الفصل العشرون

فتح الإسكندرية

يجمل بنا قبل أن نتابع مسيرة الغزاة العرب إلى مدينة الإسكندر أن نتخطى مياه بحر الروم إلى البسفور، لنرى من حوله ما تضطرب به أحشاء الإمبراطورية الرومية، وما يبدو من أثر هذا الاضطراب في عاصمة قسطنطين.

فقد مات هرقل بالقسطنطينية والاضطراب يسود بلاطه بسبب ما أصاب الإمبراطورية من النكبات في الشام وفي مصر، وازداد البلاط بموته اضطرابًا، وفشت فيه دسائس الطامعين وذوي المآرب من الأشراف ومن رجال القصر، ولقد عظم أمر هذه الدسائس في شئون الدولة؛ لأن الأمر لمْ يَؤُلْ بعد هرقل إلى عاهل ذي حزم وقوة، بل آل إلى ولديه «قسطنطين» و«هرقليوناس» وهما أخوان لأب، وإلى «مرتينا» زوج هرقل وأم هرقليوناس التي شاركتهما في الحكم، وقد حاولت مرتينا أن تستأثر بالأمر كاستئثارها به في العهد الأخير من حياة زوجها، في حين كان قسطنطين أكبر الأخوين وآثرهما عند الناس، وكان له بسبب ذلك حزب قوي يؤيده، ونشأ عن ذلك ما كان لا بد أن ينشأ عنه؛ جعل كل شريف وكل عظيم غاية همه أن يكسب لنفسه الجاه والسلطان بالزلفى إلى الإمبراطورة أو إلى قسطنطين، أو الائتمار مع مرتينا على ابن زوجها ومع قسطنطين على زوج أبيه، بذلك سادت بلاط بزنطية حال كالتي سادت بلاط فارس قبل أن يعتلي يَزْدَجِرْد عرش الأكاسرة، فكان ذلك مما أعان المسلمين على الأسدين، فارس والروم، ومكنهم من الظفر بهم.

مع ذلك كان الناس يتطلعون إلى هذا الثالوث الذي جلس على عرش هرقل؛ يرجون في حكمته ما ينقذ الإمبراطورية مما هوت إليه في السنوات الأخيرة من عهد العاهل الشيخ العظيم الذي سما به الحظ في أول حكمه إلى ذروة رفعت اسم هرقل فوق السماك، ثم قذف به في آخر أعوامه من هذه الذروة الشاهقة إلى حمأة الهزيمة والعار، وكانت مصر وما يجري فيها وما يمكن عمله لإنقاذها، أول ما يشغل رجال الدولة وأهل بزنطية جميعًا، فضياع مصر وغلاتها معناه نقص الأقوات في أرجاء الإمبراطورية كلها؛ لذلك أسرع قسطنطين فبعث إلى قيرس فجاء به من منفاه، كما دعا أحد قادة الروم في مصر ليشير عليه بما يجب للدفاع عنها، واغتبطت مرتينا بدعوة قيرس لعلمها بميله إليها وثقتها بدهاء البطريق وقوة مكره، وكان قيرس لا يزال على رأيه الذي صارح هرقل به، لكنه أظهر الاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل الروم في صلح مع العرب، ووعد قسطنطين بإرسال الأمداد الكبيرة إلى مصر، وأمر بتجهيز السفن التي تحمل تلك الأمداد، وأبدت الإمبراطورة مرتينا من الحماسة لهذا كله ما ضاعف حماسة الشعب واغتباطه، لكن هذا الشعب لم يلبث أن فوجئ باعتلال قسطنطين ووفاته بعد مائة يوم من وفاة أبيه؛ لذلك أسرع الناس إلى اتهام مرتينا بأنها دبرت موته، وعمل جانب من البلاط والنبلاء على ترويج هذا الاتهام، وكان كونستانس بن قسطنطين ممن أعلنوا هذه التهمة وأذاعوها؛ فأدى ذلك إلى ثورة الناس بمرتينا وانتقاضهم عليها، وإلى وقوف الأمداد دون السير إلى مصر.

وعبثًا حاولت مرتينا أن تكذب ما ينسب إليها، وأن تستخلص العرش لابنها هرقليوناس، فقد اتخذت محاولتها استخلاص العرش لابنها حجة عليها، فثار الجند كما ثار الشعب بها، وظلت هذه الثورة وارية الضرام أشهرًا، ثم انتهت إلى مبايعة كونستانس بن قسطنطين شريكًا لهرقليوناس في ولاية الأمر.

رأى قيرس أن الثورة موشكة على نهايتها، وأن كونستانس سيرث مكان أبيه من العرش، فأسرع بالسفر إلى مصر، متفقًا مع مرتينا وابنها، وسافر معه عدد كبير من القسوس وجيش أعد مددًا لقوات الروم المدافعة عن مصر، ولعله أدخل في روع الإمبراطورة أن هذا الجيش سيكون قوة لها في أرض الفراعنة، وأنها تستطيع أن تلجأ هي وابنها إليه إذا عادت دسائس خصومها في بزنطية فأثارت الشعب بها كرة أخرى، وبلغ الأسطول الذي أقل قيرس ومن معه عاصمة مصر في شهر سبتمبر سنة ٦٤١، فاستقبل أهلها البطريق الشيخ استقبال البطل الفاتح الذي جاء من قبل قيصر ينقذ مدينتهم، وينقذ دينهم، وينقذ الإمبراطورية.١

أفكان لقيرس خطة مرسومة وسياسة ذاتية جاء بها إلى مصر؟ يذهب بتلر إلى أنه جاء وطيد العزم على مصالحة العرب، وأنه «من غير شك حمل الإمبراطور — وهو غرير لا رأي له — على الإذعان للعرب والتسليم لهم، كما حمل على رأيه هذا مجلس الشيوخ المستضعف، ورجال البلاط وهم من أهل العجز والخور … ومن الجلي فوق ذلك أنه استمال الإمبراطورة مرتينا إلى رأيه الضعيف، لا سيما وقد كان أنصارها ممن يرون مصالحة العرب، وإن كلفهم ذلك ما كلفهم، وكانت هي دائمًا ترمي في سياستها إلى التسليم والإذعان وذلك كان رأي قيرس الذي ظل يجاهر به في كل حين.» ويفسر بتلر رأيه هذا بأن قيرس كان «يريد أن يزيد في سلطانه الديني بالإسكندرية، وأن يقيمه على أطلال الدولة بعد خرابها، ولسنا نجد رأيًا آخر أكثر ملاءمة لما بدا منه، فهو خير رأي نستطيع به أن ندرك ما كان بينه وبين عمرو من صلات خفية، وما قارفه من خيانة دولته الرومانية فلنصفه بأنه كان خائنًا للدولة في سبيل ما توهمه صلاحًا للكنيسة.»

أراني في حل من مخالفة بتلر في مذهبه هذا، ومن القول كرة أخرى بأنه متأثر فيه بنزعته المسيحية أكثر من تأثره بوقائع التاريخ، فقد كان قيرس يعلم تمام العلم أن المسلمين يكفلون حرية العقيدة لأهل البلاد التي يفتحونها، وينصون على ذلك نصًّا صريحًا في المعاهدات التي يعقدونها معهم، كذلك فعلوا في الشام وفي العراق في عهد أبي بكر وفي عهد عمر، وما كانوا ليخالفوا سنتهم هذه في مصر، وهم إذ يفرضون الجزية على أهل البلاد المفتوحة إنما يفرضونها لقاء تأمين دافعيها على أنفسهم وذراريهم وأموالهم وعقائدهم ومعابدهم، لا يفرقون في هذا التأمين بين الملكانيين والمينوفيسيين، ولا بين الروم الحاكمين والقبط المحكومين، ولا نحسب قيرس غرته نفسه فظن بها القدرة على أن يلعب بعمرو بن العاص داهية العرب أو أن يخدعه، فيسترد لنفسه ما كان له من قبل من حرية الاضطهاد والعسف، فإذا صح ما ظنه بتلر من أن قيرس جاء إلى مصر معتزمًا مصالحة العرب، فلم يكن ذلك لغرض ديني أو لغرض سياسي، بل لأنه رأى قتالهم غير مُؤَدٍّ إلى نتيجة إلا هزيمة الروم واندحارهم، وبخاصة بعد أن فشت الدسائس في بلاطهم فزادتهم ضعفًا وآذنت دولتهم بالتدهور والانحلال.

وما لنا نسبق الحوادث فنتحدث عن مقاصد قيرس وسياسته، مع أن الحوادث ستحدد هذه السياسة تحديدًا لا يبقى معه مجال للأخذ بالظن، فلندع قيرس بالإسكندرية ولنعد إلى بابليون لنتابع المسلمين في مسيرتهم إلى غايتهم.

فقد فصل عمرو بجنده من بابليون في شهر مايو من تلك السنة؛ أي حين كان الاضطراب لمقتل قسطنطين قد بلغ أشده في عاصمة الإمبراطورية الرومية، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تقف الترع التي تشق جنوب الدلتا بمديرية المنوفية في طريق جيشه، وقد استطاع في أثناء مقامه ببابليون أن يستعين بالقبط الذين دخلوا في سلطانه على إصلاح الطرق وإقامة الجسور، فكان ذلك مما أعانه على سرعة السير، واستصحب عمرو في مسيرته جماعة من رؤساء القبط اصطفاهم وأحسن معاملتهم ليكونوا أداة اتصال بينه وبين من يلقاهم من أهل البلاد.

كان الاستيلاء على «نقيوس» وحصنها المنيع أول ما فكر عمرو فيه، وكانت نقيوس تقع على ضفة النهر اليمنى على فراسخ إلى الشمال من منوف، وكانت منوف في سلطان المسلمين كما قدمنا، وقد آثر الروم أن يلقوا عمرًا قبل أن يبلغ نقيوس ليصدوه عن عبور النهر إليها، وأن يلقوه لذلك في أثناء مسيرته على الضفة اليسرى، فرابطوا له عند «طرنوط» أو «الطرانة» كما يسميها بعض المؤرخين، وهي تقع على النيل قبالة زاوية رزين إلى الجنوب من منوف، ولقيهم عمرو بها وأنشب القتال معهم، فلم يجد مشقة في التغلب عليهم برغم استبسالهم في القتال.

تابع عمرو مسيرته حتى كان قبالة نقيوس وحصنها المنيع، وكان أكبر ظنه أن يعتصم أهل الحصن به وأن يجعلوا النهر بينهم وبين الغزاة؛ لذلك اتجه إلى تدبير الوسيلة التي يعبر بها إليهم، وشاور الرؤساء القبط الذين ساروا معه في هذا الأمر ولم يدر بخَلَدِه أن يذر نقيوس وحصنها وراءه، وأن يتخطاها ممعنًا في السير نحو العاصمة؛ فقد خشي أن تخرج مسلحة الحصن منه وأن تدهم مؤخرته فتفسد عليه خطته، ولم يكن عبور النهر في هذه الأيام من شهر مايو بالأمر العسير؛ فقد انخفض ماء النيل وركد تياره، فأصبح اجتيازه في السفن أو فوق جسر منها في متناول الجيش الفاتح.

لكن الروم فكروا في الأمر غير تفكير ابن العاص؛ فقد أُلقي في روعهم أنهم إن يتركوه متابعًا طريقه إلى العاصمة دون مقاومة، وبخاصة بعد أن انهزمت أمامه حامية طرنوط، فت ذلك في أعضاد الناس فأسرعوا إلى التسليم والإذعان لهؤلاء الذين لا يقاومهم أحد؛ لذا خرج أمير الحصن في جنده جميعًا، فركبوا سفنًا أعدت للدفاع عن المدينة، وحاولوا صد العرب دون غايتهم، ورآهم عمرو في السفن ورأى منهم من حاول الخروج للوقوف في طريقه، فأمر رجاله فرموهم بالنبل، فارتد الذين تركوا السفن إليها وحسبوها ملجأ يقيهم الالتحام بعدوهم، ولم يدعهم فرسان المسلمين يفرون، بل طاردوهم إلى الماء وجعلوا يرمون من فيه بالسهام، وخيل إلى القائد الرومي أن المسلمين سيقتحمون النهر إليه، ولعله كان قد سمع بصنيعهم حين عبروا دجلة إلى المدائن على خيولهم ودجلة في فيضه وتدفع تياره، فأمر ملاح السفينة التي كان بها فانطلقت مسرعة تولى به فرارًا إلى الإسكندرية، ورأى جنده صنيعه، فوضعوا سلاحهم وألقوا بأيديهم وجعلوا النجاة من الموت غاية همهم، ولم ينلهم العرب بغيتهم، بل حصروهم وقتلوهم عن آخرهم، ثم دخلوا المدينة من غير مقاومة بعد أن خلت من المدافعين عنها.

يقول حنا النقيوسي مؤرخ ذلك العصر:
إنهم دخلوا المدينة فقتلوا كل من وجدوه في الطريق من أهلها، ولم ينجُ من دخل الكنائس لائذًا، ولم يَدَعوا رجلًا ولا امرأة ولا طفلًا، ثم انتشروا فيما حول نقيوس من البلاد، فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوه بها، فلما دخلوا مدينة «صوونا» وجدوا بها «اسكوتاوس» وعيلته، وكان يمت بالقرابة للقائد تيودور، وكان مختبئًا في حائط كرم مع أهله، فوضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على أحد منهم، ولكن يجدر بنا أن نسدل الستار على ما كان؛ فإنه لا يتيسر لنا أن نسرد كل ما كان من المسلمين من المظالم بعد أن أخذوا جزيرة نقيوس.٢

وهذه العبارة التي أوردها بتلر من كتاب حنا لا تخلو من مبالغة؛ ولذا علق عليها مترجم بتلر الأستاذ محمد فريد أبو حديد بقوله: «أغلب الظن أن هذه مبالغة من الكاتب (حنا النقيوسي) دفعته إليها غيرته وحقده على الغالبين من العرب، إذ كان من أول أصول العرب في الحرب ألا يقتلوا من استسلم، وألا يقتلوا امرأة ولا شيخًا ولا طفلًا، يأمرهم بذلك دينهم، ويحضهم عليه أمر خلفائهم الأولين إلى القواد والجنود.»

أقام عمرو بنقيوس يستبرئ ما حولها من الأرض ويطهرها من كل أثر للروم، وبعث شريك بن سُمَيٍّ على كتيبة لتعقب الروم الذين فروا من نقيوس يريدون الإسكندرية، وأدرك شريك الروم الفارين، فرأوه ومن معه قلة لا تستطيع ثباتًا، فارتدوا إليهم وأحاطوا بهم، ورأى شريك كثرتهم، ورأى نهدًا من الأرض قريبًا منه فاعتصم به وحاربهم من فوقه لكنه أدرك منذ اللحظة الأولى أنه مخذول إذا لم يسعفه مدد، فأمر مالك بن ناعمة الصدفي، وكان صاحب فرس لا يشق في الجري غباره، فانحط من ذلك النهد على الروم فاقتحم صفوفهم، وطار عدوًا إلى عمرو بنقيوس ولم يدركه أحد، وأمد عمرو شريكًا لأول ما بلغه حرج موقفه، وعرف الروم مسير المدد فلاذوا بالفرار من قبل أن يلقوه، من ذلك اليوم أطلق على النهد الذي وقع القتال حوله اسم القائد العربي الذي اعتصم به، فهو يُعرف إلى يومنا باسم «كوم شريك».

وأدرك عمرو شريكًا والذين معه، وسار في قوته الكاملة تاركًا فرع رشيد عن يمينه، متابعًا الفرع الكانوبي المؤدي إلى الإسكندرية، وعلم أن الروم أعدوا للقائه عند سُلْطَيْس على ستة أميال إلى الجنوب من دمنهور، فقصد إليهم واشتبك معهم، ودار بين الفريقين قتال شديد انتهى بهزيمة الروم، وما كان لهم ألا ينهزموا وليس ثم حصون يمتنعون بها! ولقد فروا بعد هزيمتهم فلم يقفوا بدمنهور، بل لم يقفوا دون حصون كريون آخر سلسلة من الحصون قبل الإسكندرية، وهناك انضموا إلى سائر جيش الروم، وتأهب الجميع للقتال يقودهم تيودور.

وقدر تيودور قائد الروم الأكبر في مصر أنهم إن ينهزموا بكريون تنكشف العاصمة أمام العرب، فيغريهم ذلك بحصارها والتضييق عليها، ولئن كانت حاميتها قوية والدفاع عنها يسيرًا، فإن الخير كل الخير في الحيلولة بين الغزاة وبلوغ أسوارها ما كان إلى هذه الحيلولة سبيل؛ لذلك خرج بنفسه إلى كريون في جند عظيم اطمأن به إلى قدرته على الوقوف عندها وصد الغزاة دونها، وزاد في اطمئنانه أن الروم كانوا قد رمموا حصون كريون وزادوها قوة، وأن ترعة الثعبان أمامها كانت تحمي المدافعين عنها، وأن الطريق بينها وبين الإسكندرية كان معبدًا يحمل المدد الكثير إذا أحوج الأمر إلى مدد، وإذ عرف الروم في الموقع المحيطة بكريون أن الموقعة حاسمة، وأن لها لذلك ما بعدها، فقد أقبلوا من كل حدب ينسلون يعززون تيودور وجنوده، أقبلوا من خيس ومن سخا ومن بلهيب ومن غيرها من البلاد، وانضموا إلى صفوف الإمبراطورية يؤيدونها ويزيدونها بأسًا وقوة.

كم كان عدد الجند الذين بلغ بهم عمرو كريون؟ لم يذكر المؤرخون ما يفيد أن أمير المؤمنين بعث إلى مصر غير الاثني عشر ألفًا الذين سبق أن ذكرناهم وقد خاض هؤلاء معارك عدة قتل منهم فيها لا ريب عدد غير قليل، وقد ترك عمرو منهم مسالح في البلاد التي فتحها ليحفظوا الأمن والنظام فيها، وليكفلوا السكينة في ربوعها، أتراه استعان بالبدو الضاربين في صحاري مصر شرقًا وغربًا على نحو ما فعل بعد انتصاره في الفرما؟ يتعذر القول بأي من هذين الاحتمالين، وأغلب الظن أن أمير المؤمنين أمد عمرًا بمدد جديد بعد ظفره بحصن بابليون وحين أذن له في السير إلى الإسكندرية، ولم يكن إمداده في ذلك الوقت متعذرًا؛ فقد كانت مسالح البصرة والكوفة هي التي تمد جيوش المسلمين في فارس، وكانت الشام قد سكنت إلى حال من الطمأنينة لم يبقَ معها خوف من انتقاض أهلها بحكامهم، وكان الروم في شغل بمصر عن محاولة الرجعة إلى الشام أو مهاجمة ثغوره، فضلًا عن اشتغالهم بما فشا من الدسائس في بلاطهم، فإذا ذكرنا مع ذلك كله أن عُمَرَ لم يضنَّ يومًا على أمراء جنده في مختلف الميادين بمدد، وأنه وعد ابن العاص أن يمده إذا دخل مصر، كنا في حل من القول بأنه أرسل إليه الجند تلو الجند بعد الذي صادفه من نجاح في فتح مصر، وأن عمرًا سار إلى الإسكندرية وفي إمرته ما يزيد على خمسة عشر ألفًا إن لم يزد على عشرين ألفًا.

ولعله قد استعان بالمصريين وبالبدو في تعبيد الطرق وحراستها، وفي المجيء بالميرة إلى جيشه، بل لعله قد استعان بمن اطمأن إليه منهم، وجعله في المسالح التي تشرف على الأمن وتحفظ النظام، أما الجند المقاتلون الذين كانوا يلقون الروم في المعارك فكانوا جميعًا من العرب المسلمين.

التقى عمرو والروم في كريون، واشتد القتال بين الفريقين شدة لم تؤلف فيما سبقها من المعارك، وظلوا كذلك حتى فصل بينهم الظلام ولم يظفر أي الفريقين بخصمه، بل لعل الروم كانوا أرجح في ذلك اليوم كفة لكثرة عددهم، ولاستماتتهم في الدفاع عن مواقعهم، ولأن حصون كريون كانت تحمي ظهورهم وتشد أزرهم، واستحر القتال منذ الصباح إلى اليوم التالي ثم انفصل الفريقان في آخره كما انفصلا في اليوم الأول، وظل القتال دائرًا على هذا النحو بضعة عشر يومًا، ترجح فيه كفة المسلمين تارة، وترجح كفة الروم تارات، وقد أظهر الروم فيه من ضروب البراعة ومن شدة البأس وصلابة العود ما أدخل الروع إلى نفوس المسلمين، حتى لقد صلى عمرو يومًا صلاة الخوف ركعة وسجدتين مع كل طائفة من جنده، على أن بأس الروم لم يذهب عزم المسلمين ولم يضعف روحهم، بل زادهم حماسة وإقبالًا على الموت، كان وردان مولى عمرو بن العاص يحمل اللواء في مقدمة المسلمين، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقاتل إلى جانبه، وأصابت عبد الله في أحد أيام المعركة جراحات بالغة هاضته وأجهدته، فالتفت إلى جاره وقال له: «يا وردان! لو تأخرت قليلًا نصيب الرَّوْح!» يريد فترة يتنفس فيها وينفس بها عن نفسه، فأجابه وردان، وهو يندفع أمامه واللواء في يده والحماسة آخذة منه «الرَّوْحَ تريد، الرَّوْحُ أمامك وليس خلفك.» واندفع عبد الله لسماع هذا الجواب يقاتل متقدمًا غير عابئ بجراحه، وعرف أبوه ما أصابه، فبعث رسولًا يسأل عن حاله، فكان جواب عبد الله أن تمثل بقول ابن الإطنابة:

أقول لها إذا جَشَأتْ وجاشَت
مكانَكِ تُحْمَدِي أو تَسْتريحِي

ورجع الرسول إلى عمرو بجواب عبد الله، فرضي عنه وقال: هو ابني حقًّا، وبهذا الصبر، وبهذه الحماسة، وبهذا الإقبال على الموت لا يهابونه، فتح المسلمون مدينة كريون وحصنها وهزموا الروم عنها.

كيف كان انتصارهم؟ وماذا كانت فعالهم؟ وكيف انهزم الروم بعد الذي أبدوه من براعة وأظهروه من بأس وقوة احتمال؟ ذلك ما لا يذكر المؤرخون عنه شيئًا، مع اتفاقهم على أن معركة كريون دامت عشرة أيام أو بضعة عشر يومًا، وأن الفريقين كانا يريانها حاسمة بينهما، وكل ما يذكره ابن عبد الحكم، بعد الذي قدمنا من صلاة الخوف ومن جراحات عبد الله بن عمرو، قوله: «تم فتح الله للمسلمين وقتل منهم المسلمون مقتله عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية.» وتلك هي بعينها عبارة السيوطي ومن أخذوا عن ابن عبد الحكم، وهذا القول على إيجازه، وعلى أنه لا يصف فعال المسلمين وكيف كان انتصارهم، صريح في أن هزيمة الروم كانت تامة منكرة، أما بتلر فيشتم من رواية حنا النقيوسي أن تقهقر الروم إلى الإسكندرية كان وئيدًا مع أن رواية حنا كما أوردها بتلر لا تزيد على أن عمرًا أرسل جيشًا عظيمًا من المسلمين إلى الإسكندرية فملكوا كريون، فسار من فيها مع قائدهم تيودور إلى الإسكندرية.

وهذا الإيجاز في تصوير معركة حاسمة دامت عشرة أيام أو أكثر، يوجب الشيء الكثير من الأسف، فمعرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين وهزيمة الروم لها من غير شك قيمتها في الدلالة على الحالة النفسية للفريقين من ناحية، وعلى الحالة النفسية للشعب المصري بإزاء الفريقين من ناحية أخرى، لقد استأسد الروم في أول الأمر وكانت الإسكندرية تمدهم كلما احتاجوا إلى المدد، فما بالهم تقاعسوا في نهايته مع أنهم كانوا أضعاف المسلمين في العدد، وكانوا في منعةٍ بحصونهم وبالمدد الذي تبعثه العاصمة لهم؟ أفكان ذلك الضعف في قيادتهم ومهارة في قيادة عدوهم؟ أم كان سببه وصول أنباء إلى الإسكندرية بتفاقم الاضطراب في عاصمة الإمبراطورية، وأن هذه الأنباء بلغت الجند في كريون فأضعفت معنوياتهم؟ أم أن العرب وصلتهم أمداد قووا بها فاقتحموا على عدوهم حصونه؟ أم شعر المسلمون بحرج موقفهم فتعاهدوا على النصر أو الموت، كما فعلوا باليمامة وباليرموك، فلم يستطع الروم في حرصهم على الحياة أن يصدوا هجمة المسلمين؟ أم كان للشعب المصري أثر في موقف الفريقين بأن عاون العرب على الروم، فكان لهذه المعاونة أثرها؟ قد يكون لبعض هذه العوامل، وقد يكون لها جميعًا أثر في النتيجة التي انتهت المعركة إليها، وقد يكون ثم عوامل أخرى، لا اتصال لها بها، هي التي أدت إلى هذه النتيجة، نحن لا نستطيع على كل حال أن نثبت أن عاملًا بذاته كان سبب النصر؛ لأن المؤرخين الذين أسهبوا ما أسهبوا في تصوير القادسية، وفي تصوير اليرموك، وفي تصوير نَهَاوَنْد، لم يذكروا شيئًا فيه غناء يمكن الاطمئنان إليه في بيان العوامل والأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين وهزيمة الروم في كريون.

على أننا مع ذلك نستطيع أن نستنبط من سياق الحوادث أن موقف المصريين لم يكن له أثر يُذكر في نتيجة المعركة؛ فهم كانوا يمقتون الروم في أعماق قلوبهم أشد المقت، فلم يكونوا يبذلون لهم أي عون إلا مكرهين، وهم كانوا مع ذلك في ريب من مقاصد المسلمين بإزائهم، وبخاصة أن هؤلاء المسلمين كانوا بحكم الحرب، يأخذون لأنفسهم من أموال المصريين كل ما يحتاجون إليه لميرتهم وذخيرتهم، وكانوا يعاملون من لا يذعنون لهم من أهل البلاد معاملة بطش وقسوة، هذا إلى أن أهل البلاد كانوا قبل مجيء العرب في ثورة دائمة بالروم، وكانوا يرجون أن تتيح لهم هزائم هرقل بالشام فرصة التخلص من حكمه وحكم عماله ليستقل المصريون بأمر بلادهم، فيرتفع الظلم والعسف عنهم وتخلص لهم خيرات أرضهم، أترى العرب إذا غلبوا الروم على مصر ألا يحلون محلهم فيها، ويستأثرون بالسلطان على أهلها، ويختصون أنفسهم بما كان الروم يختصون أنفسهم به من خيراتها! ألم يفرض هؤلاء المسلمون الجزية عليهم في صلح بابليون؟ والمسلمون يخالفونهم في الجنس واللغة والعقيدة والعادات؛ وقد يحاولون غدًا أن يحملوهم على تغيير دينهم، كما حاول الروم أن يحملوهم على تغيير مذهبهم! لهذا كله كان المصريون يمقتون حكم الروم ويخافون حكم العرب، فلم يكونوا يعاونون هؤلاء إلا كارهين، أو يعانون أولئك إلا مكرهين، قوم ذلك شأنهم لا يخطئ من يستنبط أنهم لم يكن لهم أثر فيما أصاب العرب من نصر، وما أصاب الروم من هزيمة في موقعة كريون.

لا ينصرف هذا الرأي بطبيعة الحال إلى فئة قليلة من المصريين انضموا إلى الروم بدافع من مصلحتهم أو من حماستهم للمسيحية وخشيتهم أن يحملهم المسلمون على تغييرها، وهو لا ينصرف كذلك إلى فئة قليلة انضمت إلى المسلمين ودان بعض أفرادها بالإسلام بدافع من مصلحتهم كذلك، أو حقدًا منهم على الروم بسبب عسفهم بالمصريين واضطهادهم لهم، فمثل هذه الفئات القليلة توجد في كل أمة وعصر، وإنما ينسحب هذا الرأي على كثرة المصريين في أداني البلاد وأقاصيها؛ فهذه الكثرة التي تصور اتجاه المجموع أصدق تصوير، كانت حانقة على الروم غير راغبة في العرب، وكان أكبر همها ألا يشارك أبناء مصر مشارك في حكمها وفيما تنتجه أذرع بنيها من ثمرات أرضها.

انتصر العرب على الروم بكريون وردوهم على أعقابهم، ولم يَقُمْ عمرو بكريون إلا ريثما جم جنده، ثم سار على رأس هذا الجند الباسل حتى بلغ الإسكندرية دون أن يلقى في طريقه ما يصده، فلما اقترب من أسوارها وقف الجند كله أمامها وقد أخذه البهر من كل مكان لمرآها، فأين منها دمشق! وأين منها بيت المقدس، بل أين منها أنطاكية! بل أين منها المدائن وفيها أبيض كسرى! فتح هؤلاء العرب أبناء البادية عيونهم واسعة على منظر رائع تسحر روعته العقول والقلوب، وظلوا وقوفًا يجيلون أعينهم يَمْنَةً ويَسْرَةً فلا تقع إلا على ما يزيدهم سحرًا وبهرًا، فهم يرون من شرق المدينة العظيمة ومن غربها هذا البحر الأبيض يترامى أمام النظر إلى حدود الأفق، وقد كست السماء الصفو ماءه زرقة جعلت الماء في لون السماء وفي صفائها ورقتها، والماء مع ذلك دائم التقلب مع الموج المتدافع يأخذ بعضه برقاب بعض حتى يتفانى عند الشاطئ على رمال ناعمة ملساء، وترتد هذه الأعين من البحر إلى المدينة العظيمة، فما أسرع ما تنسى البحر وموجه فيما ترى من عجب دونه كل عجب! فهذه ضواحي المدينة أمامهم نثرت فيها الحدائق نثرًا، وقامت فيها القصور والأديار خلال غابات من أشجار ضخمة، بعضها مثمر وبعضها لا ثمر له، ومن بعد الضواحي تقوم أسوار وحصون يصغر أمامها كل ما رأوا من أسوار وحصون، ولا يزيد حصن بابليون الذي وقفهم أمامه ما وقفهم على أنه واحد من هذه المجموعة الضخمة القائمة حول العاصمة الفاتنة تحدث عن مناعتها وقوة دفاعها، وتحمي هذه الأسوار والحصون بدائع من العمارة لا تشهد الأعين منها إلا أعاليها وقد زينت بقباب دقيقة النقش وعمد ترتفع فوقها بعض هذه القباب فتزيد الناظر إليها عجبًا منها وإعجابًا بها، وبين هذه القباب تندلع في الجو مسلات أكثر ارتفاعًا مما رأوا في عين شمس، ولم يكونوا قد رأوا له في غير مصر نظيرًا، ويقع النظر في أثناء ذلك على كنيسة سان مارك «القديس مرقس» القائمة بين هذه المسلات في حراسة الطلسمات المنقوشة على جوانبها الأربعة، فإذا الكنيسة درة في العمارة، صاغها البناء الصناع فلم يترك لونًا من ألوان الجمال إلا أسبغه عليها، وينتقل النظر في الناحية الأخرى من المدينة، فإذا معبد السرابيوم بسقفه المذهب يأخذ وهجه باللب، وإذا عمود «دقلديانوس» الفارع يشرف على القلعة التي تحرس المعبد وما حوله، ويتخطى النظر متجهًا إلى ناحية البحر، فإذا منارة فاروس تنبعث خلال الجو معلنة للشاهدين أنها من عجائب الدنيا السبع، ويتردد نظر الجند بين هذه العجائب، من عمائر وتماثيل ومسلات وكنائس وحصون وأسوار، فلا يزدادون إلا سحرًا وبهرًا، ولا عجب، فقد كانت إسكندرية ذلك العهد أجمل مدائن العالم وأبهاها، أفيضن هذا الجيش الباسل ببذل في سبيل اقتحامها وفتحها؟! كلا! لقد عوده الله النصر، فلم تخذله أسوار ولا حصون أيًّا كانت قوتها ومناعتها.

ورأى عمرو فتنة الجند وحماستهم، فلم يتردد، مع ما اشتهر به من حرص وحذر، فأمرهم أول مقدمهم باقتحام أسوار المدينة وأبراجها، وكان تقديره أن هزيمة الروم بكريون لا بد أن تكون قد أدخلت الروع إلى نفوس المدافعين عن الإسكندرية، وأقنعتهم بأن مصيرهم لن يكون خيرًا من مصير أصحابهم الذين ولوا مدبرين إليهم، ولم يخالج المسلمين ريب في أن المدينة البارعة ستفتح أبوابها لقاء هجمتهم، فاندفعوا ينفذون الأمر مهللين مكبرين، فلم يرعهم إلا الحجارة العظيمة تتساقط عليهم مقذوفة من المجانيق المنصوبة فوق أسوار المدينة، ذلك أن الروم أيقنوا حين انسحبوا من كريون أن العرب سيلحقون بهم، وأن نشوة الظفر ستنسيهم الحيطة، وستدفعهم إلى مهاجمة المدينة، ولذا أدخل تيودور الجيش في حصونها وأمر بإخلاء ضواحيها، وأقام القاذفين بالمجانيق على أسوارها ليرموا الحجارة الضخمة منها في وجه العدو المقبل عليها، وأيقن عمرو حين رأى وابل القذائف أن الروم أعدوا واستعدوا، فعاده حذره، وأمر رجاله بالارتداء إلى ما وراء مرمى المجانيق، وهناك ضرب عسكره وأقام يدبر أمره.

عسكر عمرو شرق المدينة فيما بين الحلوة وقصر فاروس، وسرعان ما أدرك أن مهاجمة المدينة ليست بالأمر الميسور، فقد كان البحر يحميها من شمالها، وكان الروم وحدهم هم المتسلطين عليه، فلم يكن للعرب فيه شراع واحد، وكانت بحيرة مريوط تحميها من الجنوب، وكان اجتيازها عسيرًا بل غير مستطاع، وكانت ترعة الثعبان تدور حولها من الغرب، بذلك لم يبقَ إليها طريق إلا من الشرق، وهو الطريق الجاري بينها وبين كريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية بأسوارها وحصونها، كما كانت حصينة بهما من سائر نواحيها، وكان تموين الإسكندرية من البحر يسيرًا، إذ كانت مدن الساحل المصري كلها في يد الروم، فكان في مقدورها أن تبعث السفن محملة بالميرة إلى سكان العاصمة وحماتها، وكان هؤلاء الحماة، ويبلغ عددهم خمسين ألفًا، موقنين أنهم إن يهزموا لم يبق للروم في مصر دولة، بل لقد بلغتهم كلمة قيصر: «لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية.» فزادتهم هذه الكلمة حماسة في الدفاع عن المدينة والاستماتة دونها، لا أمل إذن في مهاجمة المدينة ما دام حماتها متحصنين بأسوارها وبروجها ولا رجاء في مناجزة هؤلاء الحماة والظفر بهم إلا أن يخرجوا منها للقاء العرب في ميدان مكشوف! أتراهم يفعلون؟ فإن لم يفعلوا فماذا عسى أن يصنع القائد الداهية؟ أفقدر للإسكندرية وحدها أن تنقذ مصر كلها من يده؟

لم ييأس عمرو مع ذلك من التغلب على عدوه، وكان أول رأيه أن يقف حياله بعيدًا عن مرمى مجانيقه، فإذا طال بالروم الحصار شعروا بما في ذلك من مذلة لهم، فغامروا بالخروج فتمكن المسلمون منهم؛ لذلك أقام بعسكره بين الحلوة وقصر فاروس شهرين كاملين، لم يخرج له الروم في أثنائها ولم يحاولوا مناجزته، ونقل عمرو عسكره بعد ذلك إلى المَقْس، فخرجت عليه الجند من ناحية البحيرة مستترة بحصن هناك، فواقعوه فقتل من المسلمين بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلًا، ثم ارتدت الروم إلى الحصون حين رأوا المسلمين يجتمعون ليلقوهم، ولم يغير ذلك من عزم عمرو المقام بإزاء المدينة، وإن دعاه لمضاعفة الحذر والحيطة، وكذلك بقي الروم محصورين قلما يخرجون، وبقي المسلمون قبالتهم تأتيهم أرزاقهم من البلاد المجاورة لهم، ولم يَدُرْ بخاطر عمرو أن يغامر بهم لمهاجمة حصون يعلم علم اليقين أنها لا تُنال.

لكنه رأي بعد قليل من حصار المدينة أن بقاءه أمامها، يرصد خروج حاميتها من غير أن يقوم جيشه بعمل حربي يقوي به عزم جنده قمين أن يدفع إلى نفوس الجند السأم، وأن يشعرهم بالعجز عن مناجزة عدوهم؛ وفي ذلك ما يزعزع من ثقتهم بأنفسهم، وطمأنينتهم إلى غدهم، وقد هداه تفكيره إلى ما يحقق غرضين في وقت معًا، فيزيل سأم جنده ويضعف من عزم الروم المحتمين بالعاصمة؛ فبعث كتائب تجوس خلال بلاد الدلتا تطارد الروم فيها، ثم أبقى معظم الجند على حصار الإسكندرية.

هل سار عمرو على رأس هذه الكتائب بنفسه أم جعل الإمارة عليها لغيره من أمراء جنده؟ تختلف الروايات في هذا الأمر، وتذهب طائفة منها إلى أن بعض هذه الكتائب كان يجوس خلال صعيد مصر حين كان بعضها الآخر يجوس خلال الدلتا، وأن عمرًا بدأ ينفذ الخطة مذ كان محاصرًا حصن بابليون وقبل أن يسير إلى الإسكندرية، والقارئ يذكر ما قدمنا من أنه بعث، وهو على حصار بابليون، كتائب استولت على أثريب ومنوف، كما استولت كتائب أخرى على إقليم الفيوم كله، أفظلت هذه الكتائب تتقدم في الدلتا وفي الصعيد حين كان عمرو يسير بمعظم الجيش إلى كريون وإلى الإسكندرية؟ أم جمع عمرو كل قواته حين أزمع السير إلى العاصمة الحصينة، فلم يتخلف منها عن السير معه إلا ما تركه في بابليون وفي البلاد التي تم فتحها لحفظ النظام، وللقضاء على كل سبب للانتقاض يمكن أن يظهر فيها؟

يذهب بتلر معتمدًا على رواية حنا النقيوسي، إلى أن عمرًا سار بنفسه، بعد ما رأى منعة الإسكندرية، على رأس كتائب فصلت من الإسكندرية إلى كريون فدمنهور ثم اتجه بها إلى الشرق حتى بلغ سخا من إقليم الغربية، فوقف دونه ما يحيط بها من أسوار وما يكتنفها من مياه؛ ولم يقدر عليها، ولذلك تركها وسار جنوبًا إلى طوخ الواقعة على نحو ثلاثين ميلًا منها فصده أهلها، فسار إلى دَمْسِيس فعجز عن فتحها، ولم يكسب عمرو من مسيرته هذه، وقد استغرقت اثني عشر شهرًا، إلا أن أشعر أهل الدلتا بشوكته، وأن أوقع بالبلاد غير المحصنة وغنم منها، ثم عاد إلى بابليون، ويضيف بتلر في موضع آخر من كتابه، مستندًا دائمًا إلى رواية حنا النقيوسي، أن عمرًا ذهب على رأس قوات إلى الصعيد، وأنه فتحها أو فتح على الأقل بلاد مصر الوسطى، ثم عاد بعد ذلك إلى بابليون فأقام بها وهناك جاء إليه المقوقس من الإسكندرية وصالحه.

ويروي البلاذُري عن يزيد بن أبي حبيب عن الجيشاني أنه قال: «سمعت جماعة ممن شهدوا فتح مصر يخبرون أن عمرو بن العاص لما فتح الفُسطاط وجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى عين شمس، فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل حكم الفسطاط، ووجه خارجة بن حُذافة العدوي إلى الفيوم والأشمونين وإخميم والبشرودات وقرى الصعيد ففعل مثل ذلك، ووجه عمير بن وهب الجمحي إلى تنيس ودمياط وتونة ودميرة وشطا ودقهلة وبنا وبوصير ففعل مثل ذلك، ووجه عقبة بن عامر الجهني — ويقال وردان مولاه صاحب سوق وردان بمصر — إلى سائر قرى أسفل الأرض ففعل مثل ذلك، فاستجمع عمرو بن العاص فتح مصر فصارت أرضها أرض خراج.»

ونحن نميل إلى الأخذ برواية البلاذُري، وإن لم تُذكر بها تواريخ معينة، ونميل لذلك بخاصة؛ لأن ابن عبد الحكم وغيره ممن أرخوا لفتح مصر يقررون أن عمرًا بقي على حصار الإسكندرية مذ سار إليها إلى أن تم له فتحها، وعلى ذلك كانت كتائبه تسير في الدلتا وفي الصعيد حين كان هو على هذا الحصار، وإذا صح أن هذه الكتائب لم تفتح البلاد المحصنة إلا بعد فتح الإسكندرية فالذي لا شبهة فيه أنها حصرت الروم في هذه البلاد، وأنها مدت سلطانها على ما سواها من الأرجاء التي سارت فيها، ولا شبهة كذلك في أن أهل مصر لم يرحبوا بالعرب ولم يثوروا بهم ولم يقاوموهم؛ لأنهم كانوا يخشون أن ينتصر الروم بالإسكندرية ثم يعود الأمر لهم في مصر كلها، كما كانوا لا يعرفون ما سيئول إليه أمرهم إذا عقد النصر لواءه للعرب، أترى هؤلاء العرب يدعونهم يستقلون ببلادهم؟ ما أحسبهم خدعوا أنفسهم بمثل هذا الأمل وقد رأوا المسلمين يستقرون بالشام ويأخذون بأيديهم مقاليد حكمه؛ لذلك أذعنوا للواقع فلم يقاوموا أحدًا ولم يثوروا بأحد، بل ظلوا على ولائهم الظاهر للروم حيثما بقي الأمر للروم، وأبدوا ولاء ظاهرًا للعرب، حيثما آل السلطان للعرب، ووقفوا في المعركة الدائرة في أرضهم موقف المتفرج، وقد شدت أنظارهم إلى العاصمة العظيمة فكلهم التشوف إلى أنبائها والتطلع إلى ما ينتهي إليه أمرها.

وكيف لا يكون ذلك شأنهم وقد كان الشهر يمضي يعقبه الشهر والعاصمة الحصينة آمنة مطمئنة لا يجرؤ المسلمون على التفكير في مهاجمتها، بَلْهَ اقتحامها، ذلك لأنها كانت مفتوحة للروم من ناحية البحر فهم يستطيعون أن يمدوها بما يشاءون من جند وعتاد، والظاهر من مختلف الروايات أن القتال عندها كان مقصورًا أغلب الأمر على مناوشات لا تبلغ أن تكون حربًا، روى ابن عبد الحكم أن طرفًا من الروم خرجوا من باب حصن الإسكندرية، فحملوا على الناس فقتلوا رجلًا من مَهْرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به فغضب المَهْريون وقالوا: «لا ندفنه أبدًا إلا برأسه.» فقال لهم عمرو: «تتغضبون! كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلًا ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم.» وخرج الروم يومًا فقتل العرب منهم رجلًا فاحتزوا رأسه ورموا به إلى الروم، فرمى الروم برأس المهري إليهم فدفنوه، وطبيعي ألا تحسم مثل هذه المناوشات حربًا، ولقد ضاق عمرو بها ذرعًا، ثم لم يستطع أن يدفع جنده لأكثر منها، حذرًا أن يسوقهم إلى هلكة يؤاخذه بها عثمان بن عفان ومن كانوا على رأيه فعابوا على ابن العاص جرأته في الإقدام على فتح مصر، ولعله كذلك كان يجد من جنده من يتقاعسون إذا دعوا للإقدام، وإن كان على ثقة من أن أكثرهم يستحب الموت على الحياة، يدل على ذلك ما روي من قوله يصف طوائف هذا الجند «ثلاث قبائل في مصر: أما مهرة فقوم يَقتلون ولا يُقتلون، وأما غافق فقوم يُقتلون ولا يَقتلون، وأما بَلِيُّ فأكثرها رجلًا صحب رسول الله وأفضلها فارسًا.»

على أن أمداد الروم إلى الإسكندرية ما لبثت أن انقطعت بعد قليل من موت هرقل؛ فقد شغل أهل بزنطية بما ساد بلاطهم من الاضطراب، وبما نشأ في عاصمتهم من الانتقاض على مرتينا وابنها، فنسوا الإسكندرية ونسوا مصر، ولم يَعُدْ منهم أحد يفكر في الدفاع عنها، وذلك قول المؤرخين المسلمين إذ يذكرون موت هرقل: «إن الله كسر بموته شوكة الروم.» وفت انقطاع المدد عن عاصمة مصر في أعضاد حماتها، فأوجسوا خيفة أن يدهمها العرب، أو أن يتغلبوا على بلاد الساحل فيقطعوا عنها ميرتها، وزاد في مخاوفهم ما كان يبلغهم من انتشار هؤلاء العرب في الصعيد وفي مصر السفلى، ومن حصرهم حاميات الروم في البلاد الحصينة داخل أسوار هذه البلاد، وما عسى أن تستطيعه الإسكندرية إذا حرمت الطعام وفشت فيها المجاعة! وما بقاء جنود الروم بعاصمة هذا حالها في حين أن عاصمتهم على ضفاف السفور مضطربة مهددة بشر ألوان الفساد والفوضى! هذه كلها عوامل تزعزع الروح المعنوية في نفس كل جيش مقاتل، وقد زعزعت روح الجيوش المدافعة عن الإسكندرية، وجعلتها لا ترى في مناعة الحصون والأسوار المحيطة بها ما يدفع عنها أو يعصمها من الهزيمة إذا غامر محاصروها بمهاجمتها.

وكيف لا تنحل روحهم وكان اشتغال الروم في مدينة قسطنطين بدسائس بلاطهم وباضطراب شئونهم قد صرفهم عن التفكير في مصر والدفاع عنها! وكان شعور الجند المدافع عن الإسكندرية بهذه الحال يشتد يومًا فيومًا فيزيد روحهم المعنوية بتوالي الأيام انحلالًا، وكان عمرو بن العاص وجنوده مقيمين على حصار الإسكندرية لا يبرحونها، مطمئنين إلى وفرة ميرتهم وذخيرتهم، وإلى ما يبلغهم من أنباء إخوانهم المنتشرين في الصعيد وفي الدلتا، أما عمر بن الخطاب بالمدينة فكان ينتظر أنباء مصر إذ ترد إليه الفَيْنَة بعد الفَيْنَة، وهو أشد ما يكون استعجالًا للنبأ بسقوط الإسكندرية في يد المسلمين، لكن هذا النبأ أبطأ عنه شهرًا، وساءه هذا الإبطاء فأخذ يبحث عن السبب فيه، فهؤلاء الجنود هم الذين فتحوا أمنع المدن وأقواها حصونًا، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يكفل له الظفر بخصومه، فما باله مع ذلك يقيم أمام أسوار المدينة المحصورة كأنما طاب له ولجنده هذا المقام، وكأنهم اكتفوا به فلم يحاولوا ما بعده؟! ولم تكن أنباء الروم واضطراب ملكهم لتغيب عن خليفة المسلمين فكيف وهذه فرصة نادرة للظفر بهم يضيعها ابن العاص والذين معه، مع أنهم ظفروا بالروم من قبل في أجنادين حين كان هرقل لا يزال حيًّا، وحين كان الروم يرون أجنادين الحصن الأول في خط الدفاع عن بيت المقدس، ويرون دفاعهم عن بيت المقدس دفاعًا عن دينهم وعن قبر المسيح نفسه؟! ليست قوة الروم إذن هي التي وقفت المسلمين على أبواب الإسكندرية، ولا بد أن يكون قد طرأ على هؤلاء المسلمين ما أضعف إقدامهم على الموت وحرصهم على الشهادة، وما عسى أن يطرأ عليهم إلا ما أغرتهم به خيرات مصر من تعلق بالدنيا وشَرَهٍ إلى نعيمها! وعمر أشد الناس إيمانًا بأن حب الدنيا يفسد في النفس نخوتها وإقدامها، لذلك جعل الغضب يأخذ من نفسه كلما أبطأ عنه نبأ الفتح، فلما فاض عنه الغضب قال لأصحابه يحدثهم عن مصر: «ما أبطئُوا بفتحها إلا لما أحدثوا.» ثم كتب إلى عمرو بن العاص يقول له: «أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر. إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم وأحببت من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلنتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غَيَّرَهُم ما غيَّرَ غَيْرَهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحُضَّهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ويسألونه النصر على عدوهم.»

كم كانت الأشهر التي حاصر فيها العرب الإسكندرية، فأحفظ طولها عمر ودفعه إلى أن يكتب هذا الكتاب؟ يقول ابن عبد الحكم: إنها كانت أربعة عشر شهرًا خمسة قبل موت هرقل وتسعة بعده، ويروي البلاذُري أن عمرًا بلغ الإسكندرية فوجد أهلها معدين لقتاله، فأرسل إلى المقوقس يهدده ويذكر له ظفر المسلمين بالروم في كل مكان، ونصح المقوقس لقومه بالصلح «فأبوا إلا المحاربة، فقاتلهم المسلمون قتالًا شديدًا وحصروهم ثلاثة أشهر، ثم إن عمرًا فتحها بالسيف وغنم ما فيها، واستبقى أهلها ولم يقتل ولم يَسْبِ وجعلهم ذمَّة كأهل إليُونَة.» ويذهب بتلر، في الملحق الرابع الذي جعله في ذيل كتابه عن «تواريخ الفتح العربي»، إلى أن المسلمين بدءوا حصار الإسكندرية في أواخر يونيو سنة ٦٤١، وأن المدينة سلمت في ٨ نوفمبر سنة ٦٤١، وهذا يعني أن الحصار دام أربعة أشهر ونصف شهر، وقد يؤيد هذا القول الذي أورده بتلر ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: «إنكم تقاتلونهم منذ سنتين.» فما بين وصول عمرو إلى العريش في ديسمبر سنة ٦٣٩ وتسليم الإسكندرية في نوفمبر سنة ٦٤١ يعادل سنتين هلاليتين؛ وهما لا ريب كافيتان لإثارة عمر ودفعه لأن يبعث إلى قائده على جيوش مصر يتهمهم بأنهم أحدثوا وأن الدنيا غيرتهم.

تلا عمرو كتاب أمير المؤمنين وأخذ يفكر في خطة يفتح بها الإسكندرية، وفي رواية أنه بدأ هذا التفكير ولم يصله كتاب من المدينة، روى ابن عبد الحكم عن أبيه عبد الله ابن عبد الحكم أنه قال: «لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية استلق ظهره ثم جلس فقال: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يُصْلِحُ آخِرَه إلا مَنْ أَصْلَحَ أوَّلَه — يريد الأنصار — فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومه ذاك.»

أما الذين يثبتون كتاب أمير المؤمنين فيقولون إن عمرًا جمع الناس وقرأ عليهم الكتاب، ثم دعا أولئك النفر الذين ذُكروا فيه فقدمهم، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر على عدوهم، ففعلوا ففتح الله عليهم.

وفي رواية أن عمرًا استشار مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد في خُطة الفتح، فأشار عليه أن يعقد لعبادة بن الصامت ليباشر القتال، فدعا عمرو عبادة وتناول منه سنان رمحه وعقد له وولاه قتال الروم، فقاتلهم ففتح الله عليه الإسكندرية ليومه.

هذه الروايات التي أوردها ابن عبد الحكم تنتهي كلها إلى ما تنتهي إليه رواية البلاذُري من أن المسلمين هاجموا المدينة ففتحها الله عليهم، وأن ذلك كان يوم الجمعة لمستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة، وأنت تراها جميعًا خلوًا من كل تفصيل، وغاية ما أورده البلاذُري من هذا التفصيل أن عمرًا وجد أهل الإسكندرية معدين لقتاله إلا القبط، فإنهم كانوا يحبون الموادعة فأرسل المقوقس يسأل عمرًا الصلح والمهادنة إلى مدة، فأبى عمرو ذلك، فأمر المقوقس النساء أن يقمن على سور المدينة مقبلات بوجوههن إلى داخله، وأقام الرجال في السلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين ليرهبهم بذلك؛ فأرسل إليه عمرو: «إننا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد لقينا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان.» فقال المقوقس لأصحابه: قد صدق هؤلاء القوم؛ أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان فأغلظوا له القول وأبو إلا المحاربة، فقاتلهم المسلمون قتالًا شديدًا وحصروهم ثلاثة أشهر، ثم إن عمرًا فتحها بالسيف، وهذا تفصيل طريف قد يصور حيلة المقوقس أول ما حاصر عمرو الإسكندرية، وما دار بين الرجلين من سفارة إذ ذاك؛ لكنه لا يصور الموقعة الحاسمة التي انتهت بفتح الإسكندرية عَنْوَةً، ولا يصف قتال المسلمين حين اقتحموا ما يحيط بالمدينة من أسوار متينة، وحين اجتاحوا حصونها المنيعة ودخلوها ظافرين منتصرين.

وليس يسعنا إلا أن نبدي من الأسف على هذا الإغفال مثل ما أبدينا حين الكلام عن فتح كريون، فصيحات الأبطال الذين فتحوا الإسكندرية، والتحامهم بعدوهم وكيف قاومهم العدو، والأسباب التي أدت إلى ظفر الأولين وهزيمة الآخرين، وكيف استقبل شعب الإسكندرية الفاتحين، كلها أمور عظيمة الشأن، وشأنها لا يقف عندما تنطوي عليه من رائع القصص، بل تتعدى ذلك إلى أنها تجلو لنا الميول والاتجاهات الإنسانية التي كانت قائمة بنفوس الجماعات في ذلك العصر، وتهدينا إلى تبين العوامل التي كيفت ما حدث بعد ذلك من تطور في أحوال المنتصرين والمنهزمين على سواء، وترسم لنا جانبًا من صورة الإنسانية لذلك العصر على نحو يكشف عن اتجاه الضمير الإنساني في عصر بعينه، ومعرفتنا هذا الاتجاه تمكننا من أن نضع رسمًا بيانيًّا، على تعبير المهندسين والطبيعيين، لسير الإنسانية في دأبها المتصل على العصور ابتغاء الكمال.

وليس يخفف من أسفنا ما أورد المؤرخون من مواقف فردية لبعض الأبطال؛ فهذه المواقف، إن صحت الرواية في أمرها لا تصور اتجاهًا عامًّا للتفكير الإنساني في العهد الذي وقعت فيه، وإن أمكن أن تصور ناحية من نواحي الخُلق الفردي لأبطال ذلك العهد، ذكروا أن الروم بالإسكندرية قاتلوا المسلمين يومًا من الأيام قتالًا شديدًا، فلما حمي الوطيس بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه وألقاه عن فرسه، وأهوى عليه لولا أن حمى مسلمة رجل من أصحابه، وكان مسلمة على شجاعته بدينًا، فلما رأى عمرو بن العاص ما حدث غضب من مسلمة وقال: «ما بال الرجل الذي يُشبه النساء يتعرض مداخل الرجال ويتشبه بهم!» وغضب مسلمة من قول عمرو؛ لكنه كظم غضبه وأسرها في نفسه، ثم إن القتال اشتد واقتحم المسلمون حصن الإسكندرية ودخله عمرو ومسلمة فيمن دخله، وكر عليهم الروم وأخرجوهم جميعًا من الحصن إلا أربعة نفر لم يستطيعوا الخروج، فأغلق عليهم الروم باب الحصن وحبسوهم فيه، وكان عمرو ومسلمة بين هؤلاء الأربعة؛ لكن الروم لم يعرفوهما، وتكلم رومي بالعربية فقال لعمرو وأصحابه: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم، فامتنعوا عليه، فقال لهم الرومي: إن في أيدي أصحابكم رجالًا منا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا ولا نقتلكم، فأبوا عليهم، فاستأنف الرومي قائلًا: هل لكم إلى خطة نَصف بيننا وبينكم: أن يبرز منكم رجل ومنا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم؟ فرضي المسلمون الأربعة بذلك، وبرز من الروم رجل وثق أصحابه بنجدته وشدته، وأراد عمرو أن يبرز بنفسه، فمنعه مسلمة حتى لا يتعرض للقتل فيكون قتله بلاء على أصحابه جميعًا، واستأذنه في أن يبرز، قال عمرو: دونك، فربما فرجها الله بك، وبارز مسلمة الرومي فتجاولا ساعة ثم أعان الله مسلمة على الرومي فقتله، وفتح لهم الروم باب الحصن فخرجوا وقد استحيا عمرو مما كان قاله لمسلمة، فاستغفره منه فغفره له، فقال عمرو: «والله ما أفحشت إلا ثلاث مرار: مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة، وما منهن إلا وقد ندمت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك! والله إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما بقيت!»

هذه الصورة أدنى إلى الأساطير، وهي مع ذلك تصف لنا جانبًا من خلق مسلمة، وجانبًا من خلق عمرو وكلا الجانبين مضيء يجمل التأسي به، لكنها لا تزيد على هذا الوصف، فلا تصور اتجاهًا عامًّا في حياة الجماعة كان له أثره في هذا اليوم الحاسم الذي قضى على وجود الروم في مصر، ومن عجب أن تبلغ الروايات التي انتهت إلينا من الإيجاز فلا تذكر أي أبواب المدينة دخل منه المسلمون، ولا كيف اقتحموه، ولا كيف دافع الروم عنه، مع أن هذا اليوم الحاسم قد كان لا ريب من أهول الأيام في حروب ذلك العهد؛ فكان أهول من أيام القادسية الثلاثة، ومن يوم المدائن ويوم نَهَاوَنْد! وأعجب من ذلك أن يكتفي المؤرخون المسلمون من وصف هزيمة الروم بمثل هذا القول: «فلما هزم الله تبارك وتعالى الروم وفتح الإسكندرية هرب الروم في البر والبحر.»

مهما يكن من أمر هذا الإيجاز، فالمؤرخون المسلمون جميعًا متفقون على أن الإسكندرية فتحت عَنْوَةً، وأن الروم هربوا لفتحها يلتمسون من سيوف الغزاة ملجأ حيثما وجدوه، ولكن بتلر يصور هذا الفتح صورة تختلف عن ذلك كل الاختلاف، صورة التسليم على صلح، لا صورة الإذعان عن هزيمة، فهو يذكر، كما قدمنا، أن عمرو بن العاص سار بنفسه على رأس الكتائب التي ذهبت من الإسكندرية تذيع الفزع في بلاد الدلتا، وأن المطاف انتهى به إلى بابليون حين فيض النيل وبينما هو في الحصن وافاه قيرس آتيًا من الإسكندرية يحمل رسالة الإذعان والتسليم، ويقول للأمير العربي: «إن الله قد أعطاكم هذه الأرض، فلا تدخلوا بعد اليوم في حرب مع الروم.» ثم ينتهي بعد المفاوضة إلى عقد الصلح معه.

وعاد قيرس إلى الإسكندرية يحمل عهدًا عقده مع القائد العربي وأهلها لا يعلمون ما صنع، ولم يجد مشقة في حمل أمراء الجند على إقرار هذا الصلح والنزول على أحكامه، وتسامع الناس همسًا بما حدث، فثارت نفوسهم، ثم زادهم ثورة ما فجأهم من دخول فئة من العرب مدينتهم؛ يسيرون على خيلهم لا يلوون على شيء، ولا يعبثون بضجة الناس من حولهم، وبلغت منهم الثورة لصنيع قيرس أن أقبلوا إلى قصره، وأحاطوا به يريدون أن يقتلوه، ومع إحداق الخطر بحياته استطاع البطريق الشيخ ببلاغته وقوة حجته وهيبة شيخوخته، أن يسكن ثائرة الناس، وأن يقنعهم بصدق رأيه، وأن يحملهم على قبول ما صنع، بل لقد بلغ من تأثر الثائرين بأقواله أن جعلوا «يتلاومون على ما اقترفوا من الوثوب والحنق على ذلك الحبر الطاهر، في حين يسعى جهد طاقته ليحول بينهم وبين الهلاك على يد الغزاة، وأخذوا يجمعون قسط الجزية التي فُرضت عليهم وزادوا عليها مقدارًا كبيرًا من الذهب، ووضع ذلك المال في سفينة خرجت من الباب الجنوبي الذي تدخل منه الترعة، وذهب قيرس بنفسه ليحمله إلى قائد المسلمين وبذلك تم فتح الإسكندرية.»٣
هذه رواية بتلر، وهي تختلف عن تصوير المؤرخين المسلمين لفتح الإسكندرية أشد الاختلاف، وقد أورد بتلر في روايته هذه طائفة من نصوص المعاهدة التي أشار إلى أن المقوقس عقدها مع عمرو بن العاص خاصة بالإسكندرية، ولو أن هذه الرواية بقيت قائمة، لكانت جديرة أن تبعث إلى نفس القارئ شيئًا من الاضطراب إذ يوازن بينها وبين رواية المؤرخين المسلمين، فقد أبدى هذا المؤرخ العالم من النزاهة ومن الحرص على الدقة العلمية في بحوثه ما يدعو لاحترام رأيه في الوقائع التي حققها، وإن اختلف الإنسان معه في استنباطاته وفي آرائه وفي طريقة توجيهها، لكن هذه النزاهة نفسها هي التي اقتضت هذا العالم الدقيق أن يعدل عن رأيه حين ثبت له عدم صحته، وأن يسلم بأن عمرًا والمقوقس لم يعقدا غير معاهدة واحدة هي التي وضعت شروطها حين حصار حصن بابليون، ثم رفضها هرقل ونفى قيرس من أجلها، بهذا أصبحنا قادرين على أن نطمئن كل الاطمئنان إلى رواية المؤرخين المسلمين على إيجازها، وأن نسلم بأن الإسكندرية فتحت عَنْوَةً، وأن ما ربما حدث بعد هذا الفتح بين المقوقس والقائد العربي لم يتجاوز تنظيم الوسيلة لجلاء جند الروم عن العاصمة المصرية وعن بلاد مصر كلها.٤

دخل المسلمون الإسكندرية عَنْوَةً فاقتحموا أسوارها وفتحوا بابها، ففر الروم منهم إلى البر والبحر، وأذعن لهم سكان العاصمة وأسلموهم مقاليدها، فأخذ هؤلاء البدو من أهل شبه الجزيرة يجوسون خلال مدينة الإسكندر، فلا يكادون يخطون فيها خطوة بعد خطوة حتى يبلغ منهم البهر حد الذهول، لقد تولتهم الدهشة، أول مقدمهم، لحصارها، حين رأوا ضواحيها وأسوارها، وحين تبدت لهم أعاليها من وراء الأسوار محدثة عما فيها من بدائع الفن والعمارة وزخرفها، بل لقد كانت الأسوار وحدها عجبًا بمتانتها وبراعة صناعتها وما ينهض فيها من بروج وحصون، أما الآن وقد تخطوا الأسوار إلى داخل المدينة فليس ما يرونه عجبًا وكفى، بل هو بارع باهر يسحر اللب ويلعب بالفؤاد، فهذان الطريقان العظيمان، اللذان يشقان المدينة من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب فريدان لا نظير لهما في كل ما رأوا بالشام أو بالعراق، تكتنفهما على طولهما عمد من مرمر ناصع يأخذ لألاؤه النظر، ويتقاطعان في ميدان فسيح غرست فيه الحدائق الغناء فجعلته روضة من رياض الجنة، وقامت من حوله القصور المُنِيفة تحيط بها جنات من أعناب وزهر وفاكهة وكل زرع نضير، ويبلغ أحد الطريقين البحر فينكشف المرفأ للنظر، وتتجلى من حوله عجائب يحار المرء عند أيها يقف، فإذا وقف عند أحدها سحر به فلم تطاوعه نفسه إلى مجاوزته، فهذه قصور البطالسة يحدث ما بقي من جمالها وإبداعها عن عظمة في العلم والفن لا تدانيها عظمة، وهذه المقبرة الكبرى التي كانت بها جثة الإسكندر وعليها غشاء من ذهب، وهذا المُتْحَفُ تتصل به مكتباته العجيبة التي كانت مقر العلوم في العالم أجمع، وهذا إيوان عظيم تحيط به أربعة صفوف من العمد، يسميه أهل المدينة «التترابيلوس» ويذكرون أن الإسكندر الأكبر دفن به النبي أرميا، وهم لذلك يحترمونه ويجلونه، وإلى جانب ذلك المشهد تقوم الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس مرقس، البديعة البناء، وعلى مقربة منها تقوم طائفة من الكنائس تعنو لعظمتها، وهي مع ذلك بدائع في الفن تشهد بما جُبِلَ عليه أهل مصر من حب الإنفاق في بناء المعابد زلفى إلى الآلهة التي يعبدونها.

كانت كنيسة القديس مرقس تحتوي على جثمان ذلك الرسول موضوعًا أمام المحراب في تابوت من المرمر، وكانت لهذا السبب ولفخامة بنائها موضع الإكبار والتقديس من جميع الناس، على أن كنيسة «القيصريون» القائمة في الحي نفسه عند ثَنِيَّة المرفأ الأعظم كانت أعظم منها شأنًا، وكادت لذلك أن تحل محلها، ولم تكن «القيصريون» كنيسة في أول تشييدها، بل كان معبدًا وثنيًّا أقامته «كليوبترا» فوق نهد من الأرض مشرف على البحر ليراه كل قادم إلى الإسكندرية، فيرى العظمة والجلال والجمال مجتمعة، وقد شادت الملكة البارعة ابنة البطالسة الأعظمين هذا المعبد الفخم إعظامًا ليليوس قيصر، ولذلك أطلق عليه اسم «القيصريون» فلما انتحرت وآل حكم مصر إلى الرومان أتم القيصر «أغسطس» بناء المعبد وزاد فيه وجعله من العظمة بما جعل «فيلو» يقول في وصفه: «… كان معبد قيصر أثرًا لا مثيل له، وكان على ميناء فسيحة عظيمة البناء، عجيب الصناعة، عالي السمك يعده الناس علمًا من أعلام البحر؛ قد زانته أبدع الصور والتماثيل، تُقَدَّم إليه جليل الهدايا والقرابين؛ وكانت تجمله كله حلية من الذهب والفضة، فكان نموذجًا في جمال تنسيقه، وإبداع أجزائه المؤلفة من متاحف ومكاتب وقباب وساحات وأبهاء ومماشٍ وخمائل من أشجار ظاهرة، وقد وضع كل شيء في موضعه اللائق به، وأبدعت فيه يد الصناعة فأبرزته في حلة أنيقة من الرونق، بذل في سبيلها المال لم يدخر باذله ثمينًا ولا غاليًا، وكان إلى ذلك متعة لأهل الأسفار وجلاء لأعينهم إذا وقعت عليه في غدواتهم وروحاتهم.»٥

وكان في صدر «القيصريون» مسلتان أثارتا من العرب أشد العجب، فقد كانت من الجرانيت الأحمر، وكانتا مربعتين تقومان على قاعدتين كسيت إحداهما بغطاء من النحاس على شكل أربعة من الجِعْلان نُقشت عليها نقوش قديمة، وكانت هذه الجعلان تفصل بين المسلة وبين القاعدة، ثم كانت القاعدة قطعة واحدة من الجرانيت تحتها ثلاث طبقات مدرجة من الحجر، أما القاعدة الثانية فكان يفصل بينها وبين المسلة أربعة تماثيل من حجر شفاف خاله العرب زجاجًا، وكان على رأس كل من المسلتين غطاء من النحاس أو البرنز يرتكز عليه تمثال من هذا المعدن، ويمثل أحد التمثالين إلهًا لعله إله النصر، ويمثل الآخر إلهة لعلها من آلهة البحر، وكانت هذه المسلات بتماثيلها وقواعدها بارعة الجمال في دقة صناعتها، فكانت متاعًا لعين الناظر إليها من البحر إذ تمر بها السفن داخله إلى المرفأ أو خارجة منه.

كانت هذه المجموعة البديعة: من قصور ومعابد وكنائس وتماثيل وعمد ومسلات، مشرفة على البحر عند نهاية أحد الطريقين الرئيسيين للمدينة، فكان العرب إذ يبلغونها يقفون عند كل واحد منها مسحورين تولاهم البهر، وما ندري لعل بهرهم بها أول دخولهم المدينة قد أتاح للروم الذين فروا في البحر فرصة الابتعاد بالسفن عن الشاطئ.

وفي حي آخر على مقربة من الباب الجنوبي للإسكندرية، كان يقوم عمود «دقلديوناس» الذي سماه العرب من بعد «عمود السواري.» وهذا العمود لا يزال قائمًا يشهد في صمته بما كان عليه معبد السرابيوم القائم حوله من جمال وجلال وعظمة، فما من شيء يرسم أمامنا صورة منه إلا أطلال الكرنك، لولا أن الكرنك مصري كل عمارته العظمة والجلال، وأن السرابيوم قد جمع بين الفنين المصري والإغريقي، فجمع إلى الجلال المصري دقة الفن الإغريقي وزينته.

فقد شُيِّدَ هذا المعبد أول ما شُيِّدَ في عهد البطالسة قدسًا للإله «سيرابيس» ويذكرون أن بطليموس الذي شاده جاء بتمثال إله من جزيرة إغريقية، وأطلق عليه اسمًا مشتقًّا من الاسمين أوزوريس وأبيس، ليجمع حوله عبادة أهل الإسكندرية، من المصريين الأصليين، ومن اليونان الذين نزحوا إليها واستوطنوها، وشاد بطليموس قدس هذا الإله فوق ربوة يذهب بعضهم أنها ربوة طبيعية كربوة الأكروبوليس بأثينا، على حين يذهب آخرون إلى أنها من صنع الإنسان، وأيًّا ما يكن الواقع فقد كان هذا البناء قائمًا على نهد له نواة من الصخر الطبيعي، وكان مشرفًا بارتفاعه على المدينة، وكان قاصده يصل لذلك إليه عن أحد الطريقين: أولهما سلم مائة درجة، والثاني سفح ممهَّد تسير عليه العجلات.

والظاهر من روايات المؤرخين أن بناء السرابيوم كان مستطيلًا خمسمائة ذراع في مائتين وخمسين، وكان قدس سيرابيس يقوم في وسطه مشيدًا داخله وخارجه من أثمن المرمر، وقد خلع على بنائه من الروعة غاية ما بلغه فن المعمار في مصر، وفي وسط هذا القدس كان يقوم تمثال عظيم لسيرابيس من الخشب الملبس بالذهب والعاج، له ذراعان ممدودتان، تكاد كل منهما تلمس الحائط الذي يليها، وكانت تزين القدس نقوش باهرة لا سبيل إلى تقويمها، وقد أحيط القدس بصف من العمد توازي العمد التي كانت تحيط بالفناء كله في أربعة صفوف متوازية، ولقد هدم المسيحيون هذا القدس الوثني قبل دخول العرب، فلم تصدهم عنه روعة عمارته، ولم تحملهم على الاكتفاء بإخراج التمثال الوثني منه والإبقاء على بنائه البارع البديع.

ولم يكن بناء السرابيوم فيما حول قدس سيرابيس دون هذا القدس جلالًا، قال «أميانيوس» في وصفه: «إن الوصف ليعجز عن تصوير صورة حقيقية له، فقد كانت أبهاؤه ذات العماد، وتماثيله التي كأنها من الأحياء، وما كان به غير ذلك من آثار الفن، كل ذلك كان يميزه ويخلع عليه بهاء يجعله فذًّا في العالم، فلا شيء مما فيه يزيد عليه جمالًا اللهم إلا بناء الكابتول، ذلك الفخر الخالد الذي تفخر به رومية العظيمة.»

وكان في بناء السرابيوم حجرات عظيمة شغلت بعضها مكتبة الإسكندرية وشغلت بعضها مشاهد لآلهة مصر القديمة، وكان فيه مسلتان قديمتان وحوض ماء عظيم من المرمر الفائق الجمال، وقد اتخذ المسيحيون بعض مبانيه كنائس بقي بعضها قائمًا إلى ما بعد الفتح العربي، وكان يلاصق مدخله بناء له قبة مذهبة عالية قائمة على دائرة مزدوجة من الأعمدة، وقد بقي هذا البناء، كما بقي كثير من عمد السرابيوم قائمًا إلى زمن طويل بعد الفتح، وكان بعض المؤرخين يذكرون هذا البناء، ويطلقون عليه اسم «مدرسة أرسطو» و«قبة أرسطو» و«بيت الحكمة».

وعلى مقربة من السرابيوم أقيم ميدان لسباق الخيل، قيل إنه كان يتسع لألف من النظارة، وإن بناءه كان يتيح لهذا العدد العظيم أن يروا ويسمعوا ما يجري فيه من غير مشقة، أما دار التمثيل فكانت في حي آخر استقلت فيه ببناء عظيم تلفت عظمته النظر ويسحر جماله الفؤاد.

أخذ الفاتحون بهذا العمران الذي تجلى لهم أول ما دخلوا المدينة وجاسوا خلالها، لكنهم لم يلبثوا أن بلغت منهم الدهشة حين رأوا أسفل هذه المباني الرائعة مباني أخرى تحت أرض المدينة، ثم رأوا هذه المباني السفلى طبقات بعضها دون بعض، أربع طبقات أو خمسًا، وفي كل طبقة منها عدد عظيم من العمد ومن الحجرات التي كانت تستعمل صهاريج لخزن المياه، وقد كانت المياه تجري إليها في أثناء فيض النيل في قنوات تصلها بالترعة الحلوة، فإذا امتلأت شرب الناس منها طول العام.

أخذ العرب وتولاهم البهر لما رأوا من ذلك كله، على أن ذلك كله لم يُثِرْ من دهشتهم وعجبهم وإعجابهم ما أثارته المنارة الكبرى، كان ذلك البناء العظيم العجيب، قائمًا في الشمال الشرقي من جزيرة فاروس المتصلة بالمدينة بطريق طويل، قائم على عقود متينة،٦ وقد أقام بطليموس الثاني هذه المنارة التي كانت عجيبة من عجائب الدنيا السبع لهداية السفن، فشادها من أحجار بيضاء تلمع نهارًا في ضوء الشمس فإذا جن الليل أضيئت ليراها راكب البحر، فكانت بذلك هادي السفن إلى المدينة اليوم كله.

وقد شاد بطليموس المنارة على صخر في البحر، وبناها من صخور متينة منحوتة صب بينها الرصاص حتى لا يتسرب ماء البحر إلى أي جزء من أجزائها، وكان ارتفاعها ثلاثمائة ذراع قسمت إلى طبقات أربع: أولاها مما يلي الأرض مربعة، والثانية التي تعلوها مثمنة، والثالثة مستديرة، والرابعة مكشوفة بها مواضع للنار التي تهدي السفن، ومرآة طال حديث الكتاب والمؤرخين عنها، وكان في كل طبقة طُنُفٌ يشرف على المدينة، ويصل بين الطبقات سلم صاعد خلال المنارة من أسفلها إلى أعلاها، تضيئه نوافذ فتحت في مواضع مختلفة من البناء على نحو هندسي دقيق.

وكان بالمنارة غرف كثيرة متداخلة، أثار عددها وتداخلها عجب العرب، حتى لقد قال المقريزي: «ويقال: إن كل من دخل هذه المنارة اختبل وضل الطريق مما بها من الغرف العدة والطبقات والمماشي.» فأما المرآة التي كانت في أعلاها فكانت أعجوبة الأعاجيب، ولذلك كثرت الأقاويل في معدنها وفي الغرض من وضعها وفي مبلغ قوتها، ويقول المسعودي: «إنها مرآة عظيمة من الحجر الشفاف: يمكن أن ترى فيها السفن الآتية من بلاد الروم وهي بعيدة عن مدى البصر.» ويقول آخر: «إنها من زجاج محكم الصنعة.» ويقول ثالث: «إنها من الحديد الصيني.» ويقول السيوطي: «إن عرضها كان سبع أذرع؛ وإنها كانت تظهر السفن الآتية من بلاد أوروبا، وكانت تستعمل لإحراق سفن العدو، فكان الموكلون بها يديرونها نحو الشمس وهي مائلة للغروب فتنعكس عليها الأشعة وتحرق سفن العدو، والإجماع على أنها تظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر.» ويذهب بعضهم إلى أن الإنسان كان يرى فيها كل شيء إلى القسطنطينية.

وكانت المنارة سليمة حين الفتح العربي، وكذلك كانت المرآة لكنهما لم تدوما بعد الفتح طويلًا، والمؤرخون يختلفون فيما بينهم: هل جاهد العرب بعد هدمها لإعادة بنائها، ولا غناء في تحقيق خلافهم، والذين يذهبون منهم إلى أن المسلمين حاولوا إعادتها متفقون فيما بينهم على أنهم لم ينجحوا في هذه المحاولة.٧

لا حاجة بي إلى أن أذكر ما تركته عمارة الإسكندرية، وما امتازت به من جمال وجلال، من الأثر العميق في نفوس العرب الذين فتحوها، وحسبك، لتدرك عمق هذا الأثر، أن تتلو عبارة عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب في هذا الفتح إذ يقول: «أما بعد فإني فتحت مدينة لا أصف فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنيةٍ بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.» فهذا الإيجاز من رجل اشتهر بالإطناب ودقة التصوير في الوصف حجة على أن عمرًا رأى كل وصف يقصر عن تصوير ما رآه بالإسكندرية على حقيقته، بل لقد بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج رسولًا إلى عمر ينبئه بالفتح، فسأله معاوية: «ألا تكتب معي كتابًا؟» فكان جواب ابن العاص: «وما أصنع بالكتاب؟ ألست رجلًا عربيًّا تبلغ الرسالة وما رأيته وما حضرت؟!» وقد كان هذا جوابه وهو يعرف حرص عمر على أن يقف على الدقيق والجليل من كل شيء، وأن يقف عليه مفصلًا أوفى تفصيل.

كان للإسكندرية أثر عميق في نفوس الذين فتحوها، ثم كان لها أعمق الأثر في نفوس المؤرخين الذين أثبتوا بعد قرنين حديث أولئك الفاتحين، فأنت ترى في رواياتهم مبالغات عجيبة لا يفسرها إلا دهشة رواتها دهشة جعلتهم يصدقون كل ما يسمعون، يقول ابن عبد الحكم في رواية مسندة: «وكان بالإسكندرية فيما أُحصي من الحمامات اثنا عشر ديماس، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.» ويقول: «لما فتحت الإسكندرية وجد بها اثنا عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.» ويذكر السيوطي أن أهل الإسكندرية جميعًا كانوا يلبسون الثياب السود والحمر؛ لأن أرضها وبناءها من المرمر الأبيض، وكان تألق الرخام سببًا في اتخاذ الرهبان السواد في لباسهم، وكان من المؤلم أن يسير الإنسان في المدينة بالليل فإن ضوء القمر إذا وقع فيها على الرخام الأبيض جعلها تضيء، حتى كان الحائك يستطيع أن يضع الخيط في الإبرة بغير أن يستضيء بمصباح؛ وما كان يستطيع أحد أن يدخل المدينة إلا إذا اتخذ غطاء لعينيه يقيه بريق الطلاء والمرمر، ويقول المسعودي في وصف السرابيوم: «وكان في ذلك القصر مائة عمود، وفي صدره عمود عظيم لم يُرَ مثله في الحجم وله قمة كالتاج … وكان ذلك العمود يهتز عند هبوب الريح عليه.» ويقول السيوطي: «إنه قد بنى الجان لسليمان في الإسكندرية إيوانًا للاجتماع، به ثلاثمائة عمود علو كل منها ثلاثون ذراعًا.» وكانت من المرمر المجزع، بلغ من صقله أن صار كالمرآة يرى الإنسان فيه من يسير خلفه، وكان في وسط الإيوان عمود علوة مائة ذراع وإحدى عشرة ذراعًا، وكان سقفه قطعة واحدة من المرمر الأخضر نحته الجن، وكان هؤلاء الجان على صورة الإنسان لهم رءوس كالقباب وعيون تمزق الأسد. هذه الروايات وما ورد من مثلها، وهو كثير، تشهد كلها بأن عاصمة مصر تركت في نفس الفاتحين أثرًا لم يحسوا مثله في جميع أنحاء البلاد التي فتحوها فصاروا يذكرون ما شهدوا ويضيفون إليه ما سمعوا عنه من أحاديث صحيحة أو ملفقة لا يثبت الكثير منها للنقد.

وقع هذا الأثر في نفوس الفاتحين أول ما دخلوا الإسكندرية، ثم إنهم لم يلبثوا فيها إلا قليلًا حتى رأوا حياة أهلها عجبًا زادهم دهشة وإعجابًا، فهذه الأجناس المختلفة التي تسكنها، وهذه الأديان والمذاهب المتباينة التي تتجاور فيها وهذه اللغات واللهجات العدة التي يتكلمها أهلها؛ هذا كله تجتمع فيه صورة مليئة بالحياة لا يماثلها شيء مما كانوا يتخيلونه عن برج بابل، مع ذلك لم يكن اختلاف الأجناس، ولا تباين الأديان والمذاهب، ولا تعدد اللغات واللهجات ليجني في قليل ولا كثير على طمأنينة أهل العاصمة للعيش وسكينتهم للحياة، فقد غرق سادتها في ألوان من الترف والنعيم أنستهم كل خلاف بينهم، وأنستهم كل ما سوى المتاع بهذا الترف بلغ من تعدد فنونه وألوانه ما وقف العرب حيارى لا يكادون يصدقون ما يرون وما يسمعون!

فلم تَكَدِ المدينة تستعيد طمأنينتها بعد انتهاء حصارها حتى عادت سيرتها الأولى، تستمتع بصنوف اللهو، وتستمرئ المتاع بشتى ألوانه؛ فهذه مجالس العلم تعقد يتحدث حضورها في الفلسفة وفي الرياضة وفي الطب وفي الفن وفي غير ذلك من متع العقل وترفه وهم يعنون في منطقهم وفي نظام حديثهم بالافتتان في هذا الترف، حتى ليظنهم شاهد مجلسهم كأن الحياة كلها للعقل وما أبدع من علم وفن، وهذه دور اللهو فيها الراقصات البارعات، والمغنيات المشجيات، وفيها من التمثيل والموسيقى وألوان الفن الجميل كله ما لم تره من قبل أعينهم، ولم تسمعه آذانهم، ولم يخطر على قلوبهم، وهذه دور الصناعة تعج عجيجًا شديدًا، ويشمر الصناع فيها عن سواعدهم، فهي تنتج من كل شيء ما لا مثيل لإتقانه في غير الإسكندرية، وهذه متاجر المدينة في أحيائها التي لم تصبها الحرب بالكساد يتعامل الناس فيها مغتبطين بما يجيء إلى عاصمة وادي النيل من ثمرات مصر المختلفة في الزراعة والصناعة، وبما ينتقل إليها من النوبة ومن الشرق الأقصى ومن الشام ومن بلاد أوروبا المختلفة، وهؤلاء سراة الإسكندرية، في ثيابهم الجميلة بشتى ألوانها يذهبون إلى دور اللهو وإلى المتاجر وإلى دور العلم وإلى مسارح التمثيل، فإذا أووا إلى قصورهم زادهم المتاع فيها حبًّا للحياة وحرصًا على أنعمها، أي شيء هذا كله! إلا أنه إلى الخيال أقرب منه إلى الحقيقة! وهو مع ذلك حقيقة ملموسة تقع عليها حواس الفاتحين، فهم منها في عجب بالغ يذرهم وليس لهم إلى حديث في غيرها سبيل.

ولم يكن أمراء الجند أقل من الجند عجبًا وإعجابًا، وقد رأيت أثر هذا الإعجاب والعجب في كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة، إذ أعجزه الجلال عن وصف ما رأى، فلم يذكر إلا «أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.» وهذا العجز هو الذي جعله يبعث معاوية بن حديج إلى المدينة ولا يبعث معه كتابًا، بل يقول له: «وما أصنع بالكتاب! ألست امرأ عربيًّا تبلغ الرسالة وما رأيت وما حضرت!»

ولقد سار معاوية أيامًا ثم بلغ المدينة في الظهيرة، فأناخ راحلته بباب المسجد ودخله وجلس قريبًا من بابه، وخرجت جارية من دار عمر بن الخطاب فرأته شاحبًا عليه ثياب السفر، وعرفت منه أنه رسول عمرو بن العاص، فدخلت مسرعة إلى الدار ثم رجعت إليه مسرعة وقالت: قم فأجب! أمير المؤمنين يدعوك. ودخل معاوية الدار يتبعها، وأجاب عمر حين سأله: ما عندك؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج عمر من فوره إلى المسجد ومعه معاوية وأمر المؤذن أن يؤذن في الناس أن الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس قال عمر لمعاوية: قم فأخبر أصحابك، فلما أخبرهم قام عمر فصلى شكرًا لله، ثم دخل منزله واستقبل القبلة ودعا بدعوات، ثم أمر الجارية فجاءت الرسول الذي حمل النبأ بفتح الإسكندرية بطعام خبز وزيت، وأكل معاوية على حياء، ثم أتته بطبق من تمر، فأكل على حياء كذلك، فلما فرغ من طعامه سأله عمر: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ وأجاب معاوية: قلت إن أمير المؤمنين قائلٌ، فأردف عمر: بئسما ظننت! لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!

وبينما كان معاوية في طريقه إلى المدينة كان الروم قد بدءوا يجلون عن الإسكندرية من طريق البر ومن طريق البحر، وقد سبق أن قلنا: لعله قد تم بين عمرو والمقوقس اتفاق بعد فتح الإسكندرية لم يتجاوز تنظيم الجلاء لجنود الروم عن عاصمة مصر وعن مصر كلها، يقول البلاذُري: «ويقال إن المقوقس صالح عمرًا على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج وأن يقيم بها من أحب المقام، وعلى أن يفرض على كل حالم من القبط دينارين، فكتب لهم بذلك كتابًا.» وقد استنبط بتلر من رواية حنا النقيوسي أن المقوقس وعمرًا اتفقا بعد فتح الإسكندرية على هدنة أحد عشر شهرًا، يبقى العرب في أثنائها في أماكنهم، وترحل مسلحة الإسكندرية من الروم في أثنائها في البحر ومع جنودها أموالهم ومتاعهم، فمن أراد الرحيل منهم في البر دفع جزية كل شهر حتى يبلغ أرض قيصر، وقد أضاف بتلر إلى ما ذكره من ذلك شروطًا تتصل بالصلح الذي كان قد تم ببابليون بين القائد العربي والبطريق الرومي، وجلي أن هذه الشروط كانت واردة بالمعاهدة التي وضع مشروعها حين كان العرب يحاصرون حصن بابليون، وهي المعاهدة التي رفض هرقل إقرارها، أما بعد فتح الإسكندرية عَنْوَةً فقد اقتصر الأمر على تنظيم جلاء الروم عن الإسكندرية وعن غيرها من بلاد مصر.

والراجح أن ما ذكره بتلر عن الهدنة صحيح، وإن كان تحديد مدتها بأحد عشر شهرًا موضع خلاف، فبعضهم يرى أنها لم تزد على الزمن الذي قدره عمرو بن العاص كافيًا لرد الخليفة على شروط الهدنة والجلاء، وهو زمن لا يتجاوز الشهرين، ولعل هذا القول أدنى إلى الصحة، فما كان مجيء السفن إلى الإسكندرية لنقل جند الروم منها ليستغرق أكثر من ذلك.

لم يغادر المقوقس الإسكندرية مع الروم الذين جلوا عنها، بل ظل مقيمًا بقصره فيها حتى مات بها ودفن في مقابرها، وهو لم يفكر في مغادرتها؛ لأنه كان يعلم أنه يخاطر بحريته، بل بحياته، إذا نزل بزنطية، وأن مصيره إن فعل سيكون النفي أو الموت لا محالة، فقد بقي هذا البطريق الشيخ في المنفى الذي بعث به هرقل إليه حتى دعاه قسطنطين ومرتينا وابنها بعد موت هرقل، ثم إنه جاء إلى الإسكندرية على وفاق مع مرتينا، وبقي بها حتى فتحها العرب فهادنهم، وفي هذه الأثناء كان الروم قد بلغت ثورتهم بمرتينا وابنها بعد مقتل قسطنطين أن نحي الشاب وأمه عن الحكم أو قتلا، وانفرد كنستانس بن قسطنطين بالعرش، وكانت صلة المقوقس بمرتينا غير خافية على أحد من أهل القسطنطينية، فلو أنه ذهب إليها لما كان عجبًا أن يصيبه ما أصاب الإمبراطورة حليفته؛ لذلك آثر البقاء بمصر مقتنعًا بأن الفاتح العربي سيُبقي له من النفوذ ما تطمئن إليه شيخوخته المحطمة.٨

كان كثيرون من المصريين والروم الذين لاذوا بالإسكندرية بعد سقوط حصن بابليون يرجون أن يرجعوا إلى قراهم بعد أن سقطت الإسكندرية، فطلبوا إلى المقوقس أن يخاطب عمرًا في الأمر، لكن عمرًا أبى عليه ما طلب؛ لأن بعض البلاد الحصينة كانت لا تزال تُقاوم، فمن الخطر أن ينضم إليها قوم ربما عاونوها على المقاومة، ورأى المقوقس في إباء عمرو نذيرًا بزوال سلطانه، فاعتراه من الهم ما عجل به إلى الموت، أفمات ندمًا على تسليم الإسكندرية للمسلمين، كما يقول حنا النقيوسي؟ أم خشي أن يقتله عمرو، فلما بلغ منه الخوف جعل في فمه خاتمًا مسمومًا فمات من ساعته، كما يقول ساويرس؟ أم إنها الشيخوخة انتهت به إلى موت طبيعي؟ يثبت بتلر أنه أصيب بالدوسنتاريا، وأنه مات منها موتًا طبيعيًّا فدفن بالإسكندرية في الحادي والعشرين من شهر مارس سنة ٦٤٢.

مات قيرس، وجلا الروم عن عاصمة مصر، فتولى المسلمون أمرها، وأخذوا يدبرون شئونها، بذلك دالت دولة الروم فيها وزال سلطانهم عنها، وإن بقيت لهم بها حاميات محصورة في بعض الأرجاء، وما عسى أن تغني هذه الحاميات عن دولة دالت وسلطان تقلص! لذلك كان سقوط الإسكندرية في يد عمرو بن العاص إيذانًا من الله بأن مصر كلها آلت إلى المسلمين، وأنه ألقى عليهم إصلاح ما فسد من شئونها، وتعمير ما أصابه الخراب منها، لكنهم لم يكونوا ليفعلوا حتى يطهروا الأرض كلها من الروم، وحتى يبعثوا إلى نفوس القبط الطمأنينة والأمن؛ ليستقر الأمن في البلاد كلها، فلا تحدث الروم أنفسهم بالعود إليها، فإن فعلوا ردوا على أعقابهم، وذاقوا وبال أمرهم.

ذلك ما حدث، وسيرى القارئ من بعد كيف حدث.

هوامش

(١) يذهب بتلر إلى أن القائد الرومي الذي استدعاه قسطنطين من مصر ليشير عليه حين استدعى قيرس من منفاه إنما هو تيودور قائد الجند العام، ويذكر أن مرتينا أرادت أن تجعل تيودور على رأس الجند الذاهب في الأسطول الذي أقل قيرس إلى مصر، وذلك لما كانت تعرفه من حب الجيش له، ولأنها خشيت أن ينضم إلى خصومها إذا بقي بالقسطنطينية، وهو يزعم بعد ذلك أن تيودور رأى ما يغمر جو البلاط من دسائس اضطرت مرتينا بسببها أن تغادر عاصمة الإمبراطورية إلى رودس، ورأى خصوم مرتينا يأتمرون بها ويعملون على التخلص منها، فآثر الذهاب إلى قرطاجنة إثارًا للعافية أو تربصًا للحوادث أن تتيح له فرصة كالتي أتاحتها لهرقل من قبل، فإذا بدت هذه الفرصة لتيودور ذهب بجيشه إلى القسطنطينية وخلع الثالوث الضعيف عن عرشها واستأثر به لنفسه، متأسيًا بهرقل حين أسر فوكاس وخلعه وقتله. وأسر تيودور ذلك في نفسه وأظهر الإذعان لأمر مرتينا، واستقل الأسطول مع قيرس وجند الروم إلى مصر. فلما كان ذات ليلة أسر إلى ربان السفينة التي هو فيها أن يتجه به غربًا صوب قرطاجنة. وتظاهر الربان بالنزول على أمره، ثم زعم أن الريح تصد بالسفينة عن الاتجاه إلى الغرب وألفى تيودور نفسه ينزل الإسكندرية مع قيرس، وألفى الناس بها يستقبلون البطريق الشيخ استقبال البطل الفاتح. ويستند بتلر في رأية هذا إلى عبارة وردت في كتاب حنا النقيوسي. لكنه يذكر أنه تصرف في هذه العبارة بعض التصرف. فعبارة حنا أن الإمبراطور: «أرسل إلى أنستاسيوس ليأتي إليه ويترك تيودور على حراسة الإسكندرية ومدائن الساحل.»
وقد أبدل بتلر اسم أنستاسيوس باسم تيودور. وهذا هو التصرف الذي يشير إليه. وذلك؛ لأن تيودور كان القائد العام ولأن حنا نفسه ذكر أن أنستاسيوس كان حاكم الإسكندرية قبل عودة قيرس إليها، كما ذكر أن تيودور كان مع قيرس في رودس وأنه عاد معه من هناك إلى الإسكندرية. ولا شبهه عندنا في أن بتلر قد أخطأ في مخالفة حنا النقيوسي، وفي القول أن قسطنطين دعا تيودور ولم يدعُ أنستاسيوس. والتواريخ التي اعتمدها بتلر أقوى شاهد على خطئه. فقد ذكر أن المسلمين قد ساروا من بابليون يريدون الإسكندرية في شهر مايو سنة ٦٤١، وأنهم بلغوها وحاصروها في شهر يونيو بعد أن التحموا بالروم في عدة مواقع مفصلة في صلب هذا الكتاب. وبتلر نفسه يسلم بأن تيودور كان قائد الروم في بعض هذه الحملات، ويذكر ذلك صراحة، فإذا كان قسطنطين قد دعا تيودور إلى القسطنطينية ولقيه بها فلا بد أن ذلك كان قبل شهر مايو؛ لأن قسطنطين مات في الشهر المذكور. وفي هذا الشهر وفي شهر يونيو كان تيودور يتولى قيادة الجند في قتال العرب بنفسه ومن المستحيل أن يجتمع هذان الأمران في وقت واحد. أما استناد بتلر إلى أن تيودور عاد مع قيرس إلى الإسكندرية فلا يغير شيئًا مما سبق. فهو إن صح لا يدل على شيء إلا على أن تيودور ذهب إلى رودس في أثناء حصار الإسكندرية، ثم عاد منها مع قيرس، وأنه أسند القيادة في أثناء غيابه إلى أنستاسيوس الذي أسرع بالعودة إلى مصر بعد موت قسطنطين. ويلاحظ مع هذا أن التواريخ التي اعتمدها بتلر بعد تمحيص وبحث جديرة بإعادة النظر فيها. ولا أسوق إلا دليلًا واحدًا من أدلة كثيرة تؤيد ذلك. فقد ذهب بتلر إلى أن هرقل مات والعرب لا يزالون يحاصرون بابليون وقبل أن يسيروا إلى الإسكندرية بأشهر، على حين يكاد يجمع مؤرخو المسلمين على أن هرقل مات بعد خمسة أشهر من حصار الإسكندرية، ثم يوافق كثيرون من المؤرخين الأوروبيين قول المؤرخين المسلمين ويقرونه. فمن حقنا والحالة هذه أن نأخذ بالحيطة، وأن ندع مواضع الشبهة في تواريخ ذلك العهد المليء بالتناقض والاضطراب.
(٢) فتح العرب لمصر؛ الترجمة العربية: ص٢٤٨.
(٣) بتلر؛ الترجمة العربية: ص٢٨٨.
(٤) الملحق السابع في الترجمة العربية لكتاب بتلر: ص٤٩٨.
(٥) نقله بتلر: ص٣٢٣ من الترجمة العربية.
(٦) كانوا يطلقون على هذا الطريق اسم الهبتاستاديوم.
(٧) يذكرون في سبب تخريبها أنها أعانت المسلمين على صد غارات الروم من البحر، إذ حمتهم من المباغتة، فتحايل الروم على تخريبها بأن بعثوا رجلًا من خواص ملكهم إلى الوليد بن عبد الملك يحمل الهدايا النفيسة. وقد تظاهر الرجل بأن ملكه حاقد عليه يريد قتله، وأنه يريد أن يسلم ويبقى بالشام. ورحب به الوليد وأدناه. ثم إن الرجل دل الوليد على دفائن استخرجت من بلاد الشام، فاغتبط الوليد بها لعظم قيمتها. وزعم الرجل بعد ذلك أن منارة الإسكندرية تحتها كنوز عظيمة من الذهب والجوهر فشرهت نفس الوليد لهذه الكنوز، وبعث جماعة من جنده فهدموا نصف المنارة وأزالوا المرآة قبل أن يفطن أحد إلى المكيدة. ولم يجد المنقبون كنوزًا تحت ما هدموا. فعرفوا أنهم خُدعوا فبنوا بناء من الآجر، ولكنهم لم يستطيعوا الارتفاع به إلى مثل ارتفاع المنارة الأولى. فلما وضعوا المرآة فوقه لم تفد شيئًا.
(٨) لا يشير المؤرخون المسلمون إلى سفر قيرس إلى القسطنطينية ولا إلى خبر نفيه، بل يذكرون أن هرقل كتب إليه يقبح رأيه ويعجزه ويرد عليه ما فعل، ويأمره أن يناهض العرب القتال وألا يكون له رأي غير ذلك، وأنه بعث الجيوش فأغلقوا باب الإسكندرية وآذنوا المسلمين بالحرب، فخرج المقوقس إلى عمرو فقال له: أسألك ثلاثًا. قال عمرو: ما هي؟ قال: لا تبذل للروم ما بذلت لي فإني قد نصحت لهم واستغشوا نصيحتي؛ ولا تنقض بالقبط فإن النقض لم يأتِ من قبلهم، وأن تأمر إذا مت فأدفن في كنيسة أبي يحنس. فقال عمرو: هذه أهونهن علينا. أما غير المسلمين من المؤرخين فقد ذكروا سفر المقوقس ونفيه ثم عودته إلى مصر وفصلوا ذلك على نحو لا يدع مجالًا للشك فيه بل يدعو لإثباته والقطع بصحته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤