الفصل الثاني والعشرون

حكومة عمر

كان عهد عمر كما رأيت عهد غزو وفتح؛ حالف النصر فيه أعلام المسلمين، فامتدت دولتهم حتى جاورت أفغانستان والصين شرقًا؛ والأناضول وبحر قزوين شمالًا، وتونس وما وراءها من إفريقية الشمالية غربًا، وبلاد النوبة جنوبًا، هذا مع أن التوسع في الفتح لبلوغ هذه الأرجاء لم يكن مما أراده عمر أو أراده أبو بكر من قبله؛ وإنما كانت سياسة عمر أن يجمع الجنس العربي في وحدة تمتد من خليج عدن جنوبًا إلى أقصى الشمال من بادية السماوة، وأن يدخل العراق والشام في هذه الوحدة؛ لأن السلطان فيها كان للَّخْمِيين والغَسَّانيين من العرب، فلما تم له ما أراد من ذلك ود لو يقف جنده في هذه الحدود لا يتعدَّوْها، وتمنى لو أن بينه وبين الفرس جبلًا من نار لا يخلُصون إليه ولا يخلُص إليهم منه، ولو أن بينه وبين الروم سدًّا يحول بينهم وبين استرداد ما فتحه من أرضهم، لكن الحوادث كثيرًا ما كانت أقوى من الرجال، والحوادث هي التي دفعت المسلمين إلى متابعة الفتح، والبلوغ به إلى المدى الذي رأيت.

وقد أذهل هذا الفتح عالم يومئذ، وأدهش المؤرخين الذين فصلوا حوادثه وحاولوا استقصاء أسبابه، وقد أشرت من قبل إلى ما اتصل من هذه الأسباب بنفسية المسلمين الغزاة ونفسية خصومهم من الفرس والروم، وثَمَّ عامل آخر كان له أثر كبير في امتداد الفتح: ذلك نظام الحكم في شبه الجزيرة، فقد تطور هذا النظام، خلال السنوات العشرين التي تلت هجرة الرسول، تطورًا مكن الأمة العربية من مواجهة تلك الأحداث التاريخية الجليلة في طمأنينة زادتها اعتزازًا بنفسها، وشعورًا بقوتها، وإيمانًا بأن عليها رسالة يجب أن تؤديها للعالم، ويجب أن يسمع العالم لها؛ لذلك لم يقف في سبيلها سلطان، ولم تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.

لم يكن هذا النظام نتيجة تفكير منطقي، ولا عملًا من أعمال الفقهاء والمشترعين اجتمعوا له ونظروا فيه وانتهوا إلى تدوينه، ثم أمر رسول الله أو أمر خلفاؤه بتنفيذه، كلا! فقد كانت هذه الدولة الناشئة تنمو في سرعة دونها سرعة الناشئ في نموه من الطفولة إلى الصبا فإلى الشباب؛ لذلك لم يكن بد لمن وَلِيَ أمرها من أن يلحظ أحوالها تبعًا لأطوار نموها، وأن يجعل همه أول كل شيء إلى تنظيم مركز القوة الدافعة لهذا التطور وهذا النمو، وأن يعمل على توثيق الروابط بين أجزاء الدولة وتوكيد تضامنها، وإنما بدأ انبعاث هذه القوة الدافعة من بلاد العرب قبل أن تلتئم وحدتها، أو يستقر بها نظام ثابت يصدر عنها ويمتد منها إلى غيرها من الأمم، فقد كان النظام الموحَّد المستقر معروفًا في البلاد المجاورة لها قبل أن تعرفه هي، ثم كان النظام الفارسي مبسوطًا في العراق، والنظام البزنطي مبسوطًا في الشام، ولم يفكر أحد من أهل المدينة في استعارة أي من هذين النظامين، ولم يحاول أحد فيها أن يسطر على الورق نظامًا عربيًّا كله، أو إسلاميًّا كله، يطبق في بلاد الدولة أدانيها وأقاصيها، ولو أن أحدهم فكر في مثل هذه المحاولة لقضى السنين يسطر ويمحو ويثبت حتى تلتئم لهذا النظام وحده تجري في مختلف أجزائه، وما كان عهد الفتح الفسيح السريع الخطا ليتسع لشيء من هذا ولا ليطيقه، فعهد الفتح، بطبعه، عهد اجتهاد تمليه أحداث الساعة وتقضي بها أطوارها، فإذا أسرع الفتح ما أسرع في عهد أبي بكر وعمر، وجب أن يستند النظام إلى بديهة ولي الأمر أكثر من استناده إلى منطقه، وأن يساير ولي الأمر الفتح في أطواره لا يسبقها ولا يستأخر عنها.

وذلك ما حدث منذ انضوت بلاد العرب كلها إلى لواء الإسلام بعد فتح مكة والطائف، فقد أقبلت الوفود من أرجاء شبه الجزيرة تترى إلى المدينة تعلن بين يدي رسول الله إسلامها، وجعل رسول الله يبعث عماله إلى مختلف الأرجاء يفقهون الناس في الدين، ويجبون منهم الصدقات، تاركًا للأمراء الذين أسلموا ما كان لهم من سلطان في بلادهم قبل إسلامهم؛ ينهضون به في حدود النظام المتوارث عندهم، بعد أن يدخلوا عليه من التعديل ما جاء الإسلام به، فلما اختار الله إليه رسوله وبايع أهل المدينة أبا بكر بالخلافة، فبعث عماله يجبون ما كانوا يجبونه من الصدقات لعهد النبي، بَرِمَ العرب بهذا الأمر ولم يرضوا عنه، وعدوه انتقاصًا من استقلالهم السياسي ومن حريتهم المدنية، وأصروا لذلك على دفعه، وكذلك قامت حروب الرِّدَّة، ثم انتهت بظفر أبي بكر واستقرار السلطان بالمدينة، وهذا الظفر هو الذي مهد للوحدة السياسية في بلاد العرب، فلما تولى عمر بعد أبي بكر جعل همه إلى تنظيم هذه الوحدة تنظيمًا لا يغلو من يقول إنه كان تتويجًا للثورة الروحية الكبرى، ورفعًا للقواعد من سلطانها الثابت في العالم.

كان ذلك شأن العصر الذي بدأ فيه انتشار الإسلام واستقراره، ولذلك كانت سيرة القائم بالنظام وتعاليمه هي صورة هذا النظام المتصل بشخصه، المرتبط بتصرفاته وأحكامه، فسيرة رسول الله هي النظام الروحي للإسلام، وبُداءة التصوير المدني لنظام الجماعة الإسلامية، وقد تطور هذا التصوير على الزمان متأثرًا بالأحوال المحيطة به، مع التزامه النطاق الذي فرضه القرآن للحياة الروحية وللحياة المدنية، ولئن ظل النظام السياسي في شبه الجزيرة قائمًا فلم يتغير في عهد الرسول عما كان عليه قبله، لقد تأثرت الحياة المدنية بأوامر القرآن ونواهيه تأثرًا كان له أعمق الأثر في كل ما تم من بعد، وكان أبو بكر خليقًا بعد أن قضى على الرِّدَّة واستفتح عهد الوحدة السياسية لبلاد العرب، أن ينظم هذه الوحدة وأن يضع أسسها ويرفع قواعدها، لكن التمهيد للفتح وللإمبراطورية في العراق والشام بدأ ولم تكن حروب الرِّدَّة قد انتهت، فلم يكن في مقدور الخليفة الأول أن ينصرف عن مواجهة الفرس والروم إلى تفصيل النظام الملائم للوضع الجديد، في بلاد كانت الثورة لا تزال قائمة في بعض أرجائها، ولم تكن أمورها قد اطمأنت إلى وحدة مستقرة.

مع هذا بدأت الوحدة السياسية تنتظم بلاد العرب من ذلك الحين شيئًا فشيئًا، ولا عجب، فحيثما تَجْرِ في البلاد المتجاورة أحكام متشابهة تَزُلِ الفوارقُ بينها في الحياة المدنية، فيَدُّك زوالها ما بين هذه البلاد من حوائل، وحينما يتم التوافق بين المثل الأعلى والغرض المشترك لأمم متجاورة، يصبح اندماج هذه الأمم أمرًا طبيعيًّا يُنضجه مر الزمن، ومنذ أسلم العرب تمت وحدتهم في العقائد والعادات والمعاملات … كان تحريم الربا والخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به، وكان الحد من تعدد الزوجات وتحريم وأد البنات، وكان تنظيم المعاملات وترتيب الميراث، مما بعث إلى حياتهم المدنية اتساقًا لم يكن مألوفًا من قبل، ثم زادت وحدة العقيدة والعبادة ما بينهم من وحدة الجنس ووحدة اللغة متانة وقوة، فلما قُضي على الرِّدَّة واندفع المسلمون إلى العراق والشام، وتجاوبت أجواء شبه الجزيرة بأنباء انتصارهم وبقوتهم على مواجهة الفرس والروم، زاد الاشتراك في الغزو والنصر وحدة العرب قوة، وجعلهم يشعرون بحاجتهم إلى التآزر والتضامن ليظل النصر حليفهم فتزداد بين أيديهم ثمراته؛ لذلك رأيت الذين منعهم أبو بكر من الاشتراك في حرب العراق والشام، لِمَا كان مِنْ رِدَّتِهِمْ، يودون على اختلاف قبائلهم ومواطنهم أن يشتركوا في هذه الحروب جهادًا في سبيل الله، وليكون لهم من مغانمها نصيب كنصيب الذين أقاموا على إسلامهم واشتركوا فيها منذ بدأت، فإذا أضفت إلى هذا كله ما هدى الإسلام العرب إليه من مثل أعلى أضاء لهم بنوره، وأراهم جلال الإيمان وجماله، وحبب إليهم الاستشهاد في سبيله، أدركت كيف كانت وحدة شبه الجزيرة تزداد على الأيام اتساقًا وقوة، وكيف كانت تتجه لتكون وحدة سياسية كاملة، وكيف كان الزمن ينضجها شيئًا فشيئًا.

لا ريب في أن القائمين بأمر الإسلام في شبه الجزيرة قد كانوا محور هذه الوحدة بقوة شخصياتهم وبتعاليمهم وأسوتهم، كان النبي العربي ورسالته بالإسلام مصدر هذه الوحدة وأساسها، وكان خليفته الأول هو الذي قضى على العوامل التي حاولت مقاومتها والقضاء عليها، وكذلك آل الأمر إلى عمر حين كانت وحدة شبه الجزيرة تتراءى خلال الحجب، وحين لم يكن لها مفر من أن تكمل، ما لم يضعف القائم بأعبائها دون الاضطلاع بالتَّبِعات الملقاة على عاتقه لتثبيتها وتوطيد دعائمها.

وما كان عمر بن الخطاب ليضعف؛ فقد كان له من قوة الشخصية وبروزها ما رأيت الكثير من مظاهره مجلوًّا في هذا الكتاب، وما كان له أثره البين قبل الإسلام وبعده، وكان هذا الأمر أشد وضوحًا بعد هجرة المسلمين إلى المدينة حيث كان عمر وزير رسول الله كما كان أبو بكر وزيره، كان عمر يخالف رسول الله في أمور أقر القرآن رأيه في بعضها كما كان في أسرى بدر، ثم كان له من صدق إيمانه بالله ورسوله ما يجعله أول المسلمين إذعانًا إذا نزل الوحي بما يخالف رأيه، وأول المسلمين تأسيًا برسول الله إذا جرت سنته بأمر من الأمور، وكان عمر يخالف أبا بكر في أثناء خلافته، فإذا أصر أبو بكر على رأي أطاعه عمر؛ لأنه ولي الأمر، لكن طاعته لم تمحُ في يوم من الأيام شخصيته، وتأسيه بالرسول لم يُنْسِه أن يفرق بين الثابت على الزمان من سنته ، وبين ما قضت به أحداث الوقت، فمن المستطاع مراجعته وإعادة النظر فيه من غير أن يكون ذلك إنكارًا له، اقتناعًا بأن رسول الله لو امتد به الأجل لراجعه وأعاد النظر فيه.

كانت الوحدة السياسية لبلاد العرب بعض ما شُغل به عمر في خلافه الصديق وإن لم يصرفه اشتغاله بها عن معاونته أبي بكر في تنفيذ سياسته أصدق المعاونة، فلما استُخلف كان تثبيت هذه الوحدة وتوطيد دعائمها أول ما اتجه إليه همه، وقد هداه تفكيره إلى أن هذه الوحدة لن تكون سليمة إلا أن تصفو من كل شائبة، وذلك بأن يكون الجنس العربي كله متحدًا في موطنه وفي عقيدته كاتحاده في لغته، واليهودية والنصرانية لا تزالان قائمتين في شبه الجزيرة أتراه يستطيع إجلاءهما عنها من غير أن يخالف كتاب الله وسنة رسوله؟

لقد وادع رسول الله اليهود أول ما نزل بيثرب، فلما نقضوا عهدهم وحاولوا الغدر به، أجلاهم عن المدينة، ثم أجلاهم عن أكثر مواطنهم من شبه الجزيرة لما ناصبوه العداوة، ألا يدل ذلك على أن بقاء اليهود في مواطنهم لم يكن حقًّا لهم يجب احترامه، وأن موادعتهم كانت سياسة قضت بها مصلحة الدولة أول العهد بيثرب، فلما رأى الرسول مصلحة الدولة العليا لا تستقيم بها عدل عنها إلى سياسة غيرها! ومصلحة الدولة العليا توجب في رأي عمر أن توحد العقيدة في شبه الجزيرة كلها؛ لذلك كان من أول ما استفتح به عهده أن أجلى نصارى نجران عن شبه الجزيرة، فأمر يَعْلى بن أُمَية ألا يفتنهم عن دينهم، وأن يخرج منهم من أقام على نصرانيته، وأن يعطوا بالعراق أرضًا كأرضهم بنجران، وأن تحسن معاملتهم، كذلك فعل بمن بقي من اليهود بخيبر أو بفدك: أجلاهم عن أرضهم إلى الشام، وعوضهم عنها بمال يعدل قيمتها، ولم يسئ إلى أحد منهم، بذلك خلصت شبه الجزيرة من كل عقيدة إلا الإسلام، فتوطدت فيها قواعد الوحدة التي قصد إليها أمير المؤمنين.

هذا تصوير واضح للباعث الذي دفع عمر إلى إخراج اليهود والنصارى من شبه الجزيرة، وهو في ذلك لم يخالف سنة ولم يخرج عليها، فعهد رسول الله مع اليهود والنصارى لم يكن سُنَّة تُثبِت حكمًا، بل كان سياسة تغيرت في عهد الرسول، فلا بأس بأن تتغير بعده، وإنما غيرها عمر؛ لأن أحداث الوقت، وامتداد الفتح، وشدة الحرص على تمكين أواصر الوحدة في شبه الجزيرة قضت بتغييرها، وما كان عمر ليجمد على عهد تغير عليه العهد، وأصبح مضرًّا بمصلحة الدولة وسياستها العليا، فكيف به وهو موقوت بطبيعته؛ ينقضي بانقضاء مدته، ولا يتجدد إلا إذا رضي أمير المؤمنين تجديده!

لا يحسب أحد أني أنسب لعمر ما لم يدر بخاطره من التفكير في وحدة العرب؛ فقد أجمع المؤرخون على أنه استند في إجلاء اليهود والنصارى على ما روي عن رسول الله أنه قال: «لا يجتمع ببلاد العرب دينان.» وما ذكره البلاذُري وغيره من أن عمر رأى أن أهل نجران كثروا، فخافهم على الإسلام، فأجلاهم، وأمر عماله بالعراق والشام أن يعوضوهم من أرضهم وأن يحسنوا معاملتهم، ولو أنه أجلاهم لأنهم نقضوا عهدهم لما لطف بهم كل هذا اللطف، ولما أحسن معاملتهم كل هذا الإحسان.

لا يكفي لتثبيت دعائم الوحدة في بلاد العرب ألا يبقى بها دين غير الإسلام، إذا بقي من الفوارق بين أهلها ما يجعلهم يشعرون بأن بعضهم أكثر حرية أو أوفر كرامة من بعض، وإذا لم تقم المساواة الصحيحة بينهم علمًا على سلامة تضامنهم، وقد بقيت بعض الفوارق بينهم بسبب الرِّدَّة والحروب التي قضت عليها، أما وعمر يريد الوحدة صحيحة فلا بد من القضاء على هذه الفوارق بإزالة أسبابها؛ لذا رفع عن أهل الرِّدَّة ما كان أبو بكر قد فرضه عليهم ألا يحاربوا في صفوف المسلمين! كما أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم ورد حريتهم إليهم؛ لأنه كره أن يكون السبي سنة في العرب، بذلك استفتح عهدًا جديدًا سرى معه في نفوس العرب جميعًا روح أشعرهم، على اختلاف مواطنهم من شبه الجزيرة، بأنهم أمة واحدة، لها هدف مشترك وتوجهها سياسة عامة ومصلحة عليا يهيمن عليهما أمير المؤمنين.

وهذه المصلحة العليا، التي أملت على عمر ما قدمت تحقيقًا لوحدة العرب في ظل الإسلام، هي التي أملت عليه أن يجعل هجرة الرسول مبدأ للتاريخ العربي، فقد كان العرب إلى ذلك العهد يؤرخون بعام الفيل حينًا، وببعض أيام العرب الكبرى حينًا آخر، وإذا كانت هذه الأيام كلها جاهلية، وكان الإسلام يهدم ما كان قبله؛ فقد رأى عمر في هجرة النبي إلى يثرب أعظم حادث في تاريخ الإسلام لعهده ، أن كانت هذه الهجرة مبدأ نصر الله رسوله وإعزازه دينه، وقد قويت الوحدة العربية بهذا الاختيار الموفق، زاده توفيقًا أنه تم في السنة السادسة عشرة للهجرة، حين كانت أعلام المسلمين تسير مظفرة في بلاد كسرى وبلاد قيصر؛ تقتحم المدائن وتفتض الإيوان الأعظم، وتفتح بيت المقدس وتقيم فيه المسجد الأقصى إلى جانب كنيسة القيامة، وقد واجه عمر بهذا التاريخ المجيد تاريخ الفرس وتاريخ الروم فإذا هو أعظم منها ضياء؛ لأنه يمثل أجل حادث في تاريخ العالم.

ولا ريب أن اختيار هذا التاريخ كان إلهامًا موفقًا، وعلى هذا الإلهام الموفق كان عمر يعتمد في سياسته لمواجهة أحوال الدولة المتغيرة في تطورها السريع ملتمسًا دائمًا ما يراه أصلح لها وأدنى إلى تحقيق أغراضها.

وكان طبيعيًّا أن يعتمد عمر في سياسته على قوة شخصيته وتوثب إلهامه؛ إذ كانت الدولة في أول نشأتها، وكانت الحروب في العراق والشام تقتضي أشد الحذر واليقظة، ولو أن ما واجه عمر يومئذ حدث في زماننا أو في أي زمان آخر، لقضت أحوال الحروب بإسناد الأمر إلى رجل موثوق به؛ تجتمع السلطة في يده لتنظيم جهود الحرب، والاضطلاع بِتَبِعَتِهَا، وقد رأينا عمر وكيف استطاع أن يتم للعرب وحدتهم، ويكفل لهم حريتهم، وأن يضطلع في الوقت نفسه بتبعة الحرب، وأن ينظم ما اقتضته من جهد في يقظة ودقة امتدت إلى الدقيق والجليل من أحوال الجند وسيرهم، ومن كَرِّهم وفَرِّهم، حتى لقد كان يشارك أمراء الجند في وضع خطط القتال، بل كان هو الذي يضعها في كثير من الأحيان، فإذا تم الفتح رسم السياسة التي تجري في البلاد المفتوحة، وصور ما يجب القيام به من شئون الإصلاح فيها.

أفكان في مقدور عمر وهذه الأحداث تواجهه أن يبدأ عهده بأن يضع للحكم نظامًا مفصلًا يجري في بلاد العرب كلها، أو أن يتخذ من النظام الفارسي السائد في العراق، أو النظام البيزنطي السائد في الشام نظامًا لشبه الجزيرة؟ ما أحسب شيئًا من هذا دار بخَلَدِه، فشبه الجزيرة تختلف بتكوينها عن العراق والشام اختلافًا جوهريًّا، وقد ألف العرب حياة لا تلائمها مركزية الفرس ولا نُظُم الروم، هذا لو أن الحرب لم تكن تشغله وتستنفد كل جهده، فكيف به وقد كان جنده في أول عهده يواجه في العراق أدق موقف، وكانت قواته في الشام تواجه من جيوش الروم ما يزيد عليها في العدد والعدة أضعافًا مضاعفة! حسبه أنه جمع شبه الجزيرة في وحدة عربية إسلامية حرة تزيد أهلها اعتدادًا بأنفسهم، وتزيدهم بذلك على الفتح قوة، وليدع التنظيم للزمن ينضجه في يسر في حدود كتاب الله وسنة رسوله.

ولو أنه حاول أن يفرض على البلاد المختلفة في شبه الجزيرة نظامًا موحدًا لأدى ذلك إلى نتائج لا يحمدها عمر ولا يحمدها المسلمون، فما كان أهل الحضر ليرضوا نظام البدو، ولا أهل البدو ليرضوا نظام الحضر، لقد اغتبط الناس بما أمر به عمر من رد السبي إلى عشائرهم، ومن رفع الحظر عن أهل الرِّدَّة؛ فليدعهم في اغتباطهم ليزدادوا تضامنًا، وليدفعهم تضامنهم إلى تلبية ندائه لمواجهة الموقف الحربي والتغلب على دقته، ولا ضَيْرَ في أثناء ذلك أن تبقى الأمور جارية مجراها في اليمن وفي غير اليمن من أرجاء شبه الجزيرة، وأن يكتفي عمر بأن يبعث إلى كل إمارة منها واليًا من قِبَله يمكن سلطان المدينة فيجبي من الناس الصدقات، ويقيم بينهم حدود الله، ويفقههم في دينهم لينظموا حياتهم بموجب أحكامه، وأن يبقى لكل أمة وكل قبيلة فيما وراء ذلك من الاستقلال الذاتي ما ألفته منذ أجيال، وألا تتعدى الروابط المشتركة بين هذه الإمارات شئون الدولة العامة، أما وقد كان هذا شأنها فمن حقنا أن نستعير تعبير القانون الدولي في عهدنا الحاضر، وأن نُسمي هذه الروابط اتحادًا كاتحاد الولايات الأمريكية المتحدة أو الولايات السويسرية.

كانت المدينة عاصمة هذا الاتحاد، ولم يكن ظفرها بالمرتدين هو وحده الذي جعل لها هذا التقدم، فلو أن الرِّدَّة لم تحدث لكان طبيعيًّا أن تكون المدينة هي العاصمة الإسلامية الأولى، وأن يكون لها التقدم على جميع الحواضر والبوادي؛ فهي التي آوت رسول الله وعززته ونصرته، وقد نزل بها من القرآن أكثر مما نزل بمكة، وفيها اجتمع المهاجرون والأنصار الذين استمعوا إلى رسول الله وعرفوا سنته، والذين أعزوا دين الله ونصروه؛ فكانت منزل الوحي المحمدي، ومصدر التشريع الإسلامي، ومقر السابقين الأولين إلى الدين الذي ضوى العرب كلهم إلى لوائه، ثم إن رسول الله قد اتخذها عاصمته، ووجه منها رسله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى دين الله، لا عجب وذلك شأنها أن تكون العاصمة، وأن تُشَدَّ إليها الأنظار من كل صَوْب وحَدَب، فلما ظفرت بعد ذلك بالمرتدين، ثبت هذا الظفر سلطانها ومده على أرجاء شبه الجزيرة كلها، بذلك ظلت مركز الحكومة الإسلامية إلى أن انتقل الأمر إلى دمشق في عهد معاوية بن أبي سفيان.

وكان نظام الحكم بالمدينة في عهد عمر قائمًا على الأساس الذي قام عليه في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر من بعده، وكان هذا الأساس هو الشورى، استنادًا إلى قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وإلى قوله تعالى مخاطبًا نبيه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وقد كان رسول الله يشاور أصحابه، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر، وكان يقول لهما: «وَايْمُ اللهِ لو أنكما متفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدًا.» وكان أبو هريرة يقول: «ما رأيت أحد قط كان أكثر مشاورة من رسول الله .» فلما استخلف أبو بكر واستفتح عهده بأن وجه أسامة بن زيد لحرب الروم، استأذنه في بقاء عمر بالمدينة، ليشير عليه مع غيره من الصحابة، وكذلك فعل عمر فجعل الشورى أساس حكمه.

لم تكن الشورى يومئذ نظامًا أريد به الحد من سلطان الخليفة على ما يفهم الناس اليوم في النظام البرلماني، ولم تكن لأصحاب الرأي الذين يشيرون على الخليفة حقوق يفرضون بها رأيهم عليه؛ بل كان الخليفة مطلق السلطان مع هذه الشورى، وحسابه على الله، وعلى نفسه، وعلى الشعب الذي بايعه، فإذا تجاوز الحق وعصى الله ورسوله ولم يردعه حساب ربه وحساب نفسه، كان على الشعب أن يُقَوِّم اعوجاجه بحد السيف.

ولم يكن الانتخاب بالصورة التي نعرفها اليوم أساس تلك الشورى، بل كان الخليفة هو الذي يختار من يستشيرهم، ثم كان يفاضل بين آرائهم، فيأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء، وكان أهل الرأي في عهد رسول الله هم المهاجرين والأنصار المقيمين بالمدينة، وكانوا جميعًا حوله، يستمعون إليه ويشيرون عليه ويسيرون معه في غزواته، فلما كان عهد أبي بكر ذهب كثيرون إلى الميادين في العراق والشام، ثم بقي كبار الصحابة من قريش إلى جانبه، وكذلك كان الشأن في عهد عمر؛ بقي إلى جانبه أعلام الصحابة من المهاجرين والأنصار، يُمَحِّص على ضوء آرائهم كل مسألة لا يجد لها حكمًا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، هؤلاء كانوا خاصة أصحاب المشورة، وكان في مقدمتهم العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ومَنْ إليهم، على أن عمر كان يلجأ في كثير من الأحيان إلى الشورى العامة، فكان يدعو الناس إلى المسجد بالمدينة أو يدعوهم إلى صلاة جامعة حيثما كان، فيعرض عليهم ما يريد أن يستشيرهم فيه، ولمن شاء منهم أن يُدلي بالرأي الذي يَعِنُّ له، بل لقد كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم، فإذا انكشف له وجه الرأي من الشورى العامة فاعتزم أمرًا أنفذه، وإذا استبهم عليه الرأي عاد إلى خاصته يستمع إليهم ويناقشهم حتى يطمئن إلى ما يؤمن بأنه الصواب.

ولقد رأينا الكثير من مشاورات عمر العامة والخاصة فيما سبق من هذا الكتاب، رأيناه يستشير الناس بعد مقتل أبي عبيد بالعراق يسألهم رأيهم ماذا يصنع، قال العامة: سر وسر بنا معك، وأجمع الخاصة على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله على رأس الجيش إلى العراق، ويبقى هو بالمدينة يُمِدُّ هذا الرجل، عند ذلك جمع الناس وقال لهم: «يحق للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج؛ فقد رأيت أن أقيم وأن أبعث رجلًا.»

ورأيناه يسير إلى الشام، فيلقاه أمراء جنده فيذكرون له أن الأرض سقيمة، وأن فتك الطاعون شديد، فيجمع الناس يستشيرهم: أيتابع طريقه إلى الشام مع الوباء، أم يعود أدراجه إلى المدينة؟ فيختلف الناس: يشير قوم بالسير، ويشير آخرون بالرجوع، فينتهي إلى رأي الآخرين ويرجع أدراجه بمن كان معه.

وكان يرى الشورى نظامًا أساسيًّا واجب التطبيق في أرجاء الدولة كلها، يأمر الولاة وأمراء الجند به، فيقول لأبي عبيد يوم بعثه إلى العراق: «اسمع من أصحاب رسول الله وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعًا فإنها الحرب لا يُصلحها إلى الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة.» وكذلك كان يفعل مع الولاة سواء منهم من ولي شئون الحرب ومن ولي غيرها.

لاحظ قوم أن أولي الرأي من قرابة رسول الله إنما كانوا فيمن يشيرون على عمر، وأنه لم يجعل أحدًا منهم على إمارة الجند، ولم يولِّ منهم أحدًا في بلاد العرب ولا في البلاد المفتوحة، ومن أصحاب هذه الملاحظة من يذهب بهم الظن إلى أن عمر بقي في نفسه من بني هاشم شيء بعد موقفهم من بيعة أبي بكر، ولا أراني أشارك أصحاب هذا الرأي في رأيهم، وتخلف بني هاشم عن بيعة الصديق موضع ريبة عندي، ولو أن قصة تخلفهم صحت لما جاز أن يكون لها في نفس عمر أثرٌ إبَّان خلافته؛ فقد بايعوا أبا بكر جميعًا من بعد، ولما أوصى أبو بكر باستخلاف عمر لم يخالفه أحد من بني هاشم، بل كانوا أول من بايعه، وقد كان لهم من الحظوة في خلافته ما لم يكن لأحد من المسلمين، وسنرى هذه الحظوة بارزة، عند الحديث عن تدوين الديوان وفرض العطاء، بروزًا ترك في حياة المسلمين وفي تقاليدهم أثرًا لا يزال باقيًا إلى اليوم، وكثيرًا ما كان عمر يقدم قرابة النبي تقديمًا يشهد بإكباره لهم وإعظامه إياهم، وقد رأينا استشفاعه إلى الله عام المجاعة بالعباس عم رسول الله، ورأيناه يستخلف علي بن أبي طالب على المدينة حين ذهب إلى الشام لصلح بيت المقدس، وما أكثر ما كان يشيد بفضل ابن عباس وعلمه وأدبه! فلما حضرت عمر الوفاة وأوصى بالشورى جعل الخلافة في ستة أشخاص بينهم علي بن أبي طالب، وليس شيء من هذا بشأن رجل في نفسه على بني هاشم مَوْجِدة.

فلم إذن لم يجعلهم على إمارة جند، ولم يولِّ منهم أحدًا في بلاد العرب أو في البلاد المفتوحة؟! قد تأخذ منك الدهشة إذا قيل لك إنه لم يولهم إكرامًا لقرابتهم من رسول الله، وهذا المعنى يستفاد مع ذلك من قوله يومًا لابن عباس: «إني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم … والله ما أدري أصرفكم عن العمل ورفعكم عنه وأنتم أهل ذلك، أم خشي أن تُعاونوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم، ولا بد من عتاب.»

يذهب بعضهم إلى أن هذا الكلام، إن صحت نسبته إلى عمر، إنما كان اعتذارًا فيه لطف وتجمل، وأنه اعتذار يُخفي ما انطوى عليه عمر من حذر من بني هاشم ومن كبار الصحابة ورءوس قريش، وأصحاب هذا الرأي يذهبون إلى أنه استبقى هؤلاء جميعًا بالمدينة، وجعلهم من أصحاب مشورته؛ لأنه خشي إن هم تفرقوا في أرجاء الدولة وتولوا السلطان فيها أغراهم ذلك بالاستئثار بما في أيديهم والانتقاض على سلطان المدينة، اعتمادًا على مؤازرة المناطق التي يَلُونها وتأييدها لهم فيما يبغونه من أغراض، وأصحاب هذا الظن يذكرون أن عمر قد عزل خالد بن الوليد بدافع من هذا الحذر، وأنه كان شديد الحساب لولاته في مختلف الولايات، سريعًا إلى عزلهم لمجرد الريبة فيهم، حتى لا تحدث أحدهم نفسه بأنه أصبح صاحب السلطان في منطقته، ولو أن هذا الظن صح لما عيب به عمر ولا طعن في سياسته؛ فالحذر بعض ما يجب على من يلي أمر أمة من الأمم، وبخاصة في مثل الأحوال الدقيقة التي كانت تحيط بالمسلمين في ذلك العهد، على أني لا أرى لهذا الظن ما يسوغه؛ فهو لا يتفق وما عرف عن عمر من صراحة وبأس، ولا يتفق وما عرف عن المسلمين في هذا العصر الأول من تضامن زاده إيمانهم الصادق بالله وبرسوله قوة وتثبيتًا، هذا إلى أن المخاطر التي كانت محيطة بهم كانت قمينة أن تصرفهم عن مثل هذا التفكير، وكيف يظن أحدهم في نفسه القدرة على مواجهة الفرس في العراق أو الروم في الشام إلا أن تكون وراءه قوة الإسلام والمسلمين مجتمعة؟ وكيف تحدث أحدهم نفسه بالاستئثار بالسلطان في فارس أو في مصر وهو بحاجة في كل حين إلى مدد يأتيه من شبه الجزيرة، فإذا أبطأ عليه المدد عجز عن مواجهة الموقف الذي هو فيه! وقد ظل الأمر كذلك طيلة عهد عمر؛ لأن الحرب طيلة عهده كانت سجالًا متغيرة المصاير، وقد رأينا عاهل الفرس قبيل مقتله يستعدي الترك والصين لمناجزة المسلمين، ورأينا الروم لا ينقطع تفكيرهم في الرجعة إلى مصر واستردادها، لا مسوغ مع هذا كله للظن بأن عمر استبقى بني هاشم ورءوس قريش بالمدينة حذرًا منه، كما أنه لا مسوغ للظن بأنه بقي في نفسه شيء من بني هاشم لما قيل من تخلفهم عن بيعة أبي بكر.

والواقع أن عمر لم ينكر على بني هاشم أن يكون لهم ما لغيرهم من حق في الخلافة، وإنما أنكر عليهم أن يستأثروا بها على أنها ميراث لهم عن رسول الله ، وذلك قوله لابن عباس فيما تثبته بعض الروايات: «إن الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، وإن قريشًا اختارت لنفسها فأصابت.» ولهذا جعل علي بن أبي طالب في الستة الذين أوصى باستخلاف أحدهم من بعده.

استبقى عمر بالمدينة بني هاشم وكبار الصحابة ورءوس قريش ليشيروا عليه بما أوتوا من عقل راجح وحكمة وحُنْكة؛ لأن الشورى كانت أساس الحكم، وإذ كان أمير المؤمنين صاحب الرأي الأخير والقول الفصل في كل أمر، فقد كان عليه لقاء ذلك كل التبعة عن سياسة الدولة، بذلك اجتمعت في يده السلطات كلها، فكان المشرع في حدود كتاب الله وسنة رسوله، وكان المنفذ، والقاضي، والقائد الأعلى للجيش، وقد نهض عمر بتَبِعات ذلك كله، فخلد التاريخ اسمه وأضفى عليه هالة مضيئة بنور العظمة والجلال.

ونهوضه بهذه التبعات الجسام يثير في النفس غاية الإعجاب، ويدعو كثيرين للتساؤل عن السر في قدرته هذه القدرة العجيبة، وهذا السر مع ذلك لا يخفى على من صدق القصد لمعرفته؛ فهو يرجع إلى إنكار عمر نفسه، وإلى تجرده للقيام بواجبه شعورًا منه بجسامة هذا الواجب، فهو لم ينظر من الخلافة إلى سلطانها وظاهرها، وإنما كان كل نظره إلى القيام بأعبائها وتبعاتها؛ لذلك لم يُبطره سلطانها المطلق، ولم يزدهه مظهرها البراق، وقد بلغ شعوره بهذا الواجب مبلغًا لا يقص التاريخ في عصر من العصور نظيره، ولا أحسب تعبيرًا يصور هذا الشعور خيرًا من قوله هو: «كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما يمسهم؟!» وقد جعله هذا الشعور يضع نفسه موضع الضعيف والفقير ليشعر شعورهما، فيأخذ للضعيف حقه من القوي، ويدفع عن الفقير غائلة الفقر، وأنت تذكر من أمثلة ذلك ما كان منه عام الرمادة حين قسا على نفسه، فلم يطعم طوال ذلك العام سمنًا ولا لحمًا، حتى شحب واسود لونه وخاف الناس على حياته، وقد بلغت منه خشية الزهو مبلغًا يكفي بعض ما ورد من الروايات عنه ليكون عجبًا. رُوي عن أنس أنه قال: كنت مع عمر، فدخل حائطًا، فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار الحائط: «عمر بن الخطاب أمير المؤمنين؟ بخٍ بخٍ! والله لتتقين الله بُنَيَّ الخطاب أو ليُعذبنك!» وقيل: إنه حمل يومًا قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: «إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها.»

ولم يُغْرِه اتساع رقعة المملكة في عهده بأن يجلس في إيوان غير المسجد لينظر في شئون الدولة، شأنه في ذلك شأن رسول الله وأبي بكر، وكان المسجد في السنوات الأولى من عهده باقيًا كما كان يوم أقامه رسول الله، جدرانه اللبن وسقفه من سَعَف النخل، وكان في مقدور عمر أن يهدمه وأن يعيد بناءه فخمًا كفخامته في العصور التي تلت عهده، حتى يتفق مظهر مجلسه مع عظمة سلطانه، وما كان أحد ليؤاخذه لو أنه فعل؛ فقد نزل سعد بن أبي وَقَّاصٍ إيوان كسرى بالمدائن واتخذه مقر سلطانه، فلما تحول إلى الكوفة بنى لنفسه دارًا سماها الناس: «قصر سعد» ولكن عمر لم يمسَّ المسجد بتغيير في السنوات الأربع الأولى من خلافته، فلما ازداد أهل المدينة وضاق المسجد بهم، أمر بالزيادة فيه مستندًا إلى ما كان رسول الله يقوله: «ينبغي أن نزيد في المسجد.» وكان عمر يقول: «لولا أنني سمعت رسول الله يقول: ينبغي أن نزيد في مسجدنا، ما زدت.»

وحرص عمر حين أمر بالزيادة في المسجد على أن يجعله خالصًا للصلاة ولشئون الحكم، فقد كان أهل المدينة يتخذون منه دار ندوتهم، ويتحدثون به في شئون تجارتهم، ويجعلون منه مكان سَمَرهم وتفاخرهم، حتى كان يعلو فيه اللغط أحيانًا وأمير المؤمنين جالس ينظر في الجسيم من مهام الدولة؛ لذلك اتخذ إلى جانب المسجد بعد توسيعه مكانًا سُمي البُطَيْحَاء، وقال: «من أراد أن يلغط أو يرفع صوتًا أو ينشد شعرًا فليخرج إليه.» على أن ما أحدثه عمر من الزيادة في عمارة المسجد لم يتجاوز توسعة رقعته وزيادة عدد أبوابه، أما سائره فبقي كما بناه رسول الله؛ إذ جعل أساس الجدر من الحجارة وما فوقه من اللبن، والعمد من الخشب، والسقف من الجريد، ومن هذا المسجد البسيط بناؤه كانت تصدر أوامر عمر إلى إمارات الجند؛ فإذا كسرى يُفْتَضُّ عليه إيوانه، وإذا قيصر يفر هاربًا من الشام إلى القسطنطينية، وإذا الإسكندرية العظيمة عاصمة الحضارة العالية لذلك العهد تسلم مفاتحها للمسلمين!

لم تغير سعة الفتح شيئًا كذلك مما أخذ عمر به نفسه من بساطة العيش، وما دعاه إليه إيمانه من ازدراء الدنيا، فقد جعل المسلمون له في أول خلافته مثلما جعلوا لأبي بكر من حق في بيت المال يقيمه ويقيم عياله، فلما تدفق الفَيْء على المدينة لم يَنَلْ عمر منه أكثر مما كان يناله رجل من المسلمين؛ ذلك أنه لم يكن يرى أن له بسبب الخلافة حقًّا يزيد عن حق غيره، وقد سئل يومًا عما يحل له من مال الله، فقال: «أنا أُخبركم بما أَستحل منه؛ يحل لي حُلَّتان: حُلَّة في الشتاء وحلة في القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظَّهْر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم.» وكان يقول: «إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عَفَفْتُ عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.» وكان تعففه عما في بيت المال يبلغ به في بعض الأحيان حد الحرج، اشتكى يومًا، فوُصف له العسل، وفي بيت المال عُكَّةٌ منه، فلما كان على المنبر قال: «إن أذنتم لي فيها وإلا فإنها عليَّ حرام.» فأذنوا له ورأى المسلمون ما رأوا من شدته على نفسه، فذهبوا إلى ابنته حفصة أم المؤمنين، فقالوا لها: «أبى عمر إلا شدة على نفسه وحصرًا، وقد بسط الله في الرزق فليبسط في هذا الفَيْء فيما شاء منه، وهو في حِلٍّ من جماعة المسلمين.» وكأنما قاربتهم حفصة في هواهم، فلما دخل عليها عمر أخبرته بالذي قالوا، فكان جوابه: «يا حفصة بنت عمر، نصحت قومَك وغششتِ أباك، إنما حق أهلي في نفسي ومالي، فأما في ديني وأمانتي فلا.»

وقد روى الفخري عن عمر قصة تشهد بشدة حرصه على مساواة نفسه بسائر المسلمين أصدق الشهادة، قال: «جاءت عمر بن الخطاب بُرُودٌ من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج في نصيب كل رجل بُرْدٌ واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم، قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصًا، فندب الناس للجهاد، فقال له رجل: لا سمعًا ولا طاعة، فقال عمر: ولِمَ ذلك؟ قال الرجل: لأنك استأثرت علينا؛ لقد خرج في نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوبًا، فكيف فصلته قميصًا وأنت رجل طويل؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلًا: أجبه يا عبد الله، فقال عبد الله: لقد ناولته من بردي فأتم قميصه منه، قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة.»

لم يبتغِ عمر من الخلافة شيئًا إذن لنفسه، بل كان يعد نفسه الحارس الأمين على مال المسلمين، كما كان الحارس الأمين على وحدتهم وحريتهم، وقد قربه ذلك إلى الناس وحببه إليهم، وزادهم محبة له أنه كان يرى الخلافة أبوة تُلقي على الخليفة واجبات للمسلمين هي واجبات الأب نحو أبنائه، والحنان والبر أقدس عواطف الأبوة وأسماها، وكان عمر أشد الناس حنانًا على المحتاجين إلى الحنان وأشدهم برًّا بهم؛ فقد كان يرى الحنان والبر بعض واجبات الحكم كإقامة العدل والمحافظة على الأمن سواء.

خرج ليلة إلى ظاهر المدينة ومعه مولاه أسلم، فلاح لهما بيت شَعَرٍ فقصداه، فإذا فيه امرأة تبكي وقد جاءها المخاض، فسألها عمر عن حالها فقالت: أنا امرأة غريبة وليس عندي شيء، فعاد عمر يهرول إلى بيته وقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ وأخبرها الخبر، قالت: نعم! وحمل عمر على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، ودخلت أم كلثوم على المرأة وجلس عمر يتحدث إلى زوجها وهو لا يعرفه، ووضعت المرأة غلامًا، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل قولها استعظم صنيع عمر وأخذ يعتذر إليه، فقال له عمر: لا بأس عليك! ثم أعطاهم ما يصلحهم وانصرف.

وسمع عمر ليلة بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله تعالى، وأحسني إلى صبيك! فلما كان بعد قليل سمع بكاء الطفل كرة أخرى، فعاد إلى أمه يقول لها مثل قوله الأول، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي، فأتى إلى أمه فقال لها: ويحك أم سوء! ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟! قالت الأم: يا عبد الله إني أسكته عن الطعام فيأبى ذلك، قال عمر: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم، قال: وكم عمر ابنك هذا؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، فقال: ويحك! لا تُعجليه عن الفطام! فلما صلى الصبح انفتل إلى الناس وقال لهم والدمع يملأ عينيه: بؤسًا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديه فنادى: لا تُعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.

وليس يجهل أحد قصة عمر إذ مر في أعجاز الليل بامرأة يتضاغى صبيانها حول قِدْر منصوبة على النار، فسألها: لِمَ يتألمون؟ فقالت: من الجوع. قال: وأي شيء على النار؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر. فهرول عمر راجعًا إلى دار الدقيق فأخذ منها جراب شحم وعِدْلًا من الدقيق وعاد بهما يحملهما على ظهره ووضع من الدقيق في القدر وألقى عليه الشحم، وجعل ينفخ النار تحت القدر، حتى إذا طاب الطعام ناوله الأطفال فأكلوا وشبعوا وناموا، وانصرف من عند المرأة وهي لا تعرفه وهو يقول: الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم!

حبب هذا الحنان وهذا البر حكم عمر إلى الناس، وجعلهم يرون الخليفة أبًا لكل ضعيف وكل يتيم وكل محروم، ثم حبب الفاروق إليهم عدل كان سليقةً فيه، وحب للحرية والمساواة أيسره أنه كان يساوي نفسه بالضعفاء والفقراء، كان من أول ما خطب به الناس قوله:

والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.

وخطبهم يومًا فقال:

إني لم أستعمل عليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذنَ له عليَّ ليرفعها إليَّ حتى أُقِصَّهُ منه.

وكتب إلى أمراء الأجناد:

لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحرموهم فتكفروهم، ولا تجمِّروهم فتفتنوهم، ولا تُنزلوهم الغِياض فتُضيعوهم.

وهو إنما كتب بذلك إلى أمراء الأجناد فيما لم يكن يستطيع أن يليه بنفسه؛ فأما ما قدر على مباشرته فلم يكن يكله إلى أحد غيره، وأنت تذكر كلمته أول خلافته: «والله لا يحضرني شيء من أمركم فَيَلِيَهُ أحدٌ من دوني.» وقد بلغ من صدقه في ذلك أنه كان يلي الكبير والصغير من الشئون، فكما كان ينظم شئون الجند ويولي العمال ويدبر سياسة الدولة ويقضي بين الناس بالعدل، كان لا يذر صغيرة يستطيعها إلا قام بها، رآه علي بن أبي طالب يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ قال: قد ندَّ بعير من إبل الصدقة فأنا أطلبه، قال علي: قد أتعبت الخلفاء من بعدك! وجاء عمر إلى عبد الرحمن بن عَوْفٍ وهو يصلي ليلًا، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رُفقة نزلت في ناحية من السوق خشيت عليهم سُراق المدينة، فانطلقْ فلنحرسهم، فأتيا السوق فقعدا على نَشَز من الأرض يتحدثان، وبصرا بمصباح فقال عمر: ألم أَنْهَ عن المصابيح بعد النوم! وانطلقا فإذا قوم على شراب لهم عرف عمر أحدهم، فلما أصبح دعاه إليه وقال له: كنت وأصحابك البارحة على شراب، قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: شيء شهدته، وأجابه الرجل: أَوَلَمْ يَنْهَكَ اللهُ عن التجسس؟ فتجاوز عمر عنه.

وبلغ من حرصه في آخر عهده على أن ينظر في أمور الناس بنفسه أن ود أن يتنقل في أرجاء الإمبراطورية يتفقد شئونها ويرى تصرف عماله فيها، رُوي عنه بعد فتح مصر أنه قال: «لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولًا كاملًا، فإني أعلم أن للناس حوائج تُقطع دوني؛ أما عمالهم فلا يرفعونها إليَّ، فأما هم فلا يصلون إليَّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لَنِعْمَ الحَوْلُ هذا!» لكن الأجل لم يطل به ليتم ما أراده.

كان عدل عمر ولا يزال مضرب المثل، ذلك أنه كان أشد عباد الله خشية لله ووجلًا من حسابه، وكان يدرك ما يقتضيه الحكم بين الناس من أناة ودقة ومحاسبة نفس فإذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: «اللهم أعني عليهما؛ فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني.» ولم يكن به على أهله في إقامة العدل رأفة، بل كان إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: «لا أعلمن أحدًا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة.» كان عبد الرحمن ابنه بمصر، فشرب هو وأبو سَرْوَعَةَ فسكرا، فذهبا إلى عمرو بن العاص ليقيم الحد عليهما، قال عمرو: فزجرتهما وطردتهما، فقال عبد الرحمن: إن لم تفعله أخبرت أبي إذا قدمت عليه، فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عليَّ وعزلني، فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد، ودخل عبد الرحمن بن عمر إلى ناحية الدار فحلق رأسه، ووالله ما كتبت لعمر بحرف مما كان حتى جاءني كتابه فإذا فيه:

من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي، عجبت لك يا بن العاصي وجرأتك عليَّ وخلافك عهدي، فما أراني إلا عازلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يُخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنعه بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين! وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعثْ به في عباءة على قَتَبٍ حتى يعرف سوء ما صنع.

فبعثت به كما قال أبوه، وكتبت إلى عمر كتابًا أعتذر فيه أني ضربته في صحن داري، وبالله الذي لا يحلف بأعظم منه إني لأقيم الحدود في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت الكتاب مع عبد الله بن عمر، فقُدِمَ بعبد الرحمن على أبيه، فدخل وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من سوء مركبه، فقال: يا عبد الرحمن فعلت وفعلت! فكلمه عبد الرحمن بن عَوْفٍ وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد، فلم يلتفت إليه وجعل عبد الرحمن بن عمر يصيح: إنني مريض وأنت قاتلي! وتجري الرواية بأنه مع ذلك أقام عليه الحد ثانية، فضربه وحبسه فمرض ثم مات.

وكان لا يفرق في عدله بين أمير وسوقة، ولا بين والٍ ورعية، سقنا من قبل قصة الأمير الغساني جَبَلَة بن الأيْهَمِ، وكيف أراد عمر أن يقتص منه للأعرابي الذي ضربه. وضرب محمد بن عمرو بن العاص مصريًّا بالسوط وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وحبس ابن العاص المصري مخافة أن يشكو ابنه إلى الخليفة، فلما أفلت الرجل من محبسه ذهب إلى المدينة وشكا لعمر ما أصابه، فاستبقاه عنده واستقدم عمرًا وابنه من مصر، ودعاهما إلى مجلس القصاص؛ فلما مَثَلا فيه نادى عمر: أين المصري؟ دونك الدِّرة فاضرب بها ابن الأكرمين! وضرب المصري محمدًا حتى أثخنه وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين! فلما فرغ الرجل وأراد أن يرد الدِّرَّة إلى أمير المؤمنين قال له «أَحِلْها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه!» قال عمرو: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واستشفيت، وقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني، فقال عُمَرُ: إنك والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عَمْرٍو مغضبًا وقال: «أيا عمرو! متى تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا!»

ليس من غرضي أن أفصل ها هنا قضاء عمر، فليس هذا الفصل موضع تفصيله؛ وإنما أردت بما قدمت أن أشير إلى شدته في العدل ودقته في إقامته، ومساواته بين الناس فيه مساواة عبر هو عنها بقوله: «لا أبالي إذا اختصم إليَّ رجلان لأيهما كان الحق.» وترجع شدته على ذويه وعلى عماله وذويهم إلى اقتناعه بأنه لا سبيل إلى كفالة الحرية والعزة والكرامة للأمة إلا أن يسوي العدل بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والأمير والسوقة، والولاة أجسم من المحكومين تبعة؛ لأن الحكم يغريهم بالبطش إذا لم يجدوا من يَرْدَعهم عنه.» وذلك قوله: «إن الناس لا يزالون مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم.» وقوله: «الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا.» وهو لذلك كان يرى مكان عماله منه مكان الرعية من عماله؛ هو مسئول عنهم كما أن العامل مسئول عمن تولى عليهم، فإذا ظلم العمال الرعية وجب أن يقتص منهم كما يقتص من أي فرد في المدينة ظلم غيره، وقد عبر عن شعوره بهذه التبعة بقوله: «أي عاملٍ ظلم أحدًا فبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته.»

كملت لعمر صفات الزهد والرأفة والعدل والبر بالفقير والمحروم، فحببت إلى الناس حكمه، وهونت عليهم ما كان فيه من شدة وغلظة، وما كان له من هيبة تصد عنه كثيرين، فلولاها لرفعوا إليه حوائجهم فقضاها لهم، وشدته هي التي جعلته يحمل الدِّرَّة يُؤدب بها من يخرجون عن المألوف من أدب الجماعة، لا يفرق فيمن يصيبه بها من هؤلاء بين كبير وصغير، وزاد حمله الدِّرَّة في هيبة الناس له وخوفهم منه مع إيمانهم ببره وعدله ورحمته، اجتمع علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عَوْفٍ وسعد بن أبي وَقَّاصٍ، وكان عبد الرحمن أجرأهم على عمر، فقال له إخوانه: يا عبد الرحمن! لو كلمت أمير المؤمنين للناس، فإنه يأتي الرجل طالبًا الحاجة فتمنعه هيبته أن يكلمه حتى يرجع ولم يقضِ حاجته، ودخل عبد الرحمن على عمر فقال له: «يا أمير المؤمنين! لِنْ للناس؛ فإنه يقدم القادمُ فتمنعه هيبتك أن يكلِّمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك.» قال عمر: «يا عبد الرحمن أَنْشُدُكَ اللهَ، أعليٌّ وعثمان وطلحة والزبير وسعد أمروك بهذا؟» قال ابن عَوْفٍ: اللهم نعم! فأردف عمر: «يا عبد الرحمن، لقد لنتُ للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة، فأين المخرج؟!» فخرج عبد الرحمن يبكي ويقول: أُفٍّ لهم من بعدك! أف لهم من بعدك!

هذه أمثلة تصور لك كيف نهض عمر بتَبِعات الحكم، وتكشف لك عن السر في قدرته الممتازة على الاضطلاع بأعبائه الجسام على نحو لا يزال مثارًا لعجب الناس وإعجابهم، كما تبين لك كيف كان نظام الحكم في عهد عمر من الأسباب التي هيأت لامتداد الفتح ودفعت المسلمين إليه ورغَّبتهم فيه، لقد كانوا يرون أمير المؤمنين خير كفيل بحقوقهم وبمن يخلفون وراءهم من عِيالهم، وكانوا يرونه يؤثر على نفسه وأهله، ويؤدي لكل ذي حق حقه، فلا جَرَمَ إنهم لَيندفعون إلى ميادين القتال وكلهم الطمأنينة إلى غدهم وإلى مصير أبنائهم وذويهم، وما ضرَّ أحدَهم أن يُقتل في سبيل الله وفي سبيل الإمبراطورية الإسلامية، وهو على يقين من أن بنيه سَيُحْزَوْنَ إذا استُشهِد بخير مما يجزون إذا ظل حيًّا، وأنه ستنفتح له أبواب الجنة بما وهب لله نفسه مجاهدًا في سبيله!

يُثبت المؤرخون الغربيون لعمر هذه الصفات ويُشيدون بها، ثم يذهب بعضهم إلى أنها إن صورت نظامًا للحكم فهو النظام العربي المعروف في ذلك العهد، والذي يشبه كل الشبه نظام القبائل؛ إذ يتولى أمرها أكثر رجالها قدرةً على التسلط عليها بقوته في الذود عن حماها، أو بحزمه في إدارة شئونها، أو بدهائه وحسن رأيه في توطيد صلاتها بغيرها من القبائل، فقد كان هذا الشيخ يجمع في يديه السلطات كلها على نحو ما كان يجمعها عمر في يديه، وكان يتخذ من العرف المألوف شِرْعَتَه، يقضي على أساسه بالقصاص أو بالدية بين رجال قبيلته، ويقضي بأيهما إذا رفع له الأمر مَجْنِيٌّ عليه أو ولي دم من قبيلة أخرى يطلب الحق ممن اعتدى عليه أو على من كان هو ولي دمه، من قبيلة هذا الشيخ، وهؤلاء المؤرخون يذكرون أن القرآن نظم هذا العُرْف المألوف عند العرب وهذبه، ولكنه لم يخرج بالعرب على نظامهم الذي جروا عليه من قبل، فحكومة عمر وحكومة أبي بكر من قبله إنما قامتا على أساس من هذا النظام العربي لم تتعديا قواعده، فكانتا أدنى إلى نظام البداوة منهما إلى نظام الحضَر الذي عرفه الفرس والروم في ذلك الزمان.

ولا ريب أن حكومة أبي بكر كانت عربية صرفة، لم تتأثر في قليل ولا كثير بنُظُم الروم ولا بنظم الفرس، وكانت لذلك بسيطة بساطة النظام البدوي المعروف يومئذ في كثير من أرجاء شبه الجزيرة، لكنها مع هذه البساطة كانت الحلقة القوية التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد الإمبراطورية، وكانت الطورَ الطبيعي لنظام بدأ يتغير في عهد الرسول، فقد كانت يثرب يوم نزلها رسول الله تتألف كغيرها من بلاد العرب من قبائل لا تعترف أيتها بسلطان لغيرها عليها، وكانت الحرب لذلك تقوم بين الأوس والخزرج تارة، وبين العرب واليهود من أهل يثرب تارة أخرى، ثم لا تجمع كلمه هؤلاء وأولئك إلا إذا دهمهم خطر من الخارج، فلما استقر رسول الله بالمدينة وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار، ثم أجلى اليهود عنها، زال ما كان بين قبائلها وبطونها من فوارق، فاجتمعت كلمتها وأصبحت وحدة مدنية شريعتها القرآن، ووليُّ أمرها رسول الله، وقد كان هذا تطورًا في نظام الحكم لم يألفه أهل الحجاز، لكنه لم يلبث بعد فتح مكة أن انتقل من المدينة إلى أم القرى ثم انتقل منهما إلى الطائف بعد غزاة حنين.

ولما أرسلت المدن والقبائل وفودها إلى المدينة قبل عام من وفاة رسول الله تعلن إسلامها بين يديه، فبعث إليها رجالًا من أصحابه يفقِّهون الناس في دينهم ويقبضون منهم الصدقات، كان هؤلاء الرجال طليعة الانتقال الذي تطورت إليه العرب رويدًا رويدًا، فلما كانت الرِّدَّة أبلى هؤلاء الرجال كما أبلى غيرهم في القضاء عليها أحسن البلاء، فجعلوا للمدينة بذلك من حق الفتح ما لم يستطع أحد من العرب إنكاره، وزاد ذلك في سلطان العمال والولاة الذين عيَّنهم أبو بكر، فلم يبقَ هذا السلطان مقصورًا على تفقيه الناس في دينهم وتسلم الصدقات منهم، بل صار لهم في البلاد التي تولوا أمرها ما لشيخ القبيلة أو أمير المدينة من حق؛ فاجتمع في أيديهم سلطان التنفيذ والقضاء وإمارات الجند، مع مسئوليتهم الكاملة أمام الخليفة عن تصرفاتهم في ذلك كله.١

آل الأمر إلى عمر بعد أن صدقت عودة العرب كلهم إلى إسلامهم؛ فلم يبقَ مسوِّغ للحذر منهم والخوف من انتقاضهم، وكيف يخشاهم عمال الخليفة وقد سار أبطالهم من كل القبائل إلى ميادين الجهاد في سبيل الله يقاتلون ويقتلون! لذا رأى عمر أن يزيد وحدتهم متانة، فأمر عماله عليهم أن يكونوا على مثاله حزمًا وعدلًا وبرًّا ورحمة، وأن يسووا بين العرب في المعاملة على اختلاف منازلهم من شبه الجزيرة.

ولهذا الغرض أصدر وصاياه لعماله بما قدمنا، فهو لم يكن يبعثهم إلى العرب ليُذِلُّوهم، بل ليقيموا بينهم حدودَ الله بالعدل والقسط، وذلك قوله لهم: «اجعلوا الناس عندكم سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرُّشَا والحكمَ بالهوى، وأن تأخذوا الناسَ عند الغضب! فقوموا بالحق ولو ساعةً من النهار.» ولقد كان يرى نفسه مسئولًا أمام ضميره وأمام الله عن إقامة هذا العدل في كل مكان، فإذا ظلم عامله في أقصى الأرض رجلًا فكأنما هو الذي ظلمه، قال يومًا لمن حوله: «أرأيتم إذا استعملت عليكم خير مَنْ أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت الذي عليَّ؟» قالوا: نعم! قال: «لا! حتى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرتُه به أم لا.» وكان لذلك شديد الحساب لهؤلاء العمال شدةً رأينا مظاهرها في عزل خالد بن الوليد، ومقاسمة عمرو بن العاص، والروايات تثبت من هذه الشدة في المحاسبة قصصًا لا يكاد الإنسان يصدقها، قيل: إن أبا عُبَيْدَةَ كان يوسِّع بالشام على عياله، فلما بلغ عمر ذلك نقصه من عطائه حتى شحَب لونه وتغيرت ثيابه وساء حاله، فلما عرف عمر ما صار إليه أمره قال: «يرحم الله أبا عبيدة! ما أعفَّ وأصبر!» وردَّ عليه ما كان حبسه عنه، وبلغ من شدة عمر في محاسبة عماله أن كان يعزل أحدهم أحيانًا لشُبْهة لا يقطع بها دليل، وقد يعزل لرِيبة لا تبلغ حد الشبهة، ولقد سئل في ذلك يومًا فقال: «هان شيء أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير.»

وقد رأيناه غير مرة عزل عمالًا عن عملهم لغير ريبة فيهم، بل التماسًا لمصلحة يراها في عزلهم، من ذلك أنه عزل سعد بن أبي وَقَّاصٍ عن إمارة الكوفة لغير شيء إلا أن طائفة من أهل هذه المدينة ثاروا به وقالوا لعمر: إنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، وقد بعث عمر محمد بن مَسْلَمَةَ إلى الكوفة، فرأى الناس جميعًا راضين عن سعد مع ذلك عزله خوفَ الفتنة؛ لأن جيوش الفرس كانت تتجمع للغزو والثأر.

وكان عمر يجمع عمَّاله بمكة في موسم الحج من كل عام، يسألهم عن أعمالهم، ويسأل الناس عنهم، ليرى مبلغ دقتهم في الاضطلاع بواجبهم وتنزُّههم حين أدائه عن الإفادة لأنفسهم أو لذويهم؛ فقد كانت النزاهة مقدمة عنده على كل شيء، ولذلك كان يحصي أموال الولاة قبل ولايتهم، فإذا زادت بعدها زيادةً تضع نزاهتهم موضع الشبهة، قاسمهم مالهم، وقد يستولي على كل زيادة فيه، ثم يقول لهم: نحن إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا.

على أن هذه الشدة في محاسبة الولاة لم يكن يقصد منها إلى إضعاف سلطتهم أو تهوين هيبتهم؛ فقد كانت أيديهم مطلقة، وأحكامهم نافذة، وسلطانهم مساويًا لسلطان عمر ما عزموا العدل ولزموه، فإذا اعتدى عليهم مع ذلك معتدٍ، أو استهان بأمرهم مستهين عوقب أشد العقاب، حصب أهل العراق إمامهم استهانةً بأمره، وكانوا قد حصبوا إمامًا قبله؛ فغضب عمر وقال لأهل الشام: «تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ.» ثم إنه كان يسمع لحجة عامله، فإذا أقنعته لم يُخْفِ اقتناعه بها وثناءه على عامله بعدها، قدم الشام راكبًا حمارًا، فتلقاه معاوية بن أبي سفيان في موكب عظيم؛ ونزل معاوية وسلم على عمر بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه سلامه، فقال له عبد الرحمن بن عَوْفٍ: أتعبتَ الرجل يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! فالتفت عمر إلى معاوية وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟ قال معاوية: نعم! قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوفك ذوي الحاجات ببابك؟! قال معاوية: نعم، قال: ولِمَ! ويحك! وأجابه معاوية: «لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو؛ فإن لم نتَّخذ العُدَّة والعدد استخف بنا وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة جرأةَ الرعيَّة، وأنا بعدُ عاملك، فإن استنقصتني نقصت وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت.» قال عمر بعد أن سكت هنيهة: «ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه! إن كنت صادقًا فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذبًا فإنها خُدْعة أَرِيب، لا آمرك ولا أنهاك!»

وكان عمر يشتد اغتباطه حين يرى عماله يتجردون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك أعظم الثناء. ولَّى عُمَيْر بن سعد على حمص ثم كتب إليه: «أقبل بما جبيت من فيء المسلمين.» فلما أقبل سأله عما صنع فقال: «بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به.» قال عمر: «فما جئتنا بشيء.» فلما أكد له أن أنفق كل شيء على أهل حمص قال: «جَدِّدوا لعمير عهدًا.»

وعمير هذا هو الذي قال وهو على منبر حمص: «لا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلًا بالسيف أو ضربًا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذًا بالعدل.» ليس عجبًا وهذه الكلمة الحكيمة سنته أن يقول عمر فيه: «وَدِدْتُ لو أن لي رجلًا مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين.»

كان هؤلاء العمال يَلون في أول عهد عمر ما يَلِيه هو بالمدينة؛ فيجمعون بين سلطان القضاء والتنفيذ وإمارة الجند، على أن عمر ألفى نفسه بعد قليل من ولايته قد شغلته شئون الدولة العامة وسياستها العليا عما كان قد عوَّل يوم بويع على أن يضطلع هو به، كانت أنباء جنده بالعراق والشام تستغرق الكثير من وقته وانتباهه، وكانت تصرفات عماله في أرجاء الدولة المختلفة موضع عنايته وتفكيره، ثم إن مصالح الناس بالمدينة كانت تزداد تشابكًا وتعقدًا بازدياد عدد ساكنيها، وكثرة المال الذي يرد عليها، وكان تقدم الفتح، وما يقتضيه من تنظيم لشئون البلاد التي تم الاستيلاء عليها، يدعوه أن يكتب إلى أمراء جنده بما يعنُّ له من آراء في هذا التنظيم؛ لذلك لم يكن بد من أن يولي أعوانًا له يقضون مصالح الأفراد فيما لا تتأثر به مصلحة الدولة.

وكان أول ما صنعه من ذلك أن فصل قضاء المدينة عن سلطته، وأقام أبا الدرداء عليه، وجعل له اسم القاضي، وناط به الحكم بين الناس فيما يرفعون إليه من خصوماتهم، فلما تم تمصير الكوفة والبصرة وأقام العرب فيهما وكثرت المنازعات بين أفرادهما، جعل قضاء الكوفة لِشُرَيْحٍ، وقضاء البصرة لأبي موسى الأشعري، ولما فُتحت مصر جعل القضاء بين المسلمين فيها إلى قيس بن أبي العاص السهمي، وكان هؤلاء القضاة يحكمون مستقلين برأيهم في حدود كتاب الله وسنة رسوله، فكانت توليتهم أول خطوة في تنظيم السلطات وفصل بعضها عن بعض، على أنها كانت خطوة أدت إليها الحاجة وقضت بها ضرورات التطور في أحوال الدولة، وبقيت كذلك فلم تصبح مبدأ مقررًا يطبق في أرجاء المملكة كلها إلا بعد زمن طويل من عهد الفاروق.

وكان اختيار عمر لقضاته موفقًا كاختياره عماله، بل لعله كان أكثر توفيقًا، ذلك لأنه كان عالمًا بالفقه والتشريع ضليعًا فيهما، لا يكاد يَعْدِله أحد في ذلك حتى لقد قال عنه ابن مسعود: «لو وُضِعَ علم عمر في كفة وعلم أحياء العرب في كفة لرجح علم عمر.» ولم يكن ذلك عجبًا وقد كان عمر يتولى قبل إسلامه مهمة السفارة بين قريش وغيرها من القبائل، فلما أسلم لزم رسول الله وجعل يتلقى عنه كل ما يوحيه الله إليه، ويقف على سنته وعلى قضائه، هذا إلى ما كان له من فِراسة صادقة في الرجال ومقدرة على زنة أقدارهم ببعض ما يراه من تصرفاتهم، وقصة توليته شُرَيْحًا قضاء الكوفة خير شهيد على ذلك، فقد ساوم عمر رجلًا على فرس ثم ركبه لِيُجَرِّبَهُ فَعَطِبَ، فأراد أن يرده إلى صاحبه فأبى، فقال له: اجعل بيني وبينك حكمًا، قال الرجل: شُرَيْحٌ العراقي، فتحاكما إليه، فقال شُرَيْحٌ بعد أن سمع حجة كل منهما: يا أمير المؤمنين، خذ ما ابتعت، أو رُدَّ كما أخذت! قال عمر! وهل القضاء إلا هكذا! وأقام شُرَيْحًا على قضاء الكوفة، فبقي عليه ستين سنة.

ولا تزال كتب عمر وأقواله تشهد بسعة علمه في القضاء وأصوله وأحكامه. وكتابه إلى أبي موسى الأشعري قطعة من أدب القضاء خالدة على الزمان، فهو يقول فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك! أما بعد، فإن القضاء فريضةٌ مُحْكَمَةٌ وسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فافهمْ إذا أُدْلِيَ إليك وأَنْفِذْ إذا تبيَّن لك، فإنه لا ينفع تكَلُّمٌ بحق لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك وعَدلِك ومجلسك، حتى لا يطمعَ شريفٌ في حَيْفِكَ، ولا ييأسَ ضعيفٌ من عدلك، البَيِّنَةُ على من ادَّعى، واليمينُ على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ولا يَمْنَعَنَّكَ قضاءٌ قضيتَه بالأمس فراجعتَ اليوم فيه عقلك وهُدِيتَ فيه إلى رشدك، أن تَرْجِعَ إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعةُ الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، الفَهْمَ الفهمَ فيما تَلَجْلَجَ في صدرك مما ليس في كتابٍ ولا سنة، ثم اعْرِفِ الأَشْبَاهَ والأمثال وقِسِ الأمور عند ذلك بنظائرها؛ واعْمِدْ إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بَيِّنَةً أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عُدولٌ بعضهم على بعض، إلا مَجلودًا في حَدٍّ، أو مُجَرَّبًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب؛ فإن الله سبحانه تولَّى منكم السرائر ودرأ بالبيِّنات والأَيْمان، وإياكم والقلق والضَّجَرَ والتأذِّي بالخُصوم والتَّنَكُّر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يُعظم الله به الأجر ويُحسن به الذكر، فمن صَحَّتْ نيَّتُه وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شَانَهُ الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته! والسلام.

أرأيت إلى المبادئ التي قررها عمر في هذا الكتاب! أليست هي هي المبادئ، التي يجري القضاء عليها اليوم في أكثر الأمم حضارة؟! بل أليست هي المبادئ الثابتة التي لم تتغير بتغير الزمان والتي تتناولها كتب الفقه والتشريع بالتعليق والشرح في عشرات الصحف ومئاتها! أوليس ما ذكره عمر، عن أدب القاضي وما يجب عليه أن يلزمه في معاملة الخصوم، بالغًا غاية السمو! ولا عجب أن يصدر ذلك عن عمر وقد كان أبو بكر يعهد إليه في بعض شئون القضاء، وقد تولى هو القضاء بنفسه في العهد الأول من خلافته، ثم لا عجب وقد كان فقيهًا رصين العلم في الفقه؛ يأخذ في قضائه بخير ما يعرف في المسألة المعروضة عليه، فإذا استبهم عليه أمر استشار واجتهد رأيه، فكان اجتهاده موفقًا بل كان حجة يأخذ بها مَنْ بعده مطمئنًّا إليها واثقًا بها.

وهل غير القاضي النزيه العادل يقول ما قاله في بعض وصاياه لمن يلون القضاء:

إذا تقدَّم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو باليمين القاطعة، وأَدْنِ الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه، وتَعَهَّدِ الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله وإنما ضيَّع حقه من لم يرفُق به!

كانت إقامة القضاة خطوة أدت إليها الحاجة وقضت بها ضرورات التطور في أحوال الدولة، ولم تكن تنظيمًا عامًّا أريد به تطبيق مبدأ لذاته؛ فقد بقي الفصل في الخصومات متروكًا أمره للولاة الذين لم تُرهقهم أعباء الولاية ولم تمنعهم من القيام به، وهؤلاء لم يعيِّن عمر قضاة إلى جانبهم، بل ترك السلطات كلها مجموعة في أيديهم، لكن هذه الخطوة الأولى لم تلبث بعد سنوات أن أصبحت نظامًا من نظم الدولة، فانفصل القضاء عن السلطة التنفيذية، وصارت للقضاة مكانتهم الخاصة، وأحيط مركز القاضي بكل ما يجب له من التَّجِلَّة والاحترام.

عين عمر القضاة حين شغلته شئون الدولة العامة عن الفصل في خصومات الأفراد، فكان تعيينهم خطوة جديدة في تنظيم الحكم، وثَمَّ سبب آخر أدى إلى هذه الخطوة؛ فقد كثر الذين ينزلون المدينة ويتخذونها سكنًا بعد أن أصبحت عاصمة الدولة، وبعد أن عَظُمَ رخاؤها لكثرة ما كان يُرسل إليها ويقسم بين أهلها من الفيء، وأنت تذكر فَيْءَ المدائن وجَلُولاء وغيرهما من مدائن العراق، وفَيْءَ دمشق وحمص وغيرهما من مدن الشام، والرخاء وكثرة السكان يُغريان الناس بالخصومة ويزيدان في أعباء القاضي، فلم يكن بدٌّ، وقد استغنى الناس وكثروا، من أن يفرغ لخصوماتهم من يفصل فيها فلا تشغل أمير المؤمنين عما هو أجسم منها خطرًا وأجل مكانًا، وكان الأمر كذلك بخاصة أن كانت الأموال التي تُجْبَى إلى المدينة مطردة الزيادة باطراد الفتح وسعة رقعته، بل لقد بدأت هذه الأموال تشغل أمير المؤمنين نفسه، وتقتضيه أن يضع لها نظامًا خاصًّا بها، فيكون وضعه طورًا جديدًا من أطوار الحكم، ومن أطوار الحياة الاجتماعية في بلاد العرب.

شُغِلَ عمر بكثرة الأموال التي كان عماله يبعثون بها، ورأى أن لا بد من وضع نظام لإحصائها وتوزيعها، ولم تكن هذه الأموال ما يؤديه المسلمون في شبه الجزيرة من الزكاة والصدقات، فتلك كانت توزع على الذين نزل فيهم قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إلى آخر الآية، وكان الكثير من هذه الصدقات لا يرسل إلى المدينة، بل يوزع على الفقراء والمساكين من أهل القبائل والأمم التي تؤديها، فأما ما كان يرسل منها إلى المدينة، ومعظمه من الإبل والماشية، ثم يَفيض بعد التوزيع عن حاجة من ورد ذكرهم في آية الصدقات، فكان يوسم بميسم خاص ويوضع على مقربة من المدينة بمكان أطلق عليه اسم الحِمَى، فإذا غزا المسلمون أعانوا بهذه الإبل والأموال من لا يجد دابة تحمله أو سلاحًا يُقاتل به، وعالوا فقراء المسلمين بما بقي منها.

فأما ما كان المسلمون يغنمونه في غزوات رسول الله من الفيء، فكان هو يوزعه بعد المعركة ولا يُبقي منه شيئًا، وقد سار أبو بكر سيرته وصنع صنعيه؛ فكان ما يرد من فيء العراق يوزع بين أهل المدينة، ولا يبقى منه شيء وجرى الأمر على ذلك في العهد الأول من خلافة عمر، لكن اتساع رُقْعة الفتح زاد في أموال الفيء، كما فتح موردًا آخر أغزرَ مادَّةً وأبقى؛ ذلك مورد الخراج والجزية، فقد صالح المسلمون أهل البلاد التي استولوا عليها، في العراق وفارس وفي الشام ومصر، على أن يدفعوا جزية كان متوسطها على كل رأس دينارين، وذلك فضلًا عن الخراج الذي كان الزراع يدفعونه عن أرضهم؛ فينفق جانب منه على مرافقهم وعلى تنظيم الحكم فيهم، ويرسل ما بقي منه بعد ذلك إلى المدينة، وقد بلغت غزارة هذا المورد، قبل أن يتم فتح فارس وقبل أن يبدأ غزو مصر مبلغًا حمل الخليفة على التفكير في إقامة نظام مالي للدولة الناشئة.

أورد المؤرخون روايات عدة في السبب الذي أدى بعمر إلى هذا التفكير، قيل: إن أبا هريرة قدم من البحرين، فسأله عمر عن الناس ثم قال: ماذا جئت به؟ قال أبو هريرة: جئت بخمسمائة ألف درهم، فدهش عمر وقال: هل تدري ماذا تقول؟ فأعاد أبو هريرة أنه جاء بخمسمائة ألف درهم، وظن عمر أن الرجل يبالغ فكرر عليه السؤال فلما سمع الجواب الأول قال له: إنك ناعس، فارجع إلى أهلك فَنَمْ، فإذا أصبحت فأتني فلما غدا عليه أبو هريرة وأكد له أنه جاء بخمسمائة ألف درهم، قال عمر للناس: إنه قدم علينا مال كثير، فإن شئتم أن نعده لكم عدًّا، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلًا، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إني قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدوِّنون ديوانًا يُعطون الناس عليه، فَدَوَّن عمر الديوان.

وقيل: إن عمر استشار الناس في تدوين الديوان، فقال له علي بن أبي طالب: «تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تُبقي منه شيئًا.» وقال عثمان بن عفان: «أرى مالًا كثيرًا يسع الناس؛ وإن لم يُحْصَوْا حتى تعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر.» فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: «يا أمير المؤمنين! قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دوَّنوا ديوانًا وجنَّدوا جنودًا، فدوِّن ديوانًا وجنِّد جنودًا.» فأخذ بقوله، فدعا عَقِيل بن أبي طَالِبٍ ومَخْرَمَة بن نوفل وجُبير بن مُطعِم، وكانوا من نُسَّاب قريش، فقال لهم: «اكتبوا الناس على منازلهم.»

وفي رواية أن عمر استشار المهاجرين والأنصار في تدوين الديوان وفرض العطاء، فأشاروا عليه به، ثم استشار مُسْلِمَةَ الفتح فوافقوا عليه إلا حكيم بن حزام، وكان من أشراف مكة وذوي الرأي فيها، فقد قال: «يا أمير المؤمنين، إن قريشًا أهل تجارة ومتى فرضتَ لهم عطاء تركوا تجارتهم، فيأتي بعدك من يحبس عنهم العطاء فتكون التجارة قد خرجت من أيديهم.» وكأنما كان حكيم قد تفتحت له حجب الغيب وهو يلقي بهذا القول! فقد أغرى العطاء العرب بالكسل وأغناهم عن السعي للرزق، فلما تبدلت الأحوال ووقف اندفاع الفتح واشترك غير العرب فيه، وذلك بعد أن انتقلت العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم إلى بغداد، انقبض العطاء الذي كان مفروضًا لأهل شبه الجزيرة فلم يُطِقِ الجيل الذي نشأ في البطالة أن يعود إلى التجارة والسعي للرزق، فأمحل الحجاز وظل مُمحِلًا إلى وقتنا الحاضر.

كيف غابت هذه النتيجة عن عمر فلم يحسب لها حسابها ولم يتخذ الحيطة لاتقائها، وبخاصة أنه نُبِّهَ لها ولُفِتَ إلى آثارها؟ هذا اعتراض يبدو ظاهر الوجاهة بعد الذي انحدرت إليه شبه الجزيرة من فقر وإمحال، وكأنما كان عمر يتوسمه ويتوقعه، فهو كثيرًا ما كان يُنَبِّهُ الناس إلى وجوب الدأب في السعي والاستكثار من الرزق، كما أنه كان شديد البرَم بأولئك الذين يُظهرون الإعراض عن الدنيا تعبُّدًا وزهادة، رأى رجلًا يومًا يظهر النسك والتماوت، فَخَفَقَهُ بالدِّرَّة وقال له: «لا تُمِتْ علينا دينَنا، أماتك الله!» وكان يقول للناس: «من كان له مال فَلْيُصْلِحْهُ، ومن كانت له أرض فَلْيَعْمُرْهَا، وإنه يوشك أن يجيء من لا يُعطي إلا مَنْ أَحَبَّ.» وكان يؤمن بأن على المرء أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا.

وإنما دوَّن عمر الديوان وفرض العطاء ليفرغ العرب للجهاد في سبيل الله كيما يصبح ميدان الدعوة إلى دين الله حرًّا طليقًا، لا يتحكم فيه الفرس والروم ولا غير الفرس والروم، ولهذا الغرض حرم في عهده قسمة الأرض في البلاد المفتوحة على الجند، حتى لا يُشْغَلوا بالزراعة عن الجهاد، وحتى لا تجذبهم الأرض إليها فتُنسيهم الرسالة الكبرى التي ألقى القدر على العرب أن ينهضوا بها، فينشروا نور الله وحكمته في أقطار العالم جميعًا، وقد أعان تدوين الديوان وفرض العطاء أولئك العرب الأولين على أداء الرسالة التي ألقت الأقدار عليهم أداءها كما رأيت، وأداؤهم لها هو الذي خلد على التاريخ أسماءهم، ودوَّن في صحفه فعالهم.

وهذا الحرص من عمر على أن ينهض العرب لينشروا لواء الإسلام، هو الذي صرفه عن توجيه أموال الخراج والجزية لإصلاح الأرض في شبه الجزيرة، بإقامة سدود كسد مأرب تحيل باديتها الممحلة مزارع مُمرِعة الخصب، فلو أنه فعل لقعد العرب عن الجهاد إلى ما هو أيسر مشقة وأقل تعريضًا للخطر، ولما أدوا رسالة الإسلام على النحو الذي أدوها به، هذا إلى أن العرب لم يكونوا أهل زراعة وصناعة مثلما كانوا أهل حرب وتجارة، ولذلك كان فرض العطاء قَمِينًا أن يدفعهم إلى تثميره في الناحية التي توجههم طبيعتهم إليها، ولعلهم فعلوا أو كانوا يفعلون لولا أن قامت الثورات في بلاد العرب من بعد عمر، فصرفت الناس إلى المنازعات على السياسة والملك، وقد أدت هذه المنازعات إلى انتقال العاصمة إلى الشام ثم إلى العراق، كما أدت ببلاد العرب إلى الفقر والإمحال الذي تعانيه من ذلك العهد.

ونعود الآن إلى تدوين الديوان وفرض العطاء، والديوان كلمة فارسية معرَّبة، معناها مجتمع الصحف، يُكتب فيها رجال الجيش ومن فرض لهم العطاء، وقد تطور مدلول هذه الكلمة من بعد، فصارت تطلق على الموضع الذي تحفظ فيه سجلات الدولة، ثم صارت تطلق على الأمكنة التي يجلس فيها القائمون على هذه السجلات، كما تطلق على السجلات نفسها، وبديهي أنها لم تتعدَّ في عهد عمر معناها الأول، فكان الديوان سجلًّا أُحصي فيه مَنْ فُرِضَ لهم العطاء من رجال الجيش ومن غيرهم، وذكر فيه أمام كل اسم عطاء صاحبه.

عزم عمر على تدوين الديوان، فدعا عَقِيلَ بن أبي طَالِبٍ ومَخْرَمَةَ بن نَوْفَلٍ وجُبَيْرَ بن مُطْعِمٍ، وقال لهم: «اكتبوا الناس على منازلهم.» فكتبوهم مبتدئين ببني هاشم، ثم بني تيم قبيلة أبي بكر، فبني عدي قبيلة عمر، فلما رأى عمر ما صنعوا قال: «وددت والله لو أنه هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة النبي الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.» رُوي أن بني عدي عرفوا ما صنع فجاءوا إليه وقالوا له: أنت خليفة رسول الله ؛٢ فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! فنظر إليهم شَزْرًا وأجابهم: «بَخٍ بَخٍ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أُطبق عليكم الدفتر (يعني أن تكتبوا آخر الناس)، إن لي صاحبيْنِ سلكا طريقًا، فإن خالفتهما خولف بي، والله ما أدركنا الفضل في الدنيا ولا نرجو ما نرجو في الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلا بمحمد ؛ فهو شرفنا وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب.»

هذه نزعة جديدة أريد بها تقسيم الناس طوائف بعضها فوق بعض درجات، وهي نزعة لم ينزعها أبو بكر، ولم ينزعها عمر نفسه في أول عهده، فالقرآن لم يفضل طبقة من المسلمين على طبقة، ولم يزد جماعة في الرزق لنسبهم على نحو ما فعل عمر في الديوان، ولم يجعل الناس طبقات يمتاز بعضهم على بعض بالنسب، ويكرم بعضهم عند الله على بعض بغير التقوى، وذلك قول عمر نفسه: «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى القرابة وليعمل لما عند الله، فمن قَصَّرَ به عملُه لم يُسْرِعْ به نسبُه.» على أن هذا المنزع الجديد الذي نزعه عمر، لم يقف عند ترتيب الأسماء في السجل والبدء بالأقرب فالأقرب من رسول الله، بل تعدى ذلك إلى فرض العطاء؛ فأنشأ طوائف ما كان لأيها أن تبقى، وقد ترك هذا المنزع في الحياة الإسلامية أثرًا لا يزال باقيًا إلى اليوم.

فضل عمر بعض المسلمين على بعض في العطاء، فخالف في ذلك أبا بكر؛ إذ كان يسوي بينهم في القسمة، وقد قيل للصديق يومًا: ألا تفضل السابقين إلى الإسلام؟ فكان جوابه: «إنما أسلموا لله وعليه أجرهم، يوفيهم ذلك يوم القيامة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.» وذُكر صنيع الصديق لعمر حين أراد تفضيل السابقين فقال: «لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه.» ولذا فضل أهل بدر على غيرهم، ثم جعل مَنْ بعدهم درجات، على أنه فضل الأدنين من قرابة رسول الله، لم ينظر في ذلك إلى جهاد ولا إلى سابقة في الإسلام؛ ففرض للعباس بن عبد المطلب عم النبي اثني عشر ألف درهم، ولصفية ابنة عبد المطلب أخته ستة آلاف درهم، وفرض لكل واحدة من نساء النبي عشرة آلاف درهم إلا من جرى عليها المِلك؛ لكنهن قلن: ما كان رسول الله يفضلنا عليهن في القسمة، فسوِّ بيننا، ففعل، مع هذا فضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله إياها، ففرض لها اثني عشر ألفًا، فلم تأخذ ما فضلها به على غيرها من أمهات المؤمنين.٣

ثم إنه فرض لكل رجل شهد بدرًا خمسة آلاف درهم في كل سنة، وفرض لكل من كان له إسلام كإسلام أهل بدر من مهاجرة الحبشة ومن شهد أحدًا أربعة آلاف درهم في كل سنة، وفرض لأبناء البدريين ألفين ألفين إلا حسنًا وحسينًا فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله، ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف درهم، وفرض لكل رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولكل رجل من مُسلِمة الفتح ألفين، ولغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مُسلِمة الفتح، وفرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم، ثم جعل من بقي من الناس بابًا واحدًا، ففرض لمن جاء من المسلمين إلى المدينة وأقام بها خمسة وعشرين دينارًا، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق ألفين إلى ألف إلى تسعمائة إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة، ولم يُنْقِصْ أحدًا عن ثلاثمائة، وقال: «لئن كثر المال لأفرضن لكل أربعة آلاف درهم؛ ألف لسفره، وألف لسلاحه، وألف يخلِّفها لأهله، وألف لفرسه وبغله.»

وكان عمر يفرض للمنفوس مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده وكان إذا أُتي بلقيط فرض له مائة درهم وفرض لوليه كل شهر رزقًا يُصلحه، وجعل رضاعه ونفقته من بيت المال، ثم يزيد عطاءه بعد ذلك من سنة إلى سنة، كما كان يصنع بغيره من الأطفال.

والقاعدة التي وضعها عمر وجعلها أساسًا لتوزيع العطاء تبدو واضحة في قوله: «ما من الناس أحد إلا له في هذا المال حق أُعْطِيَهُ أو مُنِعَهُ، وما من أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدهم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله ؛ فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغَناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صَنْعاء حظه من هذا المال وهو مكانه.» وكذلك فرض عمر للناس جميعًا لم يترك منهم أحدًا، أورد ابن سعد في الطبقات رواية عن سالم أبي عبد الله أنه قال: «فرض عمر بن الخطاب للناس حتى لم يدع أحدًا من الناس إلا فرض له، حتى بقيت بقية لا عشائر لهم ولا موالٍ ففرض لهم ما بين المائتين وخمسين إلى ثلاثمائة.»

غير أن عمر خرج عن القاعدة التي وضعها لتنظيم العطاء في أمر رجال ونساء زاد في عطائهم على عطاء أمثالهم ممن في طبقتهم، فرض لعمر بن أبي سلمة أربعة آلاف درهم، وعمر هذا هو ابن أم سلمة أم المؤمنين، وقد اعترض محمد بن عبد الله بن جحش وقال لأمير المؤمنين: لِمَ تُفَضِّل عمر علينا؟ فقد هاجر آباؤنا وشهدوا، وأجابه ابن الخطاب بقوله: «أُفَضِّله لمكانه من النبي ، فليأتني الذي يستعتب بأم مثل أُمِّ سَلَمَةَ أُعتبه!» وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم، فقال عبد الله بن عمر: «فرضت لي ثلاثة آلاف وفرضت لأسامة أربعة آلاف وقد شهدت ما لم يشهد أسامة!» وأجابه عمر: «زدته؛ لأنه كان أحبَّ إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحبَّ إلى رسول الله من أبيك.» وفرض لأسماء بنت عُمَيْسٍ زوج أبي بكر ألف درهم، فزادهن ولأم كلثوم بنت عقبة ألف درهم، ولأم عبد الله بن مسعود ألف درهم، على أمثالهن لمكانتهن الخاصة إذ كن أزواجًا وأمهات لرجال لهم على غيرهم منزلة وفضل.

وكان عمر حريصًا على أن يبلغ كل ذي حظ في العطاء حظه، حتى لكان يجشم نفسه في ذلك المتاعب، رُوي عن حزام بن هشام الكعبي عن أبيه أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب يحمل ديوان خُزاعة حتى ينزل قُدَيْدًا، فلا يغيب عنه امرأة بِكْرٌ ولا ثَيِّب فيعطيهن في أيديهن، ثم يروح فينزل عُسْفَان فيفعل مثل ذلك أيضًا حتى توفي، وكتب عمر إلى حُذَيفة أن أعطِ الناس أعطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه: «إنا قد فعلنا وبقي شيء كثير.» فكتب إليه عمر: «إنه فَيْؤُهُم الذي أفاء الله عليهم، فليس هو لعمر ولا لآل عمر؛ اقسمه بينهم.»

وإنما كتب عمر هذا الكتاب إلى حذيفة؛ لأن الدواوين، وهي سجلات العطاء، لم تكن كلها بالمدينة، بل كان كل ديوان على حدة عند والي البلد أو القبيلة التي فُرِض فيها لأهل العطاء، فكان ديوان حِمْيَر على حدة عند والي اليمن، وديوان البصرة عند واليها، وديوان كل إمارة عند أميرها، بهذا أصبح كل رجل من المسلمين يقبض عطاءه من البلد الذي هو فيه، وأصبح كل والٍ مسئولًا عن إيصال العطاء إلى أصحابه في ولايته، كما كان عمر يوصل العطاء لأصحابه في المدينة، وفيما حولها من الأرجاء الداخلة في نطاقها.

متى دون عمر الديوان وفرض العطاء؟ ذلك أمر اختلف فيه، يقول الطبري: إنه كان في السنة الخامسة عشرة للهجرة، ويقول ابن سعد: إنه كان في محرم سنة عشرين، وقد يتعذر القطع أي التاريخين أصح، فلمَّا يكن الفتح في السنة الخامسة عشرة قد بلغ المدائن، لكن سواد العراق كان مع ذلك قد صار في يد المسلمين؛ ولمَّا تكن بيت المقدس قد فتحت أبوابها لعمر، لكن المسلمين كانوا قد استولوا على دمشق وطهروا الأردن وتقدموا إلى حمص وقِنَّسْرِين، أترى عمر رأى فيما يُجبى إلى المدينة من سواد العراق ومن بلاد الشام ما أدى به إلى تدوين الديوان؟ ذلك ما يقوله الطبري، أم هو لم يدون الديوان حتى تم فتح العراق والشام، وجبى منهما الجزية والخراج، وكثر بذلك ما يرد إليه من المال، حتى لقد حار أيعده عدًّا أم يكيله كيلًا إلى أن أشير عليه بتدوين الديوان، فكان ذلك سنة عشرين على ما يقول ابن سعد؟ أراني أميل إلى هذا الرأي الأخير وإن كنت لا أستطيع القطع به، وإنما يميل بي إليه أن تدوين الديوان لا يمكن أن يعتمد على الفَيْء الذي يرد من الغزو، فالفيء مورد غير ثابت، وعطاء الديوان مصرف سنوي ثابت، لا بد إذن أنه اعتمد على الجزية والخراج، ولم تبلغ الجزية ولم يبلغ الخراج المبلغ الذي يسع عطاء العرب جميعًا في التاريخ الذي يذكر الطبري أنه دُوِّنَ فيه.

لم يكن العرب في شبه الجزيرة وفي البلاد المفتوحة أقل حرصًا على قبض أعطياتهم من عمر على إيصالها إليهم، ولِمَ لا يفعلون، وكان هو يحضهم على ذلك ويحرضهم عليه، ويدعوهم لحسن استغلال ما يقبضونه، فيقول: «لو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء العُرَيْب ابتاع منه غنمًا فجعلها بسوادهم، ثم إذا خرج العطاء ثانية ابتاع الرأس فجعله فيها! فإني أخاف عليكم أن يليكم بعدي وُلاة لا يعدُّ العطاء في زمانهم مالًا، فإن بقي أحد منهم أو أحد من وَلُوه كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه.» وكان أكثرهم يعملون بنصيحة عمر.

على أن طائفة ممن ميزهم عمر في العطاء كانوا يتصدقون به، رُوي أن أم المؤمنين زينب بنت جحش قالت حين دخل عليها العطاء: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، قيل: هذا كله لك، قالت: سبحان الله واستترت منه بثوب، وقالت: صُبُّوه واطرحوا عليه ثوبًا، ثم قالت لبَرْزَةَ بنت رافع: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان، من أهل رحمها وأيتامها؛ حتى بقيت بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة: غفر الله لك يا أم المؤمنين! والله لقد كان لنا في هذا حق! قالت: فكم ما تحت الثوب، فلما كشفوا الثوب لم يجدوا إلا خمسة وثمانين درهمًا، ثم رفعت زينب يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا! واستجاب لها ربها فقبضها إليه.

كان ذلك شأن أم المؤمنين زينب، وشأن أفراد قليلين غيرها، فأما الأكثرون فكانوا يقبضون عطاءهم ويثمرونه في التجارة؛ لذلك أسرعت ثروة أصحاب العطاء الذين يعدون بالألوف إلى الزيادة أضعافًا مضاعفة، فظهرت بين الطبقات فوارق تأثر بها النظام الاجتماعي تأثرًا واضحًا، لفت عمر ودعاه للتفكير في الأمر والتماس الوسيلة لإعادة النظر فيه، وقد انتهى به الرأي إلى تفضيل ما جرى الصِّدِّيق عليه من تسوية بين المسلمين في قسمة الفيء، وود لو صنع صنيعه في أمر العطاء؛ لذلك قال: «والله لئن بقيت إلى هذا العام المقبل لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم رجلًا واحدًا!» وقال: «لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهم!» وهو قد كان مع ذلك يدرك أن التسوية، بنقص العطاء الذي فرضه لمن ميزهم، ربما جرَّت إلى امْتِعاض لا تحسن مَغَبَّتُه، فكان أكبر همه أن يرفع عطاء ذوي العطاء القليل ليساويهم بمن زاد عطاؤهم، وذلك قوله: «لئن عشت حتى يكثر المال لأجعلن عطاء الرجل المسلم ثلاثة آلاف: ألف لكُراعه وسلاحه، وألف نفقة له، وألف نفقة لأهله.» لكنه لم يبقَ إلى الحول، بل قُتل هذا العام المقبل، فبقيت الطبقات، ثم كان لبقائها من الأثر في حياة الأمة الإسلامية من بعد ما لا يدخل تفصيله في نطاق هذا الكتاب.

لم ينشئ عمر ديوان العطاء وحسب؛ فقد قيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء، وإن دواوين الشام كانت تُكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها الفرس والروم والقبط دون المسلمين، وقد كان إنشاء هذا الديوان، كما كان إنشاء ديوان الخراج وتشييد مصنع السكة لضرب النقود وإقامة بيوت المال في مختلف الأمصار، مما قضى به التطور السريع الذي أدى إليه الفتح وانتشار المسلمين في أقطار الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، أما قبل ذلك فلم يكن للدولة الإسلامية شيء من هذه الدواوين، فقد كان من أصحاب رسول الله من يكتبون له الكتب والرسائل، وكانت هذه الكتب تحفظ صورها وتحفظ الردود عليها في داره بالمدينة، ولم يكن له بيت مال؛ لأنه كان يوزع الفيء، ويوزع الصدقات أول ما يقبضها، وصنع الصدِّيق صنيعه؛ فكان يحفظ في داره كتبه ورسائله إلى أمراء جنده، وإلى المرتدين الذين بعث هؤلاء الأمراء لقتالهم، وإلى من ندبهم من القواد والجند للسير إلى العراق والشام، وصنع أمراء الجند صنيعه، فكانوا يحفظون في مضاربهم رسائلهم إلى الخليفة، وأوامرهم إلى الجند، وكتبهم إلى العدو، وعقود الصلح التي تُبرم بينهم وبين البلاد التي يظفرون بها ويصالحون أهلها، وكان الصديق يوزع ما يجيئه من الفَيْء لا يُبقي منه شيئًا، فلما اتسعت في أيام عمر رقعة المملكة، وتضاعفت بذلك أعمال الدولة، وعُيِّنت لجندها مسالح فيما وراء حدودها، وزاد المال الذي يرد إليها، لم يكن بد من مواجهة هذا الطور الجديد بوسائل تكفل دقة ضبط ذلك كله ضبطًا تتسنى معه الهيمنة على مصالح الدولة، وإقامة العدل بين الناس، وتُساس به الأقطار المفتوحة سياسة حكيمة تُرضي أهلها عن الحكم الذي قام فيهم مقام حكم الأكاسرة وحكم القياصرة، وقد رأيت في هذا الفصل وفيما سبقه كيف تم ذلك كله في أناة وحزم وحكمة وروية، وكيف كان عمر يعالجه مسايرًا أطوار الفتح، لا يسبقها ولا يستأخر عنها.

والحق أن المجهود الضخم الذي نظم الحكم الإسلامي، في الفترة التي انقضت بين هجرة رسول الله وقيام الإمبراطورية العمرية، جدير بكل إجلال وإكبار، فأين من هاته الإمبراطورية العظيمة ونظامها الجديد ما كان من تولي رسول الله أمور المدينة بعد هجرته إليها ومؤاخاته بين المسلمين فيها! نعم أين من هذه الحكومة المدينة التي تشرف على بلاد فارس والعراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية كلها، تلك الحكومة البدوية التي لم تتعدَّ حدود المدينة قبل السنة السادسة للهجرة، حين عقد رسول الله عهد الحديبية مع أهل مكة! وهذا العهد هو الذي نزل فيه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا.

وقد بدأ المسلمون بعد هذا العهد حياة جديدة تطور معها نظام الحكم شيئًا فشيئًا، ففي السنة السابعة بعث رسول الله إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى الإسلام، فكان رد كسرى ثم وفاته مؤذنين بإسلام عامله الفارسي على اليمن، وانضوائه إلى لواء النبي العربي، وتوليه الأمر في اليمن باسمه، وفي السنة الثامنة فتحت مكة ثم فتحت الطائف وأسلم أهلها، فبعث رسول الله عاملًا من لدنه إلى كل منهما، وفي السنة التاسعة أقبلت وفود شبه الجزيرة إلى المدينة تعلن إسلامها وإسلام القبائل التي تنتمي إليها، فبعث إليها رسول الله في السنة العاشرة عماله يفقهون الناس في الدين ويجبون منهم الصدقات، وفي السنة الحادية عشرة قُبض رسول الله، وبويع أبو بكر، فكان قضاؤه على الرِّدَّة إيذانًا بقيام نظام جديد في شبه الجزيرة، وفي السنة الثانية عشرة بدأ الصدِّيق التمهيد للفتح وللإمبراطورية بغزو العراق وغزو الشام، وفي السنة الثالثة عشرة قُبض الصدِّيق، وبويع عمر، فتم في عهده فتح العراق وفارس والشام ومصر وبَرْقة، وأصبحت الإمبراطورية الإسلامية بذلك حقيقة واقعة، هذه أحداث ضخمة تمت في أقل من خمس عشرة سنة، فغيرت وجه التاريخ ووجهت الحضارة الإنسانية وجهة جديدة؛ وكان المجهود الذي أتمها جديرًا بكل إجلال وإكبار.

وفي هذه السنوات المعدودة كان نظام الحكم يتطور شيئًا فشيئًا من البداوة العربية إلى الصورة المدنية التي رسمناها. على أن هذه الصورة ظلت في جوهرها عربية إسلامية، أقامت النظام الجديد على أساس من الشورى، ثم دفعته خطوات تقدَّم بها أحدث المبادئ التي كانت معروفة في ذلك العصر، فقد كان عاهل الفرس وعاهل الروم يزعمان أنهما يستمدان سلطانهما من الله، أما أمير المؤمنين فكان يستمد سلطانه ممن بايعوه، ولم يكن لسلطان العاهلين حد يحول بينهما وبين التصرفات المطلقة في حرية العباد وفي رقابهم بما يريان، أما أمير المؤمنين فكان مقيدًا بما جاء في كتاب الله، ومما جرت به سنة رسوله، ثم إن مشورة أولي الرأي كان لها وزن أي وزن، وكان أصحاب هذه المشورة يبدونها أحرارًا في حدود إيمانهم الصادق بالله ورسوله، وبالرسالة التي أُلقي على العرب تبليغها للناس في أقطار الأرض كافة، وكانت حريتهم، وحرية غيرهم من المسلمين، تقوم على أساس من المساواة الصحيحة بينهم جميعًا أمام الله وما أمر به ونهى عنه؛ فلا فضل لأمير على رجل من سواد الناس، ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، وإيمانهم بهذه المساواة وبهذه الحرية هو الذي سما بإخائهم إلى حيث يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.

هذه هي المبادئ السامية التي تطور الحكم الإسلامي في ظلالها فأعزت المسلمين، واحترام عمر لهذه المبادئ، وحرصه البالغ على دقة تطبيقها، هما موضع مجده وفخره، وحيثما كانت المبادئ التي يتعامل الناس على أساسها ويتطور نظام الحكم في ظلالها سليمة محترمة بين الجميع، وكان الحكم عادلًا نزيهًا، كانا من أقوى العوامل لعظمة الأمة وجلال مجدها، ولذا بلغ المسلمون ما بلغوا في عهد عمر، فقامت الإمبراطورية الإسلامية في عهده ثم قامت من بعده، متينة الأساس شامخة البناء.

هوامش

(١) كان عمال أبي بكر: عتَّاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، والمُهاجر بن أبي أمية على صنعاء، وزياد بن لبيد على حضرموت؛ ويَعْلى بن أمية على خولان، وأبا موسى على زبيد.
(٢) في رواية أخرى: خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله.
(٣) هذه رواية الطبري. وفي رواية لابن سعد أنه فرض لكل واحدة من أزواج النبي اثني عشر ألفًا وجُوَيْرِية بنت الحارث وصفية بنت حُيَي فيهن. ويردف ابن سعد هذه الرواية بقوله: «هذا المجمع عليه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤