تقديم

ليس في التاريخ الإسلامي، بعد رسول الله ، رجل تُرَدِّدُ الألسن اسمه ما تردد اسم عمر بن الخطاب، وهي تُردده وتقرن به، في إعجاب وإكبار، ما عرف عن عُمر من جليل الصفات وعظيم المواهب، فإذا ذكر الناس الزهد في الدنيا مع القدرة على النهل من أنعمها ذكروا زهد عمر، وإذا ذكروا العدل المطلق غير مشوب بشائبة ذكروا عدل عمر، وإذا ذكروا النزاهة لا يفرق صاحبها بين أقرب الناس إليه وأبعدهم عنه ذكروا نزاهة عمر، وإذا ذكروا العلم والفقه في الدين ذكروا فقه عمر ودينه، وأنت تتلو من أنباء ذلك في الكتب ما تحسب الكثير منه مبالغة لا يكاد العقل يصدقها؛ فهي أدنى إلى المعجزات التي تنسب إلى الأنبياء منها إلى ما عرف عن أكبر العظماء سموًّا وجلال قدر.

ويرجع ذلك إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية في عهده، فقد خلف عمر أبا بكر على إمارة المؤمنين حين فرغ أبو بكر من حروب الرِّدَّة، وحين كانت جنود المسلمين تواجه الفرس والروم على تخوم العراق والشام، فلما قُبض عمر كانت الإمبراطورية الإسلامية قد اشتملت العراق والشام جميعًا، وقد تخطتهما فاشتملت فارس ومصر، بذلك بلغت حدودها الصين من الشرق، وإفريقية من الغرب، وبحر قزوين من الشمال، والسودان من الجنوب، وقيام هذه الإمبراطورية العظيمة في عشر سنوات معجزة لا ريب، والمعجزة أعظم قدرًا بعد أن تحطمت فارس والروم الإمبراطوريتان صاحبتا السلطان على عالم يومئذ، وتحطمتا بأيدي العرب الذين كانوا إلى سنوات قبلها قبائل متنافرة لا تهدأ منازعاتها ولا تطمئن فيما بينها إلى قرار.

أما وقد تمت هذه المعجزة في عهد عمر وبتوجيهه فهو، لا جرم، رجل عظيم، وقد بدت بوادر هذه العظمة في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر، ثم ضاعف نصر المسلمين من بعدهما قدرها، كما زادها مر العصور وأضاف إليها، فقد تبين الناس على تعاقب الأجيال أن هذه الإمبراطورية لم تكن وليدة عبقرية حربية تبقى الإمبراطورية ما بقيت وتزول بزوالها، بل كانت قائمة على أساس قوي من خلق متين وحضارة سليمة الأساس، فإذا صح أن يُشيد الناس بعظمة يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر وجنكيزخان ونابليون؛ لأنهم أقاموا من الإمبراطوريات ما أقاموا، فأحْرِ بهم أن يكونوا أكثر إشادة بعظمة عمر بن الخطاب وأكبر قدرًا لآثارها.

تمت المعجزة بقيام الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر، فقد كان المسلمون، إلى يوم استخلف، يخشون الفرس والروم، ولذلك اثَّاقلوا حين ندبهم عمر للذهاب إلى العراق يواجهون الفرس فيه، وكان لهم من العذر عن تثاقلهم أن كان اسم فارس لا يزال يزلزل القلوب والأسماع، وكان جند المسلمين قد جلوا عن العراق بعد ذهاب خالد بن الوليد إلى الشام بأمر أبي بكر، وأقام الناس على تثاقلهم أيامًا، ثم لبى أبو عبيد الثقفي دعوة عمر وذهب في بضعة آلاف يلقى جنود كسرى، فنُكب في غزوة الجسر إذ مات وانهزم جيشه.

ولم تزعزع هزيمته من عزمة عمر، بل زادته إقدامًا ودفعته لينهض بنفسه على رأس المسلمين يريد مواجهة الفرس ليمحو عار تلك الهزيمة، وقد كان فاعلًا لولا أن صرفه أولو الرأي عما أراد، عند ذلك أرسل سعد بن أبي وَقَّاصٍ مكانه، وظفر سعد بالفرس في غزوة القادسية ظفرًا حاسمًا؛ فتح له أبواب عاصمة الفرس، وفتح للمسلمين أبواب فارس جميعًا، وفي هذه الأثناء كان أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ وخالد بن الوليد يسيران مظفَّريْنِ في الشام، يردان هرقل عاهل الروم على أعقابه، ويدفعانه دفعًا ليفر إلى عاصمة ملكه.

تم ذلك ولما تنقضِ من خلافة عمر سنتان، ومن يومئذ حالف النصر أعلام المسلمين حيثما ساروا، ففتحوا المدائن وفتحوا بيت المقدس، ثم تخطوا العراق إلى فارس، وتخطوا الشام إلى مصر فاستقر لهم الأمر فيهما، وكذلك شاد عمر الإمبراطورية الإسلامية في عشر سنوات لتستقر في العالم، وتوجه حضارته الأجيال والقرون.

أليس من حق عمر، وذلك شأنه، أن تردد الألسن اسمه، وأن تذكر من جليل صفاته وعظم مواهبه ما يثير في النفس غاية الإعجاب والإكبار!

وهذا الإكبار يدعونا لتمحيص التاريخ وتحقيق وقائعه، حتى نستكشف العوامل التي أتاحت لعمر تشييد الإمبراطورية، فلولا أن تضافرت عوامل عدة لما كَفَتْ عبقريته وحدها لتشييدها.

وقيام الإسلام أول هذه العوامل وأقواها، فالإسلام هو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل من قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم لإذاعة تعاليمه وإعلاء كلمته ودَفْع من يريدون فتنة الناس عنه.

فقد كان العرب قبل إسلامهم ضعافًا أمام الفرس والروم، وكانت مناطق كثيرة من بلادهم خاضعة لنفوذ كسرى ونفوذ قيصر، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الزوال عن شبه الجزيرة كلها، مع ذلك ظلت هيبة الفرس والروم آخذة بنفوسهم، حتى لقد حسبوا، حينما دُعوا لغزو العراق ولغزو الشام، أن حصونهما لا تُؤخذ، وأن جنودهما لا تُقهر، لكنهم لم يلبثوا، حين تخطوا التخوم وواجهوا هذه الجيوش وحاصروا هذه الحصون، أن تبينوا أن السوس نخرها، فهي كالجدار المتداعي، تنقض أعاليه لأول صدمة، وتندك أسسه ما وجدت المعول القوي الذي يأتي عليها من القواعد.

وإنما قدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام أنشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحًا أحالتهم خلقًا جديدًا، ذلك بأنه اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدها وعباداتها، واتصل بوجدانهم في صميمه، فألقى فيه بذرة التوحيد صافية الجوهر، نقية من كل شائبة، بسيطة لذلك كل البساطة، ثم إنه فرض عليهم من العبادات ما زادهم بالتوحيد إيمانًا وما ربط بين قلوبهم بأوثق رباط، فرض عليهم الصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فأما ما وراء ذلك من سالف شعائرهم فقضى عليه إلى غير رجعة، بذلك تحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثَنِيَّة، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحًا وأجاب داعي الله.

ولم يفرض الإسلام هذه العبادات على أنها شعائر رسمية من شأن الدولة، بل هي فروض الله على المؤمنين به يثيبهم عنها، ويؤاخذهم بتركها، فمن آمن بالله ثم لم يؤدِ لله فرضه فعلى الله حسابه، ومن أدى فرض ربه وعمل صالحًا فله عند الله مثوبة الصالحين، وأَعْظِمْ بها من مثوبة!

أخذ هذا الإيمان بمجامع القلوب فجمع بينها، فانتقل أثره من الفرد إلى الجماعة، وما كان أعظم هذا الأثر! كان المسلمون يجتمعون للصلاة، فيربط اجتماعهم بينهم، ويمحو توجههم إلى الله ما في نفوسهم من غل، فإذا هم إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤدون فريضة الصوم فإذا غنيهم وفقيرهم سواسية أمام الله والناس، وإذا غنيهم طهر الصوم نفسه يعطف على فقيرهم فينال رضا الله عنه ومثوبته له، ويؤتون الزكاة فتزيل ما بين طوائفهم من نضال؛ لأنها تجعل للفقير حقًّا معلومًا في مال الغني، ويجمعهم الحج كل عام من مختلف بقاع الأرض، ليتواصوا بالصبر والصلاة، وليتعاونوا على البر والتقوى.

وكان النظام الاجتماعي الذي سنه الإسلام بسيطًا كالنظام الروحي، فكان له مثل أثره في توحيد الجماعة العربية، كانت المساواة أمام الله أساس التوحيد الإسلامي، والمساواة أمام القانون أساس النظام الاجتماعي، فقد كانت المرأة العربية تعامل قبل الإسلام معاملة غير كريمة، فرفعها الإسلام إلى مقام الكرامة، وجعلها مساوية للرجل أمام الله؛ وإنما فضل الرجل عليها بما أنفق من ماله وما عاملها بالمعروف وجعل صلته بها صلة مودة ورحمة، وكان الفقراء يسامون المهانة، فرفع مكانهم إذ جعل تفاضل الناس عند الله بالتقوى لا بالمال، هذه القواعد وما إليها مما نظم الوحي به شئون الجماعة العربية لعهد رسول الله، وما جعله نظامًا للجماعة الإنسانية كلها، قد كان له من الأثر في توحيد العرب وتقوية روحهم المعنوية ما قامت الإمبراطورية الإسلامية على أساسه.

وقد بدت آثار ذلك في حياة الرسول، وبدت تباشير الإمبراطورية المقبلة من خلاله، ففي السنة السابعة من هجرته إلى المدينة بعث رسله إلى قيصر وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يدعونهم إلى الإسلام، وقد أغلظ كسرى لرسوله في الجواب، وبعث إلى بازان عامله على اليمن ليجيئه برأس «هذا الرجل الذي بالحجاز»، لكن كسرى قُتل قبل أن تصل رسالته إلى بازان، وشعر هذا الأمير الفارسي بقوة محمد وأصحابه، فخلع عن اليمن نير الأكاسرة، وانضم إلى رسول الله، فكان انضمامه الخطوة الأولى في تحرير البلاد العربية من ربقة النير الأجنبي.

وكان رسول الله لا يفتأ بعد ذلك يفكر في الروم ومناجزتهم، فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة سار على رأس جيش العُسرة إلى تبوك؛ وسمع الروم بمَقْدَمِه فخافوه وانسحبوا داخل حدود الشام ولم يلقوه، مع ذلك صالح يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة كما صالح أهل الجرباء وأذرُح على الجزية، وأيلة والجرباء وأذرح من أعمال الشام الخاضعة لسلطان الروم، بذلك كانت تبوك قاضية على كل نفوذ للروم في شبه الجزيرة، وكانت أول إرهاص باتجاه الإمبراطورية الإسلامية إلى ناحية الشام.

اختار الله رسوله إليه، فبايع المسلمون أبا بكر بخلافته، وخيل إلى جماعة من العرب أنهم قادرون على الثورة بخليفة الرسول وبدينه، فكان انتصار أبي بكر في حروب الرِّدَّة دليلًا قاطعًا على أن العرب أشربت نفوسهم مبادئ التوحيد؛ ولذلك لم يقل أحد من الذين ادعوا النبوة إنهم يدعون الناس إلى وثنيتهم وإلى جاهليتهم الأولى، كما دل على أن الذين امتثلوا هذه المبادئ من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار قد وهبوا لها نفوسهم فلا غالب لهم، من ثَمَّ أسرعت وحدة العرب إلى التماسك والثبات، فلم يمضِ عام على خلافة أبي بكر حتى كان المسلمون يواجهون الفرس في دلتا الفرات فيقهرونهم، ولم ينقضِ العام الثاني حتى كانوا يواجهون الروم في الشام ويثبتون لهم، وكذلك مهد أبو بكر للفتح وللإمبراطورية بعد أن هيأ الدين الجديد لها القلوب والأفئدة، ثم تابعه عمر فدفع بالإمبراطورية إلى الحدود التي ذكرناها.

هذه اللمحة السريعة عن نشأة الإمبراطورية تشهد بأن الإسلام دفع إلى نفوس العرب قوة معنوية عظيمة حفزتهم لطرح نير الأجنبي عن كواهلهم، وللاندفاع إلى ما وراء تخومهم، ومواجهة الفرس والروم في أعقار دورهم، والقوة المعنوية أسُّ الظفر في كل نضال، ذلك بأن صاحبها لا يعرف الهزيمة ولا يرضاها؛ فإذا ارتد يومًا لم يوهن ذلك من عزمه، بل حفزه لمضاعفة الجهد، وجعله يستهين بكل صعب، ويستهين بالحياة نفسها في سبيل الظفر بالغاية التي يريد بلوغها، وتاريخ العالم من أقدم العصور إلى وقتنا الحاضر شهيد بأن الفوز في النضال قد كان دائمًا لصاحب العقيدة الثابتة والإيمان الراسخ؛ لأن هذا الإيمان وهذه العقيدة يورثان صاحبهما من القوة ما يجعل الجبل إذ يقول له انتقل من مكانك ينتقل.

أقامت العقيدة إذن بناء الإمبراطورية الإسلامية، ومن هنا كان الرسول بهذه العقيدة، محمد ، هو الذي وضع الأساس الثابت لهذا البناء، ثم كان صفيه وخليله أبو بكر هو الذي مهد لقيامه بما قضى على الذين حاولوا مناوأة هذه العقيدة، وحين دفع العرب فتخطوا تخوم العراق وتخوم الشام، وجاء عمر من بعده فأتم هذا البناء وتركه متين الدعائم، فازدادت رقعته فسحة بقوته الذاتية المنبعثة من روح الإسلام، وظلت هذه الرقعة تنفسح، حتى أصاب الفكرة الدافعة لإقامة الإمبراطورية ما أصابها؛ إذ غشت عليها أوهام، ما أشبهها بأوهام الجاهلية، أثارت التنازع والبغضاء بين المسلمين.

وقد روينا حديث التاريخ عن عهد رسول الله وعهد أبي بكر، فرأينا ما كان لهذه القوة المعنوية من أثر في نفوس المؤمنين بالعقيدة الباعثة لها، وفي هذا الكتاب من أعمال البطولة التي قام بها المؤمنون في عهد عمر ما يثبِّت إيمانك بأثر هذه القوة، وما يُدحض قول الذين قالوا: إنما اندفع المسلمون لقتال الفرس والروم حبًّا للغزو وتهافتًا على مغانمه، فكيف لأمة قليلة العدد والعدة أن تخاطر بغزو جيران يزيدون عليها في العدد والعدة أضعافًا مضاعفة، لغير شيء إلا إرضاء هوى الغزو الكمين في طبعها! ومتى وهب الناس حياتهم راضين طمعًا في مغنم قد تذهب حياتهم قبل أن يبلغوا منه قليلًا أو كثيرًا! ألا إنه الإيمان الصادق بالعقيدة السليمة هو الذي سما بنفوس هؤلاء المسلمين الأولين فخلدوا على التاريخ من صحف المجد ما قل في التاريخ نظيره، وليس هذا التقديم موضعًا لسرد ما فعلوا، فسيجده القارئ مفصلًا في خلال الكتاب، مقنعًا كل منصف يريد الاقتناع بالحق بأن القوة التي بثها الإسلام في نفوس الذين أخذوا في ذلك العهد بمبادئه هي التي دفعتهم إلى ميادين المجد والشرف، وهي التي حببت إليهم الاستشهاد في سبيل الدعوة إلى الحق الذي أوحاه الله إلى رسوله، ومن أحب الاستشهاد في سبيل الله انتصر لا محالة.

ولو أن القوة المعنوية التي اندفع المسلمون بتأثيرها واجهت قوة معنوية تقف في سبيلها لتغير، ولو إلى حد، وجه الحوادث، لكن دولتي الفرس والروم كانتا تسيران مسرعتين إلى الانحلال؛ فلم يكن لأيتهما من الجلد ما يمكنها من الثبات أمام الغزاة المؤمنين، فقد كان النزاع على العرش في بلاط كسرى بالغًا أشده، وكانت الثورات والحروب الداخلية تنشب الحين بعد الحين بسببه، ولم يكن الروم أحسن حالًا؛ فقد ثار هرقل بالقيصر فوكاس وقتله وجلس على عرش بزنطية مكانه، ثم إنه رأى النزاع الديني بين الفرق المسيحية يفت في عضد الإمبراطورية، فأراد فرض مذهب رسمي تتوحد فيه هذه المذاهب ويؤمن به المسيحيون جميعًا، فانقلب سعيه وبالًا عليه؛ لأنه لم يدعُ إلى مذهبه بالحسنى، ولم يتخذ إليه سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، هذا إلى أن فارس والروم كانتا في حروب متصلة؛ تغزو فارس أرجاء الروم فتنتزع منها الشام ومصر، ثم يسترد هرقل للروم ما انتزعه الفرس منهم، فتذيب هذه الحروب الدولتين وتذهب بريحهما، وكان من أثر هذه الأحداث أن كان الشعب الفارسي ينظر إلى أعمال الأكاسرة وبلاطهم، فيرى عبثًا يصرفه عن التشبث بنصرتهم، وكانت الشعوب الخاضعة للروم تجد من ظلم القياصرة وعمالهم ما يخذلها عن القيام بمعاونتهم، لهذا كله تداعت القوة المعنوية في فارس وفي الروم، فلم تستطع أي الدولتين أن تصد التيار الجارف الذي اندفع إليهما من شبه الجزيرة.

وثَمَّ عامل آخر لا يصح إغفاله، ذلك هو انتشار العرب في العراق والشام، وقيام الملوك اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام، هؤلاء وأولئك لم يلبثوا — حين رأوا بني عمومتهم يقاتلون الفرس والروم ويحالف النصر أعلامهم — أن انضم كثيرون منهم إلى صفوف المسلمين في القتال عونًا لهم، وإن لم يدخلوا من بادئ الأمر في دينهم، وقد كان لهذه المعاونة من الأثر في غزوات عدة ما خذل الفرس وخذل الروم، وأسرع بالمسلمين إلى قهرهم واكتساح بلادهم.

هذه أهم العوامل التي أدت إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية بالسرعة التي قامت بها، وإلى استقرارها بعد ذلك القرون الطوال، على أن الفضل في هذا الاستقرار يشترك فيه عامل آخر كان له أعظم الأثر، هذا العامل هو السياسة التي أديرت على مقتضاها شئون البلاد المفتوحة وشئون البلاد العربية نفسها، ولعمر بن الخطاب في إقرار هذه السياسة حظ عظيم.

صحيح أن المبادئ الأساسية لهذه السياسة ترتكز على قواعد الإسلام وتعاليمه، وقد فصل رسول الله وفصل أبو بكر من بعده بعض هذه المبادئ تفصيلًا اقتدى به عمر، فكان قوي الأثر في توجيهه، وعلى أساس من هذه المبادئ وهذا التوجيه أنشأ عمر للبلاد العربية وللإمبراطورية كلها نظامًا اتبع في عهده، واتبع زمنًا من بعده، وهذا النظام هو الذي صان الإمبراطورية وأبقاها، ثم كان له أعمق الأثر في إسلام أهل فارس والعراق والشام ومصر وغيرها من البلاد التي انضمت من بعد إلى العالم الإسلامي، وقد اجتهد عمر برأيه في وضع هذا النظام اجتهادًا يسجل له في صحف التاريخ مجدًا لا يقل عن مجده في بناء الإمبراطورية إن لم يزد عليه.

وسيرى القارئ من تفصيل هذا النظام في فصول الكتاب ما يغني عن القول فيه هنا، على أنني أضرب منه مثلًا، ذلك أن الغزاة المسلمين أرادوا أن يقسم الخليفة بينهم سواد العراق وأرض الشام على أنها فيء غنموه، فأبى عمر ذلك عليهم، وترك الأرض لأهل البلاد يستغلونها كما كانوا يفعلون من قبل، لقاء خراج يدفعونه عنها، ولم يكفه هذا، بل بعث رجالًا قاموا بمساحة هذه الأراضي وبجلب المياه إليها لتسهيل ريها وتيسير كل السبل لاستغلالها، ومن قبيل ذلك أنه أقر سياسة عمرو بن العاص حين حبس من خراج مصر وجزيتها ما يقتضيه إصلاح الترع والجسور، ولم يبعث إلى المدينة إلا بما فاض عن ذلك.

ثم إنه رأى إعفاء من أسلم من أهل البلاد المفتوحة من الجزية ومساواتهم بالمسلمين الفاتحين، فكان ذلك مغريًا لكثير منهم بالدخول في الإسلام، وإسلامهم هو الذي جعل منهم في أجيال قليلة هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وقد أعفاهم عمر من الجزية وساواهم بالفاتحين وهو يعلم ما سيترتب على ذلك من نقص في موارد المدينة، ومن رد الحكم في هذه البلاد إلى أهلها، ومع ذلك لم يتردد في الأمر ولم تثنه هذه الاعتبارات عنه؛ لأن المسلمين لم يفتحوا هذه البلاد لإخضاع أهلها، وإنما فتحوها لتكون الدعوة للإسلام حرة فيها، فإذا أسلم بنوها أصبحوا بنعمة الله إخوانًا للمسلمين الفاتحين، لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من الواجبات ما عليهم.

أما وقد كانت هذه سياسة عمر، وكان هذا هو النظام الذي وضعه للإمبراطورية الناشئة، فطبيعي أن يذكره المسلمون على كر الدهور في أرجاء العالم الإسلامي كله، وأن يقرنوا ذكره بكل إجلال وإكبار، وقد فعلوا، ولن يزالوا يفعلون، ولذلك أرخ العلماء والكتاب لعمر أكثر مما أرخوا لغيره من أمراء المؤمنين، لم يثنهم عن ذلك أن لم تكن لعمر بطانة تدعو إليه وتدفع الناس بمختلف الوسائل للإشادة بذكره.

بل لقد بلغ من إكبار المؤرخين لسيرته أن أضافوا إليه أمورًا أدنى إلى المعجزات التي خص بها الأنبياء، وإن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ إثباته، وعمر في غير حاجة إلى شيء من ذلك يضاف إلى سيرته، فما قام هو به وما تم في عهده مما يقره النقد التاريخي؛ يقيم له في صحف التاريخ صرحًا عاليًا باقيًا إلى الأبد.

ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى سيرة عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها، ولجنبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها، ولما طفف ذلك من قدر عمر، ولا نقص من جلال صنعه، وقد رأيت من الخير أن أغفل من هذه الحوادث ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد، ثم رأيتني بعد ذلك مضطرًّا إلى أن أثبت حوادث يتصور العقل في شيء من العسر وقوعها، ومع هذا تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر يدعو إلى النزول على حكمهم فيها، وما كان لي ألا أفعل، ومن هذه الحوادث ما يزيد صورة عمر وضوحًا، ومنها ما يتصل بسياسته في الحرب وبسياسته في إدارة شئون الدولة أوثق اتصال، على أنني حاولت أن أفسر ما استطعت تفسيره من هذه الحوادث على هدي البحث العلمي، وأكبر رجائي أن يكون التوفيق قد صادفني فيما حاولته من ذلك.

على أن هذه الصعوبة في التمحيص والتفسير ليست كل ما يلقاه المنقب في كتب الأقدمين عن سيرة عمر، بل إنك لترى هؤلاء الأقدمين يختلفون في بعض الأحيان على الوقائع اختلافًا يقف الإنسان منه موقف الحيرة، ثم إن من هؤلاء المؤرخين من يسهبون في طائفة من الوقائع ويتناولون أدق تفاصيلها، على حين يجملون طائفة أخرى إجمالًا لا تكاد تبين معه دلالتها، وأسوق مثالًا لذلك: إن الطبري وابن الأثير والبلاذُري يتحدثون عن وقائع الغزو في العراق بإسهاب تكاد ترى معه أعمال كل بطل من أبطال هذه الوقائع، فإذا انتقلوا إلى سياسة المسلمين وإدارتهم للبلاد بعد فتحها أجملوا الحديث فيها إجمالًا لا يتفق بحال مع إسهابهم الأول، وهؤلاء المؤرخون أنفسهم أقل إسهابًا حين الحديث عن فتح الشام، وإن كانوا مع ذلك قد وفوه حقه، أما حديثهم عن مصر فموجز إيجازًا لا يبالغ من يسميه مخلًّا، وحسبك لتشاركني في هذا الرأي أن تعلم أن الطبري قد أفرد لغزوة القادسية وحدها أكثر من ستين صفحة، وقد تحدث عن فتح المدائن في اثنتي عشرة صفحة، ثم لم يجعل لفتح مصر كلها غير خمس صفحات.

ولا شك في أن غزوة القادسية جديرة بأعظم العناية في التأريخ لها؛ فهي التي مهدت للمسلمين العود إلى العراق بعد أن أجلاهم الفرس عنه، وفتحت لهم أبواب المدائن ثم أبواب فارس كلها، لكن فتح مصر لم يكن دون فتح العراق وفتح فارس خطرًا، وكان لذلك جديرًا، بأن يلفت هؤلاء المؤرخين ليتوفروا على استيفائه أكثر مما فعلوا.

وقد نلتمس لهؤلاء المؤرخين من العذر أنهم دونوا ما استطاعوا الوقوف عليه من الروايات، أو أنهم كانوا أكثر عناية بالبلاد التي نشئوا فيها منهم بالبلاد البعيدة عنهم، ولا أراني في حاجة إلى الاعتذار عنهم ولا إلى نقد طريقتهم وقد فصلت بيننا وبينهم قرون عدة، وأنا بعد بصدد الحديث عما يلقاه من يؤرخ اليوم لذلك العصر القديم من جهد، ولذا أسارع إلى القول بأن في متناول هذا المؤرخ مادة لا ينضب معينها يستطيع أن يسد بها كل نقص، فما أجمله الطبري وابن الأثير وابن خلدون والبلاذُري وابن كثير قد فصله غيرهم تفصيلًا يقف منه الإنسان على ما يشاء، أشرت إلى إجمال هؤلاء تاريخ الفتح العربي لمصر؛ لكن هذا الفتح مفصل في كتب أخرى أدق تفصيل، فقد كتب ابن عبد الحكم والسيوطي وابن تغري بردي عنه وفصلوه ما فصل الطبري فتح العراق، والكتب التي وضعت في لغات غير العربية تلقي من الضياء على تاريخ الفتح الإسلامي والإمبراطورية الإسلامية ما لا غنى لمؤرخ عن الاستنارة به، وتمحيص الوقائع بموازنة ما جاء عنها في كتب المؤرخين على اختلاف لغاتهم ومناهجهم وميولهم خير عون على الاهتداء إلى الحق، هذا إلى ما لمؤرخي العصر الحديث في الشرق والغرب من فضل في بحث ما أوردته كتب الذين سبقوهم وفي تمحيصه وإبرازه في صورة تتفق ومألوف هذا العصر في التفكير والتقدير، أما ومادة التاريخ متوافرة هذا التوافر فلن يصد الجهد باحثًا عن الاستفادة منها في الناحية التي يريد أن يعرض لها ويطالع الناس بما يعتقده الحق فيها.

فلكل مؤرخ ناحية تستأثر بعنايته يتوفر على دراستها ويجعل ما سواها سندًا له في هذه الدراسة، والمؤرخ الذي ينقطع لدرس عهد بذاته من كل نواحيه يقسم هذا العهد، وإن قصر، ويفرد لكل ناحية منه دراسة خاصة قد تستغرق المجلد أو المجلدات، فإذا أراد أن يلخص هذه النواحي جميعًا كان تلخيصه أدنى إلى البحث في فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ نفسه.

ولنأخذ موضوع عمر مثلًا يوضح ما تقدم، فقد يُعنَى المؤرخ بشخص عمر ويقف عنده، ويجعل من كل ما يقع في بيئته وعصره وسيلة للمزيد من إيضاح صورته، وقد يُعنَى بعهد عمر في ناحيته الاقتصادية أو في ناحيته الاجتماعية أو في غير هاتين الناحيتين من نواحي الحياة العربية، وبما كان لعمر من أثر في الناحية التي جعلها المؤرخ غرض دراسته، وكل واحدة من هذه النواحي جديرة بعناية خاصة في الدرس، كفيلة بأن تبرز للناس سفرًا قيمًا يجمع بين المتاع به والفائدة منه، ودراسة الحياة الأدبية للجماعة العربية في عهد عمر دراسة مستفيضة كفيلة بأن تبين للناس كيف تأثرت هذه الحياة بالتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية التي سبقت هذا العهد وعاصرته، وأن تضيف إلى المكتبة العلمية ثروة علمية وأدبية أعظم بما فيها للناس من متاع وفائدة.

وقد تناولت في هذا الكتاب، كما تناولت في «حياة محمد» وفي «الصديق أبو بكر» نواحي من الحياة العربية لذلك العهد، رأيت تناولها مما يكمل به ما عرضت له من بحث، لكني لم أتناولها بدراسة مستفيضة؛ لأنها لم تكن غرضي الذي قصدت إليه، بل تناولتها بالقدر الذي يتم به هذا الغرض، فأما ما قصدت إليه من وضع هذه الكتب فقد بينته في تقديم كل واحد منها، فقلت في تقديم «حياة محمد» إنه: بينما يقوم بين الشرق والغرب تعاون علمي جدير بأن يؤتي خير الثمرات، إذا طائفة من رجال الكنيسة المسيحية ومن كتاب الغرب لا يفترون عن الطعن على الإسلام وعلى محمد، وإذا الاستعمار الغربي يؤيد بقوته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، ويؤيد في الوقت نفسه دعاة الجمود من المسلمين، ويخاصم من يحاربون هؤلاء أو أولئك، وقد رأيت ما يحدث من ذلك في بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، ورأيت ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة، فشعرت بأن عليَّ واجبًا لا مفر لي من القيام به، فعمدت إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين المسلمين من ناحية أخرى، على أن تكون دراسة علمية خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده، وهذه الدراسة جديرة لذاتها بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تتلمسها.

أما كتاب «الصديق أبو بكر» فقد بدأت فيه بدراسة الإمبراطورية الإسلامية وأسباب عظمتها وانحلالها؛ لأن هذه الإمبراطورية قامت على أساس من تعاليم النبي العربي وسننه، ولأن الشعوب التي تمخضت عنها هذه الإمبراطورية بعد انحلالها ترتبط كلها بالإسلام، ويرتبط أكثرها بالعربية، وقد عقد بينها الماضي صلات لا انفصام لها ما بقي الإسلام وما بقيت اللغة العربية، وفي تنظيم هذه الصلات خير للإنسانية عظيم ولا سبيل إلى هذا التنظيم إلا معرفة ما كان بين هذه الأمم في الماضي من صلات، فمعرفة الماضي هي سبيلنا لتشخيص الحاضر ولتنظيم المستقبل.

وهذا الكتاب عن عمر حلقة ثالثة من هذه السلسلة، لكنها تختلف عن الحلقتين الأوليين، كما تختلف كل واحدة من هاتين الحلقتين عن الأخرى اختلافًا ظاهرًا، هذا مع توالد الحلقات الثلاث كل واحدة عن سابقتها، كما تخرج الجذور من البذر، ثم ينبثق الجذع باسقًا من الجذور، ثم تتفرع الأغصان من الجذع، قد تذبل الأغصان ويبقى الجذع مع ذلك قوي الحيوية، بل قد يجف الجذع ثم تبقى الجذور سليمة قادرة على أن تنشئ جذعًا أقوى وفروعًا أكثر نضارة، فإذا كانت الإمبراطورية الإسلامية قد انحلت فلا يزال الإسلام الذي أنشأها قديرًا على أن ينشئ وحدة إنسانية عظيمة تلائم روح العصر ونظامه.

وقد اقتضاني تصوير النشأة الأولى للإمبراطورية الإسلامية أن أتناول بالبحث نواحي الحياة المختلفة لشبه الجزيرة والبلاد التي فتحها المسلمون الأولون؛ على أنني لم أقف عند هذه النواحي إلا بالقدر الذي اقتضاه قيام هذه الإمبراطورية، وليس هذا القدر مع ذلك باليسير؛ فهو يجلو صورة، وإن موجزة، للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاد العرب، وصورة مثلها قد تكون أكثر إيجازًا لنواحي الحياة في البلاد المفتوحة، وقد حاولت هذا التصوير في الكتابين السابقين من هذه السلسلة، ثم حاولته على وجه أوفى في هذا الكتاب، وبخاصة ما اتصل بشئون الفرس والروم، وأكبر رجائي ألا يبلغ هذا الإيجاز مبلغًا يقصر عن أن ينقل إلى ذهن القارئ ما أردت تصويره.

وهذه الحلقات الثلاث التي تؤرخ لنشأة الإمبراطورية الإسلامية والعالم الإسلامي، تصور فترة من تاريخ العالم هي لا شك أمتع الفترات في الحياة الإنسانية، وأكثرها وقفًا للنظر، وإيحاء للتفكير والتأمل، فهي تدل على أن الحياة الإنسانية فكرة أولًا وقبل كل شيء، وهي في إقامتها هذا الدليل ترسم لنا سلسلة من الصور تعاقبت في زمن قصير تعاقبًا محتومًا، ولكنه مع ذلك فذٌّ في تاريخ الإنسانية مذ كانت الإنسانية، ذلك بأنها تصور الفكرة المستجمة في نفس من أعده القدر ليبلغ العالم رسالته؛ وظهور هذه الفكرة بوحي من الله إلى رسوله ليدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقيام الناس في وجه الفكرة ومحاربتهم لها ابتغاء وَأْدِها والقضاء عليها، وانتصار الفكرة بانتصار رسولها، وإقبال الناس لذلك عليها مأخوذين بعظمته وقوة شخصيته؛ وانصراف الناس بعد وفاة صاحب الفكرة إلى مألوف حياتهم فرارًا من فروضها؛ وقومة مَن صدق إيمانهم بالفكرة وإعادتهم المرتدين إلى حماها وإلزامهم أداء فروضها؛ وتَأَصُّل الفكرة بعد ذلك في الوجود تأصلًا جعل منها قوة لا قِبَلَ لشيء في الحياة بها ولا قدرة لسلطان أن يتغلب عليها؛ وبلوغها من هذا التأصل مبلغًا جمع إليها عالمًا يغرس في أقطار الأرض المختلفة أصولها، أية صورة أروع من هذه الصورة وأكثر إمتاعًا للعقل والقلب والمدارك! وهل قام في تاريخ العالم دليل على قوة الفكرة لذاتها ومقدرتها على اكتساح الإمبراطوريات مثل هذا الدليل؟!

لا ريب في أن تاريخ الإنسانية يتلخص كله في بضعة أفكار رئيسية قام نظام العالم على أسسها، وقد سلكت كل واحدة من هذه الأفكار طريقها إلى النفوس وتركت على الحياة أثرها، لكن كل واحدة منها لم تكن تكاد تظهر حتى تلقى من المقاومة ما يردها إلى حدود ضيقة تنكمش فيها ليرددها الناس من بعدُ يريدون تمحيص ما تنطوي عليه من حق ونفي ما يخالطها من زيف، ثم ينتهون إلى صورة معدلة من الفكرة الرئيسية يرتضون العيش في كنفها، وهم لا ينتهون إلى الصورة المعدلة قبل أن تنقضي أجيال ويستحر نضال وتسيل دماء وتزهق أرواح، ثم تكون في أثناء ذلك كله محل أخذ ورد ونفي وإثبات وتعديل يجعل ما تنتهي إليه شيئًا مختلفًا عن صورتها الأولى جِدَّ الاختلاف.

بل إن من الأفكار ما يظهر ثم لا يحتمل النضال، فيختفي إلى غير عودة، ولدينا من ذلك مثل يقابل قيام الإسلام حين نشأته، ذلك ما حاوله هرقل من توحيد المذاهب المسيحية وإدماجها في مذهب رسمي يُفرض في أرجاء الإمبراطورية كلها، فقد بذل هرقل غاية جهده لتنجح محاولته: جمع المجامع من كبار رجال الدين وفرض عليهم أن يتفقوا، واتفق من هؤلاء الرجال من اتفق، وأقام على رأيه من أقام، ثم إن الإمبراطور أرسل عماله إلى الشام وإلى مصر وإلى غيرهما من البلاد الخاضعة لسلطانه يدعون الناس إلى المذهب الرسمي طوعًا وكرهًا، ولجأ هؤلاء العمال إلى كل الوسائل لتنفيذ ما أمرهم هرقل بتنفيذه، مع ذلك التوى القصد عليهم، وثار الناس في كل البلاد بهم، فأخذوا الثائرين بألوان النكال، فكانت مآسٍ ومذابح انتهت كلها إلى إخفاق الإمبراطور فيما حاول، وقد رأى هذا الإخفاق بعينه قبل أن يموت، ولعله سأل نفسه مرات وظل يسأل إلى ساعته الأخيرة: كيف نجح النبي العربي ولا سلطان له في إقامة دين جديد، وأخفق هو، وله من الأيد والسلطان ما له، في جمع الناس حول مذهب موحد لدين استقر في العالم أكثر من ستة قرون؟!

وهو قد عجز، ولا ريب، عن أن يظفر بجواب على سؤاله، فلو أنه ظفر بهذا الجواب لما ترك عماله يمعنون في إرهاق الناس وفي تعذيبهم وقتلهم، حتى يفتح المسلمون سورية ويفتحوا مصر ويجلوه وجنوده عنهما ويضطروهم إلى الفرار منهما، ولو أن بطش الملك لم يطغَ على تفكيره ولم يحجب الجواب عنه لاهتدى إليه، فهذا الجواب بسيط كل البساطة؛ وهو أن النبي العربي نجح؛ لأنه لم يكن له سلطان غير سلطان العقيدة السلمية التي دعا الناس طوعًا بأمر ربه إليها، وأن هرقل أخفق؛ لأنه أراد إكراه الناس على مذهب لم تهتدِ بصائرهم إلى أنه خير مما يؤمنون به، وقد نجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يتعصب لغير الحق، فكان يقول بوحي ربه: آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وأخفق هرقل؛ لأنه تعصب لمذهب على غيره من مذاهب تنسب كلها لعيسى عليه السلام ولحوارييه، ونجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يبتغي للناس غير الهدى إلى سبيل ربهم، فكان يقول لوفد النصارى الذين جاءوا من نجران يجادلونه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

وأخفق هرقل لأنه أراد أن يتخذ بعض الناس بعضًا أربابًا من دون الله، فثار الناس به حين رأوا دعوته وليس فيها من الحق ما يصرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. لهذه الأسباب نجح النبي العربي بإذن ربه، وقامت على أساس دعوته إمبراطورية استقَرَّ فيها ما دعا إليه. وكانت هذه الإمبراطورية قمينة أن تضم العالم كله في كنفها لولا أن غيَّر أصحابها ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.

وإنما غير المسلمون ما بأنفسهم يوم افترقوا مذاهبَ وشيعًا، فنقلوا تفكير الناس وعنايتهم من جلال العقيدة في صفاء جوهرها، إلى الخوض في التفاصيل والجدل فيها جدلًا زاد بينهم شُقَّةَ الخلاف وجعل بعضهم لبعض عدوًّا. وطالما عاب رسولُ الله ثم عاب أبو بكر وعمر من بعده مَنْ دار مثل هذا الجدل بخواطرهم. بل لقد نبههم رسول الله إلى أن مَنْ هلك قبلهم من الأمم إنما هلك بسبب المجادلة في أمور لا يؤدي الجدل فيها إلى حَقٍّ ولا ينشأ عنه غير الخلاف والتنازُعِ والبغضاء. فقد رأى المسلمون الأولون ما في ذلك من حق فامتثلوا أمر النبي، وأيقنوا أن الذين يجادلون في الدين إنما مَثَلُهُمْ كمثل اليهود والمنافقين الذين كانوا يندسون بين المسلمين يسألونهم: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟ أو يسألونهم عن الروح، يحاولون بهذه المسائل وبمثلها أن يدسوا إلى عقولهم الشك في عقيدتهم. وقد كان الوحي ينزل بالجواب على بعض هذه المسائل في إيجاز حاسم، فيقول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ، ويقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ويقول: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، ويقول: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.

وكان عمر أشد الناس كراهية للاختلاف، فكان يهدد الذين يختلفون ولو كانوا من أصحاب رسول الله ومن أرفَعِهم مكانة عند المسلمين. ولا عجب في أن يكون ذلك شأنه، وسترى من بعد أنه يتفق مع تفكيره في جاهليته وفي إسلامه. وليس يرجع ذلك إلى ما زعمه بعضهم من ضيق أفقه؛ فقد كان عمر من أكثر أهل زمانه علمًا وأوسعهم أفقًا، بل لأنه كان يقدم نظام الجماعة على كل اعتبار، ويرى في ثبات هذا النظام واستقراره أقوى كفيل بخير الأفراد وبخير المجموع كله.

كيف يتفق هذا النفور الشديد من الاختلاف في الرأي مع دعوة الإسلام إلى النظر والتدبر والحكم؟ وكيف يمكن لحرية الرأي أن تستقر في بيئة يهدد صاحب السلطان فيها بمعاقبة المختلفين؟

هذا اعتراض أورده بعض المستشرقين بالفعل. ونحن ندفعه هنا، لغير شيء إلا أن تاريخ الفكر الإنساني ينفيه. فكثرة العلماء تذهب الآن إلى أن التجريد المنطقي في الفروض النظرية إنما تسلط على تفكير الإنسانية في العصر الميتافيزيقي حين لم يجد الذهن من المقررات العلمية سندًا له في الحياة، فكان هذا التجريد ملجأ نشاطه. وهو قد اتجه بهذا التجريد إلى نظريات لا تثبت عن طريق العلم، وتناول به أمورًا يدخل معظمها في دائرة ما سماه هربرت سبنسر «ما لا سبيل إلى معرفته The unknowable» فلما استقر العلم وقامت الفلسفة الواقعية على أساسه، أصبح هذا التجريد المنطقي ترفًا عقليًّا ضعيف الأثر في حياة العالم الفكرية. فإذا كان رسول الله وكان خلفاؤه الأوَّلون قد نهوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى معرفته، لأن هذا الخوض يثير الخلاف والتنازع، فهم بذلك لم يحرِّموا حرية الفكر، بل قاوموا طريقة بذاتها من طرق التفكير يصفها العلم اليوم بأنها طريقة الجدل العقيم.

فأما صور التفكير المستنِدة إلى وقائع الحياة والوجود، والتي يعتبرها العلم اليوم موضع نظره ومجال بحثه، فكانت محل التشاور والعناية في ذلك العهد، وكان ما يتصل منها بشئون الحكم والقضاء مدار الاجتهاد بالرأي، فإن أصاب المجتهد فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه ومن الشيطان.

وسيرى القارئ في صلب الكتاب تفصيلًا لبعض ما حَرَّمَ الاختلاف فيه وحكمة هذا التحريم. وحسبي أن أشير إلى نهي رسول الله عن الخوض في مسألة القدر لنستبين هذه الحكمة. فقد أثارت مسألة القدر في عصور التجريد «الميتافيزيقي» أشد الخلاف وأعظم الجدل، وهي مع ذلك لم تَنْتَهِ ولا يمكن أن تنتهي يومًا إلى نتيجة. وهذا دليل على أن النهي عن الخوض فيها كان الحكمة عين الحكمة. وتبلغ هذه الحكمة حَدَّ البداهة إذا ذكرنا أن الدين كان يومئذٍ في إبَّان نشأته، وأن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يحاربون مبادئه الرئيسية بإثارة ما قد يتصل بها من المسائل الجدلية، لينشروا حول هذه المبادئ جوًّا من الريبة يصرف الناس عنها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الصدر الأول للإسلام كان عهد جهاد متصل، وأن ما يؤدي إليه الجدل من الاختلاف يجني على هذا الجهاد ويضر بالجهد الذي يُبْذَلُ لنجاحه، لم يبقَ للاعتراض الذي أورده بعض المستشرقين أساسٌ، وكان لشدة عمر في النهي عن كل ما يثير الخلاف مسوِّغ بل موجب.

لا أستطيع، وقد أجملت في هذا التقديم ما تضافر من العوامل لقيام الإمبراطورية الإسلامية، ألا أتحدث عن عمر نفسه. فسيرى القارئ صورته واضحة قوية الأثر في كل فصل من فصول هذا الكتاب. وقد يرى من بروز شخصيته ما يدعو للموازنة بينه وبين أبي بكر. لهذا أسارع قبل الحديث عن عمر فأثبت هنا نص ما ذكرته في تقديم «الصديق أبو بكر» إذا قلت: «قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما. وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قَلَّ أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العامل كله. ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب؛ فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورَفَّ لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مَدِينٌ لعهد الصديق ومتمم له، كدين خلافة الصديق لعهد رسول الله وإتمامها له.»

على أنه إذا لم يكن للموازنة بين العهدين موضع وعهدُ عمر متمم لعهد أبي بكر، فإن الموازنة بين الرجلين يسيرة، ومن شأنها أن تجلو لنا من صورتيهما ما يزيدنا إدراكًا لقيمة ما أحرزه كل منهما من الفوز في عهده. ولسنا نجد في هذه الموازنة تصويرًا خيرًا من تصوير رسول الله حين شاور المسلمين في أسرى بدر، فأشار أبو بكر بقبول الفداء منهم، وأشار عمر بضرب أعناقهم. فقد ضرب رسول الله للمسلمين في كل من الرجلين مثلًا؛ فأما أبو بكر فمثله في الملائكة كمثل ميكال ينزل برحمة الله وعفوه على عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدَّمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال: أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. وأن قال: فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، وكمثل موسى إذ يقول: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.

هذه الصورة تصف كلا الرجلين في حياة الرسول أدق الوصف. فلما استخلف أبو بكر بقي على رفقه ولينه في كل أمر لا يتصل بعقيدته وإيمانه. فأما ما اتصل بالعقيدة والإيمان، فلم يكن موضع رفق أو لين عنده؛ ذلك أن نفسه كانت تنطوي على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى مقدرة ممتازة في بناء الرجال وإبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة؛ لذلك كان إذا عهد إلى أحدهم في أمر ترك له من الحرية في تنفيذه ما يتفق وثقته به، وثقته بحسن تقديره هو في اختيار هذا الرجل، ومن ثم رأيناه يضع الخطط العامة لقواده في حروب الرِّدَّة وفي غزو العراق والشام، ويترك تفصيلها لهم ولا يسألهم حسابًا ما نجحوا في مهمتهم. فإذا لم يصادفهم التوفيق فكر في سبب إخفاقهم والتمس الوسيلة لعلاجه. كذلك فعل حين أبى على القواد الذين لم ينتَصِروا في حروب الرِّدَّة وفي غزو الشام أن يعودوا إلى المدينة، حتى لا يوهن عودهم إليها من يقيمون بها، وحين وقف قواد الشام موقف الجمود أمام الروم، فأمدهم بخالد بن الوليد ونقله إليهم من العراق، حتى ينسي الروم وساوس الشيطان.

ولم يكن ذلك شأنه مع القواد في وقائع الحرب وكفى، بل كان كذلك شأنه في الأمور الدينية؛ لا يتدخل فيما عهد منها إلى عماله إلا لتقويم مُعْوَجٍّ أو إصلاح فاسد. أما ما سارت الأمور سيرتها السليمة فهو يدعها لينصرف إلى غيرها من شئون الدولة؛ ولهذا ترك زيد بن ثابت بعد أن عهد إليه في جمع القرآن يقوم بمهمته، فلم يكن يتدخل في عمله إلا حين يطلب زيد إليه رأيه.

والأمير الذي يقف من سياسته عند الأمور العامة مطمئنًّا إلى عماله واثقًا بهم، يبرز اسم عماله إلى جانب اسمه، فيحسب من لا يتعمق في الأمور أن لبعض العمال فضلًا أعظم من فضله. وهذا خطأ في التقدير؛ فالفكرة الأساسية هي كل شيء في كل عمل. وحرية العامل الموثوق به في تَوَلِّي التفاصيل تزيد هذا العامل نشاطًا وإقدامًا على الاضطلاع بالتبعات، وحرصًا على الفوز بمزيد من ثقة الأمير به، ليزداد ركونه إليه وتقديمه له.

كانت هذه السياسة متفقة مع طبيعة أبي بكر وما عرف من لينه ورفقه وحسن إيمانه وقوة عقيدته، متفقة كذلك مع سِنِّهِ؛ فقد تولى الخلافة حين جاوز الستين من عمره، ضعيف البدن رقيقه. أما عمر فتولى الخلافة وسنه حول الخمسين، وفيه من قوة الشباب ونشاطه ما لم يكن لأبي بكر. ثم إن عمر كان عنيفًا بطبعه، قوي البدن، جم النشاط في كل شيء، لا تكمن ذاتيته حتى تبرزها الحوادث في جلال قوتها، بل كانت ذاتيته دائمة البروز، وكان لذلك حريصًا على أن يتولى الجليل والدقيق من شئون المسلمين أفرادًا وجماعات ما استطاع. وهذا البروز في الذاتية كان يدفعه — مع ثقته بمن يعهد إليهم في أمور الدولة — إلى أن يجعل عينه دائمًا عليهم وأن يكون دائم الاتصال بهم، حتى تخاله وهو بالمدينة حاضرًا مع من كان منهم بالعراق أو بالشام أو بفارس أو بمصر. وهذا الاتصال وهذه المراقبة جعلاه دقيق المحاسبة لهم دقة ثارت لها غير مرة نفوس بعضهم. ولو أن من ثارت به نفوسهم كان رجلًا غير عمر في قوته وصلابته وبأسه لكان لهذه الثورة من الأثر ما يخشى ألا تحمد عاقبته.

وكان لذاتية عمر وبروزها أثر في الحياة العقلية كأثرها في إدارة الشئون العامة؛ فقد كان من أكثر المسلمين اجتهادًا بالرأي، كان ذلك شأنه في حياة الرسول وفي حياة أبي بكر، ثم كان المجتهد الأول في خلافته، فلم تعرض مسألة تعني الجماعة الإسلامية إلا كان له فيها رأي، ولم تكن مسألة فقهية إلا كان ما يستقر عليه حكمه فيها حجة يأخذ بها الناس في عهده، ويأخذ بها الناس من بعده، وسترى أنه خالف رسول الله وخليفته أبا بكر غير مرة، وأن الوحي أيَّد رأيه أحيانًا وخالفه أحيانًا أخرى، وأن الناس في خلافته كانوا يطمئنون إلى اجتهاده أيما اطمئنان. ولقد زاد في قدر رأيه أنه اطَّرح وراء ظهره كل مصلحة خاصة وكل اعتبار ذاتي، وأنه تجرد لله ولدين الله ولخير المسلمين تجرُّدًا لم يوصف به أحد من أمراء المؤمنين بعده.

ولو أن ما روي عن إنكار نفسه كان كلُّه صحيحًا لكن عمر مثلًا فذًّا في التاريخ، ولكان أدنى إلى مراتب الأنبياء والرسل منه إلى مراتب العظماء.١ فهذا الرجل الذي بلغ أسمى مكانة في عصره، فكان العاهل المطلق اليد في الإمبراطورية الكبرى لعالم يومئذٍ، قد كان يأبى على نفسه كل ما يُرَفِّهُ عنها، ويحرص على أن يعيش عيش الفقير ليمسه ما يمسه. على أن زهده في الدنيا لم يكن زهد عائف عنها، بل كان زهد قادر عليها متحكم فيها؛ ولذلك كان — مع شدة ورعه وعظيم تقواه — ينكر صنيع أولئك المتنسكين الذين يرون في الحرمان متاعًا ولذة، والذين يخفضون من أصواتهم إذا تكلموا ويتباطئون في مشيهم إذا ساروا، يريدون أن يقول الناس عنهم إنهم نُسَّاكٌ؛ ذلك لأنه كان يمقت الضعف في كل مظاهره، وكان أشد مقتًا للتظاهر به.

وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي طوع له أن يكون مضرب المثل في العدل؛ فقد كان لهذا الزهد لا يخشى إلا الله، ولا يرجو أحدًا غيره. وكانت خشيته الله ورجاؤه إياه شديدين. وكان يعلم أن الله محاسبه عمَّا ولي من أمر المسلمين فيزداد خشية، فتزيده الخشية حرصًا على تحري العدل إرضاءً لله جل شأنه؛ لذلك كان في عدله لا يفرق بين قريب له وبعيد عنه؛ فالمؤمنون عنده جميعًا سواء، ومن دخل في ذمة المسلمين أصبح وله من الحق في عدل أمير المؤمنين ما لهم. وحبه العدل مجردًا من الهوى جعله يطلب إلى عماله أن يكونوا مثله عدلًا وإنصافًا، ويطلب إلى الناس في أرجاء الإمبراطورية أن يرفعوا إليه ما قد ينزل بهم على يد عماله من حَيْفٍ حتى ينصفهم إذا رأى إنصافهم حقًّا؛ فإن شكوا إليه عاملًا كيدًا بغير حق أنصف هذا العامل منهم، لتبقى للحكم هيبته، وليبقى للعامل العادل مكانه وسلطانه.

وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي دفع إلى قلبه من الرفق بالفقراء والعطف عليهم ما خشي الناس يوم استخلف ألا يكون له منه نصيب. فقد رأوه في عهد رسول الله عادلًا صارم العدل، ورأوه في عهد أبي بكر شديد البطش بالظالمين؛ فلم يَدُرْ بِخَلَدِ أحدهم أنه سيعرف الرحمة حياته. لهذا لم يلبث حين آل الأمر إليه أن احتفظ بكل شدته على الظالمين، ثم كان بالضعفاء والفقراء بَرًّا رحيمًا، بل كان أحن عليهم من آبائهم وأمهاتهم: يكفكف دموعهم ويحمل إليهم بنفسه حقوقهم، ويرعاهم صغارًا وكبارًا. والضعفاء والفقراء هم السواد في كل أمة؛ لذلك لم يلبث هذا السواد أن وجد في عمر ملجأه وملاذه، وأن أصبح هذا الرجل الباطش أحب إليهم من أنفسهم ومن أبنائهم.

لا أريد بما قدَّمْتُ أن عمر بن الخطاب لم يكن يخطئ، أو أنه لم تكن له ميول تجعل الناس يختلفون في بعض أحكامه، وسنرى كيف اختلفوا فيما كان بينه وبين خالد بن الوليد؛ يرى بعضهم أنه ظلم القائد القاهر الذي وضع للإمبراطورية أساسها، ويرى آخرون أنه قصد إلى خير الإمبراطورية أكثر مما قصد إلى العدل في أمر خالد. وسنرى كذلك كيف عزل سعد بن أبي وَقَّاصٍ سياسة في غير عجز ولا خيانة. لكن اختلاف الناس فيما اختلفوا فيه من آراء عمر ومن تصرفاته وأحكامه، لا يغير من أنه لم يَمِلْ يومًا مع الهوى ولم يخالف يومًا ضميره، وأنه كان يحاسب نفسه أدق الحساب كلما اجتهد برأي أو قضى بحكم أو أصدر أمرًا.

هذه صورة مجملة من حياة عمر ومن تصرفاته، وهي مفصلة في هذا الكتاب تفصيلًا أرجو أن يجلوها بينة واضحة، وهذه الصورة تدلُّك على ما كان لشخصه من أثر في بناء الإمبراطورية العظيمة في الزمن الوجيز الذي قامت فيه، وتكشف لك عن السبب الذي أبقى على التاريخ اسم هذا الرجل العظيم يتحدث الناس عنه على مَرِّ الأجيال في مشارق الأرض ومغاربها حديث إكبار وإعجاب.

على أن ما فُصِّلَ في هذا الكتاب لم يَتَخَطَّ التاريخ السياسي لهذه الفترة القصيرة من حياة المسلمين الأولين. أما ما جاء في فصوله عن حياة العرب الاجتماعية وعن الفرس والروم فإنما جاء مجملًا أريد به إيضاح هذا التاريخ السياسي، ولم يقصد به إلى تفصيل ما حدث من تطور الحياة الاجتماعية في بلاد العرب بقيام الإسلام، ولا إلى تفصيل الحياة السياسية نفسها في البلاد التي فتحها المسلمون. كذلك لم يتناول الفصل الذي أفرد لاجتهاد عمر تفصيل هذا الاجتهاد. وقد تناول بعض العلماء الباحثين في عصرنا طائفة من هذه النواحي ببحوث ممتعة أيما إمتاع. وللمستشرقين في مثل هذه البحوث فضل تقترن به أسماؤهم مع أسماء علماء العربية وكتَّابها. مع ذلك لا يزال هذا الميدان مفتقرًا إلى التنقيب. وما أشك في أنه سيلقى من العناية ما هو جدير به.

وأختتم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفقنا جميعًا للحق في كل ما نعرض له من بحث. فالحق خير ما يرجو الباحث المنصف. والله خير حافظًا من الزلل، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.

محمد حسين هيكل

هوامش

(١) روي عن رسول الله أنه قال: «لو كان من بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب.» رواه عقبة بن عامر في مسند أحمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤