الإضافة في الفن

إذا كنت قد ألزمت نفسي — ذات صباح خريفي في مطالع الستينيات — أن أقرأ كل ما تصادفه يداي من أعمال إبداعية — روايات وقصص قصيرة على وجه الخصوص — فإن النتيجة التي أعانيها الآن هي أن الجديد في الإبداع الروائي والقصصي — هذا ما يشغلني — وفي فنيات الإبداع تحديدًا، مطلب في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى موهبة من حقها أن تنتسب إلى العبقريات. العادة في الندوات الأدبية أن يجامل آخِر المتحدثين مَن سبقوه، فيشير — بتواضعٍ غير حقيقي — إلى أنه لم يعد لديه ما يضيفه، وإن قرر — بينه وبين نفسه — أن يقذف بعصا موسى لتبتلع أفاعيل السحرة. ولأني لا أمتلك ما يهبني الثقة في تقديم «الإضافة»، فإني أكتفي بالغيرة الفنية — هل هذا هو التعبير الأنسب؟ — وأن أقرأ تلك الإضافات الجميلة في فنية القصة القصيرة والرواية.

الإضافة لا تعني الإلغاء، وإلا لألغينا أعمالًا روائية وقصصية مهمة في تاريخ أدبنا المعاصر، في ضوء أعمال نجيب محفوظ على سبيل المثال. الإضافة التي أقصدها، هي التي يحاول التجريب تقديمها، لا إضافة بدون تجريب. أو أن التجريب المتفوق يقدم إضافة؛ لا يوجد مبدع حقيقي لم يحاول أن يقدم إبداعًا غير مسبوق في مقولته وفنيَّته. قرأت لمحمد النويهي في أواخر الخمسينيات أن الأديب لا يمكن أن يكون عظيمًا إلا إذا ابتكر شكلًا فنيًّا جديدًا، وشقَّ طريقًا غير معروف ولا مألوف. وأضاف النويهي أنه مستعد لأن يسامح أدباءنا على كل ما يرتكبون في سعيهم نحو تحقيق هذه الصورة الملحَّة من خطأ وشطط، فهم يأملون أن ينتهوا من تلك التجارب إلى استكشاف سواء السبيل. وكانت قراءتي للنويهي مساوية من حيث التفاتي إلى ضرورة أن يضيف المبدع جديدًا، لما قرأته لمحمد مندور عن ضرورة أن تكون للمبدع فلسفة حياة.

•••

الإبداع هو إضافة شيء جديد إلى الوجود، لكن لابروبيير يذهب إلى القول: «كل شيء قد قيل، وقد أتينا بعد فوات الأوان، منذ ما يزيد على سبعة آلاف سنة، حين وجد أناس ومفكرون. أما العادات، فقد انتُزِع خيرها وأجملها، ولم يبق لنا إلا أن نلتقط سقط المتاع على إثر ما جمعه الأقدمون.» ويقول الكاتب الأيرلندي أوفلارتي: «إن أشد ما يؤلم الكاتب هو معرفته أن كل ما يقدمه قد قيل من قبل.» أصعب الأمور — أو أقساها — أن تبدع عملًا بتصورٍ أنه غير مسبوق، ثم يبيِّن توارد الخواطر — هذا هو التعبير الذي تفضِّله النصيحة المشفقة — عن الأعمال التي تلقي على عملك — غير المسبوق — ظل التأثر. وقد بدأ اهتمام جابرييل جارثيا ماركيث بفن القصة، حين قرأ قصة «المسخ» لكافكا. قرأ في أولها هذه الجملة: «عندما صحا جريجور سامسا ذات صباح، بعد أحلام مقلقة، وجد نفسه قد تحوَّل إلى خنفساء.» وأغلق جارثيا الكتاب فزعًا، وهو يهمس لنفسه: هل يمكن أن يحدث هذا؟ وكتب — في اليوم التالي — أول قصة له. وللكاتب الأمريكي اللاتيني ألفريدو كاردينا بنيا قصة بعنوان «آثار النمل على الرمل»، يعتذر لقرائه — بداية — عن إخفاقه في العثور على قصة جديدة لم يسبق أن قرأ مثلها. وعلى حد تعبيره فإن ألف ليلة وليلة مخزن لأكبر عدد من القصص الإنسانية. لقد أصبح هذا الكتاب نبعًا ثريًّا متعدد الروافد للعديد من القصص والحكايات التي تُروَى في كل أنحاء العالم، وجعل الكثير من الكتابات التالية لصدوره مجرد تقليد، أو نقل غير مبدع. وتنقَّل الراوي/الكاتب بين العديد من موضوعات الأحلام والحب، وحكايات الجنيات والعفاريت، وقصص الفزع والأشباح والأرواح الشريرة. ثم توصل — أخيرًا — إلى قصة وجد فيها تفردًا عن كل ما سبق تأليفه من قصص: «كان ذات مرة». وقرأ القصة على متلقين كُثر في أنحاء العالم، ثم أسلم عينيه لإغماضة الموت، وهو يبتسم في هناءة!

•••

ثمة مقولة: «هناك من يظن أنه ابتكر قصة، لكن هناك من اخترعها قبله.» وعلى حد تعبير إرسون Euerson فإن الأعمال — حتى الأصيلة — ليست أصيلة، بمعنى أن الأصالة لاحقة لأعمال سابقة. ويقول نورثروب فراي: «إن الشِّعر لا يمكن صنعه إلا من قصائد أخرى، والروايات لا يمكن صنعها إلا من روايات أخرى، والأدب يشكِّل نفسه، ولا يشكِّل شيئًا خارجًا عنه، وكل شيء جديد في الأدب هو إعادة تصنيع لشيء قديم.» ويضيف إرنستو ساماتو: «ليس ثمة تقدُّم في الفن، بل تغيُّر ومحطات وصول جديدة فقط.» فهل كل الكُتَّاب الذين ماتوا، والذين يعيشون، ومن سيولدون في الدنيا — والتعبير لإنريكي أندرسن إمبرت — مجرد أناس يقومون بالتكرار والتقليد وإعادة السبك والانتحال، ووجود صلات ضعيفة، أو قوية، بين النصوص؟

الكثير من الإبداعات الروائية والقصصية لا يضيف شيئًا إلى القصة والرواية، إنه مقيَّد بسيطرة العادي. إن التقاط سقط الحصاد لن يضيف إلى الفن، ولا إلى الفنان، والتعبير عن الخصوصية همُّ كل الأدباء — أو هذا ما أقدِّره — بصرف النظر عن انتماءاتهم السنية، أو الفنية. ليس بأملٍ أن يجدوا قارئًا لم يقرأ الأعمال السابقة عليهم — والقول لأندريه جيد — وإنما بأمل أن يجد القارئ تميزًا وإضافة عما كتبه أدباء الأجيال السابقة.

مشكلة المبدعين — في زمننا الحالي — هي ما عبَّر عنه موباسان — منذ عشرات الأعوام — في قوله: «من يكتب اليوم لا بد أن يكون مجنونًا أو جسورًا أو وقحًا أو غبيًّا؛ فبعد كل هؤلاء الأساتذة العباقرة، ماذا تبقى لنا أن نفعل؟ ماذا نقول بعد كل ما قيل؟ من منا يمكنه أن يفخر أنه كتب صفحة أو جملة، لا يوجد مثلها في كتاب ما.»

وحين كنَّا نحتفي بطريقة تيار الشعور — كما جاءت على استحياء في ثلاثية نجيب محفوظ (أواسط الخمسينيات)، أو بصورة واضحة في «الطريق» و«اللص والكلاب» (أوائل الستينيات) — فقد كان رأي «أولسوب» أن أحدًا من الكُتَّاب الإنجليز المعاصرين لن يجرؤ على استخدام تكنيك الشعور حتى لا يُتَّهَم باتِّباع أسلوب عتيق عفى عليه الدهر.

المقولة الشهيرة تؤكد أن الأفكار ملقاة على الأرصفة، لكن فلوبير ينصح كُتَّاب الأجيال التالية بألا يكتبوا شيئًا دون أن يشعروا بما لم يشعر به، أو عبَّر عنه، كُتَّاب آخرون. الجديد اكتشاف وإضافة وارتياد مناطق لم يسبق ارتيادها (أذكِّرك بمقولة الفنان التشكيلي الفرنسي سيزان: «إنني أريد أن أرسم، وكأن رسامًا واحدًا لم يقم بهذه المهمة من قبلي.»). ولعلِّي أعتبر كل عمل أبدأ في كتابته تجربة أولى. قد يشابه — في فنَّيته — أعمالًا لي سابقة، وقد يختلف مع ما سبق أن كتبته.

الحبكة تعني الخطة التي نكتب في ضوئها العمل الفني. أوافق على أن الحكي هو أساس الرواية، لكن الحكي المتتابع، المتسلسل، لم يعُد شرطًا صارمًا للعملية السردية، فضلًا عن الحبكة التي تصنع فنية العمل الإبداعي. وكما يقول أ. م. فورستر فإن القصة هي حكي لأحداث مرتَّبة حسب تتابعها الزمني، بينما الحبكة تنظم الأحداث تبعًا لإدراك ما بينها من أسباب وعلل. ثمة المحاولات التجريبية التي تحاول كسر قواعد الرواية الواقعية، والتحرر من تقاليدها شبه الثابتة، وتفيد من لغة الشعر، ومن الإيقاعات الجمالية، وتترك النص الروائي مفتوحًا.

إن عوليس تستغرق ثماني عشرة ساعة من الحياة اليومية، وإن احتلت مئات الصفحات. ورواية جابرييل جارثيا ماركيث «خريف البطريرك» تتكوَّن من ستة فصول، بلا أرقام أو عناوين تبدأ بها. إنما مساحة بيضاء صغيرة تفصل بين كل فصل والفصل الذي يليه. وتتواصل السطور دون أن يعوضها فواصل إلا القليل من النقط. وكانت تلك — فيما أقدر — بداية تقنية أسلوبية في الأدب العالمي كله. وفي رواية «المسيح ضد أريزونا» لكوميلو خوسيه ثيلا يعتمد الفنان تقنية الرواية الدائرية، إلى جانب تشابك التقنيات الروائية الحديثة بصورة لافتة، فأحداثها تستغرق ٢٣٨ صفحة، يبدأ فيها الراوي الحكي، ثم يتوقف في منتصفها عن السرد، ويحل مكانه شخص آخر يكمل الحكاية، ونكتشف أن الراويين هما شخص واحد، غيَّر اسمه ولقبه وبعض حياته. الرواية سرد متصل، لا يتوقف؛ تختفي الفصول وعلامات الترقيم — عدا الفاصلة — وتختفي النقاط إلا نقطة النهاية. إن البطل بالمعنى المتواتر يغيب عن هذه الرواية؛ ليس ثمة بطل محدد بين الشخصيات التي تزيد على ٤٥٠ شخصًا … والأمثلة كثيرة.

•••

ظل الإبداع السردي العربي يتمثَّل التجربة الغربية وفق مفهوم الحبكة، وفي ضوء متغيرات الواقع العربي. ثم لم تعد الرواية — ولا القصة القصيرة — تشترط ملاحظة إ. م. فورستر أن تكون عبارة عن قصِّ حوادث حسب ترتيبها الزمني، الغداء بعد الإفطار، والأحد بعد السبت، والموت بعد الحياة، والتحلل بعد الموت … إلخ. القصة الحديثة — هذا هو التعبير الذي يحضرني — تهمل السرد المتتالي للأحداث، الأحداث المتصلة، وإن اتصلت الفجوات والفقرات، وتلاصقت؛ لتصنع اكتمالًا فنيًّا من خلال حبكة واعية. ثمة تداخل في الأزمنة والأمكنة، وفي الأنواع الأدبية، وفي الأنواع الفنية بعامة. إن كل ما يخدم القص تفيد منه الرواية. ليس ثمة ما لا تقبله الرواية؛ إنها تجاوز حدود الزمان والمكان، وتتماهى مع الأجناس الأدبية — والفنية — الأخرى. ثمة الكولاج، والمونولوج الداخلي، وإدخال عناصر من السيرة الذاتية، واستخدام الأقواس، وعلامات الترقيم، واستخدام أبناط مختلفة، وأنماط مختلفة من الخطوط … إلخ.

وبالنسبة لي، فإن الفن — كما يقول نورثروب فراي — يبدأ حالما تنقلب «أنا لا أحب هذا» إلى «ليست هذه الطريقة التي أتخيله بها». ودون تطلع إلى محاولة تجاوز الأستاذية التي أدين بها للعشرات ممن كتبوا بالعربية وبلغات أخرى، فليس ثمة المبدع الذي أتوق إلى تحطيمه، تخلصًا من مأزق تأثيره في فهمي للإبداع، وفي إبداعه نفسه، وذلك لسببٍ بسيطٍ هو أني قد أفلحت — من زمن بعيد — في التخلص من كل التأثيرات. أنا أكتب ما يعبِّر عن رؤيتي، وذاتيتي الخالصة، في الفنية واللغة والسرد والحوار … إلخ. لذلك، فقد أديت صلاة الجنازة على مجموعتي القصصية تلك اللحظة عقب صدورها مباشرة. تبينت — في معظم قصصها — أجنة غير مكتملة، أو أنها نواة لتجارب لاحقة، لقصص قصيرة تالية. فهي — بلغة الفن التشكيلي — أقرب إلى الاسكتشات التي تُعَد إرهاصًا، أو مقدمة، للأعمال المتكاملة.

روايتي «إمام آخر الزمان» تقوم على التكرار، لكن تعدد الحالات التي يقدمها هذا التكرار يجعله — في تصوري — مطلوبًا. فإمام الفصل الثاني يختلف — في أفكاره وما يدعو إليه وممارساته — عن الأئمة في الفصول التالية. وحين يقتل الناس مَن بدا كأنه الإمام الحقيقي، فلأن القارئ كان تابع توالي الأئمة بكل ما عبَّروا عنه من تناقضات.

ولرواية «بوح الأسرار» — المتعددة الأصوات — أنصارها من النقاد المعاصرين مثل رولان بارت وباختين وغيرهما. ثمة العديد من النقاد — كما يقول رامان سلدن — يرون أن الرواية المتعددة الأصوات أقرب إلى التعبير عن حقيقة الأدب من النصوص الأحادية المعنى (المونولوج). في قصة «الآنسة كورا» لخوليو كوتا ثار تتعدد الأصوات داخل القصة، لكن التعدد يتداخل، ولا تفصله تقنية ما، فهو يختلف — مثلًا — عن «ميرامار» محفوظ، ورباعية «داريل»، ورجل فتحي غانم الذي فقد ظله، وحتى عن «بوح الأسرار». ليس ثمة توقف عند نهاية فقرة لأحد الأصوات، ليقدم الفنان بالتالي صوتًا آخر يروي الحدث من وجهة نظر مغايرة، وإنما الأحداث تختلط وتتشابك وتستمر إلى نقطة النهاية، من خلال تعدد متداخل للأصوات، لا تفصله نقط ولا فصلات، ولا أدوات وصل من أي نوع. ولعل السؤال الذي يلقيه القارئ على نفسه: من يقول الصدق بين الشخصيات المتكلمة، ومن يقول الكذب؟

ظني أن الإجابة يملكها القارئ وحده؛ هو الذي سيتأمل الروايات المتباينة، وتحرِّي أقربها إلى الصدق وأبعدها عنه.

وإذا كان تعدد الأصوات يعني رواية الحدث على لسان إحدى شخصيات الرواية، ثم يُروَى الحدث نفسه من زاوية أخرى، على لسان شخصية أخرى، ثم يرويه شخص ثالث من زاوية مغايرة، وهكذا، حتى تكتمل الصورة في النهاية. إذا كان ذلك كذلك، فإن الأحداث في «رباعية بحري» تتوالى كما يرويها الراوي العليم، وهو الكاتب نفسه، فيما عدا المونولوج الداخلي، والتداعي، والاسترجاع، والفلاش باك، والتقطيع السينمائي، وتداخل الأزمنة، وعناصر اللون والضوء والموسيقى، وغيرها من التقنيات التي ربما يفرضها العمل. لكن اللوحات المنفصلة، المتصلة، التي تتشكَّل منها «رباعية بحري» لا تجاوز الرواية الواحدة، رواية الراوي العليم لا رواية الأصوات المتعددة.

والراوي — في الحكي الذي كتبت به روايتي «النظر إلى أسفل» — لا يتجه إلى القارئ وحده، لكنه قد يتجه إلى متلقٍّ آخر في داخل العمل، متلقٍّ مشارك، أو غير مشارك، في الحدث القصصي، لا يراه القارئ وإن تخيله. يتجه إليه الراوي بما يقول، فهو قارئ مفترَض، متلقٍّ اخترعه الكاتب وتصوره القارئ. المتلقي الحقيقي للعمل، وإن اختلف عنه المتلقي داخل العمل في أنه جزء من العمل بالمشاركة، أو أنه يتحدد في إطار السلبية، لا يسهم في تجسيد الحدث القصصي ولا نموه. ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل. ولعلِّي أشير إلى روايتي «النظر إلى أسفل» فلا أحد على مستوى النقد المتخصص، أو القراءة العادية تعرَّف إلى ذلك المتلقي: هل هو صديق لشاكر المغربي؟ هل هو وكيل النيابة؟ هل هو محقق الشرطة؟ هل هو شاكر المغربي نفسه؟ صعب القول بتعريف محدد، لأن المتلقي الذي تتجه إليه الرواية — في داخلها — غير مشارك، فهو غير موجود فعلًا، وتغيب من ثَمَّ ملامحه الجسمية والنفسية.

العادة أن يبدأ الراوي في سرد الحكاية، بعد أن يصل إلى النهاية السعيدة، أو في الأقل: النهاية التي ينجو فيها بحياته. لا مشكلات تمنعه من أن يسترخي، ويبدأ الحكي. من يبدأ في رواية ما حدث، فهو لا بد أن يكون قد وصل إلى نهاية ذلك الحدث. أنا لا أستطيع أن أصارع الأمواج — على سبيل المثال — وأروي — في الوقت نفسه — ظروف ذلك الصراع، ولا كيف يحدث ما يحدث. لكن شاكر المغربي بدأ يروي بعد أن قتل نادية حمدي، وواجه مصيرًا قاسيًا. وهو قد واجه النهاية دون أن يتخلى عن تقديسه لذلك الفعل السحري، كما يصف جورجي جاتشيف «الفتشية»، والخضوع له.

وفي مقالة متميزة وممتازة عن الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، طرح نصر حامد أبو زيد عدة أسئلة هي: ما العلاقة بين المؤلِّف والنص؟ وهل يُعَد النص الأدبي مساويًا حقيقيًّا لقصد المؤلف العقلي؟ وإذا كان ذلك صحيحًا، فهل من الممكن أن يتمكن الناقد أو المفسِّر من النفاذ إلى العالم العقلي للمؤلف من خلال تحليل النص المبدع؟ وإذا أنكرنا التطابق بين قصد المؤلف والنص، فهل هما أمران متمايزان منفصلان تمامًا؟ أو أن ثمة علاقة؟ وما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وكيف نقيسها؟ … إلخ (فصول، أبريل ١٩٨١م).

روايتي «الصهبة» — في رؤيتي النقدية — أقرب إلى رواية تكوين الشخصية التي يواجه المرء فيها ظروفًا غير مواتية، سواء على المستوى الأسري أو الاجتماعي، ويقع ضحية انقسام بين الحلم والواقع، لكنه ما يلبث أن يتخلى عن ذلك برفض مجتمعه من ناحية، ومحاولة تحقيق طموحاته الشخصية من ناحية ثانية. أنت في «الصهبة» لا تدري أين يبدأ الواقع، وأين ينتهي الخيال؟ أين الحقيقة، وأين الحلم؟ حتى منصور سطوحي نفسه، لم يدرِ: ما الذي جرى في الحلم، وما الذي جرى في الواقع؛ اختلطت الرؤى، وتشابكت، وامتزج الحلم والواقع. ولعلِّي أستطيع أن أصِف الشاطئ الآخر في إطار مصطلح «الرومانسية الحديثة»، فهي جديدة وليست تقليدية، وتستند إلى فترة مهمة من تاريخنا الحديث. وإذا كانت ألف ليلة وليلة تنتمي إلى القصة الإطارية، أي القصة الواحدة التي تتفرع منها قصة ثانية، وتتفرع من القصة الثانية قصة ثالثة، وهكذا. فإن حواديت شهرزاد — في روايتي «زهرة الصباح» — كانت تحاول إلغاء الموت، أو تأجيله. تواصُل الحواديت وتشابكها، يعني استمرارية الأمل في الحياة. وكان الهدف من حفظ زهرة الصباح لعشرات الملاحم والحكايات والحواديت والسِّيَر والقضايا والنوادر، إلى آخر ما أعاده عليها أبوها عبد النبي المتبولي. كان الهدف تحقيق ما هو أشبه بسباق التتابع الذي تلتقط فيه التالية العصا من التي سبقتها. كان ذهاب شهرزاد إلى الموت — لو أن ذلك قد حدث — هو نهاية المسافة التي قطعتها في السباق، لتحاول زهرة الصباح أن تعدو مسافة أخرى، تهَب أفقها المحدود ما حفظته من حواديت وحكايات.

لقد تداخلت الحدود بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة الرواية. اتسع المجال السردي للرغبة في البوح، ورغبة القص، ومزج الواقعي بالخيالي، والحقيقي بالمجازي، والتعبير عن الذات بعامة من خلال تقنيات مستحدثة. والحق أني لم أحاول الإفادة من الحرية التي ربما تتيحها لي السيرة الذاتية/الرواية، لما كتبت روايتي «مد الموج». لقد حرصت على أن أسجل ما حدث، ما رأيته بالفعل، ما استمعت إليه بالفعل، ما عشته بالفعل، لم أضِف، ولم أحذف، ولا حتى لضرورة فنية أو أخلاقية. وحين أراد سارتر أن يقول الحقيقة — على حد تعبيره — فإنه تعمَّد أن يقولها في عمل تخييلي، وهو ما أثق أني لم أفعله. لقد قلت الحقيقة دون حذف أو إضافة، دون نقصان أو زيادة؛ الحقيقة كما استقرَّت في الذاكرة. «مد الموج» — في تقديري — رواية بوح بأكثر من أن تكون رواية سيرة ذاتية. أنا — الكاتب/الراوي — أحيا في الحاضر، وأسترجع ومضات من مساحات الماضي. وفي روايتي «اعترافات سيد القرية» أتأمل القول إن شخصية الفنان هي محصِّلة الشخصيات التي يحفل بها إنتاجه. إن زاو مخو في اعترافات سيد القرية من اختراع خيالي، لا أتصور أنه يوجد في داخلي شيء منه. وفي روايتي «زمان الوصل» تناوب صوت الراوي في المضارع مع صوت الكاتب في الماضي. هما صوتان: صوت الراوي، والصوت العليم بكل شيء. الراوي يحكي ما يعرفه، لا يجاوز ما حدث له شخصيًّا، ومن خلال وجهة نظر قد تكون صحيحة، وقد تكون كاذبة. أما صوت الكاتب فهو يحاول أن يقدم كل وجهات النظر. وأفدت — من حيث الشكل — من عمودية الخطوط ومَيْلها، فالخطوط العمودية تنقل رواية الراوي عن المضارع، والخطوط المائلة تنقل رواية الكاتب عن الماضي.

«ألف ليلة وليلة» تنتمي إلى القصة الإطارية، أي القصة الواحدة التي تتفرع منها قصة ثانية، وتتفرع من القصة الثانية قصة ثالثة، وهكذا. وفي روايتي «زهرة الصباح» كانت حواديت شهرزاد تحاول إلغاء الموت، أو تأجيله. تواصُل الحواديت وتشابُكها، يعني استمرارية الأمل في الحياة. وكان الهدف من حفظ زهرة الصباح لعشرات الملاحم والحكايات والحواديت والسِّيَر والقضايا والنوادر، إلى آخر ما أعاده عليها أبوها عبد النبي المتبولي. كان الهدف تحقيق ما هو أشبه بسباق التتابع الذي تلتقط فيه التالية العصا من التي سبقتها. كان ذهاب شهرزاد إلى الموت — لو أن ذلك قد حدث — هو نهاية المسافة التي قطعتها في السباق، لتحاول زهرة الصباح أن تعدو مسافة أخرى، تهب أفقها المحدود ما حفظته من حواديت وحكايات.

إن قيمة القصة في الحبكة، في فنيَّة القص بأكثر من تيمة القص. الحبكة تعني الخطة التي نكتب في ضوئها العمل الفني. أوافق على أن الحكي هو أساس الرواية، لكن الحكي المتتابِع، المتسلسل، لم يعُد شرطًا صارمًا للعملية السردية، فضلًا عن الحبكة التي تصنع فنية العمل الإبداعي. لم تعُد الرواية — ولا القصة القصيرة — تشترط ملاحظة إ. م. فورستر أن تكون عبارة عن قص حوادث حسب ترتيبها الزمني، الغداء بعد الإفطار، والأحد بعد السبت، والموت بعد الحياة، والتحلل بعد الموت … إلخ. ثمة تداخل في الأزمنة والأمكنة، وفي الأنواع الأدبية، وفي الأنواع الفنية بعامة. إنَّ كل ما يخدم القص تفيد منه الرواية، ليس ثمة ما لا تقبله الرواية؛ إنها تجاوز حدود الزمان والمكان، وتتماهى مع الأجناس الأدبية الأخرى.

•••

أصارحك أنه لو أن أعمالي التي تلي البدايات جاءت مشابهة، أو استمرارًا على نحوٍ ما، لأعمال الأجيال السابقة، فقد كان ينبغي أن أتوقف، لأني لن أضيف، ولا أقدم المغاير، أو الصوت الخاص، بصورة مؤكدة. أتفق مع جابر عصفور في رأيه بأن الرواية الحقيقية هي التي تضع أداة النفي «لا» في مواجهة الروايات السابقة عليها، بادئة من نقطة مغايرة، باحثة عن ما تنفرد به في إضافتها الكيفية لا الكمية (زمن الرواية، ٦٥).

إن الأصالة هي أن يخوض الفنان مغامرة الخروج عن السائد والمألوف، واستكشاف الآخر وما بداخل النفس، وامتلاك ما لديه. إنه يوظف السيرة الذاتية والسيرة الغيرية والتاريخ والشعر والدراما والخطابة والأسطورة والخرافة والملحمة والسيرة والطُّرفة والمثل والرسالة والحكاية والرحلة والحلم وغيرها.

الأصالة هي القدرة على الانسجام مع عناصر الجِدة وتحمُّل تبعاتها. أتذكر قول خوليو كورناثر «إن الطبيعة الحقيقية للأشياء لا تكمن في قوانينها، وإنما في الشذوذ عنها.» وفي تقدير ألان روب جرييه «أن امتداح كاتب شاب اليوم، لأنه يكتب مثل ستندال، ينطوي على غشٍّ مزدوج. فمن ناحية إن هذه العبارة لا تنطوي على شيء يثير الإعجاب، ومن ناحية أخرى، إنها مستحيلة تمامًا. فللكتابة مثل ستندال يجب — أولًا — أن يعيش المرء في سنة ١٨٣٠م. فالكاتب الذي ينجح في إخراج صورة مقلدة بارعة، إلى حد أن تكون صفحاته صالحة لأن يوقعها ستندال في ذلك الزمن … مثل هذا الكاتب لن تكون له اليوم القيمة نفسها التي كانت تكون له، لو أنه كتب هذه الصفحات نفسها في عصر شارل العاشر، أو قبل ستندال بمائة وثمانين سنة تقريبًا.» لقد اطمأن الكثير من الروائيين — والدارسين أيضًا — ذات يوم، أن زمن الرواية قد انتهى، لكن المبدعين المتميزين: ماركيث ويوسا ومحفوظ وكونديرا وغيرهم، أعادوها إلى موضعها وتميزها، أو على حد تعبير أنطونيو مونيوث مولينا «بدايتها الأسطورية» (ت. طلعت شاهين). ولعلِّي أذكِّرك بقول أندريه جيد «إن ما كان في استطاعة غيرك أن يفعله، فلا تفعله. وما كان في استطاعة غيرك أن يقوله، فلا تقُله. وما كان في استطاعة غيرك أن يكتبه، فلا تكتبه، وإنما تعلَّق في ذاتك بذلك العنصر الفريد الذي لا يتوفر لدى أحد غيرك، واخلق من نفسك — بصبرٍ وأناة، وبتعجُّلٍ ولهفة — ذلك الموجود الوحيد الذي هيهات لأحدٍ غيرك أن يقوم بديلًا فيه.»

المرتقى صعب كما ترى.

(١٩٩٤م، بإضافات)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤