ملاحظات في فن الرواية

«العمل الفني شأنه شأن العالم، شكل حي، كائن، لا حاجة إلى تبريره.»

ألان روب جرييه

إذا كان الإسباني خوان أنطونيو دي ثونتو نيغي يصف بالبؤس من يبدأ روايته دون أن يجهل كيف يتمُّها، فلعلِّي أعترف أني ذلك البائس. مدخل الرواية عندي يبدأ خطوطًا عريضة، اسكتشات، أجسادًا بلا ملامح ولا تفاصيل، ثم تبين الرواية عن ملامحها وتفصيلاتها في أثناء عملية الكتابة. لحظات تخلق فكرة العمل الإبداعي، مناوشتها لي، توضح الملامح والقسمات، واختفاءها، لتحل ملامح وقسمات أخرى، تحاول أن تأخذ تصورًا أدبيًّا، ولو في صورة أولية تبدأ بها عملية الكتابة. وقد تتغير الصورة — في أثناء الكتابة — تمامًا. ولعلِّي أشير إلى قول فورستر، إن الروائي — بدلًا من أن يقف خارج عمله ليسيطر عليه — يلقي بنفسه فيه، ليحمله إلى هدف لم يكن يتنبأ به.

الرواية — في تقديري — مشروع إبداعي، تتحدد ملامحه وقسماته أثناء الكتابة. أرفض التصور المعماري للعمل الإبداعي على نحو يطلب النهاية وهو في مرحلة البداية، ولا يترك النهاية تغيب عن أفق نظراته. وكما تقول إيزابيل الليندي: «لست أنا التي أحدد الموضوع، وإنما الموضوع هو الذي يختارني، ويتلخص عملي ببساطة في تكريس وقتٍ كاف وعزلة وانضباط لكي أكتب وأحسب.» الكاتب يعرف قدرًا كبيرًا عن قصته مسبقًا، فقد أنضجها في ذهنه بعناية، وفي الوقت نفسه لا يعرف — بشكلٍ مطلقٍ — ما يحدث فيها بالتفصيل. والسبب في ذلك هو أنه متى بدأ كتابة قصته، فإن أفكارًا جديدة تأتي في أثناء انهماكه في الكتابة. ويروي كاميليو خوسيه ثيلا تجربته: «تأتيني الرواية تلقائيًّا، إنها ليست بالشيء الذي أتهيَّأ له بتأنٍّ. عندما أظفر برواية داخلي — يمكن أن تظل داخلي عدة سنوات — فإنني لا أفكر بكيفية تطويري لها. عند نقطة ما تبدأ بالتشكل من تلقائها، وبخطوة ثابتة، بعد فترة ثمانية إلى عشرة شهور. أنا لا أومن — الكلام لثيلا — بكتابة سيناريوهات تمهيدية. إذا كانت الشخصيات حية، فما عليك إلَّا أن تفتح لها الباب وانظر ماذا تفعل؛ إن قصة فعل الشخصيات هي الرواية.»

وبالنسبة لي فثمة ومضات، أو صور متكاملة، تلحُّ، أتشاغل عنها حتى يصبح الإلحاح سيطرة كاملة، فأجلس لكتابتها، لا أنهي الجلسة حتى أتمَّها. لا يشغلني أن يكون النص مفتوحًا أو مغلقًا، ما يشغلني أن تقلع الطائرة في موعدها المناسب، أن أضع نقطة الختام، في اللحظة التي يجب أن توضع فيها، فلا اختصار مخلٌّ، ولا ترهلات. ربما أهملت سذاجة بعض المواضع أو ركاكتها، وربما جاوزت عصيان السرد في مواضع أخرى، لكنني أعود إلى العمل جميعًا بين فترة وأخرى، أضيف وأحذف وأعدِّل وأبدِّل، حتى تكتمل صورته في عيني الناقد الذي هو أنا. وتتجدد صورة المشروع الإبداعي، بل وتأخذ صورًا متعددة، ودلالات متعددة بالتالي، أثناء القراءة. وكما يقول ريموند فيدرمان Raymond Federman: فإن الكتابة تعني إنتاج معنى لم يكن موجودًا من قبل. إنها تتخلق وتنمو، دون أن تخضع لمعانٍ مسبقة. لا تتمثَّل الواقع ولا تحاكيه، ولا تحاول حتى إعادة خلق الواقع. إن لها واقعها الخاص بها، مكانها الروائي الذي قد يشتمل على إمكانية حقيقية، وأخرى غير حقيقية (قرية جارثيا ماركيث «ماكوندو»، على سبيل المثال)، وقد تلجأ إلى زمن حقيقي، لكن زمن الرواية يظل هو زمن الرواية. إن مفهوم الزمن الروائي يختلف بالتأكيد عن المفهوم المنطقي للزمن، إنه زمن الرواية، الزمن السميولوجي الذي يختلف عن الزمن الواقعي الذي يحيا فيه، وبه.

من هنا، فإني أرفض إخضاع الزمكانية الروائية للتذكر. أرفض: وتذكر فلانًا، أو تذكر المكان الفلاني … فالبديهي أن الشخصيات والأمكنة والأحداث تنثال إلى الذهن دون ترتيب، ربما انعكاسًا لمواقف عابرة، أو كلمات يصلها الذهن بما سبق. لا يفصل الكاتب بين الآني والسابق، إنما تتداخل اللحظات دون حدود فاصلة. ثمة عشرات، وربما مئات، وربما آلاف التعبيرات والأمثال والمواقف والمجازات مودعة في حافظة الذاكرة، وهي تغادر مواضعها في أثناء عملية الإبداع؛ تظهر على الورق في لحظة قد تفاجئ المبدع نفسه.

وعلى الرغم من عدم اجتماعيتي المعلنة، فإني حريص على أن أتلمس التجربة وألامسها، بدءًا بالقراءة، وانتهاء بالمعايشة، أو الممارسة الفعلية، مرورًا بالسفر، والتعرُّف إلى الخبرات، والارتماء في المغامرة ما أمكن، وبتعبيرٍ آخر، أن أحيا الحياة، أخوض بحرها، ولا أكتفي بالوقوف على الشاطئ.

قد ينشأ الحدث الروائي من مجرد لحظات عابرة في حياة الفنان. كتب جارثيا ماركيث قصته «قيلولة الثلاثاء» — التي يعتبِرها أفضل قصصه القصيرة — بعد أن شاهد سيدة وطفلها يرتديان الثياب السوداء، ويستظلان بمظلة من شمس الصيف الحارقة في طريق صحراوي. أما رواية «الورقة الساقطة» فقد تخلقت من لحظة عجوز يحمل حفيده إلى القبر، وأما رائعته «الكولونيل لا يجد من يراسله» فقد جاءت بتأثير رؤيته رجلًا يعاني انتظار قارب في أحد الأسواق. كذلك فقد استمدَّ فوكنر شخصيته الرئيسة في رائعته «الصخب والعنف» من فتاة، كان يقود سيارته، حين رآها تلهو بأرجوحة أمام بيتها في الجنوب الأمريكي (أذكِّرك بقول تولستوي: إن الكاتب الجيد هو الذي يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر رآه في الطريق). أما شخصية إمام مدني السمرة في روايتي «مواسم للحنين» فإنها ثمرة رؤية متكررة لذلك الرجل الذي كان يسير في شوارع الإسكندرية، وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر.

•••

عقل الشاعر يدأب أثناء عملية الإبداع — في رأي أ. إم. فورستر — على دمج تجارب منفصلة ومتفاوتة، وظني أن ذلك أيضًا دأب الروائي والقاص والمسرحي، المبدع بعامة. لقد جاءت كل تجربة إبداعية لي مختلفة عن التجارب السابقة، تتخلق الشخصيات والأحداث والمصائر في أثناء العملية الإبداعية، وتتخلق الصورة الفنية كذلك. حين أبدأ في كتابة قصة أو رواية، فإن الصورة هي التي تفرض الإطار، أو — بالتعبير النقدي — يفرض المضمون الشكل. لا أتخذ قرارًا مسبقًا بالتكنيك الذي تختاره القصة أو الرواية، هي التي تختار! السرد العادي، الاتجاه إلى المخاطب المشارك، الاتجاه إلى المخاطب المتلقي غير المشارك، الراوي العليم بكل شيء، طريقة الاسترجاع (الفلاش باك)، أسلوب التقطيع، تصاعد الأحداث هارمونيًّا، طريقة التبقيع، القص واللصق (الكولاج) … إلخ.

الراوي — في اللون الذي كتبت به روايتي «النظر إلى أسفل» — لا يتجه إلى القارئ وحده، لكنه قد يتجه إلى متلقٍّ آخر في داخل العمل، متلقٍّ مشارك، أو غير مشارك، في الحدث القصصي، لا يراه القارئ وإن تخيَّله. يتجه إليه الراوي بما يقول، فهو قارئ مفترض، متلقٍّ اخترعه الكاتب وتصوره القارئ. المتلقي الحقيقي للعمل، وإن اختلف عنه المتلقي داخل العمل في أنه جزء من العمل بالمشاركة، أو أنه يتحدد في إطار السلبية، لا يسهم في تجسيد الحدث القصصي ولا نموه، ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل. لا أحد على مستوى النقد المتخصص، أو القراءة العادية تعرَّف إلى ذلك المتلقي: هل هو صديق لشاكر المغربي؟ هل هو وكيل النيابة؟ هل هو محقق الشرطة؟ هل هو شاكر المغربي نفسه؟ صعب القول بتعريفٍ محددٍ، لأن المتلقي الذي تتجه إليه الرواية — في داخلها — غير مشارك، فهو غير موجود فعلًا، وتغيب من ثَمَّ ملامحه الجسمية والنفسية.

ولأني من غلاة المؤمنين بوحدة الفنون، فقد شغلت على مستوى التجريب — منذ روايتي الأولى الأسوار — بالتجريب الشكلي، بالتكنيك، مثل التقطيع والفلاش باك والمونولوج الداخلي وتيار الوعي وأسلوب التحقيق، إلى غير ذلك من الخصائص الشكلية. ولعلِّي أسرف في التجريب أحيانًا، فأتوقَّع عدم الفهم، أو الرفض، لدواعٍ فنية أو دينية أو سياسية، وأحتفظ — من ثَمَّ — بما كتبت في داخل الأدراج (التجريب كلمة لها العديد من المعاني والدلالات، بل إنها لا تجد نفسها لغويًّا، بمعنى أنه لا يوجد لها المقابل اللغوي الدقيق. هل هو الاختلاف؟ هل هو الخروج عن التقليدي؟ هل هي المغايرة؟ هل هي المجاوزة؟ هل هي محاولة الإضافة؟ هل هي محاولة التفرد والتعبير عن الخصوصية الفنية؟ يظل التجريب كلمة حمَّالة أوجه، بمعنى أن معناها ودلالتها تختلف من مبدعٍ إلى آخر، فضلًا عن أن البعض يرفض الكلمة إطلاقًا. وعمومًا، فإني أرفض التجريب الذي يطيل الوقوف أمام الإبداعات الأوروبية، فهو — في حقيقته — تقليد، وليس تجريبًا. التجريب هضم لقراءات وتجارب وخبرات، ومحاولة إفراز ذلك من خلال خصوصية مؤكدة). في ضوء ذلك — أو في ظلِّه — كتبت مجموعتي الأولى «تلك اللحظة»، ودفعت بها إلى المطبعة. ولأني حرصت على التجريب فيما كتبت، فقد غلبت الذهنية أحيانًا، والمباشرة أحيانًا أخرى، في بعض المواقف. وثمة العديد من قصصي القصيرة هي إسكتشات، أو إرهاصات، بأعمال روائية. أشير إلى روايتي «بوح الأسرار» التي نشرت قصة قصيرة — منذ عشرين عامًا — في «الآداب» البيروتية. ثم شغلتني، وناوشتني، كإبداعٍ روائي. وقد بدأت روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي» باعتبارها قصة قصيرة، ثم طالت فصارت رواية، لا من حيث عدد صفحاتها فحسب (أكثر من ١٥٠ صفحة) وإنما من حيث تعدُّد شخصياتها وأحداثها، وتوالي تلك الأحداث موجة إثر موجة، وهي خاصية روائية بعكس القصة القصيرة التي تشبه الدوامة.

وبالطبع، فإنه من الصعب تصور أن يجلس المبدع ليكتب دون تصور ما — ولو تصور هلامي، أو إسكتش بلغة الفن التشكيلي — لما يعتزم إبداعه. حاول أستاذنا نجيب محفوظ ذلك في أعقاب نكسة ١٩٦٧م، وكان الذهن مشغولًا، والنفس تعاني، لكنه حرص على الجلسة اليومية ما بين السادسة والثامنة مساء. لم يكن في ذهنه ما ينقله على الورق، واحتذى حذو بعض الكُتَّاب الأوروبيين، وترك القلم — دون فكرة مسبقة — يسود بياض الصفحات، فلخَّص — بتناول جديد — روايته القديمة «عبث الأقدار»، وكتب قصصًا قصيرة أخرى، لا ترقى إلى مستوى إبداعاته بعامة، فهي — أحيانًا — تسرف في التلغيز، وتبدو — أحيانًا ثانية — أقرب إلى المعادلات التي تهب شفرة تطلب الحل!

وإذا كان رأي مالارميه «إن الآلهة توحي لنا بالأبيات الأولى من القصيدة، أما بقية القصيدة فينبغي أن نعتمد فيه على أنفسنا»، فإن تشيخوف يرى أن الفنان لا يختار موضوعاته، إنما هي التي تختار الفنان. الآلهة قد توحي بالسطور الأولى، لكن بقية النص الإبداعي هي من صنع النص نفسه، فهي تتخلق — في أثناء عملية الكتابة — من داخله. لقد أعلن تورجنيف دهشته حين رأى ما حلَّ ببطله «بازاروف» في روايته «الآباء والأبناء». وحين بدأ تولستوي كتابة روايته «آنا كارنينا»، كانت المرأة باردة العاطفة، وكانت تستحق المصير الذي واجهته، لكنه اكتشف — بعد أن أنهى الرواية — أن صوت الرواية — يختلف بالتأكيد عن صوت الروائي. وقد أشار سهيل إدريس في تقديمه لروايته «الحي اللاتيني» إلى أن بطلي روايته «أصابعنا التي تحترق» فرضت مقتضيات الحدث الروائي — عكس ما كان يتوقع! — أن يخون الرجل زوجته، وتوشك الزوجة على الخيانة كذلك، وخضع الفنان — على حد تعبيره — لتصرفات بطليه. حتى كلود سيمون الذي كان يحرص على أن يعد ملفًا بأسماء شخصيات رواياته، وأعمارهم، ووظائفهم، وعاداتهم، ونوعية الأمراض التي أصابتهم، أو ستصيبهم، وما إذا كانوا متزوجين ولهم أبناء. حتى كلود سيمون لم يكن يعرف — باعترافه — إلى أين تمضي الرواية التي يكتبها، ولا النهاية التي سيضع عندها نقطة الختام.

ثمة مبدعون كبار يحرصون على التعرُّف إلى العمل الإبداعي — قبل الجلوس لكتابته — من ألفه إلى يائه. جابرييل جارثيا ماركيث يشير إلى أنه يمعن التفكير في القصة — قبل كتابتها — سنوات طويلة، حتى يستطيع حكايتها مرات كثيرة، «من أمام، ومن خلف، وكأنها كتاب انتهيت من قراءته». ونجيب محفوظ يعد ملفات بالملامح الظاهرة والجوانية لكل شخصياته، حتى الشخصيات الهامشية، أو التي تبدو كذلك. وقد وافق يوسف الشاروني على ملاحظتي بأنه يعرف موضع الكلمة في داخل الجملة، في داخل السطر، في داخل النص. ويؤكد ماريو بارجاس يوسا أنه يحسب كل شيء بإحكام قبل أن يبدأ في الكتابة. وعلى الرغم من إلحاح السؤال: كيف يفكر كاتب السيناريو، وأن ذلك الأسلوب في التفكير يتناقض مع التلقائية في كتابة الرواية أو القصة. إنه أنسب بتقنية السيناريو الذي يعرف جيدًا — قبل أن يبدأ التصوير — دور كل شخصية وموضع كل مشهد وكلمة.

الإبداع عندي لحظة اكتشاف، تساوي معناها عند المتلقي، تفاجئني الشخصيات والأحداث، مثلما تفاجئ القارئ تمامًا، وتفاجئنا — القارئ والكاتب — النهاية التي ربما لم يتوقعها كلانا. أنا لا أعرف شيئًا مسبقً، أعرف البداية فقط، أما النهاية، فلست كاتبًا للسيناريو حتى أحددﻫﺎ قبل أن أخلو إلى العمل؛ ليس عندي نتائج مقررة أحدِّدها سلفًا.

على الرغم من ذلك، فإن اختلاف وسيلة الكتابة بين القصد والعفوية، لا تعني التقليل من شأن الكتابة القصدية، بقدر ما تعني اختلافًا مزاجيًّا، وفي طريقة الكتابة بين مبدع وآخر.

أنا لا أختار النهاية التي قد تفاجئ الفنان نفسه، لا أعرف حاضر شخصياتي ولا مستقبلهم، لا أعرف كل شيء سلفًا، فهي ليست مجرد خيوط أحركها. أفضِّل أن أبدأ خالي الذهن إلَّا من البداية، وصور بلا ملامح محددة، كالهلاميات، ثم تكتسب الصورة — أثناء الكتابة — ملامحها. أذكر قول كلود سيمون: «قبل أن أكتب على الورق، لا يوجد شيء إلَّا حشد غير محدد من الأحاسيس التي تكاد تكون غامضة، ومن الذكريات التي تعاني غياب الوضوح، فضلًا عن أن مشروع الكتابة نفسه يكون ضبابيًّا.» قد تكون البداية مجرد ومضة، مشهدًا عابرًا، عبارة قيلت عفوًا. وعلى حد تعبير فورد مادوكس، فإن الحياة توحي للفنان بمادة فنِّه، لكن هذا الاستيحاء يقتصر على بذرة العمل الفني، على صورته الهلامية، قبل أن يجد تجسيدًا له في أثناء عملية الإبداع.

ثمة اختلاط بين لحظات الماضي والحاضر واستشرافات المستقبل، بين الفكرة التي تلحُّ على نحو ما، والقراءات، والخبرات، ومشاهدة أو سماع الأعمال الإبداعية. بل إنه أثناء فعل الكتابة تتوالى الصور والعبارات التي نسيتها تمامًا، لكنها تفد إلى الذاكرة. فالقلم، في لحظة غير متوقعة، لحظة تختار نفسها ولا نختارها نحن، نستعيدها واضحة أو شاحبة الملامح، وقد تختلط الأزمنة والتفصيلات، وإن شكَّلت لبنات في بنية العمل. وانحياز إبداعي لقيم محددة، أو لقضايا بعينها، أو لجماعة ما، لا يأتي بقرارٍ، لا ألوي عنق العمل الإبداعي من أجل توصيل مقولتي، وإنما التعبير عن ذلك يأتي من خلال العمل نفسه. قد تكون المقولة قديمة، وقد يرفضها الحداثيون، لكنني أومن أن كل مضمون يفرض الشكل الخاص به. وكما تقول ناتالي ساروت: «لا أظن أنه بوسع إبداع ما، رواية أو لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية، أن يتحوَّل إلى مجرد تطبيق لفكرة مسبقة. إنه بحث يبدع نفسه، فهو يقرر بنفسه مسائله الخاصة به». ولعلِّي أضيف قول نورمان ميلر إنه يبدأ فعل الكتابة دون أن يعرف ما الخطوة — أو الخطوات — التالية. إنه يعتمد على اكتشاف العمل لنفسه، واكتشاف المبدع للعمل أثناء الكتابة، ويعتمد — في كل الأحوال — على الحياة التي يثيرها العمل «أشعر دائمًا كأني لست أنا الذي أكتب القصة، وإنما أنا مدفوع للكتابة، فلا أملك إلَّا أن أكتب». البداية — دائمًا — هي أصعب ما في الأمر. السطر الأول في عمل ما هو الأهم؛ أحيا الشعور بأن النهاية في مدى الأفق.

ولم يكن مورافيا يعد إبداعاته مقدمًا بأية صورة، ولم يكن يفكر فيها عندما يكون مشغولًا بالكتابة. وكانت فرانسواز ساجان تبدأ الكتابة لكي تأتيها الأفكار، وربما تغير — أثناء الكتابة — كل ما انتوت تسجيله من أحداث. وقد وصف الشاعر جورج راسل أوفلاهرتي بأنه إوزة حين يفكر، وعبقري حين يكتب الشعر. والمعنى الذي يقصده هو القيمة التي يكتسبها العمل إذا انطلق من العفوية، وعبر بها.

وشخصيًّا، فإني أبدأ بكتابة القصة القصيرة على أنها كذلك، ثم ما تلبث — بتوالي الأمواج — أن تتحوَّل إلى رواية. تتعدد الشخصيات، وتتعدد الأحداث، وتتسع المساحة، ويزيد عدد الصفحات، ليطالعني ما كتبته — ختامًا — في صورة رواية. ذلك ما حدث في روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي». بدأت في كتابتها قصة قصيرة، لكن كثرة المصادر والمراجع، وتبين الكثير مما يستحق التوقف بدَّل ملامح القصة القصيرة، فأصبحت رواية، ليس في مجرد زيادة عدد الصفحات، وإنما في اكتسابها لخصائص الرواية بعامة.

وفي تقديري أن انتهاء العمل الإبداعي عند نقطة محددة ينطوي على تعسُّف مطلق في التعامل مع حيوات كان يجب أن تظل مستمرة، وهي تلك التي كانت لشخصيات الرواية قبل أن تختفي بالنهاية المغلقة. القصة قد تنتهي عند نقطة ما تختارها، لكنها ليست النقطة التي تنتهي عندها حياة الشخصية — أو الشخصيات — في الرواية.

•••

الشخصية الروائية تنتمي إلى مبدعها من حيث وضع البذرة في الأرض، النطفة في الرحم، لكنها تكتسب ملامحها من عملية التخلُّق. وإذا كان ميشيل بوتور يذهب إلى أن الروائي يبني أشخاصه، شاء أم أبى، علم ذلك أو جهله، انطلاقًا من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة، وأن أبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصة، ويحلم من خلالها بنفسه، فإن القصة تكتب نفسها، تستمد مقوماتها، حياتها، خصوصياتها، من داخلي، من ثقافتي وتأملاتي وخبراتي وخبرات الآخرين، من التفصيلات والمنمنمات التي تشكِّل — في مجموعها — نظرة الفنان الشاملة، فلسفة حياته. لم يبدأ بيكاسو من اللحظة، ولا من المطلق، لكنه استوعب تاريخ الفن التشكيلي جيدًا، قبل أن تجري ريشته بالخط الأول. درس مبادئ التصوير، وتعرَّف إلى التقاليد الفنية منذ ما قبل عصر النهضة وإلى الفن الإغريقي والروماني المسيحي. وتعرَّف أيضًا إلى تقنيات متحف السلالات البشرية، وعلى أعمال السكان الأصليين لقارة أستراليا وعلى أعمال الهنود الحمر والفن الفرعوني والهيليني والقبطي والإسلامي … إلخ.

وأحيانًا، فإني أتقمص الشخصية بالتوغل في العمل الإبداعي، تصبح هي أنا، أو أصبح أنا هي. وبالتأكيد، فقد كنت — على سبيل المثال — منصور سطوحي في الصهبة، ومحمد قاضي البهار في قاضي البهار ينزل البحر، وعماد عبد الحميد في النظر إلى أسفل، ورءوف العشري في الخليج، وحاتم رضوان في الشاطئ الآخر، وصلاح بكر في صيد العصاري، والراوي في زوينة، وهاشم السعدني في زمان الوصل، والراوي شابًّا في مواسم للحنين، بل إني لم أضمن شخصية إسماعيل صبري روايتي «أهل البحر» إلا لأن اسمه أطلق على الشارع الذي ولدت، ونشأت فيه.

ولعلِّي أتوقف أمام الشخصية المسماة — بلغة السينمائيين — «الكاراكتر»، الشخصية غير المألوفة، والصامتة أحيانًا، سواء على المستوى الجسدي أو النفسي. الشخصيات العادية لا تلفت انتباهي، لا أتوقف أمامها، أعبرها بالعين وبالتأمل في آن. أتذكر قول جين مالاكويه لنورمان ميلر: «الكتابة هي السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة، والوقت الوحيد الذي أعرف فيه أن شيئًا ما حقيقي، هي اللحظة التي يعلن فيها عن وجوده أثناء فعل الكتابة. أنا أكتب لأكتشف ما أفكر فيه، وما أنظر إليه، وما أشاهده، وما يعنيه ذلك كله، ما أتطلع إليه وما أخافه، وما الذي يدور في توالي الصور داخل ذهني.»

وطبيعي أن الحرص على أن تكتب القصة نفسها قد أثمر بعض النتائج السلبية، وأخطرها الوقوع في «مطب» السهو. فأنا أسمي الشخصية، ثم أختار — لسببٍ أو لغير سببٍ — اسمًا آخر، ويختلط الاسمان في لحظات الكتابة، فلا أنتبه إلى التداخل المعيب إلا في لحظات القراءة. هذا ما حدث في روايتي «ياقوت العرش» حين اختلط اسما المنزلاوي والتميمي، وفي روايتي «بوح الأسرار» عندما أصبح اسم سليمان عبد الواحد — في بعض الأحيان — سلامة عبد الواحد! وفي «زمان الوصل» تسلَّل اسم الشخصية الحقيقي إلى إحدى الفقرات.

•••

أصارحك بأني لا أميل إلى القصة التي تراعي القواعد الفنية التقليدية: البداية، والذروة، والحل، وهو ما يُسمَّى بالقصة القوس Arcstory، لكنني أوافق رامان سيلدن على أن: «الحبكة Mythos هي التنظيم الفني لأحداث القصة». لا أتصور قصة بدون حبكة، الحبكة هي الفنية؛ ومن الصعب تصور فن بدون فن. القصة تظل حكاية، حتى تحيلها الحبكة إلى قصة، تهبها الخاصية الفنية. والقصة تكتب نفسها إطلاقًا، حتى التكنيك، الصورة الفنية تختارها القصة، أسلوب الراوي الذي يعرف كل شيء، أسلوب الراوي الذي يخاطب المشارك، أسلوب الراوي الذي يخاطب غير المشارك. وقد لاحظ أنتوني ترولوب أنه لم يعرف على الإطلاق كيف ستنتهي قصته، فضلًا عن أن الحبكة تبدو غائبة التفاصيل عندما يبدأ الكتابة. أتذكر قول ميشيل بوتور: «هنالك مادة ما ترغب في الظهور، وبمعنى آخر: ليس الروائي هو الذي يضع الرواية، بل الرواية هي التي تضع نفسها بنفسها، وما الروائي سوى أداة إخراجها، ومولِّدها. ونحن نعرف مقدار ما يتطلبه ذلك من علم ومعرفة وصبر وأناة» (ت. فريد أنطونيوس).

من عادتي أن أقرأ ما أكتب، ثم أعيد القراءة، ثم أضيف وأحذف وأبدِّل، وربما مزَّقت أوراقًا مما كتبت، وربما مزَّقت الأوراق كلها، لا أطمئن إلى انتهاء العمل إلَّا إذا اطمأن الناقد في داخلي إلى تلك النهاية.

وإذا كان ابن عميرة يرى أن قواعد الإعراب لا تفيد في الكشف عن معاني الكلام وجماله، أو أنها ليست من مسببات جمال الكلام، فإن اللغة — تحديدًا — ليست هامشًا في العملية الإبداعية، ليست مجرد أداة، ولكنها جزء مهم في نسيج العمل. ولعلِّي — مع ذلك — أحذِّر من إغراء اللغة بما يسيء إلى العملية الإبداعية، ويحيلها إلى كلمات، أو عبارات، جميلة، مرصوصة، لكنها تفتقد الروح. لا أقصد بأن تكتب القصة نفسها أن يبدع القلم الفكرة. ربما انساق القلم وراء سحر الكلمة المكتوبة، فهو يبحث عن جماليات اللغة، ولا ينظر إلى اللغة على أنها فحسب أداة تعبير، أداة توصيل. اللغة ليست مجرد إطار، ليست مجرد توشية أو حِلية. إنها لا تنفصل عن الحدث في العمل الإبداعي، فهي — في أقل تقدير — وعاء الإبداع، وسيلة الصياغة، وإهمال الوعاء أو الوسيلة أشبه بتغليف جوهرة ثمينة بورقة ممزقة متسخة. وبالتأكيد فإن الرواية التي توظِّف التراث الفرعوني تختلف عن الرواية التي توظِّف التراث العربي، وعن الرواية التي تصور واقعنا الآني. لا أعني التقليد أو المحاكاة أو ارتداء الأثواب المتعددة. قد يفيد الفنان من مفردات الفترة، أو العصر، يحيلها خيوطًا يضفر منها نسيج عمله الفني. إذا أراد المبدع أن تكون له شخصيته الخاصة، فلا بد أن يكون له أسلوبه الخاص. الكلمات التي نستخدمها يجب أن تعبِّر عن موهبتنا الخاصة، عن قاموسنا اللغوي الخاص، عن طريقتنا في صياغة الجملة. اللغة ليست مجرد كلمات، ولكن بنى مركَّبة، وعبارات مؤلفة، ونسق من الكلمات التي تحتفظ بفاعليتها الخاصة. ما أعنيه ليس مجرد الصياغة الأسلوبية، أو بمجرد الحرص على موازين النحو والصرف وأصول البيان والبلاغة التراثية — وهي مهمة مطلقًا — وإنما العناية بالإيقاع والمفردات والتعبيرات، ميلها إلى القصر أو الطول، إفادتها من التشبيهات والاستعارات والكنايات وغيرها من «الحيل» البلاغية، وغيرها. فإذا وضعت نقطة النهاية، عدت إلى «النص» أحذف كل ما يمكن الاستغناء عنه، فبديهي أن يبرأ من الأحداث الزائدة أو غير المبررة، ومن الحشو والنتوءات. ولعل في مقدمة ما أحرص عليه أن أجدد قاموسي اللغوي، سواء بتطعيم اللغة بموروث مهجور، أو بمفردات عادية، تمليها الضرورة الفنية، لا تسيء إلى جماليات اللغة، ولا إلى السياق، أو بخلق مفردات وتعبيرات تضيف إلى العمل، وإلى اللغة بعامة. ولعلِّي أذكر قول الطيب صالح: «إنني على معرفة جيدة بالإنجليزية، وعندي بالفرنسية معرفة لا بأس بها، وأستطيع أن أجزم أنه ليس من لغة تضاهي جمال العربية.»

لقد وصف هارولد بنتر الجملة عند همنجواي بأنها كتلة واحدة، يستطيع أن يحملها بيده، ويقول إنها تستحق أن تبقى، فهي أساسية. إن قلم المبدع يجب أن يؤدي دوره في حذف كل ما يشكِّل نتوءًا في عمله، أو أن العمل في غير حاجة إليه، مهما تبدو الكلمة، أو العبارة — في ذاتها — جميلة. أكره الكلمة النشاز أو المجافية للسياق. أذكِّرك بما فعله تولستوي في الحرب والسلام، فقد بلغت أصولها — عقب الكتابة الأولى — أكثر من أربعين ألف صفحة، فحذف الفنان تسعة أعشارها!

وثمة أدباء كبار لا يعنون بعلامات الوقف والترقيم، لا يلتفتون إليها، ما يشغلهم هو الكتابة وحدها، السرد وحده. لا يستوقفهم اتصال الجمل، وتغيُّر اللحظات بما يستدعي وضع نقطة أو فصلة أو بدء جملة جديدة. وفي رأيي أن علامات الوقف والترقيم مهمة جدًّا. إنها ليست زخرفًا ولا وشيًا، وإنما هي تضيف إلى العمل بصورة مؤكدة. وإذا كنت قد لجأت إلى ترك فراغ أبيض في «النظر إلى أسفل والشاطئ الآخر»، فلم يكن ذلك لتصوير مرور الزمن، وإنما لتصوير حالة مغايرة، بصرف النظر عن استمرارية الزمان أم انقطاعه. أتذكر قول هنري جيمس: إن تصوير مرور الزمن يجب أن يتم بطريقة تختلف عن مجرد ترك فراغ أبيض، أو الفصل بين الفقرات بصف من النجوم.

•••

يقول أرسكين كالدويل: «الكتابة عادة، تتكوَّن في أنفسنا مثل التدخين». أي فرد يريد أن يصبح كاتبًا — كما يقول بول جاليكو Paul Gallico — لا يوجد أمامه سوى ممارسة الكتابة باستمرار، لا أن يحلم بأن يكتب، ويفكر في الكتابة، ولا يخرج بأفكاره إلى حيز التنفيذ. فالكتابة أشبه بعضلة من العضلات، كلما قمت باستعمالها وتمرينها، ازدادت مرونتها، واستطعت استعمالها بسهولة تامة.» وثمة نصيحة يقدمها معظم المبدعين — وهي نصيحتي أيضًا — هي ألا يتحدث المبدع عن عمله قبل أن يبدأ في كتابته، ذلك لأنه عندما يتحدث عن العمل الذي يعد نفسه له، سيكتفي بالكلمات الشفاهية، ولن يجلس إلى الورق والقلم — لكتابته — يومًا. مع ذلك، فإني أحرص على أن أدفع بمسودات كتاباتي — بعد أن أضع نقطة الختام — إلى أصدقاء، قد لا يكون لبعضهم بالأدب صلة حقيقية: أثق فيما كتبت، وأعرف أن آراء الآخرين لن تدفعني إلى إعادة كتابته، أو إجراء تعديلات في البنية أو السرد. ما أريده من قراءاتهم هو تنبيهي إلى مواضع القصور المعلوماتي. اسم شخصية ثانوية أكتبه في فقرة تالية باسم آخر، الاعتماد على الذاكرة المتعبة في ذكر تاريخ قد لا يكون صحيحًا … إلخ.

•••

يبقى أنه إذا لم تحقق القصة ما أرجوه منها، ولها، فإني أفضِّل التخلص منها، واعتبارها كأن لم تكن، ولا أحاول كتابتها ثانية، إنها أشبه بالطلقة التي خرجت من فوهة المسدس، يصعب أن تستخدم ثانية.

(الثقافة الجديدة، فبراير ٢٠٠٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤