الفصل التاسع

فتح المدائن

فر الفرس بعد القادسية فرار النعام، فبلغ الجانب الأكبر منهم أطلال بابل، وتفرق الآخرون في أرجاء فارس، أما المسلمون فأقاموا بالقادسية شهرين حتى أراحوا ظهورهم وأبلَّ سعد من مرضه، وكان عمر قد كتب إلى سعد ألا يبرح منازله حتى يأتيه أمره، فلما اطمأن إلى أنباء الجند وأمدهم، أمر سعدًا بالسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق، على أن يجعل معهم كَثْفًا من الجند يكون لهم حظ سائر الجند من المغنم جزاء حمايتهم عيالات المسلمين.

وقدَّم سعدٌ زُهْرةَ بن الحويَّة فسار إلى الحيرة ونزلها، فلما بلغها عبد الله بن المُعْتَمِّ وشُرَحبيل بن السِّمْط عاود سيره إلى المدائن، ولقيه في أثناء مسيرته جمع من الفرس ببُرْس١ فهزمهم ففروا ينضمون لمن سبقوهم إلى بابل، وعرف زهرة نبأ الذين اجتمعوا ببابل من فلول القادسية فكتب إلى سعد به إذ كان بالحيرة مع هاشم بن عُتْبَةَ، وسار سعد يريد بابل، فلقي الفيرزان فهزمه في أسرع من لفت الرداء، وفر الفيرزان إلى نَهَاوَنْد، والهرمزان إلى الأهواز، ومهران إلى المدائن، وتقدم جند المسلمين، فلقيهم شهريار بكَوْثي فقتلوه وهزموا أصحابه، ونفلَ سعد سَلَبَ شهريار لمن قتله، وتقدم زهرة بن الحوية إلى ساباط، فصالحه أهلها على الجزية، وذلك حين عرفوا أنه هزم الجند الذي اعترضه فيما بين سورا والدير وقتل قواده، وكذلك كانت جنود المسلمين تسير في أرجاء السواد فلا تلقى مقاومة تذكر، وكان المدنيون يهرعون من كل صوب إلى أمراء هذه الجنود بالطاعة، يعلن فريق منهم إسلامه، ويرضى فريق أداء الجزية، وينزل الجميع على حكم هؤلاء الذين غزوهم وأقاموا العدل بينهم، ثم جَلَوْا عنهم حين فَصَل خالد بن الوليد إلى الشام، ها هم أولاء يعودون إليهم في قوة بددت كل أمل في جلائهم مرة أخرى، من ذا يجليهم وقد هلك رستم وتضعضعت الروح المعنوية في نفوس الفرس جميعًا! إنه إذن الإذعان لقضاء قضاه الله فلا مرد له، ولن يقدر عليه أحد.

أقام سعد ببابل، وقدم زهرة بن الحوية على رأس قوة تسير إلى المدائن، ترى هل أثارت أطلال بابل في نفوس سعد والذين نزلوها ذكر المدينة القديمة التي شهدت حضارة الإنسانية الأولى متداولة بينها وبين طيبة ومنفيس وعالم الفراعنة الأولين؟! وهل تراهم ذكروا عهد الآشوريين وثقافتهم وما كان لبابل في عهدهم من جلال وعظمة بأسوارها المنيعة، ومعابدها الضخمة، وأبراجها الحصينة، وحدائقها المعلقة، وقصورها الفخمة مهد الترف والنعمة والجمال والدلال؟ هم لا ريب قد ذكروا برج بابل، وذكروا تداول الأمم الطارئة عليه، حتى أصبح مضرب المثل لكثرة اللغات التي يتكلمها من نزلوه أسارى أو فاتحين، ولكن لعل ما ذكروه من أمر البرج ومن أمر المدينة نفسها لم يتعدَّ حديثًا يتداولونه أُوَيْقات سمرهم، فقد كانوا في شغل بما هم مقبلون عليه من فتح المدائن، والمدائن عامرة، وبابل أطلال، والمدائن عاصمة الفرس، وبابل لم تبقَ عاصمة ولم تبقَ مدينة، والمدائن عنوان الحياة، وبابل أثر دارس لعهد مضى، والناس يتعلقون بالحاضر وقلما يتخذون من الماضي عبرة، وأكثرهم لا يلتمسون العبرة ما بَسَم لهم وجه الحياة، فإذا تجهَّم وجه الحياة وانقبض، ذكروا العهود الخوالي لعل فيها ما يأسو كلوم الحاضر. وقد كان وجه الزمان باسمًا للمسلمين أي ابتسام، فما لهم ولبابل والآشوريين الذين أصبحوا أحاديث، وهم يرون من حولهم حياة زاخرة، وكنوزًا ثمينة، وشعبًا لا يلبث حين يسمع باسمهم أن يهرع إليهم بالطاعة، ويلتمس عندهم العفو والمغفرة.

بل إن منهم لمن ذكروا لمرأى بابل فعال المسلمين بها يوم عسكر المثنى بن حارثة على مرتفع من أطلالها، وأقام بين شبكة من جداول دجلة ينتظر هرمز جاذويه وهجومه عليه، ذكر هؤلاء ذلك الموقف العصيب الذي فجأهم بعد مسيرة خالد إلى الشام، وارتقاء شهريران بن أردشير عرش كسرى واعتزامه طرد العرب من بلاده، وذكروا كيف قتل المثنى فيل هرمز، وكيف هزم الفرس وتعقبهم حتى قاربوا المدائن، وتحدث هؤلاء بما شهدوا من ذلك إلى أصحابهم الذين جاءوا مع سعد من المدينة، والذين انضموا إليه من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة، وذكروا لهم أن هذا السواد الذي يسيرون فيه بين غدران مترعة ومزارع واسعة وحدائق يانعة، قد خضع لسلطانهم، فأكلوا من خيراته، وأرسلوا إلى المدينة ما استطاعوا أن يرسلوه من ثمراته.

فبابل وسائر الأماكن التي يمر المسلمون بها كانت بعض ما فتحوا وحكموا، كانت القادسية في يدهم، وكانت الحيرة مقر إمارتهم، وكانت بُرْس وكَوْثي وغيرهما من الريف والقرى تدين لهم، وكانت المدائن مطمح أنظارهم، فهم اليوم يمرون بأماكن لكثيرين منهم فيها ذكريات رَفاهة ونعمة، وإنما الفرق بين أمسها ويومها أنها كانت لهم بالأمس مستقرًّا وكانوا فيها سادة حاكمين، وهي اليوم ميدان فتح جديد، فهم ينتقلون من واحدتها إلى الأخرى متجهين شمالًا بشرق من القادسية إلى الحيرة، إلى برس، إلى بابل يريدون ساباط والمدائن وهم يجدونها اليوم أهون أمرًا مما كانت من قبل بعد أن فَتَّ الوهن في أعضاد أهلها فأيقنوا أن لا مفر لهم من الله إلا إليه.

سار زهرة بن الحوية وهاشم بن عُتْبَةَ يريدون المدائن، فلما كانا على مقربة من بَهْرَسِير لقيتهما بساباط كتيبة لبوران ابنة كسرى كان رجالها يحلفون كل يوم ألا يزول ملك فارس ما عاشوا، وكان مع هذه الكتيبة أسد تألفه كسرى، ولم تثبت الكتيبة للمسلمين أكثر مما ثبت جنود فارس ببرس وبابل، وكيف تثبت وقد رأت حظ الأسد كحظ الفيلة بالقادسية! فقد اندفع هاشم بن عُتْبَةَ فضربه بالسيف ضربة جدلته قتيلًا، هنالك فرت الكتيبة تحتمي ببَهْرَسِير، وأدرك سعد رجاله وعرف فعالهم، فقبل رأس ابن أخيه هاشم إكبارًا لقتلة الأسد، وقبل هاشم قدم عمه تقديرًا لعطفه، ثم رفع سعد رأسه إلى السماء شكرًا لله، واتجه بعد ذلك بنظره إلى ناحية المدائن وتلا قوله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ.

وجعل سعد أول الليل يفكر في موقفه من المدائن، أيهاجمها وجنوده لا تزال تهزمهم نشوة الظفر، فهم أشد ما يكونون حرصًا على اقتحامها؟ أم يريحهم أيامًا ثم يسير بهم إليها؟ لكنه منه على مقربة؛ فإذا هو وقف دونها يغري وقوفه أهلها بالحرص على الذود عنها، الخير إذن أن يأخذهم على غرة؛ لذلك أمر بعد أن ذهبت هدأة من الليل فارتحل الناس حتى نزلوا على بَهْرَسِير.

وبَهْرَسِير ضاحية للمدائن، تقع على ضفة دجلة اليمنى، وتقع المدائن قبالتها على ضفته اليسرى؛ فهي لذلك جزء منها وإن فصلها النهر عنها، والمدائن كلها تقع على نحو عشرين ميلًا إلى الجنوب من بغداد التي كانت يومئذ قرية ليس لها على غيرها من قرى دجلة أي امتياز.

وكانت المدائن عاصمة إيران منذ عهد بعيد، خلفت بابل ثم فاقتها جلالًا وبهاء وعظمة، وقد ظلت ولها جلالها مع ما أصابها من غزو الروم إياها واستيلائهم غير مرة عليها، ومع ما كان من اضطراب بلاطها وقيام الثورات فيها؛ لذلك كانت الأبصار تشرئب من جوانب العالم إليها، وكان اسمها يبهر خيال الناس جميعًا ويثير فيه من معاني الروعة والسحر ما لا يثيره اسم رومية ولا اسم القسطنطينية؛ فقد جمعت من معاني الترف الشرقي أبهى صوره وأكثرها وحيًا لآلهة الفن وشياطين الشعر، لا عجب وذلك شأنها أن يسير المسلمون إليهم وكلهم شوق لما سيشهدون فيها مما لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا عجب أن يزيدهم هذا التصور حماسة وإقدامًا ليصبح ما ظنوه خيالًا قد تجسم أمامهم حقيقة واقعة.

سار سعد بالناس إلى بَهْرَسِير والحماسة تهز الجند هزًّا؛ لذلك كانوا كلما قدمت خيل عليهم وقفوا ثم كبروا غير مرة، لكنهم ألفَوْا أهلها تحصنوا بها وأغلقوا دونهم أسوارها، فلا سبيل إلى اقتحامها، ولا مفر لذلك من حصارها.

وحاصرها سعد وهو لا يخشى أن يبغته أحد من خلفه، فقد بث الخيول فأغارت على ما بين دجلة والفرات، فأصابوا مائة ألف فلاح جاءوا بهم أسرى، وحفروا الخنادق من حولهم، لكن هؤلاء الفلاحين لم يكونوا جندًا محاربين، فلم يكن من أسرهم فائدة، ولم يكن في إطلاقهم من الأسر خطر؛ لذلك أشار شيرزاد دهقان ساباط على سعد فصرفهم إلى قراهم ليعملوا في الأرض ويكثروا من غلاتها، وكتب سعد إلى عمر بما صنع، فأقر الخليفة مشورة شيرزاد، فأمن أهل السواد من شواطئ دجلة إلى أرض العرب وأقاموا يفلحون الأرض، وأدى الدهاقين الخراج والجزية فازداد الفلاحون أمنًا، وأقام سعد على حصار بَهْرَسِير وهو لا يخشى أن يبغت من خلفه، وهو مطمئن إلى أقوات جيشه.

ونصب المسلمون المجانيق وجعلوا يرمون بَهْرَسِير داخل أسوارها، ولم يهن الفرس لشدة هذا الرمي، فقد أيقنوا أنهم إن لم يردوا عدوهم عن مدينتهم انكشفت أمامه العاصمة وعظم الخطر عليها، وليس الدفاع عن بَهْرَسِير بالأمر العسير؛ فأسوارها قوية وحصونها منيعة، وجسر دجلة يصلها بالمدائن، وعلى هذا الجسر تجيء من أرجاء فارس المترامية أمداد لا تحصى وأقوات لا نهاية لها؛ لذا ثبتوا للحصار شهورًا طوالًا، يختلف المؤرخون أكانت تسعة أو ثمانية عشر شهرًا، وفي أثناء هذا الحصار كانت قواتهم تتخطى الأسوار أحيانًا تقاتل المسلمين لعلها تنزل بهم من الهزيمة ما يردهم على أعقابهم، لكن المسلمين كانوا لا يفتئون يظفرون بهذه القوات ويردونها إلى المدينة مجللة بالعار تحتمي بأسوارها، فلما طال الحصار واشتد بالفرس ما يصيبهم أخرجوا جيشًا عليه من القواد من كانت للجند بهم ثقة أي ثقة، لكن هذا الجيش انهزم كذلك ورجع إلى المدينة، وفتت هزيمته في أعضاد الفرس وأدخلت في روعهم أن هؤلاء المسلمين لا غالب لهم.

وكانت أنباء الحصار والقتال تبلغ يَزْدَجِرْد يومًا فيومًا، بل ساعة فساعة، فيتولاه الهم ويكاد يساوره اليأس، وطال ذلك به ورأى المسلمين بعد كل هذه الأشهر لا يَهِنون، ورأى وراءهم من ثراء العراق طعامًا كرفغ التراب، ثم رأى الفرس يزداد تهافتهم وتضعف حماستهم، فأيقن أن بَهْرَسِير لا محالة صائرة إلى عدوه، عند ذلك بعث إلى سعد رسولًا يعرض للصلح أن يكون دجلة حدًّا فاصلًا بينه وبين العرب، «فلنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم.» لكن سعدًا رفض مصالحة يَزْدَجِرْد ورد رسوله، وكيف يصالحه وأمر عمر بفتح المدائن صريح لا لبس فيه! وكيف يصالحه بعد أن هزم جنده أهل بَهْرَسِير وأسروا منهم، وهم موشكون أن يقتحموا عليهم أسوارهم! ولم يكن الرسول قد بلغ يَزْدَجِرْد ليبلغه رفض سعد بن أبي وَقَّاصٍ حين أمر بتشديد الحصار ومضاعفة الرمي بالمجانيق، ولم يجب أحد من بَهْرَسِير رماة المسلمين بنشابة ولا بسهم، فأيقن سعد أن حامية المدينة تخلت عنها، فنادى في الناس ونهد بهم ليقتحموها، وتسورها الرجال وفتحوا أبوابها فلم يجدوا بها من يرد عادية عليها، ولم يخرج إليهم منها إلا رجل نادى بالأمان علموا منه أن حامية بَهْرَسِير انتقلت إلى المدائن بأمر يَزْدَجِرْد، وأنها أحرقت الجسر وجمعت كل السفن التي تجري فوق دجلة، ليبقى النهر بتياره المتدفع خط دفاع يرد الغزاة عن العاصمة العامرة.

دخل المسلمون بَهْرَسِير في جوف الليل، فلم يثنهم ذلك عن الاندفاع إلى ناحية دجلة يريدون عبوره إلى المدائن ليقتحموها كما اقتحموا ضاحيتها، ولم يجدوا الجسر يعبرون عليه ولم يجدوا سفنًا تحملهم، فوقفوا على شاطئه، فرأوا أمامهم منظرًا بهرهم، فأقاموا مبهوتين يحدقون فيه ملء عيونهم وملء قلوبهم ولا يكادون يصدقون ما يرون؛ بناء ضخم بالغ غاية الروعة والهيبة والفخامة يقوم أمامهم على الشاطئ الآخر إلى ارتفاع لم تألفه أبصارهم، ويميزه بياض لونه برغم دجى الليل المدلهم، ورق الليل وصفت السماء وسرى في الجو نسيم عذب زاده لطفًا وزاد هذا المنظر الفذ روعة وجلالًا؛ فأمسك الجند أنفاسهم وفتحوا عيونهم وأفواههم أن ملك الإعجاب عليهم كل حواسهم، وتلاحقت فرق الجند إلى النهر ووقفت على شاطئه تولاها البهر وكأنما سمِّرت في أماكنها، فلما أقبل ضرار بن الخطاب في زمرته، ورأى ما رأوا، نادى بأعلى صوته: الله أكبر! هذا أبيض كسرى! هذا ما وعد الله ورسوله! عند ذلك تعالت الأصوات بالتكبير من كل جانب وأيقن الناس جميعًا أنهم بإزاء هذا الإيوان الذي طالما سمعوا به مذكورًا في شعر الشعراء وأحاديث المحدثين، وجعلوا يكبرون حتى أصبحوا وكلهم الشوق ليعبروا إلى الإيوان، وليحيطوا به وليملئوا عيونهم منه وليدخلوه، وليروا تخت كسرى في بهوه العظيم، وليروا قائدهم جالسًا عليه يعلن كلمة التوحيد فتجيبه الأصداء من كل جوانب القصر بأن صدق الله وعده، فكلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم.

لم يكن عجبًا أن يتولى المسلمين البهر لمرأى قصر كسرى؛ فقد كان هذا القصر عجيبة الأرض لذلك العهد، ولم يكن قدمه موضع العجب فيه، فقد كان يومئذ حديثًا لم يمضِ على بنائه مائة عام؛ إنما كان جلاله وكانت عظمته موضع العجب، شاده كسرى أنوشروان، سنة خمسين وخمسمائة لميلاد السيد المسيح، طرازًا بذ به أفخر عمائر الرومان والإغريق جميعًا، كانت واجهته تزيد على مائة وخمسين مترًا، ويربي ارتفاعه على أربعين مترًا، وكانت القباب الجاثمة فوق أبهائه الخمسة تتوج بهاءه وجلاله، وتثير التطلع في نفوس هؤلاء العرب الذين شدت أبصارهم إليه عما عسى تحتوي هذه الأبهاء من ثراء وزخرف، إن بها لا ريب من ذلك ما يقصر الخيال دونه، وهذا البهو الذي يتوسطها، وتعلو قبته قبابها جميعًا، هو لا ريب هذا الإيوان الذي لم يسمع الناس في العالم كله بشيء من مثله، أليست الأحاديث تجري عن تخت كسرى والجواهر الكريمة التي ترصع قوائمه بما يشبه الأساطير! والتخت والإيوان والقصر قائمة كلها أمام الجند لا يفصل بينهم وبينها إلا النهر وهي تزيدهم في كل لحظة بهرًا، متى إذن يعبرون إليها ويرون رأي العين كل ما فيها؟!

بينما تدرو هذه الخواطر في نفوس المسلمين يغذيها خيالهم، ويزيدها منظر المدائن حياة وقوة، كان يَزْدَجِرْد مشتت الخاطر يهيم على وجهه في أبهاء القصر وقد ركبته الوساوس من كل جانب، إن دجلة حصن طبيعي بسعة مجراه وتدفع تياره، وقد زاده في هذا الفصل سعة وزاده تياره تدفعًا ذوبان الثلوج في أعالي الجبال التي ينبع منها بأَذْرَبِيجَان والموصل، ولا سبيل للمسلمين إلى تخطيه بعد أن جمعت السفن كلها إلى جانبه الشرقي، ألا تستطيع قوات الفرس أن تحمي شاطئه، وأن تدفع بذلك كل خطر عن العاصمة؟ هذا هو التفكير الطبيعي في مثل هذا الموقف، وكان جديرًا بيَزْدَجِرْد أن يتجه إليه، وأن يدعو قواده يدير معهم الرأي فيه، وأن يبعث من روحه الشاب إلى أرواحهم وأرواح الناس جميعًا من أهل العاصمة حماسة للذود عن حرمتهم وعن كرامتهم، ولو أنه فعل لكان ذلك أقل ما يجب عليه لنفسه، ولأمة أسلمته زمامها، والتفت حوله للدفاع عن كيانها.

لكن اضطرابه أضل قلبه وأفسد تفكيره، وجعله يرى هؤلاء المسلمين جنًّا لا تقف قوة في سبيلهم ولا طاقة لأحد إلا بالفرار أمامهم، ومن أولى منه بأن يكون أمام الناس في هذا الفرار، نجاة بنفسه وبأهله! لذلك أمر رجاله فحملوا بيت ماله وما خف من متاعه وخزائنه، وحملوا النساء والذراري وخفوا بهم يقصدون حلوان، ورأى الناس ما صنع عاهلهم، فخارت عزائمهم واندفعوا يفكرون في النجاة بأنفسهم وذويهم، أليس الناس على دين ملوكهم! ولماذا يكون أهل الملك وجواريه أعز عليه من زوج الجندي أو القائد وأبنائهم عليه! بذلك انهارت روح المقاومة في أنفس الفرس، ولم يبق لهم أمل في غير الحظ يسعدهم فيجعل النهر أداة في رد الغزاة عنهم، أو يعثر بهم كرة أخرى فلا سلطان لهم عليه ولا سبيل إلى مقاومته.

وكذلك كان دجلة يجري بين جندين: جند تحطمت قواه فلم يبقَ له عزم ولا إرادة فألقى بيديه وترك للحظ مصيره، وجند سمت روحه المعنوية وبلغ من قوة الإيمان بالنصر حتى خيل إليه أن يضرب النهر بعصاه ينفرج فيه طريق يجتازه عليه إلى إيوان كسرى، هذه معجزة أتاحها الله لكليمه موسى ففر بها من مصر مع قومه، وسيتيح الله اليوم مثلها لجند المسلمين فيعبرون النهر ويقتحمون المدائن ويديلون دولة الأكاسرة، ويرفعون لواء الحق فوق الإيوان الأعظم.

نعم! هي معجزة تلك التي اجتاز المسلمون بها دجلة، لقد وقفوا على شاطئه ينظرون إلى تدافع مياهه، ويفكر سعد في الوسيلة إلى عبوره، فلا يسعفه التفكير بنافع، فأمر رجاله فجاءوه بعلوج من الفرس سألهم فدلوه على مخاضة في النهر تخاض إلى صلب الوادي، لكنه خشي عادية التيار على الجند، وهو حريص أن يبقي على كل رجل؛ لذلك تردد فلم يعمل بما أشاروا به، فلما كان الغد أتاه النبأ بأن يَزْدَجِرْد أمر بخزائنه أن تحمل إلى حلوان، عند ذلك جمع الناس وقام فيهم خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه منه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.»

أية مفاجأة هذه التي فاجأ سعد بها رجاله! أَوَلم يكن إلى أمس مترددًا! ألا يخاف أن يتردد الناس فلا يقوون على أمر فيه من الخطر أهوله! لكن الناس لم يترددوا؛ فقد سحرهم مرأى المدائن أعظم السحر، وجذبهم قصر كسرى إليه بقوة دونها كل قوة، فهم يقدمون على المستحيل ليدخلوا العاصمة وليحيطوا بالقصر؛ لذلك لم يكد سعد يتم كلمته حتى قالوا جميعًا: «عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.»

ولكن كيف يعبرون؟ وهبهم عبروا على خيولهم، فجند فارس على الشاطئ الآخر يصدونهم فلا يخرجون من الماء، تنبه سعد لهذا فندب الناس وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض٢ حتى نلاحق به الناس لكي لا يمنعوهم من الخروج؟! وانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستمائة من أهل النجدة، فأمَّر سعد عاصمًا عليهم، فساروا حتى بلغوا شاطئ دجلة قال عاصم لأصحابه: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولًا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟ وانتدب له ستون فارسًا تقدمهم هو إلى حافة النهر وهو يقول للذين ترددوا: أتخافون من هذه النطفة! ويتلو قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا، ثم دفع فرسه فاقتحم النهر واقتحم زملاءه معه، ورأى القَعْقَاع بن عمرو هذه الكتيبة الأولى تتقدم في سبحها، ومد بصره إلى الجانب الآخر من النهر، فرأى الفرس وكأنما يتهيئُون للقائها، فأمر أصحابه الستمائة فدفعوا خيولهم إلى النهر فدخلوه كما دخله عاصم وأصحابه، وتولى الفرس العجب لما صنع عدوهم، فقال بعضهم: مجانين، مجانين! وقال آخرون: إنكم والله ما تقاتلون إنسًا بل تقاتلون جنًّا!

وأقام الفرس ينظرون إلى هؤلاء المغامرين، فلما رأوا عاصمًا وأصحابه توسطوا النهر أرسلوا فرسانًا ليمنعوهم من الخروج وليقاتلوهم في الماء، ودنوا من عاصم حين دنا من الفراض، فقال عاصم لأصحابه: الرماح، الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون، وارتدت خيول الفرس حين أصابت الرماح عيونها، فلم يملك فرسانها دفعها ليلقوا هؤلاء الذين خاضوا غمار الموت في لجة النهر لا يبالون ما يصيبهم، ولم يُصَبْ أحد من كتيبة الأهوال بأذى، بل خرج عاصم على رأسها إلى الشاطئ ففر الفرس أمامه، وأدركه القَعْقَاع على رأس الكتيبة الخرساء فلم يبقَ على الشاطئ من الفرس أحد.

ورأى سعد بن أبي وَقَّاصٍ تحكم أصحابه في فراض المدائن، فأمر فرسانه فاندفعوا جميعًا ألوفًا مؤلفة إلى لجة النهر من حيث اقتحمه عاصم، وامتلأ النهر بالخيل، فلم يكن ماؤه في هذه الساعة ليرى، وأمر عاصم أصحاب الزوارق والسفن من الفرس فدفعوها إلى جانب بَهْرَسِير، فنقلت من جيش المسلمين من لم يعبر على جواده، فلما عبر سعد بالجيش كان أهل المدائن جميعًا قد فروا، ولم يبق منهم إلا من تحصنوا بالقصر الأبيض، ولم يقاوم هؤلاء، بل قبلوا أداء الجزية، وفتحوا أبواب القصر للمسلمين.

هذه معجزة من معجزات الحروب لا يكاد العقل يصدقها، فيقول ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن يتم وصفها: «وكان يومًا عظيمًا وأمرًا هائلًا، وخطبًا جليلًا، وخارقًا باهرًا، ومعجزة لرسول الله خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع.» وهذه العبارة للمؤرخ الإسلامي تصور شعوره وتصور شعورنا حين ترتسم أمامنا هذه الفعال الباهرة وهذا الإقدام فاق كل إقدام، وهل كلمة غير المعجزة تصح وصفًا لهذه الأعمال؟ وأية معجزة كأن تقتحم كتيبة الأهوال النهر وعاصم على رأسها، وأن تقتحم الكتيبة الخرساء النهر والقَعْقَاع على رأسها، ثم لا يخشى رجل في الكتيبتين أن يبتلعه الموج أو أن يرميه الفرس من الشاطئ الآخر بالنبال! لكنه الإيمان بالنصر يسمو بالنفس إلى حيث تصبح الحياة ويصبح الموت أمامها ألفاظًا يتساوى مدلولها في سبيل الغاية التي تريد دركها، ولم يكن للمسلمين صبر على المدائن، فهم يريدون أن يقتحموها وإن بذلوا لفتحها كل ثمن، وإن بذلوا لفتحها مهجهم وأرواحهم؛ لذا قال الفرس حين رأوهم: إنا لا نقاتل إنسًا بل نقاتل جنًّا لم يثبتوا لهذا الجن الذي جاءهم من خلل الموج وكأنه بعض قوى القدر التي تزلزل الأرض وتدك الجبال، أليست البراكين والصواعق من قوى القدر؟ كذلك كانت الكتيبتان، وكذلك كان سعد وسائر الجيش إذ اندفعوا إلى النهر فرقة بعد فرقة يحيلون لجة مائه خيولًا وفرسانًا، كيف لقوة أن تثبت أمام هذه القوة! وماذا يصنع الفرس، وقد انحلت قواهم وتحطمت روحهم، إلا أن يفروا أمام هذا الجن الذي جاءهم فملأ نفوسهم رعبًا وفزعًا!

«هذه معجزة لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع.» تلك ألفاظ ابن كثير، ولولا أن تيمورلنك أتى بمعجزة مثلها إذ عبر جيشه النهر سابحًا حين هاجم بغداد في العقد الأخير من القرن الرابع عشر المسيحي، لتردد بعضهم في تصديقها، بل إن البلاذُري ليذكرها في شيء من الحذر، ويضيف إليها روايات يراها أدنى إلى أن تصدق، من ذلك رواية أبان بن صالح إذ يقول: «انتهى المسلمون إلى دجلة وهي تطفح بماء لم ير مثله قط، وإذا الفرس قد رفعوا السفن والمعابر إلى الجيزة الشرقية وحرقوا الجسر، فاغتم سعد والمسلمون إذ لم يجدوا إلى العبور سبيلًا، فانتدب رجل من المسلمين فسبَّح فرسَه وعبر فسبح المسلمون، ثم أمروا أصحاب السفن فعبروا الأثقال، فقالت الفرس: والله ما تقاتلون إلا جنًّا فانهزموا.» ومنه رواية أبي عمرو بن العلاء إذا يقول: «لم يجد سعد معابر فَدُلَّ على مخاضة عند قرية للصيادين، فأخاضوها الخيل، فجعل الفرس يرمونهم، فسلِموا غير رجل من طيئ لم يصب يومئذ غيره.»

أنت لا ريب ترى ما في هذه الروايات من احتياط يشعر بأن أصحابها يترددون في التسليم بالرواية التي سقناها وأجمع عليها الطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولكن هذا الاحتياط لا ينفي هذه الرواية ولا يثبت ما يعارضها، وإنما هو احتياط من يرى فيها عجبًا يدعو إلى شيء من الشك فيها، ولو أن هؤلاء الذين تشككوا عاشوا إلى أواخر القرن الرابع عشر المسيحي وعرفوا أن تيمورلنك عبر دجلة بجيشه، كما عبر سعد بجيشه؛ لانقضى عجبهم وزال من نفوسهم كل شك في الرواية التي اجتمعت الأقوال عليها، بل لما رأوا عجبًا فيما يدعو منها إلى العجب، ولأيقنوا أن سعدًا «اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملئوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده … وأن سعدًا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد، ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل كانت علاقته رثة فدفعه الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه … وكان الذي يساير سعد بن أبي وَقَّاصٍ في الماء سلمان الفارسي، فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال له سلمان: ذُلِّلَت لهم والله البحور كما ذُلِّل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجًا كما دخلوا أفواجًا، فخرجوا منه كما قال سلمان لم يغرق أحد ولم يفقدوا شيئًا.»

وخرج جيش المسلمين من الماء تنفض خيوله أعرافها صاهلة، ودخلوا المدائن فلم يجدوا إلا من تحصن بالقصر، ذلك أن يَزْدَجِرْد كان قد أخذ سائر أهله وما قدر عليه من الأموال والمتاع وفروا إلى حلوان، ودعا سعد من تحصنوا بالقصر لينزلوا فنزلوا، ودخل بجنده، وجعل يجيل بصره فيما احتواه هذا القصر المنيف من نفائس ومتع ويتلو قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ.

ما أعظم هذا الفتح وأجله! فهذه مدينة كسرى وهذا إيوانه، وهؤلاء هم جنود شبه الجزيرة المجدبة الجرداء يسيرون تولاهم البهر خلال جنات القصر بين أزهار يانعة وأشجار باسقة وتمر وفاكهة وأعناب شتى ألوانها، لم تقع أعينهم على مثلها، وينتقلون من الحدائق إلى الأبهاء فيزيدهم ما فيها بهرًا، نقوش جل جمالها وجلت دقتها عن الوصف، وأثاث لم يروا في دمشق نظيره، وطنافس من حرائر فارس طرزت بالذهب والفضة، وأسباب الترف والنعمة جمعت إلى هذا الإيوان من بدائع صنع الشرق في مختلف أرجائه، أي شيء هذا كله! وهل يجزي الشكر لله عنه؟! لكن سعدًا وأصحابه لا يملكون غير الشكر لله على ما فتح عليهم؛ لذلك صلى سعد شكرًا لله صلاة الفتح، ثماني ركعات بتسليمة واحدة، ثم أمر أصحابه فجاءوا بعيالات المسلمين من الحيرة ومن سائر مدن العراق وقراه، فأنزلهم في المدائن.

ونزل سعد قصر الأكاسرة وأقام به، واتخذ الإيوان مصلى، وترك ما به من تماثيل قائمًا لم يحركه، وما له يحركها ولم تكن إلا بعض الزخرف الذي ازدان به القصر وازدانت به أبهاؤه جميعًا، وإن خص الإيوان منه بأكثره بهاء وروعة! وقد كسا الزخرف وكست النقوش جدران القصر من مستوى الأرض إلى أعلى العقود، ثم تركت الجدران التي تبدو للنظر من الخارج ملساء ساطعة البياض.

ووجد سعد خزائن كسرى مترعة بالأموال وبنفيس الثياب والأمتعة والآنية والألطاف والأدهان وما إلى ذلك مما لا تعبر الألفاظ والأرقام عن قيمته، وكان سعد قد بعث جنده يطاردون يَزْدَجِرْد والذين فروا معه إلى حلوان، فأدركوهم وجاءوا به وبما حملوه، فإذا قيمته تضاهي قيمة ما بالقصر، ووجد المسلمون بدور المدائن من التحف والنفائس ما أذهل خيالهم، وما دل على ترف أهلها ترفًا لم يعرفه غير الفرس.

وإنا لتتولانا الدهشة اليوم لنفاسة هذه الغنائم وقيمتها وكثرتها، فلا عجب أن تولت أولئك الفاتحين الذين رأوا هذه الغنائم بأعينهم أضعاف ما يتولانا من البهر والدهشة، وأن يذكر المؤرخون العرب هذه الغنائم في تفصيل يسوغ دهشتنا ودهشة الفاتحين.

ذكروا أن سعدًا وجد بخزائن كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار، ثلاث مرات، ووجدوا بالقصر من التحف والأمتعة ما لا تدرى قيمته، وجاء الذين خرجوا في أثر يَزْدَجِرْد بتاج كسرى مرصعًا بالدر والجوهر، وبثيابه من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر، ومن غير الديباج منسوجًا ومنظومًا، كما جاءوا بخرزات كسرى ووشاحه ودرعه التي فيها الجواهر، وطارد القَعْقَاع بن عمرو فارسيًّا فقتله وأخذ منه عَيْبتين فيهما أسياف وأدراع لكسرى ولهرقل ولخاقان الترك وللنعمان ولملوك آخرين غزاهم الفرس وغزوا الفرس، وجاء عصمة بن خالد الضبي بسفطين في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثغره ولبَّاته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة، ولجامه كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجواهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل٣ من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر، ووجد المسلمون بدور المدائن سلالًا مختومة برصاص ظنوا ما فيها طعامًا فإذا هو آنية من الذهب والفضة متماثلين، ووجدوا بدور المدائن كذلك كافورًا كثيرًا حسبوه لكثرته ملحًا فعجنوا به فوجدوه مرًّا.

ترى أأغرت هذه الكنوز أولئك العرب، فهم أحد منهم بأن يأخذ شيئًا منها لنفسه ولا يرده إلى من ولاهم سعد قبضها ليقسمها من بعد؟ كلا! بل جاء كل بما استولى عليه من السلب فسلمه والي القبض حتى يرى سعد فيه رأيه، ولما جاء القَعْقَاع بن عمرو بأسياف كسرى والملوك وأحضرها عند سعد خيره بينها، فاختار سيف هرقل وترك سائرها، وأقبل رجل إلى والي القبض بِحُقٍّ نفيس، فقال الوالي والذين معه: ما رأينا فيما عندنا مثل هذا ما يعدله أو يقاربه، وسألوا الرجل: هل أخذت منه شيئًا؟ قال: لا والله، لولا الله ما أتيتكم به! وسألوه: من هو؟ فقال: لا أخبركم فتحمدوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، وعرف سعد أمر هذا الرجل وأمثاله، فقال: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر، وكان جابر بن عبد الله يقول: «والله الذي لا إله إلا هو ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، فقد اتهمنا ثلاثة نفر هم طليحة وعمرو بن معدي كرب وقيس بن المكشوح فما رأينا كأمانتهم وزهدهم.» وهذه الشهادة من جابر لأولئك الثلاثة لها دلالة خاصة؛ فقد كانوا على رأس المرتدين الذين حاربهم أبو بكر وحاربوه حرصًا على الدنيا وسلطانها، وها هم أولاء حسن إسلامهم فأصبحوا في طليعة العرب جهادًا في سبيل الله، وزهدًا في الدنيا، وتقربًا إلى الله بالعمل الصالح والبلاء في الحرب أحسن البلاء.

فصل سعد خمس الغنائم ليرسله إلى المدينة، وحرص على أن يكون فيه كل ما يَعْجَبُ منه العرب وكل ما يُعجبهم، ثم أراد أن يرسل خمس القطيف، وهو بساط كسرى، فرآه لا تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء، فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل، وهو يقع من أهل المدينة موقعًا؟ وكان هذا البساط مربعًا ستون ذراعًا في مثلها، وكانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا اشتد القر وذهبت الرياحين، وقد صورت في هذا القطيف طرق المملكة وبُسطت فيه الأرض مُذهبة تجري خلالها أنهار رصعت بالدرر، وجعلت حافاته كالأرض المزروعة فيها نبات الربيع قام على سوق من ذهب، وجعل ورقه من الحرير وتمره من الجوهر، وأقر الناس رأي سعد، فأرسل القطيف مع الخمس إلى المدينة.

وقسم سعد الفَيْء في الجند، وكان قد تم ستين ألف فارس، فأصاب الفارس منهم اثني عشر ألفًا، ثم جعل لأهل البلاد على قدر بلائهم، وقسم سعد المنازل بين الناس، وأنزل العيالات في الدور فأقاموا بها حتى ارتحل منهم من ارتحل عنها بعد أن امتد الفتح إلى ما وراءها من ريف فارس، وأنت في حل من أن تصور لنفسك مبلغ ما أدت إليه هذه المغانم من غبطة الناس ومن حماستهم لفتح جديد يدر عليهم مغانم جديدة.

ذهب بشير بن الخصاصية بخمس الفَيْء إلى المدينة، ووضعه بين يدي أمير المؤمنين، وكان عمر قد سبقت إليه الأنباء بفتح المدائن، إذ كتب سعد إليه بما يجعله كأنه حاضرها، مع ذلك دهش لما رأى من كثرة هذا الفَيْء ونفاسته وإحضار المسلمين له كاملًا، فالتفت من حوله يقول: «إن قومًا أدوا هذا لأمناء!» وأجابه علي بن أبي طالب: «إنك عففت فعفَّت رعيتك، ولو رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ.» ونظر عمر إلى ثياب كسرى وأسيافه ودروعه، فألبسها خشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وقيل إنه دعا إليه سُرَاقَةَ بن جُعْشَم، وكان من أجسم العرب وأبدنهم، فألبسه قميص كسرى وسراويله وقباءه وسيفه ومِنْطَقته وسوارَيْه وتاجه وخُفَّيه وقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال: بخٍ بخٍ، أُعَيْرابيٌّ من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه! رُبَّ يوم يا سُرَّاق بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفًا لك ولقومك! … وقيل كذلك: إنه كانت لكسرى عدة أزياء لكل حالة زي، فجاء عمر بأجسم عربي بأرض المدينة وجعل يلبسه إياها زيًّا بعد زي، فيرى الناس ينظرون إليها أمرًا عظيمًا من سحر الدنيا وفتنتها، فلما فرغ الأعرابي من لبسها جميعًا رفع عمر رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي!»

هذه لفتة من لفتات عمر سيذكرها من بعد، وسيذكر أثرها في الأمة في صراحة دونها كل صراحة؛ فقد أحس بما لهذا الترف من فتنة تجذب النفوس إليه فتجعله مثلها الأعلى تنفق في سبيله كل ما أوتيت من قوة وتدبير، وتنصرف لذلك عن المعاني الإنسانية الكريمة التي تسمو بقلوبنا وعقولنا إلى أرفع الذرى فتقربنا من الله وتجعلنا بفضل منه نرى وجه الحق ذي الجلال، ولهذه اللفتة، ولخشية عمر أن يكون الله قد أعطاه متاع كسرى ليمكر به، بكى حتى رحمه من كان عنده، ثم أشار إلى هذا المتاع وقال لعبد الرحمن بن عَوْفٍ: «أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي!»

وقسم عمر الخمس بين الناس على أقدارهم، ونفل منه من غاب ومن شهد من أهل البلاء، ورأى القطيف لا ينقسم فقال لمن حوله: «أشيروا عليَّ في هذا القطيف.» قال الملأ: قد جعل الجند ذلك لك، فالرأي فيه رأيك، وقال بعض: إنه لأمير المؤمنين لا يشركه فيه أحد، وأبى عمر أن يقبضه أو يبدي في أمره رأيًا فقام علي بن أبي طالب فقال: «لم يجعل الله علمك جهلًا، ويقينك شكًّا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، وإنك إنْ تُبْقِه اليوم على هذا لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس له.» قال عمر: «صدقتني ونصحتني.» ثم قطع القطيف وقسمه بين الناس، فأصاب عليًّا منه قطعة لم تكن أجود تلك القطع، ومع ذلك باعها بعشرين ألفًا.

بينما كان عمر يقسم الفَيْء بين الناس بالمدينة، فيرى الناس فيما يصيبهم منه نعمة من الله لم يكن لهم بمثلها عهد، كان سعد بن أبي وَقَّاصٍ قد اطمأن بالمدائن واستقر بقصر كسرى وجعل إيوانه مصلى للمسلمين، ينادى فيه باسم الله، وتقام فيه الصلاة، ويجتمع الناس به كل جمعة ليخطبهم سعد ويؤمهم، وكان يَزْدَجِرْد قد نزل حلوان مغمومًا مدحورًا، يقطع الهم نياط قلبه ويفري الأسى كبده، ويذكر عظمة فارس وجلال مجدها، فيزداد به الحزن، ويتراءى له شبح رستم وما كان يذكره من دلالات النجوم، أين يومه اليوم من تلك العهود الخوالي حين زحف أسلافه من إيران إلى العراق فاكتسحوه إلى شواطئ دجلة، وحين أقاموا بطَيْسَفُون قُبالة سلوقية، وحين مدوا طيسفون، وضموا إليها ما حولها من البلاد، وجعلوا منها ومن سلوقية بلدًا واحدًا هو المدائن، ثم أطلقوا على سلوقية اسم بَهْرَسِير لينسى أهلها أيام عزها، إذا كانت مدينة يونانية حريصة على استقلالها، حرص إسبرطة على استقلالها! وأين يومه اليوم من عهود أجداده الأكاسرة بني ساسان الذين دوخوا العالم، ومن عهد جده أردشير صاحب القصر والإيوان والفخامة والنعمة! إنه اليوم مليك غُلِبَ على أمره، وطرد من عاصمة ملكه، ففر كما يفر الجبناء، أتراه يصبر على هذه الهزيمة ويرضى بهذه النكبة، وهل كتب القدر لهؤلاء العرب أن يطاردوه إلى أقصى الأرض؟ إن به من حرارة الشباب وإقدامه ما يمد له من حبال الأمل، أبقيت له من هذا لأمل بقية؟ أم حطمت الهزيمة هذا الإقدام وأثلجت تلك الحرارة، فقضت في نفسه على كل أمل وكل رجاء؟!

لم يفكر الشاب المنهزم في شيء أول ما نزل حلوان، لقد عرض على المسلمين الصلح على أن يكون دجلة حدًّا فاصلًا بينه وبينهم، أتراهم وقد فتحوا المدائن يكتفون بها ويقفون عندها؟ إنهم إن يفعلوا يحققوا بعض رجائه، والمستقبل كفيل من بعد بتدبير شأنه، لكنهم منتصرون، والمنتصر لا يعرف هوادة، وجيوشه الكثيرة تطير إلى كل جانب تطلب النجاة، فليترك الأمر للأيام! وغد لناظره قريب!

ماذا يكون في غد؟ ذلك حديثنا في الفصل التالي.

هوامش

(١) برس: أجمة قريبة من بابل. ويسميها بعض المؤرخين بئر النمرود. فيقول البلاذُري عن أحمد بن حماد الكوفي: «أجمة برس بحضرة صرح نمرود ببابل. وفي الأجمة هوة بعيدة القعر يقال: إنها بئر كان آجر الصرح اتخذ من طينها، ويقال إنها موضع خسف.»
(٢) الفراض: جمع فرضة، وهي هنا ثغور المخاضة من الناحية الأخرى.
(٣) الشليل هنا: مسح من صوف أو شعر يجعل على عجز البعير من وراء الرحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤