الفصل الحادي والعشرون

مصر في يد المسلمين

كان فتح الإسكندرية إيذانًا بأن بلاد مصر آلت كلها إلى المسلمين؛ فقد استولى خارجة بن حذافة على بلاد الصعيد إلى حدود طيبة، فلم يبقَ من الروم إلا عدد قليل لم يغامر بعد فتح العاصمة بقتال، ولم ينازع الفاتحين السلطان، وما كان هؤلاء الروم ليغامروا، وهم يعلمون ما يضمره القبط لهم من كراهية، بسبب ما أصابهم في أرزاقهم وفي دينهم من اضطهاد، وقد بلغ من أمر هذه الكراهية أن كان القبط إذا رأوا روميًّا منفردًا قتلوه، ثم لا يعرف أحد من قتله، ولم يكن ذلك حبًّا من القبط للغزاة أو ترحيبًا بمقدمهم؛ فقد كان أهل الصعيد بعيدين عن سلطان المسلمين في تلك الأيام الأولى من عهد الفتح، ولم تكن في نفوسهم حفيظة عليهم، بل كانت كل حفيظتهم على الروم الذين أذاقوهم النكال قرونًا متطاولة.

وقد استولت الكتائب التي سارت في بلاد الدلتا على أكثر قراها، ونشرت سلطانها في أرجائها؛ فلم تقاوم تلك الكتائب إلا البلاد المحصنة، ثم إن هذه البلاد بقيت محصورة لا تستطيع أن تقهر الغزاة وإن استطاعت أن تدفع عن نفسها، فلما فتح عمرو الإسكندرية فتح الكثير من هذه البلاد أبوابها؛ لأنها أيقنت أن العرب سيضيقون الخناق عليها فلن تطول مقاومتها، أما البلاد القريبة من ساحل البحر الأبيض فظلت على مقاومتها، ولم تدخل فيما دخل الناس فيه من عهد.

وقد يرجع ذلك أن هذه البلاد كانت بها مسالح من الروم، ظن جندها أن مصيرهم إلى الهلاك إن سلموا أو قاموا، فدفعتهم فطرة المحافظة على النفس إلى المقاومة، وقد يرجع كذلك إلى أن المصريين من أهل هذه البلاد ترامت إليها عن قسوة المسلمين أنباء حملتهم على التحصن والمقاومة، فلا شك في أن دعاية الروم كانت تذيع، بكل ما عرف من وسائل الإذاعة لذلك العهد، أن المسلمين يسيئون معاملة القبط ويرهقونهم ويأخذون أرزاقهم غصبًا، وأنهم يكرهون الناس على إنكار مسيحيتهم ليتخذوا الإسلام دينًا، وإنك لتجد من هذه الأنباء، فيما نقله بتلر عن حنا النقيوسي، ما لعله يفسر مقاومة بلاد لا أمل لها في نجاح مقاومتها، ومع ذلك قاومت حين شاع بينها ما أذاعه الروم عن الغزاة المسلمين مما روع أهلها وحملهم على الاستماتة في القتال.

ويذكر المؤرخون أسماء بعض المدن التي قاومت، ومنها «إخنا» على مقربة من الإسكندرية، و«بلهيب» في جنوب رشيد، والبرلس ودمياط وتنيس، ويروون حوادث وقعت بين الغزاة وأصحاب هذه البلاد لبعضها دلالة خاصة، فقد أراد «طلما» صاحب إخنا مصالحة عمرو، فلم يعجب عمرًا كلامه، وأمر رجاله فساروا إلى إخنا وأخذوا منها أسرى مع أنها سلمت من غير مقاومة؛ ولذا رد عمرو أسراها الذين أرسلوا إلى المدينة، وجعلهم أهل ذمة، وحدث ببلهيب مثلما حدث بإخنا، ويقال إن عمرًا تسلم وهو عند بلهيب كتابًا من الخليفة يطلب إليه أن يخير الأسرى، فمن دخل الإسلام كان للمسلمين أخًا، وسمع الأسرى بذلك، فأسلم كثيرون، فجعل المسلمون يكبرون لإسلام كل واحد منهم، وسار العرب من البرلس إلى دمياط فاستولوا عليها، وأصبحت لهم بذلك شواطئ البحر من العريش إلى الإسكندرية، مع ذلك لم تُسلم تنيس ولم تفتح أبوابها للمسلمين، بل وقفت في وجوههم وناجزتهم القتال في مواطن كثيرة، وظلت كذلك حتى فُتحت عَنْوَة وغنم المسلمون أموالها وقسموها، وترجع مقاومتها إلى أنها كانت مدينة صناعية عظيمة كثيرة السكان، ثم كانت لها إلى ذلك مكانة ذاتية خاصة، وكانت ذات أسوار حصينة فيها تسعة عشر بابًا مصفحة بالحديد الثقيل، وكان بها اثنتان وسبعون كنيسة، وستة وثلاثون حمامًا، ويذكر المقريزي أن تنيس ظلت على مقاومتها زمنًا، فلما أبطأ فتحها خرج حاكم مدينة قريبة من دمياط اسمه شطا بن الهاموك، وكان قد أسلم، فجمع جيشًا من البرلس ودميرة وأشمون طناح، وجهزه ولحق بالمسلمين وحارب معهم عدوهم، وأحسن البلاء في ذلك اليوم الذي فُتحت فيه تنيس أبوابها، والذي قتل هو فيه، فأطلق اسمه على الموضع الذي خرج منه في شرق دمياط.

وكذلك تحطمت مقاومة الروم والمصريين الذين مالئوهم أو الذين طمعوا في الاستفادة من هذه الحروب لاستقلال بلادهم، وأصبح الأمر في مصر خالصًا للمسلمين من شواطئ بحر الروم إلى بلاد النوبة.

وكان لعمرو أن يستريح بعد ذلك، وألا يتجاوز مصر إلى ما بعدها، لكنه قدر أن للروم قوات ببرقة وطرابلس قد تغريهم بالتحصن هناك، والتربص حتى تحين فرصة الثأر والرجعة إلى مصر؛ لذلك خرج في قواته، بعد أن اطمأن إلى استقرار الأمر في مصر، فسار من الإسكندرية إلى برقة، ولم يكن الطريق بينهما صحراويًّا مهملًا مثلما هو اليوم، بل كان يجري في أرض خصبة، تحيط به من الجانبين زروع وفاكهة وكروم وعمران متصل؛ لذلك كانت مسيرة الفرسان المسلمين فيه نزهه ممتعة أدت إلى برقة، فلم يجدوا فيها مقاومة تُذكر، والراجح أنها سلمت صلحًا بعد مقاومة ضعيفة ورضيت أداء الجزية ثلاثة عشر ألف دينار كل عام.

وبرقة إقليم من طرابلس، سُمي باسم مدينة كانت تقام حيث تقوم اليوم بني غازي، قال ابن دقماق: إن هذا الإقليم كانت به مدن كثيرة عامرة ذات أنهار وأشجار، وإنه كان كثير الناس والضياع، ويزرع به الزعفران، وقد روى أن التجار كانوا يكثرون التردد على برقة مشرِّقين ومغرِّبين؛ لأنه كان يلج إليها من الشرق ومن الغرب صنوف من التجارة ليس في كثير من بلاد المغرب مثلها؛ لذلك لم يكن عجبًا ألا يدخلها جباة المسلمين بعد صلحها يقتضون جزيتها؛ إذ كانت تبعث بالجزية إلى عمرو بمصر مع جماعة من أهلها، ومن عجيب ما يروى عن صلحها أن أهلها أبيح لهم أن يبيعوا أبناءهم لأداء الجزية، ولا تفسير لهذه الإباحة إلا أن بيع الأبناء في أداء الدين كان جائزًا عندهم، فلم يحرمه المسلمون إلا على من أسلم،١ وأكبر الظن أن أبناءها كانوا غير راضين عن هذا النظام بدليل ما ذكره ياقوت من أن أكثر الناس في برقة أسلموا.

وسار عمرو من برقة إلى طرابلس، وكانت مرفأ حصينًا به مسلحة من الروم تحميه وتجد حوله من الخصب ميرة تختزنها في قلاعه، فلما رأوا مقدم المسلمين أقفلوا أبوابه وثبتوا للحصار الذي ضربه العدو عليهم، وانتظروا مجيء مدد من البحر يُعينهم في موقفهم، وانقضت أسابيع لم يجئ المدد خلالها، وعرف العرب في أثنائها أن المدينة غير محصنة من جانب البحر، فانسل جماعة منهم من تلك الناحية وصاحوا مكبرين، فلم يسع الروم إلا الفرار إلى السفن تاركين المدينة يفتح الحراس أبوابها فيدخلها عمرو على رأس جيشه.

وسارت كتائب أذاعت الرعب في قلوب أهل الإقليم، فلم يسع الناس في كل أرجائه إلا التسليم، وكتب عمرو إلى أمير المؤمنين يستأذنه في السير إلى تونس وما وراءها من شمال إفريقية فلم يأذن له، فعاد إلى برقة حيث أقبلت إليه أكبر قبائل البربر فدانت له بالطاعة،٢ فلما اطمأن إلى زوال ملك الروم من تلك البلاد كلها قفل راجعًا إلى الإسكندرية بالأسرى والغنائم.

وأراد عمرو أن يؤمِّن حدود مصر من الجنوب كما أمن حدودها من الغرب، فبعث عقبة بن نافع الفهري إلى النوبة، فلقيه أهلها وقاتلوا المسلمين قتالًا شديدًا ارتد عقبة على أثره، ولم يعقد صلحًا ولا هدنة، ذلك أن أهل النوبة كانوا يرمون بالنبل فلا يخطئون، وكانوا يتحرون الأعين فيرمونها فيفقئونها، فسماهم العرب رماة الحدق، وظلت كتائب عمرو بعد ارتداد عقبة تناوشهم على الحدود، فلما كانت خلافة عثمان بن عفان صالحهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح على هدنة: ألا يقاتل أحد الفريقين الفريق الآخر، وأن يتبادل الفريقان الرقيق يعطيه أهل النوبة المسلمين، والطعام يعطيه المسلمون أهل النوبة بما يوازي ثمن رقيقهم.

على أن أهل النوبة لم يفكروا في اجتياز التخوم إلى مصر لمناجزة قوات المسلمين، بل كفاهم أن ردوا عدوهم عن ديارهم فأقاموا بها على حذر منه؛ لذلك لم يخشَ عمرو جانبهم وأقام مطمئنًّا إلى سلامة مصر من ناحية الجنوب، كما اطمأن إلى سلامتها من ناحية الغرب بعد أن هزم الروم في برقة وطرابلس، أما وقد تمت له هذه الطمأنينة فقد انصرف بكل تفكيره إلى تدبير الأمر في مصر وتنظيم حكمها، فكيف كانت سياسته في هذا التدبير وهذا التنظيم؟

يجمل بنا لنجيب عن هذا السؤال، أن نفصل في مسألة طال خوض المؤرخين فيها، فأنت قد رأيت، مما تقدم في هذا الفصل وفي الفصلين اللذين سبقاه، أن عمرًا فتح مصر كلها عَنْوَةً، فلم يتم بينه وبين الروم صلح عليها، ولم يكن القبط من أهلها ليصالحوه وهم في سلطان هرقل والذين جلسوا على العرش من بعده، وقد وقع المقوقس مشروعًا للصلح مع عمرو في أثناء حصار بابليون فرفضه هرقل، وبرفضه عادت الحرب بين الفريقين، حتى انتهت إلى هزيمة الروم وجلائهم عن البلاد كلها، مع ذلك يفيض المؤرخون المسلمون في ذكر روايات يذهب بعضها إلى أن مصر فُتحت صلحًا، ويذهب بعضها إلى أنها فُتحت عَنْوَة، ويغلون في هذه الإفاضة، حتى يكاد الإنسان يحسب أنه لن ينتهي في هذا الأمر إلى رأي يطمئن إليه.

فأما الذين يذكرون أن مصر فُتحت عَنْوَة بغير عهد ولا عقد، فيستندون إلى روايات لجماعة ممن شهدوا الفتح أنهم قالوا إن مصر فتحت عَنْوَة، وإلى تأييد ذلك القول بأنه كان لعمر بن الخطاب تابوت، فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لمصر عهد، وهم يضيفون إلى ذلك عن عمرو بن العاص أنه كان يقول: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر عليَّ عهد ولا عقد إلا لأهل أنطابلس فإن لهم عهدًا نوفي لهم به.» ويذكر أحد الرواة أن عمرًا أضاف: «فإن شئت قتلت، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت.» ويورد أصحاب هذا القول حجة أخرى تؤيد رأيهم أن عمرًا كتب إلى عمر في رهبان يترهبون بمصر فيموت أحدهم وليس له وارث، فكتب إليه عمر: «إن من كان له عقب فادفع ميراثه إلى عقبه، ومن لم يكن له عقب فاجعل ماله في بيت مال المسلمين، فإن ولاءه للمسلمين.»

وأما الذين يذكرون أن مصر فُتحت صلحًا فيستندون إلى روايات يذهب بعضها إلى أن البلاد فتحت صلحًا كلها، ويستثني بعضهم الإسكندرية فيذكر أنها فُتحت عَنْوَة، رُوي أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ، على دينارين دينارين، فأحصوا فبلغت عدتهم ثمانية ملايين، وقيل: إن عمرًا لما فتح الإسكندرية كان أكثر المسلمين يريدون قسم ما عليها ومن فيها، فقال لهم عمرو: لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، وكان جواب عمر على كتاب ابن العاص: «لا تقسمها وذرهم، يكون خراجهم فيئًا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.» فأقرها عمرو وفرض على أهلها الخراج، وأحصاهم فكان عدة من بلغ الخراج بها ستمائة ألف، بذلك فتحت مصر كلها صلحًا بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، وفي رواية أن شيخًا من القدماء ممن شهدوا فتح مصر قيل له: إن ناسًا يذكرون أنه لم يكن لأهلها عهد، فقال: لا يبالي ألا يصلي من قال إنه ليس لهم عهد، وسئل: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند طُلْما صاحب إخنا، وكتاب عند قُزْمان صاحب رشيد، وكتاب عند يُحَنَّس صاحب البرلس، وأجاب هذا الشيخ، حين سئل عن صلحهم، أنه كان على دينارين على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين، وأنه شرط ألا يخرجوا من ديارهم، وألا تنتزع نساؤهم ولا كنوزهم ولا أراضيهم ولا يزاد عليهم.

هذه أهم الروايات التي استند إليها من يقولون إن مصر فتحت صلحًا، ومن يقولون إنها فتحت عَنْوَة، ولعلك توافقني على أنها مع ظاهر اختلافها، تنتهي إلى نتيجة واحدة، وتؤيد أن مصر فُتحت عَنْوَة، وفُتحت في الوقت ذاته صلحًا، فالحرب التي وقعت في أرضها إنما كانت بين المسلمين والروم ولم تكن بين المسلمين والقبط من أهل البلاد، وقد كان موقف المصريين من الفريقين موقف حياد إن شئت، وهو بالأخرى موقف المغلوب على أمره، لا يملك أن ينضم انضمامًا ظاهرًا إلى أحد الفريقين ويقاتل الجانب الآخر في صفه؛ لذلك كانوا ينفذون ما يأمرهم الغالب على منطقة من المناطق بتنفيذه، وكانوا ينفذونه كرهًا إن لم ينفذوه طوعًا، فحينما كان الأمر للروم كان القبط يعاونونهم في تعبيد الطرق وإقامة الجسور وما إلى ذلك مما يحتاجون في القتال إليه، وحيثما كان الأمر للعرب كان القبط يبذلون لهم مثل هذه المعاونة، وهم كانوا كما رأيت يمقتون الروم أشد المقت لما بلغ منهم في دينهم وفي أرزاقهم، وكانوا يخافون العرب أن يحلوا بينهم محل الروم، وألا يعاملوهم بخير مما كان الروم يعاملونهم به، قوم ذلك شأنهم لا يمكن اعتبارهم محاربين، ولا يمكن أن يقال إنهم قاتلوا العرب أو قاتلوا الروم، إنما كان القتال بين العرب والروم في أرض مصر، وقد انتصر العرب على الروم فأجلوهم عن مصر وأدالوا دولتهم فيها، وهم لذلك قد فتحوا مصر عَنْوَة في وجه الروم الذين قاتلوهم وانهزموا أمامهم، ولم يفتحوها عَنْوَة في وجه المصريين الذين لم يقاتلوهم.

وقد رأيت بعد فتح الإسكندرية كيف سلمت إخنا وبَلْهيب والبرلس ودمياط دون مقاومة، وكيف عاون المصريون العرب في قتال تنِّيس وفي فتحها، وما كان المصريون ليقاتلوا العرب أو يحاولوا إجلاءهم عن بلادهم ولم يُنشِئ الروم في البلاد جيشًا من أبنائها، ولم يتركوا سلاحًا يذود به أهلها عن أنفسهم، بل جردوها من كل سلاح حتى لا تثور بهم ولا تحاول الاستقلال عنهم؛ لذلك كان طبيعيًّا أن تذعن للعرب أول ما غلبوا الروم في أرضها وأخرجوهم منها، أما وقد فعلوا فقد أوجب الإسلام على الفاتحين أن يعرضوا على القبط أن يسلموا فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، أو يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية لقاء حماية المسلمين لهم، وهذا ما رآه عمرو بن العاص مخالفًا فيه رأي الذين أرادوا قسمة البلاد فيما بين المسلمين، وقد أقر عمر بن الخطاب هذا الرأي، ورضيه المصريون، بذلك كان فتح مصر عَنْوَة بالنسبة للروم، وصلحًا بالنسبة للمصريين.

أي صلح أقره عمر ورضيه المصريون؟ تكثر الروايات في هذا وتتعدد، لكنا نستطيع أن نقول مطمئنين: إنه يطابق الصلح الذي رفضه هرقل، والذي عقدت شروطه بين عمرو بن العاص والمقوقس حين كان المسلمون يحاصرون حصن بابليون، وقد أورد الطبري نص هذا العهد فيما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يُدخَل عليهم شيء من ذلك، ولا يُنتقص، ولا تساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لَصُوتُهم،٣ فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا وكذا وكذا فرسًا، على ألا يُغْزَوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة، وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.

ذكرنا أن هذا العهد يطابق الصلح الذي عقدت شروطه بين عمرو والمقوقس ولم نَقُلْ إنه هو، فهذا النص الذي أثبته الطبري ليس عقدًا بين طرفين، وإنما هو تصريح من جانب واحد، على تعبير فقهاء القانون الدولي في عصرنا الحاضر، صحيح أن أهل مصر قبلوا هذا العهد بعد إعلانه ودخلوا فيه، لكن هذا القبول لا يغير من طبيعته القانونية، فهو عهد أملاه من فتح أرضًا لم يقاومه أهلها، أريد به بعث الطمأنينة إلى نفوس الناس في هذه الأرض بتحديد تبعاتهم لقاء تأمينهم على حريتهم وعلى ملتهم وأموالهم، وقبول مثل هذا العهد إنما هو نزول على حكم الواقع اتقاء ما هو شر منه، وليس رضًا بالمعنى الفقهي، فإنما يقوم هذا الرضا على أساس من حرية صاحبه في أن يرضى وألا يرضى.

عهدٌ ذلك شأنه يختلف في طبيعته القانونية عن الصلح الذي رفضه هرقل، بعد أن عقده عمرو والمقوقس في أثناء حصار بابليون أشد الاختلاف، فقد كان صلح المقوقس هذا بين طرفين، وكان ينظم أمورًا ما كان لعهد الأمان الذي أذاعه عمرو بين المصريين أن يتناولها، وقد أورد بتلر شروط هذا الصلح نقلًا عن كتاب حنا النقيوسي، وإن لم يوردها على الترتيب الذي أوردها به المؤرخ القبطي، وظاهر من هذه الشروط أنها كانت صلحًا بين المسلمين الظافرين والروم المقهورين على مصر كلها، وكان مدى هذا الصلح أن يجلو الروم عن البلاد، وألا يعودوا إليها أو يسعوا لردها، وأن يتم هذا الجلاء في أحد عشر شهرًا من إقرار هرقل لهذا الصلح، وأن يبعث الروم رهائن من قبلهم مائة وخمسين من الجند وخمسين من غير الجند ضمانًا لإنفاذ العهد، وأن يبقى العرب في أماكنهم مدة الهدنة لا يسعون لقتال، وأن يتاح لليهود الإقامة بالإسكندرية، وأن يكف المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين ولا يتدخلوا في أمورهم، وألا يفرق في الجزية بين القبط وغير القبط من سكان مصر.

شتان ما بين هذا العقد وعهد الأمان الذي أعلن من جانب واحد، فهذا العقد أريد بمشروعه الذي رفض تصفية لحالة حرب قائمة، وخلاصته ترك الروم مصر للعرب، وتعهد العرب للروم بعدم إجلاء اليهود عن العاصمة، واحترام معابد المسيحين وعقائدهم، وعدم التفريق بين المصريين وغير المصريين في الجزية، أما عهد الأمان فلا شأن للروم به ولا عهد على المسلمين لهم فيه؛ لذلك كان من الخطأ أن يقول بتلر: إن عهد الأمان لا يخالف عقد الصلح، وإن كلا النصين يكمل الآخر.

على أن عهد الأمان لم يورد في أمر الجزية أي تفصيل عن طريقة توزيعها بين ساكني مصر، وقد اتفق المؤرخون على أن الجزية قدرت بدينارين على كل حالم من الرجال دون سواهم، فلا جزية على الأطفال والنساء والرقيق والشيوخ الفانين والعجزة غير القادرين والصبيان، وجلي أن هذه الجزية كانت على الرءوس، وأنها كانت غير خراج الأرض يلزم به الرجل على قدر المساحة التي يزرعها، وروى البلاذُري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن عمرًا «وضع على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرًا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقًا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم.» ويتعذر القطع برأي في هذه الفريضة من الحنطة والزيت والعسل والخل: أكانت ملحقة بالجزية على الرءوس فهي ليست من خراج الأرض، أم كانت تحتسب من هذا الخراج؟ فقد روى البلاذُري، بعد أن أورد قول عبد الله بن عمرو، حديثًا نسبه إلى يزيد بن أبي حبيب «أن أهل الجزية بمصر صولحوا في خلافة عمر بعد الصلح الأول، مكان الحنطة والزيت والعسل والخل، على دينارين دينارين، فألزم كل رجل أربعة دنانير، فرضوا بذلك وأحبوه.» وتذهب بعض الروايات إلى أن عمر كتب إلى ابن العاص أن يفرق بين أهل مصر في مقدار الجزية على قدر يسارهم، فيجعلها أربعة دنانير على الموسر، ودينارين على أوساط الناس، ودينارًا على من دونهم، وهذا الاجتهاد من عمر اتبع من بعد، يقول أبو يوسف في كتاب الخراج: «الجزية واجبة على جميع أهل الذمة … وإنما تجب على الرجال منهم دون النساء والصبيان، على الموسر ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى المحتاج الحراث العامل بيده اثنا عشر درهمًا يؤخذ منهم في كل سنة.»

أذاع عمرو في مصر عهد الأمان، فرضيه المصريون ودخلوا فيه، بذلك آن له أن ينتقل من سياسة الحرب إلى سياسة السلام، ولا ريب في أن عمرًا لجأ في أثناء الحرب إلى ما توجبه الحرب من تدابير في بعضها بطش وقسوة بالروم ومن عاونهم من المصريين، ولا تثريب عليه في ذلك، والحرب هي الحرب، وتمهيد الطريق للنصر مع ضمان السلامة للجيش المقاتل هو أول واجب على القائد الذي يعرف واجبه، ولئن كان واجبًا عليه ألا يتجاوز في البطش والقسوة ما يحقق هذين الغرضين، إن عليه لغرضًا أكبر: ذلك ألا يتردد لأي اعتبار دون تحقيقهما، أما وقد تم للمسلمين النصر فانهزم الروم وجلوا عن أرض مصر، فقد انتهت مهمة القائد وبدأت مهمة السياسي، وقد كان عمرو بن العاص في كل المواقف السياسي المحنك الذي لا يشق غباره، وكان عمر بن الخطاب يعرف ذلك منه أكثر مما يعرفه غيره؛ لذلك ولاه على مصر، فكان نجاحه في سياستها وتدبير أمورها أعظم من نجاحه في طرد الروم منها والقضاء على دولتهم فيها، هذا مع ما رأيت من بلوغه كل أغراضه من الحرب على نحو يكاد يكون معجزة يدق إدراكها على الأفهام.

وحسبنا قبل أن نعالج هذه السياسة في تفصيلها أن نشير إلى جملتها، فقد رأى عمرو أول ما رأى أن يزيل ما يشكو المصريون منه، وما كانوا يثورون بالروم من جرائه، وقد كان الاضطهاد الديني أول سبب لتذمر الناس وشكواهم؛ لذا كان أول أمر أذاعه عمرو بن العاص في الناس جميعًا من النوبة إلى الإسكندرية، أن لا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة أمر مقدس، فلن يضار أحد في حريته أو في ماله بسبب دينه أو مذهبه، فمن شاء أن يبقى ملكانيًّا أو مونوفيسيًّا فله ما يشاء، ومن شاء أن ينتقل من دين إلى دين أو من مذهب إلى مذهب فلن يصاب لذلك بسوء، ومن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وقد نفذت هذه السياسة بدقة ليس كمثلها دقة، ذكر ساويرس أن أسقفًا ملكانيًّا بقي على مذهبه حتى مات، لم يمسسه أحد بأذى، وأن بنيامين المونوفيسي كان يستميل الناس إلى مذهبه بالحجة والبرهان، فلا يقف أحد في سبيله ولا يعطل أحد نشاطه، وقد بقيت كنائس الملكانيين وكنائس المونوفيسيين قائمة تُؤدى فيها الشعائر، ولا يجرؤ أحد أن يدنس حرمتها، أو يحمل أحدًا من أهل هذا المذهب أو ذاك على أمر لا يرضاه، ومن اليسير عليك أن تقدر ما كان لهذه السياسة من أثر في نفوس المصريين بعد أن ذاقوا مرارة الاضطهاد الديني، وبعد الذي كان يصيبهم في سبيل مذاهبهم من عذاب وتشريد ونفي عشرة أعوام تباعًا.

وازداد الناس اطمئنانًا إلى حكم الفاتحين حين رأوهم يزيلون من أسباب تذمرهم وشكواهم سببًا آخر لم يكن أقل إثارة لنفوسهم من السبب الأول، فقد خفف عمرو وطأة الضرائب، وألغى ما قرره الروم من فروق بين الناس في أمرها، ذلك أن الروم كانوا يجبون عن جزية الرءوس ضرائب كثيرة من أنواع شتى أكثرها غير عادل، وكانوا قد أعفوا بعض الطوائف من الجزية ومن ضرائب معينة، وكان أهل الإسكندرية أكثر الناس استمتاعًا بهذا الإعفاء، فلما ألغى عمرو ما كان غير عادل من الضرائب، وسوى بين الناس في أدائها، كانت هذه التسوية، وكان تخفيف العبء، مدعاة لرضا الناس عن سياسته وحسن قبولهم لها، ثم لم يكن تذمر ذوي الامتيازات التي ألغيت ليغير من هذا الرضا وحسن القبول.

حسبنا في هذه الإشارة المجملة أن نذكر هذين الأمرين، وأن نضيف إليهما أن عمرًا جعل العدل والإصلاح أساس سياسته في مصر، لتتوسم ما قدر لهذه السياسة من نجاح أسرع بمصر لتكون ذات شأن في حياة المسلمين، وفي سياسة الإمبراطورية الإسلامية.

أين ترى أن يتخذ عمرو مقر حكمه والموضع الذي تصدر عنه سياسته وينبعث منه سلطانه؟ الطبيعي أن يكون هذا المقر مدينة الإسكندرية، فهي عاصمة مصر منذ بناها الإسكندر، وهي المدينة العظيمة لا تضارعها مدينة غيرها في الجمال والعظمة، وبها القصور التي كانت مقامًا لملوك البطالسة وحكام الروم، ولذا كتب إلى عمر يستأذنه في المقام بها، وإقامة حكومته فيها، وسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ فأجابه: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، وكان عمر، كما رأيت من قبل، حريصًا أشد الحرص على ألا يحول بينه وبين المسلمين في البلاد المفتوحة حائل؛ لذلك كتب إلى عمرو:

لا أحب أن تنزل المسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف.

ولما بلغت هذه الرسالة عمرًا لم يجد مكانًا يحقق رغبة أمير المؤمنين خيرًا من المكان المجاور لحصن بابليون، فهو على ملتقى فروع النيل المنتشرة في الدلتا مع المجرى الرئيسي للنهر، وهو إلى ذلك قريب من مدينة منف التي كانت عاصمة مصر في عهد الفراعنة، وليس يفصل بينه وبين الحجاز ماء، ففي مقدور عمر أن يركب إليه راحلته حتى يبلغه من غير أن يعبر ماء في طريقه.

وكان عمرو بن العاص قد ضرب قبة إلى جوار حصن بابليون حين حصاره، وسمى المسلمون الذين معه هذه القبة الفسطاط،٤ فلما فتحوا الحصن وأزمع عمرو السير إلى الإسكندرية أمر بنزع هذا الفسطاط، فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال: لقد تحرم بنا! ثم أمر بإبقاء الفسطاط حين يطير الفراخ، وأوصى به صاحب القصر، فلما عاد من الإسكندرية أمر جنده أن ينزلوا عند الفسطاط، وأن يختطوا دورهم حوله، وكذلك اختُطت البلدة، وقُسمت بين أحياء العرب وبناها لهم القبط، وبنى عمرو مكان الفسطاط وما حوله مسجدًا بين حدائق وأعناب، وظل قائمًا مع أصحابه حتى حرروا قبلته، ثم إنه اتخذ في المسجد منبرًا يخطب الناس من فوقه، فلما عرف عمر صنيعه ذاك كتب إليه يقول: «أما بعد، فإنه قد بلغني أنك اتخذت منبرًا ترقى به فوق رقاب المسلمين، أما حسبك أن تقوم قائمًا والمسلمون تحت عقبيك! فعزمت عليك إلا ما كسرته!» فكسره عمرو وأزاله.

وبنى عمرو دارًا لعمر بن الخطاب وكتب إليه: إنا قد اختططنا لك دارًا عند المسجد الجامع، فأجابه عمر: أنَّى لرجل بالحجاز أن تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقًا للمسلمين، فنفذ عمرو أمره.

وإنما تخير عمرو هذا الفضاء فأقام به فسطاط مصر حتى لا يخرج المسلمون أهل مصر من ديارهم ليحلوا محلهم، وليتجنب بذلك كل ما يوجب شكوى المصريين أو تذمرهم، ولعله أراد كذلك أن ينشئ مدينة إسلامية يرابط بها جند المسلمين، وتقيم فيها أسرهم لتكون بيئة يعيشون فيها مألوف عيشهم، على نحو ما فعل سعد بن أبي وَقَّاصٍ حين مَصَّرَ الكوفة والبصرة، على أن اتخاذ ابن العاص، وهو والي مصر هذا البلد مقرًّا لحكمه أسرع به إلى العمران، وأدى بطائفة كبيرة من المصريين إلى الانتقال إليه والبناء فيه، فلما اتسعت رقعة المدينة أنشأ المسلمون بظاهرها ضاحية أطلقوا عليها اسم العسكر، ونقلوا إليها قاعدة الحكم، بذلك صارت فسطاط مصر عاصمة البلاد كلها، تشد إليها الأنظار من الصعيد ومن مصر السفلى ومن ثغور البحرين الأبيض والأحمر، مما أدى بها إلى أن تزداد على الأيام سعة وعمرانًا، وقد ترتب على ازدياد عمرانها أن انتقلت إليها التجارة، وأن ازدهرت فيها الحياة، فنزح إليها كثيرون من أعيان الإسكندرية ومن أعيان منف، وكان ذلك مقدمة للقضاء على منف وأن تصبح قرية أثرية لا تُذكر عظمتها إلا إذا قُرنت إلى عظمة الفراعنة الذين اتخذوها مدى آلاف السنين عاصمتهم، كما جنى على الإسكندرية فلم تبقَ المدينة العظيمة ذات الجلال الباهر، والثغر المضيء بجلاله كل ما حوله من أرجاء العالم.

أقام عمرو بفسطاط مصر يفكر في تدبير سياستها، وقد رأيت أنه جعل حرية العقيدة من أسس هذه السياسة، فلما عرف رهبان القبط هذا الأمر وتيقنوه خرج عدد عظيم منهم من الأديار التي كانوا قد اعتصموا بها من الاضطهاد، وساروا إلى عمرو يعلنون له الطاعة، وكان عمرو حريصًا على أن يعود البطريق بنيامين إلى رياسته الدينية لما عرفه من محبة القبط له وتعلقهم به، ومن ازدياد هذه المحبة في نفوسهم بعد فرار بنيامين إلى أقصى الصعيد واعتصامه من الروم بالصحراء، لذا كتب للقبط جميعًا أمانًا خص فيه بنيامين بقوله: «فليأت البطريق الشيخ آمنًا على نفسه وعلى الذين بأرض مصر والذين في سواها، لا ينالهم أذى ولا تُخفر لهم ذمة.» وعرف بنيامين عهد الفاتح العربي، فخرج من مخبئه بالصحراء وسار إلى الإسكندرية، فدخلها دخول الظافر في مظاهر من ابتهاج القبط لا يساورها خوف ولا يشوب صفوها كدر.

ولما استقر ببنيامين المقام بين أتباعه، دعاه عمرو إليه وقابله بالترحيب والتكريم، وتحدث بنيامين إليه، وكان عذب المنطق، في تؤدة ورزانة، فأعجب الفاتح بحديثه، وجعل له ولاية الدين على القبط يسوسهم في أموره بما يشاء، وخرج البطريق القبطي من حضرة الفاتح الإسلامي ممتلئ النفس غبطة وابتهاجًا، وعاد إلى الإسكندرية يلهج بحمده والثناء عليه ويقول لأتباعه: «عدت إلى بلدي الإسكندرية، فوجدت بها أمنًا من الخوف، واطمئنانًا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكَفَرة وبأسهم.»

ولم تكن الأيام لتزيده إلا ثناء وحمدًا؛ فقد اجتمع القبط من حوله أحرارًا في إقامة شعائرهم، فأصلح لهم كنائسهم وذهب إلى أديارهم، فكانوا يقابلونه في مواكب يحملون فيها بين يديه المباخر وسَعَف النخيل.

وقد بلغ من ابتهاج القبط بعود الحرية إليهم مبلغًا يعبر عنه ساويرس بقوله: «إنهم فرحوا كما تفرح الأسخال إذا حُلت قيودها وأطلقت لترتشف من لبان أمهاتها.» ومع ما عرف من بغض حنا النقيوسي للمسلمين وتسقطه خطآتهم لقد كتب عن عمرو يقول: «لقد تشدد في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، لكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس؛ ولم يرتكب شيئًا من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته.» ونقل حنا عن المصريين أنهم كانوا يقولون: «ما خرج الروم من الأرض وانتصر عليهم المسلمون إلا لما ارتكبه هرقل من الكبائر، وما أنزله بالقبط وملتهم على يد قيرس، لقد كان هذا سبب ضياع أمر الروم وفتح المسلمين لبلاد مصر.»

لم يكن الملكانيون، من المصريين ومن الروم الذين أقاموا بمصر، أقل تمتعًا بحريتهم الدينية من القبط، بل أظلتهم حماية عمرو كما أظلت المونوفيسيين، صحيح أن الملكانيين كانوا قلة إلى جانب المونوفيسيين، وأن عددًا كبيرًا من القبط الذين انتقلوا أيام الإرهاب إلى المذهب الملكاني لم يلبثوا حين عادت لهم حريتهم الدينية أن رجعوا إلى مذهبهم الأول والتفوا حول راعيهم القديم، ونالوا على يده «تاج الاعتراف» كتعبير ساويرس، لكن آخرين من القبط الذين انتقلوا إلى المذهب الملكاني أصروا عليه فلم يسمح الحكم الإسلامي بحملهم قهرًا على تغييره، لذلك بقي بمصر عدد كبير من الملكانيين إلى ما بعد الفتح بخمسين عامًا، وإنما تناقصوا من بعد؛ لأن المصريين منهم شعروا بأن صلاتهم الاجتماعية تقتضيهم الدخول في مذهب جماعتهم، ولأن من بقي من الروم بمصر آثر أن يندمج مع أهلها فدان بدين الكثرة أو بدين الحاكمين.

كان من أثر هذه الحرية الدينية أن أقبل كثيرون من عقلاء الروم والمصريين على النظر في المذاهب المختلفة، ثم انتهى أكثر هؤلاء إلى قبول الإسلام والدخول فيه، فقد رأوا في تنازع المذاهب المسيحية واضطهاد أصحابها بعضهم لبعض ما زهدهم فيها، وجعلهم يلتمسون عن طريق الحرية العقلية سبيلًا إلى عقيدة يؤمنون بها مختارين، وكان الإسلام في هذا العهد الأول يدعو إلى النظر في الكون نظرًا حرًّا مطلقًا من كل قيد، فلم تكن قد نشأت فيه المذاهب والشيع، ولم يكن أهله قد عرفوا التعصب الذميم لمذهب على مذهب، بل كان باب الاجتهاد مفتوحًا لكل ذي عقل وبصيرة، وكان ما ورد في القرآن الكريم من المبادئ البالغة غاية السمو يدعو إلى الإقبال عليه والاطمئنان إليه، وإذا صح ما يقال أحيانًا من أن المصريين الذين دانوا بالإسلام في ذلك العهد إنما دانوا له ليتساووا بالفاتحين، فلن يصدق ذلك إلا على الأقلين منهم؛ أما كثرتهم فقد دانت به عن بينة وإيمان، ولا عجب في ذلك وفطرة المحافظة على العقيدة الدينية أقوى في النفس من أن يزلزلها مثل هذا الاعتبار، يقول بتلر في هذا الصدد: «ليس من العدل أن يقال إن كل من أسلم من القبط إنما يقصد الدنيا وزينتها، وإذا كان منهم من أسلم طمعًا في أن يتساوى بالمسلمين الفاتحين حتى يكون لهم ما لهم وينجو من دفع الجزية، فإن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقيدتهم غير راسية، أما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان من عصيان لصاحبها، إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشب بين شيعها وأحزابها، ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته.»٥

حمى عمرو حرية الاعتقاد، ورسم سياسته في جباية الضرائب وفي أعمال الإصلاح وفي إقامة العدل بين الناس، وعهد إلى العمال الذين ولاهم في القيام على تنفيذها، أفكان هؤلاء الحكام من العرب، أم من المصريين، أم من غير هؤلاء وهؤلاء؟ تأبى طبيعة الفتح أن تكون إمارة جند لغير مسلم، فعهد الأمان يجعل على المسلمين حماية مصر ومن فيها؛ فطبيعي أن يتولى المسلمون إمارة القوات التي يعهد إليها في هذه الحماية، هذا إلى أن مصر لم يكن لها جيش في عهد الروم، وإنما كان حرسها الوطني جند نظام لا جند قتال، فليبقَ هذا الحرس كما كان في ذلك العهد، أما الجيش وإماراته وأسلحته فكانت للمسلمين دون سواهم.

وليكون هؤلاء المسلمون على أهبة دائمة للدفاع عن البلاد، لم يُبَحْ لهم أول الأمر امتلاك أرضها، بل فرضت لهم أرزاق يقتضونها لنفقتهم ونفقة عيالهم، ويظهر أنهم أقاموا على ذلك كل خلافة عمر، فقد روى ابن عبد الحكم أن عمر لم يُقْطِعْ أحدًا من الناس شيئًا من أرض مصر إلا ابن مستور، وكان عبدًا مثَّل به سيده فأعتقه عليه رسول الله وبقي عيالًا على الخليفة غير صالح لقتال، على أن هذا المنع لم يدم إلا ريثما اطمأن المسلمون إلى قرارهم في مصر، عند ذلك أبيح لهم أن يمتلكوا الأرض، فإذا ملكوها دفعوا عنها الخراج كسائر الناس، فلا يزاد خراجها ولا ينقص بسبب تغير مالكها وكونه مسلمًا أو قبطيًّا.

ولم تكن الأرزاق التي فرضت لجند المسلمين مقصورة على ما ينالونه من الجزية، بل كان لهم على المصريين فريضة الضيافة ثلاثة أيام، وكان لهم إلى ذلك حقوق على ما يترك من الأرض في كل قرية للمنافع العامة، يدل على ذلك خطاب ألقاه ابن العاص جاء فيه:

… وعلى الراعي حسن النظر لرعيته، فَحَيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جُنَّتكم من عدوكم وبها مغنمكم وأنفالكم … واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال؛ فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رِباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.

كان هذا إذن شأن الجيش وإمارته وأسلحته؛ فأما المناصب المدنية فترك عمرو أكثرها لجماعة من الروم كانوا يتولونها من قِبَل دولتهم قبل الفتح، ثم آثروا البقاء بمصر على أن يعودوا إلى بلادهم، ورضي كثير منهم الإسلام ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكذلك أقر عمرو ميناس على حكم مصر السفلى حيث كان من عهد هرقل، وأقر غيره من بني جنسه على حكم بعض الأقاليم، كما أقر الروم الذين كانوا فيما دون ذلك من المناصب ولم يتركوا مصر، وإنما شغل القبط المناصب التي خلت؛ لأن أصحابها من الروم تركوا البلاد إباء منهم أن يكونوا رعية لغير دولتهم.

لم يكن لعمرو أول الفتح أن يسلك غير هذه الخطة؛ فهي بعينها الخطة التي سلكها المسلمون في العراق، والشام، وهي كانت محتومة في مصر أكثر منها في تلك البلاد، فلم يكن العرب يعرفون لغة المصريين، ولم تكن تربطهم بها آصرة الجنس العربي الذي حكم العراق والشام قرونًا قبل ظهور الإسلام، هذا إلى أن تغيير النظام القائم في أمة من الأمم لا يمكن أن يتم طفرة، فلا بد من بقائه حتى يتطور على الأيام ليلائم العهد الجديد، أما وقد كان جماعة من الروم عمالًا على الأقاليم حين جاء الفتح، فليبقوا كما كانوا ولينظر الفاتح العربي في أناة، فيدخل ما يحسن إدخاله على نظام الحكم من تعديل يزيد نصيب أهل البلاد من هذا الحكم، على شريطة ألا يضطرب النظام فيسيء اضطرابه إلى الحاكمين والمحكومين على سواء.

كان عمرو يكتب إلى الخليفة بما يتم في مصر ويطلعه على كل خطواته، فلما عرف عمر مكانة بنيامين من قومه كتب إلى ابن العاص أن يلتمس الرأي عند البطريق القبطي في خير الوسائل لحكم البلاد وطمأنينة أهلها، ولم يضنَّ بنيامين بالمشورة وقد أعاد إليه عمرو كل نفوذه، وكانت مشورته أن يُجْبَى الخراج من غلة الأرض عند فراغ الناس من زروعهم ومن عصر كرومهم، وأن تُحفر خلجان مصر وتصلح جسورها وتُسد ترعها كل عام، وأن يُعطى العمال أرزاقهم بغير انقطاع لئلا يرتشوا، وألا يباح مطل الناس حقوقهم بغيًا بغير حق، وألا يلي أمور الناس عامل ظالم، وارتاح عمرو إلى هذه المشورة فكتب إلى عماله في أرجاء البلاد، وأمرهم أن يتبعوا هذا الرأي لا يحيدون عنه، ثم اتجه بتفكيره إلى أعمال الإصلاح يزيد بها البلاد ثروة، فيزداد أهلها طمأنينة ويزداد خراجها نماء.

ولعل تفكيره في الإصلاح قد سبق مشورة بنيامين، وكان أول عمل خطير مر بخاطره أن يحفر خليج تراجان الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، ويزيد الاتصال بين مصر وثغور شبه الجزيرة تيسيرًا، وقد قلت من قبل إن الفراعنة حفروا هذا الخليج قبل عهد تراجان بألوف السنين،٦ وإنما أصلح تراجان ما فسد من أمره فأحسن حفره وتطهيره، فلما توالت على مصر غزوات الفرس والروم وفشا فيها الاضطهاد وسوء الحكم أهمل هذا الخليج فطم مجراه، فرأى عمرو أن يعيده سيرته الأولى، والظاهر أنه بادر إلى القيام بهذا العمل العظيم أول ما استقر له أمر مصر، وأنه أتمه في وقت قصير لم يبلغ عامًا كاملًا، مع أن طول الترعة يزيد على ستين ميلًا.

وكان هذا الخليج يجري مبتدئًا من شمال بابليون متجهًا شمالًا بشرق إلى بلبيس، فإذا جاوزها اتجه شرقًا إلى بحيرة التمساح، ليخرج من جنوب هذه البحيرة فيتابع جريانه خلال البحيرات المرة فيبلغ البحر الأحمر عند السويس، ولا شك أن القيام بهذا العمل العظيم وإتمامه في هذا الزمن الوجيز مما يشهد لعمرو بالقدرة الإدارية الممتازة، وبخاصة إذا عرفنا ما قيل من أن الخليج كان في ذلك الوقت قد خفي أثره، حتى احتاج عمرو إلى دليل من القبط يرشده إليه، وقد أجاز عمرو هذا القبطي برفع الجزية عنه.

ولعل عمرًا قد لجأ في تنفيذ هذا العمل إلى السخرة فجند الألوف من العمال المصريين للقيام به، وربما جاز لمؤرخ في هذا العصر أن يؤاخذه بما صنع من ذلك، وأن يعتبر هذه السخرة قسوة بأهل تلك البلاد لم يكن له أن يلجأ إليها، وهذه المؤاخذة تُشْتَمُّ من كلام بتلر، ومن استشهاده بكلام حنا النقيوسي إذ يقول عن المسلمين: «وكان نيرهم على أهل مصر أشد وطأة من بني فرعون على بني إسرائيل، ولقد انتقم الله منه انتقامًا عادلًا بأن أغرقه في البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف بلائه على الناس والحيوان، ونسأل الله إذا ما حل حسابه لهؤلاء المسلمين أن يأخذهم بما أخذ به فرعون من قبل.» ولا أراني أشارك من يذهب هذا المذهب في التثريب على الفاتح العربي؛ فقد كانت السخرة في مصر من مألوف ذلك العصر، ثم ظلت مألوفة بعده أكثر من ألف سنة، فلجأت إليها شركة قنال السويس الدولية حين بدأت تشق القناة في القرن التاسع عشر المسيحي، وليست السخرة في الواقع إلا نوعًا من التجنيد الإجباري للقيام بعمل عام، وإنما عيبها، والسبب الذي وجهت من أجله المطاعن إليها، أن القائمين بهذا التجنيد لم يكونوا يرعون فيه عدلًا ولا نظامًا، وأن المجندين لم يكونوا يتناولون أجرًا عن العمل العام الذي يقومون به، ولولا هذا العيب الجدير بأشد النقد، ولو أن التجنيد للتعمير وضع على نظام عادل وفرض للقائمين به أجر معقول، لما كان للتثريب عليه موضع.

ولعل المؤرخين الذين آخذوا عمرًا بهذا التجنيد إنما اشتدوا في مؤاخذته لاعتبارهم أنه فتح خليج تراجان لمصلحة بلاد العرب لا لمصلحة مصر، ولا شبهة في أن بلاد العرب كان لها من فتح هذا الخليج فائدة كبرى، ولكن لا شبهة في أن مصر كانت أكثر استفادة من هذا العمل، فقد أعاد لها طريقًا أيسر من طريق القوافل للتجارة مع الهند وبلاد الشرق الأقصى، ويسر لها بذلك أن تستعيد حظًّا من المكانة التجارية العظيمة التي كانت لها أيام سؤددها وعزها، ومصلحة مصر كانت بعض ما قصد إليه عمرو حين تفكيره، ولا أدل على ذلك من أنه كان يريد حفر خليج بين بحيرة التمساح وبحر الروم، يصل مياه البحرين، بحر القُلْزُم وبحر الروم، على نحو ما هو حادث اليوم، مقتديًا في ذلك بما صنعه بطليموس الثاني، وبما صنعه الفرعون «نخاو» من قبله، ولقد كان معتزمًا أن يقوم بهذا العمل الضخم، لولا اعتراض الخليفة بأنه يسهل للروم اختراق هذه القناة وتسيير سفنهم إلى بحر القلزم، ولم يكن للعرب إلى يومئذ أسطول تجاري أو أسطول حربي يقف في وجه أسطول الروم أو ينافسه، فكان العدول عن حفر قناة تصل مياه البحرين بعض ما يقضي به الحذر، وإذا نحن ذكرنا موقف إنجلترا في القرن التاسع عشر ومعارضتها في شق قناة السويس خوفًا على مكانتها في الهند، تجلى لنا أن خليفة المسلمين كان له أبلغ العذر عن تخوفه من شق هذه القناة منذ ثلاثمائة وألف سنة خلت.

لم يكن عمرو أقل تفكيرًا في خير مصر منه في خير بلاد العرب، ولا يغلو من يقول إنه كان يتجه بسياسته إلى بث الطمأنينة في ربوع مصر وتخفيف الأعباء عن أهلها وإقامة العدل بينهم، ويرى في هذه السياسة خير توفيق بين مصالح الأمتين العربية والمصرية، وخير توطيد لقواعد الإمبراطورية الإسلامية، ومما يشهد بأن هذه كانت خطته أنه أخذ بنصيحة بطريق القبط بنيامين في أمر الخراج وجبايته، وأنه ذهب إلى أبعد من ذلك في تخفيف وطأته؛ فقد كان هذا الخراج يزيد وينقص تبعًا لحال الفيضان وغلة الزراعة، وكان أعيان كل قرية وبلد يجتمعون كل عام في لجنة تحدد مقدار ما يُجبى منها حسب هذه الأحوال، فإذا زاد المال الذي يجبى من بلد على الخراج المفروض عليها أنفق الزائد في إصلاح أحوالها، ولقد جُعِلَت في كل بلد قطعة أرض خصص ريعها للمنافع العامة، كإصلاح الكنائس والحمامات والطرق وما إليها، وكان ما يجبى من الخراج أقل بكثير مما كان الروم يجبونه من الضرائب الكثيرة الفادحة التي فرضوها على المصريين فيما سوى العاصمة من أرجاء البلاد، فكان هذا التخفيف مدعاة لطمأنينة القبط جميعًا إلى الحكم الجديد ولإشادتهم به.

وكان للإسكندرية أن تتذمر من هذا النظام الذي فرضه عمرو بقدر ما كان للبلاد كلها أن تستريح له وتغتبط به؛ فقد أعفى الإسكندر أهل المدينة التي شادها من الجزية من يوم إنشائها، وجعل لليهود والروم الذين جاءوا معه واستقروا بها امتيازات في التقاضي رفعت مكانتهم على المصريين الذين ساكنوهم فيها، وجرى البطالسة على سنة الإسكندر، ثم توسع الرومان من بعد فامتد الإعفاء إلى أبناء رومية الحاكمين، ولم يقف الإعفاء عند الجزية والتقاضي، بل أُعفي أهل الإسكندرية من السخرة، وأُعفيت الأرض المحيطة بها من الخراج.٧

لم يكن إلغاء الإعفاء الذي تتمتع به الإسكندرية ليسد النقص الذي أصاب إيراد الدولة بسبب تخفيف الضرائب؛ فقد هاجر من الإسكندرية في أثناء الحصار وبعد الفتح كثيرون، وترتب على ذلك أن أقفلت متاجر كثيرة، وقد اختلف المؤرخون في تقدير ما كان يُجبى من مصر اختلافًا كبيرًا، لكنهم متفقون جميعًا على أنه يقل كثيرًا عما كان الروم يجبونه، مع ذلك لم يغير عمرو من سياسته في هذا الأمر طيلة السنوات التي تولى فيها إمارة مصر، والتي عدها المصريون خيرًا وبركة عليهم.

اختلف المؤرخون في تقدير ما كان يُجبى من مصر؛ فذكر البلاذُري أن عمرًا كان يجبي من خراجها ألف ألف دينار، وذكر المقريزي أنه كان يجبي منها اثني عشر ألف ألف، وقيل في تأويل هذا الاختلاف إن بعض المؤرخين يذكر الخراج وحده، وبعضهم يذكر الجزية وحدها، وبعضهم يذكر مجموعهما، وهم مع هذا الاختلاف متفقون على أن متوسط الجزية كان دينارين على كل مكلَّف بها، مع تفاوت بين الطبقات في تقديرها، أما من فُرضت عليهم الجزية من أهل مصر، فبلغ عددهم ستة آلاف ألف في رواية، وثمانية آلاف ألف في رواية أخرى، والاختلاف على تقدير ما كان يجبى من مصر لا يغير من أنه كان على كل حال أخف وطأة مما كان الروم يجبونه.

قام العمال الذين ولاهم عمرو من الروم والقبط بإدارة شئون الدولة في الحدود التي رسمها، ثم بقي نظام الإدارة في دواوينها جاريًا مجراه من قبل، واغتبط عمرو بنجاح سياسته، وكان أشد اغتباطًا بخصب مصر وما فيها من ظل وارف ونعيم مقيم، وكتابه المشهور إلى عمر بوصف مصر ينم عن ذلك ويشهد عليه، فقد كان عمر، فيما رأيت، حريصًا على أن يصف عُمَّاله البلاد التي يكونون فيها وصفًا يجعله كأنه شاهدها، فلما كتب إلى ابن العاص يطلب إليه أن يصف مصر بعث إليه يقول:

ورد كتاب أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه! — يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يَكنفُها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغَدَوات، ميمون الرَّوحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حِلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخمَّ عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنها في المخايل، وُرْق الأصائل، فإذا ما تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جِريته، وطما في دِرته، فعند ذلك يخرج أهل ملة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذ هي عنبرة سوداء، فإذا هي زُمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رَقْشَاءُ، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد وينميها؛ ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يُستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل!

يقول المؤرخون المسلمون: فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب وقرأه قال: «لله درك يا ابن العاص! لقد وصفت لي خبرًا كأنني أشاهده.»

وبعض النقاد ينفون نسبة هذا الكتاب إلى ابن العاص، ونقاد الأدب أشد بهذا النفي تشبثًا، فهم يرون أسلوب الكتاب وما فيه من محسنات بديعية لا يتفق وأسلوب العهد الإسلامي الأول، ولا يتسق وما وصل إلينا من كتب عمرو الأخرى، وتلك لعمري حجة لها قيمتها، ولعل القارئ يشارك أصحابها في رأيهم متى اطلع في بقية هذا الفصل على الكتب التي تبودلت بين الخليفة وابن العاص خاصة بالجزية والخراج، لكن هذه الحجة إن نفت نسبة ألفاظ الكتاب إلى عمرو، فهي لا تنفي أنه كتب إلى الخليفة يصف مصر؛ فحرص عمر على معرفة مصر وصفتها لم يكن أقل من حرصه على معرفة القادسية وما يحيط بها، والعراق وسدوده ومدنه، وأكبر ظننا أن عمرًا كتب هذا الوصف بأسلوبه هو، وأنه بلغ غاية الدقة فيه، ثم تناوله أديب متأخر، فصاغه في هذا الأسلوب الذي أثبته المؤرخون وأثبتناه هنا، فإذا صح هذا الظن كان لنا أن نعتقد أن الأديب المزيِّف قد حافظ جهده على وصف عمرو، ثم صاغه بأسلوب عصره وما فيه من محسنات بديعية، بذلك نسي الناس كتاب عمرو أن لم يُثبته مؤرخ، وبقي هذا الكتاب الزائف، وصرنا لا نستطيع أن نفرق من عبارته بين ما يمكن أن ينسب إلى ابن العاص، وما يجب أن ينسب إلى المزيف الذي عاش من بعده بعدة قرون.

أما ونحن ننفي هذا الزيف عن كتاب عمرو في وصف مصر، فيجمل بنا أن ننفي زيفًا آخر لا شك في أنه ابتدع ابتداعًا من أوله إلى آخره، وأنه لم يكن له أي أصل من الواقع؛ ذلك ما قيل في أسطورة عروس النيل، فقد زعموا أنه «لما ولي عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له؛ إن لنيلنا عادة وسنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها، وأرضينا أبويها وأخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل فيجري، فقال لهم عمرو بن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بئونة وأبيب ومسرَى لا يجري النيل قليلًا ولا كثيرًا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر: «قد أصبت؛ إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.» فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة إذا فيها: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك!» فعرفهم عمرو بهذا الكتاب وبالبطاقة، ثم ألقى البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم؛ وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ست عشرة ذراعًا في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر.

هذه رواية عروس النيل كما أثبتها المؤرخون المسلمون، وقد نقلنا نصها عن كتاب النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، ولسنا نتردد لحظة في نفيها من أولها إلى آخرها، ولو لم يقم الدليل العلمي على هذا النفي لكفانا أن نستند فيه إلى ما بلغه الفراعنة من علم وحضارة، وإلى أن انتشار المسيحية بين المصريين في عهد الرومان لم يكن ليسوغ قيام بدعة كهذه البدعة، وقد ذهب بتلر هذا المذهب فنفى القصة في العهد المسيحي، ثم قال: «ويلوح أن لهذه القصة أصلًا في التاريخ؛ فقد كان من عادة أهل السودان حقيقة في أقصى أنحائه الجنوبية أن ترمي قبائله الهمج في النهر بفتاة عذراء في زينة الزفاف، ولعل عادة كهذه كانت مُتَّبعة في بعض جهات الهمج من بلاد النوبة التي فتحها الإسلام في أول أمره، ولعل عادة التضحية بفتاة عذراء تُرمى في النهر كانت متبعة في مصر في أيام الفراعنة. وإنه من المحقق أن الاحتفال بالنيل والدعاء من أجل زيادته وفيضه كانت تقع فيه أعمال خرافية كثيرة تخلفت من العصور القديمة، ولكنها لم يكن بها شيء مثل ذلك الجرم من التضحية بالعذراء … فمن أكذب الكذب أن يُتَّهم المسيحيون بأنهم حافظوا على مثل هذه العادة الشنيعة التي لا ترضى عنها ديانتهم ولا تقرها ملتهم.»

ومن عجب أن يدور بخاطر بتلر أن مثل هذه العادة الشنيعة ربما كانت متبعة في مصر في عهد الفراعنة، وأن يثور هذه الثورة العنيفة لاتهام قبط مصر المسيحيين بأنهم حافظوا عليها من بعد، فلو أن الفراعنة اتبعوها في أيامهم لبقيت من بعدهم ولما كان على المسيحيين تثريب في اتباعها، فما أكثر ما انتقل من عادات الفراعنة إلى العهد المسيحي، وإلى العهد الإسلامي، وما لا يزال بعضه باقيًا إلى عهدنا الحاضر،٨ ولا عذر لبتلر، عن تسامحه في اتهام الفراعنة وثورته في نفي التهمة عن المسيحيين، إلا ما ذكرنا من قبل من حماسته لديانته، على أن العلم قد أثبت من بعد أنه لم يحدث قط أن ألقيت عذراء في النيل حثًّا على الفيضان، وإن قيل: إن تمثالًا من الخشب لعذراء عليها زينتها كان يُلقى في النهر قبيل فيضانه، ثم نفى جماعة من العلماء هذا القول أيضًا، ولو صح أن الفراعنة أو غير الفراعنة كانوا يلقون في النيل تمثالًا من الخشب ابتهالًا وابتهاجًا بالفيضان لما طعن ذلك على علمهم وحكمتهم، ولما زاد على أنه نوع من الخرافة يستريح إليه السواد فلا يعترضه العقلاء والحكماء.

هذا هو ما يستخلص من تاريخ مصر الفرعونية، وقد أردت زيادة تمحيصه، فطلبت إلى العالم الأثري الأستاذ سليم حسن أن يمدني بعلمه ورأيه، فكان مما أثبته أن ما قيل عن الوثيقة التي بعث بها عمر بن الخطاب فألقيت في النيل ليفيض، لا يزيد، إن صح، على أنه كان مجاراة من الخليفة للمصريين في عادة لهم لا ضرر من مجاراتهم فيها، فقد كان من عادة الكهنة المصريين، ومن عادة بعض ملوكهم، أن يقيموا لإله النيل احتفالًا في بدء الانقلاب الصيفي يقربون فيه للإله ثورًا وإِوَزَّة وقرابين أخرى من الخبز وغيره ثم يلقون في النيل وثيقة مختومة من ورق البردي مخطوطًا عليها أمر للنيل أن يجري في فيضان معتدل يكفل للبلاد الخير والرخاء، وكان هذا الاحتفال يقام في اليوم الذي تصل فيه مياه النيل الصيفية قادمة من أسوان إلى بلدة السلسلة، مبشرة بفيضان عظيم، والظاهر أن المسيحية عفَّتْ على القرابين فلم تكن تُقَدَّم في عهد الرومان المسيحيين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون للنيل إلهًا، ثم بقيت الوثيقة تُلقى في النيل ليجري فيضانه فتعم البلاد خيراته، فلما دخل العرب مصر كانت الوثيقة الإسلامية الأولى هي هذه التي يعزوها المؤرخون إلى عمر بن الخطاب، والتي يأمر النيل فيها بأن يجري كما كان يأمره الأمير الروماني في العهد المسيحي، وكما كان يأمره الكهنة وبعض الملوك في عهد الفراعنة.

أما قصة عروس النيل كما رُويت فخرافة تستند إلى أسطورة روجها المؤرخ الإغريقي بلوتارك، خلاصتها أن «إجبتوس» ملك مصر استلهم الوحي ليهديه السبيل لاتقاء كوارث نزلت بالبلاد، فنصحه أن يضحي بابنته بأن يلقيها في النيل ففعل، ثم إنه ناء بالرزء الذي ألمَّ به، فألقى بنفسه في النيل فهلك كما هلكت ابنته، وهذه الخرافة التي روجها بعض كُتاب الإغريق واللاتين من بعد بلوتارك لم يرد لها ذكر في الكتابات المصرية، وهي مع ذلك مصدر الأسطورة التي ذاعت في الناس قرونًا، ونسج حولها الخيال من فنون الرواية والقصص ما جعل كثيرين يتوهمونها حقيقة حدثت بالفعل، وأنها كانت تتكرر في كل عام.

أم ترى نسج الخيال أسطورة عروس النيل حول ما جاء في ورقة هاريس البردية التي ترجع إلى عهد «رمسيس الثالث» فيما بين سنة ١١٩٨ وسنة ١١٦٧ قبل الميلاد؟ إن صح ذلك فهو الدليل على أن الإنسانية كثيرًا ما تؤمن بأساطير لا أصل لها في الحياة، وإنما زيفها وزينها خيال الكتاب وأرباب الفن، فليس في ورقة هاريس ذكر لعروس عذراء تزين وتلقى في النيل، وإنما جاء فيها أنه كان على امتداد النيل ما يزيد على مائة مرساة، بين كل مرساة والتي تليها نحو سبعة أميال، وفي كل مرساة محراب لحابي إله النيل، يرعاه كاهن يتناول من راكبي النيل أطعمة يقدمونها قرابين لحابي، وكان لكل محراب حراس لهم فيه طعامهم ولباسهم، وكان يوضع في كل محراب طاقة من الزهر تجدد في كل يوم، وستة تماثيل من خشب الجميز لحابي إله النيل، وستة تماثيل أخرى من الخشب نفسه للإلهة «ربيت» زوجة النيل، هذا عدا تماثيل أخرى للإله حابي مصنوعة من الذهب والفضة والقصدير والأحجار المصرية المختلفة الأنواع كالمرمر واللازورد والزمرد والبلور الطبيعي وأساور من ذهب وفضة، كانت هذه التماثيل كلها تلقى في النيل يوم الاحتفال بعيد حابي في بداءة الانقلاب الصيفي، ويؤتى بدلها بجديد غيرها يقام في تلك المحاريب، إلى أن يحل العيد بعد عام فتلقى في النهر قبيل فيضانه ثم يؤتى في المحاريب بتماثيل جديدة في كل عام.

ترى هل استمد الخيال قصة عروس النيل من هذه التماثيل التي كانت تلقى في النهر، فنفخ الحياة في خشب الجميز وفي غيره من المواد التي كانت تصنع التماثيل منها؟ وهل الإلهة «ربيت» زوجة النيل هي التي أمدت الخيال بفكرة العروس العذراء النابضة بالحياة؟ أيًّا ما يكن الأمر فالقصة كما ترى أسطورة من أولها إلى آخرها زينها الوهم، ثم خلع القدم على الوهم صورة الحقيقة، فإذا للنيل عروس من بنات حواء تلقى فيه في ريعان شبابها وفي ثياب زينتها، وإذا المؤرخون يتناقلون هذه الأسطورة على أنها حقيقة بقيت على الحياة القرون الطوال، وما أدري أَيُقْضَى على هذه الأسطورة بعد أن فندها المؤرخون وفندها الأستاذ سليم حسن هذا التفنيد العلمي الدقيق، أم يبقى من الناس من يذكرها ويتوهم أنها حقيقة في يوم من الأيام؟!٩

أما وقد فندنا أسطورة عروس النيل فلننتقل إلى أسطورة أخرى ألقت على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين في عهده تهمة شنعية ظل المؤرخون يتناقلونها قرونًا عدة، ولا يرى المؤرخون المسلمون في روايتها ما يدعوهم إلى تمحيصها؛ تلك التهمة هي إحراق مكتبة الإسكندرية، ولعل المهارة التي زُيِّفت بها هي التي هونت أمرها على المسلمين كل تلك القرون، ويجب أن نعترف أن الفضل في الكشف عن زيفها يرجع إلى المستشرفين الذين محصوها وفندوها منذ القرن التاسع عشر، وأن لبتلر أكبر الفضل في القضاء عليها قضاء حاسمًا بما أورد من حجج لا يتردد إنسان بعدها في القطع بزيفها وكذبها من أساسها.

ويزيد في شناعة هذه التهمة الباطلة التي ألصقت بعمر وبالمسلمين في عهده أن مكتبة الإسكندرية كانت أعظم مكتبة في العالم، وكان فيها من نفائس الكتب في كل العلوم والفنون ما قل نظيره في مكاتب العالم الحاضر، فقد أنشأها البطالسة، وجمعوا فيها سبعمائة ألف مجلد، وجعلوها في عدة أبهاء من أبنية متحف الإسكندرية المجاور لقصور الملك، وكانت أبنية هذه المكتبة العظيمة تتصل بأبنية مدرسة الطب والتشريح والجراحة، ومدرسة الرياضيات والفلك، ومدرسة القانون والفلسفة، وببناء المرصد، ومكان الحديقة التي خصصت لدراسة علم النبات، بذلك كانت المكتبة والجامعة المتصلة بها أعظم مركز لثقافة العالم في ذلك العصر، ولا ريب أن إحراق مكتبة ذلك شأنها جرم فظيع، وجناية على الإنسانية لا يرتكبها متعمدًا إلا الهمج ومن كانوا في مثل درجتهم من الوحشية.

مع ذلك ألصقت هذه التهمة بعمر بن الخطاب وبالمسلمين في عهده، وظلت لاصقة بهم عدة قرون كانت خلالها سببًا في تجني المتجنين وطعن الطاعنين عليهم، ثم ظلت كذلك حتى نفاها العلم فلم يبقَ من يذكرها إلا لينكرها، ولو أن المتقدمين من المؤرخين كانوا يعنون بنقد الحوادث، ويدققون في تمحيصها لتيسر لهم تبين الزيف فيها، ولما ظل التاريخ في ضلال ستة قرون، وأيسر ما كان يهديهم لزيفها أنها لم ترد في كتاب طيلة القرون الخمسة التي تلت فتح المسلمين مصر، مع أن المؤرخين الذين سجلوا تاريخ هذه الفترة بينهم مصريون ومسيحيون لم يدَعوا منقصة يمكن أن تنسب للعرب إلا أثبتوها، ثم لم يذكر أحد منهم شيئًا عن مكتبة الإسكندرية وإحراقها.

ولعل هذه الأسطورة نجمت في بيئات الشيعة، فذكرها أبو الحسن القفطي في كتابه: «تاريخ الحكماء»، ونقلها عنه أبو الفرج بن العبري، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تداولها عنهما من جاء بعدهما من المؤرخين، وقد أحكموا حبكها، وفي وسعك أن تتبين هذا الإحكام من طريقة روايتها، فقد ذكروا أن قسيسًا من القبط يدعى حنا١٠ النحوي عزله مجمع الأساقفة لزيغ في عقيدته، كان قد اتصل بعد الفتح بعمرو بن العاص، فلقي عنده حظوة لذكائه وصفاء ذهنه وغزارة علمه، فلما اطمأن إلى إقبال عمرو عليه قال له يومًا: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئًا مما تنتفع به، بل شيئًا لا نفع له عندك وهو عندنا نافع.» وسأله عمرو: ما يعني بقوله؛ فأجاب: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كتب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقتطع فيه رأيًا دون إذن الخليفة.» ثم إنه بعث إلى عمر يسأله رأيه في الأمر، فجاءه الرد من المدينة وفيه ما يأتي: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يُوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيها وأحرِقها.» فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوزِّعت على حمامات الإسكندرية لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بها ستة أشهر، هذه خلاصة وجيزة لرواية القفطي، وقد أردفها بقوله: «فاسمع لما جرى واعجب!»

أنت ترى براعة الحبك في هذه القصة، فحوار بين حنا وعمرو، وكتاب من عمرو إلى الخليفة، ورد من الخليفة يأمر بإحراق المكتبة، وتفصيل دقيق للطريقة التي نُفِّذَ بها هذا الأمر، كيف يبقى بعد ذلك كله أي ريب في صحة هذه الوقائع؟ وكيف يخالج المؤرخين المسلمين فيها الشك وقد كتبت في القرن السادس الإسلامي حين جمد التفكير والنقد، وأصبح جهد المؤلفين مقصورًا على نقل الروايات التي ذكرها من سبقهم دون تمحيصها لمعرفة صحيحها من باطلها، فليثبت المؤرخون المسلمون هذه القصة العجيبة كما هي، ولينقلها الخلف منهم عن السلف؛ وليذكرها المؤرخون المسيحيون مؤمنين بصحتها، وليعلقوا عليها بما يشاءون، فهم لم يكونوا يتصورون الإسلام والمسلمين إلا اقترنا في أذهانهم بالتعصب المذموم والقسوة الوحشية، ولتبقَ هذه الوقائع مقطوعًا بصحتها حتى يُلقي عليها النقد العلمي ضياءه الكشاف فيظهر بطلانها، فيزيِّفها «جبُّون» ويزيفها «سِديو»، ويزيفها «رينان» ويزيفها «جُستاف ليبون»، ويزيفها «بتلر» ويزيفها غير هؤلاء من المؤرخين، ثم تزيفها دوائر المعارف البريطانية والإسلامية وغيرها، ويزيفها تاريخ المؤرخ، ويذكر في تزييفها ونفيها ما قرره علماء المسلمين صراحة من «أن ما يغنم في الحرب من كتب اليهود والمسيحيين الدينية لا يجوز بحال أن يقدم طعامًا للنار، وأن مؤلفات العلماء والمؤرخين والشعراء وعلماء الطبيعة والفلاسفة يحق الانتفاع بها لخير المؤمنين.» ولا تحسب أن المؤرخين اكتفوا في نفي هذه الأسطورة بالاستناد إلى مثل هذا الاعتبار العام؛ فقد تناولوها بالتمحيص حتى ثبت لهم أنها لا تثبت له، ثم نفوا حوادثها واحدة واحدة نفيًا علميًّا دقيقًا مستندًا إلى أوثق المصادر.

فليس صحيحًا أن حنا النحوي تحدث إلى عمرو بن العاص في أمر المكتبة أو في أمر غيرها؛ لأن حنا النحوي مات قبل دخول المسلمين مصر، فالثابت أنه كان يكتب قبل سنة ٥٢٧م؛ أي قبل دخول العرب مصر بخمس عشرة ومائة سنة، فإذا فرضنا أنه كان يكتب وهو في العشرين لكانت سنه خمسًا وثلاثين ومائة سنة، وهذا غير معقول، فلم يُعرف أن الناس في مصر يكتبون في مثل هذه السن.

وليس صحيحًا أن مكتبة البطالسة كانت باقية عند فتح العرب مصر؛ فقد أجمع المؤرخون على أن هذه المكتبة احترقت في سنة ٤٨ للميلاد حين ذهب قيصر إلى الإسكندرية فأحيط به في مرفئها، فأحرق السفن التي فيه فامتدت النيران منها فأحرقت المكتبة وأفنتها. يتحدث أميانوس وسيلوس عن «مكاتب الإسكندرية التي كانت لا تقوَّم بثمن، والتي اتفق الكتاب الأقدمون على أنها كانت تحوي سبعمائة ألف كتاب بذل البطالسة في جمعها جهدًا كثيرًا، ولقوا في سبيل ذلك عناء كبيرًا، وقد أحرقتها النيران في حرب الإسكندرية عندما غزاها قيصر وخربها.» ويقول أورسيوس: «وفي أثناء النضال أمر — قيصر — بإحراق الأسطول الملكي، وكان عند ذلك راسيًا على الشاطئ، فامتدت النيران إلى جزء من المدينة وأحرقت فيها أربعمائة ألف كتاب كانت في بناء قريب من الحريق، فضاعت خزانة أدبية عجيبة مما خلفه آباؤنا الذين جمعوا هذه المجموعة الجليلة من مؤلفات النابغين.» ويقول ديوكاسيوس: «وامتدت النيران إلى ما وراء المراسي بالبناء فقضت على أنبار القمح ومخازن الكتب، وقيل: إن هذه الكتب كانت كثيرة العدد عظيمة القيمة.» وهذه الأقوال وغيرها لا تدع مجالًا للريب في أن مكتبة البطالسة احترقت قبل الفتح العربي بستة قرون.

وليس صحيحًا أن المكتبات التي نقلت إلى الإسكندرية، أو أنشئت بها بعد احتراق مكتبة البطالسة، كانت باقية عند الفتح، فقد أهدى مارك أنطونيو مكتبة بِرجاموس إلى كليوباترا، عوضًا عن الخسارة التي لحقتها بضياع مكتبة آبائها ملوك مصر البطالسة، ولعل الإسكندرية كان بها مكتبات أخرى، أبقت ما كان للعاصمة المصرية من مكانة علمية سامية، جعلت جامعتها مقصد الطلاب والعلماء من أبناء الإغريق ورومية وكل محب للعلم في عالم ذلك العصر، لكن هذه المكتبات قُضي عليها هي أيضًا في الثورات التي اندلع لهيبها بين المسيحيين والوثنيين في النصف الثاني من القرن الرابع المسيحي، يقول تاريخ المؤرخ: «كان بالإسكندرية مكتبتان؛ إحداهما: مكتبة البروكيون التي أتلفت في عهد جاليناس سنة ٢٩٣م، والثانية: مكتبة السرابيوم، وقد أصابها ما أصاب الأولى في ثورة تيوفيلوس سنة ٣٦١م، وكذلك انعدم كل أثر لهاتين المجموعتين قبل خمسين ومائتي سنة من فتح عمرو لمصر، ولم يذكر التاريخ أن أميرًا أو بطريقًا أو حاكمًا أراد أو قدر في هذه الفترة على أن يحل غيرها محلها.» ويقول بتلر: «رأيت فيما سبق كيف خُرِّبَ القيصريون ونُهِبَ في سنة ٣٦٦ في أثناء نضال ديني، وأغلب الظن أن المكتبة التي كانت فيه قد ذهبت ضحية في ذلك النضال.» ثم يقول: «وأهوى المسيحيون إلى المعبد العظيم، معبد سيرابيس؛ وعلى رأسهم تيوفيلوس، وجعلوا يهدمونه ويخربون فيه، وكان ذلك في عام ٣٩١م، ولا يختلف فيه اثنان، وقد ثبت أن المكتبة كانت في حجرات متصلة بهذا المعبد، وثبت أن ذلك المعبد كله قد هُدم وخرب، فلا بد أن تكون المكتبة قد لحقها الخراب نفسه.»١١

أما وقد ثبت أن حنا النحوي لم يكن حيًّا حين الفتح، وأن مكتبة البطالسة احترقت في عهد قيصر، وأن المكتبات التي أنشئت بعد احتراقها أتلفت قبل دخول المسلمين مصر، فقد انهارت أقوال الرواة فيما اتهموا به عمر بن الخطاب من الأمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، على أن ذلك لا يعني أن الإسكندرية انعدمت كل مكتباتها العامة والخاصة، وأن مصر لم يبقَ بأديارها وجامعاتها مكتبات خاصة بها؛ بل كانت عاصمة مصر عند الفتح العربي لا تزال محتفظة بسمعتها العلمية، وقد زارها قبيل الفتح رجلان من محبي العلم هما صفرنيوس وحنا مكسوس، وتنقلا في أرجائها وذكرا ما اطلعا عليه من الكتب في مكتباتها معجبين به أيما إعجاب، ثم لم يرد فيما كتبا أي شيء عن المكتبة العامة التي زعم رواة الأسطورة أنها أحرقت بأمر خليفة المسلمين، وهذا دليل جديد يضاف إلى ما تقدم من الأدلة على كذب الأسطورة وزيفها، فلما كتب حنا النقيوسي بعد الفتح وفصل أنباء عمرو بن العاص وأعماله، وأنحى بأشد اللائمة على المسلمين حتى فيما اضطروا إليه بحكم الحرب، لم يكتب مع ذلك كلمة عن مكتبة الإسكندرية وإحراقها، فانتفت هذه التهمة الباطلة انتفاء باتًّا، وزال كل ما يمكن أن يبقى في نفس أشد الناس للمسلمين عداوة من شبهة في أمرها.

لا حاجة لنا بعد هذه الأدلة كلها إلى بيان السخف الذي تنطوي عليه عبارة المؤرخين عن توزيع الكتب على الحمامات لتوقد فيها، وأن هذه الحمامات ظلت توقد منها ستة أشهر، وإذا كان لهذه العبارة دلالة فعلى أن المؤرخين لم يتورعوا فنسجوا أباطيلهم من أوهام خيالهم ليختموا عبارتهم بمثل قول القفطي: «فاسمع لما جرى واعجب!» ولو أن النقد العلمي عُرف في تلك العصور لما بقيت هذه الأسطورة أسابيع قبل أن يفندها الناقدون، ولَعُدَّ راويها مهرجًا لا يصح الاعتداد برأيه أو الاستماع إلى قوله.

كيف تسنى لأسطورة تقوم هذه الأدلة الكثيرة على بطلانها أن تبقى قرونًا، وألا يرى بعض المؤرخين المسلمين بأسًا بروايتها وبتصديقها؟ السبب عندي واضح بين، وهو الفرق بين عقلية المسلمين في القرن الأول، وعقلية المسلمين في القرن السابع الهجري والقرون التي تلته.

كان المسلمون في عهد الرسول وفي عهد الخلفاء الأولين يرون واجبًا عليهم أن ينظروا في الكون، وأن يلتمسوا أسراره ليقفوا على سنة الله فيه، ولم يكن لوسائلهم في هذا النظر وفي التماس هذه الأسرار حد بل كانت حرية التفكير مطلقة لهم وكانت السبب في قوة إيمانهم، كان الاطلاع على تفكير غيرهم والوقوف على ما كتبه الأولون جائزًا عندهم بل واجبًا عليهم، لم يكونوا يهابون مواجهة الباطل؛ لأن قلوبهم كانت سليمة وبصائرهم كانت مستنيرة، ولأن التفاصيل لما تكن قد طغت عليهم فقيدت عقولهم وأفئدتهم وسجنتها في قوالب صلبة لا يجدون عنها حِوَلًا، لذلك كانوا يجتهدون، فلا يُنقِص اختلافُهم قَدْرَ أي منهم؛ لأنهم كانوا جميعًا متضامنين، يؤمن كل واحد منهم بأن صاحبه يريد باجتهاده خير الإسلام والمسلمين جميعًا، وقد رأيت كيف اختلف عمر وأبو عُبَيْدَةَ عام الطاعون، فلم يغير ذلك من احترام أمير المؤمنين لأمين الأمة، ولا من إكبار أمين الأمة لأمير المؤمنين.

وأدى اجتهادهم إلى سعة في آفاق الفهم، بلغت بالخلفاء في عهد العباسيين أن يأمروا بترجمة كتب اليونان والفرس وغيرهم من الأمم في الطب والرياضة والحكمة والفلسفة، ثم لم يخشوا أن تزيغ ترجمتها العقائد أو تفسد النفوس، قوم ذلك شأنهم لا يمكن أن يُعزى لأحدهم أن يقول: «أما الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه.» فقد كانوا يعلمون أن كتاب الله لم يفصل علوم الطب والرياضة والهندسة وغيرها من العلوم والفنون الكثيرة، وأن معرفة ما كتب في هذه العلوم على حقيقته من أقوم السبل لمعرفة سنة الله في الكون.

فلما بدأ المسلمون يتراشقون بالاتهام بزيغ العقيدة عند الاختلاف في الرأي، تدهورت العقلية الإسلامية إلى الهاوية التي تدهورت إليها العقلية المسيحية من قبل، فجمد الناس على مذاهبهم، وأصبح الاتهام بالمروق والزندقة أيسر ما يجري على ألسنتهم، وصار التعرض بالنقد لأمر مُقَرر تجديفًا لا يغامر به إلا مجازف بأن يتهم في دينه، وأن يصيبه من جراء ذلك أعظم الحيف في رزقه وفي حريته وفي حياته، وذلك هو السبب في أنك قلما تعثر في كتب المتأخرين على نقد لرأي سلف، بل تراهم يكتفون بإثبات ما ذكره الذين من قبلهم وإن اختلفت الروايات فبلغ اختلافهم حد التناقض والتضارب، فإذا لم يُطق أحدهم على تناقضها صبرًا لم يفكر في تقويم معوجها وتصحيح باطلها، بل يكتفي بعد إيراد الروايات جميعًا بقوله: «والله أعلم، كذلك قيل.»

وقد أصابهم الجمود أول الأمر في شئون العقائد والعبادات وأصول النقد، لكن هذا الجمود سرعان ما امتد إلى سائر العلوم والفنون، والتاريخ من بينها، ذلك لأن العقل لا يمكن أن يكون حرًّا طليقًا في ناحية جامدًا مقيدًا في ناحية أخرى، وهو متى رضي أن يرسف في القيود فجمد عن البحث في أصول العقائد والتشريع، أصبح الجمود عادة له ونظامًا يجري عليه في كل شئونه، ولا عجب! فأنت لا تستطيع أن تقيم حدًّا فاصلًا بين علم وآخر، أو بين علم من العلوم وفن من الفنون تتداخل كلها وتتعاون، فإذا كان العقل حرًّا في ناحية لم يستطع أن ينزل عن حريته في ناحية أخرى، وإذا جمد في ناحية جمد في سائر النواحي فركد نشاطه وذبلت حيويته، وذلك ما حدث في العهود الإسلامية المتأخرة فأدى بالمؤرخين المسلمين إلى تصديق أسطورة باطلة كأسطورة مكتبة الإسكندرية وإحراقها بأمر الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.

وهذا أمر يؤسف عليه أشد الأسف؛ فقد كانت الحرية العقلية جوهر الإسلام، والأساس المتين للحياة الإسلامية في عهودها الأولى، وهذه الحرية العقلية هي التي طوعت للمسلمين أن يبلغوا من الرفعة ما بلغوا، وأن تمتد إمبراطوريتهم في أعوام معدودة إلى المدى العظيم الذي امتدت إليه.

وهذه الحرية العقلية التي أقرها الإسلام هي التي زادت العرب اعتدادًا بأنفسهم، واعتزازًا بكرامتهم وحرصًا على المساواة التي كانت سليقة فيهم من بدء نشأتهم، فقد كان العربي في باديته وفي حضره يجعل حياته ثمن حريته، يدفع عنها كل من ينتقص منها، ولا يرضاها إلا كاملة طليقة كالهواء الذي يتنفسه، على أن عقائدهم الوثَنِيَّة كانت غُلًّا في أعناقهم أثقلهم وقعد بهم عن التطلع إلى مثلٍ أعلى يتوجهون إليه بقلوبهم، ويهبون له حياتهم، فلما حطم الإسلام هذا الغل وأطلق حريتهم العقلية من عقالها انتشروا في الأرض كما رأيت، ثم زادهم الإيمان الصادق بالمساواة والإخاء بين المؤمنين جميعًا حرصًا على حريتهم وعلى كرامتهم، فلم يكن أحدهم ينزل عنهما أو يفرط فيهما، ولم يكن يرضى من أحد ولا من أمير المؤمنين نفسه أن يمسهما، وظل ذلك شأنهم في القرون الأولى فزادهم قوة وسلطانًا، فلما آن للزمن أن يدور دورته، ونزل المسلمون شيئًا فشيئًا عن الحرية ثم رضوا بالجمود العقلي، دب فيهم دبيب الانحلال، وبدءوا يصدقون أساطير كأسطورة عروس النيل، وحريق مكتبة الإسكندرية بأمر عمر.

هذه الحرية العقلية هي التي مكنت لعمرو بن العاص أن يسوس مصر كما رأيت، وأن يُوفق غاية التوفيق في تألف أهلها مع اختلافهم مع العرب في الجنس واللغة والدين، وقد اغتبط عمر بما عرف من ذلك أول الأمر، ثم لم يلبث أن خالف عمرًا فيما اتصل من سياسته بتخفيف الضرائب مخالفة بلغت مبلغ المؤاخذة، وكتب إليه في ذلك مرات فلم يغير عمرو من رأيه ولا من خطته، بل أصر على ذلك إصرارًا أقام الشبهات في نفس عمر، وهذه الشبهات هي التي جعلت الرجلين يتبادلان من الكتب ما لا يستطاع تصور مثله في العصر الحاضر، وكيف تستطيع أن تتصوره وقد وقف ابن العاص من أمير المؤمنين موقف الند من نده، مع ما يعرفه من شدة عمر على عماله، حتى ليسرع إلى عزلهم متى زايلت نفسه الطمأنينة إلى عدلهم وأمانتهم!

فقد كان عمرو بن العاص حريصًا كل الحرص على أن يتألف المصريين وألا يرهقهم وأن يقوم من إصلاح شئونهم بما يرضيه، فكان يُنفق من خراج مصر ومن الجزية المضروبة على أهلها ما يحتاج إلى إنفاقه في حفر خلجانها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها وقطع جزائرها، ثم يبعث ما يبقى بعد ذلك إلى أمير المؤمنين، وقد احتاج تعمير البلاد أول الفتح إلى كثير من النفقة، فقد بدأ عمرو أول ما استقر به الأمر، فحفر خليج تراجان — وهو الخليج الذي أطلق عليه من بعد اسم خليج أمير المؤمنين — كما أخذ نفسه بإصلاح ما أفسده الروم من مرافق البلاد، هذا إلى أنه أعفى القرى التي أصابها الخراب من الجباية، وكان عمر في حاجة إلى المال لتنفيذ سياسته في شبه الجزيرة وكان لذلك يلح على عمرو ليبعث إليه بالخراج كاملًا، فلا يجد منه إسراعًا إلى تلبيته لما يريد تشبثًا منه هو أيضًا بسياسته، وضاق عمر بذلك ذرعًا، فكانت بين الرجلين تلك الكتب العنيفة بلغ عنفها وبلغت شدتها حد الاتهام.

وأول ما يورده المؤرخون من هذه الكتب كتاب من عمر إلى عمرو يقول فيه:

أما بعد، فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددًا وجلدًا وقوة في بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملًا محكمًا مع شدة عُتُوِّهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تُؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أنه سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إليَّ ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تبعث بها لا توافق الذي في نفسي، ولست قابلًا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقَبَّضك، فلئن كنت مُجْزِئًا كافيًا صحيحًا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مُضيِّعًا نَطِفًا إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت أن أبتغي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إليَّ ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك عمال السوء، وما تُوالَس عليه وتُلَفَّف، اتخذوك كهفًا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك عنه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتُعطاه، فإن النَّهْزَ يُخرج الدَّرَّ، والحقُّ أبْلَجُ، ودعني وما عنه تلجلج، فإنه قد برح الخفاء، والسلام.

هذا كتاب لُحمته اللوم وسداه التهديد، فهل تراه أزعج عمرًا أو دفعه لأن يعدل عن سياسته؟! كلا! بل أجاب أمير المؤمنين بكتاب جمع إلى الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالكرامة، حرصًا أصدق الحرص على هذه السياسة، ودفعًا للتهمة التي وجهت إليه بلغة لا تقل شدة في لهجتها عن لغة أمير المؤمنين، فقد أجاب كتاب عمر يقول:

أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها منذ كان الإسلام، ولعمري قد كان الخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم، أرغب في عمارة أرضهم منا منذ كان الإسلام، وذكرت أن النهز يخرج الدر فحلبتها حلبًا قطع ذلك درها، وأكثرت في كتابك وأنَّبت وعرَّضت وثرَّبت، وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبير، فجئت لعمري بالمُفْظِعات المُقْذِعات، ولقد كان لك فيه من الصواب رصين صارم بليغ صادق، وقد عملنا لرسول الله ومن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحًا والعمل به شينًا، فيعرف ذلك لنا ويصدق فيه قيلُنا، معاذ الله من تلك الطُّعم، ومن شر الشِّيم والاجتراء على كل مأثم، فاقبض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك النعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبقِ فيه عِرضًا ولم تُكرم فيه أخًا، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد لنفسي غضبًا ولها إنزاهًا وإكرامًا، وما عملت من عمل أرى عليَّ فيه مُتَعَلَّقًا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنتُ من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا! وسكتُّ عن أشياء كنت بها عالمًا وكان اللسان بها مني ذلولًا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يُجهل، والسلام.

لم ينزعج عمر بن الخطاب لهذا الكتاب، بل رأى أن يأخذ ابن العاص بالشدة، وألا تلين قناته له مخافة استرساله، فكتب إليه يقول:

أما بعد، فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إليَّ بِبُنَيَّات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك إلى مصر أجعلها طعمة لك ولا لقومك؛ ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام.

كان جواب عمرو على هذا الخطاب أقل عنفًا، ولكن إصراره فيه على سياسته لم يكن أقل وضوحًا وبروزًا، ترى ذلك صريحًا في قوله:

أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج، ويزعم أني أعنِد عن الحق وأنكب عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم! ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت، فكان الرفق بهم خيرًا من أن يُخرق بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه والسلام.

لعلك توافقني، وقد قرأت هذه الكتب، على أنه لا يسهل علينا تصور إمكانها اليوم بين حاكم له سلطان عمر، وعامله على بلاد فتحها، فهذا ابن العاص يصر على ألا يُرهق المصريين بجباية الخراج قبل أن يدرك الزرع، وألا يزيده عليهم حتى لا يؤذيهم ويحملهم على بيع ما هم في حاجة إليه لمعاشهم وسعيهم، ويرى في الرفق بهم ما يزيدهم حرصًا على أداء ما يُطلب منهم من غير تذمر أو شكاية، وهذا عمر يرى الخراج الذي يُجْبَى من مصر دون ما كان يجبيه الروم وما كان يجبيه الفراعنة،١٢ فلا يرى في حجج عمرو إلا تسويفًا ومطلًا وتعللًا غير مقبول، ثم يبلغ الريب منه فيها أن يراها معاذير يشوبها الكذب، يريد ابن العاص أن يستر تقصيره، بل أن يستر ما يضمره لنفسه ولقومه من ملك مصر الطويل العريض.

ولقد ضاق عمر آخر الأمر ذرعًا بهذه الكتب، ورأى فيها نذيرًا إن لم يتداركه بما عرف من شدته تفاقم الأمر بينه وبين عمرو تفاقمًا قد ينتهي إلى غير ما يحب؛ لذلك انتقل إلى الاتهام الصريح، ثم إلى التحقيق مع عمرو فيما كسب من مال في أثناء ولايته مصر، فقد كتب إليه يقول: «إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن لك حين وُلِّيت مصر.» وأجابه عمرو: «إن أرضنا أرض مُزْدَرَعٍ ومتجرٍ، فنحن نصيب فضلًا عما نحتاج إليه لنفقتنا.» فكان رد الخليفة: «إني قد خبرت من عمال السَّوْء ما كفى، وكتابك إليَّ كتاب مَنْ قد أقلقه الأخذ بالحق، وقد سُؤْتُ بك ظنًّا، ووجهت إليك محمد بن مَسْلَمة ليقاسمك مالك، فأطلِعْه طِلْعَه وأخرِجْ إليه ما يُطالبك، وأعْفِه من الغِلْظة عليك فإنه بَرِح الخفاء.»

وذهب ابن مَسْلَمَةَ إلى مصر فقاسم عمرًا ماله، فقال له عمرو: «إن زمانًا عاملنا فيه ابن حَنْتَمَةَ هذه المعاملة لزمان سوء! لقد كان العاص يلبس الخز بكِفَاف الديباج.» وأجابه ابن مَسْلَمَةَ: «مه! لولا زمان ابن حَنْتَمَةَ هذا الذي تكرهه ألفيتَ مُعْتَقِلًا عَنْزًا بفِناء بيتك يسرك غزرُها ويسوءُك بَكْؤُهَا.» قال عمرو: «أَنْشُدُكَ اللهَ ألا تخبر عمر بقولي؛ فإن المجالس بالأمانة.» وأجابه ابن مسلمة: «لا أذكر شيئًا مما جرى بيننا وعمر حي.»١٣

تشهد هذه الكتب التي تبودلت بين عمر وعمرو، كما يشهد ما دار من قبل بين عمر وخالد بن الوليد، بما كان عليه هؤلاء المسلمون الأولون من حرية، ومن اعتداد بالنفس واعتزاز بالكرامة في غير كبرياء باطل، لقد كانوا يحترمون النظام، ولا يتجاهلون ما جعله الله وجعله الإسلام للخليفة من حق، لكن احترامهم النظام وعرفانهم حق الخليفة، لم يكن لِيَنْسِيَهُمْ كرامتهم وحريتهم ومساواتهم للخليفة فيما يجب عليه من احترام حقهم بقدر ما يجب عليهم من احترام حقه، لم يكن النظام عندهم ذلًّا ولا عبودية، ولم تكن حقوق الخليفة لتطغى على حقوقهم ولم يكن سلطانه ليضعف من حريتهم ومن اعتزازهم بكرامتهم، بل كانت الحرية والنظام يتوازيان فلا يطغى أحدهما على الآخر، بل يؤيد كل منهما الآخر ويزيده ثباتًا وقوة، فإذا قامت في نفس الخليفة شبهة من رجل فاتهمه ثم تبين له أنه ظلمه، رأى الحق لهذا الرجل عليه أن يعتذر من اتهامه، وأن يعلن على رءوس الأشهاد براءته، وإذا اقتضى النظام أو قضت المصلحة العامة بعزل رجل من عمله لغير ريبة فيه، أعلن الخليفة سبب عزله، حتى لا تثور شبهة من الشبهات حوله، وقد كان هذا الاحترام المتبادل، وهذا التقديس للحرية والنظام جميعًا، من أسباب القوة التي يسرت للمسلمين أن ينشروا في العالم حضارة استقرت فيه دهرًا طويلًا.

كان عمر، على احترامه لهذا النظام أصدق الاحترام، لا يتردد في عزل كل عامل لا تنتفي الشبهات من نفسه في أمره، بل يرى ذلك واجبًا عليه وجوب احترامه للحرية والنظام، وقد رأيت في هذه الكتب التي تبودلت بينه وبين عمرو أنه كان موشكًا أن يعزله، ولعله كان فاعلًا لولا أنه قُتل بعد قليل من تبادل هذه الكتب ومن مقاسمة عمرو ماله، فبقي عمرو معلقًا، لكن هذا التعليق لم يدم طويلًا في خلافة عثمان بن عفان.

ترى لو أن عمر لم يُقْتل وعزل عمرًا، أفكان يتعصب لابن العاص أقوام كما تعصب لخالد بن الوليد يوم عزله عمر أقوام؟ وهل كان عمر يُتَّهم في تصرفه هذا كما اتُّهِمَ في تصرفه بعزل خالد؟ أو أن فاتح مصر لم يكن له من الأنصار ما كان لسيف الله، وأنه كان متهمًا عند الناس بما اتهمه الخليفة به، فما كان عزله ليثير ثائرة أو ليزعج أحدًا؟!

يتعذر الجواب عن هذا السؤال؛ فقد عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي السرح، فلم يذكر المؤرخون المسلمون عما أثاره هذا العزل شيئًا يشبه ما ذكروا لعزل خالد بن الوليد، أفيرجع ذلك إلى أن عمرًا كان يفيد من مصر لنفسه ولقومه فلم يغضب أحد منهم لعزله، بل لم يُعْنَ أحد منهم بأمره؟ أم أن قومًا تعصبوا لعمرو بالفعل، وروى الرواة ما حدث من ذلك، ثم أهمل المؤرخون ذكره؛ لأنهم رأوا في ممالأة عمرو لمعاوية في خلافه مع علي بن أبي طالب ما صرفهم عن ذكره؟ أيًّا ما يكن الأمر فإن الدولة الإسلامية مدينة لعمرو بفتح مصر، مدينة له بحسن سياستها وتألف قلوب أهلها، وذلك دَيْنٌ لم يكن ليجزيه ما قيل إنه أفاده لنفسه إن صح، صحيح أن نزاهة الحكم يجب أن تسمو على كل اعتبار؛ لكنا لم نجد فيما نسب إلى عمرو ما يدل على أنه خالف النزاهة مخالفة تسوغ الغَمْطَ من حقه أو التهوين من جليل عمله.

ويزيدنا إكبارًا لعمرو وتنويهًا بفضله أن ما حدث من عزله لم يدفعه للنكول من بعد عن أداء واجبه، فقد أقام بمكة في حين كان عبد الله بن سعد بمصر يُرهق أهل الإسكندرية بالضرائب فيدفعهم للتذمر، ويدفع الروم منهم أن يكتبوا إلى قيصر بالقسطنطينية أن الفرصة سانحة له ليأخذ بثأره، وقد استجاب قيصر لهذا النداء؛ فبعث القائد «مانويل» في جند كثيف حمله أسطول مؤلف من ثلاثمائة سفينة سار بهم إلى الإسكندرية وأنزلهم بها، فاحتلوها وقتلوا جند المسلمين المرابطين فيها، وأذاعوا الرعب في قلوب أهلها، ووضعوا أيديهم على كل مرافقها، ولم يستطع عبد الله بن سعد مقاومة هذا الغزو، فبعث إلى الخليفة يستنجده، ودعا الخليفة عمرو بن العاص وطلب إليه أن يعود إلى مصر ليقاتل الروم، فلم يتردد،١٤ ولم يجعل من حفيظته لعزله أي أثر في نفسه، بل سار حتى بلغ بابليون حين كان مانويل وجنوده يتقدمون في مصر السفلى، ولقيهم عمرو بنقيوس فهزمهم وردهم إلى الإسكندرية فتحصنوا بها ولما رأى عمرو حصون المدينة تقاومه أسف أن ترك هذه الحصون قائمة، وأقسم: لئن أظفره الله بالمدينة ليهدمن أسوارها، حتى تكون مثل بيت الزانية تؤتَى من كل مكان! وذكر المصريون ما كان من رفقة بهم وحسن سياسته فيهم، فأعانوه على عدوه فظفر به ثم حطم حصون الإسكندرية وأسوارها بعد أن قتل مُقَاتِلتها، وأخذ النساء والذراري فجعلهم فيئًا.

وأراد عثمان بن عفان مكافأة عمرو بأن يجعله أميرًا على جند مصر، مع بقاء عبد الله بن سعد واليها وصاحب خراجها؛ فرفض عمرو عرض الخليفة وقال: «أنا إذن كماسك البقرة بقَرْنَيْها، وآخر يحلبها!» وعاد إلى مكة حتى آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، فولاه مصر وأطلق يده فيها، وساس ابن العاص مصر بحكمته وحسن رأيه، وظل مقيمًا بها إلى آخر عمره، ثم مات بها ودفن فيها، ولكن الزمن عفَّى على قبره، فما من أحد يعرف اليوم مكانه.

لم نفصل أعمال عمرو بمصر بعد عهد عمر؛ لأنها لا تدخل في نطاق هذا الكتاب، فلنعد بذاكرتنا إلى ما أثبتناه فيه، مذ بدأ عمرو يفكر في فتح مصر، لنذكر ما كان لهذا الرجل من فضل في نقل مصر من يد الروم إلى يد المسلمين، فهو الذي سار إليها في جند لا يبلغ أربعة الآلاف، وهو الذي فتحها بهذا الجند وبالمدد القليل الذي أمده الخليفة به، وهو الذي وجه سياستها، ونظم حكمها، ودبر أمورها، وتألف أهلها، وليس يغلو لذلك من يقول: إن مصر الإسلامية مدينة بوجودها لعمرو بن العاص، دينًا لا تعرف العراق ولا الشام ولا الفرس دينًا مثله لفاتح من المسلمين.

الآن فرغنا مما تم في عهد عمر من فتوح عظيمة هزت العالم وبهرت المؤرخين، وقد تركنا شبه الجزيرة، في أثناء هذه الفتوح، لنرى كيف أدال الغزاة العرب من دولة كسرى ومن دولة قيصر، فلنعد كرَّة أخرى إلى المدينة، ولنقف إلى جانب عمر، لنرى كيف تطورت شبه الجزيرة في عهده، وكيف واجه أهلها هذه الأطوار الجسيمة التي حدثت تحت سمعهم وأبصارهم، وسيرى القارئ معنا أن ما تم من ذلك لم يكن أقل عظمة ولا جلالًا من عظمة الفتوح وجلالها، وأنه كان أكثر من الفتوح بقاء على الزمن، وأعمق منها أثرًا في حياة العالم كله.

هوامش

(١) في رواية أوردها البلاذُري أن عمرو بن العاص صالح أهل أنطابلس ومدينتها برقة، وهي بين مصر وإفريقية، بعد أن حاصرهم وقاتلهم، على الجزية على أن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا في جزيتهم. وكتب لهم بذلك كتابًا. ولو كانوا عبيدًا ما حل ذلك منهم.
(٢) أكبر تلك القبائل لواتة. يقول السيوطي في حسن المحاضرة: «وكان البربر بفلسطين وكان ملكهم جالوت. فلما قتله داود (ص) خرج البربر متوجهين إلى المغرب حتى انتهوا إلى لوبية، فتفرقوا هنالك، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى المغرب وسكنوا الجبال، وتقدمت لواته فسكنوا أرض أنطابلس وهي برقة، وتفرقت في هذا المغرب وانتشرت فيه، ونزلت هوارة مدينة لبدة.»
(٣) لصوت: جَمع لصت — بفتح اللام — وهو اللص.
(٤) في لسان العرب أن الفسطاط مجتمع أهل الكورة حوالي مسجد جماعتهم. وقد أورد في الفسطاط ست لغات؛ منها الفسساط ولا ضرورة لذكر سائرها. ويذهب بعض العلماء إلى أن كلمة الفسطاط مأخوذة من كلمة Fossatum البيزنطية الأصل، ومعناها العسكر أو المدينة المحصنة، وأن العرب سمعوها في الشام وفي مصر فأدخلوها لغتهم.
(٥) بتلر: الترجمة العربية ص٣٨٥.
(٦) وإن العلامة فيل ليذكر أن فرعون مصر «نخاو» قد حفر خليجًا في برزخ السويس، من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.
(٧) راجع كتاب: «الامتيازات والإعفاءات التي يتمتع بها الأجانب في مصر»؛ وهو بالفرنسية لبهي الدين بركات باشا: ص٣٥–٤٧.
(٨) انظر كتاب: Legrain: Louqsor sans les Pharaons.
(٩) استند الأستاذ سليم حسن في تفنيد هذه الأسطورة إلى ورقة هاريس Harris Papyrus I. W. Erichsn 1–37–41 وإلى مصادر أخرى، منها كتاب ماسبيرو The Dawn of Civilisation ص٣٩ وما بعدها، وكتاب شارل بالانك: Le Nil à I epoque Pharaonique ص٦٩ وما بعدها … إلخ.
(١٠) يسميه المؤرخون المسلمون «يحيى».
(١١) بحث بتلر أمر مكتبة السرابيوم بحثًا مفصلًا استغرق تسع صفحات. فليرجع إليه من شاء: (ص٢٥٧–٣٦٦: الترجمة العربية).
(١٢) قيل إن الروم كانوا يجبون من مصر عشرين ألف ألف دينار، وإن الفراعنة كانوا يجبون منها تسعين ألف ألف دينار، وإن خراجها في عهد يوسف عليه السلام بلغ ثلاثة وسبعين ألف ألف دينار إسلامية. أما ما كان يبعث به عمرو فاختلف فيه: قيل: كان اثني عشر ألف ألف، وقيل: كان في السنة الأولى دون ذلك بكثير حتى قدره البلاذُري بألفي ألف وقدره غيره بأربعة آلاف ألف دينار.
(١٣) نقلنا نصوص ما جرى بين عمرو وابن مَسْلَمَةَ عن البلاذُري. وقد أثبتنا، في الفصل الأول من هذا الكتاب، رواية ابن عبد ربه في العقد الفريد لهذه النصوص، مع تنقيح بعض الكلمات من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. والروايتان لا يختلف جوهرهما وإن اختلفت تفاصيلهما، وهما تدلان على أن الأمر كان قد بلغ بين الخليفة وعامله غاية الدقة.
(١٤) تجرى بعض الروايات بأن عثمان لما يكن قد عزل عمرًا عن مصر حين هاجم مانويل الإسكندرية، وأن عمرًا إنما قام بواجب الوالي حين قاتل الروم. وتجرى روايات أخرى بأن عثمان كان قد عزله، لكنه كان لا يزال مقيمًا بمصر. فلما دُعي لقتال الروم، بعد فشل ابن أبي سرح، استجاب للدعوة طمعًا في أن يعود إلى ولايته التي عُزل منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤