الفصل السادس

أبو عبيد والمثنى في العراق

كان أبو عبيد بن مسعود الثقفي أول منتدب للعراق؛ لذلك ولاه عمر إمارة الجند فيه، وأمره بالسير إليه متى تم تجهيز جيشه، أما المثنى بن حارثة فعجله عمر وقال له: «النجاء حتى يقدم عليك أصحابك!» وامتطى المثنى جواده ورجع أدراجه يريد الحيرة، وجعل وهو في طريقه إليها يذكر أيامًا خلت في خلافة أبي بكر، حين قضى العلاء بن الحضرمي على الرِّدَّة في البحرين، فانضم هو إليه وقعد بكل طريق للمرتدين المنهزمين الذين يعيثون في الأرض فسادًا، ثم سار مشاطئًا الخليج الفارسي يقاوم دسائس الفرس، ويقضي على أنصارهم من القبائل حتى بلغ مصب الفرات، عند ذلك أمده الصديق بخالد بن الوليد، فسار المثنى تحت لواء القائد العبقري يدوخ معه جيوش كسرى وتفتض جنودهما الأمصار، وتفتح الحيرة والأنبار وعين التمر وغيرها من البلاد، حتى يبلغ خالد الفراض على تخوم الشام من شمالي العراق.

ويستقر الأمر بخالد في أرض الأكاسرة، ويغتبط المثنى بما فتح الله عليهم من ذلك، ويقيم مع قواته بالحيرة وبأرض السواد أكثر من سنة، ثم إذا أبو بكر يأمر خالدًا بالمسير إلى الشام يتولى فيه إمارة الجند لمقاتلة الروم، ويفصل خالد من العراق في عدد من خيرة رجال الجيش فيه، فيخشى المثنى العاقبة، ثم يفتح الله عليه فيقهر هرمز جاذويه على أطلال بابل، ويرتد إلى الحيرة يتحصن بها، ثم يستمد أبا بكر بمن ظهرت توبتهم من أهل الرِّدَّة، ويبطئ الخليفة عنه لاشتغاله بأمر الشام، فيسير المثنى إلى المدينة، فإذا الصديق مشفٍ على الموت، ثم إذا الله يختاره إليه، وإذا عمر يتولى الأمر من بعده، فيندب الناس مع المثنى ويجعل أبا عبيد على رأسهم.

لم ينسَ المثنى وهو يذكر هذه الحودث ما ساد بلاط فارس من الاضطراب في أثنائها، وما أوهن هذا الاضطراب من قوة الفرس وشد من عزم المسلمين، لقد حكم الأكاسرة الفرس وحكموا عرب العراق حكمًا مطلقًا لا معقب لكلمتهم فيه، وكان كسرى أبرويز هو الذي قتل أبا قابوس النعمان بن المنذر وقضى على ملك اللخميين بالحيرة، وهو الذي حارب الروم وغلبهم، وامتد ملكه في أرضهم إلى بيت المقدس وإلى مصر، فلما تولى هرقل أمر الروم، قاتل كسرى ورده على أعقابه، واغتبط العرب واغتبط الفرس الذين برموا ببطش كسرى لما حل به، فلما ثار به ابنه شيرويه وقتله، اختلف أمراء الفرس وانقسم رأيهم فيما أصابه، وصار شيرويه في الفرس سيرة حمق وغرارة جعلت أهل بلاطه يبرمون به، وجعلت كل طامع في العرش يحالف من الأمراء من يعاونه لبلوغ غرضه، وقُتل شيرويه، فجعل هؤلاء الطامعون يقتتلون فيقتل بعضهم بعضًا، جهرة حينًا، وغيلة حينًا، ثم يتولى صاحب الغلب منهم الأمر شهورًا حتى يُقتل؛ لذلك تعاقب على العرش في أربع سنين تسعة من الأمراء، لا عجب وذلك هو الأمر أن تضعف قوة الفرس وأن ينهد ركنهم، فتدور الدائرة عليهم في الغزوات التي دارت بين العرب وبينهم.

وتنبه أهل فارس لما جره الاضطراب عليهم من فساد أمرهم فملكوا عليهم شهريران بن أردشير وتعاهد أمراؤهم على معاونته، وعرف شهريران مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، فكان إجلاء المسلمين عن العراق أول ما استقر عليه عزمه، لكن المثنى قهر قائده على أطلال بابل فحمَّ فمات.

خلفت دُخْت زَنان ابنة كسرى أخاها على العرش، لكنها ضعفت عن النهوض بالأمر فخلعت، وتولى سابور بن شهريران الملك مكانها، واستوزر سابور الفَرُّخْزَاد، وأراد أن يزوجه آزَرْمِيدُخْت ابنة كسرى، فساءها أن يتزوجها عبدها، فدست عليه سِياوَخش الفاتك فقتله في مخدعها ليلة عرسه، ثم سارت معه في أعوانها إلى سابور فحصرته وقتلته، ورأى المثنى أن يواجه الفرس وبلاطهم مضطرب، فاستمد أبا بكر فأبطأ عليه، فذهب بنفسه إلى المدينة يستعجل المدد، وها هو ذا في طريقه عائد إلى الحيرة، ترى ألا يزال الفرس في اضطرابهم فلا شيء أيسر من الظفر بهم؟ أم تراهم اطمأن ملكهم، فلا بد للظفر بهم من قوات كثيرة العدد والعدة.

بلغ المثنى الحيرة، فكان أول سؤاله عما يجري في بلاط فارس، وعلم أنهم شغلوا عن المسلمين في أثناء غيبته باختلافهم، ثم علم أن بُوران ابنة كسرى تعمل على جمع كلمتهم، وكانت بوران أميرة ذات حكمة، فكان الفرس كلما اختلفوا رضوا حكمها واطمأنوا إلى عدلها، فلما قتل سياوخش الفرخزاد، وجلست آزرميدخت على العرش، اختلف أهل فارس، ورأت بوران أن لا سبيل إلى مصالحتهم، هنالك بعثت إلى القائد رستم بن الفرخزاد من أنبأه بمقتل أبيه واستحثه على السير إلى المدائن، وكان رستم حين ذاك على فُرَجِ خُراسان، وكان قائدًا بارعًا، فأقبل في جنده مسرعًا يريد المدائن، ولاقى في طريقه إليها جيوشًا لآزرميدخت فهزمها، ثم حاصر المدائن وحصر آزرميدخت وسياوخش فيها، وظفر بعدوه فدخل العاصمة، وقتل سياوخش، وفقأ عين آزرميدخت، وأقام بوران على عرشها، وتولت بوران السلطان في فارس على أن تملكه عشر حجج، ثم يكون الملك في آل كسرى: في الرجال منهم إن وجدوا وإلا ففي النساء، واستوزرت بوران رستم، وأطلقت يده في أمور الدولة، وجعلته على الجند، وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا.

عرف المثنى ذلك كله وهو مقيم بالحيرة لا يستطيع شيئًا إزاءه، لقد نحُف جيشه فلم يبقَ في مقدوره أن يهاجم حتى يجيئه أبو عُبيد، وقد أقام أبو عبيد بالمدينة شهرًا بعد المثنى يجهِّز جيشه ويتجهز للسير به، فلما أتم تجهيزه استأذن عمر في السير فأذن له بعد أن أعاد عليه النصح أن يسمع من أصحاب النبي وأن يشركهم في الأمر، وأن يشاور سليط بن قيس لجرأته وتجربته، وكان لعمر بسليط ثقة، حتى لقد قال لأبي عبيد: «إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطًا إلا سرعته في الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، والحرب لا يصلحها إلا المَكِيث.» وسار أبو عبيد في الجند، حتى إذا بلغ العراق ألفَى المثنى قد انسحب من الحيرة إلى خَفَّان على حدود البادية.

ذلك أن رستم كان رجلًا جريئًا طموحًا، يثير طموحه إعجاب الفرس وتعلقهم به، وطموحه هذا هو الذي جعل المؤرخين يذكرون أنه كان عالمًا بالنجوم، وأنه رأى فيها مآل فارس، وأنه سئل كيف يتولى أمرها وهو يرى في النجوم ما يرى، فقال: الطمع وحب الشرف.

وما لبث حين أمَّرته بوران أن كتب إلى دهاقين السواد يأمرهم أن يثوروا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلًا يثير أهله، ثم بعث جندًا لمصادمة المثنى، وانتشرت أوامره في الناس، فثار أهل العراق من أعلاه إلى أسفله بالمسلمين، وبلغ المثنى نبأ ما حدث، ورأى أن لا قِبَلَ لجنوده بلقاء من عبَّأهم رستم لمصادمته، فآثر الحذر وانسحب من الحيرة إلى خفان حتى لا يؤتى من خلفه، وأدركه أبو عبيد بخَفَّان فنزل في الناس ليريحوا ظهورهم وأقام يتدبر خطته لمهاجمة القوات التي جاءت تنازله.

كان رستم قد بعث في المدائن جيشين يواجهان المسلمين، جعل على أحدهما القائد جابان، وأمره أن يتخطى الفرات إلى الحيرة، وجعل على الآخر القائد نَرْسِي وأمره أن يعسكر بكَسْكَر بين الفرات ودجلة، وكان أبو عبيد قد خرج من المدينة في أربعة آلاف ثم اجتمع إليه في الطريق عدد عظيم زاد جنده إلى عشرة آلاف، فلما جم الناس خرج يلقى جابان، فالتقيا بمكان يقال له: النمارق بين الحيرة والقادسية، والتقى الفريقان واقتتلوا قتالًا شديدًا أظفر الله فيه أبا عبيد بجابان وجنوده، وأسر جابان وأسر قائد تحت إمرته يدعى مردانشاه، وقتل هذا الأخير من أسره، أما جابان وكان شيخًا كبيرًا، فخدع الذي أسره إذ قال له: «إنكم معشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وأعطيك كذا وكذا …» وأجزل له الوعد، قال آسره؛ نعم. قال: فأدخلني على أميركم حتى يكون ذلك بمشهدٍ منه، فأدخله على أبي عبيد فشهد على ما تم، على أن قومًا من المسلمين عرفوه وقالوا لأبي عبيد اقتله فإنه الأمير، وأجابهم أبو عبيد: «وإن كان الأمير، فإني لا أقتله وقد أمنه رجل من المسلمين: فالمسلمون في التواد والتناصر كالجسد، ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم.»

عرفت بوران ما حل بجابان، وعرفه رستم، فأمر الجالينوس أن يسير لنصرة زملائه وأن يلحق نرسي بكسكر، وفصل الجالينوس يغذ السير إلى غايته، لكن أبا عبيد كان أسرع منه سيرًا، فإنه ما لبث حين هزم جابان أن أمر جنده بالسير لمواجهة نرسي، ولاقوه والمنهزمين الذين فروا إليه من النمارق بمكان يدعى السَّقاطية على مقربة من كسكر، وذلك قبل أن يصله الجالينوس، ولم يثبت نرسي للمسلمين أكثر مما ثبت جابان، ففر في جنده تاركًا لعدوه مغانم كثيرة، وعرف أبو عبيد أن الجالينوس في جنده قد بلغ قرية بَارُسْمَا فواجهه وهزمه، ففر كما فر نرسي في المنهزمين حتى بلغوا المدائن.

ووجه أبو عبيد قواده، والمثنى في مقدمتهم، فاحتلوا سواد العراق من أعلاه إلى أسفله، وأذاعوا الرعب في الناس، وأعادوا إلى ذاكرتهم أيام خالد بن الوليد وفعاله، ورجع الدهاقين إلى أبي عبيد يصالحونه ويعتذرون عما كان منهم في ممالأة الفرس على العرب، ويذكرون أنهم غُلِبوا على أمرهم، فلم يكن لهم فيما حدث نهي ولا أمر، ولما أتم أبو عبيد الصلح معهم جاءوا بآنية فيها ألوان من طعام فارس الشهي وقالوا: هذا قِرًى لك وكرامة أكرمناك بها، قال: أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟! قالوا: لا! فرده وقال: «لا حاجة لنا فيه! بئس المرء أبو عبيد إن صحب قومًا من بلادهم وأهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوها، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثلما يأكل أوساطهم!» ولم يأكل من طعام أتى به الدهاقين غداة ذلك اليوم حتى علم أنهم قربوا مثله لأصحابه.

أفاء الله على المسلمين بعد غزوة السقاطية مغانم كثيرة، بينها من الأطعمة مقادير عظيمة، فلم يفرحوا منها بشيء فرحهم بلون من التمر يدعى النِّرسيان كان ملوك فارس يحبونه، وقد اقتسموه بينهم وجعلوا يطعمون منه الفلاحين، ثم بعثوا بخمسه إلى عمر بالمدينة وكتبوا له: «إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحبونها، وأحببنا أن تروها لتذكروا إنعام الله وإفضاله.»

وعاد المثنى ودخل الحيرة واستقر بها وكله الرجاء أن يستتب له الأمر فيها كما استتب لخالد بن الوليد من قبل، فقد ظل خالد بها سنة كاملة لم يجرؤ جيش من جيوش فارس على التصدي له في أثنائها، ترى أيواتي الحظ المثنى ما واتى خالدًا، فيقيم بالحيرة زمنًا ثم يفتح المدائن؟ كان ذلك كله أمامه، وكان له في تحقيقه أكبر الرجاء.

لكن أمله سرعان ما ذوى، فقد عظم على رستم، وفيه من الطموح والكبرياء ما ذكرنا أن تنهزم جيوش فارس أمام هؤلاء الأجلاف من العرب، فسأل خاصته: «أي العجم أشد على العرب فيما ترون؟» وأجابوه: «إنه ذو الحاجب بَهْمَن جاذويه.» فدعاه إليه ووجهه على قوة عظيمة، ورد الجالينوس معه وقال له: إن عاد لمثل ما فعل فاضرب عنقه، وليظهر للناس مبلغ عنايته بالموقف وحرصه على رفع ما أنزل المسلمون بجند فارس، جعل في مقدمة الجيش راية كسرى، وكانت من جلود النمر، عرضها ثماني أذرع وطولها اثنتا عشرة ذراعًا؛ وسار بهمن من المدائن يقصد مواجهة عدوه والقضاء عليه.

وتراجع أبو عبيد وجنوده إلى قرية قُس الناطف، فعبروا النهر إليها، وتحصنوا ينتظرون عدوهم بها، وأقبل بهمن عليهم فلم يكن إلا النهر بينه وبينهم، ثم بعث إلى أبي عبيد يقول له: «إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم.» وأشار أصحاب أبي عبيد ألا يعبر، وأن يدع الفرس يعبرون، لكن أبا عبيد أخذته العزة فقال: «لا يكونوا أجرأ على الموت منا، بل نعبر إليهم!» فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس وقالوا: «إن العرب لم تلقَ مثل جنود فارس مذ كانوا، وإنهم قد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدة بما لم يلقنا به أحد، وقد نزلت منزلًا لنا فيه مجال وملجأ ومرجع من فرة إلى كرة.» فقال: «لا أفعل! جبنت والله إذن وجبُن سليطًا.» فرد عليه سليط بقوله: «أنا والله أجرأ منك نفسًا، وقد أشرنا عليك بالرأي فستعلم.»

من عجب أن يقف أبو عبيد من أصحابه هذا الموقف، وأن ينسى نصيحة عمر إياه أن يستشير أصحاب رسول الله، وأن يشركهم في الرأي معه، وأن يقيم لرأي سليط وزنه، وأعجب من ذلك أن ينسى قول عمر: «إنك تَقْدَمُ على أرض المكر والخديعة والخيانة، تقدم على قوم قد جرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه.» وألا يذكر أن الخليفة أمَّره ولم يُؤَمِّر سليطًا؛ لأن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث، وسليط سريع إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، لكنها الأقدار تُنسي البصير بصره، والحكيم حكمته، ومن يدري! فلعل مشورة سليط بألا يعبر المسلمون النهر إلى الفرس زادت أبا عبيد عنادًا وتشبثًا برأيه، ولذلك أمر جنوده بالعبور فعبروا من المروحة حيث تحصنوا، إلى قس الناطف حيث أقام الفرس، وعبر سليط بن قيس في مقدمة العابرين.

كان جند المسلمين دون عشرة الآلاف، مع ذلك ضاق بهم المكان الذي تركه لهم الفرس وراء الجسر، فلم يكن لهم فيه مرجع من فرة إلى كرة، ولم يمهلهم بهمن حين تم عبورهم أن أمر جنوده فحملوا عليهم، وفي مقدمتهم الفيلة عليها الجلاجل، ونظرت خيل المسلمين إلى هذه الفيلة وسمعت رنين جلاجلها، فأنكرت ما رأت وما سمعت، وفرت فلم يثبت منها إلا القليل على كره، ورشق الفرس المسلمين بالنبل فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وحز الألم في نفوس المسلمين لما أصابهم وألا يصلوا إلى عدوهم، ورأى أبو عبيد أن صفوفه توشك أن تضطرب؛ فترجل وترجل جنوده، ومشوا إلى الفرس فصافحوهم بالسيوف فقتلوا منهم ستة آلاف، فاشتد بذلك ساعدهم، لكن الفيلة تقدمت إليهم فجعلت لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، ونادى أبو عبيد رجاله أن يقطعوا بطن هوادج الفيلة وأن يقلبوا عنها أهلها وأن يقتلوهم، ففعلوا فلم يتركوا فيلًا إلا قلبوا راحلته وقتلوا أصحابه، بذلك تداول الفريقان التقدم والتراجع، فكانت المعركة سجالًا بينهما ساعات من النهار.

كان أبو عبيد شديد الحرص على أن ينتصر ذلك اليوم، وزاده حرصًا ما كان من مخالفته سليط بن قيس والذين أشاروا عليه ألا يعبر الجسر إلى عدوه، فلو أن النصر تم للفرس لركبه عار الهزيمة وحده، ولكان هذا العار مسبة الدهر له؛ لذلك كان مضطرب النفس تتداوله الانفعالات كلما تغير مصير المعركة؛ يغتبط ما رأى الفرس يتراجعون، فإذا تقدموا ملكته خشية العار ودفعته للمغامرة، وقد اطمأن حين قلب جنوده عن الفيلة أهلها فلم يبقَ عليها من يقودها، لكنه رأى على مقربة منه فيلًا أبيض عظيمًا يضرب بخرطومه يمنة ويسرة فيشتت المسلمين من حوله، وكأنه بطل بارع يعرف مواقع ضرباته، وأيقن أبو عبيد أن قتل هذا الفيل يقوي روح المسلمين ويضعضع روح الفرس، فتقدم إليه فضرب خرطومه بسيفه، وهاج حر الضربة هائج الفيل، فتقدم إلى أبي عبيد فضربه برجله فألقاه على الأرض، ثم وقف فوقه فأزهق روحه، وكان أبو عبيد قد أوصى إن مات أن يتأمر مكانه على التعاقب سبعة من قومه بني ثقيف سماهم بأسمائهم، فلما رأى أولهم ما حل بأميره أخذ اللواء مكانه، وقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فجر جثته إلى المسلمين ثم عاد يحاول قتل الفيل، لكنه لقي حتفه كما لقي أبو عبيد حتفه، وتتابع الثقفيون السبعة كل منهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت،١ عند ذلك خشعت أنفس الناس وضعفت روحهم، وارتد كثيرون منهم إلى الجسر يبتغون النجاة بأنفسهم، وما بقاؤهم أمام جيش لا قبل لهم به، وقد مات أمراؤهم فاختل نظامهم واضطربت صفوفهم!

ورأى المثنى دقة الموقف فتقدم إلى اللواء فحمله، وهو لم يكن يطمع في أن يقاتل وينتصر بعد الذي أصاب المسلمين، إنما كان يرجو أن يرتد بهم في نظام فيعبر النهر إلى المروحة، ثم يرى بعد ذلك رأيه، وإنه ليدبر الخطة للتراجع إذ رأى عبد الله بن مرثد الثقفي يقطع الزوارق الأولى من الجسر، ويصيح بأعلى صوته: «أيها الناس! موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو نظفر.» ورأى الناس ما فعل ابن مرثد، فتولاهم الفزع فتواثبوا في النهر، فغرق منهم من لم يصبر، وخشي المثنى أن تعم الفوضى، فوقف واللواء بيده ينادي: «يأيها الناس! أنا دونكم، فاعبروا على هيئاتكم ولا تدهشوا، فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب!» وأمر فجيء بابن مرثد فضربه وضمت السفينة التي قطعت فصلح الجسر، فبدأ الناس يعبرون مرتدين والمثنى يقاتل دونهم، ويحول هو ورجاله بين الفرس وبينهم، وأصابت المثنى وهو في موقفه ذاك ضربة رمح جرحته وأثبتت فيه حلقًا من درعه، وقاتل معه أبو زيد الطائي النصراني دفاعًا عن المسلمين، ولم يكن سليط بن قيس دون المثنى إقدامًا وجرأة، بذلك استطاع من بقي من جند المسلمين أن يعبروا إلى المروحة والمثنى واقف دونهم لم يزعزعه ذلك الجرح الذي أصابه، فلما رأى المثنى عبور أصحابه جميعًا سار في مؤخرتهم، تاركًا وراءه سليط بن قيس شهيدًا، يختلط دمه بتراب ذلك الميدان الذي تردى فيه ألوف من أبطال المسلمين.

تُرى أيعبر بهمن جاذويه النهر وراءهم فيقتلهم عن آخرهم ويعفي في أرض العراق على كل أثر للمسلمين؟! أم يكتفي بهذا النصر الحاسم وله به عند رستم وبوران والفرس جميعًا فخار لم يتح لغيره من القواد مثله؟!

لم يغب عن المثنى أن ذا الحاجب قد يتعقبه؛ لذلك انحدر مسرعًا بجنوده من المروحة إلى الحيرة، ثم تابع انحداره إلى الجنوب يريد أليس، وهو يحسب لمتعقبيه ألف حساب، وكيف لا يفعل وقد قتل من جند المسلمين في الموقعة من قتل وغرق منهم في الفرات من غرق، وفر ألفان من أهل المدينة يريدون النجاة بأنفسهم! لكن الأقدار التي غشت على بصر أبي عبيد فدفعته ليعبر الجسر فيلقى حتفه، ويورد المسلمين موارد الهلكة، كانت أبر بالمثنى وأرفق، فقد بلغ ذا الحاجب والمعركة دائرة أن الفرس بالمدائن اختلفوا فرقتين، إحداهما مع رستم، والأخرى مع الفيرزان تناصب رستم العداوة؛ لذلك عاد بالجيش إلى العاصمة، ولم يتخلف من قواده إلا جابان ومردانشاه في كتيبة من الجند، وسار هذان القائدان يتعقبان المثنى وهما يحسبان أنهما قادران عليه، لكن أهل أليس أخبروا المثنى بما ترامى إليهم عن فارس، فخرج في رجاله وفي عدد كبير من أهل أليس، فأسروا جابان ومردانشاه وأصحابهما، وضرب أعناقهم جميعًا، وكذلك لقي جابان حتفه جزاء خدعه أبا عبيد يوم أسر بالنمارق فاستأمن آسره فأمنه، أما وقد غادر جابان فرجع يقاتل المسلمين ويخفر ذمتهم، فقتله بعد أسره هو العدل بعينه.

كان أول من قدم المدينة من المسلمين الذين شهدوا غزوة الجسر عبد الله بن زيد.

ولقد رآه عمر بن الخطاب حين دخل المسجد فناداه: ما عندك يا عبد الله؟ وسار عبد الله وألقى الخبر عليه فلم يبد جزعًا، بل تلقاه ساكنًا، ودخل بعض الذين فروا من الغزاة إلى المدينة منكسي رءوسهم خزيًا من عار الهزيمة والفرار، أما سائرهم فنزلوا البوادي حياء أن يلقوا أهلهم فيعيروهم فرارهم وجبنهم، ورأى عمر حالهم فرَقَّ لهم ورحمهم، وجعل يدفع عنهم برم الناس بهم وسخطهم عليهم، فكان يقول: «اللهم كل مسلم في حل مني! أنا فئة كل مسلم، مَن لقي العدو ففظع بشيء من أمره فأنا له فئة، يا معشر المسلمين لا تجزعوا! أنا فئتكم وإنما انحزتم إليَّ، يرحم الله أبا عبيد! لو كان انحاز إليَّ لكنت له فئة.» وكان معاذ القارئ أخو بني النجار ممن فروا من الجسر إلى المدينة، وكان يبكي كلما قرأ قوله تعالى: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، فكان عمر يقول: «لا تبك يا معاذ! أنا فئتك، وإنما انحزت إليَّ.»

يذكرنا موقف عمر من هؤلاء الذين فروا مرتدين إلى المدينة بعد هزيمتهم بالجسر بموقف رسول الله من الجند المسلمين الذين عادوا من غزوة مؤتة بعد إذ قتل قوادهم فيها، فداور خالد بن الوليد بمن بقي منهم وارتد بهم إلى المدينة غير منتصر على عدوه، فقد جعل أهل المدينة يحثون على هذا الجيش التراب ويقولون: «يا فُرَّار! فررتم في سبيل الله!» فيقول رسول الله: «ليسوا بالفُرَّار ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله.» ولم يكن ارتداد المسلمين بمؤتة كهزيمتهم بالجسر فظاعة وسوء أثر، ولم يكن عمر كرسول الله رحمة ورقة، مع ذلك كان رءوفًا بمن نُكِبوا في الجسر، بل كان فئتهم؛ وقف بجانبهم ودافع عنهم، وأبدى من العطف عليهم ما سكن من روعهم وخفف من عار هزيمتهم، ولا عجب، وقد صارت إليه إمارة المؤمنين، أن يكون بالمؤمنين رحيمًا، فيكون أبرهم بهم، وأشدهم عطفًا على الضعفاء منهم، وإن ظل شديد البأس على الأقوياء، شديد البطش بالظالمين.

كان هذا شأن عمر ومن ارتدوا من الجسر، أما المثنى فتحصن بأليس زمنًا بعد أن قتل جابان ومرادنشاه وجنودهما، فلما أراح ظهره وجم جنوده، جعل يفكر في موقفه بالعراق ومصير المسلمين فيه، إنه موقف حرج لا ريب، ومتى اطمأن الأمر في بلاط المدائن فستعود الجنود متراصة تتقدمها الفيلة لتهاجمه، فماذا يصنع يومئذ؟ أفكتب القدر في لوحه أن يعود سلطان الأكاسرة إلى ما كان عليه؟ إن يكن ذلك قضاء الله فلم يعد له ولا لجنده بالعراق بقاء، وليس في وسعه إلا أن ينسحب كما انسحب الذين فروا إلى المدينة، وأن يعود إلى أرض قومه بني بكر بن وائل يقضي بالبحرين بقية أيامه.

لكنه المثنى الذي قال عنه قيس بن عاصم الْمِنْقَرِيُّ حين سأل أبو بكر عنه: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»

وقد كان له مواقف بالعراق ليست دون موقفه اليوم حرجًا ولا دقة، كان له مثل هذا الموقف أول ما جاء من البحرين إلى دلتا النهرين، وذلك قبل أن يمده أبو بكر بخالد بن الوليد، وكان موقفه أكثر دقة يوم فصل خالد من العراق إلى الشام ليُنسي الروم وساوس الشيطان، رجل ذلك شأنه ليس بالذي يستسلم أو يلقي بيديه مخافة ما تكنه الأقدار في حجب الغيب، فإنما هو قوة تُلقِي بها الأقدارُ لتوجيه مصاير العالم، فليعالج النكبة بما عرف عنه من دقة القائد الصبور المحنك، وليستمد الخليفةَ فهو لا ريب ممده، والحرب لا يصلحها إلى الرجل المكيث.

وكذلك وقف المثنى جَلْدًا جريئًا، يواجه الأيام السود التي أعقبت غزوة الجسر وكادت تعفي على سلطان المسلمين بالعراق، ولم يكتفِ بأن بعث إلى عمر يطلب المدد؛ فمجيء الجند من المدينة يقتضي زمنًا قد يواثبه الفرس فيه، بل بعث فيمن يليه من قبائل العرب، فتوافوا إليه في جمع عظيم، بينهم نصارى بني النمر الذين قالوا: نقاتل مع قومنا، ونقل عسكره من أليس إلى مرج السباخ بين القادسية وخَفَّان ليكون على مقربة من تخوم العرب، يلجأ إليهم إذا غلبه الفرس، ويلقى عندهم مددًا جديدًا إذا غلب الفرس، وما كان أشد حاجته إلى المدد ليتابع ظفره! وفي مرج السباخ اجتمع إلى عسكره عدد عظيم من الجند، اطمأن له، فأقام فيهم ينتظر ما الله فاعل بالفرس وبه.

لم يكن عمر بن الخطاب دون المثنى قلقًا على موقف المسلمين بالعراق بعد غزوة الجسر، ولم يغب عنه أن المثنى بحاجة إلى مدد سريع يواجه به هذا الموقف الدقيق، وكان العرب يفدون إلى المدينة من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة ملبين نداء الخليفة منذ رفع الحظر عمن ظهرت توبتهم من أهل الرِّدَّة، فندبهم عمر إلى العراق، فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه، ويبدون الرغبة في الشخوص إلى الشام والاشتراك في غزوه، لكن خالد بن الوليد كان قد ظفر بالروم في الشام حين لاقوه على اليرموك، فلم يكن به من حاجة إلى مدد؛ لذلك لم يرضَ عمر أن يُشخصهم إلى الشام، ولم يرغب أحد في الشخوص إلى العراق، وكان جرير بن عبد الله البجلي قدم على أبي بكر في خلافته، فذكر عدة له من رسول الله أن يجمع بني بَجِيلة وكانوا مشتتين في القبائل، فرده أبو بكر وقال له: «ترى شغلنا وما نحن فيه بغَوْث المسلمين ممن بإزائهم من الأَسَدَيْنِ فارس والروم، ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يُغني عما هو أرضى لله ورسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين!» فلما ولي عمر أعاد عليه جرير عِدَةَ رسول الله، وأقام عليها البينة: فكتب عمر إلى عماله، فجعلوا بني بجيلة في صعيد واحد، فلما اجتمعوا قال عمر لجرير: «اخرج حتى تلحق بالمثنى.» فقال جرير: «بل الشام فإن أسلافنا بها.» وأردف عمر: «بل العراق فإن الشام في كفاية.» ولم يزل عمر ببني بجيلة وهم يأبون عليه حتى جعل لهم الربع في خمس ما يفيء الله على المسلمين يضاف إلى نصيبهم من الفيء، عند ذلك رضوا الذهاب إلى العراق وعليهم جرير ورأى الناس ما صنع بنو بجيلة فحذوا حذوهم، وكان الذين فروا من غزوة الجسر في مقدمتهم، ثم تابعهم بنو الأزد وعليهم عَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وبنو كنانة وعليهم غالب بن عبد الله؛ وخلق كثير من مختلف القبائل، وتحمل الناس جميعًا ومعهم نساؤهم وأبناؤهم، وساروا يريدون العراق ينضمون إلى جنده ويمدون المثنى فيه.

هذا موقف عمر بالمدينة، وذلك موقف المثنى بالعراق، فماذا كان موقف الفرس بالمدائن؟ ترامت إليهم أنباء الأمداد التي تسير تباعًا إلى العراق، فهالهم أمرها وأدركوا الخطر عليهم منها، فقسم رستم والفيرزان السلطان بينهما، وجمعا جندًا عظيمًا جعلا عليه القائد مهران الهمذاني، وأمراه أن يسرع السير للقاء هؤلاء الغزاة المسلمين، وسارت هذه القوات تتقدمها الفيلة، ومهران أحرص الناس على أن يحرز نصرًا ينسي الفرس نصر ذي الحاجب في غزوة الجسر، وعرف المثنى مسيرة هذا الجيش وهو في عسكره بمرج السباخ، فأرسل إلى جرير بن عبد الله وإلى غيره من الأمراء الذين جاءوا يمدونه يقول: «إنا جاءنا أمر لم نستطع منه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البُوَيْب.»٢ ثم سار بقواته حتى انتهى إلى البويب على شاطئ الفرات حيث وافاه جند المسلمين جميعًا، وسار مهران كذلك بقواته حتى كان قبالة المسلمين لا يفصل بينهما إلا النهر.

أجال المثنى بصره في قواته فاطمأن، فلئن لم يكن فيها من الفيلة مثل ما للفرس، إنها لتمثل بمن انضم إليها من الأمداد قوات العرب جميعًا في شبه الجزيرة وخارج شبه الجزيرة، ففيها أولئك الذين استمدهم المثنى وهو بألَّيس فأمدوه، وفيها بجيلة والأزد وكنانة وغيرها من قبائل العرب الذين أجابوا نداء عمر، وفيها من بني النمر نصارى قدموا مع أنس بن هلال وجُلَّاب جلبوا خيلًا، وفيها من تغلب نصارى جاءوا مع ابن مِرْدى الفِهْر التغلبي وجلاب جلبوا خيلًا، وفيها غير بني النمر وبني تغلب رجال من قبائل عربية أخرى مقيمة بالعراق، هؤلاء جميعًا رأوا موقف العرب من العجم فقالوا: نقاتل مع قومنا، وكذلك جمعت رابطة الجنس إلى جيش المسلمين عددًا غير قليل من نصارى العراق وقفوا بجانبهم وحاربوا في صفوفهم.

وبعث مهران إلى المثنى يقول: «إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم.» ولم يكن المثنى قد نسي ما أصاب أبا عبيد حين عبر النهر يلقى ذا الحاجب، وكان عمر قد أهاب به بعد غزوة الجسر ألا يعبر نهرًا قبل أن يتم له النصر؛ لذلك بعث إلى مهران أن اعبروا أنتم، وعبر الفرس إلى البويب وتعبئوا في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل.

وخرج المثنى على فرسه الشَّمُوس، وكان لا يركبه إلا لقتال، فإذا فرغ من القتال ودعه، وكان الفرس يدعى الشموس للين عريكته، وطاف المثنى راكبًا في صفوفه يعهد إليهم عهده ويحضهم ويأمرهم بأمره ويحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم، فكان يقف عليهم راية راية يقول: «إني لأرجو ألا تُؤتى العرب من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم.» فكانوا يجيبونه بمثل قوله، وإذ كان الشهر رمضان فقد نادى المسلمين: «أيها الناس إنكم صوام والصوم مرقة ومضعفة، وإني أرى من الرأي أن تُفطروا فتَقْوَوْا بالطعام على عدوكم.» وأجابه الناس إلى ما طلب فأفطروا، وسمع المثنى من جانب الفرس زجلًا يرددونه وهم يقتربون، فقال: «إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وَأْتَمِروا همسًا.» وجعل الناس يستمعون إلى المثنى وهو يتحدث إليهم منصفًا إياهم جميعًا، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولًا أو فعلًا، بل ازدادوا له حبًّا وبه تعلقًا، فلما قال لهم: «إني مكبر ثلاثًا فتهيئوا ثم احملوا مع الرابعة.» تهيأت الرايات جميعًا تنتظر الشَّدَّة على العدو وهي أشد ما تكون اغتباطًا بلقائه وحرصًا على الظفر به.

ولم يكد المثنى يكبر أول تكبيرة حتى أعجل الفرس العرب وعاجلوهم فشدوا عليهم، واختلت لشدة الفرس بعض صفوف المسلمين من بني عجل؛ فأرسل المثنى من يقول لهم: «إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.» واعتدل بنو عجل وشدوا مع سائر الجند على الفرس، فأعادت شدتهم للصفوف نظامها، واشتبك الفريقان في قتال دام ساعات أعنف قتال، ورأى المثنى أن المعركة تترجح حامية الوطيس بين الفريقين، وأنها تؤذن أن تطول، ففكر في الوسيلة التي يكفل بها النصر للعرب؛ وذلك بأن يحمل على قائد الفرس فيزيله عن مكانه أو يقتله، ولينفذ عزمه دعا إليه أنس بن هلال النمري ثم دعا ابن مِرْدى الفهر التغلبي، وقال لكل منهما: «إنك امرؤ عربي وإن لم تكن في ديننا، فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي.» وحمل المثنى على مهران حملة صادقة فأزاله حتى دخل في ميمنته، ورأى الفرس ما حدث فاندفعوا يحمون قائدهم فاجتمع القلبان وثار النقع، فلا يعرف أي الفريقين لمن منهما الغلب، وانكشف الغبار لحظة رأى المسلمون فيها تراجع قلب الفرس، فحملت عليهم الميمنة والميسرة فدفعوهم إلى ناحية النهر يبتغون النجاة، والمثنى في أثناء ذلك يحرض جنده ويرسل إليهم من يقول لهم: «عاداتكم في أمثالهم، انصروا الله ينصركم.» فيزداد المسلمون حماسة وشدة على العدو وضربًا في صميمه.

ولم يطق الفرس أن يثبتوا لهذا البأس فانهزموا وانقلبوا يولون الأدبار، يريدون أن يعبروا الجسر، فلما رأى المثنى انهزامهم سابقهم إلى الجسر وسبقهم إليه وردهم عنه، فازداد اضطرابهم، فتفرقوا تصعَّد جماعة على شاطئ النهر وتصوب أخرى، وحصرهم فرسان المسلمين وهم في اضطرابهم فقتلوهم شرَّ قِتلة، وبلغ من فزع الفرس وهم على هذه الحال أن كان الرجل من المسلمين يقتل عدة منهم فلا يرتد إليه أحد يحاول قتله، حتى لقد سُمي يوم البويب هذا يوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل من العرب قتل كل واحد منهم عشرة من الفرس في المعركة.

وظل المسلمون يتعقبون الفالَّة من عدوهم يُمعنون فيهم قتلًا إلى الليل، فلما أصبحوا عادوا يتعقبونهم كرة أخرى إلى الليل، بذلك أزهق في البويب من الأرواح أكثر مما أزهق في أية غزوة أخرى، فكانوا يحرزون قتلى الفرس بمائة ألف، بقيت جثثهم صرعى طريحة في الميدان حتى بليت وصارت عظامًا، ثم بقيت دهرًا طويلًا لم تدفن إلا بعد بناء الكوفة، ثم عفى عليها التراب أزمان الفتنة.

انتصر المسلمون بالويب كما ترى نصرًا مبينًا، وكان اجتماع الناس على محبة المثنى من أسباب ذلك النصر، بل كان أجل هذه الأسباب وأعظمها، لقد رأوه يخوض الغمار قوي اليقين جريء الجنان، ففعلوا فعله واستبسلوا استبساله، فنصرهم الله، وكان الذين فروا من الزحف يوم الجسر يقاتلون لا يبالون الموت يريدون أن يتطهروا من عار هزيمتهم، فبينما كان المثنى يعدل الصفوف للمعركة رأى أحدهم يتقدم صفه مندفعًا نحو الفرس مستقبلًا، فقرعه بالرمح وقال له: «لا أبا لك! الزم موقفك، فإذا أتاك قِرْنك فأَغْنِه عن صاحبك ولا تستقتل.» وأجاب الرجل: «إني بذلك لجدير.» واستقر ولزم الصف، وكان لسائر القواد والجنود مواقف بطولة تسجل بمداد الفخر. لما حمي وطيس المعركة اندفع مسعود بن حارثة أخو المثنى يخوض غمارها، فصرع قبل أن ينهزم الفرس فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دَنِفٌ فقال: «يا معشر بكر بن وائل! ارفعوا رايتكم رفعكم الله! لا يهولنكم مصرعي.» وكان قبل أن يُصاب قد قال لهم: «إن رأيتمونا أصبنا فلا تَدَعوا ما أنتم فيه؛ فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم.» وقاتل أنس بن هلال النمري النصراني حتى قتل، وحمل غلام نصراني من التغلبيين على مهران فقتله واستولى على فرسه ثم انتحى يترنم بقوله: «أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان.» ولما سبق المثنى الفرس إلى الجسر فمنعهم من عبوره حاز عرفجة بن هرثمة كتيبة منهم إلى الفرات، فلما أحرجوا كروا على عرفجة ورجاله وقاتلوهم قتال المستميت ونالوا منهم، فقال رجل لعرفجة: «لو أخرت رايتك!» فكان جواب ابن هرثمة: «عليَّ إقدامها.» وحمل بها على الفرس فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد حيًّا، وجرح من أعلام المسلمين يومئذ وقتل عدد غير قليل، كما جرح وقتل مثلهم من بني النمر وبني تغلب وغيرهم من عرب العراق، لكن النصر توج استشهادهم فأبقى على التاريخ ذكرهم، فهم أحياء عند ربهم يرزقون.

وانتهت المعركة، فضم المثنى أخاه مسعودًا وأنس بن هلال النصراني إليه، وتوجع لما أصابهما، لم يفرق اختلاف دينهما من وجده عليه، ثم صلى على من استشهد من المسلمين وقال: «والله إنه ليهوِّن عليَّ وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا ولم يجزعوا ولم ينكلوا، وفي الشهادة كفارة.»

وجلس المسلمون أمسية فراغهم من المعركة مغتبطين يسمرون، قال المثنى: «قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العرب في الجاهلية كانوا أشد عليَّ من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد عليَّ من ألف من العجم، إن الله أذهب بأسهم ووهن كيدهم، فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا قِسِيٌّ فُجٌّ ولا نبال طوال؛ فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت.» وذكر بعضهم أخذ المثنى الجسر على الفرس وما أدى ذلك إليه من إفناء جيشهم، فلم يدع المثنى المتحدث يسترسل في حديثه، بل أنكر صنيع نفسه في ذلك وأظهر الندم عليه وقال: «لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم؛ فإني غير عائد فلا تعودوا ولا تقتدوا بي، أيها الناس، فإنها كانت مني زلة، لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع.»

وهذه العبارة من القائد المنتصر في معركة عظيمة أزالت عن المسلمين عار معركة الجسر، تشهد بشجاعة المثنى وصراحته في الحكم على نفسه، كشجاعته في قيادة المعارك وخوض غمارها، فلو أنه كان ممن يزدهيهم الفخر ويلعب بلبهم إعجاب الناس بهم لما قال منها كلمة، لكنه رأى الفرس الذين ارتدوا عن الجسر يقتلون من المسلمين ويستميتون يريدون الثأر منهم، فأسف لموت من مات من جنوده، وندم على فعلته، وقدر ما ربما كان يترتب على استماتة عدوه من انقلاب كفة النصر، ثم كان جريئًا في إعلان خطئه حتى لا يقع في مثله غيره.

غنم المسلمون في البويب مغانم كثيرة، وأصابوا بقرًا وغنمًا ودقيقًا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن على تخوم شبه الجزيرة، وإلى عيالات من أقاموا بالحيرة ممن سبق إلى العراق في الأيام التي خلت قبل البويب والجسر، ورأى النسوة اللاتي أقمن على تخوم شبه الجزيرة إقبال الخيل عليهن تحمل الميرة، فحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو بن عبد المسيح وكان مع القافلة: «هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش.» واستأمن الرجال النساء وبشروهن بالفتح ودفعوا إليهن ما جاءوا به، وقالوا هذا أول المغنم.

وأمر المثنى القواد والرجال فانطلقوا في السواد حتى بلغوا ساباط على مرأى من المدائن وجيوش الفرس تفر أمامهم فرار النعام لا تمنعهم من شيء ولا تمنع منهم أحدًا، وانطلق المثنى بدوره فغزا الخنافس والأنبار أيام سوقهما، فنال منهما ما شاء الله أن ينال من المغانم، وبلغ المسلمون دجلة وأغاروا على قرية بغداد وبلغوا تكريت، وجعلوا كلما غزوا يقتلون المقاتلة ويسبون الذرية ويستاقون الأموال، حتى كان لهم من ذلك ما لا يحصى، بذلك دان لهم العراق كله كرة أخرى، وقسم المثنى الفَيْء على الناس، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة ربع الخمس تنفيذًا لعهد عمر، ثم بعث بثلاث أرباعه إلى أمير المؤمنين بالمدينة.

استتب الأمر للمثنى كما استتب من قبل لخالد بن الوليد، فانتشر المسلمون في سواد العراق ينالون من رزقه وينعمون بخيراته، وأقام المثنى بالحيرة يفكر فيمن أفنت هذه الموقعة الضروس من جند المسلمين، وفي الوسيلة لتعزيز الجيش بمن يقوم مقامهم فيه، ولعله لم يكن يستعجل المدد، فقد استولى الرعب على نفوس الفرس بعد ما كرثتهم البويب، حتى لقد خيل إليه أن لا قيام لهم بعدها، وأن خلافهم بالمدائن سيشتد على أثرها، وأن الثورة ستشب بسبب هذا الخلاف في كل أرجاء فارس فتوهن أمرها وتزعزع نظامها.

جدير بنا أن ندع المثنى يفكر في موقفه، وأن نفكر نحن فيما للبويب من دلالات على التاريخ؛ فلهذه الغزوة أكثر من دلالة، لقد رأينا النصارى العرب من أهل العراق يقفون في خطوط المسلمين يحاربون الفرس بالحمية التي يحاربهم بها المسلمون، ورأينا المثنى يقول لأنس بن هلال النمري: «يا أنس! إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتني حملت على مهران فاحمل معي.» ثم يقول مثل هذا القول لابن مِردى الفهري التغلبي، ألا يقطع ذلك بأن الحرب في العراق لم تكن حربًا صليبية، ولا حربًا إسلامية، وأن الدين لم يكن هو الذي أثارها، وإنما أثارها حرص العرب على أن يتخلص بنو جنسهم من النير الأجنبي الذي ركبهم قرونًا طويلة، وأن يكون الجنس العربي وحدة سياسية أينما كانت منازله؟ أحسب الأمر واضحًا فلا سبيل إلى الريبة فيه، والاعتبارات التي أثارت الحرب في العراق هي التي أثارت الحرب في الشام، أما الفتح لنشر الإسلام بالسيف فلم يدر بخاطر أبي بكر ولا بخاطر عمر، وإن دار بخاطرهما أن تكون الدعوة إلى الإسلام حرة لا يقف في سبيلها عائق من العوائق.

ذلك أن الدعوة إلى الإسلام بقوة السلاح لا تتفق ومبادئ الإسلام، ولا يقرها الكتاب الذي أوحاه الله إلى رسوله، وقد كان النبي وخلفاؤه يذكرون دائمًا قوله تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وإنما انتشر الإسلام تبعًا لاتساع رقعة الفتح؛ لأن أهل البلاد المفتوحة رأوا مبادئ هذا الدين القيم فأكبروها ثم اعتنقوها، عن بينة وتفكير حينًا، وتشبهًا بالرجال الذين أتوا بالمعجزات في الفتح وفي الحكم حينًا آخر، فإذا صح لهذا السبب أن نقرن انتشار الإسلام باتساع رقعة الفتح، فلا صحة لما يقال من أن هذا الفتح كانت غايته نشر الإسلام ببطش السيف.

هذا بعض ما تدل عليه غزوة البويب، وهي تدل كذلك على أن ما كان بين العرب والفرس من خصومة قد بلغ حدًّا لا رجاء معه في صلح ولا في هدنة، فقد جاءت البويب على إثر غزوة الجسر حيث انهزم المسلمون هزيمة نكراء، فمحت آثار هزيمتهم وجعلت كلمتهم العليا، وألقت في نفوس الفرس الرعب وهدت عزيمتهم، مع ذلك لم يفكر المسلمون في التسليم ولا في الصلح إثر غزوة الجسر، ولم يفكر الفرس في التسليم ولا في الصلح إثر غزوة البويب، فلم يكن بد من أن تتصل الحرب حتى يذعن أحد الفريقين دون قيد أو شرط.

ولهذا لم يلبث الفرس حين زال عنهم روع البويب أن عادوا يفكرون فيما يوشك أن يصير إليه أمرهم إذا ظلوا فيما هم فيه من فرقة وانقسام، ولقد خيل إليهم أن هؤلاء الغزاة من العرب سيدخلون عليهم عاصمة ملكهم، ويفتضون عليهم كل حصونهم، ويُخضعون أبناء كسرى لسلطانهم، إلا أن تكون المعجزة فتتحد كلمتهم ليواجهوا الغزاة ويجلوهم عن أرضهم، وكيف لكلمتهم أن تتحد ورستم والفيرزان يتنازعان السلطان، والأمراء والدهاقين منقسمون تؤيد طائفة أحد المتنازعين وتؤيد الأخرى منافسه! لذا ذهب أهل الفرس إليهما جميعًا فحذروهما عاقبة اختلافهما وما يجره على فارس من وهن يعرضها للهلكة، «فما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن!» ثم إنهم أنذروهما قائلين: «والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت!»

وتشاور الفيرزان ورستم فاستكتبا بوران كتابًا إلى نساء كسرى وسراريه، فجاءوا بهن وعرفوا منهن أنه لم يبقَ ذكر من ذرية كسرى إلا يَزْدَجِرْد بن شهريار بن كسرى وكانت أمه قد أخفته عند أخواله حين قتل شيري جميع الذكور من ذرية أبيه، فجاءوا به، وهو يومئذ في الحادية والعشرين من عمره، فجعلوه على عرش أجداده واجتمعوا عليه وتباروا في معونته، فاطمأنت فارس بعد انزعاجها، وأخذت تعد العدة كيما تثأر لكرامتها وشرفها.

وترامت إلى المثنى أنباء الفرس فزايلته طمأنينته، وأيقن أن أهل السواد لن يلبثوا أن ينتقضوا على المسلمين إذا سارت جيوش الفرس ونحوهم، فكتب إلى عمر بالمدينة يذكر له ما عنده وما يتوقع من ثورة وانتقاض، لكن كتابه أبطأ قبل أن يبلغ عمر، وتجهز الفرس، فأثار تجهزهم قرى العراق ومدنه، فلم يجد المثنى بدًّا من أن ينسحب كرة أخرى إلى تخوم شبه الجزيرة، فسار في جنده حتى نزل بذي قار، وجمع ما استطاع من الناس في عسكر واحد، ثم أقام ينتظر مدد الخليفة ليعود من جديد ويفتح المدائن.

ولما وصل كتاب المثنى إلى عمر وعرف تجهز العجم بعد أن اجتمع أمرهم واتحدت كلمتهم قال: «والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب!» وكتب إلى المثنى ومن معه يأمرهم بالخروج إلى تخوم العراق والتفرق في المياه التي تلي العجم، وأن يستمدوا أهل النجدة ليكونوا معهم حتى لا يبغتهم الفرس وهم في غير عدد وعدة.

نزل المثنى بذي قار، فلم يفكر الفرس في السير لمواجهته، وهناك أقام حتى أدركه سعد بن أبي وقاص، إذ جاء أميرًا على الجيوش التي جهزها عمر لِيُجْهِزَ بها على فارس، لكن مقام المثنى مع سعد لم يطل؛ فقد نغر عليه الجرح الذي أصابه يوم الجسر وما زال به حتى قضى عليه، بهذا تجري بعض الروايات وتجري روايات أخرى بأن المثنى قبض بذي قار قبل أن يصل سعد إلى العراق، وأنه ترك لسعد وصية نورد حديثها في موضعه.

والآن وقد قُبض المثنى فحق علينا أن نختم هذا الفصل، وقبل أن نندفع مع الحوادث في تيارها الجارف، أن نقف هنيهة على قبر هذا القائد القادر نودعه ونوفيه بعض حقه.

فقد حمل هذا الرجل عن المسلمين في حرب الفرس عبئًا لم يحمل أحد مثله، كان أول مسلم ذهب إلى دلتا النهرين فدعا أبا بكر للتفكير في فتح العراق، ولولا ذهابه إليها ومغامراته فيها لما فكر الخليفة في مواجهة فارس، وقد فتح مع خالد بن الوليد ما شاء الله أن يفتحاه من سواد العراق، ولولا إقدام ابن حارثة وحسن رأيه وبراعة قيادته لما استطاع بعد أن ذهب خالد إلى الشام أن يثبت للفرس وأن يواجههم.

ولقد أوصى أبو بكر عمر بعد ذلك أن يندب الناس مع المثنى، فكان طبيعيًّا أن يتولى المثنى إمارة القوات التي تسير إلى العراق لنجدته، فهو الذي عرف مداخله وسار في أرجائه، فله من الجرأة على أهله ما ليس لغيره، ولو أن أبا بكر عاش لما أمَّر أحدًا غيره، لكن عمر أمَّر أبا عبيدًا؛ لأنه كان أول الناس انتدابًا، ولأنه كان ثقفيًّا من أهل الحجاز! وكان المثنى من بكر بن وائل، أفغضب المثنى لذلك أو حز في نفسه أن خالف عمر وصية أبي بكر في أمره؟ كلا! بل سما بتفكيره فوق هذا الاعتبار، وقدر تعصب أهل الحجاز لبني وطنهم، فسبق أبا عبيد إلى العراق ثم سار تحت لوائه، فانتصر معه يوم النمارق وحمل اللواء بعد مقتله ومقتل أصحابه يوم الجسر، ثم انسحب إلى أليس، حتى جاءه المدد وكان يوم البويب قاد الموقعة ببراعة تعيد إلى الذاكرة فعال خالد بن الوليد في أعظم غزواته.

وتأمير عمر أبا عبيد على المثنى من الخطوات الأولى التي أقر بها أمير المؤمنين نظام الطبقات بين المسلمين، وقد يلتمس لعمر من العذر عن هذه الخطوة أن أبا عبيد تقدم حين أحجم غيره، فكان أول الناس انتدابًا، لكن الواقع أنها كانت خطوة تتفق وتفكير عمر، يشهد بذلك أن جرير بن عبد الله البجلي ذهب في أعقاب غزوة الجسر مددًا للمثنى، فلما عرف المثنى أنه مر قريبًا منه كتب إليه أن أقبل إليَّ فإنما أنت مدد لي، ورد عليه جرير: «إني لست فاعلًا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين، أنت أمير وأنا أمير.» وكتب المثنى إلى عمر يشكو جريرًا، فرد عليه أمير المؤمنين بقوله: «إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد .» ولما وجه عمر سعد بن أبي وَقَّاصٍ إلى العراق كتب إلى المثنى وإلى جرير أنه أمَّر سعدًا عليهما، ذلك أن سعدًا كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان عمر يرى السابقين الأولين إلى الإسلام طبقة تفضل غيرها من سائر طبقات المسلمين.

لم يغضب المثنى لتأمير غيره عليه؛ ذلك لأنه كان مؤمنًا حسن الإيمان، كما كان جنديًّا باسلًا يقدر معنى النظام وطاعته، ويسمو بالنظام وبالإيمان جميعًا على أهواء النفس وشهواتها، على أن إقصاءه عن إمارة الجيش لا يغض من قدره، ولا يمحو ما سجل التاريخ له في صحفه، فإن يكن خالد بن الوليد عبقري الحرب وسيف الله، فالمثنى بن حارثة هو السابق الأول إلى فتح العراق، وهو القائد المحنك الذي حمل العبء في أشد مواقف المسلمين به دقة، وهو الحكيم الذي جمع قلوب العرب من أهل العراق حوله مع أنهم لم يكونوا على دينه، فاستطاع بما صنع من ذلك أن يضرب الفرس في البويب ضربة لم يفيقوا منها ولم ينتصروا قط بعدها.

ويزيد المثنى فخارًا أنه أتم ذلك كله في زمن ما أقصره، فقد بلغ أبو عبيد تخوم العراق مستهل الخريف من سنة أربع وثلاثين وستمائة لميلاد السيد المسيح، فانتصر بالنمارق في أوائل أكتوبر من تلك السنة، وقُتل بالجسر في أخريات الشهر نفسه، فتولى المثنى القيادة وانتصر بأليس ثم انتصر نصره الحاسم بالبويب في شهر نوفمبر، ولو أنه جاءه المدد في أعقاب البويب لسار إلى المدائن ففضها قبل أن يطوي ذلك العام أيامه، لكن المدد أبطأ عليه، ثم إن الموت عاجله، فمات وقد عقد النصر على هامته إكليلًا من الفخار باقيًا على الدهر ما بقي الدهر.

والآن وداعًا أيها القائد القادر وفي ذمة الله! ولنترك الآن ميدانك يدوي بآيات نصرك لنقف بالشام إلى جانب صاحبك ابن الوليد! وليذكر الناس جميعًا على تعاقب الأيام أن المثنى بن حارثة الشيباني كان الطليعة في التمهيد للإمبراطورية الإسلامية، ثم كان من بُناتها ذوي الحكمة والأيد، ولن يغض من عظمة صنيعه في بنائها أنه لم يكن قرشيًّا، ولم يكن من أصحاب رسول الله، وأنه لم يتولَّ إمارة الجيش بعد خالد، فقد تولاها بالفعل في البويب فكان فيها ندًّا لخالد إقدامًا، ولعله كان فيها أكثر من خالد تسامحًا وحكمة.

هوامش

(١) ذكر الطبري وغيره من المؤرخين أن دومة امرأة أبي عبيد كانت معه بالمروحة، وأنها رأت في منامها أن رجلًا نزل من السماء بإناء فيه شراب من الجنة، فشرب منه أبو عبيد وجماعة من أصحابه الثقفيين. وقصت دومة الرؤيا على زوجها فقال: هي الشهادة. وأوصى بمن يخلفه على قيادة الجيش.
(٢) البويب: موضع يلي موضع الكوفة اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤