الفصل الثالث عشر

مصير خالد بعد إخضاع الشام

عاد أبو عُبَيْدَةَ وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان من بيت المقدس كل إلى عمله، فأقام يزيد بدمشق، ونزل أبو عُبَيْدَةَ بحمص، واستقل خالد بإمارة قِنَّسْرين، وجعل كل واحد منهم يدبر الأمر في ولايته بحزم يلطف الرفق من حدته، وعدل تجري الرحمة في مسالكه، وقد أمنوا فجاءات العدو بعد أن لحقته الهزيمة في كل مكان، وبعد أن دانت الشام للمسلمين من أقصى الجنوب بفلسطين إلى أقصى الشمال في سورية.

على أن أهل الجزيرة المقيمين بين العراق والشام، والذين دهم رجال سعد بن أبي وَقَّاصٍ من قبل منازل إخوانهم بهيت وتكريت والموصل وقَرْقيسياء، لم تهدأ نفوسهم بعد الذي نزل بإخوانهم، بل رأوا مساكنهم معرضة لغزو المسلمين إذا ظل هؤلاء يسيرون بالشام سيرتهم بالعراق؛ يفتحون ويخضعون القبائل، ويفرضون الجزية على من لم يدخل الإسلام، وكانوا قد يئسوا من يَزْدَجِرْد بعد فراره إلى الري؛ لذلك كتبوا إلى هرقل أنهم معدون لمعاونته إذا بعث من البحر جندًا يقاتل المسلمين ويسترد منهم ما استولوا عليه، ونظر هرقل في الأمر فرأى أنه لن يصاب بشر مما نزل به، فإن يبسم له الحظ فينتصر بهؤلاء الحلفاء على عدوه، ويقهر المسلمين في شمال الشام، استطاعت جيوشه أن تلاحقهم إلى دمشق وإلى بيت المقدس، ويومئذ تكون المعجزة، فيسترد قبر المسيح من العرب كما استرده من الفرس، ثم يسير إليه مجتازًا سورية ومعه الصليب الأعظم يعيده إلى مكانه كما فعل قبل عشر سنين، ألا لئن تم ذلك ليكونن للصليب فيه من الفضل مثل ما كان له في عهد قسطنطين، ولينصرن الله المسيحية على يديه نصرًا تعتز به على كل دين!

وأعاد أهل الجزيرة الكتابة إلى هرقل، فرأى منهم عزمًا لا يلين، ورأى أكثرهم من العرب النصارى الذين استمسكوا بدينهم وآثروا الجهاد في سبيله، وكان هرقل قد زايله الروع إذ قضى أكثر من سنة بعيدًا عن ميادين القتال بالشام، ثم إنه رأى ثغوره ما يزال الكثير منها حصينًا يقاوم هجمات المسلمين، ورأى أسطوله لم يصب بأذى، ورأى المسلمين يخافون البحر وكل ما يأتي من ناحيته، فقوَّى ذلك من عزمه ومال به إلى إجابة أهل الجزيرة لما يطلبون، صحيح أن تخوم المسلمين في شمال الشام حصينة فلا يتيسر اقتحامها عليهم، لكن هؤلاء العرب النصارى كفيلون بأن يُقِضُّوا مضجع خالدٍ وأبي عُبَيْدَةَ إذا جاءوهم من قبل البادية، فإذا سار مدده من البحر في الوقت نفسه وعرف المسلمون أنهم يهاجَمون من الشرق والغرب فت ذلك في أعضادهم، وأثار أهل الشام بهم، وأتاح له فرصة الثأر منهم.

وكتب هرقل إلى هذه القبائل يشجعهم ويحرضهم، ويذكر لهم أنه أمر سفنه فهي تمخر البحر تحمل الرجال والعتاد من الإسكندرية إلى أنطاكية، وسارت هذه القبائل بكل قواتها من الجزيرة تريد حمص، وبلغت أبا عُبَيْدَةَ أنباء ذلك كله، فدعا إليه خالد بن الوليد من قِنَّسْرين يشاوره، واستقر رأي الرجلين على أن تجتمع قوات المسلمين بشمال الشام لمواجهة العدو، فجمعا بحمص جند أنطاكية وحماة وحلب وسائر المسالح القريبة منها، وترامت إلى هذه البلاد أنباء هرقل ومدده المقبل من البحر، وأنباء الجزيرة وسير قبائلها إلى حمص، فتطاولت أعناق أهلها وذهبوا يتساءلون: عَمَّ تُسفِر هذه الحملة الجديدة التي يقوم بها قيصر وحلفاؤه؟ فلما أقبلت سفن هرقل إلى أنطاكية فتحت المدينة أبوابها لجنوده وثارت بالمسلمين، واندلع لهب الثورة في شمال الشام كله، وألفى أبو عبيدة نفسه محصورًا في حمص يحيط به الثائرون من كل جانب، ويسير أعداؤه لمهاجتمه مقبلين من ناحية البحر ومن ناحية البادية، ماذا عساه يصنع؟ جمع أصحابه وذكر لهم أنه كتب إلى أمير المؤمنين يستمده لمواجهة هذا الموقف الدقيق، واستشارهم في مواجهة العدو وقتاله أو التحصن في انتظار المدد المقبل من المدينة، وانفرد خالد بن الوليد في المشورة بمناجزة العدو؛ أما سائر الأمراء فرأوا التحصن واستعجال المدد، ورأى أبو عُبَيْدَةَ رأيهم وخالف خالدًا، فزاد في مناعة الحصون، وكتب إلى عمر بما رآه أصحابه.

لم ينسَ عمر يومًا أن جنده بالعراق والشام قد يتعرض لمثل هذا الخطر، فيتعرض الفتح الإسلامي كله لمثل ما تعرض له يوم تولى إمارة المؤمنين، لهذا أمر بإنشاء البصرة والكوفة وجعلهما مسالح للمسلمين لا يقيم بهما غيرهم، ثم جعل في كل مصر من ستة أمصار أخرى أربعة آلاف فارس على تمام الأهبة لمثل هذه المفاجآت، فلما جاءه كتاب أبي عُبَيْدَةَ ورأى الخطر العظيم المحيط به، كتب في التو إلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ: «أن اندُب الناس مع القَعْقَاع بن عمر، وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عُبَيْدَةَ قد أحيط به، وتَقَدَّم إليهم في الجد والحدَّة.» ونفذ سعد أمر الخليفة ليومه، فندب القَعْقَاع في أربعة آلاف من الفرسان المجربين فانطلقوا يغذون السير من الكوفة إلى حمص.

كان الأمر أخطر من أن يكفي لمواجهته سير القَعْقَاع على رأس أربعة آلاف؛ فقد بلغ عدد الذين ساروا من الجزيرة إلى حمص ثلاثين ألفًا، غير من بعثهم هرقل على السفن إلى أنطاكية، وكان عمر يعلم أن رجاله في كل بلد من بلاد الشام قد شغلوا بأهله، فلو أنهم تركوا هذه البلاد إلى حمص لاضطرب النظام في الشام كله؛ لذلك أردف أمره بسير القَعْقَاع من الكوفة بأوامر أخرى كلها حسن التفكير وبعد النظر، فإنما أغرى القبائل التي سارت من الجزيرة إلى حمص بما صنعت ما خيل إليها من بعد منازلها عن المسلمين وغزوهم، فلو أن هذه المنازل غُزِيت لارتدت هذه القبائل على أعقابها، ولخفف ذلك عن أبي عُبَيْدَةَ وجنوده، فليسرِّح سعد بن أبي وَقَّاصٍ سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، «فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص»، ولتكن الرَّقة مقصد سهيل، وليسرح عبد الله بن عتبان إلى نَصيبين، فإذا أخضع هذان الأميران الرقة ونصيبين، فليسيرا إلى حَرَّان والرَّهاء، وليسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، ولتكن لعِيَاض بن غَنْم إمارة الجند كله في حرب الجزيرة، فإذا سار هؤلاء الأمراء جميعًا ذكر أهل الجزيرة ما أصاب أهل هِيت وقرقيساء والموصل فلم يقاوموا.

لم يكتفِ عمر بهذا كله؛ فقد قدر أن هرقل لم يندفع إلى المغامرة بإرسال جنوده على متن البحر إلى الشام بعد الذي أصابه من الهزائم فيه إلا لأنه استوثق من قوته، واطمأن إلى قدرته على الثأر لنفسه، ولا أدل على ذلك من أنه جعل ابنه قسطنطين على رأس الجيوش التي نقلتها السفن من الإسكندرية، ولو أن هرقل نجح في هذه المغامرة لقضى ذلك على سياسة عمر أيما قضاء، ولن يرضى عمر تصور هذا الاحتمال، ولن يألو جهدًا في إفساده، لا بد إذن من تعبئة كل قوة يستطيع تعبئتها لمواجهة هذا الخطر الداهم، بل لا بد أن يواجهه هو بنفسه؛ لذلك حشد ما استطاع من قوات المدينة وما حولها وسار هو على رأسها متخذًا طريق دمشق إلى ميدان القتال.

وكذلك تحركت الإمبراطورية الناشئة من شتى أرجائها للدفاع عن كيانها، سار القَعْقَاع بأسرع ما يستطيع غياثًا لأبي عُبَيْدَةَ، وانطلق سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان والوليد بن عقبة وعياض بن غنم لغزو الجزيرة وتأديب أهلها، وفصل عمر من المدينة قاصدًا حمص، ودوت هذه الأنباء في العراق والشام كما دوت في شبه الجزيرة، وبلغت أبا عُبَيْدَةَ وأصحابه كما بلغت قبائل الجزيرة الذين جاءوا لحصاره، واطمأن أبو عُبَيْدَةَ لما بلغه، أما القبائل فأيقنت أن منازلها بالجزيرة لن تُرعى لها حرمة بعد الذي صنعت، وأنه مصيبها ما أصاب الموصل وهيت وقرقيساء من قبل، فانخلعت منها القلوب وآثرت الرجعة من حيث أتت، لعل في رجعتها ما يكفر عن ذنبها.

وأصبح أبو عُبَيْدَةَ يومًا فعلم أن القبائل تفرق أهلها مرتدين إلى بلادهم وذويهم، وأنه لم يبقَ بإزائه إلا الروم جند هرقل، فدعا إليه أمراء جنده وذكر لهم أنه يرى مناجزة القوم، واغتبط خالد بن الوليد، وأشار بمفاجأتهم قبل أن يأخذوا للموقف الجديد عدته، وظن الروم حين رأوا القبائل تتخلى عنهم، ورأوا المسلمين يخرجون من حصون حمص للقائهم أن في الأمر مكيدة دبرت لهم فتولتهم الحيرة، وهاجمهم أبو عُبَيْدَةَ فلم تمنعهم حيرتهم من الشدة في لقائه شدة تشهد بأنهم أعدوا لهذا اللقاء ما استطاعوا من قوة، فلولا انصراف القبائل عنهم لكان لهم من البأس ما يسوغ مخاوف أبي عُبَيْدَةَ ومخاوف عمر، لكن حيرتهم أضعفت مقاومتهم وانتهت بهم إلى الهزيمة، ففروا قبل أن يبلغ القَعْقَاع بن عمرو حمص، وقبل أن يبلغ عمر الجابية١ في طريقه إلى الشام، فلما بلغها ألفى رسول أبي عُبَيْدَةَ بها يذكر له انتصارهم قبل ثلاثة أيام من وصول القَعْقَاع إليهم، ويستشيره في الفَيْء وهل يكون لرجال القَعْقَاع نصيب منه، واطمأن عمر ولم يرَ بعد الذي بلغه أن يتابع مسيرته، فكتب إلى أمين الأمة كي يشرك أهل الكوفة في العطاء؛ فسيرهم لنجدته هو الذي أدخل الرعب إلى قلب عدوه فأدى ذلك إلى هزيمته، «جزى الله أهل الكوفة خيرًا، يحمون حَوْزَتهم ويُمدون أهل الأمصار»، ثم تحمل راجعًا إلى المدينة.

ترى هل انسحبت جنود هرقل إلى قِنَّسْرين أو حماة أو غيرهما من البلاد التي اندلع فيها لهيب الثورة لينظموا بها صفوفهم للمقاومة، أم تعقبهم المسلمون فقضوا عليهم؟ وماذا فعل الثوار بحلب وأنطاكية والمعاقل المنيعة حين بلغهم انتصار المسلمين بحمص؟ لا يذكر المؤرخون عن ذلك شيئًا يصح الوقوف عنده، وأغلب الظن أن فلول الروم التي نجت من الموت طارت إلى السفن بأنطاكية فأقلعت بهم في البحر إلى الإسكندرية أو إلى بزنطية وقد تولاهم وتولى قيصر اليأس أن يعودوا إلى الشام أبدًا، ولم يلبث الثائرون حين عرفوا إقلاع السفن بالجند أن هدأت ثورتهم، فعاد خالد بن الوليد إلى قِنَّسْرين، وعاد كل أمير في شمال الشام إلى إمارته، مطمئنين جميعًا إلى أن الأمور سكنت إلى قرار لن يكدر صفوه من بعد مكدر.

على أن مقام خالد بقِنَّسْرين لم يطل؛ فقد سارت القوات التي فصلت من العراق يظلُّها لواء سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان والوليد بن عقبة بإمرة عِيَاض بن غَنْم لغزو الجزيرة وتأديب أهلها، فلما بلغت منازل القبائل التي آزرت هرقل كانت هذه القبائل قد بدأت تنصرف مرتدة عن حمص، وكان سهيل بن عدي قد سلك بجنده طريق الفِراض حتى انتهى إلى الرقة، فتحصن أهلها منه فحاصرهم، فقالوا فيما بينهم: «أنتم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء!» وبعثوا إلى عِيَاض بن غَنْم بواسط يريدون الصلح، وعقد لهم سهيل بن عدي الصلح عن أمر عياض؛ لأنه أمير القتال وجعلهم من أهل الذمة، أما عبد الله بن عتبان فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل، ومن ثم عبر النهر وسار إلى نصيبين،٢ فلقيه أهلها بالصلح فعقده لهم على صلح أهل الرقة، وقدم الوليد بن عقبة على بني تغلب وعرب الجزيرة فضووا إليه إلا بني إياد فإنهم ارتحلوا إلى أرض الروم، وكتب الوليد إلى عمر بالمدينة يخبره بما صنعوا وأقام ينتظر جوابه في أمرهم، ثم إن عياضًا ضم إليه سهيلًا وعبد الله بن عتبان وسار في الناس إلى حران، فأخذ ما دونها، حتى إذا انتهى إليها تلقاه أهلها بالإجابة إلى الصلح والجزية، فأجراهم مجرى أهل الذمة، وكذلك فعل أهل الرهاء حين سار إليهم سهيل بن عدي، بذا دخلت الجزيرة كلها في حكم المسلمين، فكانت أسهل البلاد وأيسرها فتحًا، وبفتحها التقى سلطان المسلمين بالعراق والشام.

ومن عجب أن يكون ذلك شأن القبائل التي كاتبت هرقل ووعدته بتأييدها، وإنما عذرها أنها رأت الروم يفرون أمام عدوهم، فأيقنت أن هؤلاء المسلمين قد صُنع لهم فلا سبيل إلى مقاومتهم، والخير كل الخير في مصالحتهم. وإن المؤرخين البزنطيين ليذكرون أن حاكم الرهاء صالح عياضًا على أن يدفع له مائة ألف ذهبًا يتقي بها غزو المسلمين ولايته وأن هرقل رفض صنيعه وعزله عن عمله، فلم يَنْفُذْ لقيصر أمر بعد أن زال سلطانه عن هذه الأرجاء وصار كل أمرها للمسلمين، وكيف ينفذ له أمر وقد صار لا يستطيع أن يرفض لأمير المؤمنين مطلبًا؛ لأنه لا يستطيع أن يؤيد رفضه بالقوة التي تدعمه وتعززه!

لما كتب الوليد بن عقبة إلى عمر يذكر له أن عرب الجزيرة نهضوا معه إلا بني إياد فإنهم ارتحلوا إلى أرض الروم، كتب عمر إلى هرقل يقول:

إنه بلغني أن حيًّا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى ثم لنخرجنهم إليك.

ولم يجد هرقل بدًا من النزول على ما أراد عمر فأخرج إيادًا من أرضه؛ فعاد أربعة آلاف منهم إلى منازلهم حتى خضعت لسلطان المسلمين، وتفرق سائرهم فيما بين الشام والجزيرة من بلاد الروم، وإنما كتب عمر إلى هرقل هذا الكتاب حتى لا يتخذ المنهزمون أمام المسلمين أرض عدوهم ملجأ يتحصنون به ليوم ثأر، وحتى يجمع العرب كلهم في صعيد واحد تحت سلطان واحد.

لم يصنع بنو تغلب صنيع إياد، ولم يرتحلوا إلى أرض الروم؛ لكنهم أبوا على الوليد بن عقبة حين لم يقبل منهم إلا الإسلام، واحتكموا فيما بينهم وبينه إلى أمير المؤمنين، وكتب الوليد إلى عمر بإبائهم، فأجاز عمر رأيهم وأبى أن يفرض الوليد الإسلام عليهم، «فإنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل من أحد فيها إلا الإسلام، فدعهم على ألا يُنصِّروا وليدًا ولا يمنعوا أحدًا من الإسلام.» فلما بلغهم حكم عمر رضي بعضهم أن يدخل في دين الله، وأصر بعض على نصرانيته، ثم لم يقبل هؤلاء أن يكونوا أهل ذمة يؤدون الجزية، وذهب وفد منهم إلى المدينة، وكان بينهم بعض من أسلم منهم، فقال مسلموهم لعمر: «لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن ضعِّفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزية، على ألا يُنصِّروا مولودًا إذا أسلم آباؤهم.» وأصر عمر على أن يؤدوا الجزية، فقالوا: «والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم.» قال عمر: «لئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم ثم لأسبينكم.» قالوا: «فخذ منا شيئًا ولا تسمه جزاء.» قال عمر: «أما نحن فنسميه جزاء وسموه أنتم ما شئتم.» ولما رأى علي بن أبي طالب ما بلغه هذا الحوار من شدة، قال: يا أمير المؤمنين! ألم يضعِّف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال عمر: بلى! ورضي منهم الصدقة بدل الجزاء.

وإنما أصر نصارى بني تغلب على ألا يؤدوا الجزية أن كان في قومهم عز وامتناع فكانوا يرون في أداء الجزية آية خضوع ومذلة لا تليق بهم ولا تتفق وما عرف الناس لهم من إكرام وكرامة، وكرامتهم وقوتهم هما اللتان جعلتا الوليد بن عقبة يريدهم على الإسلام ليكون له بهم قوة ومنعة، ولقد كان تشدد عمر معهم في أداء الجزية بادئ الرأي ثم قبول صدقتهم مضاعفة بعد مشورة علي بن أبي طالب، سياسة منه يحمد عليها، مع مخالفتها لموقف أبي بكر من أهل الرِّدَّة، ومخالفتها لموقفه هو من أعدائه الأقوياء في فارس والروم، فبنو تغلب عرب، وكان عمر حريصًا على عزة العرب، ولئن أقام على نصرانيته منهم من أقام ليرجعن هؤلاء جميعًا إلى الإسلام ولو بعد حين، والرفق في هذا الموقف أبلغ، وقد دلت الأيام على حسن فِراسة عمر وبُعد نظره؛ إذ نصرت تغلب المسلمين من بعد نصرًا عزيزًا، وأيدتهم على أعدائهم في مواقف كثيرة.

لم يكتفِ عمر بقبول الصدقة من هؤلاء النصارى! بل رأى أن ما بينهم وبين الوليد بن عقبة من خلاف قد يدفعهم إلى إخراجه فيضعف صبره فيسطو عليهم؛ لذلك عزله عنهم وأمر عليهم فرات بن حيان كيما يطمئن إلى استتباب الأمن واستقرار الطمأنينة في ربوعهم.

تم ذلك كله في السنة السابعة عشرة من الهجرة فتم به استقرار السلطان للمسلمين بالشام من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والواقع أن ما بقي من سيرة عمر لا يعرف في الشام انتقاضًا، ولا يعرف من جانب هرقل محاولة لاسترداده، إلا ما قيل عن قَيْسَارِيَّة، فقد سبق أن ذكرنا رواية الحصار الذي ضربه معاوية بن أبي سفيان عليها قبيل فتح بيت المقدس، وإلى ما قيل من فتحه إياها وقتله فيها ثمانين ألفًا بلغوا بعد الهزيمة والفرار مائة ألف، على أن البلاذُري ينبه إلى اختلاف الروايات في أمر هذه المدينة فيقول: «قال قائلون: فتحها معاوية، وقال آخرون: بل فتحها عِيَاض بن غَنْم بعد وفاة أبي عُبَيْدَةَ وهو خليفته، وقال قائلون: بل فتحها عمرو بن العاص … والذي اجتمع عليه العلماء أن أول الناس الذي حاصرها عمرو بن العاص، نزل عليها في جمادى الأولى سنة ١٣ فكان يقيم عليها ما أقام، فإذا كان للمسلمين اجتماع في أمر عدوهم سار إليهم فشهد أجنادين وفحل والمرج ودمشق واليرموك، ثم رجع إلى فلسطين فحاصرها بعد إيلياء، ثم خرج إلى مصر من قَيْسَارِيَّة، وولي يزيد بن أبي سفيان بعد أبي عُبَيْدَةَ فوكل أخاه معاوية بمحاصرتها وتوجه إلى دمشق مطعونًا فمات بها.» والذي يخلص من هذه الروايات أن قَيْسَارِيَّة حوصرت وطال حصارها؛ حتى لقد قيل إنها حوصرت سبع سنين، ذلك بأنها كانت ثغرًا حصينًا ومعقلًا منيع الأبراج والأسوار، به من السكان والجند عدد لا نظير له بأنطاكية ولا بدمشق، يقول البلاذُري: إن مائة ألف كانوا يقومون كل ليلة على سورها يحرسونها، وكان سبب فتحها أن يهوديًّا أتى المسلمين ليلًا فدلهم على طريق في سرب فيه الماء إلى حقو الرجل، فدخل المسلمون المدينة منه في الليل فكبروا، فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه، ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها في السنة السابعة عشرة ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأقام فيها مَسْلَحة ووكل بها الحفظة، وقد وجد بها معاوية سبعمائة ألف من المرتزقة وثلاثين ألفًا من السامرة ومائتي ألف من اليهود، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها.

سبق أن قلنا: إن خالد بن الوليد لم يقم بقِنَّسْرين طويلًا، ولم نعثر في كتب الثقات على تفاصيل لغزوه بعد انصرافه من حمص إلى إمارته أكثر من أنه سار في دروب الروم مع عِيَاض بن غَنْم، وعاد من غزواته بمغانم كثيرة، وأراني في حلٍّ من القول بأن ما حدث، إثر مجيء السفن عليها جنود الروم إلى أنطاكية، من ثورة شمال الشام بسلطان المسلمين، لم يزل فجأة إثر هزيمة الروم بحمص، وأن ما أشار إليه المؤرخون من انتقاض حلب وحماة وأنطاكية وغيرها من الحواضر قد اقتضى خالدًا وعِيَاض بن غَنْم وغيرهما من قواد المسلمين أن يقمعوه، وقد ذكر الواقدي أن حلب قاومت مقاومة عنيفة، وأن خالد بن الوليد إنما تغلب عليها بعد حصار طويل، فلما سكنت الثورة في شمال الشام تجاوزه المسلمون إلى إرمينية، كما كانوا قد تجاوزوه بعد غزو خالد بن الوليد مَرْعَش وشمشاط وغيرهما من قبل، ثم عادوا إلى الشام كما عادوا إليه أول مرة، ذلك أن عِيَاض بن غَنْم ما لبث حين تم له الأمر بالجزيرة أن سار صوب إرمينية يعزز تخوم المسلمين ويدخل الروع في نفوس أعدائهم، وسار خالد بن الوليد من شمال الشام إلى تلك الأرجاء حتى بلغ آمد والرهاء، فكان في مسيرته يفتح البلاد ويستفيء المغانم، ويلقي في القلوب الرعب،٣ ثم عاد إلى قِنَّسْرين وقد اجتمع له من الفَيْء شيء عظيم؛ لذلك انتجعه رجال من الآفاق يرجون جوائزه فلم يَضَنَّ عليهم، وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجعه فأجازه بعشرة آلاف درهم.

تحدث الناس بفعال خالد بن الوليد بقلقية وإرمينية معجبين، وذكروا بها خوارقه المجيدة وانتصاراته المعجزة بالعراق والشام، وتحدثوا بجوائزه وأعطياته للأبطال والشعراء وبجائزته العظيمة للأشعث بن قيس، فذكروا بها أريحية ملوك بني غسان وملوك الحيرة، ونُمي حديث الإعجاب به وخبر هذه الجائزة إلى عمر بالمدينة كما كان يُنمَى إليه كل شيء من أمور عماله، فهاج هائجه على خالد ورآه لا يرجع عن غيه، فقد بلغه من قبل أن خالدًا، إذ كان بآمد من أرض إرمينية، دخل حمامًا فتدل بغِسْل فيه خمر، فكتب إليه: «بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تُمسوها أجسادكم.» وأجابه خالد: «إنا قد فتناها فعادت غَسُولًا غير خمر.» ولم يعجب عمر هذا الجواب، فرد عليه مغضبًا: «إن آل المغيرة ابْتُلُوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه!» وكان عمر قد أمره أن يحبس ما يصيبه من المال على ضَعَفة المهاجرين وها هو ذا يجعله أعطيات لذوي البأس والشرف واللسان، ألا يدل ذلك على أنه لا ينفذ ما أمره به من مراجعته في حساب المال، وألا يعطى شاة ولا بعيرًا إلا بإذنه، وأنه مُصِرٌّ على قوله يوم وجه إليه هذا الأمر: «إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك.»

كيف يستقيم الحال وخالد يريد أن يستأثر بالسلطان ويستقل بالأمر دون حسيب أو معقِّب! بل كيف يستقيم وقد فُتِن خالد بالناس لإعجابهم به وإكبارهم فعاله، فخيل إليه أنه أصبح صاحب الأمر والنهي في الشام كله، وأنه صار فيه ملكًا كجبلة وآبائه من بني غسان يُثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع! ألا لئن تُرِكَ وشأنه ليبلغن به الزهو يومًا، فلا يقيم لأمر الخليفة وزنًا ولا يحسب له حسابًا، فلئن أراد الخليفة يومئذ نزعه من عمله ليثورن به وليجدنَّ من الجند ومن أهل الشام أعوانًا له؛ وقد يؤيده الروم فتكون الطامة الكبرى، ويومئذ لا يلومن عمر إلا نفسه، ثم ليحاسبنه الله على ما قصر في أمر المسلمين بتردده وإحجامه.

هاج هائج عمر على خالد فقال: «والله ما صدقتُ الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمره فلم أُنَفِّذْهُ! والله لا يلي لي خالد عملًا أبدًا.» وكتب إلى أبي عُبَيْدَةَ أن يستقدم خالدًا وأن يعقله بعمامته وينزع عنه قَلَنْسُوَته حتى يعلم: أأجاز الأشْعَثَ بن قيس من ماله أم من إصابة أصابها، فإن زعم أنها من إصابة فقد أقر بخيانته، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمره أن يعزله على كل حال، وأن يضم إليه عمله.

تناول أبو عُبَيْدَةَ هذا الكتاب فتولته الحيرة؛ فلخالد في نفسه وفي نفوس الجند والمسلمين جميعًا منزلة أعظم المنزلة، لكن أمير المؤمنين مُطاع ويجب تنفيذ أمره، فلْيَدْعُ خالدًا إليه، وليترك التنفيذ لرسول عمر ولمؤذن النبي، وكتب إلى خالد فقدم عليه، فلم يذكر له عن كتاب عمر شيئًا، بل جمع الناس وجلس لهم على المنبر، ثم قام البريد الذي أوفده الخليفة يسأل خالدًا: أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة أصبتها؟ ودهش خالد مما سمع ولم يجب، وكرر البريد السؤال فلم يَنْبِسْ خالدٌ بِبِنْتِ شَفَة، كل ذلك وأبو عُبَيْدَةَ جالس على المنبر ساكت لا يقول شيئًا، فلما ألح البريد في السؤال وألح خالد في الصمت، قام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر أن تُعْقَلَ بعمامتك، وأن تنزع عنك قَلَنْسُوَتك حتى تجيب عما تُسأل الآن عنه، وزادت بخالد الدهشة فلم يخرج من صمته، هناك تناول بلال قَلَنْسُوَته، ولمَّ يديه وراء ظهره وعقله بعمامته، وقال: «ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟»

دهش خالد لهذا الموقف فوجم وأعياه الجواب، وهو في الحق موقف يخرج بكل إنسان عن صوابه، أليس هو موقف الاتهام الصريح بخيانة الأمانة؟ فإذا فوجئ به إنسان علانية وعلى ملأ من الناس جشأت نفسه وتولاه الذهول؛ ما بالك به موجهًا إلى خالد بن الوليد وهو في أوج ظفره بأعداء الله وأعداء المسلمين!

وعلى أي نحو يوجَّه هذا الاتهام؟ على نحو هو الإهانة كل الإهانة: تُضَمُّ يداه إلى ظهره، وتعقلان بعمامته، وترفع قَلَنْسُوَته عن رأسه! ما كان أغنى أمير المؤمنين عن هذا كله! أَوَلم يكن حسبه أن يدعو خالدًا إلى المدينة ما دام قد عزله عن عمله، فإذا لقيه بها سأله عما شاء، كما شاء فيما بينه وبينه؟!

لم تكن دهشة المسلمين الذين شهدوا هذا المنظر بأقل من دهشة خالد، ولقد تهامس بعضهم يتساءلون بينهم: ماذا يراد بسيف الله بعد هذا الموقف الذي يُزرى بأحد الجند، بَلْهَ القائد النابغة الذي فتح العراق والشام ودوخ الفرس والروم؟! أمن أجل عشرة آلاف من الدراهم تعقل يداه وتنزع قَلَنْسُوَته، وهو الذي استفاء المسلمون ببأسه مئات الألوف بل ملايينها؟ وماذا تراه صنع بهذه العشرة الآلاف لتلحقه هذه الإهانة؟ أفأخذها لنفسه وأنكرها على أبي عُبَيْدَةَ أو على الخليفة؟ كلا! بل أجازها الأشعث بن قيس أمير كندة صاحب البلاء العظيم في العراق والشام، ولطالما أجيز الأشعث وأمثاله ذوو المكانة ممن شهدوا المواقع وكان لهم فيها بلاء وخطر! ألا إنها لقسوة من أمير المؤمنين برجل بلغ من ثقة رسول الله وثقة الصديق وثقة المسلمين به أعظم مبلغ!

كان أبو عُبَيْدَةَ ينظر إلى الناس من مجلسه على المنبر فيرى أمارات الدهشة والإنكار بَيِّنَة على وجوههم، فلا يزيده ذلك إلا إمعانًا في الصمت الذي التزمه في هذا الشأن، والذي أصر عليه منذ دعا خالدًا إليه وأمر غيره أن ينفذ أمر عمر فيه، ولعله لم يكن أقل الحاضرين دهشة لهذا المنظر وأسفًا عليه، لقد كان يعرف أكثر من غيره ما يؤاخذ عمر خالدًا به من الزهو والتسرع إلى الحرب وشدة الحرص على الاستقلال بالرأي، ولقد صرف غاية همه خلال السنوات التي انقضت من خلافة عمر ليزيل من نفس أمير المؤمنين سوء رأيه في خالد وشدة برمه به، وقد بلغ من ذلك أن حمل عمر على إطراء خالد إثر قِنَّسْرين وما أحرزه ابن الوليد من النصر المؤزر فيها، أفذهب كل جهده هباء! فلم تكن صيحة عمر يومئذ: «أمَّر خالد نفسه! يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني!» إلا صيحة إعجاب بفعلة عظيمة جزى خالد عنها بإمارة قِنَّسْرين، ثم ظل مع ذلك بَرِمًا به! إن يكن ذلك فهو أعجب، وأعجب منه أن يجيء الأمر بعزل خالد في أوج مجده، والفرس والروم والعرب والمسلمون يتحدثون جميعًا بفعاله، ويطأطئون الرءوس إكبارًا لعظمته وإجلالًا لعبقريته!

كان ذلك شأن أبي عُبَيْدَةَ وشأن جموع المسلمين شهود هذا المنظر، فماذا كان شأن خالد نفسه؟ أترانا نستطيع أن نصور ما كان يدور تلك الساعة بِخَلَدِه، وما كانت تختلج به جوارحه؟! إن ألفاظ الدهشة والألم والكبرياء الجريح والغيظ المكظوم والثورة المكبوتة لتضيق منفردة ومجتمعة عن أن تصف ما كانت تضطرب به في هذه الساعة نفس رجل لم يطأطئ يومًا رأسه ولم يعرف الذلة حياته، بل كان في جاهليته وفي إسلامه مثال الأنفة والكرامة والعزة، وكان البطل المُعْلَم، كم جدَّل سيفه رءوس الأعزة، والقائد القاهر عنت لقوة بأسه العروش والممالك، أتراه اليوم يُقَيَّدُ بعِمامته وكم قَيَّدَ بالسلاسل ألوف الأسرى! أتراه يتهم بخيانة المسلمين في أموالهم وهو الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين! يا لسخرية القدر! أما كان خيرًا له أن يصرع في ميدان البطولة والشرف من أن يجاء به إلى موقف الخونة الأنذال فيُصرع شرفه وتُهْدَر بطولته!

ولكن كيف له أن يخرج من هذا الموقف المهين؟ فهذا بلال يسأله: أمن ماله أم من إصابة أصابها أجاز الأشعث بعشرة آلاف؟ وبلال لن يفك طائعًا عقاله حتى يجيب، أفيلزم الصمت فيطول به هذا المنظر المزري؟ أم يكسر عقاله بيديه ويضع على رأسه قَلَنْسُوَته وينظر إلى الحاضرين جميعًا تلك النظرة الفاتكة التي عرفها خصومه وأصدقاؤه فيقول لهم: لا جواب عندي وليفعل عمر بعد ذلك ما بدا له؟ لكنه جندي من جنود المؤمنين، وعمر أمير المؤمنين، وهو الذي قضى بسيفه على المرتدين يوم ثاروا يحاولون أن ينازعوا أبا بكر إمارته، يثور هو بعمر فينازعه حقوق إمارته؟ كلا! إنه لأعظم إيمانًا بالله من أن يثور بمن ولاه المؤمنون إمارتهم؛ لذلك لم يزد حين كرر بلال سؤاله: أمن مالك أجزت أم من إصابة أصبتها، على أن أجاب: بل من مالي!

ضج المسلمون فرحًا حين سمعوا هذه الكلمة تتنفس عنها شفتا خالد، وخيل إلى كثيرين أن كل شيء قد انتهى، وأنه سيعود إلى إمارته بقِنَّسْرين كما كان، ثم يُنسي الزمان وتُنسي فعاله ما حدث، وزادهم اطمئنانًا إلى ذلك أن بلالًا لم يلبث حين سمع كلمة خالد أن أطلقه وأعاد قَلَنْسُوَته ثم عممه بيده وقال: «نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا.»

وخرج خالد وخرج الناس من هذا المجلس، يتحدث بعضهم إلى بعض، ويختلف بعضهم مع بعض: يرى قوم أن أمير المؤمنين على حق، فهو لم يحاسب خالدًا إلا كما يحاسب غيره من عماله، ويرى آخرون أن خالدًا خير أمير لجند المسلمين وأكثرهم نصرًا، فمن حقه يوم توزن أخطاؤه أن توزن معها جلائل أعماله، ومن حقه إذا أراد عمر محاسبته أن يدعوه إليه وأن يحاسبه بنفسه وألا يقف موقف متهم آثم بين جند يقدرونه، ويقدسونه، وتعصَّب لخالد قوم أثارت إهانته نفوسهم، فذهبوا يذكرون مواقف عمر منه في عهد أبي بكر وعزله إياه عن إمارة الجند يوم استخلف، ويزعمون أن أمير المؤمنين إنما عرض خالدًا للإهانة غيرة منه لتعلق الناس به ومحبتهم له؛ فهي المنافسة حركت ترات قديمة وليس فيها من العدل شيء.

أما خالد فلم تزايله دهشته بعد هذا المجلس، بل جعل يسائل نفسه وقد تولته الحيرة: ماذا أراد عمر به؟ فليس طبيعيًّا أن يكتفي بإجابته أنه أجاز الأشعث من ماله، وهو لا بد قد كتب لأبي عُبَيْدَةَ بأكثر مما حدث، ولو أنه لم يقصد إلى أكثر من العلم بمصدر العشرة الآلاف لكفاه أن يسأل أبو عُبَيْدَةَ خالدًا وأن يبلغ أمير المؤمنين جوابه، فأما أن يقفه بين الناس هذا الموقف المهين، فلأمر له ما وراءه، وهذا الأمر خطير لا ريب، تشهد بذلك حيرة أبي عُبَيْدَةَ حيرة ألزمته الصمت، أفيسأله خالد عنه فيخرجه من حيرته ويقف هو على جلية الخبر؟ تحدث في هذا إلى بعض خلصائه، فذكروا له أن الناس يتناقلون بينهم أنه يذكر أن المال الذي أجاز به الأشعث من إصابة أصابها فلن يناله سوء وسيرده أبو عُبَيْدَةَ إلى عمله، أتراه يلقى أبا عُبَيْدَةَ فيسر إليه بما يشاء عمر حتى يعود إلى قِنَّسْرين أميرًا كما كان؟! تردد في هذا الأمر بعد أن راودته عنه نفسه، فهو إن يفعل فيعرف الناس تنهدم في أنفسهم كرامته، وتنهدم معها ثقتهم به؛ لذلك ذهب إلى أخته فاطمة بنت الوليد يستشيرها، فقالت له: «والله لا يحبك عمر أبدًا، وما يريد إلا أن تكذِّب نفسك ثم ينزعك.» وأقر خالد رأيها وقبل رأسها وقال لها: صدقت، وأقام ينتظر الأيام وما تَكَشَّفُ عنه.

بينما كان ذلك يجري بحمص كان عمر ينتظر بالمدينة مَقْدَمَ خالد عليه معزولًا عن عمله، فلم يَدُرْ قَطُّ بِخَلَدِهِ أن يُحجم أبو عُبَيْدَةَ عن تبليغ خالد أمر عزله أو أن يدع خالدًا يتولى من الشئون ما لم يبقَ له بعد العزل أن يتولاه، فلما طال به الانتظار وأبطأ خالد عليه ظن الذي كان، وأدرك أن أبا عُبَيْدَةَ في لينه وتُؤَدته وتواضعه قدَّر ما ينزل بنفس خالد من الهم إذ يعرف المصير الذي أراده له أمير المؤمنين، وما ينشأ عن ذلك من قلق الجند والمسلمين في وقت ما أحوج أبا عُبَيْدَةَ فيه إلى اتقاء كل قلق وكل فتنة، أترى أمين الأمة توقع أن يعدل عمر عن أمره، فإذا سكنت الأيام من جماح ثورته كتب إليه برد خالد إلى عمله، ولذا سكت وصبر حتى تمر العاصفة فلا يرى أحد لها أثرًا؟ دار بنفس أمير المؤمنين أن يكون هذا الخاطر قد مر بخَلَد أبي عُبَيْدَةَ فلم يطق أن تقوم في نفسه ظنة بأناته وبسداد رأيه ومضاء عزيمته، فكتب إلى خالد يستقدمه ويبلغه الأمر الذي أحجم أبو عُبَيْدَةَ عن أن يبلغه له، فلما تناول خالد كتابه ثارت نفسه، ورأى في صنيع أبي عُبَيْدَةَ إشفاقًا عليه، وهو رجل يزدري الإشفاق وينكره؛ لذلك ذهب إلى أمين الأمة تضطرب نفسه بين محبته والغضب منه، وقال له: «رحمك الله! ما أردتَ إلى ما صنعتَ؟! كتمتني أمرًا كنتُ أحب أن أعلمه قبل اليوم!» وأجابه أبو عُبَيْدَةَ في مودة وعطف: «والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بدًّا، وقد علمت أن ذلك يروعك.»

لم يبقَ لخالد إلا أن يرجع إلى المدينة معزولًا يلقى أمير المؤمنين، فخرج يريد قِنَّسْرين وثورة نفسه على أشدها، والغيظ يكاد يفري مهجته، أذلك جزاؤه عن كل ما قدم! وهل أخفى عمر في نفسه تِرَتَهُ القديمة عليه طيلة هذه السنين ليستخدمه ما كان بحاجة إلى قوة ساعده وعبقرية قيادته، فلما رأى القدرة على الاستغناء عنه تلمس له هَنَةً فلم يجد، فَتَخِذَ من قصة الأشعث وجائزته حجة يقيم عليها هذه المسرحية ليعزله عن عمله بعد أن يهدر كرامته ويمرغ في التراب أمام الناس عزته؟! يا له من حاقد لا ينسى حقده! ولعل هذا الحقد كان يزداد ضرامًا كلما رفع الحظ نجم خالد فيجعله أكثر علوًّا وسموًّا، ولو أنه عزله عن كل عمله يوم استخلف لكان له من العذر أنه أشار على أبي بكر بأمر فلم ينفذه، فلما تولى هو مكانه نفذه، فأما أن يدعه أربع سنوات يخوض المعارك ويدوخ الأقران ويقهر الجيوش، فيخضع دمشق ويطهر الأردن، ويستولي على حمص، ويأخذ قِنَّسْرين عَنْوَةً، ويرد حلب إلى الطاعة، ويطرد هرقل من سورية، ويتخطى قلقية إلى إرمينية، ويصل بين الفتحين في العراق والشام، ثم يعزله بعد ذلك كله بتهمة الخيانة أو السرف، فذلك العذر الذي لا طاقة لخالد باحتماله، والذي لا عذر عنه من شدة عمر بسائر عمَّاله، فلم يأثم خالد ولم يرتكب نكرًا، وأين ثراؤه على عظيم بلائه! وأين ما صنعوا مما صنع! إنهم أولو فضل لا ريب، وانتصار ابن أبي وَقَّاصٍ بالقادسية وفتحه المدائن، وطرده يَزْدَجِرْد إلى الري، من أعظم أعمال البطولة، وفتح ابن العاص بيت المقدس نصر أكبر النصر، لكن خالدًا صاحب الفضل الأول في فتح العراق وفتح الشام، وفتحهما هو الذي دوخ كسرى ودوخ قيصر، وهو الذي فتح الباب واسعًا لمسيرة المسلمين بعده إلى ما شاءوا من الآفاق، أَوَلو كانت جائزة الأشعث سيئة فأين قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ؟! فليكن جزاء خالد عند الله! والله من بعد حسيب عمر ورقيبه!

كانت هذه الخواطر تدور بنفس خالد وهو في طريقه بين حمص وقِنَّسْرين، فكان يفضي بها إلى بعض خلصائه فيهونون عليه الأمر ويذكرونه بقوله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وبقوله: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ويجيبهم خالد ومس الإهانة يحز في نفسه: «إن عمر ولاني الشام حتى إذا صارت بَثْنِيَّة٤ وعسلًا عزلني.» فلما بلغ قِنَّسْرين كظم غَيْظَهُ، وتحمل وخطب أهل عمله، وذكر مجيد فعالهم معه، ولم يذكر لهم عمر بسوء، ثم ودعهم وعاد بأهله ومتاعه إلى حمص، فخطب أهلها وودعهم، وفصل عنهم منصرفًا إلى المدينة.
فلما بلغها ولقي أصحابه بها ألفى أمر عمر فيه وما أصابه من مهانة حين تنفيذه قد سبقه إليهم، ورأى منهم متعصبين له ناقمين من عمر، فتحدث إليهم بأعماله، وذكر لهم إخلاصه لله وللدين الذي أوحاه الله إلى رسوله، وقص عليهم ما استفاء المسلمون على يديه، والقليل الذي اختص هو به من هذا الفيء، فزادهم ذلك له تعصبًا، ومن عمر نقمة، ثم إنه لقي عمر فقال له: «لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر!» ولم يجد الخليفة موضعًا للين يمكن أن يساء به تفسير أمره، فقال لخالد ولا يزال يتهمه: «فأين هذا الثراء! من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟» وجعل يكرر عليه السؤال كلما رآه، فلما ضاق به خالد قال له: «من الأنفال والسُّهْمان، ما زاد على الستين ألفًا فهو لك.»٥ وقوَّم عمر عروض خالد بثمانين ألف درهم ترك له منها ستين ألفًا وأخذ العشرين الزائدة فأدخلها بيت المال.
وتحدث قوم إلى عمر في أمر خالد وما صنع به، ورأوا أنه قسا عليه وأن خالدًا جدير بالكرامة، وقالوا له: يا أمير المؤمنين لو رددت على خالد ماله! لكن عمر كان لا يزال على سوء رأيه في سيف الله ولا يزال يتهمه؛ لذلك أجاب الذين تحدثوا إليه: إنما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أرده عليه أبدًا٦ وأنكر قوم هذه الشدة من عمر، ورأوا فيها من المبالغة ما لا يفسره إلا شدة ضِغْنه على خالد وعظيم حرصه على النيل منه، فما ثمانون ألف درهم قيمتها دون السبعة الآلاف من الدنانير لرجل غزا وسبى واستفاء من المرتدين ومن العراق ومن الشام ست سنوات تباعًا ما قيمته الملايين! وهذا الضغن يبدو في قول الطبري بعد أن روى رفض عمر أن يرد إلى خالد ماله، «فكأن عمر يرى أنه اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.»

ولعل عمر إنما قسا على خالد وبالغ في القسوة عليه بعد عوده إلى المدينة معزولًا؛ لأنه رأى جماعة من المتعصبين لخالد يحاولون إثارة الفتنة وأن يمشوا بين الناس بالفساد، فلو أنه أظهر اللين لظن قومه لينه ضعفًا، ولأيقنوا أنه عزل خالد في غير إثم، ولجرأ ذلك على الشر وشجع عوامل القلق، ولم يغب ذلك عن فطنة خالد ولم تفته مرامي أمير المؤمنين فيه، فقد كان يرى عمر إذا خلا إليه كان الرقة معه واللطف به، فإذا تحدث إليه قوم في الأمر كان ما رأيت بأسًا وشدة عاتب خالد عمر يومًا في خلوة وأعاد عليه أنه كان في أمره غير مجمل، فقال عمر له: «يا خالد! والله إنك عليَّ لكريم، وإنك إليَّ لحبيب ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء أبدًا.» وكفت هذه الكلمة خالدًا فهدأت من ثورة نفسه وجعلته يرد الذين حاولوا تحريضه على القيام مع خصوم عمر في الثورة به بقوله: أما وعمر حي فلا! وكيف لخالد أن يثور بأميره لأمر أصدره، وهو جندي يعرف النظام ويؤمن به، وهو مسلم حسن الإسلام حريص على أن ينتصر دين الحق على يديه أو على يدي غيره! لذا سكن كارهًا إلى حياة لا ترضاها نفسه، حياة الجندي البطل يرى ميادين القتال مفتوحة أمامه، وهو مبعد عنها لا يستطيع خوض غمارها؛ لأن أميره عزله وأقصاه، وحسبك لتقدر ما حز ذلك في نفسه أن تذكر قوله، حين أقام بالحيرة سنة لا يقاتل الفرس امتثالًا لأمر أبي بكر: «ألا إنها لَسَنَةٌ كأنها سنة نساء.»

واطمأن عمر إذ برت يمينه ألا يلي له خالد عملًا أبدًا ثم لم تثر لعزل خالد عاصفة، ولم يمالئ خالد أحدًا على إثارتها، فغلب جانب البر فيه جانب الشدة والبأس، فأذاع في الأمصار: «إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فُتِنُوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويُبْتَلُوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.»

أفتعبر هذه الإذاعة تعبيرًا صادقًا عن رأي عمر في خالد، وتشهد أنه اقتنع بأن الرجل لم يرتكب إثم الخيانة ولا إثم الإسراف حين أجاز الأشعث بعشرة الآلاف؟ أم هي إذاعة سياسية قصد بها ابن الخطاب إلى تسكين الخواطر التي ثارت لما أصاب سيف الله، تعصبًا له وإعجابًا به، وخشية أن يجري عمر في سياسته على تغليب الهوى والأخذ بالظنة في أمر بُناة الإمبراطورية الناشئة؟ أغلب الظن أنها كانت إذاعة سياسية أريد بها الاعتذار عن أمر أوشك حين وقوعه أن يحدث حدثًا، وآية ذلك أن خالدًا مات بعد أربع سنوات من عزله، ولم يترك من حطام الدنيا غير فرسه وغلامه وسلاحه، فلما عرف عمر ذلك من أمره حزن وقال: «يرحم الله أبا سليمان! كان على غير ما ظنناه به.» إذن لقد قامت بنفس عمر ظنة في خيانة خالد أو في إسرافه كانت سبب سخطه عليه وعزله إياه، وخطب الناس بالجابية يومًا فقال: «إني أعتذر إليكم عن عزل خالد بن الوليد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضَعَفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فأمَّرت أبا عبيدة.» لم تكن فتنة الناس بخالد هي إذن وحدها التي أدت إلى عزله مخافة أن يوكلوا إليه ويبتلوا به ويتعرضوا للفتنة بسببه، وليعلموا أن الله هو الصانع، بل كانت في نفس عمر سخطة على خالد لأسباب كانت فتنة الناس بسيف الله بعضها أو كانت أعظمها.

لم يسكن الناس لإذاعة عمر ولم يروها مسوِّغة عزل خالد، بل ظل منهم كثيرون وفي نفوسهم على عمر مَوْجِدَة لهذا العزل أي موجدة، لما خطب بالجابية يعتذر جابهه أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بكلام يقول فيه: «والله ما أعذرتَ يا عمر! ولقد نزعتَ عاملًا استعمله رسول الله ، ووضعت لواء رفعه رسول الله ، وأغمدت سيفًا سله الله، ولقد قطعت الرحم وحسدت ابن العم!» وأجابه عمر: «إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.»

عاش خالد أربع سنوات بعد عزله بعيدًا عن ميادين فخره ومجده، يحز الهم في قلبه أن يرى إخوانه وبني وطنه يقتحمون فلسطين إلى مصر والعراق إلى فارس، وهو مقيم في بيته، وسيفه في غمده لا يجرده لنصر أو شهادة، ولا يبديه مشهورًا أمام الأبطال يهز قلوب العدو هزًّا، ويحصد رقابهم حصدًا، أفما كان حَسْبُه خِلال هذه السنوات أن يستمتع بهذا المجد انعقد له لواؤه، وتكلل بغاره جبينه؟!

كلا! فما المجد لرجل لا يزال قديرًا على أن يرفع صرحه ويعلي بناءه! إنما يسكن إلى مجد بلغه من يقعد به الجهد عن أن يسمو من مراتبه إلى أعظم مما بلغ، وكان خالد لا يزال قديرًا أن يقتحم مراتب المجد جميعًا، فيفتح من أرض الروم أضعاف ما فتح، ويبلغ عاصمة قيصر كما بلغ سعد بن أبي وَقَّاصٍ عاصمة كسرى، أما وعمر قد ألزمه عقر داره، فكسر سيفه وهد ركنه، فما أطول أيامه وأشد ألمه! وقد اخترم الهم حياته فمات بعد هذه السنوات المريرة٧ وهو يقول: «لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.» وفي الرواية المشهورة أن خالدًا بكى حين حضرته الوفاة وقال: «لقد حضرت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء!»

حزن المسلمون لموت خالد أشد الحزن، وكان عمر بن الخطاب من أشدهم حزنًا، رووا أنه سمع أمه تندبه وتقول:

أنت خيرٌ من ألفِ ألف من القو
م إذا ما كَبَتْ وجوهُ الرجال
فقال: «صدقت والله إن كان لكذلك!» وكان عمر ينهى عن الندب على الميت وبكائه حتى لقد شتت النسوة اللاتي اجتمعن ببيت عائشة يندبن أباها أبا بكر، فلما اجتمع نساء المدينة يبكين خالدًا لم يعرض عمر لهن ولم يعترض عليهم فقيل له: ألا تسمع! ألا تنهاهن:٨ فقال: «وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نَقْعٌ أو لَقْلَقَةٌ،٩ على مثله تبكي البواكي!» ودخل هشام بن البَخْتَرِيِّ في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال: يا هشام أنشدني شعرك في خالد، فأنشده أجود شعره، فلما فرغ من الإنشاد قال عمر: «قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب الشرف وأهله، وإن كان الشامت به متعرضًا لمقت الله.» وجرى ذكر خالد يومًا فاسترجع عمر وقال: «كان والله سَدَّادًا لنحور العدو! ميمون النقيبة.» فقال له علي: «فَلِمَ عزلته؟» قال: «ندمت على ما كان مني!» ويروى أن عمر كان غائبًا يحج حين مات خالد، وأنه كان قد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، فلما رجع وجده قد مات، وطبيعي أن هذه الرواية إن صحت لا تستند إلى أكثر من قول نسب إلى عمر أو نقل عنه بعد وفاة خالد بن الوليد.

أفكان عمر صادق الحزن على خالد حين خرج عن مألوف رأيه فترك نسوة قريش يندبنه ثم أظهر الندم على عزله وقال فيه كل ما قاله؟ أم اقتضته مروءته أن يكون مجملًا مع ابن خاله في مماته، ولم يكن مجملًا معه في حياته، فترك النسوة يبكين لعل في البكاء ما يخفف لوعتهن، وقال ما قال يعزي به بني خالد وأهله؟ الله أعلم بالسرائر، ونحن بعد إزاء روايات مضطربة عن هذا الموقف من مواقف عمر، يتعذر علينا أن نقطع أيها الصحيح وأيها الموضوع.

وإن يصدق حزن عمر فلا عجب والموت يسمو بمن مات إلى مقام السيرة المبرأة عن الشماتة والحقد، فللأحياء منها المثل والعبرة، ولقد كان لعمر من قوة ثقته وشدة بأسه وعظيم إيمانه وعدله، وبالغ رقته ورحمته، وما بينه وبين خالد من صلة الرحم، ما يدعوه للحزن عليه والأسى لمصاب أهله فيه، وكيف لا يحزن وعلى مثل خالد تبكي البواكي! بل كيف لا يحزن ولا يزال اسم خالد يدوي في الآفاق كما لا يزال اسم عمر يدوي فيها، وخالد أعظم بناة الإمبراطورية الإسلامية، وعمر أعظم من وطد ركنها ووجه سياستها!

هذه قصة خالد وعمر وقد وقف غير واحد من المؤرخين عندها، ونصبوا أنفسهم منصب الحكم بين الرجلين ليقولوا: أظلم عمر خالدًا أم لم يظلمه حين عزله، وكثيرون يتعصبون لخالد ويقفون في صفه ويرون أن عمر لم ينصفه، فلو أن قصة الأشعث بن قيس صحت على أسوأ وجهيها وكان خالد قد أجازه من إصابة أصابها، لما كفت في رأيهم سببًا لعزله، صحيح أن عمر كان شديدًا في محاسبة عماله، وأنه كان يسألهم عما كسبوا من مال في ولاياتهم، ويقبض منهم ما لعلهم كسبوه بسببها، لكنه لم يعزل كل من وجه إليه هذه التهمة، بل لقد وجهها إلى عمرو بن العاص وهو على مصر غير مرة ثم لم يعزله، ولم يكن أحد من ولاة عمر وعماله كخالد بأسًا وأيدًا، ولم يكن لواحد منهم مثل عبقريته في القيادة وإقدامه في الحرب، فليس من الإنصاف أن يشتد عمر في مؤاخذته ما لم يشتد في مؤاخذتهم، أما الذين يتعصبون لعمر ويقفون في صفه، ويرون أنه لم يظلم خالدًا حين عزله، فيذكرون أن جائزة الأشعث لم تكن وحدها سبب عزله، وإنما كانت بعض المظاهر لزهو خالد وخروجه على أمر الخليفة، فقد أمره ألا يتصرف في الفَيْء إلا بعد مراجعته فلم يفعل، وأن يحبسه على ضعفة المهاجرين فجعله لذوي الشرف واللسان؛ لذلك خشي عمر أن يُفْتَتَنَ خالد بالناس كما فُتِنوا به، فيكون الخطر على الدولة في بقائه، كما خشي أن يظن الناس أن خالدًا أصبح ضرورة لا غنى عنها لانتصار جيوش المسلمين، فتصغر أقدر القادة دونه، وتعظم العقيدة فيه فتضعف العقيدة بالله، وذلك شر إن أصاب الدولة وتأصل فيها فسد أمرها، ولا سبيل إلى استئصال هذا الشر إلا بعزل مصدره، ولو في غير جريرة، فإذا رأى الناس جيوش الدولة لا تزال من بعد مظفرة، قرت عقيدتهم بالله وثقتهم بقوادهم وساستهم، فكان للدولة ولدين الله بذلك كسب لا يقاس عزل رجل بجانبه، ولو كان هذا الرجل خالد بن الوليد.

لم ير كثيرون أن يقفوا من خالد وعمر موقف الحكم إكبارًا لهما عن مقام القضاء، والاتهام، واقتناعًا بأن ما انتهى إلينا من تفاصيل الحوادث وملابساتها فيه من القصور والاضطراب ما يردنا عن الحكم، وإن أسفوا مع ذلك على ما حدث أشد الأسف، فخالد وعمر رجلان قل نظيرهما في الرجال، فلو أنهما تضامنا إلى النهاية في بناء الإمبراطورية وسياستها، لأسرع الفتح أكثر مما أسرع، ولاتسعت رقعته أكثر مما اتسعت، ولدخل المسلمون القسطنطينية وخالد على رأسهم، ولأدالوا من دولة قيصر ما أدالوا من دولة كسرى، ولكان لذلك أثره الباقي في حياة الإسلامة وفي حياة العالم، ولرأينا من هذا الأثر غير ما نرى اليوم، ولسارت الحضارة غير سيرتها التي عرفنا.

وهذه فروض لا يدري أحد ما كان يصح منها لو لم يحدث ما حدث، وعندي أن عمر إنما عزل خالدًا عن كل عمل للسبب الذي عزله من أجله عن إمارة الجند غداة خلافته، فالثقة بين الرجلين لم تكن قائمة في عهد أبي بكر ولا من قبله، وكان عمر يود لو أن أبا بكر عزل خالدًا لحادث ابن نويرة أو لحادث غيره، فلما أبى الصديق أن يأخذ بظنة عمر فيه ولم يعزله، لم يكن لعمر يوم تولى أن يفصله عن الجند كله، فقد كانت جيوش المسلمين على اليرموك في إمرته، وكانت ضخامة اسمه وثقة الصديق به تحولان دون عزله؛ لذا اكتفى برد أبي عُبَيْدَةَ إلى مكانه من إمارة الجند، وأن يسير خالد تحت لوائه، فلما انتصر خالد في اليرموك وفتح دمشق ودوت فعاله في شبه الجزيرة كما دوت في العراق والشام، ثم كانت جيوش الروم لا تزال قوية بإزاء المسلمين، لم يكن لعمر إلا أن يحتمل ابن خاله وإن على مضض وأن يُعجب بفعاله وإن بقي على سوء رأيه فيه، فلما فر هرقل إلى عاصمة ملكه ثم قمع المسلمون ما حدث من الانتقاض في شمال الشام، وحصنوا ما بينهم وبين الروم من تخوم، وأمن عمر عودة هرقل وجنوده، لم يبقَ لخالد إلا أن يكبح جماح زهوه؟ وأن ينزل على رأي الخليفة في الفَيْء وغير الفيء، كما ينزل كل عامل غيره، لكن خالدًا ظل على اعتزازه بنفسه واعتداده بمقدرته، فاستأثر بما رأى أنه من الحق لنفسه أن يستأثر به حين توزيع العطاء من مغانمه، مخالفًا بذلك أمير المؤمنين عن رأيه، خارجًا فيه عن سياسته، وحرك ذلك في نفس عمر كل ما اجتمع فيها من سوء الرأي بخالد قبل حادث ابن نويرة وبعده، فكان الذي حدث من استدعاء خالد إلى حمص ليقف بين الناس موقف المتهم، ولتنزع قَلَنْسُوَته ويعقل بعمامته؛ وليُسأل كأنه خائن للأمانة، وليعزل بعد ذلك فيبقى بعيدًا عن ميادين فخره ومجده حتى يموت على فراشه كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!

رحم الله خالدًا ورحم عمر! لقد كانا قوتين من أضخم قوى القدر، اتسعت لهما شبه الجزيرة ما كانتا كمينتين، فلما تفتحتا وانتشرتا ضاق بانتشارهما ملك الفرس والروم مجتمعين؛ فاصطدمتا فلم يكن بد من أن تنكمش إحداهما حتى تبلغ الأخرى مدى انتشارها، وقد رضي خالد أن يكون القوة التي تنكمش، لكي لا يؤدي الصدام إلى تحطيم القوتين جميعًا، ومن توفيق الله أن حانت ساعة انكماشه بعد أن اطمأن المسلمون بالشام إلى سلطان أقروه، وعدل أقاموه، وسياسة أحكموها.

أفَقَرَّ المسلمون بالشام على نحو ما قروا بالعراق، فاستأثروا فيه بمدن أقاموها كما أقاموا البصرة والكوفة، ثم انتشروا في سائر أرجائه؟ كلا! بل أقاموا بدمشق وحمص وغيرهما من المدن الكبيرة فيه، وشجعوا القبائل التي أسلمت وكانت مقيمة بالحاضر المتصل بهذه المدن على الإقامة معهم بها، ثم لم ينتشروا فيما وراءها، وقد يبدو هذا عجيبًا؛ ففي الشام الحدائق الغناء، والأودية الممرعة الخصب تكسوها المزارع إلى مدى الأفق، والجبال الباسقة تجلل هاماتها الثلوج ناصعة البياض، والأشجار المثمرة من أعناب وتين وزيتون، والمياه المتدفقة منحدرة من السفوح المرتفعة إلى المنبسطات السهلة الواسعة، فكيف لم يجذبهم كل ذلك إليه ما جذبتهم أرض العراق! السر في ذلك أن بالعراق من أرض البادية ومن أشجار النخيل ما استهوى نفوسًا ألفت النخيل وألفت البادية، والناس أكثر ميلًا لما ألفوا واطمئنانًا إليه، ثم إن أهل العراق كانوا أسرع إلى الإسلام؛ فكان ذلك أدعى لتوثيق الأواصر بينهم وبين أهل شبه الجزيرة، أما نصارى الشام فاستمسك أكثرهم بادئ الأمر بدينهم، ورأوا أداء الجزية أيسر عليهم من تركه، فظل اختلاف الدين حجابًا بينهم وبين العرب الفاتحين، على أن سياسة الحكم في القطرين لم تختلف، بل كانت قائمة فيهما على حماية أهل الذمة والتسوية بينهم وإن اختلفت مذاهبهم وأجناسهم، وأن يكون المسلمون جميعًا سواء فيما فرضه عليهم الدين الجديد، يؤدون لله حقه، ويهبون له حياتهم راضين مطمئنين.

أدى استقرار المسلمين بالشام والعراق إلى وحدة الجنس العربي، أفما آن لعمر أن يضم هذه الإمبراطورية الناشئة في وحدة تزيدها قوة؟ كان ذلك أكبر رجائه، بل كان ذلك عزمه الصادق، لكن للأقدار حكمًا لا يستقر أمامه عزم، وقد أرادت الأقدار أن تزداد الإمبراطورية سعة، وأن تزداد رقعتها انفساحًا، وسنرى من بعد ما ينطوي عليه حكم الأقدار في ذلك من موعظة بالغة.

هوامش

(١) قيل في رواية يرجحها ابن كثير أن عمر إنما بلغ سرغ.
(٢) نصيبين هي الآن ديار بكر. ويذهب كوسان دبرسفال إلى أن هيت وقرقيساء والموصل أخضعت في هذه الغزوات. ورواية المؤرخين الثقات جميعًا أن هذه البلاد أخضعت من قبل على ما ذكرنا.
(٣) يذكر بعض المؤرخين أن خالدًا كان يسير في غزواته هذه تحت لواء عِيَاض بن غَنْم. ويذكر آخرون أنه كان يسير مستقلًّا بنفسه وأنه لم يتأمر عليه أحد غير أبي عُبَيْدَةَ.
(٤) بثَنِيَّة: حنطة منسوبة إلى البثَنِيَّة بناحية دمشق. أو هي الزبدة؛ أي صارت كأنها زبد وعسل.
(٥) وفي بعض الروايات ستين ألفًا في أيام أبي بكر وما زاد عليها ففي أيامك. فإن شئت فهي لك.
(٦) وفي رواية أنه رد عليه كل ما أخذه منه.
(٧) المشهور أنه مات سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص. وأصحاب هذه الرواية يذكرون أن خالدًا قدم المدينة بعد ما عزله عمر، وأنه اعتمر ثم رجع إلى الشام، فلم يزل بها حتى مات وأن عمر رأى حجاجًا يصلون بمسجد قباء عرف أنهم نزلوا حمص بالشام، فسألهم عن أخبارها فقالوا: مات خالد بن الوليد. وتجري رواية بأنه مات بالمدينة، وأصحابها يذكرون أن خالدًا ذهب من الشام إلى المدينة زائرًا أمه، فلما كان خارجًا منها اشتكى فقال لأمه وكانت تصحبه: احدروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرضته حتى مات بها.
(٨) وفي رواية أن عمر قيل له: إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره، فأَرْسِلْ إليهن فَانْهَهُنَّ.
(٩) أراد الصياح والجلبة عند الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤