مقدمة

هذا الكتاب حصيلة شهادات، كتبتُها في مناسبات مختلفة حول التجربة الإبداعية في حياتي. كُتِبتْ في فترات متباعدة، وإن كان محورها نظرتي إلى العملية الإبداعية من خلال الأعمال التي أتيح لي كتابتها، أو ما يمكن تسميته «تجربتي الأدبية» (نشرتُ شهادتي عن «الأسوار» في كتاب «قراءة في أدب محمد جبريل» الذي نُشِر عام ١٩٨٤م، فهي أول ما كتبتُ عن تجربتي الأدبية). قد تبدو كل شهادة مستقلة في ذاتها، وقد يتكرر الرأي الواحد — وربما الواقعة الواحدة — في أكثر من شهادة، لكن مجموع الشهادات يمكن أن يقدِّم للقارئ صورة كلية لآراء الكاتب في العملية الإبداعية، من خلال محاولة الإجابة عن العديد من الأسئلة التي تشغل الكاتب، وتشغل قارئه في آن معًا.

أردتُ بهذا الكتاب، أو بهذه المجموعة من المقالات التي تتناول وجهة نظري في قضايا الأدب والفن، أن أفسر بعض الأمور، مستعينًا في توضيح ما أقول، بما صدر لي من أعمال إبداعية، فضلًا عن إبداعات الآخرين، والشهادات التي تتوافق مع وجهات نظري، أو تختلف معها، محصِّلة لقراءات إيجابية في الكثير من كتب النقد الأدبي والدراسات الأدبية، والسِّير الذاتية للأدباء. لم تشغلني فلسفة الكاتب ولا اتجاهه الأيديولوجي أو الفني. ما شغلَني فحسب هو الرأي الذي أوافق عليه، أو أختلف معه، فأناقشه. ربما أميل إلى رأي يصدر عن كاتب ماركسي الأيديولوجية، وأختلف مع رأي يصدر عن كاتب يؤمن باليقين الديني، لا لأني أومن بالماركسية، أو لأني كاتب غير متدين، وإنما لأن الرأي المحدَّد يخاطب قناعاتي، بصرف النظر عن السياق الذي اقتطعته منه. هذه الكلمات أقنعتني ذاتها، فلا شأن لي بهوية كاتبها، ولا ببحر الكلمات الذي كانت تسبح فيه.

قد يلحظ القارئ إطالة في بعض الفقرات، واختصارًا في فقرات أخرى، أو مجرد الإشارة إلى ما كان يستحق الإفاضة … لكن ملاحظتي — كقارئ — أن طول مساحة القضايا التي تثيرها المقالات، أو قصرها، أو غيابها أحيانًا، لأنها تكمل بعضها البعض. فوجهة النظر المستفيضة في مقال، أكتفي بالإشارة إليها، أو أهملها، في المقالات الأخرى.

هذه المقالات، تشكِّل — في مجموعها — وجهات نظر واضحة، محدَّدة، من قضايا العملية الإبداعية في أبعادها المختلفة. ثمة رأي أن المبدع هو — في الأغلب — أسوأ من يستطيع الحديث عن إبداعه. لكن هذه المقالات تتسم بالعمومية لا بالتخصيص، تتحدث عن العملية الإبداعية في عمومها، وتشير إلى نماذج للكثير من المبدعين، وحسبتُ نفسي واحدًا منهم. وإذا كنت قد أفدت من آراء الآخرين لتأكيد آرائي، أو للتدليل عليها، فليس معنى ذلك أني أتحاشى المؤاخذة، أو أحاول نفي نسبة تلك الآراء لنفسي على أي نحوٍ، ولا حتى لاقتناعي بتلك الآراء. إنها آراء ووجهات نظر أومن بها، أدعمها — هل هذا هو التعبير الأدق؟ — بآراء ووجهات نظر أخرى لكُتَّابٍ عرب أو أجانب، بصرف النظر — كما أشرت — عن انتماءاتهم الأيديولوجية، أو التيارات الفنية التي يدعون إليها، أو يعبِّرون عنها. ما وجدت فيه مرآة لآرائي، نقلته باعتباره كذلك، وما اختلفت معه، عرضته للمناقشة والتحليل واختلاف الرأي.

والحق أني تردَّدت في نشر هذه المقالات، إدراكًا مني بأنه ينقصها ما يمكن إضافته … لكن الكمال مطلبٌ يصعب على المرء — ويصعب على كاتب هذه السطور بخاصة — أن يبلغه. من هنا، جاوزت التردد إلى نشر المقالات، فهي — في المحصلة النهائية — تعبير عن آراء ووجهات نظر في العملية الإبداعية. ربما أضيف إليها في مقالات تالية (وقد أضفت بالفعل أسماء روايات وشخصيات من أعمال تَلَتْ كتابة هذه المقالات، ونشرها في الدوريات المختلفة)، وقد أجري بالحذف والتبديل، لكن يقيني بالملامح المهمة فيها لم يتبدَّل منذ أصبحت الكتابة — بالنسبة لي — قضية حياة.

أخيرًا، فلعلَّه يجدر بي أن أشير إلى أني تناولتُ قضايا تتصل بمادة هذا الكتاب في كتبٍ أخرى: مصر في قصص كتَّابها المعاصرين، نجيب محفوظ - صداقة جيلين، آباء الستينيات، مصر المكان، مصر: من يريدها بسوء، مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات، قراءة في شخصيات مصرية، حكايات عن جزيرة فاروس، وغيرها.

وأملي أن أكون قد وُفِّقْت.

محمد جبريل
مصر الجديدة ١٦ / ٢ / ٢٠٠٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤