الفصل التاسع عشر

فتح مدينة مصر وحصونها

عاد رسول عمر يطوي الطريق إلى المدينة، حاملًا إلى أمير المؤمنين النبأ بأن عمرو بن العاص دخل أرض مصر أشد ما يكون عزمًا على فتحها، وأكثر ما يكون حاجة إلى المدد، وسار ابن العاص إلى العريش فلم يجد بها من يدافع عنها، فتخطاها منحدرًا إلى الجنوب من بحيرة سِربونة سائرًا في الطريق الذي سار فيه الفرس لفتح مصر قبل خمس وعشرين سنة من ذلك التاريخ، ولم يلقَ عمرو من يقف سيره حتى بلغ مدينة الفَرَما، وهناك لقيه الروم في قوة وقفت في وجهه وحاولت صده عن الغزو.

والطريق من العريش إلى الفرما طويل يبلغ نحو سبعين ميلًا، وهو يجري خلال الصحراء، تتخلله عيون وقرى تهون على السائر شقته؛ لذلك كان الطريق المعبد بين فلسطين ومصر من أقدم الحقب، حتى لقد شهد «مقدم إبراهيم ويعقوب ويوسف وقمبيز والإسكندر وكليوبترا وأسرة المسيح»١ إلى هذه البلاد، وكان هذا الطريق طريق الحاج بين مصر وبيت المقدس، كما كان طريق التجارة والأسفار بين آسيا وأفريقيا، وقد سار عمرو بن العاص فيه غير مرة من قبل في تجارته، كما سار فيه مع ذلك الشماس الذي روينا قصته، والذي قيل: إنه سار بعمرو إلى الإسكندرية ليجزيه عن إحيائه إياه مرتين.

والفرما هي «بَرَمون» القبطية، و«بِلُوز» الفرعونية، وهي تقع على هضبة من الأرض قريبة من البحر الأبيض ومن مصب الفرع «البلوزى» من أفرع النيل السبعة؛ فقد كان النيل في ذلك العهد والعهود التي سبقته يتفرع في مصر السفلى — الوجه البحري — سبعة أفرع: اثنان منهما هما المعروفان في وقتنا الحاضر باسم فرع دمياط وفرع رشيد، وكان أولهما يسمى في ذلك الزمن الفرع الفِتنتي والثاني يسمى الفرع البِلبِيتي؛ أما الفرع الثالث فكان مستقلًّا عنهما يبتدئ جنوبهما بنحو ستة أميال ويتجه إلى الشرق خلال ما نعرفه اليوم باسم مديرية الشرقية حتى يصب في البحر الأبيض على مسافة تزيد على أربعة وعشرين ميلًا شرقي الموقع الذي تقوم فيه بورسعيد، وهذا الفرع الثالث هو الفرع البلوزي، أما الأفرع الأربعة الأخرى فكانت تتشعب من فرعي النيل الباقيين في عهدنا الحاضر، وكان اثنان منها يجريان في مديريتي الشرقية والدقهلية أو يصبان في البحر الأبيض خلال بحيرة المنزلة؛ الشرقي منهما هو الفرع التانيتي الذي يمر بتانيس، وهي «صان الحجر» المدينة الأثرية المعروفة في عهدنا الحاضر، والآخر هو الفرع المِنْديزي الذي يخترق مديرية الدقهلية متشعبًا من النيل عند نقطة قريبة من موقع ميت غمر ليصب في أثناء بحيرة المنزلة في موضع بين بورسعيد ودمياط، وكان الفرع السَّبَنْتِي يخترق مديرتي المنوفية والغربية مبتدئًا من فرع دمياط على مقربة من موقع القناطر الخيرية ليصب في بحيرة البرلس، ثم كان الفرع الكانوبي يتشعب من أوسط فرع رشيد ليتجه شمالًا بغرب حتى يصب على مقربة من الإسكندرية إلى شرقيها.

وكانت هذه الشبكة المائية الرئيسية تمد ترعًا كثيرة تروي هذا المثلث العظيم من أرض مصر الخصبة المعطاء، وكان هذا المثلث يمتد غربًا فيما وراء الإسكندرية حتى يبلغ برقة، فكانت منطقة مريوط آهلة ألِف ناسها الترف، يقيمون في منازل جميلة تحيط بها حدائق زاهرة غناء، وكانت هذه المنطقة الكثيرة الفاكهة تمتد إلى تخوم برقة وتنتج من شهي الثمار ما يرسل الكثير منه إلى بلاد الروم، وكانت أعنابها ذات شهرة واسعة جعلت «فرجيل» و«سترابو» يتحدثان عن جودة خمرها ما تحدث أبو نواس وأصحابه عن خمر هيت وعانات.

كان ابن العاص على رأس الزاوية الشمالية الشرقية من هذا المثلث حين نزل الفرما، وكانت أنباء سيره قد سبقت إلى الروم منذ تخطي تخوم مصر، فماذا تراهم يصنعون؟ لم يدر بخواطرهم أن يواجهوه أثناء سيره في الصحراء بين العريش والفرما؛ لأنهم كانوا يعلمون أن العرب أقدر الناس على حرب الصحراء، ولأن قرب العريش وما جاورها من فلسطين يجعل إمداد عمرو بالجنود من بيت المقدس وما جاورها أمرًا يسيرًا؛ لذلك آثر المقوقس حاكم مصر أن يدع عمرًا يمضي في طريقه حتى يبعد عنه المدد أو الأمل فيه، وأن يتخذ من حصون الفرما القوية أول موضع للقاء المسلمين، دون أن يخاطر فيذهب إلى هذا الموقع بنفسه، أو يبعث إليه الأطربون كبير القواد.

وتحصن الروم بالمدينة لمواجهة العرب، مؤمنين بقدرتهم على الذود عنها ورد العدو على أعقابه دونها؛ فقد علموا أن العرب الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد، وأنهم ليس معهم من عُدَّة الحصار ما كان مع الفرس حين هاجموا الفرما من قبل ففتحوها دون أن يلقوا كبير مشقة، وعرف عمرو عدتهم وقوتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافًا، مع ذلك لم يتردد في النزول وفي إنشاب الحرب، بعد ما خطب أصحابه وذكرهم بأن المسلمين كانوا قلة دائمًا حيثما واجهوا الروم والفرس، وأنهم قهروا عدوهم في المواقع كلها؛ لأن الله وعدهم النصر وكان معهم، ولم يكذب عمرو أصحابه؛ فقد حاصروا الفرما شهرًا ثم اقتحموها واتخذوها معقلًا بعد أن هزموا الروم فيها شر هزيمة.

كيف حدث هذا؟ كيف استطاع أربعة آلاف أن يحاصروا مدينة منيعة قوية الأسوار والحصون، فيقهروا جندها ويقتحموا أسوارها ويفتضوا حصونها؟ يرى بعض المؤرخين الأمر عجبًا، فيلتمسون له العلة ويزعمون أن قبط الفرما أمدوا العرب بالمعونة في أثناء الحصار، فكان ذلك سبب قهرهم عدوهم، كذلك يقول المقريزي وأبو المحاسن، ويذكر ابن عبد الحكم «أنه كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانًا.» وهذا الذي يذكره ابن عبد الحكم لا يستقيم أكثر مما تستقيم رواية المقريزي ورواية أبي المحاسن، فأبو ميامين هذا هو الأسقف بنيامين، وهو لم يكن بالإسكندرية حين مجيء العرب إلى مصر، بل كان قد فر منها منذ سنوات إلى قوص، كما ذكرنا في الفصل السابق.

ولعل ابن عبد الحكم وغيره من المؤرخين المتأخرين إنما أثبتوا هذه القصة؛ لأنهم لم يجدوا تأويلًا لانتصار عمرو على الروم إلا أن يكون قد لقي العون من أهل مصر، فأثبتوا القصة وصدقوها استنادًا إلى ما كان من كراهية القبط لحكم الروم وقيامهم في وجه الاضطهاد الديني الذي فرض عليهم، والواقع أن القبط لم يعاونوا المسلمين ولم يعاونوا الروم، وأنهم لا أثر لهم في ظفر المسلمين بعدوهم واستيلائهم على مواقعه وحصونه.

لا شك في أن القبط لم يعاونوا الروم في قتال العرب إلا بالقدر الذي يضطرهم إليه خضوعهم، كارهين لسلطان قيصر وعماله، ولكن لا شك كذلك في أنهم لم يعاونوا العرب، إلا أن تكون معاونات فردية يتبرع بها خفية من بلغت ثورة نفوسهم بالروم وحكمهم مبلغًا جعلهم يغامرون بحريتهم وبحياتهم، ليدلوا العرب على عورات الروم، وليكشفوا لهم عن أسرارهم، أما فيما وراء ذلك فقد وقف شعب مصر من الفريقين المتحاربين موقف المتفرج شديد التطلع، لقد أصابه الروم من ألوان الظلم والاستغلال والاضطهاد بما أزال من نفسه كل حماسة لنصرهم، وهو لا يعرف من أمر العرب ما بدعوه إلى كراهيتهم ولا إلى الترحيب بهم، هذا إلى أن قوة الروم وبأسهم في مصر جعلاه يشك في الغلب، لمن يكون آخر الأمر، صحيح أن أنباء العرب وانتصارهم في الشام والعراق كانت تبلغه، لكنه لما يكن قد نسي تغلب هرقل على الفرس في مصر وإجلاءه إياهم عنها، فلو أن هذا الشعب ناصر العرب جهرة فانتصر الروم فالويل ثم الويل له، وسيلقى من ألوان الاضطهاد أضعاف ما كان يلقى من قبل، وليس طبيعيًّا أن يناصر الروم وفي نفسه من كراهيتهم ما فيها، أما والحرب لا تزال في بداءتها، وليس يعلم أحد مصيرها، فالحكمة تقتضيه أن ينتظر ليرى، وأن يكيف موقفه من بعد تكييفًا يجنبه الظلم والضرر، ويحقق له ما يستطاع تحقيقه من منفعة.

وموقف الشعب المصري هذا هو الموقف الطبيعي لكل شعب في مثل حاله يومئذ، لقد ود أن يخرج الروم من بلاده حتى تخلص له خيراتها فيستأثر بحقه الطبيعي فيها، وحتى تتم له حريته وكرامته وعزته كاملة في كل أرجائها، لكنه غلب على أمره منذ عصف الإسكندر المقدوني بحريته واستقلاله، كما عصف بحرية غيره من الأمم واستقلالها، فلما مات الإسكندر وآل أمر مصر إلى البطالسة الإغريق، فانفصلوا عن أمتهم وانفصلوا عن رومية واستقلوا بمصر وأصبحوا مصريين، لم ير الشعب المصري فيهم عنصرًا أجنبيًّا يثور به أو ينتقض عليه، فالأسر المالكة كانت يومئذ في مصر وفي غير مصر من أصل أجنبي، ولا يزال ذلك شأنها إلى اليوم، وقد جاءت هذه الأسر إلى البلاد التي استقرت على عرشها غازية في عهد من العهود، مستعينة بقوات من الجنود الأجراء الذين اتخذوا الحرب والفتح صناعتهم، فلما سكنت الحرب وضوى الناس إلى السلام اطمأنت هذه الأسر إلى البلاد التي تربعت على عرشها واتخذت منها وطنها، فرحب بهم أهلوها واتخذوهم حصنًا يقيهم المنازعات بينهم، وكان ذلك شأن البطالسة؛ أووا إلى مصر وأصبحوا مصريين، واستقلوا بمصر واستقلت بهم مصر، وظل الأمر على ذلك حتى جاء «يوليوس قيصر» ثم جاء «أنطونيو» فنزلا مصر في عهد «كليوباترا» وبنزولهما مصر انضمت إلى الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف الممتدة إلى أقصى الغرب وأقصى الشمال من أوروبا، وإلى بادية السماوة من أرض آسيا.

ولم يمضِ غير قليل على هذا الانضمام حتى جد عنصر نقل العالم من فكرة التوسع في الفتح ابتغاء المجد إلى ميدان أكثر سموًّا في اتجاهه، وأجدر بالإنسان يوم يتم النضج لضمير الإنسان، ذلك العنصر كان المسيحية، فقد دعت الناس إلى المحبة والإخاء، وإلى احتقار متع الحياة الدنيا، وللتنزه عن التقاتل بسببها، وما لبثت المسيحية حين انتشرت في رومية وفي مصر، أن أَنْسَت الناس ما بينهم من عداوة وبغضاء، وأن صورت أمامهم فكرة الإمبراطورية المقدسة يعيشون تحت سمائها إخوانًا متحابين في ظل الله، على أن هذه الصورة سرعان ما غشيتها سحب أضعفت إيمان الناس بها، وذلك حين بدأت المذاهب المسيحية تتعدد، فبدأ أصحاب كل مذهب ينظرون إلى أصحاب المذاهب الأخرى نظرة كراهية وحقد، بذلك عاد الناس إلى ما كانوا من قبل فيه، فعاد المصريون يمقتون الرومان المتحكمين في بلادهم، ثم ازدادوا لهم مقتًا بسبب الاضطهاد الأعظم الذي أخضعهم الروم له.

لم يعاون المصريون عمرو بن العاص في الفرما، فكيف استطاع بقوته الصغيرة أن يحاصر مدينة منيعة قوية الأسوار والحصون فيقهر جندها ويقتحم أسوارها ويفتض حصونها، لقد أقام أمامها شهرًا في الرواية المشهورة، وشهرين في رواية أخرى، فكان جنودها يخرجون إليه من حين إلى حين يقاتلونه ثم يرتدون إلى مدينتهم يتحصنون بها، وكان عمرو يغير في هذه الأثناء بكتائب صغيرة على ما حوله من البلاد، يجيء منها بالأقوات التي يحتاج إليها جيشه، وكانت حامية المدينة تتوقع، بعد أن طال حصارها، أن تبعث الحكومة المركزية إليها مددًا يعاونها على رد العرب وإجلائهم عن مصر، لكن المدد لم يجئ، ولم يبلغ الحامية نبأ يبشر بقرب قدومه، عند ذلك رأى أميرها أن يغامر فيخرج بها إلى ما وراء الأسوار يلقى العدو وجهًا لوجه، طامعًا في التغلب عليه والظفر به، لكنه ما لبث حين اشتد القتال أن ألفى المسلمين ليوثًا ضارية لا تهاب الموت، فأمر أصحابه بالارتداد إلى الحصون والاحتماء بها ورآهم المسلمون يرتدون فتعقبوهم، وأمعنوا فيهم قتلًا وأفشوا الاضطراب في صفوفهم، وسبقوهم إلى باب المدينة وملكوه عليهم، وتجاوزوا الأسوار إلى الحصون فاحتلوها، لم يبقَ للروم إلا التسليم، واستولى عمرو على المدينة، فهدم أقوى حصونها، وأحرق السفن الراسية في المرفأ القريب منها، وخرب كل كنيسة أو دير يمكن التحصن به فيها، ثم اتخذها معقلًا يُؤمن الطريق إلى فلسطين وإلى بلاد العرب، وأقام يفكر في الخطوة التي يجب عليه أن يخطوها بعد أن كسب الموقعة الأولى في الصميم من أرض مصر.

ما السبب في قعود المقوقس عن إمداد حامية الفرما؟ هذا سؤال يرد بخاطر كل مؤرخ، ويذهب بتلر إلى أنه لا يجد ما يفسر به هذا القعود إلا خيانة قيرس لقيصر، طمعًا منه في فصل بطرقة الإسكندرية وشقها عن القسطنطينية، بالاتفاق مع العرب وإعانتهم على دولته، وبتلر لا يدعم هذا الرأي بأي سند، من الواقع، بل يستنبطه من الحوادث استنباطًا، وفي رأينا أنه مذهب أملته عاطفة مسيحية، ولم تمله حقيقة تاريخية، إذ لمَّا يكن قيرس قد رأى أحدًا من العرب ليتفق معه، وهو قد ثبت من بعد لقتال عمرو والمسلمين في بابليون وفي الإسكندرية، فالقول بأنه خان دولة الروم لغاية في نفسه استنباط مصدره العاطفة وليس له من منطق التاريخ سند.

ونحن نرى أن القعود عن إمداد حامية الفرما يرجع إلى أكثر من سبب وأول هذه الأسباب شعور الروم في مصر بعداوة الشعب المصري لهم عداوةً لا يسهل التكهن بما يمكن أن تتنفس عنه، فلو أنهم بعثوا بقواتهم المعسكرة في مصر أو في الإسكندرية للقتال في الفرما ثم ثار المصريون بهم لفت ذلك في أعضادهم، ولما كان إمداد الفرما لينقذهم من شر هذه الثورة في المدن الكبرى، ثم إنهم كانوا يذكرون هزائمهم أمام المسلمين في سورية وفي فلسطين، وكانوا لذلك لا يريدون المغامرة بمقاومة هؤلاء الجبابرة في ميدان لا يثقون بقدرتهم على المقاومة فيه، لهذا آثروا أن يتحصنوا ببابليون على مقربة من مصر ومن منف ليكون النيل خندقًا بينهم وبين عدوهم، وأن يقتصر أمرهم في الفرما وفي غيرها من البلاد الصغيرة الحصينة على وقف العرب أطول زمن حتى تتاح لهم الفرصة لتقوية حصونهم في المراكز الرئيسية، فإذا غامر العرب من بعد وبلغوا مدينة مصر صدتهم حصونها عن التقدم، وربما أمكن القضاء عليهم، فكان ذلك كافيًا لصرفهم عن مصر وصدهم عن التفكير في العودة إليها.

قد يكون هذا التفكير خاطئًا من الناحية الحربية، لكن الحوادث التي وقعت من بعد تدل على أنه كان تفكير المقوقس وأصحابه في الفترة الأولى من دخول العرب مصر، فقد انضم إلى عمرو بعد فتح الفرما جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية طمعوا في مغانم القتال، فعوضوا المسلمين عمن فقدوا في أول حصار ضربوه بمصر، ثم إن عمرًا سار منحدرًا إلى الجنوب ملازمًا هذه التخوم فتخطى مدينة مَجْدَل القديمة إلى موضع «القنطرة» اليوم، ومن ثم اتجه غربًا إلى القصاصين، وتابع مسيرته جنوبًا بغرب حتى بلغ بلبيس، وفي الطريق الطويل الذي قطعه فرسان المسلمين في أرض مصر لم يكن عمرو «يُدَافَع إلا بالأمر الخفيف» على تعبير ابن عبد الحكم ومن أخذ عنه من مؤرخي العرب، وهؤلاء المؤرخون يروون أن راعيًا من البدو الموالين للمسلمين دنا من منازل قرية في طريق عمرو، فسمع نفرًا من القبط يقول أحدهم: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم وهم في قلة من الناس! ويجيب آخر: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، وهذا السير الطويل وهذا الحديث الذي يتناقله المصريون صريح في الدلالة على أن المقوقس وأصحابه لم يكونوا مطمئنين لولاء المصريين، وأنهم لذلك آثروا التحصن عند مدينة مصر على مواجهة الغزاة في هذه الأرض المكشوفة المتاخمة للصحراء، فلم يلق المسلمون من يعترض طريقهم أو يدافعهم «إلا بالأمر الخفيف» حتى بلغوا بلبيس وصاروا على ثلاثة وثلاثين ميلًا من مدينة مصر وحصونها.

يتفق المؤرخون على أن المسلمين أقاموا ببلبيس شهرًا قاتلوا في أثنائه عدوهم وظفروا به، لكنهم يختلفون: أكان القتال بين الفريقين عنيفًا أم أن المسلمين لم يلقوا فيه من بأس الروم أكثر مما لقوا مذ غادروا الفرما، وتذهب بعض الروايات إلى أن المقوقس بعث إلى عمرو، أول ما نزل بلبيس، من يفاوضه ليرجع عن مصر، وأن عمرًا تحدث إلى الأساقفة المفاوضين عن بعث الله رسوله بالحق، وأنه أمر أصحابه بالإعذار إلى الناس، «فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، وقد أعْلَمَنا أنَّا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظًا لرحمنا فيكم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.» وفطن الأساقفة إلى أن عمرًا يشير بصلة الرحم إلى هاجر أم إسماعيل، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء! ثم أضافوا: آمِنَّا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يُخدع، ولكني أؤجلكم ثلاثة أيام لتنظروا وتناظروا قومكم وإلا ناجزتكم فاستزادوه فزادهم يومًا ثم يومًا خامسًا، ورجع الملأ إلى المقوقس فحدثوه بحديث عمرو فأبى القائد الأطربون إلا مناجزة المسلمين، وقال الأساقفة المفاوضون للناس وقد رأوا مخاوفهم: «أما نحن فنسجهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام فلا تصابون فيها بشيء إلا رجونا أن يكون له أمان.»

سار الأطربون عقب هذا الحديث في اثني عشر ألفًا كاملي العدة حتى يأخذ المسلمين ببلبيس على غرة، ولقد فجاهم وبيتهم بياتًا شديدًا، لكن عمرًا كان الحذر كل الحذر، وكان كل جيشه فرسانًا في عدة القتال؛ لذلك حميت المعركة بين الفريقين، فيما يذكر أصحاب هذه الرواية، فقُتل فيها من العرب عدد ليس بالقليل، وخسر الروم ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير، ثم انهزم الأطربون وتمزق جيشه، ويقال إنه قتل.

لماذا أقام عمرو شهرًا كاملًا ببلبيس؟ وهل أقام هذا الشهر قبل لقائه جند الروم وظفره بهم، فلما تم له النصر سار يريد مدينة مصر؛ أم أنه أقام هذا الشهر بعد انتصاره يدبر خطته ويفكر في موقفه، فلما اطمأن إلى تدبيره تابع مسيرته؟ ليس في المراجع التي وقفت عليها ما يكشف عن ذلك، وكل ما استطاع بتلر أن يستنبطه من بحوثه في تواريخ الفتح العربي أن جيش عمرو كان بالعريش في عيد الأضحى من السنة الثامنة عشرة للهجرة، وهذا التاريخ يوافق ١٢ ديسمبر سنة ٦٣٩، وأنه فتح الفرما حول ٢٠ يناير سنة ٦٤٠ بعد حصار دام شهرًا، وأنه بلغ هليوبوليس في الأيام الأخيرة من شهر أبريل لتلك السنة، فهو إذن قد بلغ بلبيس في شهر فبراير، ثم أقام بها معظم شهر مارس، لكن إيراد هذه التواريخ لا جواب فيه عما تسأل عنه، وأنت تستطيع أن تجيب استنباطًا أن المفاوضين المصريين جاءوا عمرًا أول ما نزل ببلبيس، وأن الموقعة بينه وبين الأطربون كانت في الأيام الأولى من مقامه بها، فلما تم له النصر لم يسارع إلى السير، بل أقام حتى يطمئن إلى ولاء البلاد المحيطة به، وأنه بقي لذلك شهرًا اتصل فيه بالمصريين وكسب ولاءهم، لكنك تستطيع أن تجيب استنباطًا كذلك بأنه أقام ببلبيس هذا الشهر قبل أن يجيئه المفاوضون المصريون، وأنه كان ينتظر أن يجيئه المدد الذي وعده الخليفة به في أثناء هذا الشهر، فلما سار الأطربون إليه فقدر عليه وظفر به، أراد أن يستفيد مما بعثه النصر إلى نفوس جنده من حماسة، وإلى نفوس عدوه من اليقين بأن المسلمين لن يغلبهم غالب، فسار يريد مدينة مصر راجيًا أن يفتحها الله عليه ويوطئه أكنافها.

أفجاءه المدد الذي كان ينتظره قبل أن يلقى الأطربون فتغلب عليه وهذا المدد معه، أم أنه ظفر به وليس معه إلا الجند القليل الذي بقي له بعد الفرما والبدو الذين انضموا له وعوضوه عمن فقدهم في حصارها؟ الظاهر من الروايات أن المدد لم يجئه إلا بعد انتصاره ببلبيس ومسيرته منها، يقول ابن عبد الحكم ويتابعه السيوطي وابن تَغْرِي بَرْدِي: «فتقدم عمرو لا يُدَافَع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوًا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يُدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دُنَيْن، فقاتلوه بها قتالًا شديدًا وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف.» وظاهر هذا النص صريح في أن عمرًا غادر بلبيس بعد انتصاره على الأطربون قبل أن يصله المدد، وأنه هزم الأطربون وعِدة جيشه اثنا عشر ألفًا بأربعة آلاف من الذين كانوا معه من العرب ومن بدو مصر.

سار عمرو من بلبيس متاخمًا الصحراء حتى نزل قريبًا من قرية «أم دُنَيْن» على النيل عند مأخذ خليج تراجان الذي يصل مدينة مصر بالبحر الأحمر عند السويس، وكانت أم دُنَيْن تقع في موضع حي الأزبكية من أحياء القاهرة اليوم، وكانت حصينة يجاورها مرفأ على النيل فيه السفن كثيرة، وكانت تقع إلى الشمال من بابليون، حصن مدينة مصر الأعظم، فكانت مسلحتها لذلك طليعة الدفاع عن هذه المنطقة العزيزة على المصريين ومقر ملكهم في عهد الفراعنة الأقدمين، وكان حصن بابليون حصنًا رومانيًّا منيعًا يقع موقع مصر القديمة اليوم، وكان متين البنيان قوي الأسوار، قاومت متانته أحداث الزمن فلم ينقضِ بنيانه إلا في العشرين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر المسيحي، ثم بقيت مع ذلك منه أطلال لا تزال تشهدها أعيننا، وعلى أميال قليلة إلى الجنوب من هذا الحصن كانت تقع مدينة منف الخالدة الذكر الباقية الأثر، منف عاصمة مصر حين كان العالم كله يتطلع إلى مصر على أنها مهبط الوحي ومستقر الحضارة فيه، وقد بقي لمنف كل جلالها حتى نافستها الإسكندرية بهاءً وجلالًا، وظلت تفاخر الإسكندرية بما حولها من تراث ضخم خلفه زوسر ورمسيس وفراعنة مصر أيام أظلت العالم حضارة مصر، كما كانت تفاخرها بالأهرام وبالمقابر العظيمة القائمة حولها، وكان اسم مصر يطلق على مدينة منف أو على مدينة تقابلها على الجانب الآخر من النيل نما أمرها وزاد سكانها حتى كانت تسمى باسم منف في بعض الأحايين، وفي الصحراء الغربية الذاهبة بين منف والجيزة كانت تتصل سلسلة من الأهرام ذات العظمة والجلال، تتلاحق حتى تنتهي إلى هرم خوفو والهرمين المجاورين وأبي الهول الرابض تحت سفوحها يرقب بعيون ثابتة مطلع كل شمس، وقد قامت كلها قبالة حصون الروضة وبابليون وأم دُنَيْن.

أفتصور المسلمون الذين ساروا مع عمرو هذا المشهد الباهر لا نظير له في العالم كله؟ وهل حدثهم عنه أحد من البدو الذين ساروا معهم بعد ما فصلوا من الفرما، وحين ساروا من بلبيس بعد ظفرهم بجند الروم؟ وهل كان منهم من أحد شهد فتح المدائن وشهد أبيض كسرى ليرى عجائب الدنيا مجتمعة في هذا المكان الذي أقبلوا عليه من أرض مصر؟ أم تراهم كانوا في شغل بقلة عددهم وما يريدهم عليه عمرو من مواجهة الروم في حصون عزيزة المنال؟ لقد نزلوا قريبًا من أم دُنَيْن؛ فبهرهم منظر النيل بسعة مجراه وبالخصب الممرع حوله وبأشجار الربيع ونباته يتثنى ريان ضاحك الخضرة، فوق أرض أخذت زخرفها وازينت فهي جنة للناظرين، لكنهم سرعان ما شغلوا عن هذا المنظر بالحصون القائمة أمامهم، وبما عرفوا من أن الروم أعدوا لهم بعد ما أيقنوا أن هذه الحصون ملاذهم، فإن تُفْتَضَّ عليهم فلا بقاء من بعد ذلك لهم، فقد جاء الروم إلى حصن بابليون بجل قوتهم، وأمدوا حصن أم دُنَيْن بمسلحة قوية، وتهيئوا لقتال لم يبقَ لديهم شك في أنه قتال حياة أو موت، فإما ردوا العرب بعده على أعقابهم، وإما قالوا في أعقابه ما قاله هرقل يوم ودع سورية الوداع الأخير: عليك السلام يا سورية سلامًا لا اجتماع بعده!

وأدرك عمرو بن العاص دقة الموقف وخطره؛ فقد جاءته عيونه بأنباء عرف منها أنه لن يستطيع أن يفتح حصن بابليون أو يحاصره بمن معه من الجند، ولن يستطيع أن يفتح مدينة مصر، وهي في جوار الحصن وفي حمايته، لكنه أدرك كذلك أنه إن يرجع عن مهاجمة الروم يضعف شوكة رجاله ويذهب عزمهم، فيقوى عليهم عدوهم فيردهم ناكصين على أعقابهم، وما كان له أن يأتي أمرًا ذلك أثره، وهو الذي أصر على فتح مصر، وهو موقن أن أمير المؤمنين لا ريب ممده عما قليل، لا بد له إذن من مغامرة يكتب له فيها النصر، وله من بعدها أن يداور ليكسب من الوقت ما يشاء حتى يجيء المدد، أما وحصن بابليون لا سبيل إليه فليحاصر حصن أم دُنَيْن، وليبذل في سبيل فتحه كل ما يستطيع بذله، فإذا استولى عليه أصبحت السفن الراسية في مرفئه رهن أمره، وأصبح في مقدوره أن يدبر خطته وأن يحكم مداورته.

وكان الحذر يقتضي عمرًا ألا يفرط في رجاله أو يدفعهم إلى هلكة، وأن يستعجل أمير المؤمنين المدد ليضاعف الأمل في قرب مجيئه قوة الجند الذين معه؛ لذلك بعث رسولًا إلى المدينة بكتاب يصف فيه مسيره إلى مصر وموقفه من حصونها وحاجته إلى المدد لاقتحامها، وأذاع في الجند أن المدد موشك أن يجيء، ثم إنه تقدم إلى أم دُنَيْن فحاصرها ووقف قبالتها يمنع عنها العتاد والميرة، ولم يفكر الروم المقيمون في حصن بابليون أن يخرجوا إليه وقد علمهم مصير الأطربون أنه لا طاقة لهم بالقتال المكشوف، أما مسلحة أم دُنَيْن فكانت تخرج إلى القتال أحيانًا ثم ترتد إلى الحصن إن لم تظفر بالمسلمين، ومضت أسابيع لم يتغير الموقف فيها، وإن لم يشعر المسلمون أثناءها بشيء من القلق أن كانت الميرة في متناول أيديهم.

وإنهم لكذلك أن جاءتهم الأنباء بمَقْدَم أول مدد لهم، وبأن هذا المدد موشك أن يبلغهم فقوى بأسهم، واشتدت سطوتهم، وأقبل المدد، ورآه حماة الحصن من جنود هرقل، فسُقِط في أيديهم وقل خروجهم للقاء المسلمين، فلما رأى عمرو ذلك منهم، وكان قد عرف مداخل الحصن ومخارجه، تخير وقتًا أمر فيه أصحابه أن يشدوا كلهم على الحصن شدة رجل واحد ليأخذوه عَنْوَةً، وسار هو في طليعتهم إلى بابه، ففتحه الله عليهم فاستولوا عليه بعد مقتلة عظيمة، وبعد أن أسروا من بقي فيه حيًّا.

لم يذكر المؤرخون تفصيل ما وقع في اليوم الحاسم لهذه المعركة، ويذهب بتلر إلى أن عمرًا شق على رجاله في ذلك اليوم، مستندًا إلى قصة رواها مؤرخو العرب أن عمرًا رأى جماعة يترددون في القتال فصاح بهم يحثهم عليه ويدفعهم إليه، فقال له أحدهم: إنا لم نخلق من حديد، فانتهره عمرو بقوله: اسكت! إنما أنت كلب! وأجابه الرجل: فأنت أمير الكلاب! فأعرض عمرو عنه ونادى بأصحاب رسول الله وقال لهم: تقدموا فبكم ينصر الله، فاندفعوا في الوطيس وتبعهم الناس، ففتح الله على المسلمين، وابن الأثير يذكر هذه القصة حين يذكر وقعة عين شمس، وأيًّا ما كانت الموقعة التي حدثت القصة فيها فلا ريب في أن إقبال المدد قد كان له أثر كبير في استيلاء المسلمين على أم دُنَيْن بعد أن أبطأ عليهم فتحها، وأن عمرًا نزلها ثم عبر مع جنده النيل في السفن التي كانت بمرفئها، وسار على رأسهم يتخطون الصحراء مجتازين أهرام الجيزة.

أُخِذَ الروم اللاجئون إلى بابليون حين عرفوا مصير أصحابهم بأم دُنَيْن، وتولتهم الدهشة حين قيل لهم: إن جيش المسلمين تخطى النيل ضاربًا في الصحراء، فما مقصد عمرو من عبور النهر؟ وما عسى أن تكون وجهته؟ أتراه أزمع السير على الفرع الكانوبي يريد الإسكندرية محاولًا فتحها بمن معه من الجند؟ إنه إذن لمردود دون غايته، ولن يبوء إلا بالهزيمة النكراء، لكنهم عرفوا من أنبائه في أثناء سيره بمصر، وجربوا من دهائه وبعد نظره ما أورثهم الريبة من مقصده، وأعماهم عن غرضه، وهو لم يفكر بالفعل في السير إلى الإسكندرية، وكيف يسير إليها وهو يعلم أنها مفتوحة لمدد الروم من البحر! بل كيف يسير إليها تاركًا وراءه حصن بابليون سليمًا زاخرًا بالرجال والعتاد! إنما فكر في أن يسير إلى الفيوم يشيع الفزع في نفوس أهلها، ويقيم الدليل للمصريين على أن دولة الروم لا محالة زائلة، وليس في طريق الصحراء بين الفيوم وبابليون عقبة واجتياز هذا الطريق هين على أبناء البادية من أهل شبه الجزيرة، وهو بعد طريق قريب يقطعه الفارس في ساعات معدودة، فإذا استطاع عمرو إشاعة الفزع في هذا الإقليم بلغ مقصده، وكسب من الوقت ما يكفي الخليفة لإرسال مدد جديد يستطيع به عمرو أن ينفذ خطته في الفتح، وأن يدخل به مصر في حكم المسلمين.

لكن عمرًا لم يلبث حين بلغ تخوم الفيوم أن علم أن الروم أعدوا للدفاع عن الإقليم ووضعوا الجنود على مداخله؛ لذلك لزم الصحراء وجعل يغير بكتائب قليلة على البلاد القريبة منه، يسوق النعم طعامًا لجيشه، وجاء البدو المقيمون بهذه المنطقة بأنباء عرف منها أن كتيبة من الروم بإمرة رجل اسمه حنا تسير مختفية في النخيل والآجام قبالته متنطِّسة أخباره فإذا حاول اقتحام البلاد الآهلة دعت الجيش المرابط في ثغور الفيوم لمواجهته، عند ذلك أغذَّ السير حتى بعد بحنا وكتيبته عن الجيش، ثم ارتد إليه وحاصره ومن معه وقتلهم عن آخرهم.

أذاعت هذه الفعلة الرعب في قلوب أهل الإقليم جميعًا، وقد حزن قائد الروم بالفيوم لمقتل حنا أشد الحزن وأمر بالبحث عن جثته، فلما انتشلت من النهر حنطت ووضعت على سرير وحملت إلى حصن بابليون، وبعث بها إلى هرقل في القسطنطينية، وحزن هرقل لمرآها وأقسم ليدافعن عن مصر بكل قوته، واندفعت قوة من الفيوم تلقى جيش المسلمين وتنشب القتال معه، لكن عمرًا اكتفى بالظفر بحنا وأصحابه وبما أنزله من الرعب في أهل الإقليم، وظل متحصنًا بالصحراء راغبًا عن لقاء عدو يخشى الصحراء ويرى الموت كامنًا فيها، ولَشَدَّ ما اغتبط الروم حين رأوه ينسحب بقواته ممعنًا في الفيافي؛ فقد خيل إليهم أنه خشي لقاءهم ففر منهم، فعادوا إلى قومهم وعلى ثغورهم ابتسامة الرضا بأن كفاهم الله شر القتال!

والواقع أن عمرًا لم ينسحب؛ لأنه خافهم، بل انسحب عائدًا إلى أم دُنَيْن يسرع السير جهد طاقته؛ لأن رسولًا من المسلمين جاءه فذكر له أن أمير المؤمنين بعث إليه بمدد جديد، وأن هذا المدد سار من الفرما إلى بلبيس في الطريق الذي سار فيه عمرو وأنه يوشك أن يصل إلى حصون الروم، فلم يكن لعمرو بد من أن يرجع للقاء المدد خشية أن يقطعه الروم عنه وأن يردوه عن عبور النهر إليه، والمحقق أنه أبدى في ذلك مهارة فائقة؛ فقد كانت جيوش الروم مشرفة على النيل من حصن بابليون، وكان في مقدورها أن تخرج من الحصن وأن تعبر النهر، وأن تحول بين قائد المسلمين والمدد المقبل إليه، لكنها لم تفعل واستطاع عمرو أن يعبر الشاطئ الشرقي وجيشه معه، وأن يتصل بالمدد الذي نزل هليوبوليس على مقربة من الحصن الروماني.

كيف أتم القائد البارع هذه المعجزة من معجزات الحرب؟ أتراه اتخذ الليل لباسًا له ولجيشه ثم عبر النهر محتميًا في ظلمته؟ وهل بقي الروم في غفلة عنه في أثناء سيره وأثناء عبوره فلم يواجهوه ولم يحاولوا رده؟ أم هم عرفوا مجيء المدد وسيره للقائهم فخافوا أن يتخلوا عن الحصن فيهاجمه المدد ويفتضه على من فيه؟ لم يذكر المؤرخون ما يلقي شيئًا من النور على هذه المداورة البارعة، وهذا الانسحاب الدقيق من الفيوم إلى هليوبوليس، وكل ما يذكره بتلر استنادًا إلى مراجعه الكثيرة أن عمرًا استطاع أن يعبر النهر، إما عَنْوَة وإما غرة من الروم «وأغلب الظن أنه عبر النهر في موضع أسفل من موضع أم دُنَيْن إلى الشمال منها، فقد علم بأن أمداد المسلمين سائرة في طائفتين ميممة شطر «عين شمس» وهي «هليوبوليس» وعلم أن مقامه في الجانب الغربي مخطر، والحق أنه فزع خوفًا من أن يفطن الروم إلى الأمر، فيحولوا بينه وبين الاتصال بالمدد الذي جاء به الزبير، ولكن «تيودور» (قائد الروم) ضيع الفرصة على عادته، فلم يضرب الضربة القاضية، واستطاع عمرو أن يسير للقاء المدد ويبلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس وقد امتلأت قلوب أصحابه عزة وبشرًا بما وفِّقوا له من الفوز في غزوتهم.»

كانت عِدة المدد الذي أقبل ثمانية آلاف، عليهم الزبير بن العوام ومعه عبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد، وقد اغتبط عمرو بمقدمهم أيما اغتباط، فلو أنهم أبطئوا عليه أكثر مما أبطئوا لبلغ موقفه من الدقة ما يتعذر معه على أكثر القواد مهارة أن يغالبه ويغلبه، والحق أن المغامرة التي أقدم عمرو عليها، منذ قدم مصر إلى أن جاءه المدد، جديرة أن تعقد تاج الفخر على هامة أشد القواد مخاطرة وأعظمهم براعة، فقد ظل يواجه الأخطار ويقتحمها، ويدفع إلى النفوس اليقين بأن الروم لا حيلة لهم في قوم هزموا كسرى وقهروا قيصر، ألم يواجه جموع الروم في الفرما وفي بلبيس وفي أم دُنَيْن وفي الفيوم، فلم يظفروا به مرة واحدة على حين ظفر هو بهم مرات! وفي هذه الأثناء كانت كتبه إلى عمر باستعجال المدد لا تنقطع، وكان المدد الأول إليه قليلًا فلم يضعضع ذلك من عزمه، ولم يبعث اليأس إلى نفسه، بل كان يلتمس وجوه الحيلة للإبقاء على القوة المعنوية سامية بروح جيشه، واثقًا من مضاعفة أمير المؤمنين المدد له، ومن إنفاذ خطته كاملة متى حانت الفرصة لإنفاذها.

وقد يتولانا العجب لإبطاء المدد عن عمرو كل هذا الزمن؛ فقد كان انتصاره في الفرما وفي بلبيس قمينًا أن يعجل أمير المؤمنين بإمداده، حتى لا يتعرض لمواجهة الروم في حصونهم المنيعة على النيل بجنده القليل، أتراه ظن أن قائده يقيم بالعريش أو بالفرما حتى يأتيه المدد، وأنه لن يغامر بقتال عدوه وهو فيمن هو فيهم من الجند، فلما جاءته الأنباء بانتصاره في الفرما وبمسيرته إلى بلبيس، وبأنه يوشك أن يواجه الروم في عاصمة الفراعنة، ندب الناس مددًا له، ثم ضاعف هذا المدد من بعدُ وجعل على رأسه الزبير بن العوام حين جاءته أنباء أم دُنَيْن وانتصار عمرو فيها؟٢

أيًّا ما يكن الأمر فقد كان الزبير يومئذ قد هم بالغزو وأراد أن يأتي أنطاكية، والزبير ابن عمة النبي وصاحبه، وكان من أبطال العرب المعدودين، فلما عرف عمر ما هم به دعاه وقال له: «يا أبا عبد الله! هل لك في ولاية مصر؟» فأجابه الزبير: «لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهدًا وللمسلمين معاونًا، فإن وجدت عمرًا قد فتحها لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطت به، وإن وجدته في جهاد كنت معه.» ودعا له عمر وودعه، فسار على رأس الجيش حتى دخل مصر وجعل وجهته عين شمس.

وكان اختيار عمر للزبير توفيقًا من الله أعظم التوفيق؛ فقد عرف هذا البطل بشدة المراس وقوة الشكيمة منذ نشأته، وكان إلى ذلك كريمًا في الناس عزيزًا عليهم، أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا، فلما سار إلى المدينة لم يتخلف عن غزاة غزاها رسول الله، وقد بايع رسول الله على الموت في أحد، وندب النبي الناس يوم الخندق من يأتيه بخبر الأحزاب وبني قريظة، فانتدب الزبير، وندبهم الثانية فانتدب الزبير، وندبهم الثالثة فانتدب الزبير، فقال رسول الله: «إن لكل نبي حواريًّا وحواريي الزبير بن العوام.» وكانت مع الزبير إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم فتح مكة، لهذا كله أدناه النبي ومحضه الحب، فلما خط الدور بالمدينة جعل له بقيعًا واسعًا وأقطعه نخلًا كانت من أموال بني النضير، ورخص له في لبس الحرير، وقد أحبه أبو بكر وعمر كما أحبه رسول الله، فأقطعه الصديق الجرف وأقطعه عمر العقيق أجمع؛ بل لقد أحبه كل من عرفه، وكان الجنود الذين يسيرون في إمرته أشد الناس حبًّا له.

تخطى عمرو بن العاص النيل وسار إلى عين شمس، واتصل بالزبير وبالمدد العظيم الذي جاء معه، وكان الزمن قد جر على عين شمس يومئذ ذيل العفاء، فلم تبقَ «أون» مدينة الشمس الفرعونية العظيمة التي كانت كعبة العلوم والدراسات، والتي عرفها أفلاطون وعرفها غيره من فلاسفة اليونان، وتلقوا فيها المعرفة والحكمة، ودرسوا بها الفلسفة والفلك ورأوا من سعة عمرانها وعظمة عمارتها وجلال معابدها ومسلاتها وتماثيلها ما ذكره «هيرودوتس» كما ذكر تبحر رجال الدين بها في التاريخ المصري كله، فقد جرَّت الإسكندرية وفلسفتها على عين شمس ما هوَى بها وبمنف من ذروتهما الرفيعة، فلما حكم الرومان مصر ثم دان أهلها بالمسيحية، هجر العلم وهجر الفقه عين شمس إلى غير عودة، ونقلت منها المسلات والتماثيل إلى طائفة من مدن الدلتا، بل نقل بعضها عابرًا البحر الأبيض إلى رومية، وكذلك تدهور كل ما في مدينة الشمس بعد أن أضاءها العلم وأضاءتها الحكمة بنورهما قرونًا طويلة، فلم يبقَ بها حين نزلها العرب من مجدها القديم إلا اسمها اليوناني «هليوبوليس» وإلا أسوار مهدمة وتماثيل مطمورة تحت الثرى، ومسلة لا تزال قائمة ببلدة المطرية إلى يومنا الحاضر، تدل شاهدها على موقع مدينة الشمس القديمة، ويروي صمتها حديث ذلك العهد المجيد العظيم.

وقد اختار عمرو بن العاص أطلال عين شمس، فعسكر بها وعسكر معه المدد الذي جاء مع الزبير بن العوام؛ لأن هذا المكان كان نهدًا من الأرض يسهل الدفاع عنه، ولأنه كان فيه ماء كثير، ومن حوله ميرة وفيرة تصلح لإمداد الجيش بالمئونة، فلما اطمأن إلى منازله فيها ورأى من حوله خمسة عشر ألفًا وخمسمائة جندي أيقن أن ساعة الفصل بينه وبين الروم اقتربت، فجمع أصحابه من أولي الرأي في الحرب وتداول معهم في خطة القتال، وكان أكبر همه أن يستخرج الروم من حصن بابليون ليقاتلهم في السهل، وسرعان ما جاءته عيونه بأن الله محقق عما قليل رجاءه، فقد تداول تيودور أمير جند الروم مع أصحابه، فرأوا أن مقامهم بالحصن يظهرهم أمام المصريين مظهر الجبن والضعف، ويغري الناس بالانضمام إلى المسلمين ومعاونتهم، وقد كانت أعدادهم تفوق أعداد المسلمين، وكانوا خيرًا منهم عدة؛ لذلك عزموا على الخروج إلى العرب لمناجزتهم، وأزمعوا السير إلى عين شمس لإجلائهم عنها، فلما عرف عمرو خطتهم دبر للقائهم والقضاء عليهم، فأخرج خمسمائة رجل ساروا تحت الليل من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل عند قلعة الجبل، وأخرج خمسمائة آخرين جعل عليهم خارجة بن حذافة فساروا قبيل الصبح إلى أم دُنَيْن — في حي الأزبكية الحالي — وزود هؤلاء وهؤلاء بأوامره، فلما تنفس الصبح سار من عين شمس على رأس قواته كلها حتى بلغ موضع العباسية في وقتنا الحاضر، وهناك أقام ينتظر جموع الروم القادمة من حصن بابليون عند مصر القديمة.

وخرج الروم من حصنهم في الصباح الباكر، وساروا بين الأديار والبساتين المحيطة بالحصن من شماله الشرقي، وإنهم ليتقدمون إلى عين شمس إذا بلغهم أن عمرًا انحدر منها في صحبه يريد لقاءهم، وقد استخفهم الطرب لذلك، وأيقنوا الظفر به وتعاهدوا فيما بينهم على القتال حتى الموت، فلم يكن عندهم من شبهة في أنهم إن يفتهم النصر ذلك اليوم فقد اندك صرحهم ودالت دولتهم في هذه البلاد الغنية المعطاء، والتقى الفريقان فأنشبوا القتال وعضوا على النواجذ والتحموا وعلاهم غبار المعركة، ولا يريد أيهم أن ينفصلوا حتى تفصل الحرب بينهم، وإنهم لكذلك إذ انحدرت الكتيبة المختبئة في مغار بني وائل تهوي من الجبل فتعصف بمؤخرة الروم عصفًا، ولم يكن الروم على علم بهذه المكيدة؛ لذا تولاهم الفزع لما أصابهم، فاضطربت صفوفهم وتقهقروا متياسرين نحو أم دُنَيْن، عند ذلك خرج الكمين الآخر إليهم فأمعن فيهم قتلًا، فخيل إليهم أن ثلاثة جيوش من العرب تقاتلهم من ثلاث نواح مختلفة، وأنهم لا أمل لهم في المقاومة، فانحل نظامهم ولاذ أكثرهم بالهرب يطلبون النجاة من سيوف العرب، وبلغت طائفة من الفارين الحصن فلاذت به، وساق الفزع طائفة إلى النهر فنزلت السفن تلتمس النجاة في حمى الماء حتى تبلغ الحصن على ظهره، وكان عدد الذين هلكوا في الموقعة وفي الطلب أجل من أن يُحصى، ورأى العرب ما أصاب عدوهم من الفزع، فمالوا إلى حصن أم دُنَيْن فاستولوا عليه كرة أخرى، وكذلك انتصر المسلمون في هذه الموقعة التي يسميها المؤرخون موقعة عين شمس نصرًا حاسمًا وطد أقدامهم على ضفاف النيل، وأراهم مصر كلها في قبضة أيديهم.

وكيف لا يرونها في قبضة أيديهم وقد علموا أن الذين هربوا إلى حصن بابليون لائذين به لم يلبثوا حين سمعوا بهلاك من هلك من جيش الروم أن فروا من ملجئهم وركبو السفن، وساروا في الفرع الغربي للنيل — فرع رشيد — حتى بلغوا حصن نقيوس إلى الشمال من منوف، ولئن بقيت مع ذلك مسلحة قوية وُكِل إليها الدفاع عنه، لقد أشاع انتصار المسلمين من الفزع في الناس جميعًا ما دفع إلى نفوسهم اليقين بأن النصر كتب لهؤلاء الغزاة لا محالة، وكان تصرف عمرو بعد الموقعة مما زاد الناس بهذا الأمر إيمانًا، فقد سار إلى مدينة مصر فاستولى عليها بغير قتال، ولم يستطع الجيش الذي بالحصن أن يمد لها يد المعونة كما كان يفعل من قبل، ثم نقل عسكره من عين شمس فأنزله في شمال الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، في المكان الذي أقام فيه الفسطاط من بعد.

وجاءته الأنباء بأن حامية الروم بالفيوم فرت إلى «نَقْيوس» حين علمت بنصر المسلمين فجهز كتيبة عبرت النهر وسارت في طريق الصحراء، فاستولت على إقليم الفيوم كله، ولم يكتفِ بهذا، بل أرسل قوة أخرى إلى جنوب الدلتا، فاستولت في إقليم المنوفية على أثريب ومنوف، لهذا كله آمن الناس بأن النصر قد حالف الغزاة، فخشعت نفوسهم وخضعوا طوعًا أو كرهًا لما فرضه عليهم عمرو من الأموال والميرة، وبخاصة بعد أن رأوا الحكام من الروم يُؤتى بهم بأمره مجموعة أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، واستولى الروع على كثيرين وأفزعتهم رهبة الغزاة الفاتحين، ففروا إلى الإسكندرية زرافات يخطئها العد، يرجون أن يجدوا في حصونها وأسوارها ملجأ، ويطمعون في أن يمدها قيصر من البحر بقوات تمكنها من دفع الغزاة القاهرين.

لم يبطر الظفر عمرًا، ولم يغره بالسير إلى الإسكندرية ليفتحها قبل أن يفتض حصن بابليون على من فيه، فلو أنه فعل لاضطر إلى توزيع قواته ليذر جانبًا منها على حصار الحصن وليسير بسائرها إلى الشمال على فرع النيل يقاتل حتى يبلغ العاصمة، وفي هذا التوزيع من الخطر ما لم يغب عنه؛ فقد كثرت القوات اللائذة بالحصن، وأصبح في مقدورها الذود عنه، لا سيما أنها كانت مهددة بالفناء إذا فتح العرب أبواب الحصن ودخلوه عليها عَنْوَةً، فلم يكن لها بد من أن تقاتل قتال المستميت، ولئن كانت روحها المعنوية قد تضعضعت، لقد كانت ترجو أن يفتق طول الحصار الحيلة لهرقل أو لقواد الروم بالإسكندرية فيمدوا الحصن وينقذوا من فيه، ولم تكن هذه القوات في ريب من أن الحصار سيطول؛ فقد تقدم الصيف وبدأ فيضان النيل وارتفاع مياهه، فلم يكن في مقدور المسلمين أن يجتازوه أو يهاجموا الحصن على متنه، ولم يكن لهم بد من انتظار هبوط الفيضان، فليصبر حماة الحصن وليصابروا؛ فكثيرًا ما غيرت المفاجآت سير الحرب، والظفر في كل حرب لأطول الجند صبرًا وأكثرهم احتمالًا.

عزم عمرو على محاصرة الحصن، وعزم اللاجئون إليه على الدفاع عنه أو يبيدوا دونه، وقوى عزمهم على الاستماتة في الدفاع ما كانت عليه أسوار الحصن وأبراجه من مَنَعَة لا تُنال، فهذا الأثر الذي لا تشهد أعيننا منه اليوم في مصر القديمة إلا أطلالًا دوارس لأسواء متهدمة وبقايا محطمة لبرجين بينهما باب قديم قد كان حين الفتح العربي قلعة رومانية من أمنع القلاع وأقواها، كانت أسواره ترتفع نحو ستين قدمًا، وكان سمك هذه الأسوار ثماني عشرة قدمًا، وكانت صروحه تزيد على الأسوار ارتفاعًا، وكان في كل صرح سلم صاعد إلى أعلى البناء يشرف الناظر منه على جبل المقطم من الشرق، وعلى الجيزة والأهرام وصحراء لوبيا من الغرب، ويرى منه مجرى النيل إلى مسافات بعيدة من الشمال ومن الجنوب، وكان النيل يبلغ باب الحصن الأكبر، فكانت السفن الرومانية ترسو عنده إلى جانب درج يهبط منه إليها، وكان هذا الباب الأكبر مصنوعًا من الحديد أو مصفحًا به فكان اقتحامه مستحيلًا لمتانته ولحماية السفن له، هذا إلى أن جزيرة الروضة القائمة وسط النهر كانت بها حصون قوية تزيد حصن بابليون منعة وقوة، وكان في داخل الحصن آبار يستسقى منها حماته، كما كانت المزارع والحدائق الممتدة من حوله تمده بالميرة، وكان يحيط بالحصن خندق عليه قنطرة متحركة لا يستطيع فتحها أو تحريكها إلا من داخله، لهذا كله أمنت القوات المتحصنة به جانب العدو، واطمأنت إلى مقدرتها على الدفاع عنه حتى يأتيها المدد أو تحدث مفاجأة من مفاجآت الحرب ترد العرب على أعقابهم.

حاصر عمرو الحصن ومن فيه، وكان يعلم أن الحصار قد يطول بسبب ارتفاع النهر وتدفُّع تياره، ولمناعة الحصن وقوة أسواره، لكنه كان يعلم كذلك أن الفيضان لن يدوم إلا شهرًا أو شهرين، فمناجزة القوم في أثنائهما كفيلة بأن تزيد روحهم ضعفًا، ثم إن تدفع التيار بسبب الفيضان يجعل مجيء المدد على النيل من نَقْيوس أو من الإسكندرية إلى الحصن أمرًا عسيرًا، فإذا تعاقبت الأيام والأسابيع ويئس حماة الحصن من المدد ازدادت روحهم ضعفًا فذهب ريحهم، فإذا ثبتوا مع ذلك حتى ينزل الفيضان أصبح اقتحام الحصن عليهم أمرًا مستطاعًا.

كان المقوقس بالحصن٣ منذ ابتدأ الحصار، وكان على إمرة جنود الحصن قائد رومي يسميه مؤرخو العرب «الأعيرج» ويحسب بتلر أن هذه التسمية تحريف منهم لاسم «جورج» وكان جند الحصن كلهم من الروم إلا قليلًا من القبط لعلهم كانوا في خدمتهم، وكان الروم بالحصن يرمون العرب بالمجانيق، فيجيبهم العرب بالحجارة والسهام، ودام الحصار على ذلك شهرًا والعرب لا تهن لهم عزيمة ولا ينفد لهم صبر، ورأى المقوقس وأصحابه أن النيل قد بدأ فيضانه ينزل، إذ كان شهر أكتوبر سنة ٦٤٠ قد بدأ، فاجتمعوا في سر ممن معهم وتشاوروا في الأمر وبسط لهم المقوقس رأيه، وكان يرى أن المدد لن يأتي ليرفع عنهم الحصار قبل أشهر، وأن العرب سيضيقون عليهم الخناق في هذه الأثناء ويرهقونهم بألوان البأساء، وكيف لا يفعلون وقد قضوا من قبل على جيوشهم في الفرما وبلبيس وأم دُنَيْن والفيوم وعين شمس! وها هم أولاء يحاصرونهم بما لا قبل لهم به، أليس خيرًا أن يفتدوا أنفسهم بالمال ليرحل هؤلاء العرب ولتعود مصر إلى ملك الروم؟! وما زال المقوقس يسوق الحجج في بيان ساحر حتى انضم الحاضرون جميعًا إلى رأيه، لكنهم رأوا أن من الخير أن تجري المفاوضة مع العرب سرًّا حتى لا يقف أحد من المدافعين عن الحصن على شيء من أمرها، وأن يتولاها المقوقس بنفسه، وتسلل المقوقس وجماعة من أصحابه من الحصن بعد جنح الليل، وركبوا السفن إلى جزيرة الروضة فلما بلغها أرسل إلى عمرو بن العاص برسالة مع أسقف بابليون وجماعة معه يقول فيها:

إنكم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مُقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالًا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، ويقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالًا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء.

وانتظر المقوقس أن يعود إليه رسله في اليوم نفسه برد عمرو، فما كان هذا الرد ليزيد على قبول المفاوضة أو رفضها، فإن رفضت عاد كل إلى موقفه وعاد القتال كما كان، وإن قبلت اختار كل فريق مفاوضيه ابتغاء الوصول إلى صلح إن أمكن، لكن رسل المقوقس حبسوا عنه يومين كاملين، فخاف عليهم وقال لأصحابه: أترون القوم يحبسون الرسل أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يريهم حال المسلمين، ولقد عادوا بعد يومين يحمل رئيسهم رسالة عمرو إلى المقوقس يقول فيها:

إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.

دهش المقوقس لما سمع؛ فليس هذا جواب من يريد المفاوضة، بل هو جواب المنتصر يريد أن يفرض حكمه، أترى بلغ من هؤلاء القوم الغرور أو بلغت منهم الثقة بالنفس فليس إلى إغرائهم بالمال أو بغير المال سبيل! وسأل رسله كيف رأوهم؟ فأجابه رئيسهم: «رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما كان جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كأنه واحد منهم؛ ما يعرف رفيعهم من وضيعهم؛ ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد؛ يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.»

أطرق المقوقس حين سمع هذا الوصف، ثم رفع رأسه وقال لأصحابه: «والذي يُحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقدر على قتال هؤلاء أحد! ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.»

أترى هوى الضعف بنفس المقوقس فأملى عليه هذا الجواب؟ أم كان يطمع في إغراء العرب بعرض سخي يستهويهم فيرضونه ويرحلون عن أرض مصر؟ الجواب عن هذا وذاك تنطق به الحوادث من بعد؛ فقد رد المقوقس رسله إلى المسلمين يقول لهم: «ابعثوا إلينا رسلًا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم على ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم.»

ولم يرفض عمرو ما طلب إليه، فبعث عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وكان أسود اللون ضخمًا طويلًا، وأمره أن يكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث، ودخل القوم على المقوقس وأراد عبادة مخاطبته، فلما رآه قال: «نحوا عني هذا الاسود وقدموا غيره يكلمني.» ولعله أراد بهذا أن يوقع بينهم، لكنهم أجابوه جميعًا بأنهم يرجعون إلى قول عبادة ورأيه، وتكلم عبادة وذكر ما أمر الله ورسوله المسلمين به من الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجهاد في الله، وحب الاستشهاد في سبيله، وأعجب المقوقس بكلامه، وأبدى إعجابه لأصحابه، ثم قال لعبادة: «لقد توجه إلينا لقتالكم من جميع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا شهرًا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، وتطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.»

هذا الكلام يجمع إلى الوعد الوعيد، وإلى الإغراء التهديد؛ فهذه ثلاثون ألف دينار تعرض على عبادة ثمنًا للانصراف عن الحرب، فإن أباها كان مهددًا بمدد الروم الذي يتكلم المقوقس عنه، ولكن أوامر عمرو إلى عبادة كانت صريحة، وكان عبادة شجاعًا لا يهاب الموت؛ لذلك أجاب المقوقس مزدريًا جمع الروم وعددهم، ذاكرًا قوله تعالى: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وأن كل رجل من المسلمين يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وأنهم إلى ذلك في أوسع السعة من معاشهم وحالهم، «فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك أو نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت ولا تُطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله من قبلُ إلينا.» ثم ذكر له أنهم إن أسلموا انصرف العرب عنهم، وإن أبو الإسلام وأدوا الجزية أدخلهم المسلمون في حمايتهم ودافعوا عنهم، وإن أبو الإسلام والجزية جميعًا فليس إلا الحرب تفصل بين الفريقين.

حاول المقوقس عبثًا أن يصرف عبادة إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث، والتفت إلى من معه يستطلع رأيهم فأبوا إجابة المسلمين إلى شيء مما طلبوا؛ فانصرف عبادة وأصحابه لم يغيروا مما قالوه حرفًا، وعاد المقوقس ينصح أصحابه بمصالحة المسلمين، فسألوه: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: «إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.» قالوا: فنكون لهم عبيدًا أبدًا! قال: «نعم! تكونون عبيدًا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم أو تكونوا عبيدًا تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدًا أنتم وأهلكم وذراريكم.» قالوا: الموت أهون من هذا! وعادوا إلى الحصن وقطعوا الجسر من الجزيرة، وعادت الحرب بينهم وبين المسلمين.

ماذا حدث بعد ذلك؟ يقول مؤرخو العرب: «فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر منهم، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة.» ويقول بتلر: «ويظهر لنا أن كبار الروم طلبوا أن يهادنهم العرب شهورًا ليروا رأيهم، فأجابهم عمرو جوابًا قاطعًا أنه لن يمهلهم أكثر من أيام ثلاثة، غير أن عمل المقوقس لم يلبث أن ذاع في الناس، فثار ثائرهم وأبى جند الإمبراطور إلا القتال، فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ أهل الحصن يتجهزون للخروج إلى المحاصرين يناجزونهم، ولم يبعثوا ردًّا إلى عمرو، وخرجوا إليه بغتة فوق قناطرهم فأخذوا جنود المسلمين على غرة، ولم تذهل تلك البغتة العرب، فأسرعوا إلى سلاحهم وقاتلوا الروم قتالًا شديدًا، وقاتلهم الروم يومئذ مستبسلين، غير أن العرب تواردوا إليهم منذ نذروا بهم فتكاثروا عليهم، فما استطاعوا إلا أن يتراجعوا إلى الحصن بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة.»

ليس بين الروايتين فيما نرى خلاف، وكلاهما متفق على أن العرب أحرزوا هذا النصر بعد أيام معدودة من مفاوضة عبادة بن الصامت والمقوقس، ولم يرد المقوقس أن يضيع الفرصة فعاد إلى قومه يحدثهم في ضرورة الإذعان لما طلبه العرب من الجزية، وأقره القوم كارهين، فبعث إلى عمرو يذكر له أنه لا يزال على رأيه في مصالحته، «فأعطني أمانًا اجتمِع أنا وأنت، وأنا في نفر من أصحابي، وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم لنا ذلك جميعًا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.» وأبى أصحاب عمرو ما عرضه المقوقس، وآثروا الحرب حتى تصير الأرض كلها لهم فيئًا وغنيمة، فقال لهم عمرو: قد علمتم ما عهد إليَّ أمير المؤمنين في عهده؛ فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم، ومع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم، وقد كان هذا الرأي من عمرو رأي السياسي المحنك والقائد البارع، فقد أحدق الماء بالمسلمين من كل وجه، وصاروا لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، فدفعهم إلى القتال خطأ في التقدير، وانتظارهم هبوط الماء قد يتيح للعدو فرصة وقد يهيئ للإسكندرية إمداده، ثم إن الروم في الحصن قد تضعضعت قواهم وخارت عزائمهم فمن حسن الرأي مفاوضتهم وهم فيما هم فيه من هذه الحالة النفسية، حتى لا يبعث اليأس إلى نفوسهم قوة التجلد والاستماتة، ولهم من مناعة الحصن ملجأ يستطيعون المقام فيه زمنًا طويلًا.

وتصالح عمرو والمقوقس على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وعلى أن للمسلمين منهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، وألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.

عُقد هذا الصلح وعلق نفاذه على رضا الإمبراطور به، وأخذ المقوقس على نفسه أن يبعث به إلى هرقل، واتفق الفريقان على أن تبقى جيوشهما حيث هي حتى يجيء رد قيصر، وأن يبقى الحصن مع الروم إلى ذلك الحين، وركب المقوقس النهر إلى الإسكندرية، ومنها بعث بتفصيل ما حدث إلى القسطنطينية مصحوبًا بمذكرة إضافية طلب في ختامها إلى هرقل إقرار الصلح حتى يكفي مصر شر الحرب وويلاتها، وحار هرقل حين اطلع على المذكرة وعلى الوثائق، فلم يعلم منها أكان الصلح خاصًّا بحصن بابليون، أم كان مداه ترك مصر كلها للعرب؟ وهل يبقى العرب في البلاد بعد أخذ الجزية أو يرحلون عنها؟ لذلك استدعى المقوقس إليه يجلو له ما اشتبه عليه، وحاول المقوقس حين لقيه أن يهون الأمر، فذكر له أن العرب قد يُحملون على الخروج بعد من مصر، فلما أحرجه الإمبراطور بالسؤال لم يجد خيرًا من الحقيقة يصارحه بها، فقال له: «لو رأيت هؤلاء العرب وبلاءهم في القتال لعرفت أنهم قوم لا يُغلبون، فليس لنا من سبيل خير من الصلح مع عمرو قبل أن يفتح حصن بابليون عَنْوَةً وتصبح البلاد غنيمة لهم.»

لم يكن هرقل بالذي يجهل قوة العرب وبأسهم؛ فقد بلا من ذلك في الشام من سنوات عدة ما لم ينسَه وما لا يمكن أن ينساه، لكنه لم يتوقع قط أن تدور الدائرة على جيوشه في مصر، وأن تدور عليهم بهذه السرعة، فالعوامل الجنسية والجغرافية التي أعانت العرب في الشام لا شيء من مثلها في وادي النيل، وهو أعرف الناس بحصن بابليون، وأنه أمنع من أن ينال منه محاصر ما حسنت قيادة المدافعين عنه، وقد كان له بمصر مائة ألف من الجند يقاتلهم اثنا عشر ألفًا، فكيف يغلب هذا العدد القليل الذي يسير في الصحراء تلك القوات الضخمة المتحصنة في أسوار متينة وقلاع مملوءة عتادًا؟ لا بد في الأمر من سر هو الذي أدى إلى النكبة النكراء التي أصابته في صميم ملكه، لهذا ثار ثائره، فاتهم المقوقس بأنه خان الدولة وتخلى للعرب عن مصر، وحكم عليه بأنه مرتكب مجرم ووصفه بالجبن والكفر، وأسلمه إلى حاكم المدينة فشهره وأوقع به المهانة، ثم نفاه من بلاده طريدًا.

لم يكن هرقل غاليًا حين ثارت بنفسه الهواجس وتولاه الريب في الأسباب التي أدت إلى هزيمة جنده، ولسنا نقصد من هذا القول إلى الحكم على المقوقس بأنه تعمد خيانة الدولة، وإنما نقصد إلى أن الحصن كان يستطيع أن يقاوم، وألا تنزل بحماته أية هزيمة لو أن قائده كان قادرًا فلم يعرض من فيه للقاء العرب في ميدان مكشوف، واكتفى بأن يسدد إليهم النبل والمجانيق، ولا أدل على ذلك مما حدث بعد نفي المقوقس، فقد رفض هرقل إقرار الصلح مع عمرو وعرف المسلمون بمصر هذا الرفض في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة ٦٤٠، فانتهت الهدنة وعاد القتال بين الفريقين، وكان حماة الحصن قد قل عددهم، ولم يأتهم مدد من أية ناحية، وكانت الأحوال كلها مواتية للعرب؛ وقد انتهى الفيضان وهبط ماء النيل، وغاض الماء من الخندق الذي حول الحصن، وأصبح في مقدورهم مهاجمته، غير أن الروم ألقوا في الخندق حسك الحديد عوضًا عن مائه، وجعلوا هذا الحسك كثيفًا عند مدخل أبوابه، فصد هذا العمل العرب عن التقدم لمهاجمة الحصن وأخذه عَنْوَةً وأبقاهم حوله شهورًا عدة اقتصر الأمر في أثنائها على ترامي الفريقين بالمجانيق والسهام، ولم يكن في مقدور حماة الحصن غير هذا؛ ولذا ردهم العرب إلى الحصن كل مرة خرجوا فيها منه يحاولون لقاءهم، وكذلك تصرمت أشهر الشتاء والحصن يقاوم، فلو أنه جاء المدد من نَقْيوس أو من الإسكندرية، ولو أن هرقل بعث من لدنه بقائد من مهرة قواده على قوة من الجند للدفاع عنه، لتغير وجه الموقف، وللقي المسلمون في الاستيلاء على هذه المنطقة المنيعة مشقة كبيرة، لكن المرض فتك بأهل الحصن ولم يأتهم المدد، وكانت عيونهم تصعد كل يوم فوق أبراجه فلا ترى إلى أبعد حدود الأفق لهذا المدد أثرًا، ثم إنهم كانت تبلغهم الأنباء كل يوم بأن العرب يشنون الغارات على ما حولهم من الأراضي، وأقبل شهر مارس من سنة ٦٤١ وجف ماء النيل أو كاد، وفي هذه الأثناء جاءت الأنباء بموت هرقل في النصف الأول من فبراير سنة ٦٤١٤ فاضطرب الروم لموته أي اضطراب، مع ذلك بقي الحصن يقاوم، وبقي الأمل يداعب نفوس حماته بمجيء المدد لإنقاذه.

وكانت نكبة هرقل في مصر من الأسباب التي عجلت منيته؛ فقد حُمَّ بعد لقائه المقوقس وأعجزه الاضطراب عن التفكير في إمداد بابليون أو تنظيم الدفاع عنها، ولم يفكر أحد غيره في هذا الأمر؛ لأن الدولة كانت كلها ترزح تحت عبء ثقيل من عار هزيمتها منذ استولى العرب على دمشق وعلى بيت المقدس، وطردوا الروم من الشام وساروا ينشرون الفزع في أرجاء مصر، على أن متانة أسوار الحصن وأبراجه طوعت للذين ظلوا على قيد الحياة من حماته أن يثبتوا للغزاة إلى آخر شهر مارس والأيام الأولى من شهر أبريل.

ولقد ضاق العرب ذرعًا بالشهور السبعة التي انقضت منذ حاصروا الحصن، فهانت عليهم الحياة وهانت عليهم أنفسهم، وذكروا فعال خالد بن الوليد بدمشق، وسعد بن أبي وَقَّاصٍ بالمدائن، ونعيم بن مقرن بنَهَاوَنْد، فلم يروا أن يكونوا دون هؤلاء الأبطال إقدامًا وجرأة، وكان الزبير بن العوام أشدهم حماسة وأكثرهم على الموت في سبيل الله إقبالًا، فقام في الناس فقال: «إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين.» ثم أقبل بعد أيام تحت جنح الليل مع كتيبة آزرته فطمموا الخندق المحيط بالحصن في موضع اختاروه ووضعوا سلمًا على السور علاه الزبير بعد أن أمر أصحابه إذا سمعوا تكبيره أن يرقوا إليه وأن يجيبوه جميعًا، واستوى الزبير بأعلى الحصن وانطلق يكبر وسيفه يلمع في يده، فتبعه أصحابه وصعدوا السلم وساروا إلى جانبه وكبروا معه؛ وأجاب المسلمون من خارج الحصن تكبيرهم، فلم يشك الروم أن العرب قد اقتحموا الحصن فهربوا، وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه ودخل المسلمون واستولوا على ما فيه.

هذه رواية، وتذهب رواية أوردها بتلر عن الطبري إلى أن الزبير علا الحصن مع أصحابه، وأناموا من كان هناك من حرسه، وملكوا رأسه، وأرادوا الهبوط إليه، فألفوا حماته بنوا حائطًا تعترض الممشى التي فوق السور من تلك الناحية فأقاموا حيث كانوا، فلما بكر الصبح عرض قائد الجند في الحصن على عمرو أن يسلمه إليه على أمان من فيه من الجند، واعترض الزبير على الصلح وقال لعمرو: لو صبرت قليلًا لنزلت من السور إلى داخل الحصن، ولكان الأمر على ما نشتهي، ولم يقف عمرو عند قوله، بل كتب عهد الصلح مع قائد الحصن، على أن يخرج الجند منه في ثلاثة أيام فيركبوا النهر ومعهم قوتهم لبضعة أيام تاركين الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب للمسلمين، والطبري لا يورد مثل هذا التفصيل، على أن المؤرخين المسلمين جميعًا يذكرون أن عمرًا أجاب المقوقس إلى الصلح على الجزية بعد أن اقتحم المسلمون الحصن، فإذا صح أن المقوقس لم يكن بالحصن وكان قد نفي بعد ذهابه إلى هرقل، فلعل قائد الحامية هو الذي صالح عمرًا على ما جاء في رواية بتلر.

خرج جند الروم من الحصن في اليوم السادس من شهر أبريل سنة ٦٤١ من ميلاد المسيح؛ لكنهم أبوا، في هذا اليوم الذي انسحبوا فيه يجلل هامهم الخزي والعار، إلا أن يجعلوا منه للمصريين يوم نواح وحسرة؛ فقد سحبوا القبط الذين سجنوهم داخل الحصن في أثناء الحصار، وقطعوا أيديهم، ونكلوا بهم تنكيلًا أثار الأسقف المصري حنا النقيوسى مؤرخ ذلك العهد، وحمله على أن يسبهم في ديوانه وأن يسميهم: «أعداء المسيح الذين دنسوا الدين برجس بدعهم، وفتنوا الناس عن إيمانهم فتنة شديدة لم يأتِ بمثلها عبدة الأوثان ولا الهمج، وعصوا المسيح وأذلوا أتباعه، فلم يكن في الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبدة الأوثان.»

خلص الحصن للمسلمين بعد خروج الروم منه، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من مراحل الفتح العربي لمصر، ولقد كان لهذه المرحلة من الخطر ما تشهد به الحوادث التي وردت في هذا الفصل وقد استطاع عمرو بأناته وحكمته وحسن رأيه أن يدور حول هذا الخطر حينًا، وأن يقتحمه حينًا آخر، حتى اجتازه آخر الأمر رافعًا لواء النصر والظفر، فلندعه الآن يجلس بين جنده يجمُّون جميعًا، ثم يدبر هو لتنظيم ما فتحه من الأقاليم، ليكتب بعد ذلك إلى عمر يستأذنه في السير إلى الإسكندرية.

ولم يكن لديه ريب، يوم بعث يطلب هذا الإذن، في أن الله قد مهد له السبيل لإدراك بغيته، فقد رأى من كراهية القبط للروم، ورأى من تخاذل الروم وضعفهم، ما ثبَّت في نفسه اليقين بأن عاصمة الإسكندر الأكبر ستفتح أبوابها أمامه، وستتلقاه كما تلقت يليوس قيصر وأنطونيو من قبل، وأنه سيجلس بها على عرش البطالسة والرومان، كما جلس سعد بن أبي وَقَّاصٍ بالمدائن في إيوان الأكاسرة من بني ساسان.

ولعله كان يستعجل إِذْنَ أمير المؤمنين بالسير بعد أن رأى جيشه قد جم، ورأى الأرض من حوله دانت له، فقد أمر بعد ما استتب له الأمر، فأقيم جسر من السفن بين الحصن وجزيرة الروضة، وبين الجزيرة والجيزة، فوصل بذلك بين شاطئَيِ النهر، وتيسر له الإشراف على ما يجري فيه من السفن والبضائع، ثم إنه نشر جنوده فيما استولى عليه من الأقاليم، فرأى القبط من جنود الحرس الوطني ينظرون إليهم شزرًا ويقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم؛ فخاف أن يثير هذا الأمر القبط بهم فأمر بجزر فذبحت وطبخت بالماء والملح، ودعا القبط فأجلسهم إلى جانب جنده من العرب، فجعل العرب يحتسون المرق وينهشون اللحم على نحو زاد زراية القبط عليهم، وزادهم طمعًا فيهم، فلما كان الغد أمر بطعام من ألوان مصر فصُنع، وأمر جنده أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ودعا القبط كما دعاهم أمس، فأكل العرب أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فتفرق القبط بعد الطعام وقد رابهم ما رأوا، ثم أمر عمرو جنوده بكرة الغداة فتسلحوا للعرض فعرضهم على أعين القبط، ثم قال لهؤلاء: إني قد علمت أنكم قد رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأردت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فتفرق القبط وهم يقولون، لقد رمتكم العرب برجلهم، وفي رواية أنهم قالوا: إن العرب قوم لا يُغلبون وقد وطئونا تحت أقدامهم، وبلغ عمر ما صنع عمرو فقال لجلسائه: إن عمرًا يقاتل بالقول، وغيره يقاتل بالسيف، أو قال: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا ثورة كثورات الحروب من غيره.

خشع القبط حين رأوا بأس العرب ودانوا لهم؛ بل لقد اختار جماعة منهم الإسلام فدخلوا فيه، فساواهم ذلك بالمسلمين وأعفاهم من دفع الجزية، وإن عرضهم للعنة بني قومهم، وأخذ هؤلاء القبط الذين أسلموا يساعدون إخوانهم العرب في اقتضاء الجزية واستصفاء أموال المسيحيين الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، بذلك كله توطد سلطان عمرو على ما كان تحت يده من الأرض وازداد بسطة، وأصبح في مقدوره أن يسير إلى الإسكندرية مطمئنًّا متى أذن له أمير المؤمنين في السير إليها.

لم يكن جند عمرو دونه رغبة في السير للقتال، فقد سما النصر على حصن بابليون ومن فيه بقوتهم المعنوية سموًّا كبيرًا، وثبت في نفوسهم ما ثبت في نفس عمرو من اليقين بأن الله معهم، وأنهم لا غالب لهم، وبهذا الروح كله العزة والأنفة كانوا يجوسون خلال الديار، ويتنقلون حيثما شاءوا من الأرض، ويغشون ما شاءوا أن يغشوه من مدن الفراعنة وآثارهم الباقية في هذه البقعة الناطقة في صمتها بحديث التاريخ كله، والتي شهدت فجر الحضارة، ورأت مولد الضمير الإنساني وتفتح عينيه، فإذا عادوا إلى عسكرهم آخر النهار عادوا وقد ملأ الإعجاب أفئدتهم وملك عليهم حواسهم، فلم يتناول حديثهم إلا ما شهدت أعينهم من هذه الآثار الخالدة ليس من آثار العالم ما يدانيها عظمة وجلالًا، ومن هذه الحياة الزاخرة في مدينة منف وفي صرتها مصر القائمة قبالتها على النيل تنافسها في عظمة الحياة ثم تقصر دونها حين ينطق التاريخ بما لمنف على الأجيال من مجد وسلطان.

وكان ما أثارته منف بجلال آثارها أعمق أثرًا في نفوسهم من الخضرة الزاهية والنعيم المقيم الذي تراه أعينهم في كل ما حولهم من الأرض الخصبة المعطاء، لقد رأوا مثل هذه الخضرة في العراق والشام، وقد ملئُوا منها أعينهم مذ نزلوا مصر فزادتهم إيمانًا بقدرة الخالق الباري جل شأنه، لكنهم رأوا بمنف ما لم يجن عليه قيام الإسكندرية، وما لم يروا له في غير منف من مدن العالم نظيرًا، رأوا آثارًا تحدث عن حضارة الفراعنة الأقدمين وعبادتهم حديثًا عجبًا، كان فيها معبد «فتاح» الضخم الفسيح، تعبد فيه الشمس كما كانت تعبد بالكرنك في طيبة، وكان بظاهرها معبد السرابيوم، مقام العجل أبيس، محاطًا بكل مجالي الإجلال والإكبار، وكان أمام هذا المعبد صفان طويلان من آباء الهول يلقيان في رُوع الداخل إليه الهيبة، وكانت قبور العجول المقدسة قائمة وراء المعبد تأخذ عظمتها بالنظر، ثم لا تحول هذه العظمة دون العجب من قوم يُحدث ما تركوا من صور وتماثيل وملاعب وعمائر كلها العظمة عن سمو مكانتهم من الحضارة، ذلك كان شأنهم في تصوير معبوداتهم، وفي إقامة ما أقاموا لهذه المعبودات ورموزها من تماثيل بارعة يخطئها العد فكيف أنساهم رهبانهم وفراعنتهم عبادة الله الواحد الأحد تؤمن به القلوب المضيئة بنور الحق! صدق تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، ولذلك محت المسيحية هذه الألوان والطقوس من العبادة، وها هو ذا الإسلام يسير جنده في أرض الفراعنة، وتخفق أعلامه فوق ربوعها ليقر فيها دين الحق إلى يوم الدين.

وأين يستقر الحق إن لم يستقر في جنة الله على الأرض! ومن ذا يُقِرُّه فيها إلا جنود الله الذين وهبوا أنفسهم لله مخلصين له الدين حنفاء! لذلك لم تجذب منف بجمالها هؤلاء الجنود للبقاء حولها، بل كان الشوق إلى الإسكندرية يحرك نفوسهم بالقوة التي كان يحرك بها نفس قائدهم، ويدعوه إلى استعجال الإذن من أمير المؤمنين بهذا السير.

ولم يبطئ هذا الإذن، فقد عرف عمر أن النيل يعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأن الخير في أن يسير جيش مصر يفتح عاصمتها قبل أوان هذا الفيضان، وما لبث ابن العاص حين تسلم الإذن بالسير أن خلف في حصن بابليون مَسْلَحَةً من المسلمين جعل عليها خارجِة بن حُذافة السهمي، ثم سار على رأس جيشه يريد المدينة العظيمة، مستقر الجمال والعلم والفن في العالم كله.

هوامش

(١) بتلر: فتح مصر، ص١٨٥؛ ترجمة أبو حديد.
(٢) اختلفت الروايات في المدد متى أرسل إلى مصر، وهل أرسل دفعة واحدة أو دفعتين. وقد أورد ابن عبد الحكم هذه الروايات وأخذها عنه أكثر المؤرخين. وإنما اخترنا الرواية التي في النص؛ لأنها أكثر الروايات اتفاقًا مع سياق الوقائع. أما الروايات الأخرى فتجري إحداها بأن «عمر بن الخطاب أشفق على عمرو فأرسل الزبير في أثره في اثني عشر ألفًا فشهد معه الفتح.» وتجري رواية أخرى بأن عمر أمد عمرًا بأربعة آلاف على كل ألف منهم رجل وكتب إليه: «إني قد أممدتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم، رجل مقام ألف: الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وخارجة بن حذافة. واعلم أن معك اثني عشر ألفًا، ولا تغلب اثنا عشر ألفًا من قلة.»
(٣) يطلق المؤرخون على هذا الحصن اسم بابليون وباب إليون وقصر الشمع. يقول ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة: وسار عمرو حتى بلغ بابليون، ويقول وكان على القصر — يعني قصر الشمع الذي بمصر القديمة — رجل من الروم. وابن عبد الحكم يذكر الاسم أكثر الأمر على أنه باب إليون. ويقول البلاذُري: وكان اسم المدينة إليونه فسماها المسلمون فسطاطًا، ويذكر بتلر أن اسم الحصن باللغة القبطية كان «بابليون-أن خيمي» ومعناه بابليون مصر. ويروى أن القيصر تراجان بنى الحصن في جوار حصن قديم كان يطلق عليه اسم بابليون قرونًا طويلة قبل أيام تراجان، وأن السبب في تسميته أن جماعة من أسرى بابل جاء بهم سيزوستريس كانت مقيمة فيه. وثم روايات أخرى في سبب هذه التسمية يطول شرحها.
(٤) يذكر بتلر أن هرقل مات في ١١ فبراير سنة ٦٤١؛ وفي تاريخ المؤرخ أنه مات في مارس من تلك السنة. «والاضطراب ماثل في هذا الأمر مثوله في غيره.» على تعبير بتلر نفسه. لكن الاختلاف لا يتجاوز شهري فبراير ومارس سنة ٦٤١ عند المؤرخين القريبين من ذلك العهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤