القراءة

إن المرء هو حصيلة ما يقرؤه. وكما يقول كارلوس فوينتس: «أنت تتكوَّن من الشيء الذي تأكله، كما أنك المجلات المصورة التي تمعنت فيها وأنت طفل.»

كانت مكتبة أبي، التي تعلمت فيها القراءة — بالإضافة إلى الكتاب المدرسي — باعثًا لأن أقرأ كتب «الكبار» قبل أن أقرأ كتب «الأطفال». قرأت طه حسين والحكيم والجبرتي والأصفهاني والمقريزي والماوردي وأجاثا كريستي وألكسندر دوماس، قبل أن أقرأ كتب سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلاني، أقصد كتبهم التي صدرت للأطفال. أتاح لي زميلي في الفرنسية الابتدائية ممدوح الطوبجي، قراءة كل تلك الأعمال. قام بدور مكتبة الإعارة، فهو يعيرني رواية، أعيدها في اليوم التالي، وأحصل على رواية أخرى، وهكذا.

والحق أن مكتبة الطوبجي لم تقتصر على كتب الأطفال، فقد تعرفت فيها — للمرة الأولى — إلى صلاح جاهين. طالعني عالمه الإبداعي الجميل في قصائده الأولى. وما زلت أذكر — حتى الآن — ترديدي لأسطر القصيدة: القمح مش زي الدهب … القمح زي الفلاحين … عيدان نحيلة … جدرها مغروس في طين.

المؤكد أن القراءة صرفتني عن شواغل وهوايات كثيرة، استولت على كل وقتي، فانصرفت عما عداها. فتحت أمامي نوافذ وأبوابًا، وسلَّطت الضوء على فضاءات متسعة، امتدت آفاقها بتنوع القراءة وخصوبتها وجدواها، وتعبيرها عن الأنا والهو والوطن والعالم. أذكر وصف هنري ميلر لرامبو بأنه كان يقرأ وهو واقف، ويقرأ وهو في طريقه إلى العمل. حتى كرة القدم والجمباز وتنس الطاولة وغيرها من الألعاب التي أحببتها، ما لبثت أن انصرفت عنها لاعبًا، واكتفيت بالفرجة على مبارياتها إن أتيح لي ذلك.

وفي مطالع الستينيات، في الأيام الأولى لعملي بالصحافة، كنت أركب الترام أو الأوتوبيس إلى ميدان القلعة. أصعد في شارع المحجر. يطل — في أسفل — على أحواش المقابر، وفي امتداد النظر على أحياء القاهرة. أصل إلى دار المحفوظات، فأضغط على الجرس المثبت بالباب، يعلو الرنين في المكان بكامله. هذا زائر ربما يكون لصًّا، فاحذروا! أرقى السلالم إلى القاعة العلوية، فسيحة، في جوانبها كتب ومجلدات. أطلب ما يعنى لي قراءته. يجتذبني اسم الصحيفة، وقِدم تاريخ صدورها، فأطلبها. زادت تلك الفترة من حبي القديم للتراث. بدأت بقراءة ما كانت تضمُّه مكتبة أبي من كتب تراثية، ثم بدت لي صحف دار المحفوظات عالمًا ينتسب إلى العالم الذي كنت أحياه.

النسيان هو ما أعانيه في القراءة، أتبيَّن — في فقرة ما، قد تتضمنها الصفحات الأخيرة — أن هذا الكتاب قد سبق لي قراءته، وأقبل عليه كأني أقرؤه للمرة الأولى. ما يثبت في الذاكرة مما أقرؤه قليل (لا أتمتع بالذاكرة الحافظية التي كان يمتلكها العقاد وكامل الشناوي) ثباته في الذاكرة لأنه يهمني، أو لأنه عمَّق من فهمي لقضية ما.

أمضيت معظم حياتي في ثنايا الكتب. ثمة كتب أقرؤها فلا أذكر أني قرأتها إلا عندما أصل إلى معلومة ما — ربما في نهاية الكتاب — بما يذكِّرني أني قرأته من قبل. وثمة — في المقابل — كتب تظل في داخلي — الذهن والوجدان معًا — تناوشني، وأستعيد ما بها من شخصيات ومواقف وأحداث. القيمة الأهم عندي هي معايشة آلاف الشخصيات والأحداث والتواريخ والمعالم والأفكار. الوجود الإنساني منذ بداياته: عهود ما قبل التاريخ، أيام الإسلام الأولى، مؤامرات القصور، حكايات الحب العذري، اكتشافات المناطق المجهولة، نشأة الزراعة، عصر البخار، أعماق المحيطات والبحار وضفاف الأنهار، الأسواق العتيقة والقيساريات، لحظات التاريخ الحرجة، محاكم التفتيش، حضارات الفراعنة، عقود العرب في الأندلس، معاناة المقيدين في الأقبية والزنازين، شخصيات شكسبير، حكايات شهرزاد، رحلة الإسراء والمعراج، رسالة الغفران، الكوميديا الإلهية، إبداعات الواقعية الطبيعية، سير الملوك والقاصرة والأكاسرة وقطَّاع الطرق والجواري والزهاد وقادة الجيوش، وبني هلال والخليفة الزناتي والظاهر بيبرس وأبي الحسن الشاذلي والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي وكليوباترا وشجر الدر، غزوات الإسكندر، الفايكنج، الغزوات الصليبية، الثورة الفرنسية. الانقلابات العسكرية … إلخ.

ومع أنه قد أتيح لي قراءة الكثير من الكتب، فإن الكثير من الكتب لم يُتَح لي قراءتها. أوزع ساعات اليوم — بصرامة — بين القراءة والكتابة وأمور الحياة اليومية. وإن كان أغلب الوقت للقراءة، لكن مشروعي القرائي لم يتحقق على النحو الذي كنت أتطلع إليه. ما كنت أتصور أني سأقرؤه في يومٍ واحدٍ، ربما استغرقت قراءته أسبوعًا أو أكثر. وثمة كتب أعيد قراءتها مرة ثانية، وثالثة، وفي كل مرة يبين الكتاب عن جوانب لم أكن قد تنبَّهت إليها. وأحيانًا فإني أقرأ النص الإبداعي — في المرة الأولى — لمجرد المتعة، ثم أناقش — في المرة أو المرات التالية — ما يحمله النص من دلالات. في النص الواحد قابلية لبضع دلالات، وليس ثمة قراءة يمكن أن تستنفد أبدًا كل المعاني المطروحة فيه. ما يشغلني هو النص، لا شأن لي بحياة المؤلف ولا بموته، ولا بأن إزاحة المؤلف تؤدي إلى القراءة «التي هي في الأثر الأدبي قراءة استهلاكية تقيِّد القارئ بالمعنى الحرفي للنص»، ولا لتقريب القراءة من الكتابة بحيث يصبح القارئ كاتبًا. النص هو الكتابة التي أقرؤها، العالم الذي يلحُّ الكاتب في اجتذابي إليه، أو تنفيري منه.

أعترف إني أفضِّل أن أقتني الكتاب. أشتريه، أو أحصل عليه بالإهداء، ولا أستعيره، الكتاب الذي أبدأ في قراءته — إن كان يستحق القراءة بالفعل — أبدأ معه — في الوقت نفسه — علاقة صداقة. وقد يتحوَّل إلى صديق جميل، فأنا لا أتصور أني أستغني عن صداقته، لا أستطيع أن أستغني عنه! وحين أقرأ عملًا إبداعيًّا، فإن قراءتي له تختلط باستعادة ذكريات شخصية، وتخيُّل، وتأمُّل. أحب الكتاب الذي يحتفظ برونقه. يضايقني اتساخ الصفحات أو تمزقها. أرمقها — في لحظات القراءة — بنظرة مستاءة، متكررة. والحق أني أحب الكتب بعامة، أحبها مصفوفة في داخل الأرفف، أو على طاولة، أو في واجهات المكتبات، أو عند باعة الصحف. تجتذبني فأتأمَّل العناوين، وربما قلَّبت الصفحات بسرعة قبل أن يراجعني البائع فيما أفعل، أو يبدي تذمُّره. أجد نفسي بين الكتب كالمتصوف في الحضرة. تجتذبني حتى الرائحة. تمنيت أن أعمل في مكتبة، أقضي الوقت في مهنة تتصل بالقراءة، أقلب الكتب بيدي، أبيعها، أشتريها، أقرؤها.

إن رواية جيدة قد تصرفني عن أشياء كثيرة. لا أتابع المناقشات، ولا أشاهد التليفزيون، ولا أتناول الطعام في موعده، ولا أذهب إلى النوم. أسلِّم نفسي لسحر القراءة الجميل. القلم الرصاص في يدي، أخط به تحت التعبيرات التي تستلفت نظري، فهي تحتاج إلى التأمل، أو إلى المناقشة. لا أميل إلى الحرف الكبير، لأنه قد يصلح للكتب المدرسية، ولا أميل إلى الحرف الصغير لأنه يجهد العين. الحرف المتوسط لا يزيد صفحات الكتاب أكثر مما ينبغي، ويريح العين في القراءة. وأفضِّل أن تكون فقرات النص متصلة، منفصلة، بمعنى أن يظل السياق متصلًا، تقطعه — لتسهيل القراءة — فواصل، كالعناوين الفرعية، أو الموتيفات الصغيرة.

ولا شك أن الكلمات التي تُكتَب للقارئ، تختلف عن الكلمات التي تطالع مُشاهِد المسرح، وعن الكلمات التي تخاطِب الأذن المستمِعة. والحق إني لا أحسن الإصغاء، ولا أحسن الاستماع عمومًا. أهب سمعي لمحدثي لحظات، ثم أطير إلى جزر بعيدة وقريبة، تعزلني عن محدثي وعن كل ما حولي. أنسى مجرد وجوده. أكتفي بهزة من رأسي بما يعني المتابعة. المصيبة لو أنه قطع حديثه وسألني في أجزاء مما قال. يعروني ارتباك، وأغمغم بما لا يعبِّر عن معنى محدد. حتى الإبداعات التي أستمع إليها، أغمض عيني، وأحاول التركيز حتى لا أشرد، فأفقد القدرة على المتابعة.

النص — كما نعرف — ما هو مكتوب. ويقول والتر سلاف: «إن الأعمال الأدبية تُكتَب لكي تُقرَأ.» ومع أن مصطفى ناصف يشدد على أن كل نص مقدس يُراعى فيه قراءة الجهر لا قراءة العين، وأن إهدار القراءة الجهرية إهدار لمعنى الرسالة أو البلاغ أو البطولة أو الخطاب الحي البريء، فإن طريقتي الوحيدة في القراءة هي الصمت. القراءة سرًّا. لا أتصور أن القراءة بصوتٍ مرتفعٍ تساعد على التركيز، ومن ثَمَّ على الاستيعاب. (ثمة رأي يقول: من المهم أن تسرع في القراءة لكي تتفادى الملل.) قيل إن «القراءة في الصمت الذي يرافقها ليست إلا امتدادًا للعمل الأدبي نفسه.» وعندما أستغرق في القراءة، فإني أمارس فعل الاستغراق، لا أقرأ لمجرد أن أتعرَّف إلى تفصيلات الحدث، ولا حتى إلى الملامح الظاهرة أو النفسية للشخصيات، إنما أحاول التعرُّف إلى جماليات العمل الإبداعي: اللغة، الفنية، السرد، الحوار، الدلالة … كل ما يتصل ببنية العمل الإبداعي. وبالتحديد، فإني أبحث في العمل الإبداعي — ربما لأني أحاول الإبداع — عن كل ما يهبه — أو لا يهبه — من خصوصية. وبالطبع، فإن المروي عليه، أو المخاطَب، يختلف عن القارئ. المخاطَب جزء في العملية الإبداعية، أما القارئ فهو جزء في عملية التلقي. القارئ متابِع للحدث الذي يشارك فيه الراوي والمروي عليه. القارئ مخاطَب غير مشارك، بمعنى أنه لا يسهم في صياغة الأحداث ولا تنميتها. يتخيل، ويناقش، ويوافق، ويرفض، وإن تحدَّد دوره في متابعة ما يقوله النص. أما المخاطَب في داخل العمل الإبداعي فهو قد يكون مشارِكًا أو غير مشارِك، لكنه يتصل على نحو ما بصميم العمل. المخاطَب المشارِك يملك الفعل، مثل شهريار الذي لم يلغِ إنصاته لحكايات شهرزاد توقُّع إنهائه للعبة الحكي. كانت شهرزاد راوية، وكان شهريار مَرويًا عليه، أو مخاطَبًا مشارِكًا. أما القارئ فهو يتابِع ما يدور بين الراوي والمَروي عليه. مشاركته تتحدد في المتابعة، وانعكاس الأحداث على وجدانه. قد يكون المَروي عليه مشارِكًا، فالراوي يتحدث عن مواقف شاركا — الراوي والمروي عليه — في صُنْعها، أو في تلقيها. وقد يكون المخاطَب، أو المروي عليه، غير مسمَّى. لا يعرف القارئ اسمه، ولا مهنته، بل ولا دوره في أحداث العمل الإبداعي. هو أشبه بالموضع الذي يعيد إلى القارئ صدى الحدث. إنها قراءة — كما يصفها رولان بارت — «لا تترك شيئًا يمرُّ، تزن النص وتتشبَّث به.» إن القراءة — بما تحمله من معلومات وخيال وآراء — تحرِّك مخزون الذاكرة، تستدعي ما كان غائبًا، أو مفتقَدًا. وكما يقول أندريه موروا، فإن القراءة فن يستطيع المرء عن طريقه أن يلتقي من جديدٍ بالحياة نفسها لكي يتفهمها على غير حقيقتها عبر الكتاب نفسه.

•••

الإنسان — في تقدير أفلاطون — يحوِّل ما يقرأ إلى صورة منطوقة؛ الكلام هو الصورة الأصلية للغة. ويقول جمال الدين بن الشيخ إن القراءة لا تنحرف بالحكاية (القصة) لكنها تتولَّد فيها. إنها ترتكز على اختيار دلالة معينة، توجِّه مجموع النص في اتجاه منظوره الخاص، وفي اتجاهه فقط. إن القارئ هو الذي ينتج النص من خلال فعل القراءة، يُسقِط عليه وعيه وفهمه وخبراته وثقافته، وربما حالته النفسية في لحظات القراءة. ومن جماع ذلك كله ينتج أبعاد النص الشكلية والمضمونية، ويسقط دلالته أو دلالاته. إن قراءة أي نص هي — على نحو ما — قراءة ثقافة القارئ وفهمه ووعيه وخبراته. طبيعي أن تختلف دلالة العمل الإبداعي باختلاف قرَّائه، باختلاف ثقافتهم ومستواهم التعليمي وأمزجتهم وحالتهم النفسية وانتمائهم الطبقي. قد أجد في القصة دلالة ما، تختلف عن الدلالة التي تتحقق في لحظة أخرى مغايرة، بل إن النص قد لا يتكيف مع كل قارئ يدخل في اتصال معه. القارئ الذي يطرح دلالة يتصورها للعمل، يختلف في ثقافته ووعيه وحسِّه الفني والجمالي عن القارئ الذي يكتفي بالبحث عن الدلالة في ثنايا العمل، أو في نهايته. قد يفاجأ القارئ غير المتخصص، أو الذي ألِف قراءة الجريدة اليومية، يصدُّه عن المتابعة أو المواصلة. القارئ الحقيقي هو القارئ المبدع. إنه يقرأ بجماع الحواس، وليس بالعينين وحدهما. يقرأ بعينيه، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفي وتأملاته. يحيا في داخل النص، ولا يكتفي بالحياة على هامشه. القراءة التي تعي خصائص العمل الإبداعي، تختلف — بالتأكيد — عن القراءة التي لا تدرك تلك الخصائص، فهي تقرأ النص الأدبي بالكيفية نفسها التي تقرأ بها التحقيقات الصحفية، أو أخبار الحوادث.

وبالنسبة لي، فإن قراءتي لنصٍّ ما، ترافقها — بالضرورة — قراءات سابقة في نصوص أخرى. تنقُّل غير محسوب بين تجارب وخبرات ورؤى، قد لا تتصل بالموضوع الذي يتناوله النص، لكنها تستدعي نصوصًا غائبة، تختلط وتتقاطع وتتشابك، فيغيب بعضها حالًا، ويناوشني بعضها لحظات، وربما استقر بعضها في الذاكرة، أفيد منه — فيما بعد — في عمل أكتبه. وفي تقديري أن القارئ المبدع هو قارئ إيجابي. إنه يقرأ بعينيه، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفي وتأملاته. ويصف جورج أورويل محاولاته النقدية بأنها مجرد هواية. ويضيف — بنص كلماته — «القراءة هي النشاط الطبيعي لأي إنسان مهتم بالعالم الذي يحيا فيه. وحين يمارس المرء القراءة، فلا بد له من أن يفضِّل بعض الكتب على غيرها، وأن يكره بعض الكتب أكثر من غيرها. وبديهي — في هذه الحالة — أن يكتب وجهة نظره في تلك القراءات.»

•••

النص لا يتحقق إلا إذا وجد من يقرؤه. ثمة نصوص لا تهب نفسها من القراءة الأولى. تظل مغلقة، لا تسلم مفاتيحها إلا بعد تعدد القراءات. وثمة كتب أبذل وقتًا طويلًا في قراءتها، ثم أتبيَّن — وأنا أطوي الكتاب — أني كنت كالذي دخل حجرة خالية، تضم جدرانها الفراغ، وأني لم أفِد منها بشيء، لا في المعلومة، ولا في إثارة الذهن أو الوجدان. مجرد سطور توالت، فلم تخلف — في النهاية — شيئًا. لا تهبني الشعور بأني قرأتها. وربما تجتذبني كلمات لكاتب لم أقرأ له من قبل. تستفزني بالكثير من الأسئلة والأجوبة والفكر المتوهج والإبداع الجميل. أتذكر القول: «النص الأدبي يساعد قرَّاءه على تجاوز حدود موقفهم في الحياة الحقيقية.» ما زلت أحيا تلك اللحظات التي تعرفت إليها — للمرة الأولى — إلى دنيا نجيب محفوظ. كيف بدا لي أحمد عاكف في خان الخليلي بجسده المكدود وصلعته التي تفصد العرق منها بحرارة شمس الظهيرة، وتبدَّل طريقه من السكاكيني إلى حي الحسين، لتبدأ قصة حبِّه الاستثناء للصغيرة نوال.

من المهم أن يجاري القارئ خيال المؤلف. يتخيل ملامح الشخصيات والأحداث. وكما يقول شتيرن فإن النص الأدبي أشبه بالميدان الذي يشترك فيه المؤلف والقارئ في لعبة التخيُّل. تغيظني الإبداعات التي تبيِّن عن ملامحها منذ الصفحات الأولى. النص الذي يبين عن كل أبعاده، ربما أهمل القارئ استكمال قراءته، لشعوره بأنه قد تحوَّل في عملية التلقي إلى عنصر سلبي وليس عنصرًا مشارِكًا. الإسراف في وضوح النص يساوي الإسراف في غموضه، لأنه — في الحالين — قد يصرف القارئ عن لعبة التواصل والمتابعة. النص والقارئ شريكان في عملية تواصل، هي عملية الإبداع والتلقي التي تقوم على مشاركة المبدع بالكلمات، في حين يشارك القارئ باستنباط المعنى أو الدلالة. لا أميل إلى التلقي السلبي من قارئ العمل. ما يهمني أن يتحوَّل القارئ إلى صديق يتحاور مع ما أكتب، ولا يكتفي بمجرد التلقي السلبي. وكما يقول ديفيد بليتش فإن القارئ يحوِّل — في أثناء عملية القراءة — إدراكه الحسي للكلمات إلى سياق أو نظام تخيُّلي ضمن نظام ذاتيته الخاصة. إن تراثنا القصصي — على المستويين العربي والعالمي — له جذوره القديمة، وامتداداته، وتواصُله. لذلك فأنا أرفض الأعمال التي لا تحترم هذا التراث، ولا تحترم ذكاء القارئ. ما كان يطالع قارئ بدايات القرن العشرين يجب أن يختلف — بالتأكيد — عما يطالعه قارئ بدايات القرن الحادي والعشرين؛ الفن إضمار.

كاميلو ثيلا يرى أن العمل الأدبي يُكتَب من جديد في كل قراءة له. من الصعب — إن لم يكن من المستحيل، في تقديري — أن تتطابق قراءتان لكتابٍ واحد. ولعلِّي لا أتعاون في إعادة الإبداع — كما يقول اللاتيني أندريس أمورس — لكنني أتخيَّله، أتخيَّل الشخصيات والأحداث، توصُّلًا إلى المعنى والدلالة. القصة المنفلوطية التي لا تكاد تترك للقارئ شيئًا يتخيله، القصة التي يحرص الكاتب على تمامها. لم تَعُد مما يتقبَّله القارئ الحالي. إنه يميل إلى القراءة الإبداعية، القراءة التي تتخيل. القراءة تساوي النص الإبداعي + خيال القارئ. العلاقة بين المبدع والمتلقي طرفاها نص إبداعي من ناحية المبدع، ومحاولة للاكتشاف والتعرف واستكناه الدلالات من ناحية المتلقي.

أوافق على القول إنه إذا كان الأدب هو ما يحدث في أثناء القراءة، فإن قيمته تعتمد على قيمة عملية القراءة. وحين أبدأ في قراءة نصٍّ ما، فأنا لا أمارس عملية القراءة وأنا خالي الذهن من المخزون المعرفي، ومن وجهة النظر، ومن الحس الجمالي، ومن الذكريات الشخصية التي ربما استدعاها الذهن في أثناء عملية القراءة. قراءة عمل إبداعي ما، لا تستطيع أن تفصله عن قراءات أعمال إبداعية أخرى، سبقته، واتفقت، أو اختلفت، معه، من حيث التجربة التي تعبِّر عنها، أو التقنية، أو الدلالة التي تستهدفها. حتى ما قد يبدو أنه فراغات في السرد القصصي أو الروائي، على القارئ أن يملأه بخياله وثقافته وخبراته وتجاربه ورؤيته لطبيعة ما ينبغي أن تمضي إليه الأحداث.

أحببت وصف خوليو كورتاثر لقارئ إبداعه بأنه رفيق سفر. القارئ هنا في لحظة مشاركة، طرفاها هما الكاتب والقارئ. أرفض زعم البعض أن القارئ لا يعنيه، والناقد بالتالي. أتذكر قول ميشيل بوتور: «أنا أكتب لكي أُقرَأ، وما قصدي من الكلمات التي أكتبها إلا أن يقع عليها النظر، حتى لو كان نظري.» الثقة هي العلاقة الضرورية بين الكاتب والقارئ. وإذا لم يتصل بينهما جسر الثقة، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على نظرة القارئ إلى معطيات الكاتب، وأغلب الظن أنه سيرفضها. أذكِّرك بشتاينبك الذي أعلن — يومًا — في استوكهولم أن الكاتب الذي لا يؤمن إيمانًا حازمًا بقدرة الإنسان على الكمال غير جدير بعضوية الأدب وتفانيه. ثم أعلن — فيما بعد — تأييده للعدوان الأمريكي على فيتنام، فزال احترامه من نفوس الملايين الذين قرءوا له «عناقيد الغضب» و«اللؤلؤة» و«شارع السردين المعلب»، وغيرها.

وبصرف النظر عن اتفاق المبدع والمتلقي، أو اختلافهما، عن إعجاب القارئ بالعمل الذي قرأه أو رفضه له، فلعلِّي أذكِّر المبدع بقول هالي بيرنت: «قد تعيش حياة جيدة، حتى لو لم تصل كتبك لمعدل أفضل المبيعات، وحتى لو لم يرَ زملاؤك النقد الجيد الذي كُتِب عنك، بل النقد الذي يسيء إليك. وحتى لو سألك أعز أصدقائك أو زوجتك: لماذا لا تكتب الروائع في ساعة أو أكثر قليلًا، بدلًا من أن تمكث شهرًا أو سنة في كتابة ما تكتبه. ضع قناعًا صلبًا على وجهك في مواجهة الأصدقاء والأقارب المنتقدين، خذ التجربة كما تأتي، واستمر في عملك» (ت. أحمد عمر هاشم).

•••

النسيان هو أخطر ما أعانيه في عملية القراءة. أقرأ الكتاب، فأتصور أنه لم يسبق لي قراءته من قبل. أثبِّت ملاحظات على الهوامش. أتفق وأختلف، ثم أتبيَّن — قبل أن أتمَّ قراءة الكتاب — من خلال سطر أو بضعة أسطر — أنه قد سبق لي قراءته. لذلك فإني أحاول التغلب على مشكلة النسيان بمعاودة القراءة. أتحقق من الأسماء، والأرقام، ومواقع الأحداث، والصلة بين كل حدث وآخر. العامل الأهم في عبقرية العقاد — في تقديري — ذاكرته الحافظية. العديد من كُتُبه قراءات: «الله»، «في بيتي»، «مراجعات في الآداب والفنون»، «إبليس»، «ساعات بين الكتب»، «فلسفة الثورة في الميزان». هو لا يقدم قائمة بالمصادر والمراجع، لأنه قرأ جيدًا، وثبَّت — بتشديد الباء — ما قرأه في ذهنه، تحوَّل إلى رفٍّ في الذاكرة يستخرجه في توقيته المحدد.

قد يحمل المبدع بعض التأثيرات من تنوُّع قراءاته، لكنه لا بد أن يذيب تلك القراءات في بوتقته، يصهرها في ذاتيته الفنية، فتعبِّر عنها.

•••

الفن هو عالمي الذي أحبه. ولأني — منذ سنوات — أحيا في عزلة اجتماعية، لا أغادر البيت — كل يوم — إلا بضع ساعات، ثم أعود لأخلو إلى كتبي وأوراقي وقلمي. ولأن الكتابة الإبداعية مما يصعب ممارسته طيلة يوم العمل، فإني أحاول الإفادة من قراءاتي بملاحظات. «نوع من القراءة الإيجابية» على حد تعبير صديقي يوسف الشاروني. الفنان — في نصيحة جورج مور — يجب أن يمارس الكتابة كل يوم. حين يواتيه الإلهام، وحين يبتعد عنه، عليه ألا ينتظر الإلهام، بل يستدعيه، ويلح عليه. وهذا ما أفعله حين أسرف في القراءة، لا أقرأ في الفن وحده، وإنما أقرأ في كل ما تصادفه يداي. حتى العلوم البحتة والرياضيات، ربما أجد — في مواضع منها — ما يستفز مَلَكة الإبداع في داخلي.

العمل الإبداعي يصنع علاقة ما بين المبدع والمتلقي. وكما تقول هالي بيرنت، فإن المبدع لا يكتب لنفسه مع أن الكتابة تحقق له إشباعًا ذاتيًّا يصعب التهوين منه، ولا تكتمل القصة إلا إذا خاطبت — على نحو ما — عقل المتلقي. يرى ولفجانج إيزر Wollfgang Iser أن تجربة القارئ في القراءة هي مركز العملية الأدبية، فالقارئ يأخذ النص إلى وعيه، يحوِّله إلى تجربة خاصة به، فهو يوفِّق بين التناقضات في وجهات النظر التي تظهر في النص، ويشارك في ذلك مخزون التجربة الذي يملكه القارئ. وكما يقول إيزر فإن القراءة تمنحنا الفرصة لصياغة ما ليس مصوغًا (ت. جابر عصفور).

أذكر — في قراءاتي الباكرة — أني لم أكن أصبر على توالي أحداث الكثير من الروايات، بل كنت أقفز إلى الصفحة الأخيرة لأعرف ماذا انتهت إليه الأحداث. هل كان ذلك لتعثُّري في قراءات البداية، أو لتشويقٍ في الرواية، أو لمللٍ أغراني بالتعرف إلى النهاية، خلاصًا من بطء الأحداث وتلكُّئها؟ لكنني بعد أوافق روجر ب. هينكلي على أن الروايات التي لا تمدُّنا بالشعور بالحياة، ولا نتجاوب معها بشحذ مَلَكاتنا، قد تستحق بعض البحث، لكنها — بالتأكيد — لا تستحق طبعة ثانية، وإن كنت أختلف مع هينكلي في أن تحليل الرواية بإعادة تقديم أحداثها بعبارات الناقد الخاصة، عملٌ ليس له أدنى قيمة. فإعادة رواية الأحداث — بذكاء وتفهُّم — وسيلة لحمل أفكار الناقد، وتحليله للعمل الإبداعي. ولعلَّنا نذكر وصف بيرسي لوبوك للقارئ الجيد بأنه «فنان». ولا يخلو من دلالة قول سارتر: «لا وجود للفن إلا من أجل الغير، وعن طريق الغير.»

إن بداية النقد — والقول لبيرسي لوبوك — هي القراءة السليمة، أو بعبارة أخرى: الدخول إلى الكتاب قدر المستطاع. إن التقاط الملاحظات، وتسجيلها، يخلق نوعًا من الحوار المؤكد بين الكاتب وقارئه. لذلك فإني أوافق أنور المعداوي على أن «النقد يعتمد على الذوق المرهف قبل أن يعتمد على أداة أخرى من أدوات الناقد.»

وإذا كان بوب يطالب القارئ بأن ينظر إلى ما يريد الكاتب أن يعبِّر عنه، لا يطلب المزيد، فإن أحدًا لا يبلغ بالتعبير شيئًا لم يقصد الوصول إليه، فإني أوافق على أن يكون مشاركًا بالقراءة، على ألا تبلغ هذه المشاركة — بالطبع — حدَّ تدخل المبدع في النص ليقدم أحكامًا شخصية من عندياته، ويتباهى بأن النص هو من عندياته، وعلى القارئ أن يتابع أو ينصرف عن القراءة، مما يسيء إلى العملية الإبداعية ويحيلها إلى تظرف مرفوض، كما فعل طه حسين في «المعذبون في الأرض». كما يجب ألا تبلغ حد إلقاء المبدع للأسئلة على المتلقي مثلما فعل ترولوب حين اتجه إلى القارئ في نهاية رواية له: والآن أيها القارئ … هل نجعل القسيس يتزوج الآنسة جونز، أو ترفض أن تتزوجه؟

أما الملاحظات التي أسجلها في هيئة دراسات، فمن الصعب أن أسميها كذلك، ولا هي ترقى إلى مستوى النقد بما يجب أن تحرص عليه من علمية أكاديمية، فإن لقيت قبولًا لدى القارئ، اعتبرت ذلك من قبيل المصادفة الحسنة، ليس إلا.

•••

من ملاحظاتي القرائية، أن العديد من الأدباء يكتبون في كشكول أو كراسة ذات أسطر، لا يبدِّلون ما يكتبونه، بل ولا يعودون إليه (محمود البدوي وعبد الحميد السحار، مثلًا). رحلة تمضي إلى الأمام، لا يشغلها التلفُّت. وبالنسبة لي، فإن عملية الكتابة الإبداعية قد تستغرق وقتًا قصيرًا أو طويلًا، معايشة وتأملًا واختمارًا واحتشادًا واستعدادًا، ثم تفرض لحظة الكتابة نفسها. الزمن الفعلي لعملية الكتابة يستغرق ما بين الساعتين والساعات الثلاث. تتصل منذ الحرف الأول، في الكلمة الأولى، في الجملة الأولى، إلى الحرف الأخير في القصة، أو الفصل من الرواية. ثم أعيد قراءة ما كتبت. أنا أكتب العمل الإبداعي، وأنا أول من يقرؤه، وهي قراءة نقدية وليست للمتعة. متعتى — إن كان التعبير دقيقًا — في عملية الكتابة. القراءة عندي جزء متمِّم للعملية الإبداعية. إنها تلي عملية الكتابة. يخلي المبدع موضعه للناقد في داخلي، يطيل التأمل إلى العمل في مجمله، وفي اللغة والأسلوب والتكنيك. حتى الجملة والكلمة والحرف، أتأملها، وأجري فيها بالحذف والإضافة حتى أطمئن إلى أنه بوسعي أن أدفع بها إلى المطبعة. عمومًا، فإن الذهن هو جسر التعامل مع النص الإبداعي. إنه يشير بما ينبغي أن يظل في موضعه، وما ينبغي أن يُحذَف، وينصح بالإضافة والحذف حتى يضع القلم في النهاية، فيدفع — من ثَمَّ — بعمله الإبداعي إلى المطبعة. ربما أعدت قراءة بعض الفقرات حتى أحفظها، وربما حذفتها، أو حذفت منها، أو أضفت إليها. وقد أبدِّل حرفًا أو كلمة أو عبارة، مثل وضع الرسام للمسات الأخيرة بالريشة، في لوحة بعد أن يتمَّها. باختصارٍ، فإني أصبح القارئ المثالي لما كتبت، وإن كنت أوافق على رأي ميشيل بوتور: «الروائي هو قارئ نفسه، لكنه قارئ غير كافٍ، يتألم من عدم كفايته، ويرغب كثيرًا في العثور على قارئ آخر يكمله، حتى لو كان قارئًا مجهولًا.»

ولعل جزءًا من حرصي على أن أنقل ما أكتبه على الكمبيوتر، مبعثه الإفادة من علامات الترقيم: الفاصلة، النقطة، نقطتي الكلام، الشرطة، القوس، علامة الاستفهام، علامة التعجب … أحرص فأضع كل علامة في موضعها. أثق أن ذلك ما تتطلَّبه فنية القصة.

وتختلف أبناط الطباعة في الكمبيوتر بما يعينني — بصورة مؤكدة — في فنية القصة: الحجم الأصغر، أو الأكبر، الفراغات، إمالة الحروف (أذكِّرك بروايتي «زمان الوصل»)، اللون الأسود … ذلك كله لم يكن بوسعي الإفادة منه في فنية القصة أو الرواية، لولا الكمبيوتر … صنعته في «الأسوار» وفي «النظر إلى أسفل» و«من أوراق أبي الطيب المتنبي» و«رباعية بحري»، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة.

مراجعة ما أكتب مهمة لا تنتهي، ما دام في موضعه على الكمبيوتر. أراجعه، فأضيف إليه، وأحذف منه. مهمة — كما قلت — لا تنتهي إلا بعد أن أنقل المادة المكتوبة على الطابعة. خطوة نهائية قبل أن تدور بها المطبعة. لا أعود إلى العمل المطبوع ثانية، ولو من قبيل مراجعة ما فات.

(١٩٩٣م بإضافات)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤