الفصل الثالث

في صحبة النبي

دخل عمر في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، فما لبث حين أسلم أن حرص على أن يذيع في قريش كلها إسلامه. كان المسلمون لا يستطيعون أن يصلوا بالبيت العتيق، فقاتل عمر قريشًا حتى تركوهم فصلوا، وكانت الدعوة إلى الإسلام تجري خفية، حتى إذا أسلم عمر دُعي إليه علانية، وجلس المسلمون حول البيت وطافوا به وانتصفوا ممن غلظ عليهم؛ لذلك فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فأقبل كثيرون من أبنائها على الإسلام، هنالك ائتمرت قريش، فتعاهدت قبائلها فكتبوا بينهم صحيفة علقوها في جوف الكعبة وتعاقدوا فيها على ألا تكون بينهم وبين محمد وبني هاشم وبني المطلب تجارة أو صلة، بذلك ازدادت الحرب شدة بين قريش والمسلمين.

وقد استعانت قريش في هذه الحرب بكل الأسلحة؛ استعانت بسلاح الدعاية فزعمت أن محمدًا ساحر البيان يفرق بقوله بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، ودست عليه النضر بن الحارث يخلفه في كل مجلس ليقص على قريش نبأ فارس ودينها، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها، وأذاعت أن غلامًا نصرانيًّا اسمه جبر هو الذي يعلم محمدًا أكثر ما يأتي به، وكان محمد يكثر من الجلوس عند المروة إلى مَبْيعة هذا الغلام.

ثم إن قريشًا اشتدت في إيذاء محمد وأصحابه؛ كانت أم جميل زوج أبي لهب تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله حيث يمر، وكان أمية بن خلف يهمزه ويلمزه كلما رآه، وكانت فتنة المستضعفين بمختلف أساليب العنف من مألوف ما يجري بمكة كل يوم.

وكان رسول الله والمسلمون الذين أقاموا معه بمكة ولم يهاجروا إلى الحبشة يلقون ما يصيبهم من ذلك كله صابرين على البأساء والضراء، فلما بلغ منهم الأذى وقاطعتهم قريش احتموا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، فكانوا فيه يعانون الحرمان، ولا يجدون من الطعام إلا القليل يحمله إليهم من أهل مكة من أخذتهم الشفقة بهم، ولولا ذلك لهلكوا جوعًا، وقد ظلوا في هذا الشعب ثلاث سنوات حسومًا، لا يخرجون منه إلا في الأشهر الحرم.

وفي هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يبلغهم رسالة ربه، فيرى بعضهم في صبره وصبر أصحابه على الأذى إيمانًا بالحق الذي أوحاه الله إليه فيتبعونه.

وضاق هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية ذرعًا بالصحيفة الظالمة التي قاطعت قريش بها محمدًا فاتفقا مع آخرين فنزعوها من جدار الكعبة وشقوها، ولم تثر قريش لعملهم، فعاد محمد وأصحابه من الشعب، وجعل يذيع دعوته بمكة وفي القبائل التي تفد إليها في الأشهر الحرم.

وكانت قريش تزداد في حرب محمد عنفًا كلما ازداد في الدعوة إلى الله إمعانًا، ومات عمه أبو طالب، وماتت زوجه خديجة، فشجع ذلك قريشًا على زيادة التعرض له وإيذائه، وأراد أن يستنصر ثقيفًا بالطائف فردوه بشر جواب، وعرض نفسه في المواسم على القبائل وأتاها في منازلها، فلم يسمع له منها أحد.

ثم كان الإسراء، فانصرف جماعة من المسلمين عن دينهم، وازدادت قريش إيذاء لمن أقاموا على إسلامهم حتى ضاقوا بما يلقون منها ذرعًا، على أن دعوة محمد كانت قد اتصلت على السنين، فتركت من الأثر ما جعل كثيرين يفكرون فيها وفي الحق الذي تنطوي عليه، وكان أهل يثرب أكثر تأثرًا بها من سائر العرب؛ لذلك أسلمت طائفة منهم كانوا النواة لبيعة العقبة الأولى، وكان إسلامهم أول ما دعا رسول الله للتفكير في الهجرة إلى يثرب.

فلما استدار العام أقبل من المدينة خمسة وسبعون مسلمًا، ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، وهؤلاء هم الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية أو الكبرى، بايعهم رسول الله على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، ومن يومئذ أمر أصحابه بمكة أن يلحقوا الأنصار بيثرب على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا تثور قريش بهم، وكان هذا مبدأ الهجرة إلى المدينة، وبدأ انتقال الإسلام إليها وانتشاره منها إلى سائر الأرجاء من شبه الجزيرة.

هذه الفترة التي انقضت بين إسلام عمر وأمر محمد أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب هي لا ريب من أدق الفترات التي مر بها رسول الله ودين الله، أفكان لعمر بن الخطاب فيها مواقف تتفق وما عرف من صراحته وبأسه وقوة شكيمته؟ لم نقف في كتب السيرة وكتب التاريخ على شيء من ذلك فيه غناء، لكن ذلك ليس معناه أن عمر في فتوة شبابه ومضاء بأسه وبالغ قوته، قد وقف من الأحداث التي مرت حينئذ برسول الله وبالمسلمين موقفًا سلبيًّا، فهو من غير شك قد كان من أكثر المسلمين شجاعة في احتمال ما ينزل بهم وصبرًا عليه، ومن أشدهم دفعًا لما يستطيع دفعه من الأذى عن رسول الله وعن إخوانه المسلمين، لكنه رجل يؤمن بالنظام ويحرص أشد الحرص على اتباعه، كان ذلك شأنه في الجاهلية، فأَحْر به أن يكون شأنه في الإسلام، وقد كانت سياسة رسول الله في هذه الفترة التي نتحدث عنها تتجنب البأس والشدة في كل مظاهرهما، ولا تتجاوز المغفرة لمن أساء إليه، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، كان ذلك موقفه من قريش بمكة، ومن ثقيف بالطائف، ومن سائر القبائل التي دعاها إلى النور والهدى فاستكبرت وأعرضت عن دعوته. وهذه سياسته لم يكن لبأس عمر وقوته أن يظهرا معها ظهورهما يوم أسلم وقاتل المشركين حتى صلى وصلى المسلمون معه عند الكعبة.

فلما كانت الهجرة هاجر عمر إلى المدينة كما هاجر غيره من المسلمين، فترك مكة في سر من أهلها، وإن جرت رواية تنسب إلى علي بن أبي طالب بأنه قال: «ما علمت أن أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا واختصر عَنَزته١ ومضى قِبَل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الحِلَق واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه! لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يُثكل أمه أو يُوتم ولده أو يُرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.»

فابن هشام وابن سعد والطبري لا يثبتون هذه الرواية، بل يذكر ابن هشام في السيرة وابن سعد في الطبقات أن رسول الله أذن للناس في الهجرة، على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا تثور قريش بهم، فجعل المسلمون يخرجون أرسالًا، يركب أهل القوة ويعتقبون، فأما من لم يجدوا ظهرًا فيمشون، قال عمر بن الخطاب: «فكنت قد اتَّعدت أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل، وكنا إنما نخرج سرًّا، فقلنا: أيكم ما تخلف عن الموعد فلينطلق صاحباه، فخرجت أنا وعياش بن أبي ربيعة، واحتبس هشام بن العاص ففتن فيمن فتن، وقدمت أنا وعياش فنزلنا قباء.» ثم تذكر الرواية بعد ذلك أن عياشًا عاد إلى مكة استجابة لطلب أمه، وأنه حبس هناك ثم فتن فافتتن.

هل تتناقض هاتان الروايتان؟ أم يستطاع التوفيق بينهما بأن عمر تحدى المشركين على ما جاء في الرواية المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، ثم هاجر بعد ذلك فخرج سرًّا على رواية ابن هشام وابن سعد؟ نرجح أن عمر لم يتحدَّ أحدًا، وأنه هاجر من مكة في سر من أهلها، وهو لم يفعل ذلك ضعفًا منه أو جبنًا، فهو لم يعرف الجبن ولا الضعف حياته، لكنه كان رجل نظام، فهو يتبع الجماعة ويحمل غيره على اتباعها، وقد كان المسلمون جميعًا يخرجون في هجرتهم سرًّا فلا عجب أن يجاريهم عمر في ذلك حرصًا على نظامهم، وحتى لا يشعر الذين يخرجون سرًّا بأنهم دون عمر في قوة إيمانه بالله ورسوله.

بلغ عمر قباء، فنزل بها في بني عمرو بن عَوْفٍ على رفاعة بن عبد المنذر، ونزل أهله على رفاعة معه فلما جاء رسول الله مهاجرًا وفي صحبته أبو بكر، كان عمر فيمن استقبله وسار في ركبه إلى المدينة، وعمل عمر مع رسول الله والمسلمين في بناء المسجد وبناء بيت رسول الله، حتى انتقل عليه الصلاة والسلام إليه من بيت أبي أيوب الأنصاري.

كانت الهجرة إلى المدينة بدء عهد جديد وسياسة جديدة في حياة الإسلام والمسلمين، اجتمع الذين هاجروا من مكة إلى الذين أسلموا بالمدينة، فكانوا قوة رفعت صوت المسلمين وأعلت كلمتهم، وأراد رسول الله أن يزيد هذا الصوت رفعة، وهذه الكلمة قوة، بأن يزيد ما بين المهاجرين والأنصار من رابطة، فيضاعف في نفوسهم الشعور بوحدتهم وعزتهم؛ لذلك دعاهم ليتآخوا في الله أخوين أخوين، فكان هو وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان عمه حمزة مولاه زيد بن حارثة أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وتآخى كذلك كل واحد من المهاجرين مع واحد من الأنصار إخاء جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب، وفي هذا الإخاء كان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عَوْفٍ بن عمرو بن عَوْفٍ الخزرجي، أخوين.٢

عززت هذه المؤاخاة مكانة المسلمين بالمدينة فخشي أهل يثرب من المشركين ومن اليهود بأسهم، لذلك لم يتردد اليهود فوادعوا رسول الله، وعقدوا معه عهدًا يقرر حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة، وأضعف هذا العهد الذين أقاموا على شركهم من أوس المدينة وخزرجها، كما قوى المسلمين وزادهم بأسًا وعزة.

هذه المكانة التي بلغها المسلمون في حياة المدينة العامة قد فتحت لعمر بن الخطاب ميادين لم تكن مفتوحة أمامه بمكة، إنه رجل نظام، ورجل رأي يناضل عنه في سبيل النظام، وقد كان المسلمون بمكة قلة عصمها إيمانها بالله ورسوله فلم تفتن ولم تضعف، متخذة من المقاومة السلبية سلاحها لدفع من يحاول فتنتها عن دين الله، والمقاومة السلبية لا تتفق وطبيعة عمر الثائرة القوية المتحفزة لتحدي من يتعرض لصاحبها؛ لذلك لم يكن بمكة متسع لنشاطه يبدو فيه وتظهر آثاره، أما وقد أصبح للمسلمين في حياة المدينة ونظامها هذا الأثر، فقد آن لعمر أن تظهر شخصيته وأن يكون له في الحياة العامة أثره.

بل لقد بدت في عمر صفات لم تعرف له بمكة: بدا أنه رجل مُحَدَّث، يلهم الرأي وكأنما حُدِّث بما ظن. لما اطمأن رسول الله بالمدينة كان الناس يجتمعون للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، وأراد رسول الله أن يجعل للمسلمين بوقًا كبوق اليهود يدعون به لصلاتهم؛ لكنه كره البوق، فأمر بناقوس يدق ساعات الصلاة كما يدق الناقوس للنصارى، فنُحت الناقوس وكلِّف عمر أن يشتري الغداة له خشبتين، وبينما عمر نائم في داره إذ رأى في المنام: «لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة.» فذهب إلى رسول الله يخبره بما رأى فإذا الوحي سبقه به.

ويروى أن عبد الله بن زيد سبقه إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف؛ مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا في يده، فقلت له: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ وألقى إليه صيغة الأذان، فأمر رسول الله بلالًا فأذن بها، فسمعها عمر وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله يجر رداءه ويقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى!

من يومئذ بدأ الأذان للصلاة يعطر جو المدينة كل يوم خمس مرات فكان الحجة القائمة على أن كلمة المسلمين أصبحت العليا، والأذان للصلاة دعوة للنظام الذي يزيد الآخذين به أيدًا وقوة، أما وقد حُدِّثَ به عمر قبل أن ينزل به الوحي، فذلك الدليل على أن دين الحق قد أخذ على هذا الرجل القوي مسالك نفسه، فصار لا يفكر في شيء تفكيره في النظام الذي يزيد هذا الدين عزًّا وانتشارًا.

على أن اليهود والمشركين الذين أقاموا على دينهم برموا بسلطان المسلمين وقوتهم، فبدءوا يأتمرون بهم ويعملون على مناوأتهم، وقد كان للمسلمين في مقاومة مؤامراتهم أساليب لا تخلو من شدة وعنف؟ وكان عمر بن الخطاب يشارك في هذه المقاومة كغيره من المسلمين.

وأراد رسول الله أن يرهب اليهود والمنافقين، وأن يقنع قريشًا بأن الخير لها أن تصالحه على حرية الدعوة لدين الله، فبعث السرايا، وأمر عليها حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وسعد بن أبي وَقَّاصٍ وعبد الله بن جحش، كما خرج بنفسه على رأس بعضها، ولم تذكر كتب السيرة ولا كتب التاريخ شيئًا عن اشتراك عمر في هذه السرايا الأولى، ولعل رسول الله قد آثر أن يبقى عمر بالمدينة لما كان من حسن سياسته مع صراحته في الحق، يشهد بذلك ما حدث حين قدم وفد من نصارى نجران إلى المدينة يجادلون رسول الله، فرد جدالهم وجدال اليهود بقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ثم دعا الوفد إلى قبول ما نزل عليه من ذلك أو يلاعنهم، ورأى هؤلاء النصارى أن يعودوا إلى قومهم ولا يلاعنوه، ثم رأوا شدة حرصه على العدل، فرغبوا إليه في أن يبعث معهم رجلًا يحكم بينهم في أمور اختلفوا عليها، فقال لهم رسول الله: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين، روى ابن هشام أن عمر بن الخطاب كان يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّرًا، فلما صلى بنا رسول الله الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ فدعاه فقال: اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فذهب بها أبو عُبَيْدَةَ.

وإنما طمع عمر في أن يوليه رسول الله الحكم لما كان يتولاه هو وآباؤه في الجاهلية من السفارة والحكم في المنافرات بين القبائل، فاختيار النبي أبا عُبَيْدَةَ مع ما كان لعمر في نفسه من مكانة، يشهد بأن رسول الله حرص على بقاء ابن الخطاب بالمدينة كيما يستعين بصراحته وجرأته وحسن رأيه هذا، على أنه قد يكون خشي شدة عمر وغلظته، فاختار أبا عبيدة؛ لأنه جمع بين الأمانة ولين الجانب ورضا النفس.

لم تقنع قريش بما أراد رسول الله من موادعتها على حرية الدعوة لدين الله، بل ظلت على عداوتها له ولأصحابه، فلما خرج يلقاها ببدر في ثلاثمائة من المسلمين، وعرف أن الذين جاءوا من مكة يزيدون على الألف، استشار أصحابه: أيقاتلهم أم يعود أدراجه إلى المدينة، وكان عمر كما كان أبو بكر ممن أشاروا بالقتال، فلما بدأت المعركة ثم حمي الوطيس، كان مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب أول قتيل من المسلمين، وفي أثناء المعركة قتل عمر خاله العاص بن هشام، يُروى أن عمر التقى يومئذ هو وسعيد بن العاص فقال له: «إني أراك كأن في نفسك شيئًا، أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور برَوْقِه٣ فحِدتُ عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله.»

هذه الكلمة التي قالها عمر هي أول ما يروى عنه في هذه الغزوة التي وجهت تاريخ الإسلام وتاريخ العالم كله وجهة جديدة، وهي تصور الأثر الذي تركه الإسلام في نفس عمر أدق تصوير، ففي سبيل هذا الدين يجب أن يستهين الإنسان بكل شيء، ويجب ألا يتردد حين القتال إذا واجهه أخ أو قريب، إنه يقدم حياته لله وفي سبيل الله، فليس له أن يتردد لأي اعتبار دون ما ينصر دين الله.

وأسر المسلمون سبعين من قريش أكثرهم من ساداتها وذوي المكانة فيها، فكان عمر بن الخطاب أشد المسلمين على هؤلاء الأسرى وأحرصهم على أن يقتلوا، وقد طمع الأسرى في الحياة وأن يفتدوا، فبعثوا إلى أبي بكر أن يكلم رسول الله ليمن عليهم أو يفاديهم، ووعدهم أبو بكر خيرًا، وخافوا أن يفسد عمر عليهم أمرهم، فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل قولهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرًا، وتحدث أبو بكر إلى رسول الله ليمن على هؤلاء الأسرى أو يفاديهم فيأخذ منهم ما يأخذ قوة للمسلمين، أما عمر فكان الشدة كل الشدة والبأس غاية البأس، قال: «يا رسول الله! هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، هم رءوس الكفر وأئمة الضلالة، يوطئ الله بها الإسلام ويذل بهم أهل الشرك.»

واستشار رسول الله المسلمين في هذا الأمر فانتهوا إلى قبول الفداء، وأفدى النبي الأسرى وأطلق سراحهم، لكن الوحي ما لبث بعد ذلك أن نزل بقوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

وكذلك كان عمر مُحَدَّثًا فيما أبدى من رأي عن أسرى بدر، كما كان محدثًا في أمر النداء بالأذان للصلاة، وبذلك زاد في نظر النبي وفي نظر المسلمين قدر رأيه وزادت عند النبي وعند المسلمين رفعة مكانته.

وقدم مِكْرز بن حفص في فداء سُهيل بن عمرو، وكان سهيل خطيبًا بالغ الحجة، فلما رأى عمر مكرزًا يفتديه، أسرع إلى رسول الله يقول: دعني أنزع ثَنِيَّتَيْ سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا، وأجابه رسول الله: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا.» وعبارة عمر صريحة الدلالة في إصراره على رأيه وألا يترك القادرون من هؤلاء الأسرى يعودون لمناوأة المسلمين، وهو قد أصر على هذا الرأي مع ما كان من إقرار جماعة المسلمين قبول الفداء.

نزل الوحي مؤيدًا رأي عمر في أمر الأسرى، فزاد ذلك عمر قربًا من النبي ومكانة عنده، وأصبح وزيره كما كان أبو بكر وزيره، وكانت حفصة بنت عمر زوجًا لخُنَيْس بن حُذَافة أحد السابقين إلى الإسلام، وقد فارقها خنيس قبل بدر بأشهر، فتزوجها رسول الله كما تزوج عائشة بنت أبي بكر من قبل، وربطت المصاهرة بينه وبين عمر، وأتاحت لابن الخطاب أن يتردد عليه، كما كان أبو بكر يتردد عليه.

استدار العام وخفت قريش تأخذ لثأرها من بدر، وأشار الناس على رسول الله بالخروج لملاقاتهم بظاهر المدينة عند أُحُد، ودخل رسول الله بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه درعه، وتقلد سيفه وسار في أصحابه يواجه عدوه، وانتصر المسلمون أول النهار، ثم دارت الدائرة عليهم حين خالف الرماة أمر رسول الله فنزلوا من مراكزهم فوق الجبل يشاركون الناس في الغنيمة؛ فقد دار خالد بن الوليد بفرسان قريش وراء المسلمين، ثم صاح صيحة ردت قريشًا لمهاجمة محمد وأصحابه وهم في شغل بجمع أسلاب الموقعة، واضطرب المسلمون لهجوم قريش وتداعت صفوفهم، ثم زادهم تداعيًا أن صاح مشرك: إن محمدًا قد قُتل؛ فقد خيل إلى المسلمين حين سمعوا هذه الصيحة أنهم لم يعد لهم ولا للدين الذين آمنوا به بقاء، وما بقاء هذا الدين ثم ما بقاؤهم وقد وعد الله رسوله النصر، وهذا رسول الله يُقتل بيد المشركين، وهؤلاء أصحابه يهزمون ويفتك المشركون بهم! بل لقد ألقى رجال من كبار المهاجرين والأنصار بأيديهم وتولاهم اليأس، فانتحوا ناحية من الجبل جلسوا فيها، وانتهى أنس بن النضر إلى مجلسهم ذاك، فألفى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وطائفة من المسلمين معهم وهم في اضطرابهم ويأسهم لا يدرون ما يصنعون، عند ذلك هتف بهم: «ما يجلسكم؟» قالوا: «قُتل رسول الله.» قال: «فماذا تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه.» ثم استقبل المشركين، فقاتلهم قتالًا شديدًا، وأبلى في قتالهم أحسن البلاء، ولم يُقتل حتى ضُرب سبعين ضربة أزالت معالمه، فلم يعرف جثمانه بعد موته إلا أخته، عرفته ببنانه.

على أن المسلمين ما لبثوا، حين عرفوا أن رسول الله لم يمت، أن عادوا إلى إيمانهم بأن الله ناصر رسوله، فأسرع إليه أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط غيرهم يمنعونه، وعرف خالد بن الوليد مكانهم، فعلا الجبل على رأس فرسان معه يريد أن يقضي على محمد ومن حوله، لكن عمر بن الخطاب ورهطًا من المسلمين واجهوا خالدًا وفرسانه، وقاتلوهم مستميتين دفاعًا عن الرسول فردوهم على أعقابهم، ولم يصل خالد إلى بغيته.

قدمت أن ما حُدِّث به عمر عن الأذان للصلاة يشهد بأن دين الحق كان قد أخذ على هذا الرجل القوي مسالك نفسه، فجعله لا يفكر في شيء تفكيره فيه وفي النظام الذي يزيده عزًّا وانتشارًا، وموقف عمر من أسرى بدر ونزول الوحي فيهم مؤيدًا رأيه، ووقفته في وجه خالد بن الوليد قبل أن يفاجئ النبي ومن معه، هذان الموقفان يدلان أبلغ دلالة على استئثار دين الله بنفس عمر استئثارًا جعله يتعصب له ويشتد في نصرته، ولا عجب في ذلك؛ فقد كان عمر منذ نشأته مؤمن القلب بما يعتقده، وإذا آمن القلب وهب المؤمن نفسه هبة خالصة لما يؤمن به، لقد رأينا مواقف عمر في جاهليته؛ رأينا تعصبه لقريش على غيرها من القبائل، وتعصبه لدين قريش على دعوة محمد تعصبًا جعله يشارك في تعذيب المسلمين الأولين؛ فلما هدى الله قلبه إلى الإيمان به، ووقف في جانب دين الله ينصره بالحمية التي كان يقاتله من قبل بها، والآن قد عز المسلمون بدينهم ونبيهم، فلا شيء يعدل عند عمر أن ينصر هذا الدين وأن يضحي له بكل شيء، وأن يضحي في سبيله بحياته، وما أصابه وأصاب المسلمين من يأس حين تحدثت قريش بوفاة النبي، كان بعض هذا التعصب للدين تعصبًا جعل الحزن يخرج بعمر عن سداده، فلما عرف أن رسول الله حي أقبل يلقي بحياته في سبيل ما آمن به قلبه، فنصره الله على القائد العبقري الذي اعتزت به قريش والذي كسب لها أُحُدًا.

على أن إيمان عمر وتعصبه لهذا الإيمان لم يُنَهْنها من اعتزازه بنفسه واعتداده برأيه أمام رسول الله نفسه، وقد كان عمر في هذا الاعتزاز بالرأي من أقوى المسلمين شكيمة وأبلغهم حجة، صحيح أن المسلمين جميعًا كانوا لا يعرفون الجمود، وكان صاحب الرأي منهم يشير على رسول الله ويجادل لينصر رأيه أو يقتنع بنقيضه، شأنه في ذلك شأن المؤمنين في عهود الثورة، إذ يريدون أن يبلغوا بها إلى أسمى ما تنطوي عليه مبادئها، لكن عمر كان أصرحهم وأكثرهم جرأة، لم يمنعه حبه رسول الله وعظيم إيمانه برسالته أن يدلي أمامه برأيه وأن يصر عليه، وأنت قد رأيته في موقفه من أسرى بدر كيف طلب أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو بعد ما قبل المسلمون فداء هؤلاء الأسرى، وسنرى له مثل هذه المواقف من بعد في صحبة رسول الله وفي خلافة أبي بكر، ثم نرى من اجتهاده في حياة الرسول ما أقر القرآن بعضه، كما نرى الكثير من الأحكام والمبادئ التي اجتهد فيها برأيه بعد وفاة الرسول باقيًا يأخذ المسلمون به إلى اليوم.

لما سار رسول الله لقتال بني المُصْطَلِق وفرغ منهم، ازدحم رجلان من المسلمين على الماء واختلفا فاقتتلا، وكان أحد الرجلين من المهاجرين والآخر من الأنصار؛ فصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين! وصرخ صاحبه: يا معشر الأنصار! عند ذلك قال عبد الله بن أُبَي بن سَلُولَ رأس المنافقين بالمدينة لمن حوله: «لقد كاثَرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أمرُنا وإياهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كلبك يأكلك، أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ.» وبلغت هذه المقالة رسول الله وعنده عمر بن الخطاب فهاج هائج عمر فقال: يا رسول الله! مر به عباد بن بشر فليقتله، وأجابه رسول الله فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه! وأمر أن يؤذن بالرحيل في ساعة لم يكن المسلمون يرتحلون فيها.

وذهب ابن أبي إلى رسول الله ينكر ما قال، فنزل الوحي بتكذيبه، عند ذلك ذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان مسلمًا حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله! إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلًا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلًا مؤمنًا بكافر فأدخل النار.» وأجابه رسول الله: «إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.» وأقام ابن أبي بعد ذلك ينظر إليه أهل المدينة شزرًا ولا يقيمون له وزنًا، وتذاكر النبي يومًا شئون المسلمين مع عمر، وتناول الحديث ذكر ابن أبي وتعنيف قومه إياه، فقال رسول الله: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله لأرعِدت له آنفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.» قال عمر: «قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.»

ولما مات عبد الله بن أُبَيٍّ هَمَّ النبي بالصلاة عليه، فقام عمر يذكر كيد الرجل للإسلام ونكايته به، ويذكر قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، وابتسم النبي لحماسته في الطعن على رجل مات وقال: «لو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له زدت.» وصلى عليه ومشى معه حتى فرغ من دفنه، وقد نزل بعد ذلك قوله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ.

وأذن رسول الله في الناس بالحج لست سنوات من هجرته إلى المدينة، فلما قرب من مكة خرجت فرسان قريش تلقاه لتصده عن دخولها؛ فقد أقسمت لا يدخلها محمد عليهم عَنْوَةً، وكان رسول الله إنما جاء حاجًّا ولم يجئ غازيًا؛ لذلك نزل الحديبية في أصحابه وعزم أن يفاوض قريشًا لتفسح لهم طريق الطواف بالبيت وأداء فريضة الحج، ودعا إليه عمر بن الخطاب ليدخل مكة فيتحدث إلى قريش فيما جاء له، قال عمر: «يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان.» ودخل عثمان مكة، وطال حديثه مع قريش واحتباسه عن المسلمين حتى ظنوا أنه قُتل، وبايع رسول الله أصحابه بيعة الرضوان لقتال قريش أن قتلوا عثمان، على أن عثمان عاد يذكر أن قريشًا تأبى على المسلمين أن يدخلوا مكة هذا العام حفظًا لهيبتها بين العرب، لكنها لا تأبى المفاوضة للخروج من موقف الخصومة بعد أن أيقنت أن محمدًا جاء حاجًّا ولم يجئ غازيًا، واتصل الحديث بين الفريقين ابتغاء التعاهد والصلح، ولقد ضاق عمر صدرًا بما كان النبي يقبله في هذه المحادثات، حتى لقد وثب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: أولسنا بالمسلمين؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: أوليسوا بالمشركين؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: فعلام نُعطِي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غَرزه،٤ فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.

لم يقنع عمر بهذا الحديث بينه وبين أبي بكر، فذهب إلى رسول الله، والغضب لا يزال آخذًا منه، فقال: يا رسول الله! ألست برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نُعطِي الدنية في ديننا؟! قال رسول الله: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني، وسكت عمر لهذا الجواب، وكان يقول من بعد: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيرًا.

أرأيت إلى هذا الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالرأي! وما لعمر لا يعتز برأيه، وقد أيده الوحي في موقفه من أسرى بدر! ولقد ظل على رأيه حين أشار بقتل عبد الله بن أبي حتى أيقن أن أمر رسول الله أعظم بركة من أمره، كما ظل على رأيه في عهد الحديبية حتى نزل الوحي يُؤيد رسول الله ويذكر أن هذا العهد فتح مبين، وكذلك كان يجادل رسول الله في الرأي مجادلة رجل لرجل حتى يتبين له الحق، إما بنزول الوحي، أو بتأييد الواقع رأيه، أو نقض الواقع له.

رأيت أن عمر لم يتجه بتفكيره إلى النظريات المجردة يقلبها ويمتحنها ليرتب عليها آثارها المنطقية، وإنما كان اتجاهه في الإسلام، كما كان قبله، إلى ما له أثر عملي في واقع الحياة الحاضرة أمامه، وهذا الأثر العملي هو الذي استثار رأيه في أسرى بدر، وفي أمر ابن أبي، وفي عهد الحديبية، كما أنه هو الذي استثار رأيه من بعد فيما لم ينزل به الوحي من شئون المسلمين العامة، ومن شئون رسول الله الخاصة.

كان لأهل مكة غرام بالنبيذ، وكان عمر صاحب خمر في الجاهلية، وقد ظل المسلمون يشربون الخمر طيلة مقامهم بمكة وعدة سنوات بعد الهجرة إلى المدينة، ورأى عمر ما يهيجه الشراب من سَوْرة الغضب في النفوس، وما يدعو إليه من تنابز الشاربين ولمز بعضهم بعضًا، وكثيرًا ما انتهز اليهود والمنافقون أوقات الشراب ليثيروا بين الأوس والخزرج منازعاتهم القديمة، عند ذلك سأل عمر رسول الله عن الخمر، ولم يكن قد نزل فيها قرآن وقال: اللهم بيِّن لنا فيها، فنزلت الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا، ولما لم يكن في هذه الآية نهي عن الخمر فقد ظل بعض المسلمين يقضون ليلهم متوفرين على شرابهم، فإذا ذهبوا إلى الصلاة لم يعلموا ما يقولون فيها، وعاد عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فإنها تذهب العقل والمال! فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، ومن يومئذ كان منادي الرسول للصلاة يقول: لا يقربن الصلاة سكران، وأقل المسلمون من الشراب وإن لم ينتهوا عنه، فبقي من أثره في بعضهم ما يسوء، شج أحد الأنصار مهاجرًا بعظمة من عظام الجزور التي كانوا يأكلونها حين شرابهم لخلاف قام بينهما، وثمل حيان فتشاجرا فشج بعضهم بعضًا فاضطغنا، ورأى عمر ذلك فعاد يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فإنها تذهب العقل والمال، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ، ولم يرق أُناسًا من المسلمين هذا النهي فقالوا: أتكون الخمر رجسًا وهي في بطن فلان وفلان قُتل يوم أحد، وفي بطن فلان وفلان قُتل يوم بدر؟ فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

هذا موقف عمر في شأن من شئون المسلمين العامة قبل أن ينزل الوحي بحكم فيه، ولم تكن شئون رسول الله الخاصة في رأي عمر كشئون غيره من الناس، بل كانت كشئون المسلمين العامة سواء، لذلك لم يكن يأبى أن يتعرض لها وأن يحدث النبي فيها، روى البخاري عن عائشة أنها قالت: «كان عمر يقول لرسول الله : احجِب نساءك فلم يفعل، وكان أزواج النبي يخرجن ليلًا قبل المناصع،٥ خرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة، حرصًا على أنه ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل آية الحجاب.» ورُوي عن عمر أنه قال: «قلت: يا رسول الله! سيدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت آية الحجاب.» وآية الحجاب قوله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وقوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.
كان لعمر مع النبي في شئونه الخاصة موقف آخر، لعله لم يكن يقفه لولا أن ابنته حفصة كانت من أمهات المؤمنين، ذلك أن أزواج النبي أوفدن إليه يومًا زينب بنت جحش وهو عند عائشة تصارحه بأنه لا يعدل بينهن، وأنه لحبه عائشة يظلمهن، فلما ولدت مارية إبراهيم وشغف رسول الله بالطفل حبًّا، ظاهرت عليه حفصة وعائشة وتابعهما سائر أزواجه، حتى رأى أن يهجرهن وأن يهدد بفراقهن، ورد في الصحيح عن ابن عباس أنه سأل عمر: من اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه؟ وأجابه عمر: تلك حفصة وعائشة، ثم قال: «والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا، حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينما أنا في أمر أَأْتَمِرُه إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبًا لك يا بن الخطاب! ما تريد أن تُراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان، قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية! إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنية لا تغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها، ثم خرجتُ حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت لي أم سلمة: عجبًا لك يا بن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، قال عمر: فأخذتني أخذًا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، وكنا نتخوف ملكًا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، وقال: افتح افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله أزواجه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة! فأخذت ثوبي فأخرج حتى جئت، فإذا رسول الله في مشربة يرقى إليها بعجلة،٦ وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة، فقلت له: قل هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي، قال عمر: فقصصت على رسول الله هذا الحديث، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم.»

وفي رواية أن النبي اعتزل نساءه شهرًا كاملًا، فلما أوفى الشهر على التمام أقام المسلمون بالمسجد ينكتون الحصى ويقولون: طلق رسول الله نساءه، عند ذلك ذهب عمر إلى رسول الله في مشربته، فنادى غلامه رباحًا كي يستأذن له، ولم يجب رباح، فكرر عمر النداء، فلما لم يجب رباح للمرة الثانية، رفع عمر صوته قائلًا: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله فإني أظنه ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني بضرب عنقها لأضربن عنقها، وأذن له النبي فدخل، وبعد هنية قال: يا رسول الله، ما يشق عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، ثم انعكف يحدث النبي حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى ضحك.

ويُروى أن عمر دخل على نساء النبي حين اعتزلهن النبي وقال لهن: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، وأجابته إحداهن قائلة: يا عمر! أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت! وفي هذا كله نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَا إِلَى اللهُ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا، فلما نزلت هذه الآية رجع رسول الله إلى نسائه تائبات عابدات مؤمنات.٧

هذه أمور أثبت المؤرخون جميعًا أن الوحي نزل فيها يؤيد رأي عمر، وفي صحيح البخاري أن عمر قال: «وافقني ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وقلت يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت هذه الآية.» ولعل نزول الوحي موافقًا رأي عمر في هذه المواقف هو الذي جعل رسول الله يقول: «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه.» أو يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به.»

لهذه المواقف الكثيرة التي وقفها عمر من أسرى بدر، ومن عبد الله بن أبي، ومن الحديبية، ومن حكم الخمر، ومن نساء النبي، دلالة تلفت النظر، وتكشف عن جانب من شخصية عمر كان يزداد على الزمن وضوحًا وقوة، ولسنا نقصد جرأته وصراحته وبروز شخصيته، وما إلى ذلك مما أسلفنا ذكره، ولسنا كذلك نريد حسن رأيه وواسع علمه، وإنما نرمي إلى ما دلت هذه المواقف عليه من عظيم اشتغاله بالشئون العامة، وتوفره عليها توفر من تعنيه سياسة قومه وتدبير أمورهم والعمل على حسن نظامهم، والواقع أنه برز في هذه الناحية أكثر مما برز غيره؛ ولذلك كان النبي يدعوه وزيره، وكان حين يشاور أصحابه يجعل لرأي عمر مكانة تعدل مكانة الرأي الذي يبديه أبو بكر صفي رسول الله وخليله.

وكان قدر عمر لا يفتأ لهذا يسمو في عيون المسلمين جميعًا، مع أن النبي كان يخالف رأيه في كثير من المواقف مخالفة ترجع إلى ما كان لعمر من صلابة تجاوز الحزم، ولا تلتقي من ثم مع ما جمع رسول الله بين الحزم والحسنى، وبين القدرة والعفو.

لما سار المسلمون إلى فتح مكة، خرج العباس بن عبد المطلب، فرأى جيش ابن أخيه وقوته وأن لا قبل لقريش به، وخرج أبو سفيان بن حرب في جماعة يتنطسون الأخبار، وفيما أبو سفيان يتحدث إلى أصحابه عرف العباس صوته فقال له: يا أبا سفيان، هذا رسول الله في الناس، وا صباح قريش إذا دخل مكة عَنْوَةً! قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ وكان العباس على بغلة النبي البيضاء، فأركبه في عجزها، ورد أصحابه إلى مكة وسار به يريد النبي، ورأى عمر البغلة وعرف أبو سفيان، وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع إلى خيمة النبي وطلب إليه أن يضرب عنقه، فقال العباس: إني يا رسول الله قد أجرته، واحتدمت المناقشة بين عمر والعباس في أمر أبي سفيان، فأرجأ رسول الله الأمر إلى الصباح، وفي الصباح أسلم أبو سفيان بعد حوار بينه وبين رسول الله، فجعل النبي له من الفخر أنه: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.» وذهب عمر محنقًا لنجاة أبي سفيان، حتى إذا فتحت مكة أبوابها، علم أن أمر رسول الله في هذه كأمره من قبل في قصة ابن أبي، كان أعظم بركة من أمره.

على أن صرامة عمر وصراحته ومخالفة النبي رأيه في بعض ما أشار به لم تنقص يومًا من مكانة عمر أو من احترامه، ذلك بأنه كان صادق الإخلاص في كل ما يراه ويشير به، وللمخلص علينا حق احترامه وإكباره، وإن لم نأخذ بمشورته؛ ما بالك به إذا جاء الحق على لسانه في الكثير من مواقفه! ثم ما بالك به إذا خالفناه فرأيناه على الحق فرجعنا إلى رأيه! بعث النبي أبا هريرة يبشر بالجنة من شهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، فلما سمعه عمر رده إلى رسول الله ردًّا عنيفًا، وذهب في أثره يسأل رسول الله: أحق قد بعثته يبشر الناس هذه البشرى؟ فلما أجاب رسول الله أن نعم، قال عمر: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فَخَلِّهِمْ يعملون، وأخذ رسول الله برأيه وقال: فَخَلِّهم.

ولما اشتد برسول الله مرضه الأخير أشار إلى رجال من المسلمين كانوا في البيت حوله فقال: «إيتوني بدواة وصحيفة، أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا.» واختلف الحاضرون، يقول بعضهم: «قربوا ليكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده.» ويخالفهم آخرون على رأسهم عمر فيقولون: «إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله.»

ورأى النبي خلافهم فقال: «قوموا، ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف.» ولم يكتب، ولعله قد تأثر برأي عمر أكثر مما تأثر برأي غيره، لما عرف من صدقه في إخلاصه وصراحته في رأيه،

والرجل أجدر باحترامنا وإكبارنا ما أنكر ذاته فصدر رأيه عن إخلاص للخير العام وحرص عليه، وكان عمر في ذلك خير مثل، وقد رأيت فيما قدمنا من آرائه كيف تنزه عن كل شائبة، بل لقد رأيته كيف ود أن يحرم الله الخمر ولم تكن محرمة، وقد كان في جاهليته رجل خمر يحبها ويتوفر على شرابها، فهو إنما ود أن تحرم حرصًا على خير الجماعة وتماسكها وقوة نظامها، ثم إنه كان من أشد الناس زهدًا في المال، فكان إذا أعطاه رسول الله مالًا من فيء غنمه المسلمون قال: أعطه أفقر إليه مني، وقال ذلك يومًا لرسول الله فقال له: خذه فتموَّله وتصدق به.

بل لقد بلغ من زهده أن أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي فقال: أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ وأجابه رسول الله: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها.» فتصدق عمر بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقًا غير متمول فيها، وقال: إنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث، فكانت هذه أول صدقة تصدق بها في الإسلام، وكانت الأصل الأول لنظام الوقف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

رجل ذلك شأنه وهذا زهده لا عجب أن كان موضع التقدير والاحترام من كل المسلمين على ما كان في خلقه من شدة وغلظة، وموضع المحبة والإكبار من رسول الله حتى كان يدعوه يا أخي. استأذنه عمر يومًا في العمرة فأذن وقال له: «لا تنسنا يا أخي من دعائك.» وكان عمر كلما ذكر هذه الكلمة يقول: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: «يا أخي».

وإخلاصه وتنزهه عن الهوى وحبه العدل هو الذي أبقى الفاروق لقبًا له، وقد اختلف فيمن سمى عمر الفاروق، روي عن عائشة أنها سُئلت عن ذلك فقالت: النبي عليه السلام، وروي أن رسول الله قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرق به بين الحق والباطل.» وذكر ابن سعد في الطبقات عبارة بإسنادها نصها: «بلغني أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله قال من ذلك شيئًا.» وأي صح من هذه الروايات فقد كان عمر فاروقًا لا ريب، وذلك ما خلد اسم الفاروق على الزمن؛ بقي لعمر إلى يومنا هذا، وسيبقى له أبد الدهر.

أما شدته وغلظته فهي التي جعلت رسول الله يؤثر أبا بكر عليه، ثم لا يؤثر عليه غير أبي بكر أحدًا، لإخلاصه وصراحته وعزمه وحزمه، وبلغ من شهرة عمر بالشدة والغلظة أن لم يخفف منهما ما كان له في مواقف كثيرة من لين جانب ورقة عاطفة ذكرنا شيئًا منهما في حديث إسلامه، روي أن عمر استأذن على رسول الله وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، ودخل عمر، ورسول الله يضحك ويقول: «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.» قال عمر: فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله ؟ قلن: نعم! أنت أفظ وأغلظ منه.

ولعل شدة عمر هي التي جعلت رسول الله يأمر في مرضه أن يصلي أبو بكر بالناس، وغاب أبو بكر مرة فصلى عمر بالناس وكبر بصوته الجهير، فقال رسول الله: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون.»

وقد تعجب لهذه الشدة وهذه الغلظة أين كانتا ساعة وفاة رسول الله؛ إذ أذهل النبأ عمر عن الواقع فكذب من حاول إقناعه بالحقيقة الأليمة، ووقف في المسلمين يقول: «إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهن زعموا أنه مات.» فلما جاء أبو بكر ورأى رسول الله أيقن أنه مات، فوقف في الناس يقول: «إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ، فلما تلا أبو بكر هذه الآية خر عمر إلى الأرض ما تحمله رجلاه، وكأنه لم يسمعها من قبل، فأين كانت شدته وغلظته هذه الساعة! بل أين هو في جزعه وهلعه من ثبات أبي بكر رقيق القلب سريع الدمع خليل رسول الله وصفيه، وأين هو من تجلده؟!

على أن عمر لم يلبث حين راجعه صوابه أن عاد الرجل السياسي، فأخذ يفكر في مصير المسلمين بعد الحادث الفاجع، وقد كان لتفكيره ولتصرفه في مواجهة هذا الموقف الدقيق من الأثر ما رد عن الإسلام كل عادية، وما مهد لانتشاره في الخافقين.

هوامش

(١) العنزة: عصا لها زج كالرمح الصغير.
(٢) في روايات ابن سعد رواية أن رسول الله آخى بين أبي بكر وعمر، ورواية أخرى أنه آخى بين عمر وعويم بن ساعدة، وفي رواية ثالثة بين عمر ومعاذ بن عفراء. وثم روايات أخرى أثبتها ابن حجر في فتح الباري. والرواية المشهورة المتواترة أن عمر وعتبان بن مالك كانا في هذا الإخاء أخوين.
(٣) روق الثور: قرنه.
(٤) أي اتبعه ولا تخالف أمره. وأصل الغرز: ركاب الرحل من جلد.
(٥) المناصع: المواضع يتخلى فيها لقضاء الحاجة.
(٦) العجلة هنا: جذع نخلة ينقر فيجعل فيه مثل الدرج ليرقى عليه.
(٧) راجع في تفصيل هذا الحديث عن نساء النبي كتاب «حياة محمد» ص٤٥٠–٤٥٥. «الطبعة العاشرة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤