دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح

«احترموا التراث، وتعلَّموا استخلاص ما يحويه من خصب خالد.»

أوجست رودان

«السرد يعادل الحياة، وغياب القصص يساوي الموت. ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها، لكان عليها أن تفقد رأسها.»

تودوروف

«قيمتنا الوحيدة هي أننا أصيلون، نعرض ذواتنا كما هي، لا كما يرغب الآخرون أن نكون.»

جارثيا ماركيث بعد تسلُّمه جائزة نوبل

۱

يعرِّف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها «إدراك الفرد بذاته ككيان في صيرورة دائمة.»
وبداية، فإن التراث ليس مطلقًا، ليس بُعدًا واحدًا، إنما هو تراثات متعددة. ثمة التراث الديني، والتراث التاريخي، والتراث الشعبي، والتراث اللغوي … إلخ. من الخطأ العلمي حصر التراث في علوم الدين، مع أهميتها الملحَّة، وضرورتها، وقداستها (لعلَّنا نذكر ما دعا إليه أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول» إلى إهدار التراث مرة واحدة، باعتباره سلبًا مطلقًا. هدم الدين — في تقديره — شرط أول لنهوض الإنسان العربي. علوم الدين تراث، والتاريخ أيضًا تراث، وإبداعات السلف في الإنسانيات المختلفة … ذلك كله ينتمي إلى التراث، فلا معنى — على أي مستوى — لقِصَر التراث على علوم الدين، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التي ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربي). التراث يختلف عن ذلك تمامًا، إنه يعني المحافظة على التواصل مع الماضي، وليس الانقطاع عنه، فهو جماع خبرة الشعب في توالي عصوره وأجياله، بكل ما تحمله من قِيَم وعادات وتقاليد وسلوكيات. إنه كل الموروث، سواء أكان دينيًّا أم غير ديني، سواء أكان ثابتًا أم قابلًا للتغيُّر والتطور بتوالي العصور. من الصعب أن نستعيد الماضي، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثري، ما لم يكن ذلك كله مستندًا إلى تراث يأخذ منه ويتصل به. وبالتأكيد، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية في ظل الانقطاع عن التراث العربي، والاقتصار على الثقافات الغربية. التراث في حياتنا، نقطة انتهى إليها القدامى، وينطلق منها — أو هذا هو المفروض — المعاصرون. قد يطيلون الوقوف أمامها، وتأمُّلها، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيرًا عن العصر. وكما يقول ريموند جابمان، فإن الأدب يأتينا بشكلٍ رئيسٍ من الماضي. وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه.١ أما القول بأن «ما يهم ليس الماضي بل المستقبل، ولا خلاف حول هذا (من ادَّعى؟!) وما ينبغي علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست ٢«مشكلاتنا، وحلولهم ليست بالتالي حلولًا لمشكلاتنا»»، هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة.

•••

ثمة تعريف للتراث بأنه «تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضاري للأمة، منذ اكتملت لها مقوماتها.» مع ذلك، فإني أرفض التعريف المجرد للتراث، المعنى الواسع الذي ينقصه التحديد، وتنقصه الدقة بالتالي. التراث — كما أشرنا — ليس مقصورًا على الدين وحده. الدين بُعد أساسي في التراث، ولعلَّه العنصر الأساس، لكنه جزء من التراث. والدين — في الوقت نفسه — ليس كله تراثًا، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر، لا بد أن يفيد من التطورات المجتمعية. إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية. وتراثنا موجود في كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسِّيَر الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقى والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات. وكما يقول زكريا إبراهيم — بحقٍّ — فإن الأصالة مبدأ سيكولوجي مهم، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات، والعمل على تحقيق الذات، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية.٣

•••

إن أم المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة — على حد تعبير أستاذنا زكي نجيب محمود — هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيِّها طرفين، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها، لنستقبل — في رحابة صدر — أسس الحياة العصرية، كما يحياها اليوم روادها.٤

من هنا جاءت دعوة زكي نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع، بين الأصالة والمعاصرة. ليست دعوة توفيقية، كما يرى البعض، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة، تحيط بالماضي والحاضر وتستشرف المستقبل في آن. وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذي يفقد يقينه في القدرة على التقدم في المستقبل، لا بد أن يتوقف عن العناية بالتقدم في الماضي.

إن الجديد يتخلق من القديم، والمعاصر يستمد أصوله من التراث. والتراث — من ناحية ثانية — يصلنا بالأصالة، يجعل الحلقات متتالية، يجنِّبنا المبالغة في التأثر والمحاكاة. وبتعبيرٍ محدد، فإن التراث تعبير عن الأصالة، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية. أذكِّر بقول أندريه مالرو «الثقافة هي الدفاع عن التراث وإبرازه.»

•••

واللافت أننا نتحدث عن التراث، ونناقشه، ونصدر فيه أحكامًا، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التي تغيب فيها إبداعات ودراسات وحقائق كثيرة. الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرُّف كلي كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام. ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا «الكمبيوتر» — أو الحاسوب — هي إحصاء وتوثيق ما في مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق، فالنشر. وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية في العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط، بينما لم يتجاوز ما طُبِع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط!

لذلك جاء القول إن التراث العربي لم يُكتشَف بعد، وما زالت تقف في سبيل اكتشافه، وغربلته، ونقده، بما يحرك الحاضر، ويصبح جزءًا منه، عقبات كثيرة، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادي والمعنوي. وإذا كان البعض يرى في الهروب إلى الماضي حنينًا رومانسيًّا نواجه به غربة واقعنا، أو غربتنا عن الواقع الذي نحياه، فهو يفصلنا عن عصرنا، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر. إذا كان ذلك كذلك، فإن عوالم خيالية — كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحقٍّ — ينتمي إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضي كله، ويتنكرون للتراث بأسره.٥ نحن — لكي نناقش التراث — فلا بد أن نقرأه، نقرأ أعمال الجاحظ وأبي تمام والتوحيدي والمعري والمتنبي وابن سينا والجرجاني والغزالي وابن رشد وعشرات غيرهم، تمثِّل إسهاماتهم كمَّ التراث وكيْفه، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلي، نقطة البداية، الدعامات التي يستند إليها إبداعنا المعاصر، وثقافتنا المعاصرة عمومًا.
التراث الثقافي بُعد أهم في شخصية الأمة، وهو السبيل إلى ثقافة موحدة، متسقة، يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة.٦ وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية. وكما يقول بلند الحيدري فإن «التركيز على العصر — الحداثة — يضعف من شأن التراث، ومن ثَمَّ تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التي صنعها ويصنعها الوافد، فندخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا، وبالتالي قد نُهزَم.»،٧ بل إننا لا نستطيع أن نتحوَّل إلى منتجين في ضوء رفض التراث، لأن التراث تواصل، والتخلي عنه يعني إخضاع الثقافة العربية، الهوية العربية، للثقافة الغربية، تفرض سيطرتها وهيمنتها، تتحوَّل إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة!

•••

إن السؤال الذي طالما أثير إلى حد الإملال هو: هل ينتمي فن القصة — الرواية والقصة القصيرة — إلى التراث العربي، أو إلى التراث العالمي؟ وبتعبيرٍ آخر: هل القصة والرواية وليدتا تأثُّر بالقصة والرواية في الغرب، وإفادة منهما، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين في تراثنا القديم، سواء الفرعوني، أو القبطي، أو الإسلامي العربي، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة في أعمال علي مبارك والنديم وغيرهما؟

ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التي تتناول الأدب العربي أو أحد عصوره، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش. لذلك فإن القصص العربي الذي تتصل حوادثه بأدبنا في الجاهلية إلى اليوم قليل جدًّا.٨

وقد تأتي الإفادة من التراث في محاولة تصوير الواقع تواصلًا بالتحامه بالأساطير الكونية. وعلى سبيل المثال، فأنت تحيا عالَمًا من الخيال والسحر والأسطورة، إذا قرأت «جامع كرامات الأولياء» للنبهاني، أو «بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار» للشطنوفي، أو «طبقات الأولياء» لابن الملقن، أو «طبقات الخواص» للشرجي الزبيدي … إلخ. والملاحظ أن القصة القصيرة جدًّا تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة. القصة التي تشغل أسطرًا قليلة تهبنا دلالة ما، هي — مع فارق المقولة والتكنيك — النادرة التي تشغل أسطرًا قليلة، وتهبنا حكمة، أو موعظة.

•••

يواجه التراث العربي اتهامات بمعايب كثيرة، كالغيبية، والتواكلية، والقصور في الخيال، والافتقار إلى الحاسة النقدية، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة، وغياب الحس الأسطوري والقصصي والدرامي … إلخ. وهي معايب تعاني التباين أحيانًا، والتجني أحيانًا أخرى. التراث ليس — كما يتصور البعض — سلبًا مطلقًا «تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية»،٩ والعمل الإبداعي الذي يوظف التراث لا يصدر عن رغبة في «دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائمًا، أو ما هو قائم، في العالم القديم»،١٠ وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوءهم إلى التراث إلى حد الاقتباس، أو التقليد المغلَّف بدعوى «التناص»، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج، ومخاطبات النفري، ومواقفه، ورسائل الجنيد، ونصوص ابن عربي، وشرح النابلسي، وغوثية الجيلاني، وتأريخ المقريزي وابن إياس وابن تغري بردي، وغيرها.

•••

ليست أوروبا وحدها — كما يقول ميلان كونديرا — مجتمع الرواية، فالعرب أيضًا — والأدلة موجودة — مجتمع الرواية. أرفض قول كونديرا إن «الرواية التي كُتِبَت تحت الخط ٣٥، على الرغم من كونها غريبة نوعًا ما بالنسبة للمذاق الأوروبي، تُعَد امتدادًا لتاريخ الرواية الأوروبية لِصيغتها، وروحها، ولقربها إلى حدٍّ يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة»،١١ هذه الرواية ليست امتدادًا لتاريخ الرواية الأوروبية، للتراث الروائي الأوروبي، إنما هي امتداد للتراث الروائي العربي، لبدايات الرواية العربية المبكرة. ليس في قولي ادعاء ولا مغالاة، لكنها الحقيقة التي تستند إلى أسس علمية، موضوعية. ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصري: «إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة.»١٢ ويقول الأرجنتيني جورج لويس بورخيس: «لولا ألف ليلة لما وُجِد معظم أدب الغرب.» ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمي بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة. ويضيف جبرا إبراهيم جبرا «أن الرواية الأوروبية كانت في شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر، فهي روايات حوادث أو مواقف، لا روايات شخصيات يبغي الكاتب عرض ما في دخائلها من مشاكل نفسية. فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز في القرن الثامن عشر، نجدها جميعًا مثل قصص ألف ليلة وليلة، تعني المخاطر والأهوال، أو النكات الغرامية، أو العبر الحكيمة.»١٣ وثمة اجتهادات — أوروبية — أن الأدب الواقعي بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة.
لقد كانت القصة في أوروبا — والقول لفؤاد حسنين علي — كمًّا مهملًا «لم يعن بها أديب، ولم يلتفت إليها مؤرخ، لذلك ظلَّت الآداب الأوروبية قرونًا عديدة محرومة من سِماتها، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة، كمجموعة بنتشتنترا في الهند، وألف ليلة وليلة في العالم الإسلامي، إلى جانب تلك المجاميع التي تركها البابليون والآشوريون وقدماء المصريين.»١٤
نحن نتعرف — مثلًا — في سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التي كانت تستحم في الخلاء، فخطف نسر حذاءها، وأسقطه في حِجر الفرعون. وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء، واهتدى إليها أعوانه — بعد طول عناء — وتزوجها الفرعون بالفعل. الحكاية لا بد أن تذكِّرك بحكاية سندريلا. حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية إلى صورة سندريلا الحالية. من هنا فإن القول إن «أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند»١٥ هو اجتهاد يعاني الشحوب مقابلًا لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية.

إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحري، وعلاء الدين، والصعاليك الثلاثة، وقمر الزمان، وحسن البصري، وغيرها من قصص ألف ليلة. ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث في قوله «إن الواقعية السحرية هي ما يشبه العودة إلى الليالي العربية»، و«أنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالي.»

ولصديقي يوسف زيدان ملاحظة ذكية: إن الكثير من النصوص الأدبية المعاصِرة هي أقل معاصَرة مما يُظَن وأكثر تراثية. ويقارن زيدان بين مشهد التحليق في رواية ماركيث «مائة عام من العزلة» وبين مشهد في نص عربي مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجري: «وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة، جماعة من مشايخ الصوفية … من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندي مع البرهمي الذي جاء إليه، وارتفع في هواء مجلسه، فارتفع الشيخ حينئذٍ في الهواء، ودار في جوانب المجلس، فأسلم ذلك البرهمي لعجزه عن ذلك، لكونهم لا يقدرون على الدوران في الهواء، بل يرتفع الواحد منهم مستويًا لا غير، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمي الذي ارتفع في الهواء، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه، حتى وقع على الأرض.»١٦

ويقول إدوارد سعيد: إن في الأدب العربي — فيما قبل القرن العشرين — أشكالًا غنية مختلفة للقصص، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة، لكن أيًّا من هذه الأسماء لم يتطور — كما تطورت الرواية الأوروبية — ليغدو نموذجًا رئيسًا … وهو رأي يحمل الكثير من الصحة، لكن اللافت — في محاولاتنا لاستدعاء التراث — أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التي أشار إليها إدوارد سعيد، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون. فما الذي اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصًا معاصرة، في حين لم تكتسب — من قبل — تلك الصفة؟

•••

نحن نخلط كثيرًا بين المدنية والحضارة، فالمدنية هي المكتسبات العلمية والتكنولوجية، أما الحضارة فهي نحن: موروثاتنا وقيمنا وجذورنا الثقافية. وارتكازًا إلى هذا المعنى، فإن مجرد التساؤل عن دور التراث في صياغة ثقافة ما، أمر غير وارد، ومستبعَد، لأن التراث هو معطيات الأمس، ومعطيات اليوم هي تراث الغد، والحلقات متصلة.

وإذا كان البعض يحرص على ربط التراث بالتخلف، فإن ذلك الرأي — الذي يصعب أن نفترض فيه حسن النية — يجد الرد عليه في أن التراث لا يُستعاد، بل إنه من المستحيل أن يحدث ذلك، لأن الآتي حتى فيما قد يَرين إليه من استاتيكية، يحمل الإضافة والجديد دومًا. ولكن المطلوب هو تمثُّل التراث، وإدراجه في جدلية التجربة المعاصرة، الثقافة المعاصرة، بحيث يصبح هذا التمثُّل تطويرًا للتراث، موقفًا نقديًّا وتجاوزًا في آن معًا، وبحيث يصبح دور التراث في صناعة ثقافتنا المعاصرة قضية غير مطروحة ولا واردة، لأن التراث أصل أصيل في أية ثقافة قائمة أو مرجوة. بل إن الأدب العربي المعاصر لم يكتسب ملامحه إلا بتوثيق صلاته بالتراث منذ عصر النهضة، والأدبيْن الإغريقي والروماني تحديدًا. إن الثقافة الجديدة التي يمكن التحدث فيها، هي تلك التي تصل بين الأصالة والمعاصَرة، بين القديم والجديد، بين الموروث والآني، فيصبح المستقبل — بكل زخمه — هو اتجاهنا الأوحد.

أوافق ألان روب جرييه في أن عظمة الروائي تكمن في أنه يبحث ويخترع دون أن يتقيَّد بنموذج ثابت،١٧ ولكن من الصعب — في تقديري — أن ينفصل المبدع تمامًا عن تاريخه الروائي، خاصة إذا مثَّل هذا التاريخ إرهاصات تمتد بمئات الأعوام، كما في التراث العربي القديم، مثل ألف ليلة وليلة، وكتابات الجاحظ، وابن طفيل، وأغاني الأصفهاني، ومقامات الهمذاني، وحكايات أشعب، ورسالة أبي العلاء، وكتب التصوف الإسلامي. وتمتد بعشرات الأعوام، كما في الأعمال التي ربما تجد بدايتها في «علم الدين» أو «حديث عيسى بن هشام» أو «عذراء دنشواي» أو «زينب» إلى آخر القائمة، وعلى حد تعبير بول فاليري فإن الأسد عبارة عن خراف مهضومة!
إن المبدع العربي لن يستطيع تطوير أشكال فنية عربية معبِّرة عن الواقع العربي، دون تلمُّس لجوهر التراث لا حرفيته، ودون محاولة جادة للإدراك النوعي للحساسية العربية في عُمقها واكتمالها.١٨ الهوية القومية لا تقتصر على المضمون، على الأحداث والشخصيات، لكنها تشمل الشكل، أو التقنية. إن لم يكن لها اختلافها وتميُّزها، فإنها لن تكون سوى مسخ مشوَّه لإبداعات الآخرين. أشير — بتعجب — إلى إفادة جارثيا ماركيث من ألف ليلة وليلة، حين جعل المرأة تطير في رائعته «مائة عام من العزلة». وطارت — فور ترجمة الرواية إلى العربية — نساء كثيرات، في إبداعات عربية، بصرف النظر إن كانت تحتاج إلى ذلك بالفعل. إن مبدعي أمريكا اللاتينية يتمايزون في أعمالهم بصورة لافتة، لكنهم يعبِّرون عن بانورامية لها خصوصيتها وتفردها، عنوانها: الرواية في أمريكا اللاتينية. وأذكِّر بقول إدوارد سعيد: «نحن — في الوطن العربي — نقوم بالنسخ المباشر؛ ما إن يقرأ الواحد كتابًا من تأليف فوكو أو جرامشو حتى يرغب في التحوُّل إلى فوكوي أو جرامشي.»

•••

مع محاولاتي في توظيف التراث، فإني كنت أحاول — في المقابل — أن أتمثَّل الثقافات الجديدة. إن رواية اليوم — والقول لروب جرييه — «هي ما سنضعه هذا اليوم، وإن علينا ألا ننحي التشابه بينها وبين ما كانت عليه الرواية بالأمس، علينا أن نتقدم إلى أبعد.» وفي رأيي أن الإضافات التي قدَّمها الإبداع الغربي إلى فن القصة والرواية بما يجاوز معطيات الإبداع العربي القديم، لا يعني اعتبار الفن الروائي والقصصي في الغرب بداية مطلقة لهما، وإلا فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة، في كل زمان ومكان، بداية غير مسبوقة للفن الذي تنتمي إليه، أي أننا نلغي ما سبق، ونعتبر البداية في الإضافة والتطوير.

والسؤال: هل نعتبر التراث العربي بداية القصة الأوروبية — على سبيل المثال — في ضوء اعتراف المستشرق الإنجليزي ﻫ. أ. ر. جب H. A. R. Gibb بأن «أوروبا قد تأثَّرت — أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة — بالمأثورات الشعبية العربية، وهي التي منحتها السمات القومية في الأدب، وأن القصة الإيطالية في عصر النهضة إنما هي وليدة القصص الشعبي العربي، وأن شوسر — أبا الأدب الإنجليزي — قد تأثر — بدرجة وبأخرى — بالنهج العربي في السرد والوصف والتصوير … ومع ذلك فإن الكثير مما نظنه من تراثنا — على حد تعبير رانيلا — لا نكاد نقبل أنه أتى إلينا من الشرق.»١٩

•••

من الخطأ أن نرتمي في حضن التراث إطلاقًا، كما أنه من الخطأ أن نرتمي في حضن الثقافة الغربية إطلاقًا. واللافت أن الدعوة إلى الانكفاء على الماضي، والتعامل معه باعتباره «المنقذ من الضلال»، الحل لمشكلات العصر والأزمات التي نواجهها، تلك الدعوة تقابلها دعوة إلى ملاحقة المنجزات الإبداعية والعلمية التي حققها الغرب. توظيف التراث لا يعني الانكفاء على الماضي، لكننا نفيد منه في الإضافة، أن يكون فاعلًا في المستقبل. نحن نفيد من التراث في تحقيق التواصل، ونفيد من الثقافة الغربية في تحقيق المعاصَرة. الصواب أن نفيد من التراث، ومن الثقافة الغربية المعاصِرة في تحقيق شخصيتنا المتفردة، في صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة عمومًا. أكرر: من الخطأ أن نكتفي بإحياء تراثنا القديم، أو النقل عن الغرب. الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن، لا نكتفي بالتلقي، بالنقل أو التلخيص، أو حتى الاستلهام، وإنما يجب أن نضيف إبداعنا الآني، وفكرنا الآني، وتعبيرنا الآني عن صوت حياتنا المعاصرة. إن التجديد موصول بالتراث، إنه الجذور التي تُحفَظ عليها الحياة والاستمرار. ثمة تفاعل خلَّاق يجب أن ينشأ بين الآني والتراث، ليس بمجرد التقليد أو المحاكاة أو الاستلهام، وإنما الإفادة من عناصره لتكوين رؤية إبداعية جديدة، قد تسمَّى توظيف التراث، أو استلهامه، أو استيحاءه … إلخ. لكنها تظل — في المحصلة النهائية — إفادة من التراث، اتصالًا به، تفاعلًا خلَّاقًا معه. والعمل الذي يوظِّف التراث قد يهب المتلقي تفسيرات ومدلولات ورؤى جديدة.

•••

إذا كان لكل شعب بيئته المغايرة التي تتوضَّح — بدرجة أو بأخرى — في إبداعاته، فإن ذلك ما يجدر بإبداعاتنا أن تحرص عليه.

إن الكثير من أعمالنا الإبداعية مجرد تقليد لإبداعات غربية، فهي قد فقدت هويتها، وما ينبغي أن تكون عليه من تفرد. إن المذاهب الأدبية والفنية المختلفة في الغرب، تعبِّر عن واقعٍ معاشٍ. إنها مدارس وليدة البيئات التي أثمرتها لأنها بيئات مثقفة في عمومها، ومتأمِّلة، ومنتِجة، ومستشرفة. أما نحن، فنبدع، لكن هوية إبداعنا قد تأخذ عن مدارس الغرب، دون أن تكون لنا هويتنا الإبداعية الخاصة التي تتواصل بالتراث، وتلاحِق العصر، وتستشرف المستقبل في آن. إن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين، لا تعني أننا نحاكيها، وإنما نذيبها في تجاربنا الإبداعية، نصبح نحن، ولا نصبح الآخرين. ولعلنا نجد مثلًا متفوقًا في التكنيك، أو البناء الفني، في سيرة عنترة، عندما قسَّم الراوي سيرة عنترة إلى ما سمَّاه اثنين وسبعين كتابًا، وحرص في نهاية كل كتاب أن يقطع الكلام بما يثير شوق القارئ إلى المتابعة، حتى يظل على إنصاته أو قراءته. وكما يقول الموسيقار الألماني يوهانس برامز (١٨٣٣–١٨٩٧م) فإن «الثورة على القوالب الفنية لمجرد الثورة، لا يمكنها أبدًا أن تخلق فنًّا جديدًا.» والأصوب، كما يقول فردريك شليجل، أن يوحد الفنانون — عبر عصورهم — العالم الماضي مع العالم القادم.

•••

في كتابه «تجديد الفكر العربي» تحدث زكي نجيب محمود عن التراث وثقافة الغرب، فوجد أن البعض — مثل العقاد — وجد أن الجمع بينهما ممكن، بينما قبل طه حسين وآخرون التراث كله وبعض الغرب دون بعض. وثمة آخرون — مثل أحمد أمين والحكيم — أجروا تعديلًا في التراث وفي الغرب معًا. أما الأجيال التالية فهي لا تعرف شيئًا من التراث العربي، ولا ترضى — في الوقت نفسه — بقبول الثقافة الغربية «خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين.» ٢٠ ويزيد زكي نجيب محمود فيتهم معطيات الأدباء بأنها سطحية.٢١

وفيما يتصل بالملاحظة الأخيرة تحديدًا — وهي غلبة السطحية على إبداعات أدباء الأجيال الحالية — فإنها تحتاج إلى مراجعة.

لقد بدأت حركة إحياء التراث العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر، انسلاخًا من السكونية التي فرضها الحكم العثماني. كان توظيف التراث بداية المسرح المصري كما يتبدى في أعمال مارون النقاش (١٨١٧–١٨٥٥م) وأبو خليل القباني (١٨٣٣–١٩٠٣م) ثم في الأعمال المسرحية التالية، وصولًا إلى زماننا الحالي في أعمال أحمد شوقي وتوفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وألفريد فرج وسعد الله ونوس وزكريا تامر وعز الدين المدني. أما توظيف التراث في الرواية فنجد بدايته في روايات جورجي زيدان التي عرض فيها لتاريخ العرب ومصر منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أخريات القرن الثامن عشر. ثم توالت الروايات التي تحاول توظيف التراث، مثل أعمال فريد أبو حديد وسعيد العريان وسعد مكاوي ونجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعادل كامل وأحمد شمس الدين الحجاجي ومجيد طوبيا وجمال الغيطاني وخيري عبد الجواد ومنير عتيبة وغيرهم. وثمة رموز وشخصيات يحفل بها تراثنا — وموروثنا — الشعبي المصري، تصلح قوامًا لأعمال أدبية معاصِرة: الخضر وأبو زيد والسيد البدوي وأشعب والشاطر حسن وعلي الزيبق وأحمد الدنف وشيحة والسفيرة عزيزة وأبو الريش وحسن المغنواتي وهبنقة وجحا وسيبويه المصري وذو النون وأبو الحسن الشاذلي وشحادي أبو حطب وحسن الذوق والسيدة أم الأنوار حارسة مصر … إلخ.

•••

يعجبني التعبير: «إن ولادة اليوم الإبداعية هي حصاد إخصاب تم في فترات سابقة.»

وقد حاولت أن أفيد مما تزخر به الملاحم والسِّيَر والحكايات الشعبية العربية من إمكانات، مضمونية وشكلية، فكتبت «الأسوار» و«إمام آخر الزمان» و«من أوراق أبى الطيب المتنبي» و«قلعة الجبل» و«اعترافات سيد القرية»، وغيرها.

لم ألجأ إلى التراث مثلما يفعل علماء الآثار في حفرياتهم، بل إن تلك الحفريات تصل الماضي بالحاضر على نحو ما، تجعل السلسلة متصلة الحلقات. التراث اشتباك فني — ودلالي — بين موتيفات الماضي والواقع المعاش. توظيف التراث لا يعني ابتعاد المبدع عن الواقع المعاش، عن الأوضاع الآنية لمجتمعه. أذكِّرك بقول نجيب محفوظ إن موقفه في ألف ليلة وليلة كمن يستوحي عملًا قديمًا لاستغلاله عصريًّا، أي أن عينه كانت دائمًا على الحاضر.٢٢
إن توظيف التراث يجد قيمته في التفسير المعاصر، وليس مجرد إعادة تقديم ما كان في صورة الماضي، فهي خالية من الروح. وبتعبيرٍ آخر، فإن توظيف التراث وسيلة فنية للتعامل مع الواقع الذي نحياه (أرفض كلمة «الإسقاط»، وأرفض تسمية الأدب السياحي)،٢٣ وعادة، فإن التراث — الشفاهي بخاصة — يتعرض لعمليات انتقاء، قد تكون إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، لكنها عمليات اختيار يعبِّر عن العصر، والفترة، وما يستهدف الراوي توصيله. بل إن الرواية المعاصِرة لم تقتصر على توظيف الأحداث التاريخية، والأبطال التاريخيين، وإنما تجاوزت ذلك إلى توظيف لغة التراث التاريخي نفسه، لغة المقريزي وابن إياس والسيوطي وغيرهم، وإن كنت أتحفظ على ذلك لسببٍ مهم هو أن لغة هؤلاء المؤرخين أقرب إلى لغة الصحافة في زماننا الحالي. أوافق على أن اللغة التراثية تعيدنا إلى الوراء، على الرغم من كل ما يشاع ويقال ويكتب من أن ذلك يتم باسم الخصوصية والأصالة «إذ لا شيء من هذا فيها.»٢٤ على المبدع العربي أن يستخلص البنيات التراثية ويستوعبها، ثم يعيد صياغتها في قالب جديد، بحيث يصبح التراث مصدرًا للاستعارات والرموز والنماذج العليا التي تعبِّر عن الحساسية العربية الحديثة، وتشكِّلها في آن واحد.٢٥ وفي تقديري أن الحرافيش لأستاذنا نجيب محفوظ هي أهم الروايات العربية إطلاقًا، لأنها رواية عربية بالفعل؛ لم تحاول المحاكاة ولا التقليد في أي من مقوماتها. أفاد نجيب محفوظ في روايته من الفنون العربية في الزخرفة والعمارة، ومن الحكايات الشعبية والنوادر وسيَر الأبطال، ومن التاريخ. «الحرافيش» توظيف للتراث بمستوياته الدينية والتاريخية والشعبية، ولكن اللغة التي صيغت بها عصرية تنتمي إلى زماننا الحالي، لغة صوفية، أو أفادت من الشعر.

أنا لا أحاكي النص التاريخي، لا أحاكي مفرداته ولا جُمَله ولا تركيباته اللغوية عمومًا. لا أنتقل بنصي الإبداعي الخاص إلى عصور سابقة، وإنما أحاول — ما أتاحت لي موهبتي — أن أصوغ الوقائع، وأصوِّر الشخصيات في لغة العصر الذي أنتمي إليه.

من المهم أن تعبِّر اللغة عن العصر الذي كُتِبَت فيه، وليس العصر الذي صوَّرته.

٢

إذا كنت أرفض محاولة الاستعلاء من خلال استعادة الماضي، والتشبُّث به، فإني أرفض — في الوقت نفسه — شعور النقص أو الدونية. أشير إلى تأثُّر الأدباء الأوروبيين بالإبداع العربي من سيرة وحكاية ورواية وغيرها، مثل سير عنترة وسيف بن ذي يزن والهلالية وحكايات ألف ليلة وقصص الحب العذري وروايات المعري وابن طفيل وابن شهيد وابن المقفع … إلخ. أذكِّرك بقول كرتشكوتسكي «إن القرآن وألف ليلة وليلة كانا بمثابة الآثار العظيمة للأدب العربي التي استطاع أجدادنا التعرف عليها في القرن الثامن عشر.» ٢٦ وقد تحولت قصة ابن طفيل «حي بن يقظان» إلى قصة أوروبية كتبها دانييل ديفو، وإن حذف منها كل الدلالات الفلسفية، وسمَّاها «روبنسون كروزو»، فصارت من كلاسيكيات الرواية الأوروبية، وأفاد منها الفلاسفة وعلماء النفس الأوروبيون — وفي مكتبتي مؤلف عن التاريخ الجنسي لروبنسون كروزو — وأنتج الغرب العديد من الأفلام التي تتناول قصة روبنسون كروزو في قالب المغامرة، وتناست الأقلام — وبعضها، للأسف، تكتب بالعربية — الأصل العربي لقصة ديفو، وهو نصٌّ ينبض بدلالات عميقة، وليس مجرد تعبير عن أزمات جنسية ونفسية مبعثها الشعور بالوحدة!

•••

راج عن ألف ليلة وليلة معتقد مشابه لمعتقد لعنة الفراعنة، إنه لعنة ألف ليلة وليلة. من يقرأ الكتاب يحلُّ عليه — في نهاية عام القراءة — مصيبة تدمر حياته، وربما لهذا السبب ظل الكتاب مخطوطًا لمئات السنين.

لم يُعرَف لحكايات ألف ليلة مؤلِّف محدد، ولا جامع للحكايات، ولا مترجم، أو مترجمون، إلى اللغة العربية، إنها أشبه بمجموعة من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر. تقول مقدمة الطبعة الرابعة التي صدرت عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت إنه «ليس لهذا الكتاب من كاتب.» وثمة من أكد أن المؤلف سوري «وضعه بلغة مبسَّطة سهلة، متوخيًا تعليم اللغة العربية إلى الراغبين فيها أكثر من توخي الاقتراب إلى أفهام الناس»،٢٧ ورأي بأن أصل الكتاب هندي،٢٨ ورأي ثالث بأن الكتاب هندي مطعَّم بقصص فارسية وللعرب فيه بعض الفضل.٢٩ وجمع البعض بين اختلاف تلك الآراء جميعها، فقال إن واضع الكتاب أكثر من مؤلف واحد.٣٠ إنها لم تتجمد في صيغة ثابتة، لأنه لم يكتبها شخص واحد. تعاقب على الإضافة فيها، وعلى الحذف والتعديل والتبديل، رواة متعددون بالشفاهة والكتابة. ويرجح أستاذنا أحمد حسن الزيات أن حكايات ألف ليلة وليلة قد جُمِعت ما بين عامي ١٥١٧–١٥٢٦م. ويستند في اجتهاده إلى أنه قد ورد في الكتاب ذكر القهوة والباب العالي ودواوين الحكومة في الدولة العثمانية وغيرها مما لم يكن معروفًا قبل تلك الفترة، فضلًا عن أن القهوة لم تكن قد عُرِفت في الشرق قبل ذلك التاريخ. ولعلَّه يمكن القول إن ألف ليلة وليلة أصبحت — في الأعوام التالية لترجمتها — جزءًا أساسيًّا من الثقافات الغربية، وأضافت إلى الإبداع الأوروبي ما لم يحققه عمل آخر، فيما عدا التوراة والأساطير الإغريقية. أقدِّر قول فاروق خورشيد: «إذا كان العالم قد ظل، منذ ترجمة جالان لألف ليلة وحتى الآن، يعيش في أحلام الإنسان وأشواقه ومخاوفه من خلال قصصها وخيالها وحبكتها الفنية، فهذا دين كبير على هذا العالم الجديد، ولهذه الحضارة العربية الحديثة، يجب أن يؤديه حبًّا واحترامًا لأصحاب الفضل فيه.» لقد أثرت ألف ليلة على الأدب الأوروبي تأثيرات متنوعة وكثيرة في المسرحيات والقصص، والشعر الغنائي والمسرحيات الغنائية. وقد ربطت الدراسات بين ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية، وبين ظهور الرواية الأوروبية الحديثة، واعتُبِرت حكاية «التفاحات الثلاث» — ألف ليلة — هي الأصل في نشأة الرواية البوليسية. وعظم تأثير ألف ليلة وليلة في أواخر القرن الثامن عشر، ثم طوال العهد الرومانتيكي (دعك من الصور المشوَّهة التي حاول الغرب استيحاءها، أو إلصاقها، بحياة العرب من خلال الأعمال المأخوذة عن حكايات ألف ليلة). فثمة مسرحيتان ﻟ «يوجين سكريب» هما «علي بابا» و«المصباح الصغير العجيب» وثمة التأثير المؤكد على روايتي بلزاك «الجلد المسحور» و«زنبقة الوادي» ومسرحية فونتين «ألف مسرح ومسرح». كما قدَّم شارل إيتين مسرحية «علاء الدين والمصباح العجيب»، وقدَّم موران دي بومبيني «المصباح الرائع»، وكتب بيير كارموش «المصباح العجيب»، وألَّف تيودور كونيار مسرحية «علي بابا» ومسرحية «ألف ليلة». وهناك «ألف ساعة وربع ساعة» و«قصص صينية» ﻟ «جيوليت»، و«قصص شرقية» ﻟ «كايلوس»، و«حب أنس الوجود» ﻟ «كلود إيتين سافاري». ونحن نجد ظلًّا لحكاية العبد الدميم، القذر، القاسي، في حكايات ألف ليلة وليلة، في رواية إميل زولا «نانا». وفي تقدير جبرا إبراهيم جبرا أن «استخدام التكنيك المتعدد الطبقات، وتفتيت الزمن، والاهتمام بحياة الفرد في المجتمع — وهي كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة — كل هذه موجودة في ألف ليلة وليلة.»٣١ أما السينما العالمية، فقد قدمت العديد من الأفلام: علاء الدين والفانوس السحري، علي بابا، السندباد البحري المأخوذة عن حكايات ألف ليلة: لص بغداد، حكايات … إلخ.

•••

كم يؤلم النفس أن نجد الإعجاب بتراثنا في مرايا الآخرين، فتنقل إلينا عدوى الإعجاب. وكانت ألف ليلة وليلة مهمَلة في حياتنا، لا نكاد نجد فيها أكثر من كتابٍ للتسلية. فلما تعددت استلهامات الأدب الأوروبي منها، حاكيناه في استلهاماته، وأعلنَّا نفس الإعجاب الذي خصَّ به كُتَّاب الغرب «ألف ليلة وليلة».

ولعلِّي أوافق على القول إنه إذا كنا لا نعرف — تحديدًا — من هو مؤلف ألف ليلة وليلة، ومن حوَّرها وأضاف إليها، فإن المهم هو أنها كُتِبت بالعربية، عن المجتمع العربي، والمواطن العربي. حتى لو استقت أصولها من مصادر أمم أخرى. والمثل شكسبير الذي استقى خطوط معظم مسرحياته من مصادر غير إنجليزية، وإن ظلَّ فنُّه — في النهاية — إنجليزيًّا صرفًا، بقدر ما كان الفن في ألف ليلة عربيًّا صرفًا.

لقد أكد بايرون أنه قرأ ألف ليلة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، وأعلن فولتير أنه لم يبدأ في كتابة القصة إلا بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة، وتمنى استندال أن يفقد الذاكرة ليستعيد — ثانية — لذة قراءة ألف ليلة. واعترف أناتول فرانس أن حكايات ألف ليلة كانت في مقدمة ما قرأه قبل أن يكتب الأدب. كما اعترف هيرمين ميلفيل أن ألف ليلة وليلة هي التي أطلقت خياله، وأصدرت العالِمة الألمانية كاترينا مومزن كتابًا بعنوان «جوتة وألف ليلة وليلة» أكدت فيه تأثُّر جوتة بألف ليلة وليلة في أعماله المختلفة، ومن بينها فاوست. ويقول «لي هانت»: «تُعَد الليالي العربية بالنسبة لنا واحدة من أجمل الكتب في العالم، لا لسبب أن المتعة فيها فقط، ولكن لأن الألم فيها يمتلك فرص تغيُّر وتقلُّب لا نهاية لها، ولأن المتعة في متناول كل من لديه الجسد والروح والخيال.» ويعترف والتر سكوت: «إني أعرف القليل عن الشرق إذا لم أضع في الحسبان ذكريات طفولتي عن قصص ألف ليلة وليلة.» أما بورخيس فيعزو تأثُّره بألف ليلة وتوظيفه لحكاياته في أعماله إلى أنه قرأها من أولها إلى آخرها «احتشدت بالسحر. كنت مأخوذًا به.»٣٢ أما جابرييل جارثيا ماركيث فهو يجيب عن السؤال: ما أهم الكتب التي قرأها؟ يقول: ألف ليلة وليلة، الملك أوديب ﻟ «سوفلوكليس»، موبي ديك ﻟ «ملفيل». هكذا بالترتيب، ألف ليلة وليلة — القول لماركيث — هي الكتاب الأول الذي قرأه في حياته، وقد أثَّر فيما بعد — تأثيرًا مباشرًا على كل كتاباته. «أنا بدأت من الأدب العربي، من ألف ليلة وليلة بالذات. لقد بدأت من هناك، ولم أنتهِ بعد. ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته في حياتي. وجدته في البيت الذي نشأت فيه، ولا أعرف أية ترجمة كانت تلك، لكني أذكر أنها حَوَت الأحداث فقط دون تعليقات أو قصائد، وقد كانت أحداثها مثيرة لدرجة ربطتني بالأدب منذ ذلك الحين.»٣٣ لقد وقفت مذهولًا أمام تلك القدرة العربية الهائلة على مقاربة الخيال الأوروبي بكثيرٍ من الحس الطبيعي المطلَق الذي ربما لا يوجد — في تقديري — من يملك أسراره غير العرب.٣٤ ويقول اليوغوسلافي رادي يوجوفتش إن «أهمية قصص ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى الآداب الفلكلورية اليوغوسلافية قد دفعت بعض العلماء اليوغوسلاف إلى أن يوجِّهوا أنظارهم بدقة علمية إلى إمكان تأثير هذه المجموعة القصصية في آدابنا الشعبية قبل كل شيء.»٣٥ وهو ما توصَّلت إليه اليوغوسلافية «نيفنا كرستيتش» في دراسة مطوَّلة لها عن الموتيفات المشتركة في ألف ليلة وليلة ومجموعة الملاحم والقصص الشعبية اليوغوسلافية: وجود ٥٧ موتيفًا مشتركًا تعكس تأثير القصص العربي على القصص الشعبي اليوغوسلافي. وإذا كانت الموسوعة الإسلامية ترى في العلاقة بالعجائب إحدى الإضافات المهمة التي قدمتها العبقرية الإسلامية للأدب الكوني في شكل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة.٣٦ فلعلِّي أذكر — أخيرًا — قول شوفان: «من المستحيل إعداد قائمة كاملة بالآداب التي تأثَّرت قليلًا أو كثيرًا بألف ليلة وليلة.»

•••

من البديهي أن نعيد إلى ألف ليلة وليلة ما تستحقه من مكانة؛ إنها مَعْلم مهم ومؤثر في فننا الروائي والقصصي، فضلًا عن تأثيرها المؤكد في فن القصة في العالم جميعًا (يشير جبرا إبراهيم جبرا إلى أن أسلافنا — رحمهم الله! — لم يعدُّوا ألف ليلة أدبًا (مجلة الأديب، يناير ١٩٥٤م)، ويضيف إ. ل. رانيلا أن العرب لم يحتفلوا بألف ليلة وليلة، باعتبارها نمطًا من الكتابة يشذ عن الكتابة العربية، وغير جديرة بالاحترام، لأنها عامية وسوقية، وليست أدبًا بأي حال من الأحوال، إنما هي خليط من فلكلور الشارع صِيغ بلغة سوقية.)٣٧ وحسب اجتهادي الشخصي، فإن ما سُمِّي بمحاولات تهذيب ألف ليلة وليلة، أساء إليها، أفقدها الكثير من المقومات الفنية والجمالية، ومن عفوية الفن وبساطته. تحوَّل الكثير من حكاياتها إلى حكايات تعليمية، وَعْظية. وقد ظلَّت الحكايات موضعًا للرقابة والحذف والتبديل، بدعوى المراعاة الأخلاقية، وحُوِّرت فأصبحت غالبية حكاياتها أدبًا للأطفال — مع أنها ليست كذلك! — وظلَّت النظرة إلى النص الأصلي عمومًا تنطوي على عدم الاحترام. وكما يرى جمال الدين بن الشيخ، فإنه حتى في زمننا الحالي، فإن نصوص الليالي الألف لا يُنظَر إليها في الجامعات العربية على أنها جديرة بالتحليل والدراسة.٣٨ بل إن موريس بلانشو يجد في الليالي الألف ما يخاطِب القارئ الأوروبي ابتداء. فهو يتساءل: كيف أمكن لليالي أن تتحدث إلى العرب؟ في باله — بالطبع — آلاف المحظورات والنواهي ومحاولات وأد التخيُّل. يضيف بلانشو «إنها تتحدث إلينا.»٣٩
والحق أن تأكيدي على وجوب احتفائنا بألف ليلة وليلة، لا يعني أن نظرتنا إليها قاصرة في إطلاقها. ثمة من يجدون فيها أثرًا أدبيًّا يستحق الكثير من الدرس والاهتمام. أستاذتنا سهير القلماوي في رسالتها للدكتوراه عن ألف ليلة، تذهب إلى أن الكتاب كان حافزًا مهمًّا لعناية الغرب بالشرق، عناية تتعدى النواحي الاستعمارية والتجارية والسياسية «بل لسنا نغالي إذا أرجعنا كثيرًا من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر قليلًا ومن بعده كثيرًا إلى زيارة هذه البلاد الشرقية.» وأشير إلى أن الروائي ودارس التراث الشعبي فاروق خورشيد يخصص في مكتبه — منذ فترة طويلة — جلسة أسبوعية لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة، يحضرها مجموعة ممتازة من الأساتذة والدارسين، يناقشون الحكايات، ويحلِّلونها، ويعرضون لجوانب الإبداع الفني فيها. والقراءة الواعية الفاهمة لألف ليلة وليلة في اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا أنها «مزيج غني من الواقع والرمز، فهي تصور حضارة عصر معين، وفي الوقت نفسه تكشف عن النزعات البشرية إطلاقًا، فالكتاب بجملته بحث عن السعادة، والكثير مما فيه ضربٌ من الحوادث الحلْمية، تتحقق فيها الرغبات كما تتحقق في أحلام اليقظة. ومع ذلك، فإن ذلك المجهول الذي جمع الحكايات بين دفتي كتاب واحد، أدرك العلاقة الخفية بين ما هو من خلق الخيال وبين ما هو من مقومات الشخصية، فجعل من شهريار — بعد أن فرغت شهرزاد من أحاديثها إليه — ملكًا أحكم وأعدل من ذي قبل، وبذلك دلَّل على حقيقة ردَّدها في الغرب نقاد كثيرون، وهي أن الأدب ينشِّط المخيلة، والمخيلة النشيطة تيسِّر على المرء إدراك حالات الغير، وبالتالي فهمهم وحبهم.»٤٠

•••

يقول ليتمان: إن النواة الأصلية لكتاب «ألف ليلة وليلة» مأخوذة عن كتاب قصصي فارسي يُعرَف بكتاب هزاز أفسانه (ألف خرافة)، ربما نُقِل إلى العربية في القرن الثالث الهجري. وإن مادة هذه القصص معظمها من أصل هندي. ويضيف: «على هذا فإن هذه القصص التي أُخِذَت من كتاب هزاز أفسانه هي التي تكوَّنت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة، ثم تجمَّعت حول هذه النواة في أرض عربية، طبقات مختلفة من الحكايات.» أما الألماني فالتر فيبكه فيذهب إلى أن «حواديت ألف ليلة وليلة» لم يكن مهبطها فقط بلاد فارس، إنما هي أساطير جالت وصالت في دول المشرق العربي والشرق الأقصى. ويتساءل ماكدونالد: «من هو ذلك الفنان، أو الفنانون المصريون — حدد الرجل الجنسية! الذين كتبوا قصص «معروف وجودر وأبو قير»؟ ومن الذي ابتكر حكايات «الأحدب»، وحكاية «مزين بغداد»؟ ومن هو الذي كتب قصة «علاء الدين» بالعربية؟ إن هذه الحكايات جميعًا فيها من الواقعية المباشرة الإنسانية ما يرى القراء الغربيون أنه يباين كل المباينة ما في القصص الفارسي أو الهندي من بُعد عن الواقع.»٤١
وتخلُّصًا من مشكلة مؤلف الحكايات: هل هو كاتب واحد أو مجموعة كُتَّاب، وهل الحكايات ذات أصل فارسي أو هندي عربي أو مصري … فقد ذهب العديد من الدارسين إلى أنها ذات أصل فارسي – هندي – بغدادي – مصري. ربما لأن أحداث الحكايات دارت في هذه البلدان. لذلك فإنه من الصعب نسبة الحكايات إلى مؤلف واحد، لكنها جهد مجموعة من المؤلفين، أضافوا إليها الكثير من الوقائع والأحداث. وبصرف النظر عن الاجتهادات التي تختلف في أصول ألف ليلة: هل هي مقتبَسة من الهندية أو الفارسية أو الرومية، أم هي مؤلف عربي مجهول، فإن الليالي — بالصورة التي تطالع بها قارئها منذ استكملت ملامحها النهائية — عربية المكان والزمان والقسمات، فيما عدا بعض الهوامش التي لا تبدِّل من الملامح الأساسية. إن للثقافات العالمية دورها الذي يصعب إغفاله في رواية الليالي الألف، ولكن يظل للثقافة العربية دورها الأول والأساس في «إبداع» ذلك الإنجاز العالمي المهم. وكما يقول الباحث العراقي عبد الغني الملاح فإن كتاب ألف ليلة وليلة، بالإضافة إلى كونه نابعًا من مخيلة الشعوب الشرقية بصورة خاصة، والحضارات العالمية القديمة بصورة عامة، فإن للعرب الدور الأكبر في تسجيله، وإخراجه بشكله النهائي، وإيصاله إلينا بصيغته الأخيرة.٤٢
والحق أن ألف ليلة وليلة تحمل — بالفعل — بصمات هندية وفارسية ويونانية وفرعونية وعربية قديمة، فضلًا عن المجتمعات العربية التي تخلَّقت بعد ظهور الإسلام، وهو ما سُمِّي بالأجزاء البغدادية، أو المصرية. لكن ألف ليلة تظل أثرًا اسلاميًّا، ينتصر للدين الإسلامي، وللشخصيات الإسلامية، ويحفل بالكثير من قيم الدين الإسلامي: المعتقدات والعادات والتقاليد والأمثال والألغاز، وانطلاقات المكان في بلاد ومدن إسلامية، هي القاهرة والبصرة وبغداد والشام وغيرها، وشخصيات تحيا في تلك البلاد والمدن. فثمة السلطان والوزير وعالِم الدين والقاضي والصياد والحمَّال والحشَّاش واللص والجندي والصيرفي والنخاس والجندي والدلَّالة والصانع، وثمة الأسواق وساحات بيع الرقيق والخانات والمساجد والصحراء … إلخ. فضلًا عن الكثير من الأمثال والنوادر وقصص الرحلات المنقولة من كتب العرب. لقد وُضِعت ألف ليلة — للمرة الأولى — في مدينة إسلامية، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى، فجرى فيها تبديل وتحوير وحذف وإضافة، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى، في عصور تالية، وأُدخِلت عليها حكايات جديدة، فجاءت الليالي الألف تعبيرًا عن الحياة في امتداد العالم الإسلامي. ويلاحظ قاسم عبده قاسم أن فارس وأجزاء كبيرة من الهند، كانت — ولا تزال — ضمن دار الإسلام. وكانت الثقافة العربية هي ثقافة المسلمين في تلك المناطق.٤٣
لذلك فإنه من الصعب أن تنسلخ ألف ليلة من صفتها العربية، أو تنسلخ صفتها العربية منها. إن «ألف ليلة حكايات عربية، كانت تلبي حاجة ثقافية اجتماعية لجماهير الناس في العالم العربي آنذاك، كما كانت تعبيرًا عن جوانب مهمة من حياة الفرد العربي في تلك الفترة.»٤٤ ويقول فانس رادولف إن ألف ليلة وليلة «تشكَّلت وصقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهي؛ فقد أضيفت مواد، إما عن طريق المصادفة، أو توافق الظروف، ولكن لكي تعيش الحكاية لا بد أن تلقى قبولًا من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها. وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد ساهموا في تشكيل الحكايات، في حين صقلها الرواة»٤٥ (ثمة قصتان أصليتان من قصص ألف ليلة وليلة كانتا معروفتين من القرن الثاني الهجري، هلال ناجي، المورد ﺟ ٤٥، العدد ٢، المجلد ٢).
لقد جمعت ألف ليلة موروثًا هائلًا من الحكايات والخرافات والحواديت. وقد جاء ذلك إما من العصر الجاهلي، وما سبق، وإما من الشعوب التي عرفها العرب، واحتكُّوا بها، مثل فارس والهند واليونان وغيرها. لكن الموهبة العربية — والمصرية بخاصة — تظل غالبة، ذلك «لأن الهندي يحكي ويبالغ ويكدس ما يرويه، أما العربي فإنه يرسم ويتأنى، ولا يستطيع أن ينفصل بنفسه عن حكايته الخرافية.» ويقول حسين فوزي: «أنا واحد من الناس أعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب مصري في الكثير من قصصه.»٤٦ ويذهب المستشرق «نولدكه» إلى أن حكايات الصعاليك في ألف ليلة وليلة فيها عنصر مصري خالص. بل إن الكاتب الراحل محمد فهمي عبد اللطيف — وإسهاماته في دراسة الأدب الشعبي رائدة ومتفردة وثرية، وإن تجاهلتها دراسات تالية لأسباب غير مفهومة! — يؤكد أن القاهرة هي موطن ألف ليلة وليلة، وفيها صُنِعت قصص هذا الكتاب وصيغت في سردها القصصي المعروف. ويقول «جالان» في مقدمة الجزء الأول من ترجمته لألف ليلة، إن «ألف ليلة وليلة هي الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى العامة، وإنها الصورة الصادقة له، فمن قرأها فكأنه رحل إلى الشرق، ورآه، ولمسه لمس اليد.» ويقول فون ديرلاين: «هذه المجموعة من الحكايات الخرافية ترسم صورة للحياة العربية خلال قرون ستة»، فهي حكايات عربية إذن.

٣

استلهم الكثير من أدبائنا ألف ليلة وليلة. أذكِّرك ﺑ «أحلام شهرزاد» ﻟ «طه حسين»، و«شهرزاد» ﻟ «الحكيم»، و«شهرزاد» ﻟ «باكثير»، و«القصر المسحور» ﻟ «طه حسين والحكيم»، و«رحلات السندباد» ﻟ «خليل حاوي»، و«شهريار» ﻟ «عمر النص»، و«رحلات السندباد السبع» ﻟ «أحمد هاشم الشريف» وغيرها. ومع أن توظيف نجيب محفوظ لليالي الألف لم يظفر بالحفاوة النقدية التي ظفر بها معظم أعمال محفوظ، فإن الفنان يعتبرها من أفضل ما كتب.٤٧ يقول: «ألف ليلة تحولت معي، فيما يتعلق بالمضمون والاهتمامات، إلى الحاضر. ويشبه ذلك ما فعله بعض الكُتَّاب حين تناولوا أسطورة أوديب، وعالجوا عن طريقها المشكلات المعاصرة.»٤٨

وإذا كانت معظم الإبداعات التي حاولت توظيف ألف ليلة وليلة قد اختارت — بداية لأحداثها — الليلة الثانية بعد الألف، فإن روايتي «زهرة الصباح» تبدأ في الليلة الأولى بعد الألف، ثم تمضي أحداث «زهرة الصباح» في موازاة أحداث ألف ليلة وليلة. تروي الأولى حكاية زهرة الصباح وسعد الداخلي، مثلما تروي الثانية حكاية شهرزاد وشهريار.

رواية «زهرة الصباح» محاولة لتوظيف تراث ألف ليلة وليلة في عمل معاصر، وإن ظلَّت ليالي ألف ليلة إطارًا له. زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد، تنتظر دورها، إما أن يملَّ شهريار الحكي، أو تخفق شهرزاد. وتسعى زهرة الصباح بواسطة أبيها إلى الإفادة من كل ما يقرؤه ويستمع إليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسِّيَر الشعبية المصرية، تحفظها حتى تبقي على حياتها لو حلَّ عليها الدور. وأثناء ذلك أيضًا ينبض قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلي الملواني، الشاب المقيم في البيت المقابل. ويرضخ الأب لإرادة ابنته بالزواج من الشاب، ويتم زواجهما في السر، ويحيا الشاب في قصر أبيها باعتباره خادمًا، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله أبوها، مما يقرؤه ويسمعه، في الوقت الذي تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار، مقابلًا لإصراره على قتل بنات الناس. ويواجه شهريار — في النهاية — بغضبة الناس المعلَنة، كما يفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء. وهو ما حدث في ألف ليلة وليلة بالفعل. ويعود شهريار عن غيِّه، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء، والسؤال يشغل الجميع: هل جرى ما جرى خوفًا من غضبة الناس، أو أن الكلمة قد أثَّرت فيه من خلال حكايات الليالي الألف، فتبدَّلت أحواله. أما زهرة الصباح فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته. وبينما كان شهريار يعفو عن شهرزاد، ويعترف بأبنائه الثلاثة، تكون هي حاملًا من زوجها سعد الداخلي.

•••

كانت دنيا زاد هي الفتاة التالية لشهرزاد في ألف ليلة. أما زهرة الصباح فقد كانت الفتاة هي التالية لشهرزاد في روايتي. ليس ثمة دنيا زاد في الرواية، وهذا — كما تعرف — حق الفنان. الفن اختيار ومخيِّلة. وقد حاول كلٌّ من والد شهرزاد ووالد زهرة الصباح أن يمنع التضحية بابنته، أو يرجئ — في الأقل — وصولها إلى بقعة الدم، ولكن الوسائل اختلفت. فقد حاول الوزير أن يثبِّط عزيمة ابنته فلا توافق على الذهاب إلى قصر الملك. وهي — كما ترى — كانت محاولة يائسة، وإن يفسِّرها أنها صادرة من أب يخشى على حياة ابنته. أما عبد النبي المتبولي فقد لجأ إلى المتاح، وهو أن تحفظ زهرة الصباح الكثير الكثير من الحكايات لتواصل الحكي، فتطيل حياتها إن سيقت شهرزاد إلى بقعة الدم، في الليلة التي لا تجد فيه ما ترويه، أو يشعر شهريار بالملل. وفي الليالي الألف تتداخل الحكايات: شهرزاد هي الراوية لحكايات متوالية، ننسى بعضها، ونتذكر بعضها. أما رواية «زهرة الصباح» فهي تروي لنا حكاية واحدة، هي التي تهمنا، وليست الحكايات التي ترافق أيامها، سواء نُسِبت إلى شهرزاد، أو إلى قضايا الناس، أو سِيَر الرواة (بالنسبة للشكل، فإني أتأمل ملاحظة صديقي أحمد درويش، وأوافق عليها، بامتزاج الحاكي والراوي في «زهرة الصباح»، وباستفادة التقنيات الحديثة من الموروث القديم، تقنيات الفن القصصي عبر الحاكي والراوي، ص٢٥٨.)

•••

ثمة وصف لشهرزاد بأنها «فتاة فدائية، لأنها تعرضت لسيف شهريار الذي فتك ببنات المدينة، أرادت أن تغويه، فوضعت نفسها أمام النطع والسيف، متحدية بعزيمة صادقة وقلب شجاع.»٤٩ أما توفيق الحكيم فيجد في شهرزاد استمرارًا لإيزيس. بعثت زوجها شهريار بعد موت نفسه، وأعادت الحياة إلى إنسانيته، تعلَّم من أحاديثها وقصصها، وعادت إليه نفسه.٥٠ ولعلَّ ذلك بعض ما عبَّرت عنه زهرة الصباح، لكنه لم يكن كل ما حملته.
ألحَّت حكايات شهرزاد على طبيعة النساء المنحرفة، اتساقًا مع الثقافة العربية التي يرى جمال الدين بن شيخ أنها تحمِّل مسئولية التعاسة للمرأة.٥١ أما حكايات زهرة الصباح، فقد قدمت المرأة في صورة مغايرة، همُّها البيت والأسرة والحياة التي تخلو من المعايب، ومن الخوف.
إن زهرة الصباح تحيا في الرواية، تسأل، وتجيب، وتنظر من الشرفة، وتخرج إلى السوق، وإلى الحمام، وتحب، وتتزوج. وشهرزاد في روايتي لها كذلك ملامحها الواضحة التي يتعرف القارئ إليها، بعكس شهرزاد في الليالي، فإنها مجرد صوت يروي. حتى تنتهي الليلة الواحدة بعد الألف، وإن تخفَّت شهرزاد وراء الأقنعة التي كانت ترتديها في كل ليلة لنماذج النساء اللائي كانت تقدمهن في كل ليلة.٥٢

أفادت شهرزاد من الحكايات التي جمعتها من الكتب، وهي كتب في التاريخ والشِّعر والطب وأقوال الحكماء والملوك، أفادت من الذاكرة المكتوبة. أما زهرة الصباح فقد تنوعت عناصر الإفادة — والفضل لأبيها عبد النبي المتبولي — فبالإضافة إلى حكايات شهرزاد لشهريار، والتي كانت تنقلها له القهرمانة نجوى لينقلها إلى زهرة الصباح، فإنه نقل حكايات الرواية في الأسواق والطريف من القضايا التي عرضت عليه.

جعل عبد النبي المتبولي نفسه في موضع ابنته زهرة الصباح، فأدرك أن الراوي الماهر — ترقبًا لما سيحدث، أو قد يحدث — «من يعرف أكبر عدد ممكن من الحكايات، ويعرف كيف يرويها. الراوي الماهر كذلك هو الذي يعرف من أين يتزوَّد بالحكايات، ويعرف بالتالي من يقصده بغية الحصول على حكايات جديدة.»٥٣ وكما يقول رولان بارت فإن «حكايات العالَم لا حصر لها. تلك حقيقة أولى مدهشة حول جنس الحكاية ذاته، الذي يتفرَّق في كيانات مختلفة، كما لو أن كل مادة في الكون صالحة لأن يُودِع الإنسان فيها حكاياته. فالحكاية يمكن أن تحملها اللغة المحدودة، شفوية أو كتابية، أو تحملها الإشارة، أو يحملها الخليط الممزوج من كل هذه الكيانات.»٥٤

•••

شُفِي شهريار من مرض الحقد والرغبة في الانتقام، وشُفي المتبولي من أمراض كثيرة كانت هي التي تسيِّر حياته، وتملي عليه أقواله وتصرفاته. وكانت الحكايات، الكلمات، هي الدواء الناجع لكلا الرجلين. وتبيَّن أهمية الكلمة في حياة كل من شهرزاد وشهريار، عندما رَوَت الحكاية عن الملك الذي أراد أن يضاجع جارية وزيره، فقالت له الجارية: هذا الأمر لا يفوتنا، ولكن صبرًا أيها الملك، وأقِم عندي هذا اليوم كله، حتى أصنع لك شيئًا تأكله. وأتت الجارية للملك بكتاب نبضه المواعظ والحِكَم التي تنهى عن الزنا، وتكسر الهمة عن ارتكاب المعاصي. لذلك كان حرص شهريار على الكتاب، فهو يعنى بالكتب، ويسرف في اقتنائها واقتناء المخطوطات، ويمضي نهاره في المكتبة، يختلي بنفسه، يطلب دواة وأوراقًا، وينشغل في الكتابة والتأليف في نظم الشعر والزجل والموشحات والبلاليق وتدوين الحوادث. وصار يعقد الكثير من جلساته في قاعة المكتبة، بعد إعادة تأثيثها، يجالسه العلماء والأدباء والشعراء، يطرحون الموضوعات كيفما اتفق، ينصت كثيرًا، ولا يتكلم إلا قليلًا، يزيل الرهبة من نفوس المحيطين بتواضعٍ ظاهرٍ، يبيِّن عن حبه للعلم والعلماء في هداياه الوفيرة وخلعه وعطاياه. ورجا شهرزاد أن تعيد رواية حكاياتها على النسَّاخين، ينقلونها وهم جلوس وراء ستار، ويكتبونها بماء الذهب، فتُحفَظ في خزائن الدولة.

إن معجزة الإسلام هي القرآن الكريم. لكل نبي معجزاته التي أقنعت المؤمنين به أنه نبي من الله. أما رسول الإسلام فقد كان القرآن الكريم هو المعجزة التي تحدَّت من يستطيع أن يأتي بمثلها. والقرآن الكريم قوامه الكلمة، ففي الكلمة إذن تكمن هذه المعجزة السماوية الخالدة، وفي الكلمة أيضًا تكمن رسالات وأفكار ومبادئ وحِكَم وعِبَر وعظات قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.٥٥
لم تكن شهرزاد قد ضمنت حياتها بما ترويه من حكايات، لكنها كانت تحاول — بتلك الحكايات — أن تضيف إلى كل يوم في حياتها يومًا جديدًا، ولعلَّها كانت تثق في داخلها أنها ستموت، وأن كل ما كانت تحاوله هو تأجيل اللحظة الحتمية. وقد فقدت شهرزاد في الليلة الأولى بعد الألف قدرتها على الحكي، أو الرغبة فيه، أو لأنها لم تعُد تحتمل أن تعيش يومًا بيوم، وترغب في أن تتعرف على مصيرها نهائيًّا، وخلال ليلة تكون هي الليلة الحاسمة.٥٦ وإذا كانت الطبعة التي قال فيها شهريار لشهرزاد في الليلة الحادية بعد الألف: كفى، بمعنى أن حكاية تلك الليلة أحدثت ما كانت شهرزاد تحاول إلغاءه، وتتوقعه في الوقت نفسه، وهو تسرُّب الملل إلى نفس شهريار … إذا كانت تلك الطبعة هي الصحيحة، فإن زهرة الصباح كانت ستحل بدلًا من شهرزاد، لولا أنه عفا عن شهرزاد لأنها كانت قد أنجبت أطفالها الذكور الثلاثة.
كان الهدف من حكاية القصص في «ألف ليلة وليلة» — كما يقول يوسف الشاروني — هو التغلب على الوقت والزمن. وقد أتاحت الحكايات/الكلمات لشهرزاد أن تطيل حياتها بالفعل، حتى كسبتها في النهاية، نتيجة لانشغال شهريار بالاستماع إلى الحكايات والاستمتاع بها. أما الهدف من حكاية القصص في «زهرة الصباح» فهو تأجيل الموت. لقد تغلَّب الإنسان على الخوف، وتغلَّبت الحياة على الموت. أتذكر قول رامان سلدن: «إن بقاء الراوي — شهرزاد — في ألف ليلة كان يعتمد على الانتباه المستمر للمَروي عليه — شهريار — ذلك لأنه كان سيقتلها إذا فَقَدَ اهتمامه بما ترويه.»٥٧
أفلحت شهرزاد في تخليص شهريار من جنونه، بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها، بحيث وضعته في حالة تنبُّه طيلة ثلاث سنوات تقريبًا حتى تمكَّنت من شفاء حقده وضغينته، وتمكَّنت بالتالي من إنقاذ البشرية.٥٨ أما زهرة الصباح فقد أعطت المعنى للحياة في ظل الخوف. تأجل — بحكايات شهرزاد — ما كان ينتظر زهرة الصباح من مصير، لكن الحكايات — في الحقيقة — لم تستطع أن تزيل الخوف الذي ظل في نفس زهرة الصباح حتى أعلن شهريار عفوه عن شهرزاد.

واللافت أننا نفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت من شهريار أبناءها الثلاثة. أما زهرة الصباح، فنحن نتابع تطورات حياتها منذ أحبَّت وتزوجت، واستعدت للإنجاب.

•••

أما شخصيات ألف ليلة وليلة بعامة، فهي تختلف — في مجموعها — عن شخصيات التاريخ العربي المكتوب. إنها شخصيات تنتسب إلى الناس العاديين، هؤلاء الذين نلتقي بهم في البيوت والأسواق والشوارع والوكايل والخانات. من يشقيهم البحث عن قوت أيامهم. ثمة الشيَّالون والإسكافية والصيادون والحلَّاقون والمزارعون الصغار والحرافيش والذين بلا مهنة. إنهم التعبير عن التاريخ الحقيقي للفترات التي عاشوا فيها، وليس الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والوزراء والولاة والقضاة والمحتسبين … إلخ.

إن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لرواية «زهرة الصباح»، وكانوا — من قبل — الأبطال الحقيقيين لروايات «الأسوار» و«إمام آخر الزمان» و«من أوراق أبي الطيب المتنبي» و«قلعة الجبل»، تخفت — أمام جهارة أصواتهم — أصوات المقيمين في القصور.

الكاتب العربي، أغسطس ١٩٩٩م؛ فكر وإبداع، مارس ٢٠٠٠م.

هوامش

(١) ت. عاصم إسماعيل، آفاق عربية، مارس١٩٨٥م.
(٢) الهوية والتراث، ص١٠٣.
(٣) العربي، مارس ١٩٧٥م.
(٤) ثقافتنا في مواجهة العصر، ص٥٤.
(٥) الأهرام، ٣ / ٣ / ١٩٩٤م.
(٦) زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، ص٦.
(٧) المجلة، ٢ / ٣ / ١٩٨٨م.
(٨) فؤاد حسنين علي، قصصنا الشعبي، ص٦٥.
(٩) رفعت سلام، بحثًا عن التراث العربي، ص٢٠.
(١٠) صبري العسكري، الأهرام، ٢٩ / ٥ / ١٩٨٨م.
(١١) ميلان كونديرا، الطفل المنبوذ، ت. رانيا خلاف، ص٤٠٠.
(١٢) البلاغ اليومي، ١٢ يناير، ١٩٣٢م.
(١٣) مجلة الأديب، فبراير ١٩٥٠م.
(١٤) قصصنا الشعبي، ص٣١.
(١٥) الأعمال الكاملة لشوقي عبد الحكيم، ﺟ ٢، ص٦٥.
(١٦) المتواليات، ص٧٢.
(١٧) ألان روب جرييه، لقطات، ت. عبد الحميد إبراهيم، ص٦٥.
(١٨) سامية محرز، روايات عربية، قراءة مقارنة، ص٦٥.
(١٩) إ. ل. رانيلا، الماضي المشترك بين العرب والغرب، ص٢٥٨.
(٢٠) تجديد الفكر العربي، ص٢٩٢.
(٢١) المرجع السابق، ص٢٩٢.
(٢٢) الرأي الأردنية، ٢٢ / ٣ / ١٩٨٣م.
(٢٣) الأهرام، ٢٩ / ٥ / ١٩٨٨م.
(٢٤) عبد الرحمن مجيد الربيعي، الخروج من بيت الطاعة، ص١٠٥.
(٢٥) روايات عربية، ص١٧.
(٢٦) لعل ألف ليلة وليلة أكثر الكتابات الأدبية الشعبية ذيوعًا، منذ نشر أنطوان جالان Galland ترجمته لها عام ١٧٠٤م. كما تُرجِمت حي بن يقظان إلى الإنجليزية أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم ظهرت إحدى عشرة طبعة بلغات مختلفة بين عامي ١٦٧١، ١٧٨٣م.
(٢٧) الشيراوي، مقدمة الطبعة الفارسية.
(٢٨) هوم وشيكل، الطبعة الكاثوليكية عن النسخة الإنجليزية.
(٢٩) المصدر السابق.
(٣٠) المسعودي، مروج الذهب، ﺟ ٤، ص٩٠.
(٣١) العربي، مايو ١٩٨٤م.
(٣٢) حوار مع بورخيس، الثقافة الأجنبية،  ٢ /   ١٩٨٤م.
(٣٣) الوطن العربي، العدد ٢٧٧.
(٣٤) المرجع السابق.
(٣٥) آفاق عربية، مارس ١٩٨٥م.
(٣٦) الموسوعة الإسلامية، ﻃ ٢، ﺟ ١، ص٢٠٩-٢١٠.
(٣٧) الماضي المشترك بين العرب والغرب، ص٣٠٢.
(٣٨) جمال الدين بن الشيخ، ألف ليلة وليلة، أو القول الأسير، ت. محمد برادة، المجلس الأعلى للثقافة، ص٢٨.
(٣٩) المرجع السابق، ص٢٠.
(٤٠) مجلة الأديب، يناير ١٩٥٤م.
(٤١) تقنيات الفن القصصي بين الراوي والحاكي، ص٩٤.
(٤٢) رحلة في ألف ليلة وليلة، ص٨.
(٤٣) قاسم عبده قاسم، الرؤية الشعبية للحروب الصليبية، المأثورات الشعبية، أبريل ١٩٨٧م.
(٤٤) المرجع السابق.
(٤٥) الماضي المشترك بين العرب والغرب، ص٣١٥.
(٤٦) سندباد مصري، ص٢٦٩.
(٤٧) الأهرام، ٢٠ / ١٠ / ١٩٨٨م.
(٤٨) الرأي الأردنية، ٢٢ / ٣ / ١٩٨٢م.
(٤٩) الدوحة، نوفمبر١٩٨٥م.
(٥٠) تحت المصباح الأخضر، ص١٣١.
(٥١) ألف ليلة وليلة أو القول الأسير، ص٣٤.
(٥٢) نبيلة إبراهيم، المرأة ذات الألف وجه في ألف ليلة وليلة، أدب ونقد، مايو ١٩٦٦م.
(٥٣) عبد الفتاح كيليطو، العين والإبرة، ت. مصطفى النحال، ص٣٢.
(٥٤) تقنيات الفن القصصي بين الراوي والحاكي، ص٢١.
(٥٥) الإسراء: الآية ٨٨
(٥٦) العين والإبرة، ص٣١.
(٥٧) رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ت. جابر عصفور، ص٢٠٤.
(٥٨) العين والإبرة، ص١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤