارتنا لمدة أسبوع، وآه، بدا لي كأنه ثلاثة أشهر! فقد كان شخصًا مقيتًا، يُضايق الجميع، لكنه كان معي أسوأ بكثير؛ فقد صرَّح بحبٍّ سمجٍ تِجاهي، وتفاخَر بثروته، وقال إنني إن تزوَّجتُه فسأَمتلِك أروع الماسات في لندن، وأخيرًا حين تجاهلتُه، أمسك بي بين ذراعَيه في أحد الأيام بعد العشاء — فكان بالغ القوة — وأقسم أنه لن يَدعَني حتى أُقبِّله. دخل علينا السيد كاروثرز وأبعده عني، عندها انقضَّ على مُضيفِه وطرحه أرضًا وجرَح وجهَه. هكذا انتهت زيارته، كما يُمكنك أن تتخيَّل. اعتذَرَ لي السيد كاروثرز في اليوم التالي، وأكَّد لي أني لن أتعرَّض لمثل هذه الإهانة مرةً أخرى. ولم أرَ السيد وودلي منذ ذلك الحين.

والآن يا سيد هولمز أصِلُ أخيرًا إلى الشيء الخاص الذي جعلني آتي طلبًا لنصيحتك اليوم. لا بد أن تعلم أني كلَّ يوم سبت قبل الظَّهيرة أركب درَّاجتي إلى محطة فارنهام حتى أستقل قطارَ الثانية عشرة و٢٢ دقيقة المتَّجه إلى البلدة. والطريق من تشيلترن جرينج طريقٌ مهجور، وفي إحدى البقع يكون مهجورًا تمامًا؛ إذ يمتد لأكثر من ميل بين مرج تشارلينجتون هيث، على أحد جانبَيه، والغابة التي تمتد حول منزل تشارلينجتون هول، على الجانب الآخر. لا يمكنك أن تجد أي طريق مهجور أكثر منه في أي مكان آخر، ومن النادر للغاية أن تقابل عربةً أو فلاحًا حتى تصل إلى الطريق السريع بالقُرب من كروكسبيري هيل. منذ أسبوعين كنتُ أمرُّ بهذا المكان حين تصادف أن نظرتُ من فوق كتفي، ورأيتُ خلفي على بُعد نحو مائتَي ياردة رجلًا يركب درَّاجة أيضًا. بدا رجلًا في منتصف العمر، ذا لحية قصيرة داكنة. نظرتُ خلفي قبل وصولي إلى فارنهام، لكن الرجل كان قد اختفى؛ لذا لم أفكِّر كثيرًا في الأمر. لكن لكَ أن تتخيَّل، يا سيد هولمز، مدى دهشتي حين رأيتُ عند عودتي في يوم الإثنين الرجلَ نفسَه في المنطقة ذاتها من الطريق. وزادت دهشتي حين تكررت الواقعة مرةً أخرى، تمامًا مثلما حدث من قبلُ، في يومَي السبت والإثنين التاليَين. كان يُحافظ دومًا على مسافةٍ بيننا ولم يُضايقني بأي شكل، لكن ظل الأمر بالتأكيد غريبًا. أخبرتُ السيد كاروثرز بهذا، وقد بدا مهتمًّا كثيرًا بما قلتُ، وأخبرني أنه طلب إحضار حصانٍ وعربة، حتى لا أُضطر في المستقبل إلى المرور من هذه الطرق المهجورة دون رفقة.

كان من المُفترض أن يأتي الحصان والعربة هذا الأسبوع، لكن لسببٍ ما لم يَصِلا، ومرةً أخرى اضطُررتُ إلى ركوب درَّاجتي إلى المحطة. وكان ذلك في صباح يومنا هذا. لك أن تعتقد أني انتبهتُ عند مروري بجوار تشارلينجتون هيث، وبالطبع، وجدتُ الرجل، وفعل تمامًا مثلما فعل في الأسبوعَين الماضيَين. كان بعيدًا عني طَوال الوقت كثيرًا حتى إنني لم أستطِع رؤيةَ وجهه، لكنه بالتأكيد شخص لا أعرفه. كان يَرتدي بذلةً داكنةً وقبعةً من القماش. كان الشيء الوحيد الذي استطعتُ رؤيته في وجهه لحيته الداكنة. واليوم لم أشعُر بالانزعاج، بل تملَّكني الفضول، وقررتُ معرفة مَن هو، وماذا يريد؛ لذا أبطأتُ سرعة درَّاجتي، لكنه أبطأ سرعته أيضًا. ثم توقفتُ تمامًا، لكنه توقَّف هو الآخر؛ لذا صنعت له فخًّا. يوجد منعَطفٌ حادٌّ في الطريق؛ فأسرعتُ في التبديل حين اقتربتُ منه، ثم توقَّفتُ وانتظرتُ. لقد توقعتُ أن ينزلَ فيه مندفعًا ويمرَّ بي قبل أن يستطيع التوقُّف، ولكنه لم يظهرْ قَط. بَعدَها عُدتُ إلى الطريق ونظرتُ عند الناصية. كان بإمكاني رؤية الطريق أمامي لمسافة ميل، لكنه لم يكن فيه. والأكثر عجبًا في الأمر عدم وجود أي طريق جانبي في هذه البقعة يُمكنه الذهاب منه.»

ضحكَ هولمز وفركَ يديه، وقال: «هذه القضية بالتأكيد لها طابع خاص. كم مضى من الوقت بين دورانك عند المنعطف واكتشافك خلوَّ الطريق من المارة؟»

«دقيقتان أو ثلاث.»

«إذن لا يمكن أن يكون قد عاد عبْر الطريق، وأنتِ تقولين إنه لا توجد طرقٌ جانبية، أليس كذلك؟»

«ولا واحد.»

«إذن لا بد أنه ذهب في ممرٍ للمُشاة على أحد الجانبَين.»

«لا يمكن أن يكون قد ذهب على جانب المرج، وإلا كنتُ رأيته.»

«إذن نستنتج، عبْر عملية الاستبعاد، أنه قد ذهب نحو تشارلينجتون هول، الذي يُوجد، بحسب ما أفهم، على أرضه الخاصة على جانب الطريق، هل ثَمَّةَ شيءٌ آخر؟»

«لا شيء يا سيد هولمز، عدا أنني كنتُ في حيرةٍ بالغة، وشعرتُ بأني لن أرتاح إلا إن قابلتُك وأخذتُ مشورتك.»

جلس هولمز صامتًا لبعض الوقت، ثم سألها في النهاية: «أين يَعمل خاطبك؟»

«في شركة ميدلاند إلكتريكال، في كوفنتري.»

«لا يزوركِ زياراتٍ مفاجئة؟»

«آه يا سيد هولمز! كما لو أني لا أعرفه!»

«هل كان لديكِ مُعجَبون آخرون؟»

«كثيرون قبل سيريل.»

«ومنذ ارتباطك به؟»

«لم يكن إلا هذا الرجل البغيض، وودلي، إن كان لنا أن نُطلِق عليه مُعجَبًا.»

«لا أحد آخر؟»

بدت عميلتُنا الجميلةُ مرتبكةً قليلًا.

فسأل هولمز: «مَن هو؟»

«حسنًا، ربما أتوهَّم فحسب، لكن كان يبدو لي أحيانًا أن ربَّ عملي، السيد كاروثرز، يهتم كثيرًا لأمري؛ فقد جمعنا القدَر معًا إلى حدٍّ ما. فأنا أعزف بمصاحبته في المساء، لكنه لم يَقُل لي أي شيء؛ فهو رجل مهذَّب للغاية، لكن الفتاة تَعرف دومًا.»

قال هولمز، وهو يبدو متجهِّمًا: «هاه! ما العمل الذي يَتكسَّب منه؟»

«إنه رجل ثري.»

«أليس لديه عربات أو خيول؟»

«حسنًا، على الأقل هو موسِر إلى حدٍّ ما. لكنه يذهب إلى المدينة مرتَين أو ثلاثًا في الأسبوع؛ فهو يهتم كثيرًا بأَسهم الذهب في جنوب أفريقيا.»

«أرجو أن تُعْلميني بأي تطور جديد يا آنسة سميث. أنا منشغل جدًّا الآن، لكني سأُخصِّص وقتًا للتحقيق في قضيتك. وفي غضون هذا رجاءً لا تتخذي أي خطوة دون أن تُعْلميني بها. إلى اللقاء، وأنا متأكد من أننا لن نسمع منكِ إلا كلَّ ما يَسُر.»

قال هولمز، وهو يُدخِّن غليونه في تأمُّل: «إنه جزء من منظومة الطبيعة الراسخة أن تجد مثلُ هذه الفتاة مَن يُلاحقها لتختار خاطبًا، لا أن تكون الملاحَقة بدرَّاجة في طرقٍ ريفية مهجورة. هذا عاشق سرِّي، لا محالة. لكن ثَمَّةَ تفاصيل غريبة ومعبِّرة في هذه القضية يا واطسون.»

«أتقصد بشأن أنه لا يظهر إلا عند هذه المنطقة فقط؟»

«بالضبط، لا بد من توجيه أول جهودنا نحو معرفةِ مَن قاطنو تشارلينجتون هول. ثم، أيضًا، ماذا عن العلاقة بين كاروثرز وَوودلي، بالنظر إلى الاختلاف الرهيب بين الرجلين على هذا النحو؟ كيف أصبح كلاهما مهتمًّا بالبحث عن أقارب رالف سميث؟ وثَمَّةَ نقطة أخرى؛ أيُّ أسرةٍ تلك التي تدفع ضعف السعر السائد في السوق لمُربية، بينما لا تمتلك حصانًا على الرغم من بُعدهم ستة أميال عن محطة القطار؟ أمر غريب يا واطسون، غريب للغاية!»

«ستذهب إلى هناك، صحيح؟»

«لا يا صديقي العزيز، بل أنت مَن سيذهب؛ فربما تكون هذه خدعة تافِهة، وأنا لا يُمكنني قطع أبحاثي المهمة من أجلها. عليك أن تذهب في وقتٍ مبكِّر من صباح يوم الإثنين إلى فارنهام، وتختبئ بالقرب من تشارلينجتون هيث، وتُراقب هذه الوقائع بنفسك، وتتصرَّف حسبما يتراءى لك. ثم، بعدما تسأل عن قاطني تشارلينجتون هول، ستعود إليَّ وتُعطيني تقريرك. والآن يا واطسون، لن نتكلَّم عن هذه القضية مرةً أخرى حتى نحصل على بعض الدعائم الصُّلبة التي قد نأمُل الارتكاز عليها من أجل الوصول إلى الحل.»

تأكدنا من السيدة أنها عادت في يوم الإثنين بالقطار الذي يُغادر ووترلو في التاسعة و٥٠ دقيقة؛ لذلك بدأتُ رحلتي مبكِّرًا ولحقتُ بقطار التاسعة و١٣ دقيقة. وفي محطة فارنهام لم أجد صعوبة في معرفة الطريق إلى تشارلينجتون هول. كان مُستحيلًا لأي عين أن تُخطئ المشهد الذي تخوض فيه السيدة الشابة مغامرتها؛ إذ كان الطريق يمتد بين المَرج المفتوح من جهة، وسياجٍ من أشجار الطقسوس القديمة من الجهة الأخرى، وهو يُحيط بحديقةٍ تُزيِّنها أشجارٌ مذهلة. كان هناك بوابةٌ رئيسيةٌ مصنوعةٌ من أحجارٍ عليها بُرقعٌ من نباتٍ أخضر، وأعلى كل عمود على كلا الجانبين شعاراتُ نبلٍ مهترئة، لكن بجوار ممر العربات المركزي هذا لاحظتُ وجودَ عِدَّة أماكن بها فجوات في السياج وممراتٌ تمر خلالها. لم يكن المنزل واضحًا من الطريق، لكن البيئة المحيطة كانت كلها تُوحي بالكآبة والخراب.

أما المرج فكان مغطًّى برُقَعٍ ذهبيةٍ من نبات الجولق المُزهِر، تتلألأ ببهاء تحت أشعة شمس الربيع الساطعة. اتخذتُ موقعي خلف واحدةٍ من تلك الأجمات، حتى أطَّلع على كلٍّ من بوابة تشارلينجتون هول وطريق طويل ممتد على كلا الجانبَين. كان الطريق مهجورًا حين تركته، أما الآن فقد رأيتُ راكبَ درَّاجة قادمًا عليه من الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي جئتُ منه. كان متَّشحًا ببذلة داكنة، ورأيت أن لديه لحيةً سوداء. عندما وصل إلى نهاية أراضي تشارلينجتون ترجَّل عن درَّاجته وسار بها إلى فجوةٍ في السياج، واختفى عن نظري.

مرَّت ربع ساعةٍ ثم ظهر راكبُ درَّاجةٍ آخر؛ وهذه المرة كانت السيدة الشابة قادمةً من المحطة. رأيتها تنظر حولها وهي تمرُّ أمام سياج تشارلينجتون، وبعد لحظةٍ ظهر الرجل من مخبئه، وركبَ درَّاجته على الفور، وتَبِعها. لم يكن يتحرَّك، في كل هذا المنظر الطبيعي الواسع، إلا هذان الشكلان؛ الفتاة الرشيقة التي تجلس منتصبةَ الظهر على درَّاجتها، والرجل الذي يسير خلفها منكفئًا على مِقْود درَّاجته، ومُصدرًا إيماءاتٍ خفيةً على نحوٍ مثيرٍ للاهتمام مع كل حركة. نظرَت الفتاة إلى الوراء نحوَه وأبطأت من سرعتها، فأبطأ سرعته هو أيضًا. توقَّفت، فتوقَّف هو الآخر على الفور، مُحافظًا على مسافةِ مائتَي ياردة بينهما. كانت حركتها التالية غيرَ متوقَّعة وجريئةً كذلك؛ فقد أدارت درَّاجتها فجأة، وانطلقت مسرعةً نحوه! غير أنه كان سريعًا مثلها تمامًا، فانطلق مسرعًا في هروبٍ مُستمِيت. والآن عادت لتسير في طريقها مرةً أخرى، رافعةً رأسها في زهو وفخر، غير عابئةٍ بإيلاء مزيدٍ من الانتباه لمُراقِبها الصامت. أما هو فقد استدار أيضًا، وظلَّ مُحافظًا على المسافة بينهما حتى أخفاهما منعطَفُ الطريق عن نظري.

ظللتُ في مخبئي، وخيرًا فعلتُ؛ إذ عاود الرجل الظهور مرةً أخرى، يَسير عائدًا بدرَّاجته ببطء. دخل عبْر بوابات تشارلينجتون هول ونزل عن دراجته. واستطعتُ أن أراه لبضع دقائق أخرى وهو يقف بين الأشجار. كانت يداه مرفوعتَين وبدا أنه يُهندِم رابطة عنقه. بعد ذلك اعتلى درَّاجته وسار بعيدًا عني عبْر الممر نحو تشارلينجتون هول. ركضتُ عبْر المرج ونظرتُ عبْر الأشجار، فلَاحَ لي من بعيدٍ المبنى الرماديُّ القديمُ بما فيه من مداخِن تيودور المجعَّدة، لكن الممر كان يمتدُّ عبْر شجيراتٍ كثيفة، ولم يَعُد بإمكاني رؤيةُ الرجل.

ومع ذلك، بدا لي أني أديتُ عملًا جيدًا نوعًا ما هذا الصباح، فسِرتُ عائدًا بمعنوياتٍ مرتفعة إلى فارنهام. لم يَستطِع سمسارُ المنازل المحلي أن يُخبرني شيئًا عن تشارلينجتون هول، وأحالني إلى شركةٍ شهيرة في بول مول، مررتُ عليها في طريقي إلى المنزل، وقابلني ممثل الشركة بلُطف، وأخبرني أنني لا أستطيع استئجار تشارلينجتون هول في الصيف؛ فقد تأخرتُ كثيرًا؛ فقد استُؤجر منذ شهر، ومُستأجِره يُدعى السيد ويليامسون. كان رجلًا محترمًا مسنًّا، واعتذر مُمثِّل الشركة عن عدم قدرته على البوح بالمزيد عنه؛ إذ لم تكن شئون عملائه أمرًا يمكنه مناقشته.

استمع السيد شيرلوك هولمز بانتباهٍ إلى تقريري الطويل، الذي استطعتُ تقديمَه له ذلك المساء، لكنه لم يَنتزع منه الثناء المقتضَب الجاف، الذي كنت أرجوه منه، والذي كنتُ سأُقدِّره. على العكس من ذلك؛ فقد ازداد وجهه العابس عبوسًا عن المعتاد وهو يُعلِّق على الأشياء التي فعلتُها والأشياء التي لم أفعلها.

«إن مكان اختبائك، يا عزيزي واطسون، كان خطأً للغاية. كان يُفترض بك أن تقف خلف السياج، حتى يتسنَّى لك رؤيةُ هذا الشخص المثير للاهتمام عن قُرب. ما حدث أنك كنتَ تبعُد عنه بنحو مائتَي ياردة، ووصفتَه بأقل مما وصَفتْه به الآنسة سميث. إنها تعتقد أنه رجل لا تعرفه، لكني مُقتنِعٌ بأنه أحد معارفها؛ وإلا فلماذا يضطرب إلى هذا الحد من اقترابها منه ورؤية ملامحه؟ لقد وصفْتَه بأنه يَنحني فوق مِقْود الدرَّاجة، وهذا نوعٌ آخَر من التخفِّي، ألا ترى؟ لقد أخفقتَ إخفاقًا بالغًا بالفعل. إنه يعود إلى المنزل، وأنت تُريد معرفةَ مَن هو، فتأتي إلى سمسار منازل في لندن!»

صحتُ فيه ببعض الانفعال: «ماذا كان يُفترض بي أن أفعل؟»

«تذهب إلى أقرب حانة؛ فهذا مركز القيل والقال في الريف؛ فهناك كانوا سيُخبرونك باسم كل شخص، مِن السيد إلى الخادمة. ويليامسون! لا يوحي لي الاسمُ بشيء. إن كان رجلًا كبيرًا في السن، فإنه لن يكون راكبَ درَّاجةٍ نشيطًا يُمكنه الهرب من ملاحقة سيدةٍ شابة رياضية. ما الذي حصلنا عليه من رحلتك؟ معرفة أن قصة الفتاة حقيقية. أنا لم أشُكَّ في هذا قَط. إن ثَمَّة علاقةً بين راكب الدرَّاجة وتشارلينجتون هول. أنا لم أشُكَّ قَط في هذا أيضًا. إن تشارلينجتون هول يَسكنه ويليامسون، ما الجدوى من ذلك؟ حسنًا، حسنًا يا سيدي العزيز، لا تكتئب هكذا، يُمكننا فعلُ المزيد يوم السبت القادم، وحتى هذا الحين سأُجري بعض التحرِّيات بنفسي.»

في صباح اليوم التالي وصلَتْنا رسالةٌ من الآنسة سميث، تحكي لنا فيها بإيجازٍ ودقةٍ الأحداثَ التي شاهدتها، لكن جوهر الرسالة ورَدَ في حاشية الرسالة، فقالت:

أنا متأكِّدة من أنك ستحفظ سرِّي، يا سيد هولمز، حين أخبرك بأن بقائي في هذا المكان أصبح صعبًا بسبب حقيقة أن رب عملي قد عرضَ عليَّ الزواج. أنا على يقينٍ من أن مَشاعره عميقةٌ ومحترمةٌ إلى أقصى حد. ولكنَّني في الوقت نفسه أعطيتُ وعدًا بالزواج لشخصٍ آخَر بالطبع. لقد تلقَّى رفضي بجديةٍ بالغة، لكن أيضًا بلُطفٍ بالغ. ومع ذلك، يُمكنك إدراكُ أن الموقف متأزِّم بعض الشيء.

قال هولمز وهو مُستغرِق في التفكير، بعدما أنهى الرسالة: «يبدو أن صديقتَنا في موقفٍ لا تُحسَد عليه. لا شكَّ في أن هذه القضية تزداد إثارةً، واحتمالات تطوُّرها أكثر مما ظننتُ في البداية. أظن أن لا ضيرَ من قضاء يومٍ هادئ في الريف، كما أنني أميلُ إلى الذهاب إلى هناك عصر اليوم، واختبار نظريةٍ أو نظريتَين كوَّنتهما بشأن هذا الأمر.»

انتهى يوم هولمز الهادئ في الريف نهايةً استثنائية؛ إذ وصل إلى شارع بيكر في وقتٍ متأخرٍ من المساء بجُرحٍ في شفتِه، وبروزٍ تغيَّر لونُه عن لون الجلد في جبهته، بالإضافة إلى انطباعٍ عامٍّ بالثمالة كان من شأنه أن يجعله موضعًا لتحقيقات سكوتلاند يارد. أما هو فقد كان مبتهجًا للغاية بمغامراته، وانفجر ضاحكًا وهو يحكيها.

قال لي: «أنا لا أمارس الرياضة بنشاطٍ إلا قليلًا، حتى إنها دومًا ما تكون تجربةً ذات طابعٍ خاص. أنت تعلم أني أُجيد رياضة الملاكمة البريطانية القديمة بعض الشيء. إنها مفيدة في بعض الأحيان؛ فلولاها لتعرضتُ اليومَ، على سبيل المثال، لكارثةٍ شائنة للغاية.»

رجوتُه ليخبرني بما حدث.

«وجدتُ الحانة الريفية التي لَفتُّ انتباهك إليها، وهناك أجريتُ تحرِّيات حذِرة. كنتُ في الحانة وأعطاني صاحب الحانة الثرثار كلَّ ما أردتُه. علمتُ أن ويليامسون رجلٌ ذو لحيةٍ بيضاء، يعيش وحده مع مجموعةٍ صغيرة من الخدم في تشارلينجتون هول. وثَمَّة شائعةٌ بأنه رجلُ دينٍ أو كان كذلك، لكنَّ ثَمَّة واقعةً أو اثنتَين حدثتا خلال فترة إقامته القصيرة في هذا المنزل لم يكن لهما أي صلة بالدِّين، كما بدا لي. فقد أجريتُ بعض التحرِّيات في إحدى الهيئات الكَنَسية، وأخبروني بوجودِ رجلٍ بهذا الاسم بين رجال الكنيسة كانت حياته المهنية قاتمةً على نحوٍ استثنائي. بعدها أخبرني صاحب الحانة أن ثَمَّة زائرِين دومًا في عطلة نهاية الأسبوع — مجموعة مقرَّبة يا سيدي — في هذا المنزل، وعلى وجه الخصوص سيدٌ ذو شارب أحمر، اسمه السيد وودلي، دائمًا ما يكون هناك. كنَّا قد وصلنا إلى هذا الجزء في حوارنا حين دخل علينا هذا السيد نفسه، الذي كان يَشرب جِعَتَه في الحانة وسَمِع الحوار بأكمله. مَن أنا؟ وماذا أريد؟ وماذا أقصد بطرحي لتلك الأسئلة؟ كانت لُغته سلِسةً ومتدفِّقة، ونُعوتُه في غاية الحدَّة. وأنهى سلسلة إهاناته بضربةٍ ماكرةٍ بظهر يده فشِلتُ في تفاديها بالكامل. كانت الدقائق التالية مُمتعة؛ فقد وجَّهتُ لكمةً مستقيمةً بيدي اليسرى ضد همجيٍّ مترنِّح. وخرجتُ كما تراني الآن، أما السيد وودلي فقد ذهب إلى المنزل في عربة. وعليه أنهيتُ رحلتي إلى الريف، ولا بدَّ لي من الاعتراف بأنه، على الرغم من أن يومي على حدود سَري كان ممتعًا، فلم يكن مُثمرًا أكثر من يومك.»

وصلَنا يوم الخميس خطابٌ آخَر من عميلتنا.

لن تندهش، يا سيد هولمز، [على حدِّ قولها]، عندما تعلم أني سأترك وظيفتي لدى السيد كاروثرز. فحتى الأجر المرتفع لا يُمكِنُه تعويضي عن منغِّصات موقفي. سآتي يوم السبت إلى البلدة ولا أنوي العودة. لقد أحضر السيد كاروثرز عربة، ومِن ثَمَّ فإن أخطار الطريق المهجور، إن كانت ثَمَّة أخطار بالفعل، قد انتهت الآن.

وأما عن السبب المحدَّد لمُغادرتي، فلا يتعلَّق فحسب بالوضع المتأزم مع السيد كاروثرز، بل بعودة ظهور ذلك الرجل المَقيت، السيد وودلي. لقد كان دومًا بغيضًا، ولكنه يبدو أكثر بشاعةً من أي وقتٍ مضى؛ إذ يبدو أنه تعرَّض لحادثٍ شوَّه ملامحه. لقد رأيتُه من النافذة، لكن يُسعدني القول إنني لم أقابله. دار بينه وبين السيد كاروثرز حوار طويل، وبدا على السيد كاروثرز الانفعالُ الشديدُ بعدها. لا بدَّ أن وودلي مقيمٌ في الجوار؛ لأنه لا يقضي الليل هنا، ومع ذلك لمحتُه مرةً أخرى هذا الصباح يتسلَّل خُفية بين الشجيرات. وعما قريب سأجد حيوانًا همجيًّا متوحِّشًا طليقًا في المكان. إنني مشمئزَّة منه وأخشاه على نحوٍ يفوق الوصف. كيف يستطيع السيد كاروثرز تحمُّل مثل هذا المخلوق للحظة؟ ومع ذلك، فإن جميع متاعبي ستختفي يوم السبت.

قال هولمز بوقار: «أعتقد يا واطسون، أعتقد أن ثَمَّة مكيدةً خطيرةً تُحاك حول هذه السيدة الشابة، ومن واجبنا التأكُّد من عدم مضايقة أحدٍ لها في رحلتها الأخيرة هذه. أعتقد يا واطسون أن علينا تخصيصَ بعض الوقت للذهاب معًا إلى هناك في صباح يوم السبت، والتأكُّد من أن هذا التحقيق الغريب وغير الحاسم لن ينتهيَ نهايةً مشئومة.»

أعترف بأني حتى هذه اللحظة لم أتعامل بصورةٍ جدية مع القضية، التي بدت لي غريبةً وغير مألوفةٍ بعض الشيء أكثر من كونها خطيرة؛ فلم يكن تربُّص شخصٍ وتعقُّبه لامرأةٍ شديدة الجمال شيئًا غريبًا على الأسماع، وإذا كان يَفتقِر إلى الجرأة؛ بحيث إنه لم يكن يَعزُف عن مخاطبتها فحسب، بل يَهرُب منها عند اقترابها منه، فهو إذن ليس مُعتدِيًا خطيرًا. أما وودلي الهمجي فقد كان شخصًا مختلفًا عن هذا، لكنه لم يُضايق عميلتنا، باستثناء مرةٍ واحدة، والآن هو في زيارة لمنزل كاروثرز دون للتطفُّل على وجودها. أما الرجل الراكب الدرَّاجة فلا شكَّ أنه أحد أعضاء حفلات نهاية الأسبوع هذه التي تُقام في تشارلينجتون هول، التي تحدَّث عنها صاحب الحانة، لكنَّ ثَمَّة كثيرًا من الغموض يحيط بهُويته أو بما يريده. كانت جدِّية أسلوب هولمز وحقيقة أنه وضع مسدسًا في جيبه قبل مغادرة مسكننا، هما ما دفعاني إلى الشعور بأنه قد يتبيَّن أن وراء هذه السلسلة الغريبة من الأحداث مأساة.

كانت ليلة مطيرة تَبِعها صباحٌ مشرق، وبدا الجزء المغطَّى بالمرج من القرية بما فيه من كتلٍ متلألئةٍ من نبات الجولق المزهر أكثرَ بهاءً للأعيُن التي أرهقتها رؤيةُ الألوان الرمادية الكئيبة القاتمة الموجودة في لندن. سِرْنا أنا وهولمز على طول الطريق الرملي الواسع، نستنشق هواء الصباح المنعش، ونستمتع بسماع تغريد الطيور وبنسيم الربيع المُنعِش. ومن منطقةٍ مرتفعةٍ في الطريق على حافة كروكسبيري هيل استطعنا رؤية منزل هول القاتم بين أشجار البلوط القديمة، التي على قِدَمِها تظل أكثر حداثةً من المبنى الذي تحيط به. أشار هولمز إلى الطريق الطويل المتعرِّج، ذلك الشريط الأصفر المُشرَّب بالحُمرة، المُمتد بين المرج البُني والغابة الخضراء المُتبرعِمة. لاحت من بعيد بقعة سوداء، فرأينا عربة تتحرَّك في اتجاهنا. فأصدر هولمز صيحةً تدلُّ على نفاد صبره.

قال: «لقد منحتنا هامشًا مقداره نصف ساعة، لكن إن كانت هي التي في العربة، فلا بد أنها ستذهب للحاق بالقطار المبكِّر. أخشى يا واطسون أن تمرَّ بتشارلينجتون قبل أن نتمكَّن من اللحاق بها.»

منذ اللحظة التي تخطينا فيها المرتفع في الطريق لم يَعُد باستطاعتنا رؤية المركبة، لكننا أسرعنا نحوها بسرعةٍ بدأ في الظهور معها تأثيرُ نمط حياتي الكسول عليَّ، فاضطُررت إلى التخلُّف عنه. أما هولمز، من ناحيةٍ أخرى، فكان مُواظبًا على التدريب؛ إذ إن لديه مخزونًا لا ينضب من الطاقة العصبية بإمكانه الاعتماد عليه. لم تقِلَّ سرعة خطواته على الإطلاق، حتى توقَّف فجأة، وكان على بُعد مائة ياردة أمامي، ورأيتُه يحرِّك يده في الهواء في حزنٍ ويأس. وفي اللحظة ذاتها، ظهرت عربةٌ فارغةٌ من منعطف الطريق والحصان يخُبُّ، واللجام مجرجر على الأرض وراءه، وانطلق بها مسرعًا نحونا.

صاح هولمز، وأنا أركض لاهثًا إلى جواره: «تأخرنا كثيرًا يا واطسون، تأخرنا كثيرًا! يا لحماقتي إذ لم يكن القطار المبكر في حسباني! إنها قضية اختطاف يا واطسون؛ قضية اختطاف! أو قتْل! الله وحده يعلم ما حدث! أغلِق الطريق! أوقف الحصان! هذا جيد، والآن اقفز بداخلها، ودعنا نرَ إن كنَّا نستطيع إصلاح عواقب خطئنا.»

قفزنا داخل العربة، وبعدما أدار هولمز الحصان، أعطاه ضربة حادة بالسوط، فانطلقنا عائدَين على الطريق. وعندما انحرفنا في المنعطف كان الطريق الطويل بين تشارلينجتون هول والمرج مفتوحًا. أمسكتُ بذراع هولمز.

وقلتُ وأنا ألهث: «ذاك هو الرجل!»

كان راكبُ دراجةٍ وحيدٌ قادمًا نحونا. كان رأسه مُنخفضًا وكَتِفاه تقترب كلٌّ منهما من الأخرى وهو يضع كل ذرَّة لديه من الطاقة في التبديل وتحريك الدراجة. كان ينطلق مسرعًا كما لو كان في سباق. وفجأةً رفع وجهه الملتحي ورآنا بالقرب منه، فأوقف دراجته ونزل عنها. كان ثَمَّةَ تناقُض واضح بين لحيته الحالكة السواد وشحوب وجهه، وكانت عيناه تلمعان كما لو أنه مُصاب بحمَّى. حدَّق فينا وفي العربة، ثم علت وجهَه نظرةُ ذهول.

صاح فينا وهو مُمسك بدراجته ليسدَّ علينا الطريق: «أنتما! توقَّفا هناك! من أين لكما بهذه العربة؟ أوقِف العربة يا رجل!» كان يَصيح فينا وهو يُخرِج مسدسًا من جيبه الجانبي. «قلتُ لك أوقِف العربة، وإلا أُقسم بالرب أني سأُطلِق على حصانك الرصاص.»

رمى هولمز اللجامَ على ركبتي، وقفز من العربة.

قال بطريقته السريعة الواضحة: «أنت الرجل الذي جئنا لرؤيته. أين الآنسة فيوليت سميث؟»

«هذا ما أريد سؤالكما عنه. أنتما في عربتها، فلا بد أنكما تَعرفان أين هي.»

«لقد عثرنا على العربة في الطريق، ولم يكن فيها أحد. فركبناها وعُدنا بها من أجل مساعدة السيدة الشابة.»

صاح الغريب بنبرةٍ يَملؤها اليأس: «يا إلهي! يا إلهي! ماذا أفعل؟ لقد ظفِرا بها، هذا الشيطان وودلي والوغد الآخر. تعالَ يا سيدي، إن كنت حقًّا صديقها. قِف معي وسننقذها معًا، حتى إن كلَّفني الأمرُ التضحيةَ بحياتي في غابة تشارلينجتون.»

ركض الرجل وهو مُرتبِك ممسكًا مسدَّسه في يده نحو فجوةٍ في السياج. تَبِعه هولمز، ثم تبعتُ أنا هولمز تاركًا الحصان يرعى على جانب الطريق.

قال الرجل وهو يُشير إلى علامات آثار أقدام كثيرة على الطريق الموحل: «لقد مروا من هنا. أنت! توقَّفْ لحظة! مَن هذا الذي بين الشجيرات؟»

كان شابًّا صغير السن، في السابعة عشرة تقريبًا من عمره، يرتدي زي سائس الخيل، بواقي حذاء ورابطات ساق من الجلد. كان مُستلقيًا على ظهره ورُكْبتُه مرفوعة، وفي رأسه جرح كبير. كان غائبًا عن الوعي، لكنه ما زال حيًّا. واستطعتُ أن أرى بمجرد النظر إلى جرحه أنه لم يَخترِق العظم.

صاح الغريب: «إنه بيتر، السائس. لقد كان يقود العربة، وألقاه هؤلاء الوحوش وضرَبُوه. دعُوه مستلقيًا، فلا سبيل أمامنا لإنقاذه، لكن ربما نستطيع إنقاذها هي من أسوأ مصير قد تتعرَّض له امرأة.»

ركضنا مسرعين عبْر الطريق، الذي كان متعرِّجًا بين الأشجار. وصلنا إلى مجموعةٍ من الشجيرات التي تحيط بالمنزل، وعندها توقَّف هولمز.

«إنهم لم يَذهبوا إلى المنزل. هذه آثار أقدامهم على اليسار، هنا بجوار شُجيرات نبات الغار! آه، هذا ما توقعته!»

وبينما هو يتحدَّث، صدرت صرخةٌ لسيدة — صرخة تنطق برعبٍ بالغ — من وسط مجموعة الشجيرات الكثيفة الخضراء الموجودة أمامنا. توقَّفَت الصرخةُ فجأةً وهي في قمة حدَّتها، وصاحبَ ذلك صوتُ اختناقٍ وقرقرة.

قال الغريب، وهو يركض مسرعًا عبْر الشجيرات: «من هذا الطريق! من هذا الطريق! إنهم في ممر البولنج. آه! الكلاب الجبناء! اتْبعاني أيها السادة! تأخرنا كثيرًا! تأخرنا كثيرًا! يا للهول!»

دخلنا فجأةً في أرضٍ فضاء جميلة تُغطيها المروج وتحيط بها أشجار قديمة. وفي أبعد جانب فيها، تحت ظل شجرة بلوط هائلة، وقفَت مجموعة غريبة من ثلاثة أفراد. كانت بينهم سيدة، وهي عميلتنا، خائرة القوى وغائبة عن الوعي، وحول فمها منديل، ويقف أمامها شابٌّ همجي كبير الوجه له شارب أحمر، وكانت ساقاه اللتان لبسَ فيهما حذاءً نصفيًّا واقيًا متباعدة إحداهما عن الأخرى كثيرًا، ويضع إحدى ذراعيه في خصره، والأخرى تُلوِّح بسوطٍ للخيل، وكان أسلوبه كله معبِّرًا عن سعادة مُتبجِّحة بالظفر بغنيمته. كان يقف بينهما رجل مُسِن، ذو لحية رمادية، ويرتدي رداءً كهنوتيًّا قصيرًا على بذلة صوفية فاتحة اللون، وكان من الواضح أنه قد أنهى مراسم الزواج؛ إذ كان يضع كتاب الصلوات في جيبه مع دخولنا عليهم، وضرب العريسَ الشريرَ على ظهره في تهنئة مرحة.

قُلت وأنا ألهث: «لقد تزوَّجا!»

صاح مرشدنا: «تعاليا! تعاليا!» وانطلق مندفعًا عبْر الأرض الواسعة وأنا وهولمز في أعقابه. حين اقتربنا منه، وقفَت السيدة مترنحةً متكئةً على جذع شجرة من أجل الحصول على الدعم. انحنى ويليامسون، رجل الدين السابق، لنا في تهذيبٍ ساخر، وتقدَّم وودلي المُحتال نحونا وهو يُصدر ضحكة وحشية ومُغتبطة.

قال: «يُمكنك نزع لحيتك يا بوب، فأنا أعرفك جيدًا. حسنًا، لقد جئتَ أنت ورفاقك في الوقت المناسب تمامًا حتى أُعرِّفكم بالسيدة وودلي.»

كان ردُّ مرشدنا فريدًا من نوعه؛ فقد نزَع اللحية الداكنة التي كان يتخفَّى بها، وألقاها على الأرض، فظهر من تحتها وجهٌ طويلٌ شاحبٌ حليق. ثم رفع مسدسه ووجَّهه نحو المُحتال الشاب، الذي كان يتقدَّم نحوه وهو يُلوِّح بسوطه الخطير في يده.

قال حليفنا: «أجَل، أنا بوب كاروثرز، وسأَحرص على أن تأخذ هذه السيدة حقَّها، حتى لو اضطُررت إلى القتل لتحقيق ذلك. لقد أخبرتُكَ بما سأفعله إن ضايَقْتها، وأقسم بالله أني سأكون على قدْر كلمتي!»

«لقد تأخرتَ كثيرًا، إنها زوجتي!»

«لا، بل هي أرملتك.»

أصدر مسدسُه صوتًا، ورأيت الدم ينبجس من صدرية وودلي. دار حول نفسه في مكانه وأصدر صرخةً ثم سقط على ظهره، وتحوَّل وجهُه الأحمر البَشِع فجأةً إلى لونٍ شاحب مخيف مُرَقط. انفجر الرجل العجوز، الذي ما زال متشحًا برداء الكاهن، في سلسلة من التهديدات والبذاءات لم أسمعها من قبلُ، وأخرج مسدَّسًا هو الآخر، لكن قبل أن يستطيع رفعه باغته مسدس هولمز.

قال صديقي ببرود: «يكفي هذا، ألقِ مسدسك! واطسون، التقِطِ المسدس! ووجِّهه نحو رأسه! شكرًا لك. أما أنت يا كاروثرز فأعطِني هذا المسدس. كفى عنفًا عند هذا الحد، هيا ناولني إياه!»

«مَن أنت إذن؟»

«اسمي شيرلوك هولمز.»

«يا إلهي!»

«أرى أنكَ سمعتَ عني من قبلُ. سأكون ممثلًا للشرطة الرسمية حتى وصولهم.» صاح هولمز في سائس خيل مُرتعِد ظهرَ على حافة المساحة الواسعة. «أنت يا هذا، تعالَ إلى هنا. خذ هذه الرسالة بأسرع ما يُمكنك إلى فارنهام.» وكتب بضع كلمات على ورقةٍ من مفكرته، وقال: «أعطِها إلى قائد الشرطة في مركز الشرطة، وحتى مجيئه سأتحفَّظ عليكم جميعًا رهن اعتقالي الشخصي.»

سيطرت شخصية هولمز القوية والسيادية على المشهد المأساوي، وخضع الجميع لإرادته. فوجد ويليامسون وكاروثرز نفسَيهما يحملان وودلي المصاب إلى المنزل، بينما أعطيتُ ذراعي للفتاة المذعورة لتتوكَّأ عليها. وُضع المصاب على سريره، وفحصتُه بِناءً على طلب هولمز. وذهبت إليه بتقريري حيث كان يجلس في غرفة الطعام القديمة ذات الجدران المزدانة بأبسِطة الحائط المزخرفة، وسجيناه يَجلسان أمامه.

قلتُ: «سيعيش.»

صاح كاروثرز وهو يقفز من مقعده: «ماذا! سأصعد وأقضي عليه أولًا. هل تقول لي إن هذه الفتاة، هذا الملاك، ستَرتبِط برورينج جاك وودلي مدى الحياة؟»

قال هولمز: «لا تشغَل نفسك بذلك؛ فثَمَّةَ سببان وجيهان للغاية لعدم إمكانية أن تكون زوجته تحت أي ظرف؛ أولًا: من حقِّنا التشكيك في أهلية السيد ويليامسون في إتمام مراسم الزواج.»

صاح الوغد العجوز: «أنا كاهن مُرسَّم.»

«وعُزلتَ من منصبك أيضًا.»

«حين يُصبحُ المرء رجل دين، يظلُّ كذلك طول العمر.»

«لا أظن ذلك. ماذا عن التصريح؟»

«لدينا تصريح بالزواج، هنا في جيبي.»

«إذن فقد حصلتَ عليه بخدعة. لكن على أي حال فإن زواج الإكراه ليس زواجًا، بل جناية غاية في الخطورة، كما سيتَّضح لك قبل نهاية حياتك. وسيتوافر لك متَّسع من الوقت للتفكير في هذه النقطة في خلال السنوات العشر التالية أو نحو ذلك، إن لم أكن مخطئًا. أما أنت يا كاروثرز، فكان من الأفضل لك الاحتفاظ بمسدَّسِك في جيبك.»

«بدأتُ أعتقد ذلك يا سيد هولمز، لكن حين فكرتُ في كل الاحتياطات التي اتخذتها لحماية هذه الفتاة — لأني أحببتها يا سيد هولمز، وهذه هي المرة الأولى التي أعرف فيها على الإطلاق معنى الحب — أصابني الجنون عندما فكَّرت في أنها قد أصبحَت في قبضة أكثر شخصٍ همجي ومُتنمِّر في جنوب أفريقيا، رجل اسمه يُلقِي الرعب في النفوس من كيمبرلي إلى جوهانسبرج. ربما تجد صعوبة في تصديق الأمر يا سيد هولمز، لكن منذ عَمِلَت هذه الفتاة لديَّ لم أتركها قط تمر أمام هذا المنزل — حيث يَختبئ هذان الوغدان حسبما عَلمت — دون أن أتبعها على دراجتي لمجرَّد التأكد من عدم إصابتها بأي سوء. كنتُ أحافظ على مسافةٍ بيني وبينها، ووضعتُ لحيةً حتى لا تتعرَّف عليَّ؛ إذ إنها فتاة طيبة ونبيلة، وما كانت ستبقى في العمل لديَّ طويلًا إن علمَت أني أتعقَّبها في طرقات القرية.»

«لماذا لم تُخبرها بما يُحدِق بها من خطر؟»

«لأنها كانت ستَتركني أيضًا، وأنا لا أطيق مواجهة هذا. فحتى إن لم يكن باستطاعتها أن تُحبَّني، كان يكفيني مجردُ رؤيةِ طلعتِها البهيةِ في المنزل، وسماع صوتها.»

قلتُ: «حسنًا، أنت تُسمِّي هذا حبًّا يا سيد كاروثرز، لكني أُسميه أنانية.»

«ربما الاثنان معًا، على أي حال، لم يكن باستطاعتي أن أتركها تذهب. إلى جانب أنه في ظل وجود هؤلاء الأشخاص، كان لا بد من وجود شخصٍ بالقرب منها ليرعاها. وعندما جاءت البرقية علمتُ أنهم على وشْك التحرُّك.»

«أي برقية؟»

أخرج كاروثرز برقيةً من جيبه، وقال: «ها هي.»

كانت البرقية قصيرة وموجزة:

الرجل العجوز مات.

قال هولمز: «حسنًا! أعتقد أني أعرف الآن كيف سارت الأمور، ويُمكنني أن أفهم الآن كيف تُشير هذه الرسالة، كما قلتَ أنت، إلى بدء تحرُّكهما. لكن بينما نحن نجلس منتظرين يمكنك إخبارنا بما تستطيع.»

انفجر الشخص الفاسد الذي يرتدي معطف الكاهن في وابل من الألفاظ البذيئة، وقال: «بحق السماء، إن وشيتَ بنا يا بوب كاروثرز، فسأقتلُكَ كما قتلت جاك وودلي. يُمكنك التحدُّث عن الفتاة كما تشاء، فهذا شأنك الخاص، لكن إن تحدثتَ عن رفاقك لهذا الشُّرطي ذي الملابس المدنية، فسيكون هذا أسوأ عمل تفعله في حياتك.»

قال هولمز وهو يشعل سيجارة: «لا داعي للانفعال يا قداسة الكاهن؛ فالقضية واضحة للعِيان، وكلُّ ما أطلبُه بضعة تفاصيل إرضاءً لفضولي الشخصي. لكن إن كنت تُواجه أي صعوبة في إخباري، فسأتولَّى أنا الحديث، وسترى إلى أيِّ مدًى لديك فرصة للاحتفاظ بأسرارك. في البداية أتيتم أنتم الثلاثة من جنوب أفريقيا من أجل ممارسة هذه الخدعة، أنت يا ويليامسون وأنت يا كاروثرز، وأنت يا وودلي.»

قال العجوز: «الكذبة الأولى، أنا لم أرَ أيًّا منهما إلا منذ شهرَين مضَيا، ولم أذهب إلى أفريقيا في حياتي؛ يُمكنك أن تضع هذا في غليونك وتُدخِّنه يا سيد هولمز الفضولي!»

قال كاروثرز: «ما يقوله صحيح.»

«حسنًا، حسنًا، جاء اثنان منكم فقط. أما قداسته فهو صنيعتكما المحلية. لقد تعرفتما على رالف سميث في جنوب أفريقيا، وعلمتما بأنه لن يعيش طويلًا. وعلمتما أن ابنة أخيه هي التي ستَرِث ثروته. ماذا عن هذا؟ … هاه؟»

أومأ كاروثرز وسبَّ ويليامسون.

«كانت هي أقربَ أقاربه، بلا شك، وعلمتُما بأن العجوز لن يترك وصية.»

قال كاروثرز: «لم يكن يَعرف القراءة ولا الكتابة.»

«لذا جئتما إلى هنا، أنتما الاثنان، وبحثتما عن الفتاة. كانت الفكرة أن يتزوَّجها أحدكما ويحصل الآخر على نصيبٍ من الغنيمة. ولسببٍ ما وقع الاختيار على وودلي ليتزوجها. لماذا؟»

«لقد تراهنَّا عليها في لعب الورق أثناء رحلتنا إلى هنا، وكان هو الفائز.»

«هكذا إذن. استدرجتَ الفتاةَ لتعمل لديك، ثم كان يُفترض بِوودلي التودُّد إليها. وعرفتْ هذا الهمجي السِّكير على حقيقتِه، ولم تُرِد التعاملَ معه. وفي الوقت نفسه فشلَت ترتيباتك بسبب وقوعك أنت نفسك في حبِّ الفتاة. ولم تَعُد تتحمَّل فكرةَ امتلاك هذا المحتال لها.»

«نعم، بحق الرب، لم أستطِع!»

«حدث شجار بينكما، وغادر هو غاضبًا، وبدأ في وضع خططه منفردًا بعيدًا عنك.»

صاح كاروثرز وهو يبتسم ابتسامةً تشوبها مرارة: «يبدو لي يا ويليامسون، أن ليس لدينا الكثير مما نُخبر به هذا السيد. أجل، لقد تشاجرنا، وأسقطني أرضًا. على أيِّ حال، لقد رددتُ له الصاع صاعين. بعد هذا لم أرَه ثانيةً. وفي تلك الأثناء تعرَّف على هذا القسيس المنبوذ هنا. علمتُ أنهما أقاما في هذا المنزل معًا في هذا المكان على الجانب الذي لا بد لها أن تمر به وصولًا إلى المحطة. ومنذ ذلك الحين وأنا أراقبها؛ إذ كنتُ أعلم بوجود خطرٍ يلوح في الأفق. كنت أراهما من وقتٍ لآخر؛ إذ كنتُ قلقًا بشأن ما يسعيان إليه. ومنذ يومين جاء وودلي إلى منزلي بهذه البرقية، التي تُخبرنا بأن رالف سميث قد تُوفِّي، وسألني إن كنتُ ما زلتُ ملتزمًا بالصفقة. قلتُ له إني لم أَعُد كذلك. فسألني إن كنتُ أريد أن أتزوَّج الفتاة وأعطيه نصيبًا من الثروة، فقلتُ له إني أرغب في ذلك بشدة، لكنها لا تريد الارتباط بي. قال لي: «دعنا نُجبرها على الزواج أولًا، ثم بعد مرور أسبوع أو اثنين ربما تختلف رؤيتها للأمور.» قلتُ له إني لن أمارس العنف أبدًا؛ لذا ذهب وهو يسُبُّ، كعادته كوغد بذيء اللسان، وأقسم بأنه سينالها على الرغم من ذلك. كانت ستترك العمل عندي في نهاية هذا الأسبوع، وأحضرت لها عربةً لتأخذها إلى المحطة، لكني لم أكن مطمئنًّا وتبعتها بدراجتي. غير أنها انطلقت في وقتٍ مبكر، وقبل أن أستطيع اللحاقَ بها ارتُكبت الجريمة. وكانت أول معرفتي بالأمر حين رأيتكما أيها السيدان وأنتما تستقلان عربتها.»

وقف هولمز ورمى عقب سيجارته في الموقد، وقال: «لم أكن بالذكاء الكافي يا واطسون؛ فحين أخبرتَني في تقريرك أنك رأيت راكبَ الدراجة كما ظننتَ يُهندِم رابطة عنقه بين الشجيرات، كان لا بد أن يكون هذا وحده كفيلًا بتوضيح كل شيء لي. ومع ذلك، يُمكننا أن نهنِّئ أنفسنا بحصولنا على قضيةٍ مثيرةٍ للاهتمام وفريدة من نوعها في بعض النواحي. أرى ثلاثة من شرطة القرية في الممر، وأنا سعيد برؤية هذا السائس الصغير قادرًا على مسايرة خطواتهم؛ ومِن ثَمَّ فمن غير المرجَّح أن يلحق به أو بالعريس المُثير للاهتمام عاهة مستديمة جراء مغامراتهما الصباحية. أعتقد يا واطسون أنك يُمكنك، بصفتك الطبية، متابعةُ حالة الآنسة سميث، وإخبارها أنها إن تعافت بما يكفي، فستُسعدنا مرافقتُها إلى منزل والدتها. وإن كانت لم تتماثل للشفاء التام، فهذا سيعني إشارة إلينا لإرسال برقية إلى مهندس كهربائيٍّ شابٍّ في ميدلاند ليأتي ويكمل العلاج. أما بالنسبة لك يا سيد كاروثرز، فأعتقد أنك فعلتَ ما بوسعك للتكفير عن اشتراكك في مؤامرةٍ شريرة. إليك بطاقتي، يا سيدي، وإن كانت شهادتي ستُفيدك في محاكمتك، فلن أتأخر عن تقديمها.»

في خضمِّ نشاطنا المستمر غالبًا ما كان يصعب عليَّ، كما لاحظ القارئ على الأرجح، إنهاء قصصي، وتقديم التفاصيل النهائية التي يتوقَّعها القراءُ ذوو الفضول. فقد كانت كل قضية مقدمة لأخرى، وبمجرد انتهاء الأزمة يغيب أبطالها عن حياتنا المزدحمة. غير أنني وجدتُ ملحوظة قصيرة في نهاية كتاباتي عن هذه القضية، كتبتُ فيها أن الآنسة فيوليت سميث ورثت بالفعل ثروة طائلة، وأنها أصبحت الآن زوجة سيريل مورتون، الشريك الأكبر في شركة مورتون آند كينيدي، المعروفة في مجال الكهرباء في ويستمنستر. أما ويليامسون وَوودلي، فقد مَثُلا للمحاكمة بتهمة الاختطاف والاعتداء، وحصل الأول على سبع سنوات، والثاني على عَشْر سنوات. أما عن مصير كاروثرز، فلم أكتب شيئًا، لكني متأكِّد من أن المحكمة لم تنظر إلى اعتدائه على أنه اعتداء فادح، بسبب سُمعة وودلي كواحد من أخطر المحتالين، وأعتقد أن بضعة أشهر كانت كافية لتحقيق العدالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤