الفصل الثاني عشر

عمر في بيت المقدس

انتصر المسلمون باليرموك في أول خلافة عمر، وقد فرت فلول الروم من هناك إلى فحل فاجتمعت بها، فبعث أبو عُبَيْدَةَ أبا الأعور السلمي ينازلها، وسار هو إلى دمشق، وأقام أبو الأعور فيمن معه من الجند بإزاء تلك الفلول ومن انضم إليها من المدد الذي بعث به هرقل إلى فحل، فلما فتح المسلمون دمشق عاد أبو عُبَيْدَةَ وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فحاصروا الروم بفحل، وما زالوا بهم حتى هزموهم، ثم استولوا على طبرية وبيسان ووقفوا على أبواب فلسطين، عند ذلك سار أبو عُبَيْدَةَ وخالد بن الوليد إلى حمص تنفيذًا لأمر عمر، تاركين عمرو بن العاص وشرحبيل على القوات التي كانت في إمرتهم للاستيلاء على فلسطين، وفتح أبو عُبَيْدَةَ حمص، وسار المسلمون منها إلى حماة فحلب فأنطاكية فشمال الشام وجنوب قلقية والنصر يسير في ركابهم، فلم يجد هرقل بدًّا من الفرار إلى القسطنطينية، مودعًا سورية الوداع الأخير.

بينما كان أبو عُبَيْدَةَ يسير مظفرًا في شمال الشام، كان عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة يواجهان قوات الروم التي اجتمعت بفلسطين ويعملان للقضاء عليها، ولم يكن ذلك أمرًا يسيرًا، فقد كانت هذه القوات عظيمة كثيرة العدد والعَتَاد، وكان على قيادتها أطربون١ أكبر قواد الروم وأكثرهم غورًا، وقد رأى ألا يفرق جنده في أماكن كثيرة حتى تتوحد القيادة في يده، وحتى لا يفتَّ ظفر العرب ببعض هذه القوات في أعضاد سائرها، فوضع بالرملة جندًا عظيمًا ووضع بإيليا٢ جندًا مثله، وترك بغزة وسَبَسْطية ونابُلس واللد ويافا حامياتها، وأقام ينتظر مَقْدَمَ العرب عليه، واثقًا من قدرته على الظفر بهم وتشتيت شملهم.
أدرك عمرو بن العاص دقة الموقف، ورأى أنه إذا واجه أطربون بكل جيشه فانضمت قوات الروم بعضها إلى بعض لم يقدر عليها، وقد تقدر عليه؛ لذلك كتب إلى عمر، فأمر الخليفة يزيد بن أبي سفيان أن يوجه أخاه معاوية إلى قَيْسَارِيَّة ليفتحها، فلا يجيء إلى أطربون مدد من البحر عن طريقها، وكانت قَيْسَارِيَّة ثغرًا جليل الخطر حصين الموقع تحميه قوة كبيرة، وسار معاوية فحصر أهلها، فجعلوا يزاحفونه فيهزمهم ويردهم إلى حصونهم، فلما طال ذلك بهم خرجوا يقاتلونه مستميتين فقضى عليهم حتى كانت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفًا، بلغوا بعد الهزيمة والفرار مائة ألف، وبسقوط قَيْسَارِيَّة والقضاء على جندها أمن المسلمون جانبها، وامتنع كل مدد يجيء إلى الروم عن طريقها.٣

وحاصر العرب غزة كما استولوا على قَيْسَارِيَّة، وكانت غزة قد سقطت في يد المسلمين أيام أبي بكر ثم جلوا عنها، وبوقوع هذين الثغرين في نفوذ العرب أمن عمرو ناحية البحر، واضطر أطربون إلى الاعتماد على القوات التي في إمرته دون غيرها.

لم يكتفِ عمرو بهذا، فقد رأى أطربون يتقدم بقواته إلى أجنادين، فوجه علقمة بن حكيم ومسروقًا العَكِّيَّ إلى ناحية إيلياء فشغل بهما جندها، ووجه أبا أيوب المالكي إلى ناحية الرملة فلم يبقَ بد من احتفاظها بحاميتها، وكتب عمرو بذلك كله إلى عمر، وذكر له دهاء أطربون وسعة حيلته، ووصف له من قوة الروم وعدتهم ما جعل الخليفة يأمر بإرسال المدد العظيم إليه، ثم إنه أعاد النظر في الكتاب فابتسم لصفته أطربون بالدهاء والمكر، وقال لمن حوله: «قد رمينا أطربون الروم بأطربون العرب فانظروا عَمَّ تنفرج.»

وبلغت الأمداد فلسطين، فبعث عمرو ببعضها قوة لمن شغلوا جند العدو بإيلياء والرملة وسار هو في جلة الجيش يلقى أطربون بأجنادين، فإذا الروم بحصونهم وخنادقهم في منعة أي منعة، كيف السبيل إليهم؟ وهل من يدله على مأتاهم؟ لم يجد لذلك وسيلة إلا الحيلة، فبعث الرسل يتفاوضون في الصلح، وأسر إليهم أن يوافوه بمداخل العدو وعوراته، لكن الرسل لم تَشْفِه، فآثر أن يتولى الأمر بنفسه، على ألا يَظْهر عدوه على أمره، فلئن عرف أطربون أن عمرًا هو الذي يحادثه ليأخذنه أسيرًا، ثم لن يفلته، هذا إن لم يقتله، وتنكر عمرو وسار إلى أطربون ودخل عليه كأنه رسول بعد أن تأمل حصونه وعرف منها ما أراد، وتحدث الرجلان، فداخلت أطربون الريبة في شخص محدثه، وقال في نفسه: «والله إن هذا لعمرو، أو إنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمرٍ أعظم عليهم من قتله!» ثم دعا جنديًّا من رجال حرسه، فأسر إليه إذا مر العربي بمكان بذاته أن يقتله، وفطن عمرو إلى أن في الأمر كيدًا، فقال لأطربون: «قد سمعت مني وسمعت منك، فأما ما قُلْتَهُ فقد وقع مني موقعًا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكاشفه ويشهدنا أموره، فأرجعُ فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك.»

سمع أطربون هذا القول فخالج نفسه الشك فيما ظن، فاسترجع الحارس الذي أسر إليه بقتل هذا العربي، وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك، وخرج عمرو مسرعًا إلى عسكره لا يلوي على شيء ولا يظن أن يعود لمثلها، وعرف أطربون الأمر فقال: «خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق.» وبلغ عمر ما حدث فقال: «غلبه عمرو، لله عمرو!»

لم يبقَ أمام عمرو إلا أن ينشب القتال بعد أن عرف مآخذه ومآتيه، وبعد أن أعد له عدته، والتقى الجيشان بأجنادين كما التقى جيشا المسلمين والروم من قبل بالواقوصة على اليرموك، وكلاهما يعلم ما لهذا اليوم في حياة الإمبراطورية وفي حياة الإسلام من أثر؛ لذلك بلغت شدة القتال بأجنادين ما بلغت باليرموك، فكثر القتلى من الجانبين، وترجح النصر زمنًا بينهما، لكن المسلمين كانوا أكثر صبرًا، فقد كانت أنباء أبي عُبَيْدَةَ وخالد بن الوليد وانتصاراتهما بشمال الشام قد بلغتهم وبلغت الروم، وكان أهل فلسطين من اليهود والنصارى يقفون من حكامهم ومن غزاتهم موقف المتفرج، لا تحركهم حماسة للروم ولا غضب على المسلمين، فكان لعمرو وجنوده من أنباء إخوانهم، ومن موقف المدنيين حولهم، ما زادهم حماسة وحملهم على الثبات والنصر، فلما آذنت الشمس بالمغيب رأى أطربون صفوفه تضطرب ورجاله تولاهم الإعياء، فانسحب في الناس متقهقرًا إلى ناحية بيت المقدس، ورآه علقمة بن حكيم ومسروق العكي في تقهقره فأمرا رجالهما ففسحوا له طريقًا، فدخل المدينة بمن بقي من جنوده معتمدًا على مناعة حصونها وقوة مقاومتها، منتظرًا يومًا يكون الحظ فيه أقل عبوسًا فيكون له من الرجاء في النصر ما فاته هذا اليوم.

وأمر عمرو علقمة بن حكيم ومسروقًا العكي وأبا أيوب المالكي فعسكروا بقواتهم في أجنادين، وأقام هو معهم ينظر في مهاجمة أطربون ببيت المقدس، ورأوا قبل مهاجمته أن يحيطوا به، وأن يقطعوا خط رجعته من ناحية البحر ففتحوا رفَح وغزَّة وسَبَسْطية ونابُلس واللدَّ وعَمَواس وبيت جِبْرين ويافا، فتحوا بعضها عَنْوَةً، وسلم بعضها ورضي الجزية بغير قتال، بذلك بقيت بيت المقدس والرملة وحدهما حصينتين يحيط بهما المسلمون، أتراهم وقد أمنوا ألا يجيئهم أحد من خلفهم يحاصرون بيت المقدس ويهاجمونها، أم يكتبون بذلك إلى عمر ويقيمون حيث هم إلى أن يجيئهم رأيه؟

وإنهم ليفكرون فيما يصنعون إذ تناول عمرو رسالة من أطربون يقول فيها: «أنت صديقي ونظيري، وأنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتتح من فلسطين شيئًا بعد أجنادين، فارجع ولا تغتَرَّ فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة!» وتعجَّب عمرو حين قرأ الكتاب، ورد عليه بأنه «صاحب فتح هذه البلاد.» وطلب إلى أطربون أن يشاور وزراءه لعلهم ينصحونه قبل أن يدهمه، لكن أجنادين كانت قد استنفدت من جند المسلمين ما جعلهم بحاجة إلى المدد؛ لذلك آثر ابن العاص أن يكتب إلى عمر يستمده ويستشيره، فبعث إليه يقول له: «إني أعالج حربًا كَئُودًا صدومًا وبلادًا ادُّخِرَتْ لكَ فرأيَك.»٤

تناول عمر بن الخطاب هذا الكتاب وقرأه، والثابت في روايات المؤرخين جميعًا، المسلمين منهم وغير المسلمين، أنه ذهب من بعد إلى بيت المقدس وعقد الصلح مع أهله، لكن ما حدث بين تناوله الكتاب ومجيئه إلى فلسطين وعقده الصلح يقع عليه خلاف كبير.

ومن المتفق عليه أن أهل بيت المقدس تولاهم الروع من أجنادين، وثبت في نفوسهم أن مدينتهم صائرة إلى العرب لا محالة؛ لذلك بادروا بالاتفاق مع الأسقف صفرنيوس فنقلوا الصليب الأعظم وكل ما كان في الكنائس من الآنية، وجعلوا كل ذلك عند الساحل ثم وضعوه في سفينة وبعثوا به إلى دار الملك بالقسطنطينية، ليوضع الصليب من بعد في كنيسة القديسة أيا صوفيا، وقد انسحب أطربون بقواته من بيت المقدس إلى مصر قبل أن تبدأ مفاوضات الصلح بين عمر ورسل المدينة المقدسة، لكن الخلاف يقع على ما سوى ذلك وعلى ما يتصل به من الحوادث، فهل تقدم عمرو بن العاص فحاصر إيليا قبل أن يبرحها أطربون وقبل أن يحضر عمر بن الخطاب لمصالحة أهلها، أم هم طلبوا الصلح قبل أن يحاصروا؟ وهل جاء خالد بن الوليد وأبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ من الشام فتوليا حصار المدينة ولم يكن عمرو حاصرها، أم تولياه معه؟ وهل جاء عمر بن الخطاب من شبه الجزيرة في أمداد اشتركت في الحصار ثم كانت مفاوضات الصلح، أم جاء في عدد قليل من الرجال بعد أن طلب أهل إيليا الصلح على أن يعقدوه مع أمير المؤمنين؟ وهل طال زمن الحصار أم قصر؟ هذه كلها أمور ترد في أمرها روايات يصعب التوفيق بينها وحسبنا أن نوجزها هنا لنفصل بعدها ما أتمه عمر في بيت المقدس حين مفاوضات الصلح وبعدها.

يجمل بي قبل إيجاز هذه الروايات وتمحيص ما يستطاع تمحيصه منها أن أشير إلى أن موقع إيلياء بالمنطقة الجبلية في جنوب فلسطين جعلها منذ القدم قلعة حصينة ذات شأن كبير من الناحية الحربية، وأن قدماء المصريين كانوا يعتمدون عليها في رد أعدائهم الذين يحاولون الانحدار إلى مصر من ناحيتها، وقد ثارت المدينة بحكم المصريين وتخلصت منهم ثم رُدَّتْ إليه غير مرة، ففي عهد داود وسليمان استقلت عن مصر فبنى سليمان هيكله بها، واحترق الهيكل واخترقت إيلياء كلها حين غزا الفرس فلسطين في القرن السادس قبل الميلاد، وأعيد بناء الهيكل من بعد، ثم اتخذه اليهود معبدهم والمكان المقدس لشعائرهم، فقووا عمارته وحصنوه وجعلوا منه قلعة ثبتت لغزو الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، وهدم هيرودس الهيكل حين تولى أمر فلسطين من قِبَل الرومان، ثم أعاد بناءه وزاد فيه ورفع عمده، وجعله أكثر مما كان فخامة ومنعة، فلما استقرت المسيحية بفلسطين وتطاول عليها العهد أهمل الهيكل حتى كاد يصبح أطلالًا، مع ذلك ظلت المدينة المقدسة معتمدة على مناعة موقعها وقوة حصونها، فلم تفتح أبوابها للفرس حين غزوها في أوائل القرن السابع الميلادي، بل قاومت حصارهم ثمانية عشر يومًا اضطرت بعدها للتسليم، فلما استردها هرقل أذاق اليهود العذاب قتلًا ونفيًا وتنكيلًا، لاتهامه إياهم بأنهم مالئوا الفرس حين الغزو ودلوهم على عورات البلاد.

هذه اللمحة السريعة من تاريخ بيت المقدس تنفي الرواية القائلة بأنها لم تقاوم المسلمين، وأن أطربون انسحب منها أول ما جاءه النبأ بمسير الغزاة إليها، وأن أسقفها صفرنيوس لم يلبث حين بلغ عمرو بن العاص أسوارها أن بعث إليه يطلب الصلح على أن يحضر أمير المؤمنين فيتولى عقده بنفسه، فقد رأيت كيف قاومت الغزو في كل تاريخها، وكيف قاومت الفرس قبل عشرين سنة من مجيء المسلمين إليها، ولقد ظفر الفرس يومئذ بالروم في الشام وهزموهم في عدة مواقع، كما ظفر المسلمون بهم في اليرموك ودمشق وفحل وأجنادين، ثم لم يحمل ظفر الفرس المدينة المقدسة على الإذعان دون مقاومة، طبيعي وذلك شأنها أن تقاوم المسلمين كما قاومت الفرس، وأن تصدق الرواية التي تقول إنهم حاصروها شهورًا قبل أن تطلب الصلح، وأن ينهار القول بأنها سلمت بالصلح دون مقاومة.

ويجب كذلك أن نستبعد الرواية القائلة بأن خالد بن الوليد أو أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ حاصرها أحدهما أو كلاهما، على ما ذكره الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم، يقول الطبري: «كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عُبَيْدَةَ حصر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب فكتب إليه بذلك فسار عن المدينة.» وإنما نستبعد هذه الرواية؛ لأن أبا عُبَيْدَةَ وخالدًا كانا حين حصار بيت المقدس، في شغل بفتح حمص وحلب وأنطاكية، وبإخضاع ما جاورها من البلاد، وأن هرقل كان إزاءهما بالرهاء يجمع الجيوش لردهما على أعقابهما، وقد كان ذلك كله كما كان حصار بيت المقدس في السنة الخامسة عشرة من الهجرة (٦٣٦ للميلاد)، والراجح أن حصار بيت المقدس استطال شهورًا من تلك السنة، كان هذان القائدان يسيران في أثنائها بأقصى الشمال من سورية حتى يضطرا هرقل فيرحل إلى عاصمة ملكه على البسفور، أما وذلك شأنهما فالقول بأن أحدهما أو كليهما حاصر بيت المقدس قول لا ينهض، ويجب لذلك استبعاده.

بقيت الرواية القائلة بأن عمرو بن العاص هو الذي حاصر بيت المقدس، وأن حصاره لها طال، وأنها قاومته مقاومة عنيفة، وهذه هي الرواية الراجحة في رأينا؛ لأنها تتفق وما عرف عن بيت المقدس من مقاومة كل من أقدموا على غزوها في مختلف العصور، ولأن عمرو بن العاص لم يكن دون أبي عُبَيْدَةَ مهارة في القيادة ومقدرة عليها؛ وحسبه أنه فاتح مصر معقل الروم المنيع، ولعلك تذكر أنه ود، حين وجه أبو بكر الجيوش لغزو الشام أن يكون أميرًا عليها، وأن عمر بن الخطاب قال له يومئذ: «إنك إن لم تكن أميرًا هذه المرة، فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرًا ليس فوقك أحد.» ومن قبل ذلك كان أميرًا على الجند الذي عهد إليه أبو بكر في القضاء على ردة قضاعة، رجل ذلك شأنه، وله من الحيلة في الحرب والسلم ما لم يشتهر غيره بمثله، وهو بعد صاحب الإمارة على جيوش المسلمين بفلسطين وصاحب فتحها، هو لا ريب الذي تولى حصار بيت المقدس، وهو الذي أقام على حصارها، والذي دارت محادثات الصلح بينه وبين أهلها.

وقد طال هذا الحصار واشتدت مقاومة المدينة، حتى كتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: «إني أُعالِج حربًا كَئُودًا صدومًا وبلادًا ادُّخِرَتْ لكَ فرأيَك.» يقول الطبري في رواية: إن أهل إيلياء «كانوا أشجَوْا عَمْرًا وأشجاهم، ولم يقدر عليهم ولا على الرملة.» لذلك أمده الخليفة بجندٍ عظيم ليتقوى به ويقدر عليهم.

هل سار عمر من المدينة مع هذا الجند، أو بقي بها حتى فاوض أهل بيت المقدس عمرًا في الصلح واتفقوا على تسليم المدينة على أن يأتي الخليفة بنفسه ليكتب عهدها؟ المشهور أن عمر لم يترك المدينة إلا لِيُتِمَّ الصلح مع أهل إيلياء، وأنه لذلك ذهب في نفر قليل، وبعض الروايات تجري بما يخالف هذا المشهور، روي عن عدي بن سهل أنه قال: «لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين استخلف عليًّا وخرج ممدًّا لهم، فقال علي: أين تخرج! إنك تريد عدوًّا كلبًا.» وفي رواية ذكرها ابن كثير «أن عمر ذهب إلى فلسطين يتم الصلح مع أهل إيلياء، وأنه سار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب.» ومن عجب أن يسير عمر بالجيوش لغير شيء إلا أن يتم الصلح ويكتب عهده، ومن عجب كذلك أن يطلب أهل بيت المقدس أن يَقْدَمَ عُمَرُ من المدينة ليتم الصلح معهم وهم يعلمون أن بينه وبينهم مسيرة أسابيع ثلاثة تطرد العير في أثنائها مقبلة من المدينة إليهم؛ لذلك أرجح أن عمر ضاق صبرًا بطول الحصار وبكتب عمرو إليه عن بأس عدوه، وأنه أمده، فلما طلب إليه مددًا جديدًا خرج مع المدد حتى نزل الجابية بين بادية الشام وأرض الأردن، وكان أبو عُبَيْدَةَ وخالد بن الوليد قد فرغا من إخضاع الشام، فدعاهما ليوافياه إلى الجابية حتى يتشاور معهما ومع غيرهما من قواد المسلمين في أنجع الطرق للقضاء على مقاومة المدينة المحصورة.

وعرف أطربون وصفرنيوس مقدم عمر، وعرفا ما نزل بالروم على أيدي أبي عُبَيْدَةَ وخالد من المصائب، وقدرا أن المدينة لن تستطيع المقاومة طويلًا من بعد، فانسحب أطربون مستخفيًا في قوة من الجند إلى مصر؛ فلما اطمأن البطريق الشيخ إلى نجاته تولى مفاوضة المسلمين في تسليم المدينة، وإذ كان قد علم أن أمير المؤمنين بالجابية فقد اشترط أن يأتي بنفسه ليكتب عهدها، وليس بين الجابية وبيت المقدس ما يتعذر إجابة صفرنيوس إلى طلبه.

هذا ما أرجحه، وما يتفق وسياق التاريخ لوقائع الغزو بالشام وفلسطين، والرواية المشهورة لا تأباه ولا تنكره مع أنها تخالفه في أن عمر إنما سار من المدينة بعد أن طلب أهل بيت المقدس الصلح، مشترطين أن يتولاه الخليفة بنفسه، وأصحاب هذه الرواية يختلفون بينهم فيمن بعث بمطلب أهل إيلياء أن يقوم عمر بمصالحتهم أكان أبا عُبَيْدَةَ أم عمرو بن العاص؛ كما يختلفون في السنة التي تم فيها فتح المدينة، ولست أناقش أقوالهم ابتغاء تمحيصها بعد ما رجحت ما يخالفها، فحسبي أن أثبت هنا هذه الرواية المشهورة عن سير عمر من المدينة إلى إيلياء.

ومجمل هذه الرواية أن عمر تناول كتاب قائده بالذهاب إلى فلسطين فقرأه على المسلمين بالمسجد واستشارهم فيه، ورأى عثمان بن عفان ألا يبرح عمر المدينة: «فأنت إن أقمت ولم تَسِرْ إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخفٌّ ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» وخالف علي بن أبي طالب رأي عثمان وأشار على عمر بالسير إلى إيلياء، فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام … «فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح، ولست آمن أن ييأسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم، لا سيما وبيت المقدس معظم عندهم وإليه يحجون.» وآثر عمر رأي علي وأخذ به، فاستخلفه على المدينة، وأمر الناس بالتأهب للسير معه.

وسار عمر من المدينة حتى نزل الجابية٥ وكان قد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بها ليوم سماه لهم، وأن يستخلفوا على أعمالهم، فلما عرفوا مقدمه صاروا إليه يتقدمهم يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عُبَيْدَةَ، ثم خالد بن الوليد على الجند في عرض يأخذ بالنظر، ورآهم عمر مقبلين عليهم الحرير والديباج، فغلى الدم في عروقه لمرآهم، فنزل عن فرسه وأخذ الحجارة ورماهم بها وصاح مغضبًا: «سَرُعَ ما لُفِتُّم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي! وإنما شبعتم منذ سنتين، وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم.» واعتذر أمراء الجند قائلين: «يا أمير المؤمنين إنها يَلامِقَةٌ وإن علينا السلاح.» ورأى عمر سلاحهم فخفف مرآه من ثورة غضبه فقال: «فنعم إذن.» وركب حتى دخل الجابية وسار القوم في صحبته.
وبينما عمر معسكر بالجابية فزع الناس إلى السلاح إذ رأوا خيلًا مقبلة عليها الفرسان في أيديهم السيوف، فتبسم عمر لمرآهم وقال: مستأمنة، لا تراعوا وأمِّنوهم، وكان هؤلاء رسل صفرنيوس أسقف بيت المقدس جاءوا يتمون الصلح مع أمير المؤمنين، وصالحهم عمر على صلح دمشق، بل على صلح أكثر منه سخاء، وكتب معهم كتابًا أورد الطبري نصه كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانها وسقيمها وبريئها وسائر ملتها؛ إنه لا تُسْكَن كنائسهم ولا تُهْدَم ولا يُنتقَص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم ولا يُضَارَّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصُلبهم فإنهم على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم أن يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحصَد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.

وختم عمر الكتاب بتوقيعه، ثم أشهد خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان.

رجع رسل صفرنيوس بالكتاب إلى بيت المقدس فاغتبط به الأسقف واغتبط به أهل المدينة جميعًا، وكيف لا يغتبطون وقد أقرهم المسلمون وأمنوهم على أموالهم وأنفسهم وعقائدهم، لا يضار أحد منهم بسبب دينه، ولا يكره على شيء في أمره! وكيف لا يغتبطون وقد أباح هذا العهد لمن شاء من أهل المدينة أن يرحل عنها مع الروم، وأباح لمن شاء من الروم ومن الأجانب المقيمين بالمدينة أن يظلوا بها آمنين، ثم لم يفرض عليهم غير الجزية يؤدونها لقاء منعهم وكفالة أمنهم! أين هذا مما كان يريد هرقل أن يكره أهل المدينة عليه من ترك مذهبهم إلى مذهب الدولة الرسمي فمن أبى جُدِعَ أنفُه، وصُلمت أذناه، وهُدم بيته! ألا إن هذا الصلح لعهد جديد فتح الله به على النصارى من أهل بيت المقدس، وهو عهد لم يتهيأ لهم في التاريخ ولم يكن لهم رجاء قط في مثله.

وترامت أنباء هذا الصلح إلى أهل الرملة، فتطاولت أعناقهم يريدون أن يعقدوا مع أمير المؤمنين صلحًا مثله، وكذلك كان شأن غيرهم من أهل فلسطين، وقد ظفر أهل اللد من عمر بكتاب جرى عليهم وعلى البلاد التي دخلت من بعد معهم فيه، وفي هذا الكتاب أعطى عمر أهل اللد أمانًا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، وألا يكرهوا على دينهم، ولا يضار أحد منهم، على أن يعطوا من الجزية ما يعطي أهل مدائن الشام، ولما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله أقام على فلسطين رجلين جعل لكل منهما نصفها؛ فلعلقمة بن حكيم الرملة وما معها، ولعلقمة بن مُجَزِّز إيلياء وما معها.

أتم عمر صلح فلسطين فصرف أبا عُبَيْدَةَ وخالدًا ومن جاء معهما من شمال الشام كلًّا إلى عمله،٦ ثم إنه أراد الذهاب إلى بيت المقدس مستصحبًا عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فوجد فرسه لا يزال يتوجى، فجيء ببرذون فركبه، فلما سار جعل البرذون يتخلع به وتصلصل جلاجله، فكره عمر ذلك منه، فنزل عنه وضرب وجهه بردائه وقال: «قبح الله من علمك هذا من الخيلاء!» ولم يركب برذونًا قبله ولا بعده، وأقام أيامًا جُمَّ في أثنائها فرسه فركبه ودخل بيت المقدس، وتلقاه البطريق صفرنيوس وكبراء المدينة فتلطف بهم وأدناهم، وتحدث إليهم حديثًا أدخل محبته في قلوبهم؛ فقد رأوا منه الصدق فيما أعطاهم من أمان على أنفسهم وعقائدهم ومعابدهم، ورأوا منه حبًّا للحق والعدل أين منه ما كان في عهد قيصر من بطش واضطهاد! وأمسى الوقت وانصرف القوم على أن يلقوه صبح الغد، فلما خلا عمر بنفسه صلى شكرًا لله على ما أنعم به عليه.

وأية نعمة أكبر من أن يكون فاتح بلد المسجد الأقصى وخليفة رسول الله في الصلاة به! لقد أنعم الله على عبده ورسوله فأسرى به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، فلما بلغ بيت المقدس صلى على أطلال هيكل سليمان إمامًا لإبراهيم وعيسى وموسى، ومن يوم تمت هذه المعجزة بإذن الله لم يذهب رسول الله إلى فلسطين ولم يرد المسجد الأقصى، وخلفه أبو بكر فلم يجعل الله من حظه أن يَرِدَه، وقد أوتي عمر هذا الحظ؛ فتحت له بيت المقدس أبوابها، واستقبلته استقبال الظافر المحبوب لعدله وتسامحه وحرصه على ألا يُكْرَه أحد في دينه، وبيت المقدس هي من بعد أول قبلة للمسلمين، وهي للنصارى مكان قبر المسيح، ولليهود أرض المعاد، أفنعمة أكبر من هذه النعمة يشكر عمر ربه عليها! فإذا أقام الليل بطوله مصليًا، فلن يقضي إلا بعض ما عليه من حق، وإِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أصبح عمر فجاء إليه صفرنيوس فسار معه خلال المدينة يريه آثارها ومواضع الحج منها، وكم ببيت المقدس من آثار! فهو بلد الرسل والأنبياء: إليه سار كليم الله يوم خرج من مصر ومعه بنو إسرائيل؛ وبه كانت قصة صلب المسيح، وتقوم لذلك فيه كنيسة القيامة، يذكر المسيحيون أن جثمانه دفن بها ثم رفع إلى السماء منها، وبه من آثار الأنبياء محراب داود وصخرة يعقوب، وهي الصخرة التي تذكر كتب السيرة أن رسول الله صعد منها في المعراج، هذا إلى أطلال هيكل سليمان التي بقيت تذكر ملكًا عظيمًا وأنبياء عدة، ولقد قام الكثير من هذه الآثار على أطلال معابد وثَنِيَّة شادها حكام فلسطين من قِبَل رومية، وشاد مثلها قبلهم حكام فلسطين من قِبَل مِصر، ولعل صفرنيوس لم يَضَنَّ على عُمَرَ فذكر له ما كان معروفًا من قصص هذه المعابد، وهو كثير، وبينما الرجلان بكنيسة القيامة أدرك عمر موعد الصلاة، فطلب البطريق إليه أن يصلي بها فهي من مساجد الله، واعتذر عمر بأنه إن يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم وخالفوا عهد الأمان، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة، وكانوا قد مدوا له عند بابها بساطًا يصلي عليه،٧ وإنما صلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة على أطلال الهيكل، وفي هذا المكان شيد المسلمون من بعد مسجدًا فخمًا، هو المسجد الأقصى، أما في عهد عمر فقد كان هذا المسجد ساذج البناء كمسجد النبي بالمدينة يوم أقيم.

يذهب بعض المستشرقين إلى أن عمر إنما اعتذر عن الصلاة بكنيسة القيامة لما كان بها من صور وتماثيل، وأنه أبدى العذر الذي ذكرناه سترًا للسبب الحق، وحرصًا على ألا يجرح شعور البطريق الشيخ، وهذا تفسير غير صحيح لحادث تاريخي جليل الخطر في علاقة أهل الأديان المختلفة بعضهم ببعض في مختلف بقاع الأرض، ومما يشهد بعدم صحته أن عمر زار كنيسة المهد ببيت لحم مع صفرنيوس بعد زيارته كنيسة القيامة، فلما أدركه موعد الصلاة صلى بها، وفيها من التماثيل والصور والصلبان ما بكنيسة القيامة بل ما يزيد عليه، ثم إنه خشي أن يتخذ المسلمون صلاته بها سنة فيخرجون منها أصحابها، فكتب للبطريق عهدًا خاصًّا يجعل هذه الكنيسة للنصارى، وألا يدخلها من المسلمين أكثر من شخص واحد في المرة، هذا، وقد رأينا سعد بن أبي وَقَّاصٍ اتخذ إيوان كسرى مصلى للمسلمين ولم يحرك ما به من التماثيل، وكان في مقدوره أن يزيلها بعد أن فتح المدائن وأصبح صاحب الإيوان، وما كان لعمر أن يتحرج من الصلاة في الكنيسة وبها من الصور والتماثيل ما بها وكان رسول الله قبل هجرته إلى يثرب يصلي عند الكعبة وبها من الأصنام والأوثان ما لم يصده أو يصد مسلمًا عن الصلاة عندها، ولقد جاء إلى مكة بعد سبع سنوات من هجرته ومعه ألفان من المسلمين لعمرة القضاء، فطاف بالبيت والأصنام لا تزال تعمره، وعلا بلال سقف الكعبة وأذن لصلاة الظهر، وصلى محمد وصلى الألفان معه عندها صلاة الإسلام، وما كان لمحمد والذين اتبعوه ألا يصلوا بمكان فيه صور أو تماثيل، والإسلام إيمان بالله، والأعمال فيه بالنيات، فمن صدق إيمانه وخلص لله وجهه فأينما ولى فَثَمَّ وجه الله، وإنما حطم محمد الأوثان والأصنام حول الكعبة وفي جوفها يوم فتح مكة حتى يكون بيت الله حرامًا على كل دين إلا على الدين الذي أوحاه الله إلى نبيه بينات من الهدى والفرقان، كي لا تُذَكِّر هذه الأصنام والأوثان أحدًا بجاهليته فيثور في نفسه إليها حنين، أما الذين صفت قلوبهم لله وتطهرت نفوسهم من كل عبادة إلا عبادته جل شأنه فأولئك لا خوف عليهم أينما صلوا، وأولئك يرون وجه الله في كل خلقه، جل ثناؤه وتباركت أسماؤه!

وكان اعتذار عمر عن الصلاة بكنيسة القيامة حادثًا جليل الخطر في تاريخ الأديان وعلاقة أهلها بعضهم ببعض في مختلف بقاع الأرض، فهو يصور تسامح الإسلام وصدق عمر في تمسكه بأن لا إكراه في الدين، ويصور سياسة المسلمين لذلك العهد وقيامها على أساس من حرية العقيدة، وأن الدعوة إلى سبيل الله إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، عجب أن يحدث ذلك على يد الفاروق في بيت المقدس لأكثر من ثلاثمائة وألف سنة خلت، ثم يظل بيت المقدس مدار الحروب التي اتصلت من بعد على الأجيال والقرون، ويبقى إلى عصرنا الحاضر مثارًا للنعرة الدينية والتعصب المذهبي في شتى أرجاء العالم، وموضع النزاع المستمر بين النصارى واليهود والمسلمين، ولو أن الملوك والساسة من أهل الأمم المختلفة أدركوا ما أدركه عمر في ذلك العهد، ورأوا مثله أن لا إكراه في الدين، وجعلوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولم يزعموا لأنفسهم حقًّا على فلسطين باسم أرض المعاد أو هيكل سليمان، إذن لاستراح العالم من عناء يقاسيه في شتى أرجائه، لا تخلو منه قارة من القارات ولا أمة من الأمم، قد يجيبك منصف بحق: ومتى أراد الناس أن يستريحوا؟ وهل لهم في غير المنازعات وسيلة إلى الجاه والمجد والرخاء؟ أليس تاريخ العالم سلسلة متصلة الحلقات من الحروب أثارتها الأهواء باسم الدين تارة، وباسم حرية العقيدة أخرى، والدين وحرية العقيدة مما يزعمون براء، وإنما يُتَّخذان تَعِلَّةً لتسويغ الحروب إطفاء لشهوات وأهواء لا يعنيها من الدين ولا من حرية العقيدة إلا أن تتحقق! وهذا جواب حق، وهو يدل على أن ضمير الإنسانية ما يزال في طفولته، وأن تعاليم الأنبياء والرسل والفلاسفة والحكماء لما تثمر في نفس الإنسانية الأثر الذي أراده أصحابها.

أما وشأن عمر في معاملة المسيحيين ما قدمت فلا حاجة بي إلى إدحاض ما زعم بعضهم من أنه أثبت في صلح بيت المقدس عهدًا على النصارى ألا يمنعوا المسلمين من دخول كنائسهم في الليل أو في النهار، وألا يتحدثوا عن دينهم أو يحاولوا إقناع غيرهم باعتناقه، وألا يلبسوا لباس المسلمين ولا يتزينوا بزينتهم، وألا يتكلموا العربية لغة الفاتحين ولا يتسموا بأسمائهم، وألا يركبوا الخيل ولا يحملوا السلاح، وأن يقفوا إذا مر بهم مسلم، فإذا أقبل عليهم ظلوا وقوفًا حتى يجلس، وألا يبيعوا الخمر ولا يرفعوا على كنائسهم صلبانًا ولا يدقوا أجراسها، وألا يتخذوا خادمًا كان في خدمة مسلم، فلا شيء من هذا أو من مثله يتفق وموقف عمر بكنيسة القيامة وكنيسة المهد، ولا شيء من مثله يتفق وما أبداه صفرنيوس وأهل إيلياء جميعًا من الغبطة لصلح عمر، وموقفه بالكنيستين واستقبال البطريق وكبراء المدينة له وإقبالهم عليه قد فصله المؤرخون المسيحيون الأولون ولم يرد في كتب المتقدمين من مؤرخي العرب عنه شيء يُذكر، وإنما ينسب هذه الأمور إلى عمر دعاة هم الذين دفعوا الصليبيين لغزو فلسطين، ودعايتهم ذات الهوى تضيف إلى الفاروق عن عمد كل ما حدث، في العصور المتأخرة عنه، من مساوئ الحكم أو مظاهر التعصب، وقد أدت عوامل التدهور التي دبت من بعد في كيان المملكة الإسلامية إلى مساوئ في الحكم، وقد كان بين المسلمين ومن انتسبوا إليهم في ذلك العهد المتأخر متعصبون ودعاة إلى التعصب، لكن عمر كان بريئًا من هذا كله، وكان ساميًا عليه غاية السمو، وما حاجته إليه وقد فتح الله له كل أبواب العالم، وقد كان الكثيرون يدخلون في الإسلام أفواجًا غير مكرهين ولا مضطهدين، وكانت جيوش الإمبراطوريتين الفارسية والرومية لا تثبت لجيوشه ولا تملك أمامها إلا الهزيمة والفرار، فلو أن عمر لم يكن السياسي المحنك البعيد النظر لهدته مع ذلك فطرته إلى أن يحسن معاملة أولئك الذين تَفَتَّح له أبواب مدنهم ويسلمونه مقاليد أمورهم، ما بالك به وقد كان ملهمًا في السياسة، فلم يكن الظفر ينسيه الحذر أو يدفعه إلى التعاظم والبطر، ولم يكن الحزم ينسيه أن العدل والرحمة أبلغ أثرًا في نفوس الأمم المحكومة ما ظلت ساكنة إليهما، فلم تدفعها النعرة إلى ما يوجب البطش والجبروت، ولذا أجمع المنصفون من المؤرخين المسيحيين على الإشادة بعدل عمر وتسامحه ورفقه، وعلى إكبار موقفه ببيت المقدس واعتداله في الصلح مع أهله.

ولم يغير من إجماع هؤلاء المنصفين ما روي من أن عمر قام يومًا يخطب المسلمين ببيت المقدس، فذكر في خطبته قوله تعالى: مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا؛ فقام قس من النصارى كان حاضرًا فقال: إن الله لا يضل أحدًا، فلما كررها قال عمر لمن حوله: «انظروا إن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه.» فأمسك القس لهذا النذير، وليس يرجع بقاء المنصفين على إجماعهم إلى أن هذه الرواية لا تعتمد على سند ثابت بمقدار ما يرجع إلى أنها إن صحت لم تطعن على تسامح عمر وعدله، فلم يكن عمر ساعتئذ في موقف جدل مذهبي مع هذا القس، وإنما كان في موقف الخطيب يذكر المسلمين بما يؤمنون به ولا يمارون فيه، فتدخل هذا القس بالمقاطعة وتكريره لها إخلال بالنظام يدعو إلى الظن بأن مقترفه أراد أن يُفسد على أمير المؤمنين موقفه؛ لذلك لم يزد عمر على النذير، فلما أمسك القس ولم يمضِ في المقاطعة مضى هو في خطابه حتى أتمه، ثم صلى بالمسلمين ولم ينل القس بسوء.

ولو صح ما رُوي عن هذا القس لاتخذناه حجة جديدة على ما كان لتعدد المذاهب والفرق المسيحية في ذلك العهد من أثر في الحياة العامة؛ فلم يغضب أحد من المسيحيين لنذير عمر ولم يجد فيه مظهر تعصب أو اضطهاد؛ ذلك لأن تعدد المذاهب أدى بأصحابها إلى التقاطع، وجعلهم يرون في مقاطعة القس مخالفة لآداب اللياقة لا يوجبها التعصب لعقيدة مقررة، أما والمسلمون يتسامحون مع أصحاب المذاهب جميعًا فيسوون بينهم ولا يجادلونهم في مقرراتهم، فقد استحق القس نذير عمر، ولم يكن لأحد أن يعترضه أو يثور بسببه.

على أن تسامح عمر لم يكن معناه أن يدع بيت المقدس للمسيحيين، وألا يكون للمسلمين حظهم الديني منه؛ فبيت المقدس قبلة المسلمين الأولى، وإلى مسجده الأقصى أسرى الله بعبده؛ فقدسيته عند عمر لم تكن دون قدسيته عند النصارى، هذا إلى أن المسلمين لم يكونوا ينزلون بلدًا حتى يقيموا لهم مسجدًا به، وقد ذكرنا أن عمر اعتذر لصفرنيوس عن الصلاة بكنيسة القيامة، وأنه صلى بمكان قريب من صخرة يعقوب على أطلال الهيكل، وفي هذا المكان أقيم مسجده ساذج البناء كمسجد النبي بالمدينة يوم أقيم، ذكر ابن كثير أن عمر استشار كعب الأحبار في أي مكان يصلي، وكان كعب الأحبار يهوديًّا فأسلم، فقال له: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة وكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا! ولكن أصلي حيث صلى رسول الله ، وفي رواية الطبري أن عمر سأل كعبًا: أين ترى أن نجعل المصلى؟ قال كعب: إلى الصخرة، وأجابه عمر: ضاهيت والله اليهودية يا كعب! وقد رأيتك وخَلْعَك نعليك! بل نجعل قبلته صدره كما جعل رسول الله قبلة مساجدنا صدورها إنا لم نؤمر بالصخرة، ولكن أمرنا بالكعبة، وجعل قبلة المسجد صدره متجهًا إلى الكعبة غير متجه إلى الصخرة.

وإنما صرف عمر القبلة إلى الكعبة ولم يجعل الصخرة دونها؛ لأن الكعبة قبلة المسلمين في كتاب الله، ثم لم يصرفه ذلك عن إعظام الصخرة، فهي موضع الإسراء في حديث رسول الله، ولقد بلغ من إعظامه لها أنه رأى عليها كناسة كان الروم يلقونها فوقها، فقال لأصحابه: اصنعوا كما أصنع، ثم جثا في أصلها وجعل يحمل ما عليها بنفسه فيلقيه بعيدًا عنها، وصنع أصحابه صنيعة، وما زالوا بالصخرة حتى زال كل ما عليها، وقد بقيت الصخرة محاطة برعاية المسلمين من يومئذ إلى أن أقام عبد الملك بن مروان عليها قبة بالغ في العناية بعمارتها، فشادها على نحو جعلها أروع آية في البناء، حتى لقد بذ بها عمارة المسجد الأقصى والمسجد الحرام، بل بذ بها كل ما بناه من المساجد، وكان عبد الملك قد شغف بالعمارة البزنطية لمقامه بدمشق بين كنائس النصارى وآثارهم؛ ولذلك كانت المساجد التي شادها تأخذ بالقلوب والأبصار.

تم لعمر ما أراد من زيارة بيت المقدس فعاد أدراجه إلى المدينة متخذًا إليها الطريق الذي جاء منه، فلما كان بالجابية أقام أيامًا ثم غادرها على فرسه، وكانت أنباء ما صنع بفلسطين قد بلغت عليًّا والمسلمين، فاستقبلوه بظاهر المدينة استقبالًا حافلًا، وكيف لا يفعلون وقد خلصت لهم الشام كما خلصت لهم العراق! وكيف لا يفعلون وعمر أول من قام بمثل هذه الرحلة من يوم بعث الله رسوله يبلغ الناس في ربوع الأرض دينه!

ترى، أيطمئن عمر لما فتح الله عليه فينظم حكمه ويعزز وحدته؟ كان ذلك رجاءه؛ ولذلك ود لو أن بينه وبين الفرس جبلًا من نار فلا يخلصون إليه ولا يخلص إليهم، وود لو أن بينه وبين الروم سدًّا يصرفهم عنه ويصرفه عنهم، لكن مشيئة القدر كانت أقوى من مشيئته، وقد كتب القدر في لوحة أن يقضي خالد وأبو عُبَيْدَةَ على كل انتقاض بالشام، وأن يفتح عمر بعد ذلك من الممالك ما شاء الله أن يفتحه، فلندع أمير المؤمنين بالمدينة يدبر أمره ويحكم تدبيره، ولنعد إلى الشام لنرى ما الله صانع به!

هوامش

(١) ورد هذا الاسم في الطبري ومن أخذ عنه على أنه أرطبون. وبعض المؤرخين يضيفون إليه أداة التعريف فيقولون الأرطبون. وقد صححه الفرد بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر» على أنه أرطبون. وقد ورد هذا الاسم في بعض الكتب وفي بعض الأسفار كما ذكرناه في النص، أي أرطبون. ويرى بعض المحققين أن لفظ أطربون أصح من «أرطبون» و«أريطبون» وأنه ليس اسم قائد الروم في بيت المقدس، وإنما هو لقب قائد الروم الأكبر الذي يلي هرقل في المكانة، وأنها معربة عن الكلمة اللاتينية Tribunus. ونحن نرجح هذا الرأي. ولذلك أثبتنا اللفظ في النص على أنه «أطربون».
(٢) إيلياء هي بيت المقدس. ولم تنشأ الرملة إلا في القرن الثامن المسيحي على مقربة من قرية كانت تدعى «راما» فاندثرت من بعد. وقد آثر المؤرخون العرب أن يذكروا اسم الرملة الباقية إلى اليوم حتى لا يختلط الأمر على القارئ.
(٣) بهذا تجري رواية الطبري وابن الأثير وابن كثير. ويذكر ابن خلدون أن معاوية حاصر قَيْسَارِيَّة ولا يذكر أنه فتحها. ورواية المستشرق ميور أن المسلمين أخضعوا فلسطين كلها خلا قَيْسَارِيَّة. وبعض الروايات تذهب إلى أن قَيْسَارِيَّة ظلت محصورة سبع سنين. ولعلها فتحت غير مرة؛ ثم استردها الروم من البحر. وعلى كل حال فقد أدى حصارها إلى امتناع كل مدد الأطربون عن طريقها.
(٤) تجري رواية ذكرها الطبري وغيره بأن أطربون ضحك حين قرأ في كتاب عمرو قوله: إنه صاحب فتح هذه البلاد؛ فأقبل أصحابه يسألونه من أين علم أن ابن العاص ليس بصاحب إيلياء؛ فذكر لهم أن صاحبها رجل اسمه عمر ثلاثة أحرف، وأن ذلك في التوراة، وأن فيها من صفة عُمَر ما لا يدع شكًّا في أن بيت المقدس سَتَئُول إلى المسلمين. ويضيف بعض من يذكرون هذه الرواية أن أطربون ما لبث حين عرفها أن انسحب بقواته إلى مصر تاركًا للأسقف صفرنيوس معالجة الموقف مع المسلمين.
(٥) يقول الطبري وابن الأثير وغيرهم: إن عمر سار من المدينة إلى الجابية على فرس، ويقول الواقدي ومن جرى مجراه: إنه سار على بعير له جعل عليه غرارتان في إحداهما سويق وفي الأخرى تمر، وبين يديه قربة مملوءة ماء وخلفه جفنة للزاد، ومعه جماعة من الصحابة، وإنه كان يقرب لهم جفنة في الصباح فيأكلون معه، وإنه كان يعلم المسلمين الذين يمر بهم وينهاهم عما يخالف دينهم مما كانوا يقترفونه على جهل. فلما أشرفوا على الشام رأوا خيلًا مقبلة عليهم بعث بها أبو عُبَيْدَةَ لتجيئه بنبأ عمر ومقدمه. وأراد عمر دخول بيت المقدس وعليه مرقعة من صوف فيها أربع عشرة رقعة بعضها من أديم، فقال له أصحابه: لو ركبت بدل بعيرك جوادًا ولبست ثيابًا بيضاء! ففعل وطرح على عاتقه منديلًا من كتان دفعه إليه أبو عُبَيْدَةَ. وقدم له برذون ركبه، فلما رآه يهملج به نزل عنه وقال لأصحابه: أقيلوا عثرتي أقال الله عثرتكم يوم القيامة، فقد كاد أميركم يهلك بما دخل قلبي من العجب والكبر! ثم نزع ما كان عليه وعاد إلى لبس مرقعته. وينسب ابن كثير إلى أبي الغالية الدمشقي وصفًا لهذه الزيارة يجري بما نصه: «قدم عمر بن الخطاب الجابية عن طريق إيلياء على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قَلَنْسُوَة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفًا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل. وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جنبه، فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوبًا أو قميصًا. فأُتي بقميص كتان. فقال: ما هذا؟ قالوا: كتان. قال: وما الكتان؟ فأخبروه، فنزع قميصه فغسل ورقع وأُتي به فنزع قميصهم ولبس قميصه. فقال له الجلومس: أنت ملك العرب وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل. فلو لبست شيئًا غير هذا وركبت برذونًا لكان هذا أعظم في أعين الروم! فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلًا. فأُتِيَ ببِرْذَوْن فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها فقال: احبسوا احبسوا. ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا! فأُتِيَ بجمله فركبه.» ويضيف ابن كثير رواية عن طارق بن شهاب يقول: «لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه (الموق: الخف) فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره. فقال له أبو عُبَيْدَةَ: قد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض. صنعت كذا وكذا. فصك عمر في صدره وقال: أو غيرك يقولها يا أبا عبيدة! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام. فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله!»
(٦) تذهب بعض الروايات إلى أنهما دخلا معه بيت المقدس، ثم انصرفا إلى عملهما حين سار عمر عائدًا إلى المدينة. وروايتنا هنا هي المشهورة.
(٧) تجري رواية بأنه صلى على عتبة كنيسة قسطنطين، ثم أعطى عهدًا للنصارى ألا يصلي المسلمون على عتبات الكنائس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤