التجريب في القصة الحديثة:
جذوره التراثية

المؤلف المصري — في اجتهاد أستاذنا سيد كريم — هو المؤلف الحقيقي لأشهر الروائع القصصية الخالدة التي لا تزال نُسخها تباع بالملايين منسوبة إلى غيره، مثل سندريلا وعلي بابا ومجنون ليلى وشمشون ودليلة والشاطر حسن والسندباد البحري والكونت دي مونت كريستو، وغيرها. ويعترف نوثروب فراي بأن حكاية الأخوين هي مصدر قصة يوسف — سمَّاها خرافة — عندما حاولت زوجة الأخ الأكبر أن تراود أخاه الأصغر عن نفسه، فلما رفض إغواءها، اتَّهمته عند أخيه بأنه حاول اغتصابها. ويلاحق الأخ أخاه، وتتنامى الحبكة في توالي الأحداث المتسمة بالعجائبية. ويضيف إ. ل. رانيلا أن للعرب الفضل في إبداع الحكايات بوصفها أدبًا، وبهذا ثبَّتوا شكل القص الخيالي المصور للحياة.

لقد واجه الشرق اتهامًا بضعف الخيال، بحيث غاب فن القصة في التراث العربي. القصة — في تقدير المستشرقين، وفي تقدير معظم الباحثين العرب أيضًا — فن أوروبي مستورد، يمد جذوره في الثقافة الأوروبية، فهو تقليد ومحاكاة للقصة في الغرب، وليس له أي جذور في التراث العربي، الذي يُعَد تراثًا شعريًّا في الدرجة الأولى، فهو مستحدث في الإبداع العربي. بل إن محمود تيمور يقرر — في بساطة — «أنه لم يَعُد بيننا خلاف — كذا — على أن الأدب العربي — في عصوره الخالية — لم يسهم في القصة إلا بالنزر اليسير الذي لا يسمن ولا يغني، فالقصة الفنية إذن دخيلة عليه، ناشئة فيه، لا أنساب لها في الشرق، ولا استمداد لها من أدب» (دراسات في القصة والمسرح، ٦٤).

والحق أنه من المكابرة الساذجة تصوُّر القص العربي الحديث بعيدًا عن تقنيات الغرب، لكن من الخطأ البالغ إهمال تقنيات الحكي العربي في سعينا لتأكيد الهوية القومية لإبداعنا المعاصر. ومن الصعب — في الوقت نفسه — أن ندَّعي غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية، والقصة العربية — والقصة بعامة — في أحدث معطياتها. ولعلِّي أذكِّر بقول جارثيا ماركيث: «من الطبيعي أن يمعنوا — يقصد الغرب الأوروبي — في قياسنا بالمعايير ذاتها التي يقيسون بها أنفسهم، ولكن عندما نُصوَّر وفق نماذج لا تَمُتُّ إلينا بصلة، فإن ذلك لن يخدم إلا غاية واحدة، هي أن نغدو مجهولين أكثر، وأقل جرأة، وأشد عزلة.»

وإذا كان التراث العربي — في تقدير المستشرقين — يفتقر إلى الخيال، والنظرة الفلسفية المتكاملة، والحاسة النقدية، وغياب الحس القصصي والدرامي … إلخ، فلعلَّه من المهم أن نشير إلى قول رينان بأن أوروبا امتلأت بقصص لا حصر لها قدِم بها الصليبيون من الشرق العربي، إثر عودتهم إلى بلادهم. ويقول ميشيل: «إذا كانت أوروبا مَدينة بديانتها المسيحية لتعاليم المسيح، فإنها مدينة بأدبها القصصي للعرب.» بل إن البارون «كار دي فو» يؤكد أنه ليس هناك أدب سبق الأدب العربي في ابتداع فن القصة (محمد مفيد الشوباشي، الأدب ومذاهبه، ٣٠).

إن ضعف الخيال والإسراف في الخيال اتِّهامان أملتهما الرغبة في تحقير الملكات الإبداعية لكُتَّاب الشرق، وأن الشرق سيظل دومًا في موقف التابع بالنسبة للمتبوع، وهو الغرب الأوروبي.

الغريب أن الذين أفادوا من الخيال العربي، ممثَّلًا في ألف ليلة وليلة وحي بن يقظان ورسالة الغفران والحكايات والسِّيَر والطرف والأخبار العربية، ينتمون إلى ثقافات أوروبية، أو متأثرة بالثقافات الأوروبية. والثابت — تاريخيًّا — أن الرومانس — الحكايات الشعبية الأوروبية — تأثرت في نشأتها بألف ليلة وليلة.

ثمة رأي أن الرواية والقصة القصيرة والمسرحية لم يعرفها العرب إلا بعد اتصالهم بالأدب الأوروبي. وقد نقل العديد من الدارسين العرب عن المستشرقين — وكم تظلمنا النقلية! — ما ذهبوا إليه من أن ما عرفه التراث العربي من الإبداع القصصي والروائي والمسرحي، لا يعدو مجموعة من الأخبار والطرائف التي تخلو من الحرفية الفنية كما في الإبداع الغربي. عمَّق من المشكلة أن المسرحية والقصة والرواية قد اقتصر تناولها على النقد الأوروبي والدراسات الأوروبية. وهو ما يزال قائمًا — للأسف — حتى الآن. ومع أن نجيب محفوظ هو أحد الكُتَّاب العالميين — باعتراف نوبل! — فإن كل المراجع النقدية الحديثة — قبل نوبل وبعدها، وحتى الآن — تخلو من عمل له، بل ولا تشير إلى أعماله على أي نحو. إنهم يناقشون إبداعاتهم باعتبارها هي الإبداع الذي ينبغي تناوله. إنها — مع التقاط شذرات من هنا وهناك — هي الإبداع العالمي إطلاقًا.

•••

في القرآن الكريم يقص الله — سبحانه — على رسوله الكريم أحسن القصص. وكان العرب يبدءون حكاياتهم أو طرفهم أو نوادرهم بعبارة: قال الراوي، يُحكى أن، زعموا أن، كان ما كان … إلخ. وقد أسهمت ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وحي بن يقظان وغيرها، في تطور فن القصة — والرواية طبعًا — في الغرب. أديب أمريكا اللاتينية ألفريدو كاردنيا بنيا يجد في ألف ليلة وليلة مخزنًا لأكبر عدد من القصص الإسبانية. إنها النبع الثري المتعدد الروافد للكثير من القصص الواردة فيه — على حد تعبير الكاتب — فلم تترك أي موضوع إلا وتطرقت إليه، بحيث تحولت الكتابات التالية إلى مجرد تقليد، أو نقل غير مبدع. وتبدو إفادة الثقافة المكتوبة بالإسبانية من الثقافة العربية المعاصرة — إبان حكم المسلمين لشبه الجزيرة الأيبرية — ظاهرة محيِّرة، مقابلًا لإخفاق الثقافة العربية المعاصرة في الإفادة من ذلك التراث، مع أنه يتصل ﺑ «نحن»، وليس ﺑ «الآخر». إنها ثقافة تعتمد على الدين الإسلامي والتاريخ العربي واللغة العربية. يغيظني — على سبيل المثال — زهو بعض المبدعين بأنهم قد تأثروا بواقعية ماركيث السحرية، بينما أعلن الكاتب الكولومبي أنه قد تأثر بغرائبية ألف ليلة وليلة!

يقول محمد فهمي عبد اللطيف: «كان من الطبيعي أن يتميز القاص المصري في هذا المجتمع الخصيب، وأن يكون محصوله في ذلك وافرًا، ونتاجه وافيًا … فكان أبرز وأوفى من أجدى في هذه الناحية. وما ألف ليلة وليلة، وقصة الهلالية، وقصة الظاهر بيبرس، وقصة سيف بن ذي يزن، وغيرها من القصص، إلا من فيض براعة القُصَّاص المصريين، وقدرتهم على التحليل والإفاضة، سواء ما ابتدعوه منها ابتداعًا، أو ما مدُّوا فيه بالتزيد والإغراق والاختراع والاختلاق. وإذا كان هؤلاء القُصَّاص قد تناولوا ألف ليلة وليلة نصًّا عن الفارسية، مدُّوا في فروعه، وأساسًا ارتفعوا ببنائه، فإنهم كذلك في قصة الهلالية تناولوها عن الأصل التاريخي، وأخذوها مما جرى في رحلة أولئك الأغراب إلى مصر، ثم إلى بلاد إفريقية، وما وقع لهم من الحروب والأحداث، وانتقلوا بذلك الأصل التاريخي إلى ميدان الخيال الفسيح» (أبو زيد الهلالي ص٥٩).

ما نستطيع الاطمئنان إليه أن القصة العربية لها جذورها الممتدة في تربة التراث، وهي تختلف — بالتأكيد — عن تربة الترجمة التي أعطت لإبداعنا ثمارًا يصعب التقليل من قيمتها. وإذا كان محمود طاهر لاشين قد أعلن أنه «لا ميراث لقصَّاصينا في الأدب العربي» (المجلة الجديدة، يونيو ١٩٣١م) فإن مجرد التنقيب في التراث العربي الأدبي القديم، سعيًا لاكتشاف شكل فني يمكن نسبته إلى القصة والرواية، اتِّساقًا مع شكل القصة والرواية الغربية … ذلك التنقيب لم يكن يخلو من نظرة أحادية متعسفة. فالقصة — في تقدير هؤلاء، وفي سعيهم لاكتشاف ملامحها في الأدب العربي القديم — هي القصة في الغرب من حيث البنية والحبكة والتكثيف وغيرها. وحين أهملت إبداعات الغرب القصصية والروائية تلك الخصائص، فإن محاولاتنا الإبداعية — والنقدية — قد أهملتها كذلك!

•••

لقد غابت القصة الموباسانية — أو ذَوَت في أقل تقدير منذ فترة بعيدة — في الأدب العالمي. وغاب ذلك النوع من القصص في إبداعنا العربي — منذ الخمسينيات — على يد اليوسفيْن إدريس والشاروني وإدوار الخراط، ثم في أعمال أدباء الستينيات التي اختلط فيها الوعي باللاوعي وتيارات الشعور. لم يعُد الواقع هو تلك الثنائيات المكررة: التقدم في مواجهة التخلف، الخير في مواجهة الشر، الغنى في مواجهة الفقر … إلخ. أصبح الواقع ملتبسًا وظنيًّا، وقُدِّمت محاولات تنتسب إلى الواقعية السحرية والعجائبية والغرائبية وخارج الواقع وما فوق الواقعي. النص الأدبي — في تقدير تودوروف — هو النص الذي يحطم القواعد النوعية، ولا يمكن أن يتقلص إلى مجرد معادلة، ومن ثَمَّ فلا يمكن وضعه — بصورة نهائية — في جنسٍ محدد. ويذهب جوناثان كلر إلى أن الأنواع ليست مجرد فئات للتصنيف، بل مجموعات من المعايير والتوقعات التي تساعد القارئ في تحديد وظائف العناصر المختلفة في العمل الأدبي. وهو رأي يبدو مقنِعًا في عمومه. مع ذلك، فإني أرجو ألا نختلف في أنه توجد خصائص أو سمات يشترك فيها النص الإبداعي مع نصوص إبداعية أخرى، تختلف عن نوع ذلك النص. فالقصة — على سبيل المثال — قد تستعين بدرامية الحوار، أو تلجأ إلى هارمونية الموسيقى، أو إلى أسلوب التبقيع، أو الكولاج، كما في الفن التشكيلي، أو تقنيات السينما والمسرح وغيرها. وثمة رأي أن الرواية نوع أدبي يقاوم التقيد بما هو تأمُّلي وفني خالص، بحيث تذوب في المجموع الكلي للتجربة الإنسانية من أفكار وآراء وطموحات وغرائز. لا تفرد مطلقًا في الجنس الأدبي، فهو لا بد أن يفيد من الأجناس الأدبية الأخرى ويفيدها، يتأثَّر بها ويؤثِّر فيها. وإذا كانت كتابات ما بعد الحداثة تتجاوز الأنواع، الأجناس الأدبية، تذيب الفوارق والحدود، فإن التخلي عن الفروق بين الأنواع، وظهور صيغة جديدة، تأتلف وتختلط فيها كل الأجناس، يعني التحول إلى نصٍّ بلا ملامح، وبلا هوية محددة (عندما ظهرت اللارواية واللامسرحية — في الستينيات — تصوَّر الكثيرون أن الرواية والمسرحية حان أوان موتهما). القصة قد تفيد من لغة الشعر، بينما تلجأ السينما إلى الرواية الأدبية، وتعتمد الرواية على درامية الحوار … إلخ. لكن القصة يصعب إلا أن تكون قصة. الأمر نفسه بالنسبة للقصيدة والمسرحية والفيلم وغيرها. وإذا كانت بعض الأعمال الحديثة تطالِعنا باعتبارها كتابات أو نصوصًا، لا تسمية نوعية محددة، كقصة أو قصيدة أو مسرحية، فلعلِّى أومن بمقولة هيثر وابرو التي تؤكد أن معرفة النوع تهبنا مفاتيح عالية القيمة، فيما يتصل بالكيفية التي نفسر بها قصيدة.

•••

يقول ألان روب جرييه: «ليست المشكلة هي تأسيس نظرية أو قالب موجود سلفًا نَصُبُّ فيه كتابة المستقبل. وعلى كل روائي، وكل رواية، أن يخترع شكله الخاص، وليس هناك وصفة يمكن أن تحل محل هذا التأمل الدائم.» ثمة مقولة إن الرواية نوعٌ غير منتهٍ، وقَدَرُها أن تظل هكذا إلى الأبد. إنها تتسم — كجنس فني — بالانفتاح واللانهائية. ما يشبه الإجماع النقدي على أن الرواية والقصة القصيرة هما النوعان القصصيان الحديثان اللذان جاوزا التعريفات والقوانين النقدية. وقد نشأت القصة الحديثة — في تقدير أوستن وارين ورينيه ويلك وغيرهما — من الأشكال السردية غير الخيالية، كاليوميات والمذكرات والرسائل والسِّيَر والتاريخ، وأيضًا من خلال النادِرة والخبر والطرفة والملحة وغيرها، وهو ما يخالف قول محمود أمين العالم: «ليس من الدقة أن نسعى إلى تلمُّس مصادر القصة العربية في تاريخ الأدب العربي القديم، وفي القرآن، والأساطير الشعبية والحكايات والمقامات وكتب الأخبار» (الثقافة الوطنية، فبراير-مارس ١٩٥٤م). ثم خالفت القصة الحديثة — في محاولاتها للتجريب — كل الأبنية القصصية المعروفة، وحطَّم كُتَّاب القصة القصيرة والرواية المحدثون كل البِنى القصصية المألوفة، أو المتعارف عليها، أو حتى التي حاولت التجريب دون أن تجاوز صفتها الإبداعية. أصبح مصطلح الرواية والقصة القصيرة — على سبيل المثال — مطاطًا. تلامس مع الملحمة والسيرة والمسرح والسيرة الذاتية … إلخ. فالحيرة التي واجهها النقد في النظرة إلى «أيام» طه حسين، أو «خليها على الله» ليحيى حقي، باعتبارها عملًا روائيًّا أو سيرة ذاتية، تلك الحيرة تجد مرساها في نسبة السيرة الذاتية إلى فن الرواية، ﻓ «الأيام» أو «خليها على الله» إذن سيرة ذاتية ورواية في آن. ولا يخلو من دلالة قول شلوفسكي إنه لم يعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة. ثمة روايات وقصص جيدة دون أن يكون لها منظور جيد. إنها تعبير عن الإبداع الفني وليس نظريات النقد. أهملت بعدًا أو اثنين من الأبعاد الثلاثة: الحدث والزمان والمكان. وثمة أسماء لأشكال أدبية تتصل على نحو أو آخر بفن القصة القصيرة: القصيدة النثرية، الخرافة، الحكاية، الطرفة، الملاحظة، الحدوتة، اللوحة، الفصل في رواية … إلخ. وهناك القصة المضادة، أي التي تهمل المتعارف عليه في فن القصة، مثل الزمان والمكان والمنظور والحبكة والشخصيات واللغة … إلخ. وعلى سبيل المثال، فالقول بأن الرواية ليست مجموعة من القصص القصيرة، مقابلًا لأن القصة القصيرة ليست جزءًا من الرواية. ذلك القول لم يعد واردًا في الحقيقة. قد تطالعنا رواية هي مجموعة من اللوحات المنفصلة، المتصلة (أذكِّرك بروايتي رباعية بحري بأجزائها الأربعة) وقد تأتي فصولًا في رواية، يشكِّل كل فصل ما يُعَد قصة قصيرة. والمجموعة القصصية «قارب الجليد» لإدوارد ماييا E. Maelle يمكن قراءتها باعتبارها كذلك، أو باعتبارها فصولًا تشكِّل رواية. وأيضًا رواية «البنتاجون» لأنطونيو دي بنيدتو Antonio Di Benedetto كتبها الفنان في شكل قصص قصيرة. وقد دخلت العظات والخطب والرسائل في نسيج السرد. والمتواليات القصصية قد تأتي — كما أشرنا — في صورة لوحات منفصلة، ومتصلة، أو حكايات سردية تتعدد فيها الشخصيات والأمكنة. وثمة القصة التي لا تسرد شيئًا، أو التي تخلو من الحدث والشخصيات والحبكة. وثمة تقطُّع الحكاية، والقص واللصق (الكولاج) وتحليل اللاشعور من خلال وجهات نظر الشخصيات، والمناجاة الذاتية، والنثر الغنائي. الحكاية تختلف عن القصة القصيرة في أن لها دلالة واضحة، لكن الحكاية ذات الدلالة هي الكثير مما يطالعنا الآن باعتباره قصة.

وإذا كانت الرواية الجديدة قد نشأت حوالي ١٩١٠م على يد فرجينيا وولف، فإن الجِدة في الرواية متكررة، ومتواصلة، ومن الصعب القول إنها ستنتهي. الرواية — في تقدير باختين — مجموعة من العمليات المفتوحة داخل حقل الكتابة. إنها لا تكون. فليس لها مجموعة من الخصائص الشكلية التي يمكن أن تحدَّها، لكنها «تصير»، فهي تتغير باستمرار وتتطور، لكن ليس في اتجاه محدَّد، أو مرسوم سلفًا، يمليه نظام للعلاقات بين الشكل الأدبي والبنية الاجتماعية التي تميز ظروف نشأته (ت: خيري دومة). ما يشبه الإجماع على أنه لم يعُد هناك ما لا تقبله الرواية، وأن كل الأجناس، وكل الحيل، تخدم التقنية الروائية. أشير — ثانية — إلى روايتي «رباعية بحري». كل لوحة مستقلة بنفسها، لكنها متصلة باللوحات التي سبقتها، واللوحات التي تليها. تتشكَّل من توالي اللوحات بانوراما متكاملة، بوسعنا أن ننسبها إلى الإبداع الروائي. وإذا كنت قد وصفت روايتي «الحياة ثانية» بالتسجيلية، فلأن السرد يروي ما جرى بالفعل. لم أضِف، ولم أحذف، اللهم إلا ما تصورته صياغة أدبية وتقنية. أما روايتي «مد الموج» فهي تنتسب إلى جنس الرواية، لأنها تلتزم بتقنية الرواية ولغتها، وإن اقتصر السرد الروائي على تبقيعات نثرية من سيرة حياة. وقد أفدت في «البحر أمامها» من تقنية السرد المنفصل، المتصل، في بنية روائية واحدة، تتراكم فيه العلاقات والرموز والإيحاءات والإشارات والعبارات المضمرة والموحية.

•••

إذن، فالاتهام الذي يواجهه التراث القصصي العربي متمثِّلًا في القصة والحكاية والنادِرة وغيرها، أنه لا يشابه القصة كما نعرفها اليوم … هذا الاتهام يحتاج إلى مراجعة شديدة، وبالذات في ضوء اتساع مساحة الأشكال الفنية في القصة الحديثة، بصرف النظر عن الثقافة التي تصدر عنها. والقول بأن «زينب» هي بداية الرواية المصرية الحديثة يحتاج الآن كذلك إلى مراجعة، لا لأن الروايات التي سبقتها (حوالي ١٣٠ رواية) لم تخضع لتقويم من أي نوع، بحيث تستحق «زينب» الصفة التي وسمها بها يحيى حقي وآخرون؛ لا لذلك السبب فحسب، وإنما لأن فنية الرواية بالمعنى التقليدي لم تعُد واردة. وإذا كان من السهل تقبُّل الرأي بأن الرياح التي تهُبُّ من أوروبا حملت — في أوائل القرن العشرين — بذرة غريبة على المجتمع المصري، هي بذرة القصة (فجر القصة المصرية ص٢١) فإن ذلك الرأي يحتاج — في ضوء المعايير الحالية لفن القصة — إلى إعادة نظر. نعم، كانت القصة بذرة غريبة على المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، القصة بقواعدها الكلاسيكية، بخصائصها الموباسانية من بداية ووسط ولحظة تنوير. وهي قواعد وخصائص تجاوزتها التيارات والاتجاهات الفنية الحديثة بصورة مؤكدة. لم تعد صرامة البداية والذروة ولحظة التنوير — كما أوردها رشاد رشدي في كتابه عن فن القصة القصيرة — مطلوبة. ما بعد الحداثة تذهب إلى أن «كل نص جديد إنما يُكتَب مكان نصٍّ أقدم.» بل إن بورخيس يحرص على التأكيد أنه لا أحد يمكنه أن يدَّعي الأصالة في الأدب. كل الكُتَّاب — في تقديره — ناسخون ومترجمون ومفسِّرون للنماذج الأصلية المتوالية بتوالي الإبداعات، في توالي العصور.

•••

السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تعتمد محاولات توظيف التراث العربي فنًّا قصصيًّا، ولا تعتمد التراث العربي نفسه — بكل ما يشتمل عليه من فيض حكائي وأشكال قصصية — فنًّا قصصيًّا؟! وعلى سبيل المثال، فهل تختلف مشاهد الواقعية السحرية عن مشهد الباب المغلق؟ يصر الرجل على فتحه لرؤية ما وراءه. يجد حصانًا، يفك قيده، ويمتطيه. يطير الحصان، وينزل به على سطح، ويضرب بذيله، فيتلف عينه اليسرى؟! ألا نجد في ذلك المشهد — وسواه — مدخلًا لواقعية أمريكا اللاتينية السحرية؟!

•••

لامست تخوم القصة أجناسًا أدبية وفنية أخرى، واختلطت بها وتشابكت، وانتسبت جميعها إلى الإبداع القصصي، بحيث انتفى التحديد الصارم لماهية القصة. بل إن صديقي عبد الله أبو هيف يذهب إلى أن تحديد عناصر القصة لا يعني الركون إلى نظرية الأجناس الأدبية، لأن فن القصة أنجب أجناسًا متعددة في القديم والحديث (القصة العربية الحديثة والغرب، ٣٨). وكما يشير كونديرا، فإن معظم الروايات الحديثة — بالمعنى الزمني وليس بمعنى الحداثة — تقف خارج دنيا الرواية. لقد أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية: المونتاج والتبئير، والزاوية القريبة، والمزج، والقطع، والتناوب، والاسترجاع، وحذف علامات الترقيم. وتبادلت الرواية — والسينما بعامة — التأثُّر والتأثير. وثمة الاعترافات المصاغة في شكل روائي، والسير الذاتية للمبدعين، والمشكلات والقضايا الأخرى التي تُنسَب إلى الرواية بالشكل وحده، وثمة القصة المقال، والقصة السرد، والقصة اللوحة، والقصة الرسالة، والقصة الخاطرة، والقصة الرحلة … إلخ. وثمة تعاظم دور المتلقي بديلًا لسلبية القراءة، وتداخل السرد بالمونولوج الداخلي، والمزج بين الواقع والخيال، والحسية والأسطورية، وأنسنة الحيوان والأشياء. طرأ على نظرية القصة عمومًا ما بدَّل من النظرة الثابتة إليها، كالشكلانية والبنيوية والتكوينية واللسانية وغيرها. لذلك فإني أجد في ما بعد الحداثة ما يحمله التراث العربي، فأنسب إلى القصة والرواية، ما تناثر في كتب العرب من الخرافة، والتاريخ، والسيرة، والحكاية، والخطابة، والتهذيب، والشعبية، والخبر، والطرفة، والملحة، والرحلة، والحلم، وغيرها من فنون السرد العربي. «ثمن زوجة» قصة لنجيب محفوظ، نشرها ضمن مجموعته «همس الجنون» تتحدث عن الزوج الذي يضبط زوجته في موقف الخائنة، ويدبر حيلة يدفع بها الزوجة إلى الانتحار دون أن يكون هو المتسبب بصورة معلَنة. هذه القصة تذكِّرنا بحكايات العرب ونوادرهم وأخبارهم. القصة لا تستدعي التراث ولا توظِّفه، لكن ملامح التراث تبدو واضحة بما لا يخفى. أنت تستطيع أن تتعرَّف إلى حيل الأزواج في كشف خيانات زوجاتهم، في الكثير من حكايات العرب ونوادرهم. ولو أننا بدَّلنا الأسماء والمسميات، وتحوَّل البيت إلى خيمة، والريال إلى درهم، فستطالعنا حكاية ذكية من تراثنا العربي. أذكر بالحكاية التي جاءت في «وفيات الأعيان» عن حب أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك، لوضاح اليمن الشاعر. «أخفته — ذات يوم — في صندوق بعد أن دخل عليها الخليفة فجأة. وفطن الوليد إلى ما حدث، فدعا الخدم وأمرهم بحمل الصندوق إلى شفير بئرٍ، ثم قال له: يا صاحب الصندوق، إنه بلغنا شيء، إن كان حقًّا فقد دفنَّاك ودفنَّا ذكرك إلى آخر الدهر، وإن كان باطلًا فإنما دفنَّا الخشب. ثم قذف الخدم بالصندوق في البحر، وأهالوا عليه التراب، وسويت الأرض فما رُئي الوضاح بعد ذلك اليوم، ولا أبصرت أم البنين في وجه الوليد غضبًا، حتى فرَّق الموت بينهما.» لقد تعمَّد كلٌّ من الزوج والخليفة ألا يشير إلى ذلك الكابوس — بعد انقضائه — بتلميحٍ أو تصريحٍ، ولا ذكره بخيرٍ أو شرٍّ، ولا أجرى بسببه تحقيقًا، ولا أثار عنه سؤالًا، وطالع الزوجة بوجه هادئ كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون. استعان حمدي في «ثمن زوجة» بهدوئه، وخطَّط للانتقام دون أن يصارح أحدًا بما ينوي فعله، وهو ما فعله الخليفة. وكان الريال مساويًا للصندوق الذي اختفى فيه الشاب العشيق، وإن اختلفت النهاية بين القصة والحكاية، فقد قُتِل العشيق في الحكاية — الأدق أنه قَبِل القتل! أي إنه انتحر — بينما انتحرت الزوجة في القصة (محمد جبريل، عود على بدء: فتوة العطوف لنجيب محفوظ)؛ لا تباين في دلالات العملين، وإن اختلفت فنية التناول.

من الصعب أن ندَّعي غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية، والقصة العربية — بل والقصة بعامة — في أحدث معطياتها. القول إن الصياغة العربية تخالف الصياغة التي تضيف إلى فنية القصة، وتمثِّل فيها بعدًا أساسيًّا … هذا القول يبدو خافت الصوت إلى حد التلاشي في ضوء التيارات الفنية الأوروبية الحديثة نفسها، كاللاقصة، واللاحكاية، وتوظيف التراث … إلخ. ولعلِّي أعيد التأكيد على أن القصة الحديثة لم يعُد لها إطار ولا مدى محدد. ثمة قصيدة تسرِد قصة، وثمة قصة هي أقرب إلى قصيدة النثر، وبعض المقالات تكتمل فيها مقومات القصة القصيرة، بل إن بعض قصص بورخيس المتفوقة ليست إلا عروض كتب أو مقالات نقدية. وعلى سبيل المثال، فإن إبداعات بورخيس تعاملت مع التراث الإنساني باعتباره تراثه القومي. أعلن أن تراثه هو ثقافة العالم، فلا يظل حبيسًا داخل الحدود الضيقة لمدينة بذاتها، ولا لبلد ذاته، ولا لقارة محددة. إبداعات بورخيس تطالعنا بالكثير من الاقتباسات والمقارنات والإشارات. لم يحبس بورخيس قراءاته ولا أفكاره ولا إبداعه، في سجن التراث القومي لبلاده مثلما فعل الأوروبيون. انطلق في كتاباته إلى الآفاق الثقافية الرحبة. استوعب أساطير اسكندنافيا، وسِيَر الشرق العربي، وشِعر الأنجلو ساكسون، وفلسفة الألمان، وأدب العصر الذهبي بإسبانيا، وشِعر الإنجليز، وشِعر هوميروس ودانتي، وضفَّر في أعماله آيات القرآن، وأحاديث الرسول، وليالي ألف ليلة وليلة، والعديد من الطُّرَف والنوادر والحكايات والإشارات الثقافية، مما يزخر به التراث الإبداعي العربي، بالإضافة — طبعًا — إلى التراث الإبداعي الغربي كنثر ستيفنسون وحكايات الساجا الأيسلندية وغيرها. ثمة تكامل في إبداع بورخيس بين الشعر والقصة القصيرة والمقال؛ ذلك كله يصب في بوتقة واحدة، من الصعب أن تميز فيها بين جنس فني وآخر. تداخلت مستويات القص؛ لم يعد الفضاء الروائي أو القصصي ينتهي بتلك الحدود الحاسمة التي كان يشترطها النقد قبل نشوء الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة؛ تشابكت المسميات والصفات، واختلطت.

•••

باختصارٍ، فإني أومن بالتراث، بوعيه وجدواه، وإمكانية استعادته واستمراره، تواصلًا مع المعطيات المعاصرة والحديثة. وكما يقول أندريه موروا، فإن كل قارئ من قراء القرن العشرين — أضيف: الحادي والعشرين — يعيد — لا إراديًّا — كتابة روائع القرون الماضية بطريقته الخاصة.

(الهلال، مارس ٢٠٠٢م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤