الفصل الرابع

١

ثم كانت «ميمى».

وهى طراز اَخر من الأنوثة. لا تشابه تحية، ولا تشاكل عايدة، شبابها ريان، وجسمها بض فى نصاعة لون، ووجهها كأنما يترقرق فيه ماء الحياة من نضرة النعمة، رشوف، عبقة، لبقة، لينة فى منطقها وعملها، ناعمة فى ملمسها، مطواع، لا كبر بها ولا تكلف، تتجمع أنوثتها فى عينيها الدعجاوين، وتنطق منهما حين تبتسم فتضيقان. لا تعرف قولة «لا» ولا تحسن أن تقول: «نعم» ولكنها تحسن أن تفعلها. أبرز صفاتها البساطة والقناعة. فهى تأخذ الأمور مأخذًا سهلاً وتتناولها من قريب، وتقنع بالميسور، ولا تعنى نفسها بما كان خليقًا أن يكون من خير أو شر. وتنظر إلى ما يسوء من جهته التى تجعله أضوأ أو أخف وأهون. وكانت صادقة لا تكذب، لأنها ما عرفت ولا أحست حاجة تدعوها إلى الكتمان أو مجانبة الحق. ولم تكن غريرة، ولكنها لم تكن مجربة، فهى تدرك مطالب أنوثتها. ولكن ما اعتادت — أو ما فطرت عليه — من تلقى الحياة بالرضى والتسليم والتهوين، يمنعها أن تلج بها رغبة، ويحميها أن يجمح بها مشتهى أو يشقيها حرمان أو يذلها للرجل أنها مفتقرة إليه. ولم تكن بها جفوة أو جمود، ولكنها كانت ساكنة متزنة، إذا جاعت صبرت ولم تتلهف، وإذا شبعت شكرت، ولم تر أن تصيح من فوق الماَذن بشكرها وسرورها، ولم يبطرها أو يغرها إحساسها بالشبع والرضى. وكانت دائمة البشاشة والتهلل، لا تستطيع أن تقطب حتى حين يغضبها أو يؤلمها شىء. وكانت لبسة صناعا تحسن انتقاء الألوان وتؤثرها بسيطة، ولا تحبها زاهية أو مختلطة أو كثيرة الوشى والتفويف. وكانت تبدو كأنها لا تدرك أن لها من المحاسن ما يصبى الرجل إليها، ويفتنه بها. فكان يحاول على سبيل التجربة أن يثير فيها هذا الإدراك الذى خيل إليه أنه ناقص، فيروح يصف لها مواطن الحسن فى تكوينها وفى طباعها، فتبتسم أو تضحك. ولكنها لا تبدو كأنها تصدق. وكانت ربما قالت له حين يلح عليها بهذا الكلام كأنما يدعوها إلى الإعجاب بنفسها: «إذا رسمت صورة جميلة فهل يكون للصورة فضل فى جمالها؟» فكان يقول لها: «اسمعى. إن لكل إنسان حظه الموفور من الغرور، ولست أدرى — ولا أنا أستطيع أن أتصور — كيف يمكن أن يطيق الإنسان الحياة لو فقد الغرور، والغر ور فيما يرى الناس رذيلة، ولكنى أراه نعمة، أو على الأقل القدر الكافى منه لإطاقة العيش. وأنت كغيرك لا بد أن يكون لك شعور بنفسك، وإلا كنت كالحيوان الأعجم الذاهل عن نفسه وعن الدنيا. والإنسان يصاحب الحيوان ويبادله قدرًا من الود والإحساس، ولكنه لا لذة له فى مصاحبة إنسان مثله إذا كان معدوم الإحساس بنفسه. وأحسبك تتكلفين هذا الذهول، وإنه لتواضع أو أدب منك جميل. ولكن الإفراط فى تكلفه يخرج بك عن حد الطبيعة القويمة التى لا تعترف بهذا التجاهل التام للنفس».

فتقول: «ولكنى كما تقول مغرورة، وحظى من الغرور أوفر مما تظن. ولكن هذا لا يدعو إلى الإثقال على الناس».

فيقول: «إذا قلت لك بلهجة المؤمن بما يقول، المخلص فيه، إنك دميمة أفلا يسوءك هذا؟»

فتقول: «نعم. ولكنك لست الناس جميعًا، والذى تراه أنت قبيحًا قد يراه غيرك جميلاً أو حميدًا».

فيسره منها هذا الأسلوب فى تناول الأمور، والنظر إليها من أكثر من وجه واحد لتسهل به وتهون.

فيعود فيقول لها: «وقياسًا على هذا يسرك أن تسمعى من رجل أنك جميلة».

فتقول: «طبعًا. ويزيد فى سرورى أن يفيض ذلك، ويبدئ ويعيد، حتى ولو لم يكن مخلصًا».

فيقول: «إذن لماذا تبدين كل هذه الدهشة حين أذكر مفاتنك؟»

فتضحك وتقول: «لأستزيدك ولأغريك بالتكرير والتأكيد».

ولم يستطع أن يثير فيها الإعجاب «الظاهر» بنفسها، ولكن إلحاحه عليها بالثناء على ما يحمد من مزاياها وصفاتها المحببة، أثمر شيئًا آخر هو حرصها على دوام تميزها بهذه الصفات، وضنها بها أن تحتجب أو تفتر. وهذا فعل الإيحاء. وكان الإيحاء الخفى اللبق سبيله مع المرأة، يصبها به فى القالب الذى هو أشهى إليه وأحب. وقد حذق ذلك حتى لقد قالت عنه تحية مرة: «إنى لا أستطيع أن أقاومه أو أغالبه، لأنه يستولى على، كالنوم، بلا ضجة أو عنف أو رجة، بل من غير أن أشعر، وبعد أن يقهرنى يدعنى للطبيعة، ولا يحاول التظاهر بصولته وقدرته. ومن يدرى؟ لعله لو كان اشتغل بالتنويم المغناطيسى لكان أبرع فيه من «طهرا بك» الذى يفعل العجائب ويأتى بما يشبه السحر». وكانت هذه مبالغة من امرأته. ولعله يسرها أن تبدى جانب الضعف والخضوع ليلقى سلاحه ويطمئن ويحسب نفسه قد أمن، فتعود فتكر عليه وهو غافل، ومن مأمنه يؤتى الحذر.

وبفضل الإيحاء صارت ميمى مطواعًا له، حريصة على مرضاته، بما استقر فى نفسها أنه مزيتها التى تحببها إليه. ولم تكن تعرف رجلاً غيره معرفة تستحق الذكر، أو يمكن أن يكون لها أثر فى نفسها أو سيرتها إلا صادقًا قريبها.

ولكن صادقًا شاب يفزعها بما يحمل عليها به من فورة الشباب، فيغريها بالتوقى والتحرز، ويدفعها إلى النفور. ولم يكن الحب هو الذى يبعثها على الاحتماء منه، فليس الحب بمزهود فيه، وإنه لمنية قلبها وهوى نفسها. ولقد كانت فى سريرتها مزهوة بحبه، ولكنها كانت ترى صادقًا كالعباب الطاغى المربد المُزبد، فتشعر بالخوف على نفسها من الغرق فيه، وتحس أنه خليق أن يحملها على متنه الصاخب، ويرميها على صخرة تتحطم عليها. على حين كان إبراهيم يبدو لها كالغدير الصافى المترقرق فى روضة انف حالية بالزهر — لا يخيف، ولا يروع، ولا يقلق أو يزعج، بل يبعث فيها الأنس، ويشيع فيها السكينة، ويحلو التمشى على حفافه، والتنعم بمنظره وبنضرة ما حواليه. وإنه لسهل أن تغرق فى مائه الرقراق، كما يمكن أن تغرق فى العباب الخضم الراغى الطاغى، ولكنها إذا غرقت فيه، تغرق وهى حالمة ناعمة مطمئنة، واثقة من السلامة، بل منساقة إليه وراضية بالغرق فيه. فهنا اطمئنان، قد يكون كاذبًا ولكنه يغرى بالمطاوعة والمسايرة والانسياق، مع الاستحلاء والاستمتاع. وهناك خوف من الضيعة، وإشفاق من مصير جارف، لا تملك لنفسها حياله مقاومة أو مدافعة. ومن أجل هذا كانت تنفر من صادق، وتقبل على إبراهيم. وزاد إقبالها أنها كانت ترى وجوهًا شتى، ومعانى عدة، وتنعم بصور من المتع هى ثمرة التجربة والخبرة والفهم وصحة الإدراك وسعة الأفق. على حين لم يكن عند صادق إلا حبه المضطرم، واللون واحد والصورة لا تتغير، والمعانى لا تتعدد، والحلاوات المرتقبة أو المتخيلة لا تتفاوت طعومها، فهى خليقة أن تُمل وتُسأم.

وكان إبراهيم يحرص على تنويع أحوالها معه، بل لقد كان يتقى أن يكون كلامه على وتيرة واحدة، أو نسق لا يتغير، وكان يخشى أن تقول لنفسها: «إنى أعرف ماذا سيقول لى حين يلقانى، وبأى كلام سيبدأ حديثه». وكان لهذا يتحرى أن يخلف ظنها، فيلقاها كل مرة بجديد من القول والاستقبال والاقتراح والمتعة، وكان هذا لا يخلو من مشقة وعسر، ولكنه كان يهون الأمر على نفسه بقوله: «إن من الجمود الذى ينبغى أن يتقيه الإنسان أن يجرى فى حياته مجرى واحدا. والحروف فى كل لغة — إلا الصينية على ما يقال وأمثالها، إذا كان لها أمثال — محدودة العدد — سبعة وعشرون تنقص أو تزيد واحدًا أو اثنين. وانظر ماذا يتألف منها من الكلمات؟ عشرات الاَلاف فى كل لغة.. وانظر ماذا تؤدى من المعانى؟ شىء لا يأخذه حصر. وكل هذا مستطاع ببضعة حروف قليلة لا تزيد على الثلاثين. فإذا كان هذا مستطاعًا فى اللغة التى نتخذها للتفاهم والبيان، فلماذا لا يكون مستطاعًا فى غيرها؟ فى كل شىء؟ إن قلة الاستطاعة كسل، أو نقص فى الخيال، أو القدرة على الابتكار، نقص على كل حال. ولن تكون الحياة كاملة بذلك. ولن يكون الإنسان قد أحسن الانتفاع بحياته إذا لم يستطع أن يجد لها كل يوم جديدًا».

وكان يجد لذة فى هذا العناء، بل لذات.. لذة السعى والاجتهاد، ولذة النجاح حين ينجح، ولذة الرضى الذى يحسه من ميمى. ولكن ضميره كان ربما نغص عليه عيشه وأفسد هذه اللذات جميعًا. فقد كان بعد أن يودع ميمى، ويكر راجعًا إلى البيت، يحاسب نفسه ويقول لها ولماذا لا أجتهد مثل هذا الاجتهاد مع تحية؟ أليست جديرة أن أتعب فى سبيلها كما أتعب فى سبيل ميمى أو سبيل نفسى معها؟ ولعلها، لو فعلت، تكون أسعد، وأكون أنا معها أسعد، ولا أحتاج حينئذ إلى ميمى أو سواها». ثم ينقلب مدافعًا عن نفسه فيقول: «ولكنها سعدت باجتهادى معها سنوات حتى تعبتُ ومللتُ.. ثم لماذا لا تجتهد هى أيضًا بعض الاجتهاد؟ لماذا أحمل أنا العبء وحدى كله حتى أنوء به؟ لقد كان كل الاجتهاد من جانبى، وكان كل عملها أن تنعم بما أسرها به، وكانت كل مجاوبتها إظهار الشكر والرضى».

ثم يعود فيقول لنفسه: «ألست أنت الرجل؟ أتعد صبرها عليك وأنت منصرف عنها فتورًا منها، وزهادة فى تكلف مرضاتك؟ وهى إنما تبغى أن تفسح لك فى الوقت حتى تراجع نفسك فترجع إليها. إنها تنتظر متجلدة، فماذا يكون الحال، إذا ملت الانتظار والصبر، ودفعها اليأس منك إلى مثل ما دفعك الملل إليه؟ كن منصفًا. إنها تصبر على مضض، ولا تنشد عزاء أو تسلية، ولا تفكر إلا فيك، ولا تتطلع إلا إليك، ولا تحلم إلا بعودك، ولا تسعد إلا بذلك، وأنت تروح تقطف الأزهار اليانعة، وتنعم بشمها ومنظرها، وتنساها إلى أن تؤوب إلى بيتك، فتدخله كأنك داخل سجنًا أو فندقًا، تقوم فيه هذه المرأة الصابرة التقية على خدمتك فيه، ولا تسألك أين كنت ولا ماذا فعلت.. ثم تجىء وتحملها وزر ما أنت صانع. لا يا صاحبي.. ليس هذا من العدل فى شىء».

وكان العجز عن إقناع نفسه بأنه على حق، وأنه لا يفعل ما يسوء، هو الذى ينغص عليه ما يفوز به من ميمى من الأنس والروح والريحان.

وكانت ميمى — وهذه إحدى مزاياها — تخفف عنه بعض هذا التنغيص بصحة إدراكها لواجبه لتحية، فكانت لا تطالبه بأكثر من منزلة الصديقة ولا تتطلع إلى ما فوقها ولا تكتم شكرها — بسلوكها إذا لم يكن بلسانها — لهذه المنزلة عنده. وكانت تأبى أن يتكرر لقاؤه لها فى الأسبوع الواحد أكثر من مرة، وتقولى له إن حق امرأته أولى بالرعاية. وكانت مخلصة فى هذا لا تحاول به أن تزيد اجتذابه إليها. فكان يقول لها: «إن حق تحية أمانة فى عنقى أنا لا فى عنقك. ولست مسئولة عنها ولا عنى فكفى عن هذا». فتقول له: «كلا.. بل أنا أخشى أن يعترى صداقتنا ما ينغصها أو يجعلها تكليفًا شاقًا إذا أنت لم تحسن حالك مع تحية. فعالج هذا فإنه خير لك ولي».

فيقول: «إذا حسن الحال على نحو ما تبغين فإن الأمر خليق أن يفسد بينى وبينك».

فتقول: «لا يفسد.. لأنها صداقة تظل منشودة لما تنطوى عليه من تحرر مما يربطنى ويربطك، وما عسى أن يثقل على أو عليك فى المستقبل، وثق أنى أعرف ما أقول».

فيقول معترفًا: «المصيبة والبلاء أنى مقتنع أنك على صواب».

ويروح يفكر فى ميمى وحكمة هذا الطبع النادر، ويحمد الله لأنه وقاها الغيرة المرذولة التى تفسد حياة الرجل والمرأة جميعًا.

وكانت ميمى هى التى أبت عليه أن يستخدم سيارته فى نزهاتهما. وقالت له: «إنك اشتريتها وأهديتها إلى تحية. فليس من اللائق أن تعود فتسلبها إياها وتتنزه بها معى. لا.. إنى لا أسيغ هذا.. فدع السيارة فما بنا حاجة إليها».

وكان إبراهيم قد حرص فى هذه المرة أن يكتم صلته بميمى عن تحية، حتى لا تتعذب كما تعذبت من جراء صلته بعايدة. وكان الكتمان يثقل عليه، ولكنه رآه أدعى لراحتها وراحته، وأرشد على العموم. وكانت ميمى تزور تحية غبا وتطيل فترات الغياب، وتتحرى أن تكون الزيارة فى وقت تعلم أن إبراهيم ليس فيه فى البيت، ولم يكن هذا بالعسير فقد كانت تطلعه على نياتها، فيتعمد الخروج قبل أن تأتى.

واتفق يومًا أن كان إبراهيم ذاهبًا مع تحية لقضاء حاجة من حاجات البيت التى لا تنتهى. وكانا فى السيارة، فوقفا على باب بقال كبير. وإذا بميمى وصادق خارجان من دكان يحملان لفافتين كبيرتين، فتبادلوا التحيات المألوفة. ودعت تحية ميمى إلى الانتظار ريثما تشترى ما تريد ثم تحملها معها لتخفف عنها هذا الحمل، فقبلت وذهبوا جميعًا إلى بيت ميمى. ورضى إبراهيم وتحية أن يبقيا قليلاً للقهوة أو الشاى، ولم يدر حديث يستحق الرواية. ولكن صادقًا كان لا يكف عن لحظان إبراهيم وزوجته ولا يكاد يحول عينه عنهما. فلما انصرفا قال لميمى: «صديقك هذا.. أثق به وأرتاب فى آن معًا. هيئته. كلامه. لهجته الرزينة الهادئة. إشاراته القليلة، بل النادرة. سكونه. كل ذلك يحملنى على الأطمئنان. ولكن عينيه.. نظراتهما تحيرنى. تشكنى أحيانًا كأنما تريد أن تنفذ إلى ما تحت جلدى، وتغمض وتغيم أحيانًا أخرى، حتى لأحسبه ذاهلاً عن الدنيا وما فيها، فما يعنيه من الخلق شىء. هل هو يحب زوجته؟»

فقالت: «طبعًا يحبها.. ما هذا الكلام الفارغ؟»

فهز رأسه وقال: «ربما.. لعلك أدرى.. ولكن من أدراك؟»

فقالت: «أما إنه لسؤال عجيب..».

فسألها: «أتعرفينه هو أو امرأته؟ أعنى أيهما صديقك؟»

قالت: «كلاهما».

قالى: «ولكنى أراك حفية به هو على الخصوص».

قالت: «إنه الرجل، ثم إنه رجل.. رجل محترم.. ما هذه الأسئلة البايخة؟»

قال متهكمًا: «بايخة.. ربما.. الحق معك.. لكنى ليتنى أعرف سر تأثيره فى نفسك».

قالت: «وما شأنك أنت بهذا أو غيره».

قال: «شأنى أنى أحبك.. ألا تعرفين هذا؟ ألم أخبرك به؟ تالله ما أعظم تقصيرى».

قالت: «عدنا.. ألم أخبرك أنا أيضًا أن الذى حملنى على احتمالك هو إبراهيم الذى تستريب به الاَن؟»

فلم يزد على أن قال: «شكرًا له ولك على تذكيرى».

ونهض يتمشى فى الغرفة، ولا يتكلم. ثم اتجه إلى الباب وقال: «إنك ثمرة لا يطيب لى أن يقطفها لى أحد ويناولنى إياها على طبق. لا. سأقطفها أنا بيدى متى استطعت، بل متى أردت فاعرفى ذلك. وأحبينى أو ابغضينى. سيان».

فاستوقفته وكان يهم بالخروج. وقالت له ويدها على كتفه: «صادق … ألم نتفق أن نكون صديقين؟ قل إنك سكنت.. فإن هذه الثورات ترعبنى.. وثق بإبراهيم.. ثق أنه يفهمك أحسن مما تفهم نفسك.. ولا يضمر لك إلا الخير».

قال: «طيب هدأت … ولكنى مع ذلك سأقطف الثمرة.. فى أوانها.. متى نضجت للقطف».

فآثرت ملاينته، وقالت: «متى نضجت … متى نضجت».

ومضى وتركها قلقة. تشعر أن وراء ما قال، ما كانت تود أن تعرفه لتطمئن وتأخذ حذرها. وودت لو كان معها إبراهيم فى هذه الساعة ليمسح على قلبها، ويرد إليها سكينة نفسها.

٢

وأقبل العيد، فأصبح الناس مفطرين بسنة الله الرضية، بعد أن صاموا رمضان بالبر. وكانت عادة إبراهيم منذ ماتت أمه أن يقضى العيد — كل عيد — مع تحية عند أبيها فى البلدة، لا طلبًا للسكون، ولا رغبة فى التملى بجمال الريف، فما كان بيته بالصاخب، ولا الضاحية غير جميلة. ولكنه كان يثقل عليه أن يرى بيته فى العيد وليست فيه أمه. وكانت تحية هى التى فطنت إلى هذا، فاقترحت أن يزورا القبر ثم يرحلا إلى البلدة، فصارت هذه عادة مرعية. وكان يود لو قضى يومًا من العيد مع ميمى، ولكنها هى أيضًا كانت تهم بالسفر إلى أبيها فقال لها: «تعالى إذن معنا فإنا ذاهبون بالسيارة فنقطع الطريق إلى دمنهور على مهل، وهناك نفترق على أن نلتقى مرة أخرى فى الإياب». فأبت، وقالت: «إن تحية خليقة أن تستغرب هذا، وليس يحسن أن نثير هواجسها فحسبها ما عانت». وكانت ميمى تعرف قصة عايدة، فقد حدثها بها.

وعرف صادق أن ميمى مزمعة سفرًا إلى أبيها، فاقترح عليها أن يذهب بها بالسيارة — سيارة أبيه — إلى الإسكندرية، وهناك يقضيان النهار كله، ثم يكران راجعين إلى دمنهور، فترددت ميمى فما كانت لها ثقة بهذا الفتى المقلق.

فسألها: «أتخشيننى يا ميمى؟»

ولم تستطع أن تبدو له مترددة، ولا أن يجىء جوابها أسرع مما ينبغى فيكون أدل على الخشية، فتمهلت هنيهة، وسترت ما تنطوى عليه بنظرة فاحصة ألقتها إليه، وطيف ابتسامة ساخرة على شفتيها. ثم قالت: «أتظن جادًا أنى أخشاك؟»

فقال وهو يروح ويجئ وعينه إلى الأرض: «إنك فتاة عجيبة. وما أدرى والله ماذا أظن، ولكنك لا تخشيننى، وهذا جلى فلا ترفضى إذن.. تصورى يومًا كاملاً نقضيه فى الهواء الطلق.. سأذهب بك إلى أجمل ناحية فى الرمل، وسأكون خادمك، بل عبدك. ولا أكون معك إلا على الحال الذى ترضين. لا لا لا.. لا تنظرى إلى هكذا.. كونى امرأة حقيقية مرة واحدة فى العمر. على الأقل معى …».

فصاحت به: «صادق».

قال: «ليس هناك أى سبب يمنع أن تذهبى معى.. وسأعنى بك وأسهر على راحتك.. لماذا تحرمين نفسك هذه المتع البريئة؟»

ففكرت فيما كان إبراهيم قال لها وأشار به عليها، من إيلائه الثقة التى يضن بها عليه الناس، وأهله خاصة. وقالت: «وماذا أعددت فى رأسك لى من هذه المتع؟»

قال: «إن كل ما رسمته رهن بموافقتك، نذهب من الطريق الصحراوى، ونستريح عند محطة (شل)، ثم نستأنف السير فنقطع الطريق كله فى ثلاث ساعات ونصف ساعة، فإذا قمنا من هنا فى الساعة الرابعة صباحًا استطعنا أن نبلغ الإسكندرية فى الثامنة على الأكثر، ويبقى أمامنا النهار كله نرتع ونلعب إلى الخامسة مساء. وتكفى ساعة واحدة للوصول إلى دمنهور».

قالت: «وإلى أين نويت أن تأخذنى فى الرمل؟»

قال: «لو أخبرتك بكل ما أعددت لك فى رأسى لضاعت مزية الرحلة. انتظرى حتى يجىء كل شىء فى أوانه، لتكون المتعة مضاعفة. على أنى أستطيع أن أقول لك الآن إنى أنوى أن ألقى إليك بالزمام لتفعلى ما تشائين».

قالت: «ولكن الرابعة صباحًا؟»

قال: «كما تشائين.. لتكن الخامسة.. ما عليك إلا أن تأمرى فإنى من الساعة خادمك المطيع».

وكان فى صوته وهو يقول ذلك نبرة سرور صبيانية.

وبلغا أول الطريق الصحراوى، وهما صامتان. فأما صادق فكان كأنما أسدل على وجهه نقابًا كثيفًا. وكانت هى ربما أقلقها أنها ترى نفسها عاجزة عن استشفاف خواطره أو التفطن إلى ما عسى أن يكون دائرًا فى نفسه. ولكنها هى أيضًا كانت تحس بفتور عن الحديث وزهد فيه. وكانت تريد أن تستمتع بالبكرة المطلولة والحركة السريعة، ولم تكن تخشى السرعة، فقد كانت تعرف أن صادقًا جرىء ولكنه حريص. وليست هذه أول مرة حملها فى السيارة. وخطر لها أن هذا أقل ما ينبغى أن يحسنه شاب عاطل ميسر الرزق. وانثنت خواطرها إلى إبراهيم فذكرت أنه هو أيضًا سيكون على الطريق بعد قليل، وابتسمت وقد تذكرت أنه لن يتخلى عن القيادة لزوجته، وإن كان يشهد لها بأنها أقدر عليها، لا لأنه يجد فيها لذة، بل لأنه يرى أن الرجل يجب أن يكون فى يديه الزمام فى كل حال، حتى فى مثل هذا الأمر الصغير، لا ينزل عما يعتقد أن الرجولة تفرضه عليه. وشعرت وهى تفكر فى إبراهيم أنه لا يخلو من غموض، نعم يقص عليها أخبارًا شتى، ويكاشفها بما يفعل أو يترك، ولكنه يأبى أن يجعل تحية زوجته موضع لغط بينهما. وكثيرًا ما تعجز عن فهمه؟ فقد قالت له مرة وقد خالجها خوف غامض: «ألا تشعر بندم حين تفكر فيما نحن فيه؟» فنظر إليها مقطبًا وأطرق قليلاً، حتى لخشيت أن يقول لها إنه نادم. ثم رفع رأسه إليها وحدجها بنظرة قوية وقال: «لماذا تسألين؟ لا. لست نادمًا إذا كان يعنيك أن تعلمى».

فأحست حين سمعت منه ذلك أنه يوبخها، ولكنه قال بعد ذلك: «لا. لست نادمًا. إن الندم لا ينطوى على إخلاص صادق».

فاستغربت قوله، وسألته عما يعنى، فقال: «إنه يا فتاتى الساذجة أشبه بالأسف على توسيخ ثوب جميل، هذا هو الندم. الرجل يريح نفسه من ثقل ضغطه باللغط به، والمرأة تريح نفسها منه بالبكاء. كلاهما يهرب مما ينبغى أن يستتبعه الندم الصادق بدلاً من أن يعمق شعوره به. فإذا سمعت من يقول لك إنه نادم فاعلمى أنه بلسانه يحاول أن يوجد متنفسًا لما يضيق صدره به، أو يدافع بلسانه عن نفسه. لا.. لا محل للفظ الندم.. فإنه أكذوبة. فإما التوبة النصوح، وإما المضى على الوجه بغير تلفت. أما أن تكون عين فى الجنة وعين فى النار، فأنا على الأقل لا يطيب لى هذا».

ولم تستطع ميمى أن تتبين معنى هذا مقرونًا إلى سلوكه معها ومع زوجته، وألفت تتساءل: «هل هو ينطوى لى على حب؟» ولم تستطع أن تهتدى إلى الجواب. فإن إبراهيم لا يلهج بالحب، ولا يجرى به لسانه إلا نادرًا. وقد سألته مرة عن الحب ورغبت أن تسمع منه كلامًا فسألها: «أى حب تعنين؟» قال هذا، كأنما هناك دكان فيه ألف صنف من الحب. ثم أمسك وقال لها بعد قليل: «لا تكونى حمقاء.. إذا كنت راضية عما أنت فيه فلا تفسديه بأن تطلبى أن تسمعى كلامًا فارغًا حلوًا، فلا تسمعى إلا كلامًا يفسد عليك حلاوة ما تنعمين به. ثم إياك والغيرة فإنها بلاء. وفسحة العيش أقصر من أن نضيعها، أو نضيع دقيقة واحدة منها، فيما تجره الغيرة السخيفة من عناء وبلاء».

فأرادت أن تبين له أن سؤالها لم يكن مصدره الغيرة، فأبى أن يسمع وقال: «اسمعى. أنت لا تغارين من أحد فيما يتعلق بى، وأنا لا أغار من أحد فيما يتعلق بك. هذه سبيل الراحة والوسيلة إلى صفو الود بيننا».

وكان هذا أول درس تلقته عنه، ولم تفهمه كل الفهم، ولكنها أذعنت. وخطر لها والسيارة تخطف فى طريق الصحراء أن سلوكه مع زوجته لابد أن يكون مختلفًا، وأحست وهى تفكر فى هذا أن يد صادق قد صارت على يدها، فالتفتت كالمذعورة وسحبت يدها، فضحك بل قهقه وقال: «ألا ترين أنك تخشيننى؟ والحق معك فإنى وحش.. أحيانًا.. ولكن من الخير أن يواجه الإنسان الوحش لا أن يفر منه.. على أنك رضته يا ميمى.. أتذكرين؟ لقد قبلت هذا الوحش مرة، وكانت هذه القبلة أعظم ما فاز به فى حياته».

وكان يتلفت إليها وهو ويقول ذلك، ولكن نظرته كانت وديعة لينة كأنما يريد أن يطمئنها ويصرف عنها الخوف، فقالت: «لقد ظللت بعدها أتساءل أترانى لم أخطئ حين قبلت الوحش؟»

قال: «إذن كفى عن التساؤل. فقد صارعت هذا الوحش الذى فى نفسى بعدها ولا أقول إنى صرعته، ولكنى أعرف الاَن أن فى وسعى أن أواجهه، وهذا كله بفضل قبلة واحدة قصيرة».

فتنهدت وشعرت أن هذا الكلام لا يقرر الثقة مع ذلك فى نفسها، ولا ينفى القلق. وألفت نفسها تتلهف على الطمأنينة التى تجدها حين تكون مع إبراهيم، وولكنها ردت نفسها عن الاسترسال فى هذه الخواطر، وقالت: «إذا كانت قبلتى قد صنعت هذا فلست آسفة عليها».

فرمى إليها ابتسامة عوجاء، وقال: «أظنك ستجعليننى رجلاً طيبًا إن شاء الله».

قالت: «إنما أريد أن تكون كخير ما تستطيع».

قال: «أحسب أنك رسمت لى الصورة التى تريدين أن أكون مثلها».

وضحك ثم قال: «مما يدعو إلى الأسف أن الصورة التى فى رأسك ليست إلا أسطورة.. جميلة بلا شك، ولكنها من نسج خيالك البديع».

وبلغا محطة «شل» فترجلا وذهبا يعدوان إلى المقاعد، ويصفقان للخادم، فمال صادق نحوها، وقال: «ما قولك فى قضاء النهار هنا بدلاً من الإسكندرية؟»

فخفق قلبها مرتاعًا، فإن المكان موحش، وليس صادق بالرفيق المأمون. وليس ثم أحد فيما ترى إلا الخدم. ولكنها تجلدت وقالت: «أتعبت؟» قال: «لا. وإنما أود أن تعرفى أن ههنا مطعمًا وفندقًا فإذا شئت بقينا.. بل بتنا أيضًا وإلا فإلى الإسكندرية.. لماذا يجمح بك سوء الظن؟»

فتشهدت. وجاءت القهوة فشرباها. ونهض صادق ليتزود لسيارته من البنزين والزيت، وغاب قليلاً ثم عاد بوجه كاسف وقال: «يظهر أن المحرك به بعض التلف.. أظنه يسيرًا. وقد تركت عاملاً يعالج أن يصلحه.. لا تخافى سنصل إلى الإسكندرية ولكن بعد الوقت الذى قدرناه.. هذا كل ما فى الأمر».

فعاودها الخوف وقالت: «وإذا تلف فى الطريق مرة أخرى؟»

فلم يطمئنها، بل زادها قلقًا فقال: «يكون الله فى عوننا».

قالت: «ماذا تعنى؟»

قال: «ليس فى الطريق محطة أخرى ولست أتوقع أن يحدث تلف آخر. ولكن إذا حدث فإنه لا يكون فى وسعنا أكثر من أن ننتظر نجدة أحد المسافرين إذا كان يستطيع النجدة».

قالت: «فإذا لم يستطع».

قال: «نبيت فى السيارة، أو يحملنا أحد المسافرين معه إلى القاهرة أو الأسكندرية».

فنهضت تتمشى وهى تقول: «كان ينبغى أن أتوقع هذا».

فلم يرحمها وقال: «ألا ترين أن الأفضل والأسلم أن نبقى هنا؟»

قالت: «بل نعود إلى القاهرة.. ماذا يقول أبى؟ ماذا تقول أمى؟ ماذا..؟» فأشار إليها أن كفى وقال: «أظن أننا سنتشنج».

قالت: «أنا لا أتشنج أبدًا».

قال: «هذا بشير خير.. إذن كونى عاقلة وتقبلى ما يكون بالحلم والصبر.. ليس لى فيما حدث حيلة ثم إنه لا يحوج إلى كل هذا».

ولكن نصف النهار انقضى والسيارة تأبى أن تصلح، فدعاها إلى الغداء، ولكنها رفضت أن تتناول شيئًا. ولم يبق لها هم إلا أن تعود إلى القاهرة، وكانت لا تفتأ تصيح به: «ما هذا التلف المفاجئ الذى أصابها؟ إنى لا أصدق.. لقد وصلنا إلى هنا وهى على خير حال.. فلا بد أن تكون قد صنعت شيئًا أتلفها عمدًا. إن السيارات لا تفسد هكذا فجأة بلا مناسبة. ثم إنها جديدة، فغير معقول أن تفسد بهذه السرعة، وفجأة بعد أن كانت تسير كالجواد الأصيل».

قال: «إن الرجل يبحث عن العلة».

قالت: «ومتى ينتهى؟»

فهز كتفيه وقال: «علمى علمك. فإنى لا أحسن إلا القيادة».

قالت: «أنا لا أعتقد أن السيارة أصابها شىء».

قال: «سلى العامل».

قالت: «أشكرك.. وماذا يمنع مثلك أن يرشوه ليكذب؟»

قال: «اسمعى. أوسعينى سوء ظن. فإن هذا لا يعنينى، ولست أول مخلوق فعل ذلك. كل الدنيا تعدنى مخلوقًا لا خير فيه. لا بأس: زيديهم واحدًا. ولكنى لم أصنع هذا الذى ترميننى به. صدقى أو لا تصدقى. سيان. لقد حاولت أن أكون طيبًا كما تريدين.. سنة كاملة وأنا أعالج وأجتهد أن أعيش بالفضيلة والخير كما دعوتنى.. طلبًا لمرضاتك. لا لأنى شرير، فلست بذاك، وليس من الشر أن أحبك، بل لأنك ترين أن تغيرى ما بى. لا أدرى لماذا. فأنا أروض نفسى على السلوك الذى هو أحب إليك. ثم ماذا كانت النتيجة؟ إنك مازلت على رأى الناس جميعًا فى. وأقول لك الحق إنى مللت هذه الفضيلة كما تتصورينها.. الفضيلة التى تأبى أن يكون الإنسان كما خلقه الله. أى عيب فى أن أحبك؟ أى رذيلة فى هذا؟»

وسكت وراح يتمشى ثم التفت إليها وقال: «لقد كففت عن هذه المحاولة وأرحت نفسى من عناء باطل».

فزوت ما بين عينيها، وقالت وهى ترجو أن تتألفه بالكلام اللين: «لقد كنت أرجو أن تنتهى إلى غير هذا».

فقال: «كيف يمكن؟ عام كامل وأنا أحيا حياة الأولياء الصالحين. تصورى هذا فى سنى. ثم ماذا؟ لا أرانى أدنى إليك أو أحب مما كنت.. لا يا ستى. إنى شاب وهذه الخطوات البطيئة لا تطاق.. ولست أستطيع أن أظل هكذا إلى ما لا نهاية».

قالت وهى لا تزال تحاول التسكين: «ومن الذى يستطيع أن يعرف أين أو متى تكون النهاية، أو ماذا قسم الله لنا؟»

قال: «آه هذا كلام خليق بإبراهيم وأظنه مما لقنك.. لا يا ستى مرة أخرى. إنى أعرف ما أريد وأعرف الطريق إليه. الطريق الذى يبلغ لا الذى يقصى».

وقعد على كرسى بعيدًا وساد الصمت برهة، وهى تفكر فيما قال، وفى دلالته التى لا تخفى ثم قالت: «ليت هذا العامل يسرع».

فنهض وأشار إليها أن تتبعه ومضى بها إلى حيث السيارة والعامل، فقال لهما إنه اهتدى إلى العلة وهى فى الأسلاك، وسيعالجها بأسرع ما يستطيع. فمضيا عنه وراحا يتمشيان، وقد اطمأنت قليلاً وجرى فى بالها أنه يستوى أن تذهب إلى الإسكندرية أو القاهرة، فإنها تستطيع بعد ذلك أن تتخلص من صاحبها. وإنما العقدة فى الطريق والله المسئول أن يلطف بها.

وكانا يسيران فى صمت ثم تلفت صادق فلم ير أحدًا فانثنى إلى ميمى يقول فجأة: «هل مللت الانتظار؟ إذن لا انتظار بعد ذلك».

فأحست بمثل لسع النار من أنفاسه على وجهها. وقبل أن تتبين ما هو صانع، كان فمه على فمها. وراح يقبلها كما لم يقبلها أحد فى حياتها، وكانت تنتفض وترتعد، ولكنها عاجزة عن التخلص من عناقه، وكان تطويق ذراعيه لها يؤلمها.

وصاحت به، وقد رفع فمه: «هل جننت؟ دعنى».

قال: «نعم جننت». وأهوى عليها مرة أخرى بفمه المضطرم. وعادت هى تحس بلسع النار من فرعها إلى قدمها، وحاولت عبثًا أن تقاومه فقد كان كالوحش الضارى. ثم أمسك فجأة وخلاها، وتراجع خطوة، وهو يقول: «أتظنين أنك تستطيعين أن تقصينى إلى ما لا نهاية؟ إذن فاعلمى أن هذا يزيدنى جنونًا. ولماذا تقاومين ما كتب الله كما تقولين؟ لقد بذلت من المقاومة ما فيه الكفاية ولقد انهزمت أخيرًا. حولى وجهك عنى إذا شئت. سيان. لقد ظللت أنتظر أن تسنح لى مثل هذه الفرصة، وقد شاءت إرادة الله أن تسنح، فأنا اغتنمها. لقد كنت إلى الاَن كأنك فوق منصة عالية تلقين منها الأوامر إلى. أما بعد الآن، أما اليوم فأنت امرأة ليس إلا».

فكادت تيأس. ولكنها أحست ومض أمل خافت بأن النجاة ليست مستحيلة. وكان إحساسها بالغريزة وحدها لا بالعقل، كما يحس الحيوان المطارد. وكانت تعلم أنها معه هنا كأنها فى قلب غابة تحترق، ولكنها مع ذلك لم تفقد الأمل. وأيقظ الفزع نفسها فقالت: «ومع ذلك تقول إنك تحبنى» فصاح بها: «إيه؟ أتجرئين على الشك فى هذا؟ هل تريدين امتحانى؟ أتريدين أن أقدم لك الدليل؟»

قالت: «نعم».

فأخلى سبيلها وقالى: «والاَن ماذا؟»

فكادت تسقط بعد أن فك إسارها بغتة. وخطر لها أنه ما أطلق سراحها إلا ليسخر منها. وخيل إليها أنها تنظر فى عين نمر، ولكنها تشددت وقالت: «والآن يجب أن نتفاهم».

فضحك ملء شدقيه وقال: «نتفاهم؟ ألم تفهمى أن مثلى حين يريد شيئًا يأخذه ولا ينتظر أن يعطاه؟»

فاعتدلت فى وقفتها وقالت له بلهجة كلها كبر: «أو تظننى من اللواتى يؤخذن؟ أو تحسبنى ملكك؟ إذا كنت تظن ذلك أو تتوهمه فإنه ينقصك أن تعرفنى. ولا أنا مع الأسف كنت أعرفك».

فقال: «نعم، أعتقد أنك ملكى، وأنك لى، ويجب أن تعترفى لى بأنى كنت صبورًا جدًّا».

قالت: «كلا. إنك تبنى على أساس من الرمل، ولخير لك أن تدرك خطأك بسرعة. لقد عاملتك كما ينبغى أن يعامل القريب وزدت فعددتك صديقًا. وتوهمت أن من الممكن أن أثق بك، ولكنى لن أرتكب هذا الغلط مرة أخرى».

قال: «ولماذا تقولين لى هذا الآن كأنه يمكن أن يغير شيئًا؟»

ولم يزد منها قربًا أو بعدًا، ولكنها أحست أنه متربص للوثبة وقالت: «نعم يغير أشياء».

قال: «هذا وهم منك، وإنك لتخدعين نفسك، ولكنك لا تخدعيننى. لقد نفذ صبرى، فانا آخذ عنوة ما لا يؤخذ صبرًا».

قالت ساخرة: «وتسمى هذا حبًا؟»

قال: «سميه ما شئت فلست فيلسوفًا كصاحبك. كل ما أعرفه أن أنوى أن أجعل من هذا التمثال امرأة من لحم ودم. إن لم أستطع أن أصعد إلى الذروة التى تقعدين فوقها، فعليك أن تنزلى إلى حضيضى ليمكن أن تكونى آدمية حية».

وسمعا العامل يناديهما من بعيد فارتدا إليه.

٣

وكانت ميمى وهى راجعة مع صادق إلى حيث العامل والسيارة، تدير عينها فى هذه الصحراء المتقاذفة، وفى الشمس التى أخذت تميل، وتطيل الظلال، وفى هذا القريب الذى تخشى أن تعصف بها ثورة نفسه، وهياج حرقاته، وما تعلم ويعلم من قلة النصير، وفيما يحسن أن تصنع لتخرج من هذا المأزق بغير ضجة، وتؤنب نفسها على مطاوعتها له وثقتها به، ولا تبخل باللوم على إبراهيم؛ لأنه هو الذى أغراها بالاطمئنان إلى هذا الفتى الأحمق ودعاها إلى إيلائه الثقة التى تبينت الاَن أنه لا يستحقها، ومع ذلك كانت تتمنى لو تيسر لها أن تتصل بإبراهيم لتستشيره.

وسمعت صادقًا يقولى لها بصوت امتزجت فيه الرقة بالعنف: «ماذا جرى؟ إنك كنت تحبيننى».

وسمعت نفسها تقول وكأن الصوت غير صوتها: «أنا ما أحببتك قط. إنما كنت لك صديقًا».

فقال: «كنت؟ هل تعنين أنك تبغضيننى الاَن؟»

قالت: «لا.. ليس لك فى قلبى حتى ولا البغض».

فقال وهو يضحك ولا يفهم: «لا بغض، ولا حب. فماذا إذن؟»

قالت: «الاحتقار. ليس إلا».

وعضت لسانها نادمة وأدركت أنها زلت، وخشيت أن يزيده هذا حماقة وطيشًا. وراح رأسها يدور وأحست أن الأرض غير مستقرة أو ثابتة، وأزعجها أن تحتاج إلى الاتكاء على صادق، فتشددت وتماسكت بجهد. واستغربت من نفسها أنها تذكرت فى هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات المخيفة، يوم دخلت على التلميذات وحدها أول مرة وفى يسراها دفتران واحد للأسماء والاَخر لتحضير الدروس، وكانت قد أعدت درسها بعناية وكتبته بخط واضح جميل، ووضعت تحت العناوين خطوطًا حمراء، وتوقعت أن تبهر التلميذات بالوقار والسمت وحسن الإلقاء والبيان، وإذا بالتلميذات يقف بعضهن — أقلهن — وهن جميعًا يتلاغطن، ورؤوسهن متدانية، وأصابعهن مشيرة إليها. ومنهن من وضعن أيديهن على أفواههن ليكتمن الضحك، ومنهن اللواتى ضحكن غير متحرزات أو عابئات، وهى واقفة لا تدرى ماذا تصنع لتفىء بهن إلى الصمت والسكون، وما يجب أن يتلقين به معلمتهن من التوقير. وظلت هكذا لا تقول أو تفعل شيئا ولا تحرك يدها بإشارة، ثم افتر ثغرها بكرهها عن ابتسامة خيل إليها فيما بعد أنها ابتسامة السخر من نفسها أو اليأس من قدرتها على السيطرة على هؤلاء التلميذات. وإذا بهن يبادلنها ابتسامًا بابتسام، ويرخين أيديهن، ويقفن معتدلات القدود، فأشارت إليهن أن اقعدن، فقد أشفقت أن تنطق فيشى صوتها باضطرابها. وسلس لها الأمر بعد ذلك، ولم تعان مشقة معهن. وخطر لها — وهذه الصورة ماثلة لعينيها — أن لعل إبراهيم على صواب، وعسى أن يكون رأيه ونهجه أسد، وقد تكون الحسنى أرشد وأحق أن تبلغها أمنها.

وبلغا السيارة، وجرب صادق محركها، وحمد ما صنع العامل، وأنقده أجره وسخا فيه، ودعا ميمى إلى الركوب. فقالت وهى تبتسم: «ألا ترى أن الأحزم أن نتزود للطريق».

ورأى ابتسامها، ونظر إليها مليًا، كأنما يتفرس، ثم وثب إلى الأرض وتركها تتمشى حول السيارة ثم عاد بسجاير وطعام. وكان فى السيارة (ترمس) صغير وآخر كبير فأراق ما فيهما من ماء وذهب بهما إلى المقصف وعاد بعد برهة، وقد ملأ الصغير قهوة، والكبير ماء مثلوجًا. وأشار إليها أن اركبى ففعلت بلا سؤال، فأدار المحرك مرة أخرى وخرج بالسيارة من نطاق المحطة حتى بلغ الطريق المعبد، فوقف وسألها: إلى أين؟ فأبدت قلة اكتراث وقالت: «كما تشاء». فانطلق فى طريق الإسكندرية.

وأحست بالجوع ففكت إحدى اللفافتين وأخرجت منها أربعة سندوتشات وجعلت تأكل وتطعمه، وتنفض عن ثيابه ما يتساقط من الفتات، وهو بادى الرضى والسرور، وإذا بالسيارة كأنما يقف محركها ثم يعود إلى العمل من تلقاء نفسه. وكان لهذا العارض رجة خفيفة شعرا بها، ولكنها لم تتكرر إلا بعد عشرة كيلومترات أو نحو ذلك. وبدا على صادق القلق ولا سيما بعد أن أحس هذا العارض مرة ثالثة بعد مسافة قصيرة، فأراد أن يسرع ولكن السيارة كانت كأنما لا تستطيع أن تمضى بأسرع مما تفعل. وقطعا على هذا الحال، ومن غير أن ينبسا ببنت شفة أكثر من سبعين كيلو مترًا، واذا بالسيارة يخرج منها صوت كالحشرجة ثم يقف المحرك. وعبثًا حاول صادق أن يديره مرة أخرى، وقد ظل يجاهد حتى تصبب منه العرق.

فقالت ميمى: «يحسن أن تستريح». وتكلفت أن تهون الأمر فقالت مازحة: «من يدرى.. لعل بالسيارة أيضًا حاجة إلى الراحة».

فصاح: «كلام فارغ.. هذا العامل حمار ولا يستحق مليمًا مما أخذ.. ولعله أتلفها وهو يحسب أنه أصلحها».

قالت: «لا فائدة من هذا الكلام الاَن».

قال: «ولكن ماذا نصنع الاَن؟ لو كنا بقينا فى المحطة لأمكن أن نجد لنا حيلة.. وكنا نستطيع أن نبيت إلى أن تأتينا نجدة. أما الآن فهل نبيت فى الصحراء؟»

قالت: «ولماذا؟ ألا يمكن أن تمر بنا سيارة فتحملنا؟»

قال: «ونترك سيارتنا؟ مستحيل. هذا تخريف».

قالت: «للضرورة أحكام».

فعاد يقول: «مستحيل».

قالت: «ابق إذن مع السيارة العزيزة أما أنا».

قال: «ها … أهو ذاك؟ تظنين أنك نجوت منى؟ سترين أنك مخطئة. فما لك نجاة وقد وقعت فى يدى».

قالت ساخرة: «وقوع العصفور فى فم الأفعوان؟»

قال: «تمامًا.. الاَن فهمت سر هذا اللطف والظرف..». وهز رأسه ودس يده فى جيبه وأخرج رأس مسدس وقال: «أتعرفين هذا؟ هل رأيت مثله فى حياتك؟ هل تعرفين ماذا يصنع الناس به؟»

فاصفر وجهها وارتجفت شفتاها وهى تقول: «لقد كان ينقصنى أن أعرف أنك نذل ووغد».

فقال وأعاد المسدس إلى مكانه وكان فارغًا غير محشو، ولكنها لم تكن تعرف هذا: «أنا كل هذا وزيادة، وليس يعنينى أن يسوء رأيك فى وإنما يعنينى أن أنال مأربى. ولا تحسبى أنى سأقتلك.. كلا.. إنى احتفظ بك لنفسى وأدخرك لمتع كثيرة سأفوز بها منك.. برضاك أو بكرهك.. سيان».

قالت: «لن تقتلنى ولن تقتل نفسك طبعًا لأنك تدخرنى لمتعتك. فلماذا تحمله إذن؟»

قال: «لأقتل به من علمك كرهى».

فضحكت، ولكنها كفت فجأة وقد خطر لها أن لعلى المعنى إبراهيم، وصاحت وقد ارتفعت يدها إلى جانبها: «لا لا لا لا».

فدنا منها ورماها بنظرة فيها من الغضب والغيرة معان. وقال: «تحبينه؟»

فرفعت رأسها وحدجته بنظرة المتحدى: «وما شأنك إذا كنت أحبه أو لا أحبه؟»

قال: «يا للجبانة.. لا تجرئين حتى على الاعتراف بحبه.. وإذا كنت لا تحبينه فلماذا تفضلين رجلاً على رجل؟»

فصاحت: «يا سافل.. كيف تجرؤ على هذا الكلام؟»

قال: «أتحسبين أنى لا أعرف أنك تخرجين معه. فهل تريدين أن تزعمى أنكما تخرجان للصلاة والتعبد؟»

فلم تجبه أنفة ومضت عنه إلى سلم السيارة فقعدت عليه، وتناولت سيجارة أشعلتها. ولم يكن التدخين عادة لها، ولكنها كانت تجد فيه راحة وتفيد منه سكينة.

ودنا منها وأشرف عليها وقال: «هذا أحسن.. نعم فكرى بهدوء فى هذا.. أعنى أنى أنا أولى منه بك».

فانتفضت قائمة ولطمته على وجهه، ثم انحطت على السلم وكادت تسقط على الأرض مغشيًا عليها، فما كانت تشعر أن فيها ذرة من القوة، لولا أنه انطلق يقهقه كالمجنون فرد هذا إليها رشدها، فرفعت رأسها إليه وحملقت فى وجهه فانحنى عليها وقال: «هذه اللطمة إقرار منك بأنك فهمت ما أعنى أتم فهم وأدقه. ألست أولى منه؟ اعترفى بهذا أيضًا. اعترفى بيدك إذا كنت لا تجدين لسانك. هذا خدى الطميه مرة أخرى».

فكادت تبكى من الغيظ والشعور بالعجز. ولكنها ردت الدموع مخافة أن تشى بما هى فيه، وودت لو مرت فى هذه اللحظة سيارة لتصيح بمن فيها مستنجدة ولكن الشمس كانت تنحدر والأفق يلتقى بالصحراء، والطريق يذهب شمالاً وجنوبًا كالنهر، ولا يبدو شىء مقبل من هنا أو هنا. وأحست بالحاجة إلى تمزيق وجه صادق بأظافرها أو تمزيق ثيابها هى، وخطر لها أنه قد يروقه — فإنه حيوان — أن يرى المحجوب من مفاتنها. فلم تمزق ثيابها ولكنها ضمتها على صدرها. ولم تفت صادقًا هذه الحركة فسألها: «هل تشعرين ببرد؟»

قالت: «نعم»، بصوت خيل إليها أنه خارج من جوف الأرض لشدة خفوته وضعفه، فخلع سترته وأراد أن يلقيها على ظهرها فانتزعتها من يده ورمتها على الأرض وداستها بقدمها. وسرها أنها مرغت فى التراب شيئًا له وتمنت لو كان هذا وجهه. ولكن صادقًا لم يعبًا بهذا شيئًا وقال وهو يقعد على الأرض فوق السترة: «أشكرك.. إن السترة أوثر من الرمل، ثم إن الرمل لا يوسخ شيئًا، وهذه مزية الصحراء. وبعد قليل يدخل علينا الليل ويلفنا فى شملته.. وليل الصحراء بارد يا مولاتى.. وستضطرين أن تلوذى بالسيارة وستحتاجين إلى قربى للدفء.. أى نعم.. الخيرة فى الواقع.. لا بد أن الله أراد هذا، وإلا فلماذا تعطلت سيارة جديدة كهذه فى قلب الصحراء، وما اشتراها الوالد المحترم إلا منذ أربعة شهور ليس إلا؟ وفى أربعة شهور لا تخرب السيارة الجديدة. هى مشيئة الله يا مولاتى».

فألفت نفسها تقول: «أليس حتى لأبيك احترام عندك؟»

فقال: «وهل من قلة الاحترام أن أدعوه الوالد المحترم؟ سبحان الله العظيم وتالله ما أظلمك». فلم تجب. وبعد برهة عاد يقول: «معذرة يا ستنا ميمى … سؤال لا يليق ولكن أظن الموقف يوحى به.. أترى لو كان إبراهيم مكانى وكانت سيارته هى التى تعطلت بك معه، أكان يسوؤكما أن تتاح لكما هذه الفرصة؟»

فوضعت رجلاً على رجل وأشاحت عنه بوجهها. ومضى هو فى تعذيبها فقال: «إن له سيارة لا بأس بها ولكنه يتركها للزوجة المسكينة.. يضحك بها عليها.. يلهيها بها.. ويخرج معك فى تاكسى أو مركبة خيل.. هذا الرجل لا سافل ولا نذل.. ولا وغد ولا شىء مما تفضلت به على من النعوت الجميلة. وأنا السافل، أنا النذل.. ليس لى زوجة وإنما لى قريبة أحبها ومن حقى أن أحبها.. وهى أيضًا ليس لها زوج.. ومن واجبها أن تتوقع أن يرغب فيها من كان مثلها.. لا امرأة له.. ليس فى هذا ما يستغرب.. لأنه هو الطبيعى.. ولكن الطبيعى ليس هو الطبيعى فى نظر المدموازيل ميمى.. لأن المدموازيل ميمى ترى أن تهب نفسها لرجل له زوجة وتضن بنفسها على رجل ليست له زوجة.. ويصبر هذا المحروم بغير حق.. ويطول صبره حتى ينفد.. ولكل شىء آخر. وبعد أن ينفد صبره تستغرب المدموازيل ميمى أنه لم يبق له صبر، وتقول له إنه نذل.. نذل لماذا؟ لأنه يحبها بحقه.. يحبها كما تعرف فما كتمها حبه.. ولو كانت تقبلت حبه لما احتاج أن يلجأ إلى الوسيلة التى يشير بها اليأس ولكنها أيأسته.. أيأسته حتى لم يعد فى وسعه أن يصدقها إذا قالت له، وأقسمت إنها تتقبل حبه لأن هذا لن يكون منها إلا محاولة للإفلات من يده. كونى منصفة وقولى إن هذا الرجل معذور».

فثارت به تلعنه وتقول له فيما تقول: «وماذا تظننى؟ سلعة.. كتابًا على رف؟ أحبب من تشاء، ولكن أليس لى رأى فى نفسى؟»

فقال بتهكم «ترى ماذا أعجبك من إبراهيم هذا؟ سفسطته وثرثرته؟ فلسفته العجر؟ ماذا بالله؟ لا بد أن يكون شىء أعجبك؟»

وفى هذه اللحظة أقبلت سيارة تخطف فنهضت وجعلت تشير إليها ولكنها مرت ولم تتلبث. وكان صادق قد التفت أيضًا إلى السيارة وأشفق أن تقف، فلما مضت تبسم وقال: «لا فائدة يا قريبتى العزيزة.. وطنى نفسك على التسليم لقضاء الله».

وارتمت ميمى على السلم مرة أخرى وقد بدأ اليأس يخامرها. وماذا يكون مصيرها إذا ظلت كل سيارة تقبل وتمر خطفًا ولا تقف؟ وسيجئ الليل كما أنذرها فتخفى فى ظلامه الإشارة. وقد لا يسمع صوتها أحد ممن فى السيارات إذا صاحت مستنجدة، ومن يدرى فقد يخطر لهذا المجنون أن يكمم فمها ويقيدها.

وقال صادق: «اسمحى لى.. أعنى أنى أرجو أن تنهضى عن السلم فإنى أريد أن أجر السيارة عن الطريق مسافة متر أو مترين لتكون ونكون فيها فى مأمن من الحوادث. ألا توافقين؟»

فنهضت وهى تقول: «وماذا يهم؟» وتمنت أن يصدمها صادم فيكون هذا مخرجًا لها.

وأقبل صادق على السيارة يدفعها ويحولها عن الطريق إلى الأرض الرملية، على حين وقفت تتلفت يائسة فما كانت ترى شيئًا. وانحدرت الدموع بكرهها فكفكفتها. وكان صادق مشغولاً بالسيارة وتحويلها — يدير العجلات ثم يروح يدفعها من الأمام وهكذا — حين أقبلت سيارة صغيرة لم ترها ميمى إلا وهى على مسافة قصيرة، فاندفعت إلى وسط الطريق ورفعت كلتا يديها وراحت تشير إشارة الوقوف، وتنظر عن عرض إلى صادق وكان ظهره إليها فهو لا يرى. وخطر لها أن السيارة الآتية قد تدوسها إذا ظلت واقفة فى طريقها هكذا، ولكنها كانت لا تبالى أوتعبأ شيئًا بما عسى أن يصيبها، بل لقد تمنت أن تداس، فإن هذا منج على كل حال. غير أن السيارة لم تدسها بل وقفت على مترين منهاً، ونزل منها إنجليزى رفع القبعة وسألها هل يستطيع أن يساعدها.

وإذا بها تسقط على الأرض مغشيًا عليها. وأدركها الرجل وحملها على يديه، ونظر إلى صادق وسيارته ورأى ما يصنع، فمضى بميمى إلى سيارته هو ووضع رجله على السلم وأراح جسم ميمى على فخذه، وفتح الباب وترفق بها وهو يضعها على المقعد الخلفى، ثم شرع يحاول إنعاشها وردها إلى الدنيا.

وتنبه صادق إلى ما هو حاصل، فترك السيارة وأقبل على الرجل فقال له هذا: «والآن يا صاحبى يحسن بك أن تركب معنا أيضًا. دع السيارة إلى الصباح، وفى الإسكندرية تستطيع أن تجد من تبعث به ليصلحها».

فهمَّ صادق بكلام، ولكنه كان لا يحسن الإنجليزية، وكان إلى هذا يحس أنه لا فائدة من المكابرة، فقد خرج الأمر من يديه، وأراد شيئًا وأراد الله خلافه. فعاد إلى السيارة وحمل ما فيها ونقله إلى سيارة هذا الإنجليزى المتطفل الذى جاء فى وقت الحاجة إلى غيابه.

وفتحت ميمى عينها فتشهدت واعتدلت على المقعد، ومالت قليلاً إلى الأمام ولمست كتف الرجل وقالت له لما أدار إليها وجهه قليلاً: «أشكرك»، فابتسم الرجل وهز رأسه ولم يزد.

ثم كأنما تذكرت شيئًا فاعتدلت مرة أخرى والتفتت إلى صادق وقالت له: «هات هذا المسدس».

فلم يسعه إلا أن يخرجه ويناولها إياه، وهم أن يقول إنه فارغ. ولكنها فتحت النافذة وقذفت به على الرمل، وقالت لصادق وهى تغلق الزجاج: «ابحث عنه حين تعود لتأخذ السيارة».

فقرض صادق أسنانه ولم يقل شيئًا.

٤

لم يحمد إبراهيم من ميمى أنها قصت عليه ما كان من صادق معها فى رحلتهما المضطربة. فما فيها ما يخف على اللسان جريه أو على الأذن سماعه وإن كانت قد انتهت بخير على ما روت، ولم يشك فى صدقها، ولكنه كان وهو يصغى إليها يحس كأنها تصكه بالحجارة، وكان أمرأ يكره المشاكل والتعقيد والضجات ولا يحب وجع الرأس والقلب. وزاد امتعاضه أنه شعر أن ميمى تحمله تبعة بغير حق. وكان قد عاد من رحلته مع تحية إلى بلدة أبيها مسرورًا راضيًا، شرحت صدره مناظر الريف وبساطة أهله وحفاوة صهره، وإقباله عليه ومساناته له، فأضمر أن يسر تحية ويبرها، وكان يتكلف ذلك فى أول الأمر، ثم ألفى نفسه محمولاً على متن التيار كالممثل الذى وافقه دوره فاستغرقه حتى نسى أنه يمثل. وكانت تحية ترى إقباله عليها ورغبته فيها وتحريه ما يسرها فتحمله على محمل الحرص على إخفاء الفتور الذى عراهما، عن أبيها وقومها. وكان هذا مبتغاها هى أيضًا فسايرته متكلفة مثله ثم شامت منه الإخلاص، واَنست صدق السريرة، فهتف قلبها، وازدهاها الفرح وأولته من نفسها ما كان بعد العهد به قد فترها عنه، فصارا كاللذين خرجا للتنزه وجاء كل منهما بطعامه فتاَكلا فى موضع واحد، وعادا إلى القاهرة وما يذكران أنهما فازا بمثل هذه السعادة.

ولو أن إبراهيم سئل عن إحساسه لما التقى بميمى بعد هذه الأوبة المرضية لما استطاع أن يبين، فقد كان مغتبطًا بهذا الصفو بعد الكدر، وكان لا يفكر إلا فى طيبه ولا يعنى إلا باستدامته. وكانت حلاوة ما سقته تحية من حبها المتين قد بغضت إليه المخادعة والغش. ولم يخطر له أن ينقض عهد ميمى، ولكنه أحس أنه لا يستطيع أن يعطيها باللسان ما ليس فى القلب. وانتوى أن يرتد بها رويدًا رويدًا إلى حد من الصداقة يرضيانه ولا ينكره عليهما منكر. وكان يدرك أن هذا ليس مما يهون، ولكنه توكل على الله وآلى أن يمضى فى هذا النهج الذى بدا له أنه أحكم ما يستطيع أن يأخذ فيه.

وكان يقول لنفسه وهو فى طريقه إلى ميمى إنه لم يملها وإنها لا تمل ولكنه فاز بطيبات زهدته فى الطلب. وكان كالشبعان الذى أكل حتى هنئ، فهو لا يستطيع أن ينظر بعينيه إلى طعام، وإنه من يدرى؟ لعل الصداقة التى يرجو أن يقيم على حدودها علاقته بميمى تكون أمتع لهما جميعًا. ولميمى مستقبلها وستتزوج يومًا ما وليس هو بالذى يستطيع أن يغنيها عن الزواج، وأنه لا سنه ولا حاله تسمحان باستقامة الأمور على الأيام مع ميمى مع سنها وحالها. ولكن هل تقتنع المرأة بالصداقة؟ أو هل تسمح لها طبيعتها أن لا تخلطها بالحب والجنس؟ وخشى أن لا تستطيع المرأة ذلك مع الرجل كما يستطيعه الرجلان.. فإن قطب الرحى فى حياة المرأة هو الغريزة النوعية، ولا حيلة لها فى هذا ولا لوم عليها فيه، فإنه الذى تقضى به طبيعة خلقها والوظيفة التى كلفتها ووكلت إليها، ولكنه مع ذلك رجا أن يجد من عقل ميمى وحكمة طبعها عونًا له. ولماذا لا يحضها على الزواج ويزينه لها؟ ولكن أين أو من أين يجيئها بهذا الزوج الصالح؟ وتالله ما أثقل أن يكلف نفسه عناء هذا السعى أوحتى أن يفكر فيه.

ولقيته ميمى بهذه القصة فاستهجن موضوعها واستنكر ما انطوى عليه تحديثه بها من إشعاره أن هناك تبعة ولو ضمنية خفيفة يحملها. ولم يعبأ شيئًا بتهديد هذا الفتى، وإن كان لا يخفىِ عليه ما عسى أن يجر إليه طيش الشباب وحنق الحب الفائر المُحلأ عما يطفئ الغلة وينقع الظمأ. ولكنه لم يجعل باله إلى هذا، وبدا له أن العقدة كلها تحل إذا هو حل عقدته. وكان همه كله فى هذه الاَونة أن يشعر أن كل ما يفعل أو يترك لا يمكن أن يكون فيه ما يكتم عن تحية أو ما يعد خيانة لثقتها به وائتمانها له. وإن لميمى عليه لحقًا أيضًا. ولكن حقها يجىء بعد حق تحية ما فى هذا شك. أو هكذا يجب أن يكون الأمر.

وقال لميمى بعد أن أصغى إلى القصة: «إن صادقا هذا قريبك، وهو شاب، ثم إنه يحبك، وليس فى هذا ما يعاب أو يستنكر، وإنه ليثنى عليك حين يقول إنه يحبك، والحب مجهوده فهو الحقيق أن يتيه به عليك. نعم أنت الباعث، ولكن الطبيعة هى الباعث الحقيقى، وما أنت إلا أداة وإنها لأداة قوية ثمينة ولكنها أداة ليس إلا، وأنت كالزهرة على عودها، ولا تستوى زهرة فى صحراء لا يراها فيها أو يحسها مخلوق، وأخرى حيث يراها الناس ويحمدون منظرها وطيب مشمها، فأنت حقيقة بأن تفرحى بحب هذا الفتى، والذى بدا لك من جنونه هو من فورة هذا الحب، وعنف عصفه بنفسه، فأنت أولى بأن تزيدى سرورًا لا أن تسخطى وتنفرى. وما أراك أحسنت إلى نفسك بجحود فضله، نعم فإن حبه من فضله عليك. ولو ثقل على نفسك هذا المعنى فإنه الحقيقة، وما أراك أنصفته أو أنصفت عقلك، فأين كان عقلك حين استثرته وهيجته وأغريته بهذه الحماقة؟

قالت متعجبة: «وماذا كنت تريد منى أن أصنع؟ أترانى كتابًا على رف من شاء أن يمد يده ويتناوله فله ذاك؟»

قال: «ليس الأمر كما تتصورين، لا أنت كتاب ولا هو يريد أن يغتصبك، واسمحى لى أن أقول لك إنك عمياء».

قالت: «عمياء؟ ماذا تعنى؟»

قال: «أعنى أنك تحبينه وأنت لا تدرين».

فضحكت.

قال: «لك أن تضحكى ولكنك ستعرفين أنى صادق الفراسة حين تستطيعين وأنت ساكنة النفس أن تديرى عينيك فى قلبك وتتبينى ما فيه».

قالت: «كله إلا هذا».

قال: «والحقيقة أيضًا أن الذى يستر حبك عن عينك هو خوفك وفزعك من حبه الطاغى العاتى».

قالت: «أما أنى أخافه وأفزع منه فصحيح وأما أنى أحبه فلا».

قال: «هذا أكبر ظنك.. إذن قولى واصدقينى».

قالت: «إنك تعلم أنى لا أكتمك شيئًا».

قال: «ليتك تفعلين أحيانًا».

قالت: «لماذا؟»

قال: «لتزيد فتنتك.. ليس مما يطيب للمرء فى كل حال أن تكون المرأة كالصفحة المرفوعة لعينه، وكل ما فيها مسطور بالخط الكبير».

فنظرت إليه كأنما تحاولى أن تستشف المعنى من هيئته لا من ألفاظه، ولكنها لم تقل شيئًا ولعلها لم تستطع أن تستوضح شيئًا. ومضى هو فى كلامه فقال: «ألا تحسين أنك تتمنين لو كان يلقاك هادئًا غير فاتر».

قالت: «هذا أشهى إلى كل نفس، فما لأحد لذة فى هذه الثورات المزعجة».

قال: «ليس إلى كل نفس، ولا إلى نفسك أنت. وإنه ليسرك — فى قرارة نفسك — أن حرقاته تهيج من فرط حبه لك. ولكن عنصر الفزع يستر هذا السرور. ولو كنت تشعرين بالأمن أو بأن لك حيلة أو أن زمامك لا يوشك أن ينتزع من يدك لبدا لك السرور المحجوب. وإنه ليسرك أيضًا أن ينتزع الزمام من يدك، ولكن الأوان لم يأت، لأنك لم تفطنى إلى حبك له فأنت لا تزالين تقاومين الشعور الخفى بأنك يوشك أن تغلبى على أمرك وتلقى السلاح وتفتحى ذراعيك».

قالت: «هذه خيالات.. إن خيالك يجمح بك».

قال: «كلا … ليست هذه خيالات وإنما هى حقائق أراها ماثلة كما أراك. وستعلمين بعد حين أنى على صواب».

قالت: «لماذا تتكلم كأنى لست إلا كتابًا تبدى فيه رأيك؟»

ففطن إلى مرادها وأغضى عنه وقال مجيبًا: «لأن فى وسعى أن أنتزع من نفسى شخصًا اَخر، أى أن أتجرد وأدرسه كأنه إنسان غيرى على قدر ما يتيسر هذا لإنسان».

قالت: «ولكنى أحس كأنك لا يعنيك مصيرى».

قال: «لو كان لا يعنينى لما حاولت أن أفتح لك عينيك. إنى أبغى لك السعادة وأدلك عليها».

قالت بلهجة التهكم: «السعادة مع هذا الفتى؟»

قال: «نعم مع هذا الفتى. إن عقلك يقول لك إنه فتى عاطل، وأنت فتاة تكدحين لكسب رزقك، ويقول لك عقلك وما عودك التدريس من احترام نفسك إنه لا يليق بك أن يستولى على قلبك فتى عاطل، أو أن يعرف عنك أنك قد تدلهت بمثله، ولكن قلبك يحن إليه بل يتفطر لهفة. هل تستطيعين أن تذكرى لى ماذا كان شعورك الحقيقى لما تناولك بين ذراعيه كرهًا، وأهوى عليك بالقبل الحرار، وأنت تحاولين أن تتفلتى من عناقه العنيف؟»

قالت وقد اتقدت وجنتاها: «هذا سهل. لم يكن لى شعور غير الاشمئزاز والنقمة، ولو استطعت أن أمزق له جلدة وجهه لفعلت».

قال: «لا شك، لا شك. ولو شعرت بغير ذلك لما كنت ميمى التى أعرفها، بل لما كنت امرأة لها قيمة. ولكن ألم تشعرى أن دمك قد صار أسرع فى عروقك؟ ألم تحسى بمثل الدوار الخفيف الذى يجعل الأعضاء تسترخى؟ فكرى.. أديرى عينيك فى قلبك».

قالت: «نعم. ولكن هذا كان من الغيظ والضعف».

قال: «ومن شىء آخر. ولو عنف بك هذا العنف فى بيتك وأمك فى غرفة أخرى بحيث تسمع إذا نوديت لاختلف الحال.. كان الاشمئزاز يبقى، ولكنه كان خليقًا أن لا يبلغ مبلغًا يحجب الشعور باستطابة القبلات، أو يمنع الرغبة فى المجاوبة أن تظهر ولو اَثرت أن تقاوميها.. ولكن عامل الخوف فى الصحراء الموحشة تغلب».

قالت: «ماذا تريد أن تقول؟»

قال: «أريد أن أقول إنك تحبينه يا فتاتى. أصدقى نفسك فإن هذا يكون أعون لك فى موقفك».

قالت: «موقفى؟ ما هو موقفى؟ إنه لم يتغير».

قال: «سيتغير.. لا تعجلى.. هذا الفتى يحبك وأنت تحبينه فواجهى الأمر من هذه الناحية فإنه أجدى عليك».

قالت: «يخيل إلى أنك تريد أن تتخلص منى.. قل هذا بصراحة إذا كنت تعنيه وتضمره».

قال: «لا.. لا خلاص لى ولا رغبة لى فى خلاص.. ولا خلاص لك منى إلا بإرادتك. إنما أريد أن أوجهك الوجهة القويمة التى تصلح بها حياتك».

قالت بضعف: «ولكنى لا أحبه.. ثم إنه عاطل».

قال: «ما دمنا قد دخلنا فى أسباب عدم الحب، فقد اعترفنا بأن الحب هناك».

قالت: «إنى لم أعترف».

قال: «بل اعترفت.. وعلى أنى لا أطلب اعترافك لأنى أعرف».

قالت: «أما إنك لغريب اليوم.. ماذا جرى؟»

قال: «الذى جرى هو أنك تحبين هذا الفتى.. ألا تذكرين أنى أوصيتك بمحاسنته؟»

قالت: «أكان هذا هو السبب؟»

قال: «تقولين إن هذا الفتى عاطل. وإنه لكذلك. وفى يدك أنت كما قلت لك من قبل أن تصلحى من أمره.. أن تجعلى منه شيئًا له قيمة فى الحياة. إن كونه يحبك فرصة لك.. وجهيه.. بثى فى نفسه الثقة والاطمئنان.. أطمعيه فى حبك واحترامك.. إنه الاَن حائر ضال لا يهتدى، حبه المزدرى يغريه بالاستحواذ عليك بالقوة … يريد أن يعلمك احترامه بالوسيلة الطبيعية الساذجة.. بالقوة … وسيلة أهل الكهوف من أجدادنا الأقدمين.. ولكنه إذا آنس منك الاستعداد لاحترامه، إذا التمسه من طريق آخر فلا أحسبه يتردد فى اكتسابه من الطريق الذى تصفين وتؤثرين. طاوعينى وأطمعيه فى احترامك، فإن به حاجة إليك. يكفى أنه قريبك فله عليك هذا الحق.. حق التوجيه الصالح».

قالت: «هذا واجب أبويه قبل أن يكون واجبى».

قال: «بل هو واجبك الآن. انظرى إليه على أنه محبك المفتون بك لا أنه ابن أبويه.. وكابرى إذا شئت فى حبك له، فما هذا بالذى يقدم أو يؤخر، وسترين حين يهدأ وتهدئين أن الأمر كما أصف، وأنى أستحق منك قبلة الشكر».

قالت برقة: «أترانى أضن عليك بالقبلة حتى تؤدى ثمنها؟»

قال: «إنما أريدها فى أوانها قبلة شكر.. قبلة شكر تستطيعين أن تمنحينى إياها على عينه وبرضاه.. قبلة يشاركك هو فى معنى الشكر الذى يبعث على منحها».

فأطرقت كالمفكرة ثم رفعت رأسها وقالت: «أتعلم ماذا؟ لكأنى بك تغرينى به.. لا أدرى.. ولكن هذا ما يبدو لى.. لعلى مخطئة فاعذرنى».

قال: «لست أغريك به فما بك حاجة إلى الإغراء. وعلى أنى لو كنت أغريك به لما كنت إلا حكيمًا».

فابتسمت وقالت: «دع الحب وقل لأى شىء يصلح هذا الفتى؟»

قال: «لماذا لا يوليه أبوه شئون زراعته؟ إنه قوى وذكى وخفيف كالثعلب وآفته أنه لا يعمل شيئًا.. لو كان مغرى بالألعاب الرياضية، أو ذا عمل يشغله زمنًا لما أمكن أن تبلغ ثورته هذا الحد الذى يفزعك ويحجب عنك إيثارك له».

قالت متهكمة: «لقد كانت المحاضرة يا سيدى الأستاذ مدهشة، وأظن أننا نستحق شيئًا من الراحة بعدها، فهل تسمح بأن أدق الجرس؟»

قال: «كان فى وسعك أن تدقيه من اللحظة الأولى. ومعذرة إذا كان موضوع المحاضرة يا تلميذتى النجيبة قد ثقل عليك.. ولكنك تعرفين الأساتذة.. ثرثارين.. لا يكاد المرء يفتح لهم بابًا حتى ينطلقوا كالقنبلة.. ما علينا ولنخرج إلى فضاء الله بعد هذه الجلسة المتعبة».

ونهضا وذهبا يتمشيان.

ولبثا هنيهة لا يتكلمان. وهو يفكر فيما قال لها وكان مؤمنًا بصحة نظرته وصدق فراسته، وراضيًا عن نفسه لأنه فتح لها عينها، وبدا له أن هذا خير حل، وأنه المخرج المأمون من ورطته. وهى تفكر فيما سمعت ولا تكاد تصدق ولا تريد أن تسلم. ثم التفتت إليه فجأة وقالت: «ولكنى لا أحبه.. إنما أحب..».

وأمسكت. فقال ولم يلتفت إليها: «لا تخدعى نفسك.. كلا لست تحبين أحدًا سواه. نعم، أعرف أنك لا تنطوين لى على كره. بل أستطيع أن أزعم أنك تحبيننى ولكنه حب من طراز آخر. هو تعلق بمن أيقظ شعورك وأزخر تيارًا كان راكدًا وأفادك بعض النعيم بشبابك.. تعلق بمن أعدك لما أنت حقيقة به من نعيم الحياة.. ثم تفوزين بالنعيم المذخور لك فتشعرين أن الغدير يصب فى نهر عظيم، أو أن النهر يصب فى بحر. وللنهر جماله، وللغدير حسنه وطيبه، ولكن البحر أروع وأجل، وأعظم استغراقًا للنفس. وتلقيننى وألقاك فنتساقى التذكر فنكون كأننا تساقينا خمرًا كما يقول الشريف، ونحمد ما كان ونشكر الله عليه، وتظل ذكريات هذا العهد الحميد رباطًا وثيقًا.. أليس هذا أجمل؟»

فوضعت أصابعها على ذراعه، وقالت: «مالك تتكلم كأن هذا وداع؟»

قال: «هو وداع.. ليس بالمعنى الذى يسبق إلى الذهن. كلا.. ولكنى انظر إلى غد فأراك زوجة صادق.. وأراك راضية ناعمة قريرة العين.. وأرانى فرحًا بك وبسعادتك مغتبطًا بأنى يسرتها لك، وأعفيتك من مشقات التخبط حتى تناليها فيكون هذا حينئذ وداعا.. توديعًا لعهدنا الخاص».

فوقفت وقالت: «لست أصدق.. كلا، لا أصدق.. ما لك تقذفنى هكذا؟ ألا تمهلنى حتى أتدبر؟ إن رأسى يدور وأعصابى كالخيوط التى اختلطت وتعقدت، ولولا أنك أنت لما أمكن أن يحدث لى ذلك».

قال: «وهذا أول يوم أراك فيه غير دائمة الابتسام».

قالت: «هذا فعلك».

قال: «تبسمى.. تبسمى.. اَه، هذا أحسن.. والاَن تعالى نأكل لقمة فإنى أتضور».

وكانا فى الجيزة فمضى بها إلى مطعم على النيل وطلب لها ولنفسه حمامًا مشويًا وزجاجة من البيرة، صب لها قليلاً فى كوب وقال: «هذا نخب سعادتك»

قالت وهى ترفع الكوب: «نعم، ولكن معك.. لماذا تريد أن تحرمنى سعادتى هذه؟ إنى قانعة بها ولا أتطلع إلى سواها».

قال: «ستتطلعين حين تعرفين نفسك».

قالت: «لا فائدة.. إنك عنيد.. وليس هذا عهدى بك، ولكنى لا أدرى ماذا جرى لك.. ولا أرى لى حيلة فيحسن أن أقصر.. ولكنى واثقة أنك ستعود فى الأسبوع الآتى كما كنت».

قالى: «وأنا واثق أنك ستهتدين إلى نفسك هذا الأسبوع».

فقالت: «كيف يمكن؟ ألم أقل لك؟»

قال: «نعم. ولكنك لم تقولى غير ما أعرف.. وسترين أنى أعرف بك من نفسك».

فأمسكت.

ولما هما بالافتراق فى يومهما دنت منه، وقالت: «إنك لم تقبلنى اليوم».

قال: «أقول لك الحق إنى أشعر أن ليس لى هذا الحق».

فلم تسؤها قسوته وقالت: «ولكنه حقى أنا ولست أنزل عنه».

فضحك وقال: «لا يضيع حق وراءه مطالب ملحاح».

وقبلها قبلة من يحس أنه سيحرم مثلها. ولم يفتها هذا الطعم الجديد، ولكنها لم تقل شيئًا.

ولما عاد فى تلك الليلة إلى بيته قال لتحية: «هل تعرفين أن ميمى ستتزوج صادقًا قريبها؟»

فقالت: «متى؟ من قال؟ لماذا لم أعلم من قبل لأفكر فى هدية؟»

قال: «هو هو..! على مهلك.. إنى أنا الذى أقول ذلك.. وليس يعلمه سواى حتى ولا صادق».

قالت: «لست فاهمة».

قال: «ستفهمين.. وسترين.. كل شىء فى أوانه.. أتحسبين أن المرأة وحدها هى التى تحسن تدبير هذه الأمور؟»

فدهشت، وكادت ترتاب، وهمت بسؤال، ولكن وجهه طمأنها.

٥

ولكن الأمر لم يكن من السهولة بالمكان الذى يتصوره المرء من حديث إبراهيم مع صاحبته. فقد جمح به الخيال، فراح يتكلم كأنما كشف له عن الغيب. وكان امرأ تستغرقه اللحظة التى هو فيها ما دام فيها، ويفتنه المعنى الذى يخطر له فيسترسل فيه ويصفيه، ويذهله سحر ذلك أو حلاوته عما عداه. وكان لهذا يبدو لعارفيه كأنه أكثر من إنسان واحد. فهو فى سيرته رجل عملى حازم سريع البت، يتناول الأمور من حيث هى أقرب ويمضى إلى غايته من أوجز الطرق وأسهلها وأسلسها. وإذا اعترضته الموانع تدبرها ووزنها وقاس قوتها إلى ما يتقاضاه تخطيها أو تذليلها من جهد. فإذا أيقن إنها هينة أو إذا رأى أن الأمر يستحق العناء، أقدم مصممًا وإلا تحول، غير أسف، إلى ما هو أولى وأرشد. فما كان أبغض إليه من بعثرة الجهد وتبديد القوة فى غير طائل، وتكلف ما هو عبث أو محال استحياء من أن يقال انهزم أو ضعف. ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، واحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. ولكنهم كثيرًا ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف تتحول عنده إلى فكرة، فهى غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة فى بدنه. وقد اعتاد أن يراجع نفسه ويدير عينه فى كل ما فى نفسه من خوالج. وما من عاطفة تستطيع أن تحتفظ بقوة العصف مع هذا «الأجترار» المتواصل. وكان إذا قرأ، أو كتب، يغيب عن الدنيا وما فيها، ومن فيها، ولا يعود له إحساس إلا بما يعالج، فيبدو للناظر رجل خيال لا يعرف الدنيا ولا تعنيه حقائق الحياة لفرط انصرافه عن ذلك كله، وتمام استيلاء ما هو فيه عليه. وكان يكره الضجات وينفر من الأصوات العالية. وكان خافت الصوت يحوج السامع إلى حسن الإصغاء وإرهاف الأذن، ولم يكن هذا عن ضعف، بل لأنه كان يسمع صوته يدوى فى جوانب رأسه من الباطن، فلا يزال يخفضه ويهوى بطبقته حتى تفتر هذه الأصداء الباطنية وينقطع إزعاجها. وأعانه على رياضة نفسه على خفوت الصوت، أنه يرى أن الحديث له لذته وإمتاعه، ولزومه أيضًا. ولكنه جهد معظمه ضائع فى الهواء وذاهب مع الرياح الأربع، فلا داعى لتكليف النفس فوق ما يقتضيه الأمر من جهد. وأحجى أن يدخر المرء كل ما يستطيع إدخاره من قوته، وأن لا ينفقه فى باطل لا خير فيه. وكان لهذا، على كونه ثرثارة، يطول صمته أحيانًا حتى ليثقل على جليسه. وكان إذا مرض أطبق فمه واستغنى بالإشارة عن اللسان، وأبى أن يعوده أو يدخل عليه أحد، حتى لا يتكلف جهد الكلام أو الإصغاء، وليحتفظ بجهد نفسه كله لمغالبة الوعك. ومع ذلك كان يتفق وهو فى بيته ومع زوجته وبين ضيوفه أن يغيب عنهم جميعًا، وينطوى على نفسه فلا يعود يسمع ما يقال، أو يحفل ضجة الحديث فكأنه فى خلوة تامة، أو كأنه فى غيبوبة، لولا أن الوعى لم يفارقه. وكانت تحية تعرف فيه هذه القدرة — وما كان يسعها إلا أن تعرفها — وكانت ربما مازحت ضيوفها وراهنتهم على أن ليس فى وسع أكبر ضجة أن ترده إلى الدنيا إذا غاب بنفسه عنها. فكانت تفتح «الراديو» ولا تزال ترفع طبقة الصوت شيئًا فشيئًا، حتى يبلغ أقصى قوته وهو كأنه دمية، أو ليس من بنى الإنسان أو أصم أو مذهوب بسمعه، فيضحك الضيوف ويستغربون. ويبلغ من عجبهم ودهشتهم أن يخافتوا بحديثهم، حتى يصير همسًا، ويكون أبعث على تعجبهم أن الهمس يوقظه ويرده إليهم، كما ينام المرء وهو فى «القطار» على ضجته حتى إذا بلغ المحطة وسكنت الضوضاء استيقظ.

وراح إبراهيم بعد ذلك الحديث الذى ألح فيه على ميمى بأنها تحب صادقا وهى لا تدرى، يسأل نفسه، على عادته فى مراجعتها، ألا يمكن أن تكون فراسته قد خانته؟ ولماذا لج فى قوله لها إنها تحب صادقا؟ أتراه اندفع، بقوة شعوره بالرضى الجديد بتحية وعنها؟ أتراه يريد أن يخرج من ورطة علاقته بميمى؟ ولكن هل هذه ورطة؟ إنها صداقة أفاد منها متعة لا تنسى ولا تستقل. ولكن الأمر لم يبلغ حد التورط فى شىء، وقد سقاها ما يشبه كئوسًا من خمر الحب، ولكنها فى رأيه خمر لها نشوة ولا شك. غير أنها لا تشتد لها سورة، ولا يأخذ فى شاربها دبيبها، ولا يعنف به تمشيها. غير أنه من يدرى؟ إن القليل الهين فى ظنه قد يكون كثيرًا فى إحساس ميمى. أليست قد قالت له إنها تحبه؟ ولقد أمسكت وصدت نفسها عن إتمام الجملة. ولكن الجملة الناقصة كانت أفصح وأقوى. وما ردت لسانها إلا لعلمها أنه يستثقل دوران اللسان بألفاظ الحب، ويستهجن اللغط به ويؤثر حقيقته على وصفه، أو لعلها خافت أن لا يصدقها. فقد قال لها مرارًا إنه لا يصدق أن امرأة يمكن أن تحبه لما يعرف من النقص فى نفسه، والقصور عما يجعل المرء جديرًا بالحب، وأنه من أجل هذا يؤمن بالصداقة ولا يؤمن بالحب. ولكن من يدرى مع ذلك؟ إن هؤلاء النساء أمرهن عجيب والذى يستطيع أن يعرفهن ويفهمهن على حقيقتهن، لم يخلق بعد. ولقد قيل إن المرأة خلقت من أحد أضلاع الرجل. فليكن … فما يدل هذا إلا على أنها قريبة منه، ولكن خلقها غير خلقه وبدنها غير بدنه. واختلاف التكوين يؤدى إلى اختلاف الوظائف فاختلاف أساليب التفكير والإحساس.. ولكن ماذا يكون إذا صح أن ميمى تحبه؟ هل يتفق الحب والقناعة وانعدام الغيرة؟ إن ميمى قانعة راضية لا تطمع فى غير ما هى فيه ولا تتطلع إلى خلافه أو مزيد عليه، ولا تبدو عليها رغبة فى الاستئثار به، أو غيرة من امرأة أخرى، أو امتعاض من الحظ الأوفر المذخور لتحية من قلبه وحياته. بل إنه لينزل تحية منزلة القداسة ويجعلها فوق أن يجرى حديث عنها بينهما، أو بينه وبين إنسان آخر — رجلاً كان أو امرأة — ومع ذلك لا يثقل عليها أنه يضعها فى هذا المحل الأدنى، وأنه يرفع تحية هذا المقام الكريم الذى لا يتسامى إليه اللحظ. فأى حب يكون هذا الذى تحبه ميمى، إذا كانت تحبه؟ أتراه يمكن أن يكون من ذلك الضرب الخيالى الذى يعز فى الحياة والذى تكون فيه التضحية بالذات، وإنكار النفس بل فناؤها، لذة ما بعدها لذة؟ وحدث نفسه أن هذا كلام فارغ، وأن الأقرب إلى العقل، والأرجح فى الظن، هو أن ميمى لا تنطوى له على أكثر من صداقة كريمة لا تبلغ درجة الحب المستغرق الاَخذ بالكليتين. ولكن هبها.. هبها تحبه؟ إنها إذن تكون مسكينة فما يستطيع أن ينيلها فوق ما تنال من وده إلا بخيانة تحية. وهو لا ينوى ولا يستمرئ أن يخونها، ولا موجب لأن يعنى نفسه بهذا. ولكل شىء أوانه، ولكنه مع ذلك لم يسترح، ولم يكف عن تقليب الأمر على كل وجه.

ولم تكن ميمى أقل منه حيرة، وقد عادت بعد هذا اللقاء الأخير، وهى تحس كأنها تمشى على رأسها. فقد باغتها إبراهيم وألح عليها ولم يترفق بها. فكانت كالسابح الذى فاجأته موجة عظيمة، وغمرته ودفعته، فهمه أن يرفع رأسه فوق الماء ليتنفس وينظر أين هو. وكانت قبل اليوم لا تفكر فى أمرها معه، ولا تحاول أن تتبين حالها ومكانها وموقفها. وكانت تذهب إلى لقائه، كما تذهب إلى مدرستها بطبيعة الحال، أو كما تستيقظ من النوم، لأن هذا هو الذى يكون ولا يكون سواه، سواء أفكر أم لم يفكر فيه الإنسان. وكان التعليم ربما ثقل عليها أحيانًا، وشعرت بالزهادة فيه، والرغبة فى الانقطاع عنه، والقعود فى البيت والانصراف إلى شئونه. وكانت تحسن الطهو، وتدبير أمور المنزل، ولا تكف عن العمل فيه فى أيام البطالة، مؤثرة ذلك على الخروج إلا فى اليوم الذى تلقى فيه إبراهيم. فقد كانت تنفض يدها من كل شىء وتتخلى لموعدها معه. ولا تفعل ذلك وهى مضطربة، أو متطلعة، أو متلهفة، بل كأن هذا بعض عملها اليومى. وكان الذى تعرفه أمها، وناظرة مدرستها، وزميلاتها المعلمات، أنها فى ذلك اليوم المعين للقاء إبراهيم تذهب لإعطاء «درس خصوصى» لإحدى البنات فى بيتها. وكانت الناظرة تحمد لها حسن إقبالها على عملها وإخلاصها فيه، وعنايتها به، وندرة تخلفها، فأخلتها فى ذلك اليوم من العمل بعد الظهر، ورتبت لها جدول دروسها على نحو يتيسر لها معه أن تتغدى فى بيتها، ثم تذهب إلى «درسها». وكانت زميلاتها المعلمات ربما عابثنها مازحات وسألنها عن هذا الدرس العجيب الذى استمر سنتين، ولم يختلف موعده مرة واحدة؟ ولكنهن كن يرين جدها واحتشامها، وعدم اختلاف حالها عن المعهود من إشراق ديباجة الوجه، وافترار الثغر، وحسن الأدب، وسكينة النفس، فلا يخالجهن شك، ولا يستربن. وقد ائتمرن بها مرة مع الناظرة، وأوهمنها أن إحدى زميلاتهن مرضت فجأة، وأن عملها بعد الظهر لابد من توزيعه على الباقيات الخاليات وهى فى جملتهن. وكان ظنهن أنها ستمتعض أو تعتذر، ولكنها تقبلت «الحصة» الإضافية الموهومة بابتسام، وزادت فسألت عن عنوان المعلمة لتعودها، فارتبكن ثم أنبأنها بالحقيقة، فلم يبد عليها أن إعفاءها من هذا التكليف أدخل على نفسها سرورًا خاصًا. وكان الذى سهل الأمر على ميمى أن هذا التكليف لا يؤخرها عن موعدها، وإن كان يحرمها الغداء فى بيتها، وليس هذا الحرمان بالذى يشق احتماله. ولكن زميلاتها ما كن يعرفن هذا، ولا كن يدرين أنها إنما تحرص على الخروج قبلهن، لتلقى إبراهيم وهى فى أمان من عيونهن وفضولهن. فقد تحب إحداهن أن تصحبها، أو تسايرها، فلا تأمن حينئذ أن تطلع على سرها ولو اتفاقًا ومصادفة.

ولو سئلت ميمى عن المدرسة، وماذا يحببها إليها لقالت إنها تحب إحدى تلميذاتها، وهى فتاة فى الرابعة عشرة، دميمة معروقة، إلا أنها خفيفة الروح كبيرة القلب. وكانت هذه الفتاة شديدة التعلق بميمى — أبله ميمى، وكانت تهجم عليها وتقبلها كل صباح وعلى مرأى من التلميذات جميعًا. وكانت ميمى تكل إليها بعض عملها، وتستعين بها فى رسم الخرائط، وحمل الكراسات إلى خزانتها، أو درجها، وتلقى إليها بمفاتيحها وتتركها معها. فهى تتولى عنها أمر الخزانة وما فيها من معطف أبيض ومثبنة، ومناديل وصابون وفوط وغير ذلك.

وكانت ميمى فخورة مزهوة بحب هذه الفتاة الصغيرة لها. وكانت ربما شعرت أنها تتطلع إلى لقاء إبراهيم فى موعده، كما تذهب إلى المدرسة كل يوم متطلعة إلى قبلة هذه الفتاة المحبة المخلصة. ولكن إبراهيم ليس بفتاة، ولا هو بصغير. اذا كانت لا تظهر لهفة على لقائه، ولا تبدو معه عليها اضطراب، فإنها تدرك — ولا تكتم نفسها — حرصها على ما تفيد منه، ورغبتها فيه. وكزهوها بالفتاة الصغيرة وحبها، زهوها بأن لها صديقًا وامقًا له منزلة إبراهيم وعلمه وأدبه وفضله وسنه وتجربته.

ولكن هل هى تحبه حب المرأة للرجل؟ ولو سئلت عن هذا قبل أن يدير لها رأسها بكلامه عن صادق، وإصراره على أنها تحبه وهى غير دارية لما كان جوابها إلا: «نعم، على التحقيق». ومازال الجواب: «نعم»، ولكنه لم يعد بعد هذه الزلزلة: «على التحقيق»، وشعرت أنها تستطيع أن تقول: «لا. على التحقيق»، وبلا أدنى شك إذا سئلت: «هل تستطيعين أن تستغنى عنه وتكفى عن لقائه؟» بل شعرت أنها لا تقول إلا؟ «لا. على التحقيق». وإذا سئلت: «هل تستطيعين إذا تزوجت أن تفارقيه وتبتى صلتك به؟» لا، بل هى تضمر إذا تزوجت صادقًا أو غيره — فما لهذا قيمة — أن تحافظ على صلتها به، كما هى الآن بكل ما تنطوى عليه.

وخطر لها أن لعل إبراهيم لا يود ذلك. فإن له لشذوذًا.. وغاب عنها أن من الشذوذ أن تود هى استمرار هذه الصلة بعد زواجها إذا كتب لها الزواج. أو لعله أراد بحديثه أن يمهد للفراق. ولكنها نفت هذا الخاطر، وأبت أن تطيل الوقوف عنده، وقالت لنفسها إن إبراهيم لا ينطوى على خبث أو غدر. وذكرت نفسها بأنه قال لها إنه لا يريد التخلص منها ولا يود معاناة ذلك، وأنه يضن بصداقتها أن يعتريها فتور أو ملال.

وحكاية صادق هذه التى طلع عليها إبراهيم بها فجأة، ما الرأى فيها؟ أيمكن أن يكون صحيحًا ما قاله من أنها تحبه وهى لا تدرى؟ وأضحكها أنها يمكن أن تكون عاشقة غير دارية. وهزت رأسها منكرة ذلك. وودت لو استطاعت أن تنتزع قلبها وتضعه أمامها وتعكف عليه فاحصة منقبة مستقصية. وقالت لنفسها إن صادقًا قريبها، وإنها تحبه لهذا. ولكن حبها لقريب لا يمكن أن يشبه حب امرأة لرجل. وهو لا يخلو من مزايا وصفات تحببه إليها، ولكنه طائش وجموح، وعاطل، وخائب. ثم إنه أصغر منها، وهى أسن منه.. تكبره بسنتين، فهى أشبه بأخت كبيرة له. وقد جربت منه ما يفزع وينفر. فهل يمكن أن يكون صحيحًا قول إبراهيم إنه لو انتفى عامل الفزع لبان المستور؟ وهل صحيح قوله إن النفس فى حالة الفزع تكون شبيهة بالماء المضطرب، فلا يستطاع أن يُرى ما فى قاعه ما دام مربدًا ولكن ذلك يتسنى إذا سكن وصفا؟ ربما. ولكن كيف يتيسر ذلك؟ أترانى لو أقبل صادق الآن وهو ساكن وادع لا يثير مخاوفى بكلمة أو إشارة، أو نظرة أو حركة، أستطيع أن أتبين حقيقة هذا الشعور الذى يقول لى إبراهيم إنه مستور، تحجبه الخشية والرغبة الطبيعية فى الدفاع عن النفس؟

وملت هذا الحوار الذى لا يفيدها الاستقرار، وكانت بطبيعتها تؤثر الراحة وتنفر من الاضطراب، وتتقى بواعثه، وتهرب من المثيرات، فكفت وقالت لنفسها إن لها الساعة التى هى فيها، وإن المستقبل غيب، وسيتسع الوقت للتفكير فيه حين يجىء، بما يجىء به، وكل ما أعرفه الاَن أن إبراهيم صاحبى الذى أضن به على الدهر.

أما صادق …

ومطت بوزها.

٦

وكان إبراهيم يتطير من لا شىء، ومن كل شىء. وليست الطيرة فى الطباع، كما يزعم ابن الرومى، ولكنها إلا تكن فيها ليست مما يستغرب. ولعل مكافحتها أدل على معاناتها من الإقرار، فما يغالب المرء غير موجود، أو يصارع معدومًا. وإذا قيل إنه يطرد وهمًا، فالوهم حادث والشعور به حقيقى، وله أصل ينجم منه، وعلة تحدثه. ولم تكن طيرة إبراهيم عن ضعف فى العقل أو نقص فى صحة الإدراك؟ بل كانت بعض ما أورثته النوراستنيا، وتلف الأعصاب. وكان يعرف أن طيرته خرف وكان لهذا يكتمها. ومن ذلك أنه كان يكره أن يصبح على غير وجه «تحية» فإذا أصبح على غيره، ظل يومه متوجسًا غير منشرح الصدر، وكان يستثقل، ولا يهون عليه أن يوقظها ويزعجها فى البكرة المطلولة، فقد كان يبكر فى القيام، وينهض من فراشه — صيفًا وشتاء — حين يبدو الصبح بأصوات العصافير، فيكتفى بأن يذهب إلى سريرها — على أطراف أصابعه — ويتملى بالنظر إلى وجهها الصابح، وربما اتفق أن يكون وجهها للحائط، فيدور حول السرير ويشب، لينظر من فوق شباكه، ومن أجل هذا أقنعها بأن تجعل بين السرير والحائط مسافة شبرين، وزعم أن البقعة خاوية وأن للبيت حديقة فهو لا يأمن أن تدب الحشرات إلى البيت. وإنما فعل ذلك ليتسنى له أن يدخل بين السرير والحائط وينظر إلى وجهها حين تكون مائلة أو نائمة على جنبها الأيسر. وكان لهذا أيضًا يغريها بالنوم على الجنب الأيمن ويزينه لها، ويقول لها، إنه أصح وأرفق بالقلب حتى ولو كانت المعدة فارغة. وكان إذا تعذر أن يراها قبل أن يرى سواها، قصد إلى المرآة وابتسم لنفسه فى صقالها، وقال: «هذا على كل حال وجهى، ولا حيلة فيه، وهو على دمامته أحب إلى من وجوه الناس». وكان يحب أن يرى الهلال — أول ما يراه — وفى يده قطع من النقود الفضية، فينظر إلى الهلال، ثم إليها، ويلثمها ويلمس بها جبينه. وإذا اتفق له ذلك عفوًا، وبغير تدبير سابق، كان أشرح لصدره وأبعث له على الاستبشار. على أنه مع ذلك كان لا يترك الأمر للمصادفة، فيحرص على إدخار بضع قطع فضية لرؤية الهلال، مؤثرًا ذلك على ما فيه من التكلف على رؤية الهلال على وجوه الناس. وكان ينفر من الألوان القاتمة عامة، واللون الأسود خاصة، فينقبض صدره منها ويضيق، ولكنه على هذا، لا يلبس من الثياب ما كان لونه زاهيًا ويفضل ما هو أقرب إلى الحشمة، وأشبه بالوقار. حتى كسوة الكراسى والمقاعد آثر فيها البساطة والخلو من الزينة، وما هو أدعى إلى راحة العين وأبعث على سكينة النفس. حتى الضوء مال فيه إلى الخفوت ونفر من السطوع. وكانت عادته أن ينزع كل صباح ورقة من التقويم المعلق، فإذا أقبل اليوم الثالث عشر من الشهر، زعم أنه سها، وترك ورقة اليوم الثانى عشر، ونزع فى صباح اليوم التالى ورقتين معًا، وطواهما وألقاهما فى سلة دون أن ينظر فيهما لشدة اشمئزازه من رقم ١٣. وكان أبغض شىء إليه أن يفجأه صياح أو صراخ، أو صوت باك أو باكية، أو جنازة أو تابوت، ولو كان فارغًا، وما يجرى هذا المجرى. ومن تطيره أنه أبى أن يقتنى أثرًا فرعونيًا، أو ما هو على غراره فى الصنعة. وكان يفزع من الثعابين والحشرات والهوام بأنواعها، وقد أهدى إليه أحد أصحابه مرة، منشة أو مذبة من صنعة أسيوط وعصا رأسها على هيئة الثعبان فاحتفظ بالمنشة لأنها لا صورة فيها، ودق رأس العصا حتى طحنها، وأبى أن يهديها إلى أحد، أو حتى أن يتركها وينساها فى مكان ما — فى الترام أو فى مقهى أو غير ذلك — لئلا يحيق شرها بأحد.

ولم تكن تحية تعرف أنه يتطير. فقد كانت طيرته تخجله، فهو يخفيها، ولا يعدم ما يفسر لها به، ما يبدو من الشذوذ فى سلوكه. وكان يقول لها فى تعليل ذلك إنه لا ضابط هناك ولا قاعدة للمزاج الخاص، والأمر فيما يرتاح إليه الإنسان أو ينفر منه من لون أو شىء لا يرجع إلى العقل، بل إلى الإحساس أى إلى الأعصاب، والأعصاب شىء معقد وبعض حالها موروث، والبعض اكتساب فلا تعجبى، ولكن اعذرى. وكل امرئ مهما جل شأنه، وكبر عقله، وعظم علمه، لا يسلم حاله مما يفتقر فيه إلى تمهيد العذر والصفح، والإغضاء، والتسامح. وفى كل امرئ مواطن ضعف تذكر بأنه — على علو قدره — ما زال من بنى الإنسان المخلوق من الطين الواهى أو الحمأ المسنون.. أى نعم. نحن من الطين، ففينا كل عيوبه وضعفه وهوانه أيضًا يا امرأتى العزيزة، فلا تنسى هذا، وكونى أبدًا منه على ذكر.

يقول هذا وأمثاله مازحًا، وعلى سبيل التهوين من الأمر واجتنابًا للصدق فى الإبانة، وهو فى قرارة نفسه يحس بما يسخر منه إحساسًا حقيقيًا يشيع فيه علوًا وسفلاً.. من فرعه إلى أخمص قدميه.

واستيقظ يومًا، فتنبه فجأة، ومازالت عينه مفتوحة كمغمضة، إلى أن هذا هو الثالث عشر من الشهر، فاستعاذ بالله وأطبق جفونه، وانقلب على جنبه وأدار وجهه إلى الحائط وود لو ينام إلى صباح اليوم التالى. ثم قال لنفسه وهو يتكلف البشر: «لا حيلة لى أعرفها لأختزل بها هذا النهار الذى لن يكون فيما أعتقد إلا ذميمًا». وكانت عادته — ودأبه — أن يتوقع الذى هو أسوأ، فإذا نجا، أو كان ما هو أخف سوءًا وأهون على العموم، اغتبط، وتشهد.

ونهض متثاقلاً، ومشى على أطراف أصابعه إلى سرير تحية، فألقاها على جنبها وذراعها على خدها، فهو لا يكاد يرى سوى أرنبة أنفها. فقال لنفسه وهو يتنهد مستسلمًا لقضاء الحظ فيه: «لاعجب فإنه اليوم المنحوس من كل شهر، وأول نحوسه أن أحتاج إلى النظر إلى وجهى فى المرآة …». وتذكر قول الحطيئة «فقبح من وجه، وقبح حامله»، وساءه أن يذكر هذا الشطر من شعر ذلك الشاعر السليط اللسان، وتساءل لماذا لم يذكر إلا هذه اللعنة على الريق؟ أليس فى شعر العرب أجمعين، وفى شعر الغربيين قاطبة ما كان يمكن أن يطفو إلى السطح غير هذا الكلام الثقيل؟

وأسلم أمره إلى الله. وقال لن أوقظ الخادمة. وصب الماء فى إبريق للشاى ليغليه. فلما غلى الماء، أنزله عن النار وكشف الغطاء ليلقى بالشاى فلسعه، فقال: هذا جزاء من يصبح على هذا الوجه، وأهون به إذا اقتصر الأمر عليه. وخطر له أن يلزم داره يومه، فدار فى نفسه قول القائل:

راح يبغى نجوة
من هلاك فهلك
والمنايا رصد
للفتى حيث سلك

فانقبض صدره. وأحس أن هذا نذير، وحمل الأبريق على الصينية، وحاول والصينية على كفه أن يفتح الخزانة ويتناول الفنجان، فوقعت الصينية بما عليها على الأرض، وكانت لها ضجة أيقظت تحية، ولم يصبه من اندلاق الماء المغلى سوء.

وأقبلت تحية تسأل: «ماذا جرى؟ لماذا لم توقظنى أو توقظ الخادمة؟»

فترك المطبخ وهو يقول: «لا تصنعى شيئًا.. لا تصنعى شيئًا.. فما أظن إلا أن كل ما أتناول فى يومى سيقف فى حلقى ويخنقنى».

فلحقت به تحية وقالت: «مالك؟ إنك مضطرب.. اقعد هنا (وأدنت منه كرسيًا وثيرًا) سأعد لك بيدى أنا..».

فقاطعها وهو ينحط على الكرسى: «لا لا لا.. قلت لك لاتصنعى شيئًا.. كل ما أريد هو الراحة».

قالت: «ألم ترتح فى نومك؟ مالك؟»

قال: «مالى؟ أوه لا شىء. كان النوم مريحًا.. لا حلم فيه، ولكن انظرى بماذا يجىء الصباح الجديد؟ أباريق مقلوبة.. وأصابع ملسوعة.. ومن يدرى ماذا يخبئ هذا النهار البديع أيضًا؟ سنرى».

قالت: «هذه غلطتك.. لماذا تتكلف ما لا تحسن؟ هذا عملنا نحن. ونحن هنا لخدمتك.. لا بأس. أرنى أصابعك..».

ومالت عليه، فابتسم لها، وقال: «لا شىء بها.. كانت اللسعة مؤلمة فى وقتها، ولكنها لم تزد على ذلك.. صحيح».

وصنعت له الشاى، وجلست قبالته تشاربه، وتحادثه، وتسرى عنه. وكانت تعرف أنها تستطيع أن تلهيه عما يثيره أو يؤلمه، أو يخامره، إذا استطاعت أن تجره إلى حوار تستثير فيه عقله، وتغريه بالتفلسف. وقالت تستدرجه: «هذا يثبت أنكم معشر الرجال أطفال … تزعمون أنكم أنتم المجاهدون فى الحياة. ومع ذلك لا يحسن الواحد منكم أن يصنع فنجان شاى، أو يقلى أو يسلق بيضة. وتدعون أن النساء لا يصلحن إلا لشئون البيت.. وأنهن أداة للنسل ليس إلا.. يطبخن ويحملن ويلدن، ولا خير فيهن لغير ذلك … حسن. ولكن ماذا يحسن الرجل ولا تستطيع المرأة أن تحسن مثله؟ هل يعجزها أن تجلس إلى مكتب فى ديوان وتدخن وتشرب القهوة، وتكتب بضع رسائل قصيرة؟ أو إذا تلقت من التعليم كفاية، أن تكتب مقالات كمقالاتك، أو إذا تعلمت الطب أو الهندسة أن تحذق ذلك كحذقكم؟ وانظر إلى براعتكم فى الهندسة، جعلتم البيوت كالمقابر.. لا شمس ولا هواء! وبراعتكم فى الطب.. كل طبكم تخمين وتجارب.. كالذى يمد يده ليتحسس فى الظلام. وأى امرأة متعلمة يعييها أن تتولى أمر الحساب فى المصارف؟»

فأقبل عليها يجادلها، ونسى ما كان، وتلهى عن طيرته. ولما نهض انحنى عليها وقبلها وقال وهو يعتدل: «يا امرأة ماذا عسانى كنت أصنع لولاك؟»

فقالت وهى تضحك: «كنت تكسر كل يوم ما فى بيتك من أطباق وفناجين، وتخرج كل يوم، ولا هم لك إلا أن تشترى جديدًا سليمًا بدلاً من المكسور».

ثم دنت منه حتى لصقت به، وأرخت جفونها وسألته جادة، وأصابعها تعبث بزرار المنامة (البيجامة): «صحيح؟»

فلم يجبها بكلام، وضمها إلى صدره، وقبلها قبلة طويلة حارة.

وكان العصر موعده مع ميمى، على باب المسجد كالعادة فسألها: «أين نذهب اليوم؟» ولم يكن ينتظر رأيها، ولكن كانت عادته أن يجاملها بالسؤال، وعزمه موطن على ما يفعل، فأمالت إليه وجهها وتبسمت، وهزت كتفيها، هزة خفيفة، فقال: «حسن، إذن فإلى المعادى» كأنما كان هذا ما اقترحت.

قالت: «ما هذا الإسراف؟»

قال: «إسراف؟ أمن الإسراف أن نمشى على الأقدام إلى محطة باب اللوق ونركب القطار ذهابًا وإيابًا ببضعة قروش؟»

فرفعت حاجبيها وهو تبتسم له، كأنما تقول: «لا بأس، لقد خفت أن تستأجر تاكسى لهذا المشوار الطويل».

وسألها فجأة: «هل رأيت صادقًا فى الأيام الأخيرة؟»

فالتفتت إليه، واجهته وقالت: «ألا يمكن أن تعفينى من ذكره؟» قال معتذرًا: «إنما أردت أن أقول شيئًا، وكان هذا أول ما خطر لى».

قالت: «ولماذا لا يخطر لك سواه؟» وابتسمت وهى تقول: «أهذا من الغيرة؟»

وكان يسرها أن يقول: «نعم»، ولكنه قال: «لا.. ليس هذا من الغيرة.. لا أظن.. ثم إنى منصف، ومن شيمتى إنصاف الناس حتى من نفسى، لست أفاخر، ولكنها الحقيقة. ويخيل إلى أحيانًا أن هذا ليس إنصافًا وإنما هو بلادة، على كل حال أريد أن أقول إن له فيك من الحق أكثر مما لى وإنه أولى بك».

قالت بفتور: «لقد سمعت هذا من قبل».

قال: «لا تعجلى.. فما أريد أن أعود إلى ذلك الحديث.. كلا.. ولكنك تسألين فأجيب».

قالت: «سألتك عن شىء فأجبت عن خلافه».

قال: «لا.. ليس عن خلافه. فما يمكن أن تكون الغيرة من لا شىء والشىء هنا هو صادق. فما ذنبى؟ كونى منصفة».

قالت: «دع ذكره بالله فإنه لا يطيب الآن».

وبعد خطوات قالت: «هل تعرف؟ لقد زارنا البارحة … وبقى معنا إلى العشاء وكان ظريفًا لطيفًا، ووديعًا، هادئًا. ولكن مشيته كمشية الثعلب … مشية مريبة مقلقة فلا تحس به إلا وهو أمامك. كأنما خرج من جوف الأرض، ثم إذا به قد صار فِى غرفة أخرى أو فى المطبخ أو الدهليز. ويخيل إلى، وأنا أراه ينظر إلى، أو يمشى أمامى، كأنه لابد أن يخطف أو يسرق منى شيئًا، وأنى لن أشعر بما فقدت إلا فيما بعد، وهذا هو الذى يخيفنى … شعورى بأنى معه لست فى أمان … وهو الوحيد الذى يخامرنى منه هذا الشعور … أنا معك مثلاً لا أخاف ولا أحذر …».

والتفتت إليه وقالت برقة: «قل لى … هل تشعر أنى حرمتك شيئًا تريده أو أبيت عليك أمرًا لك رغبة فيه …».

فتناول ذراعها وقال: «أنت أكرم من ذلك … ثم إنك أعرف بى من أن تحتاجى إلى الحذر، أو تخافى عاقبة الطمع».

قالت: «اصدقنى».

قال: «سأصدقك … نعم رغبت فى الكثير … وزهدت فيه، أو قنعت بما دونه أو رضت نفسى على القناعة، لا خوفًا من ضنك، بل خوفًا عليك من نفسك. والإنسان طماع يا ميمى، ولا نهاية لما يريد، أو آخر لما يتطلع إليه ويشتهيه. وما يكف عن الرغبة إلا حين تنقطع أنفاسه ويملأ تراب الأرض فمه. ولكن هناك يا ميمى ما هو أجل وأمتع أيضًا من إدراك المآرب. هناك لذة القدرة على ضبط النفس، والاكتفاء بما يفيد السعادة، وكبح النفس عن الإسراف والشطط بغير موجب. هذا الإدراك الصحيح الدقيق لقيمة ما ينال المرء بالقناعة، وللقيمة الحقيقية لما يشتهى وما تلج به الرغبة فيه، إذا ناله … هذا الوزن الدقيق لهذه الأمور هو الذى يساعد على كبح النفس بلا أسف أو شعور بخسارة».

قالت ضاحكة: «هذا دأبك … تتفلسف دائمًا».

فسألها: «إذن أصدقينى أنت … هل أنت قانعة؟»

فأطرقت وهى سائرة. وتركت لحظات تمر قبل أن تقول: «لا أدرى.. هذه أول مرة أُلقى فيها هذا السؤال على.. من نفسى أو منك.. لم أسمعه منك على ما أذكر، ولم أوجهه إلى نفسى.. وأقول الحق أنى مترددة..».

قال: «التردد معناه أن القناعة غير حاصلة».

قالت: «إنما أريد أن أقول أنى لم أفكر فى الأمر من قبل. ولكن سؤالك يثير فى نفسى خواطر وصورًا شتى. وهذا ذنبك … لماذا سألتنى؟ لماذا تغرى عينى بالامتداد إلى ما بعد الحاضر والواقع؟»

قال: «لا لا.. ليس هذا فعل السؤال.. لا تجهلى..».

قالت: «كيف؟ ألست أنت الذى تفتح لى آفاقًا جديدة من النظر والرغبة كنت مصروفة عنها؟»

قال: «ليس السؤال هو الذى فعل ذلك، وإنما هو فعل ما استيقظ فى نفسك حين دار فيها الوسواس الجديد.. أن لعلك تحبين صادقًا.. وهل أنت تحبينه أو لا تحبينه.. وهل قسم لك الزواج منه أو لم يقسم.. وهل ستتزوجين أو لا تتزوجين.. هذه الخواطر تبدو فى ظاهرها مجرد أسئلة.. ويبدو أن الغرض منها الاستبانة أو الاستشفاف أو الاستجلاء، ولكنها تنطوى على أكثر من ذلك، لأن كل سؤال مقترن فى الخيال بصورة.. بل بصور.. صور شتى للحياة كما هى فى حاضرها، وللحياة كما يمكن، أو يُرجى، أو يُخشى، أن تكون فى الغد القريب أو البعيد. وهذه الصور تكون فى أول الأمر غامضة ملتاثة، ثم تتضح شيئًا فشيئًا، وتتجسد، وتتخذ أشكالاً تكاد تُلمس وتُحس. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل تشرع الصور التى تتمثل للخيال وتزداد جلاء وتجسدًا على الأيام، ومع طول مناجاة النفس، أقول تشرع فى الإيحاء إلى النفس … فتحرك إحساس الإنسان، وتثير رغبته وتبعث ما كان كامنًا، وتوقظ ما كان راقدًا، وتزيد ما لا ينقصه الابتعاثُ، قوةً. ومن هنا تضعف وتقل القناعة بالحاصل الموجود».

وأمسك، وسارا خطوات وهما صامتان، وذراعه ما يزال فى ذراعها. ثم رفعت إليه وجهها، وقالت مرة أخرى — بابتسام يخفف من وقع التهكم، إذا كان فى عبارتها تهكم: «تتفلسف دائمًا.. أليس هذا دأبك؟»

قال مستغربًا: «أتفلسف؟ أعوذ بالله.. لماذا تعدين بسط الحقيقة أو مواجهتها فلسفة أو تكلفًا للفلسفة؟»

قالت: «لقد بلغنا المحطة.. خلنا فى الدرجة الثانية».

قال: «يا خبيثة، إنما تريدين أن تستريحى من فلسفتى.. بل سنركب فى الدرجة الأولى.. واطمئنى فإنى لا أستطيع الكلام مع ضجة القطار.. وحسبى أن تتكلمى أنت وأسمع.. جاء دورك.. تعالى».

وأخذ التذكرتين — ذهابًا وإيابًا — ومضى بها إلى مركبة الدرجة الأولى.

٧

ولكنه تكلم على طول الطريق من باب اللوق إلى المعادى. ذلك أنه ما كاد يقعد وميمى إلى جانبه، حتى دخل رجل طويل موخوط الشعر، وانحط على مقعد قريب منهما، فهمست ميمى فى أذنه: «هذا الرجل يتبعنى».

فسألها بصوت خفيض، ومن غير أن يحول وجهه إليها: «من هو؟» قالت: «هو الجار الذى حدثتك عنه».

وكانت قد حدثته مرة من قبل، أن بين أسرتها، وأسرة هذا الجار المراقب، معرفة وتزوارا. فحدث مرة أن لقيها وهى عائدة من المدرسة، فقال لها إنه يود أن تكون زوجته، فنهرته وزجرته، وقالت له: «إنك رجل متزوج ولك بنون وحفدة، وإن هذا الكلام منك لا يليق».

فلم يرعو. ولم يغن عنها ما كانت تؤثره معه من الإغلاظ فى القول، وقال لها مرة: «إذا كنت لا تريدين أن تكونى زوجة لى، فلتكونى صاحبتى». فأنذرته أنها ستقص الخبر بحذافيره على زوجته.

وزعم لها، فيما زعم، أنه زار إبراهيم وسأله عنها، وأن إبراهيم ذكرها بخير وأثنى له عليها. وكان هذا كذبًا صراحًا فما رأى إبراهيم وجهه من قبل.

ودعا إبراهيم ربه وهو يخالس الرجل النظر: «اللهم ارزقنى الدم البارد، وآتنى السكينة والحلم والرزانة».

واعتزم أمرًا. فالتفت إلى الرجل وقال له: «ألا تتفضل معنا؟ إن بيننا معرفة وإن كنت لا تدرى..».

فدهش الرجل، ولكنه تحول إلى مقعد أمامهما.

فقال إبراهيم: «أظنك تعرف الاَنسة ميمى.. فقد حدثتنى عنك وقصت على ما كان منك.. كل شىء.. ولعلك كنت متتبعنا طول الطريق، وها أنت ذا قد ركبت القطار معنا لترى إلى أين هى ذاهبة».

فتلعثم الرجل واضطرب لهذه المفاجأة، ثم وجد لسانه، فزعم أن له بأبيها معرفة، وأن أباها كان أوصاه بها، وأنه استغرب أن تذهب فى طريق حلوان، فما لها أهل أو معارف على هذا الطريق.

فشد عليه إبراهيم ولم يرحمه، ولم يتق أن يسمع الناس، وقال: «وأوصاك أبوها أن تعرض عليها الزواج بغير علمه؟ وأوصاك أن تقترح عليها أن تكون خليلة لك؟»

فوقف بعد ذلك كل كلام فى حلق الرجل. ومضى إبراهيم بصوت هادئ متزن وبابتسامة متكلفة يقول: «ما دمت تبغى المعرفة، فابق معنا لترى بعينك إلى أين هى ذاهبة، وسترى وتطمئن إن شاء الله، وتكتب إلى أبيها بما يؤيد حسن الظن بك».

ولما بلغوا المعادى، وقف الرجل على الرصيف يعتذر ويطلب الصفح. ثم انتقل إلى الرصيف الآخر ليعود من حيث جاء.

ولم ينقض عجب إبراهيم من جرأة هذا الرجل على مطاردة ميمى، ولا عجب ميمى من هدوء إبراهيم، وأخذه بتلابيب الرجل على هذا النحو.

وكانت وقدة الحر شديدة فمالا إلى روضة مقهى على النيل، وانحدرا إلى شاطئه واتخذا مكانهما فى ظل شجرة وارفة. ونضا إبراهيم سترته، وحل رباط رقبته، وألقاهما على كرسى، واضطجع وهو يقول: «أكثر ما نلبس، للزينة. ولا تكاد تحتمل الزينة، مهما خفت، فى هذا الحر. وأحسب أن لو كان هذا أول لقاء لنا، لكان الأرجح أن أتشدد وأتكلف الصبر على ما أعانى من الضيق والاختناق، رغبة فى حسن رأيك. ولكنك قدمت يا فتاتى، وعرفتنى معرفتى، فلا حاجة بى معك إلى معونة الثياب الأنيقة والهندام الجميل».

فضحكت وقالت: «ليتنى أستطيع أن أصنع كما تصنع، ولكن ما على بدنى هو أقل ما ينبغى للستر فلا حيلة لى إلا الصبر».

قال: «مهلاً. مهلاً. لو علمت امرأة أن التجرد أفتن، لما عبأت شيئًا بالستر والحشمة، والحياء والخفر. لا يا فتاتى، لا تغالطى نفسك فى الحقائق. فليس مطلب المرأة الستر، بل الفتنة والإغراء. ولا تحسبى أن للتقاليد والعادات والآداب أثرًا فى هذا. فإنها نتيجة لا سبب. وأنت تتخذين الثياب، وتُبدين بها شيئًا وتُخفين أشياء، لا لأن الآداب والعادات والتقاليد تقضى بذلك، بل لأن المرأة أدركت بفطرتها الذكية أن الثياب زينة، فوق أنها نافعة، وأنها تضاعف جمالها، وتزيد سحرها، وتقوى عوامل الأغراء، ولو أن الأية انقلبت، والقضية انعكست، وكان العرى أجمل، لكانت الآداب والتقاليد والعادات تستنكر الثياب، وتستهجن لبسها، وتقضى بنبذها. أى نعم. المرأة هى التى تقرر لنا آدابنا وعاداتنا لا الرجل».

قالت: «ما أقوى هذه المرأة.. وهى مع ذلك مغلوبة على أمرها. ومازال الرجل هو القوام عليها».

قال: «نعم هو كذلك. وإنها لضعيفة إذا قيست إلى الرجل، ولكن لها قوتين لا يستخف بهما إلا أبله؟ قوة الحيلة التى أنماها ضعفها البدنى. وقوة الجمال الذى ضمنته «الحياة» واختزلت فيه كل قوتها. فأين وجه العجب إذا كانت المرأة تصوغ للرجل دنياه؟»

وكانا قد طلبا شايًا له وعصير ليمون مثلوجًا لها، فأقبل الخادم بصينية واسعة فضية اللمعان، وأقبلا عليها يتناولان مما فوقها. وأدنت ميمى قدح الليمون من شفتيها، ثم ردته والتفتت إليه وقالت: «فى نفسى سؤال».

قال: «هاتيه».

قالت: «هل يثقل عليك أن أحشر نفسى فيما لا يعنينى؟»

قال: «إنه لا يعنينى الآن إلا سرورى بوجودك معى، فى هذه البقعة الجميلة، والنيل يجرى تحت أقدامنا والشجرة الوريقة تظللنا».

قالت: «ألم يخطر لك قط أنك مسرف مبذر؟ إن الباعث لى على..».

فقال مقاطعًا: «دعى البواعث.. نعم أنا كما قلت، مسرف مبذر. ولكنى لم أفكر فى هذا، لأنى خلقت هكذا، كما لا يفكر الإنسان كيف يمشى أو لماذا يمشى».

قالت: «صحيح أنك كريم سخى اليد ولكن».

فعاد إلى مقاطعتها وقال: «لا تغلطى.. ليس هذا كرمًا، ولا هو من الكرم فى شىء، وإنما هو التبذير ليس إلا، والفرق كبير بين الأمرين. ولست أجهل قيمة المال، ولست أدعى أنى أحتقره، وأنى لأعرف أن لو كان لى مال لكان لى شأن اَخر فى الدنيا بين الناس، تصورى مثلاً ما كان خليقًا أن يكون لى من مقام، وما كنت جديرًا أن أبلغه من المراكز الملحوظة لو كنت ذا مال. وكنت أستطيع مثلاً أن أدعو إلى بيتى هؤلاء وأولئك من أصحاب المناصب العالية والجاه العريض، والنفوذ العظيم، وأن أدعى إلى بيوتهم — أو قصورهم — وأن أكون معهم كأنى من أندادهم وأقرانهم، أشهد معهم سباق الخيل وأغشى ما يغشون من أندية وغيرها وأقامر مع من يقامرون، من يدرى حينئذ ماذا كنت خليقًا أن أكون؟ أعرف كل هذا، ولا يخفى على شىء منه، ولكنى لا أتحسر على فوته، ولا يحزننى عجزى عنه لأنه ليس مطلبى فى الحياة، أو همى من دنياى، ولست أشتهيه، أو أرغب فيه، أو أحس بما يغرينى به. وقد بلغت حيث أريد بفقرى، واستطعت — بذراعى، وبغير مدد من المال والناس — أن أكون حيث أنا، ولست بالقانع، ولكن ما أطمع فيه لا يحوجنى إلى مال، ووسيلتى إليه ما أرجو أن يكون هنا».

ووضع أصبعه على جبينه.

فقالت: «لست أعنى هذا. ولكنى أعنى أنك لا تدخر شيئًا لشيخوختك».

قال: «اليوم الذى أعجز فيه عن كسب رزقى بعرق جبينى هو اليوم الذى لن أحتاج بعده إلى مدخر. وليس لى ولد، وإذا كنت تشفقين على تحية فإن أباها بخير وهو يكفلها إذا طال عمره، وقد أفرد لها من ماله ما هو فوق الكفاية، فلماذا أضيق على نفسى وعليها، احتياطًا لمستقبل لا داعى للاحتياط له؟»

قالت: «ولكنك قد ترزق الولد».

قال: «صحيح، قد يحدث هذا، ولكنى أرى أنه يكون خيرًا لبنى أن يبدأوا حياتهم فقراء.. لا تستغربى. لقد كنت فى حياة أبى، وإذ أنا فى رخاء ورغد، تلميذًا بليدًا، خائبًا، فلما مات وحلت بنا الفاقة، ذهبت البلادة، وتعودتُ الجلد، واستفدت القدرة على معاناة الحياة، ومغالبة الصعاب، وخوض العباب. كلا، لست أوثر لأبنائى — لو كان لى أبناء — الترف واللين والطراوة، ولحسب كل ولد أن يكفل له والداه الكفاية من التعليم، وخير له بعد ذلك، أن يقذف به فى بحر الحياة المتلاطم».

قالت باسمة: «والفتاة؟»

قال: «والفتاة أيضًا، فإن المناعة لا تكتسب بين أربعة جدران، بل بالمعاناة والمكابدة، أم تخشين العاقبة على الفضيلة؟ — وضحك — إن فضيلة معظم فتياتنا هى فضيلة الجدران السميكة، ولهذا لا تكاد الفتاة تزايل ما يحيط بها من الجدران — المادية والمعنوية — حتى تضل، لأنها لا تستطيع، ولا تعرف، كيف تقاوم، كالذى يلبس ثيابًا كثيرة كثيفة، فهذه الثياب هى التى تقاوم وتحميه، ويكفى أيسر التعرض لإصابته بالمرض الذى يتقيه، وعلى خلاف ذلك من يعتاد التخفيف، فإن بدنه يحتاج إلى المقاومة فيتعودها ولا يضيره التعرض، كما يضير الذى يبالغ فى التوقى».

وكان وجهه إلى الماء، وهى جالسة بحيث ترى معظم المقهى، فقالت بلهجة أقرب إلى الخفوت: «لو كنت أسدل على وجهى نقابًا كثيفًا، لكان خيرًا لى الاَن على الأقل».

فلفته خفوت الصوت، واضطراب النبرة، وقال، وأمال وجهه إليها: «ماذا تعنين؟»

قالت: «صادق، ومعه فتاة».

قال: «آه … لم يكن هذا فى الحساب.. تبسمى له وادعيه».

ففعلت بجهد. وأقبل صادق يحمل على ذراعه فتاة بارعة الحسن، زاهية الثياب، وعلى رأسها قبعة كبيرة من الخوص. وحياهما إبراهيم كأنما كان على موعد معهما، ولكنه لم يبالغ فى الترحيب حتى لا يخرج إلى التكلف.

وسألته ميمى: «ماذا جاء بك إلى هنا؟»

قال: «لأن هذا المكان، فى مثل هذا الوقت، يكون أحلى من غيره. ففى وسعنا أن ندندن ببعض المنولوجات التى أعددتها للإذاعة. على فكرة.. هذه فتحية.. تلميذتى.. أو إحدى تلميذاتى.. أبرعهن جميعًا فى الحقيقة وأحلاهن صوتًا.. وهذا.. الأستاذ إبراهيم.. وميمى بنت خالتى.. حدثتك عنها كثيرًا. ألا تذكرين؟»

وقال بعضهم لبعض: «تشرفنا».

وقالت فتحية بصوت أجش، استغرب إبراهيم أن يصلح للغناء: «لماذا لم تعلم ميمى منولوجاتك؟»

فتبسمت ميمى متهكمة. وقال صادق: «نسيت أن أقول إنها معلمة. ولا يتسع وقتها لهذا، ولا يليق أيضًا بها».

فرفع إبراهيم حاجبيه متعجبًا لقلة ذوقه. وقالت ميمى: «المكان خالى تقريبًا إلا من الخدم.. وهم بعيدون.. فأسمعونا شيئًا».

فقالت فتحية: «لا. ليس هنا … إنى أستحى».

فقال إبراهيم: «سأغطى وجهى … أو — إذا كان هذا لا يكفى — سأسد أذنى».

وضحكوا. وقال صادق: «ليس هذا وقته».

وقالت ميمى: «ولكنكما جئتما لهذا. فهل وجودنا …».

قال: «نعم … وجودكما يغير كل شىء..». وضحك ثم قال: «لا داعى للعجلة فما استطعت إلى الآن إقناع محطة الإذاعة بقبول مونولوجاتى».

فقال إبراهيم: «إذا كانت فتحية تستحى، فأنت — ولا مؤاخذة — لا تستحى. فلماذا لا تسمعنا شيئًا، لنرى أيكما على حق، أنت أو المحطة؟»

فأبى كل الإباء. وقال إن ميمى تسخر منه، وتعد من السخافة أن يحاول أن يكون منولوجست. ولم تنف ميمى أنها تفعل ذلك، ولم تفارقها ابتسامتها، وكانت كأنها مطبوعة على شفتيها. ولم يفت إبراهيم هذا، وسره ما رأى وأفزعه أيضًا؟ سره أن يتبين أن جمودها هذا من الغيرة، حين رأت هذه الفتاة الجميلة وإن كانت قبيحة الصوت، على ذراع صادق. وأفزعه أن تغلبها الغيرة وتجنبها الحكمة. غير أنه رجا أن تظل — كعهده بها — متزنة الأعصاب، وإن كان لم يختبر متانة أعصابها فى موقف تعصف بها فيه عاطفة قوية. وحدث نفسه وهو ينظر إلى صادق أنه لا عجب إذا أحبته ميمى، وخشيته فى آن معًا، فإنه شاب قوى وسيم، ونظرته فاحصة نافذة، ومعارف وجهه كلها ناطقة بقوة العزم والجرأة، وفى خفة حركته وخبث نظرته ما يريب ويقلق ولا شك، ولكنه ليس على هذا بشرير. وإن كان ما عامله به أهله قد جعله ينطوى للناس على المقت والرغبة فى الأذى، وأغراه بالاندفاع والتهور دون الاعتدال أو محاولة اكتساب حسن الظن به وطيب الرأى فيه. وقال لنفسه وهو يدير هذه المعانى فى صدره إنه لم يخطئ حين حض ميمى على إيلائه الثقة وإيثار الحسنى معه، وتشجيعه، بدلاً من الزراية عليه.

وصفق، فجاء الخادم، وقال صادق: «إذا سمحت يا أستاذ فإنى أفضل أن أشرب قليلاً من البيرة».

فقال: «والله إنه لرأى، فإنها فى هذا الحر أوفق، فما قولك يا ميمى؟»

فالتفتت، وقد تنبهت على صوته، وسألته: «إيه؟»

فلم يعد السؤال، وقال للخادم: «زجاجتان من البيرة، وأربعة أقداح يا مولانا بسرعة».

فاعترضت ميمى، فقال: «هذه مناسبة طيبة.. أعنى اجتماعنا بصادق وفتحية فى هذا المكان الجميل».

واغتنم الفرصة، التفت إلى صادق وقال: «سمعت منك أنك تظن أن ميمى تسخر منك.. فاسمح لى أن أقول إنك لا تعرف ميمى إذا كنت تظن هذا.. إنها الوحيدة المعنية بأمرك ومستقبلك والراغبة فى أن تراك — كما تريد أن تكون — شيئًا مذكورًا. وهى لا ترغب فى هذا فقط بل تثق بك، ولا يخالجها شك فى أن لك مواهب عظيمة تستطيع أن تشق بها طريقك فى الحياة. وإذا كانت تكتمك هذا فلأنها امرأة، أعنى أنها تحبك، وتتعجل صلاحك، وتسخطها الحاجة إلى الصبر فتبدى خلاف ما تضمر. أليس كذلك يا ميمى؟»

فلم تدر ميمى ماذا تقول، واستغربت أن يحرجها على مسمع ومرأى من هذه الفتاة، وشعرت بموجة من الأشمئزاز، وكادت — على خلاف عادتها — تقطب لولا أن أنقذها الخادم، فقالت: «سأصب لكم البيرة، ولكنى أرجو أن تعفونى».

فأصر أن تشرب، وملأ لها كوبها، فأذعنت. وارتفعت الأكواب إلى الشفاه وحسا كل واحد حسوة، إلا ميمى، فقد راحت تعب فى الكوب حتى أتت على ما فيه، ثم حطته فارغًا إلا من الرغوة، وتنهدت كأنما انحط عن صدرها حجر.

فقال إبراهيم وهو يضحك: «لم أكن أعرف أنك سكيرة يا ميمى».

وألقى إليه صادق نظرة استفسار فقال: «حقيقة لا أعرفها تشرب شيئًا، وأخشى أن أكون قد أخطأت بإثقالى عليها بالإلحاح. ولكن لا بأس، فما فى البيرة ضير».

وكانت ميمى تسمع وكأن الأمر لا يعنيها، ولم يسعها إلا أن تتعجب — فى سرها — له مرة أخرى. لماذا كذب؟ وليست هذه شيمته، فقد شاربته غير مرة، ولم تكثر ولم تفرط، ولكنها شاربته البيرة والنبيذ ليس إلا. وغاظها منه أن بسلوكه هذا يرمى إلى ما لا تعرف أو تتبين، ونفت فيما بينها وبين نفسها أنه يريد أن يصقلها فى عين صادق، فإن صادقًا لا يصرفه عنها، بل قد يزيد إقباله عليها وطمعه فيها، أنها تشرب قليلاً من البيرة من حين إلى حين.

وخطر لها أن لعله يقول هذا لتسمعه فتحية، على حد قول المثل «وإياك أعنى يا جارة». وودت فى هذه اللحظة لو خلت دقائق — دقائق فقط — بإبراهيم، فتسأله رأيه فى صادق وفتحية. ومن أدراها أنه لا يعرف فتيات أخريات غير فتحية، يخرج معهن فى سيارته الفخمة إلى المتنزهات الخلوية ليدربهن على المشاركة فى إلقاء منولوجاته.. منولوجاته حقًا؟ أهذه وسيلته إلى الفتيات؟ لا عجب إذن إذا كان لم يبلغ سؤله منها هى، فما تعبأ شيئًا بمونولوجاته السخيفة، وإنها لتحتقرها، وتحتقره أيضَا. وهذا هو الفتى الذى يتعقبها، ويطاردها بحبه المزعوم ويطمع أن تجاوبه، وتبادله حبًا بحب. منولوجست.. يعوج طربوشه وفمه وساقيه ويروح يتحرك حركات مضحكة وينطق بهراء، أو يلبس جلابية حمراء مخططة، وعلى وسطه حزام من حبل وقدماه حافيتان، لأن المنولوج قد يقتضى هذا المنظر (البلدى) أو يلبس (طرطورًا) ويصبغ وجهه … هذا هو صادق.. فليقنع بفتحية وأمثالها.

ونهضت، وراحت تتمشى على الشاطئ بخطوات بطيئة، وهم صادق أن يتبعها، فرده إبراهيم، ورمى إليه نظرة فهمها صادق فهز رأسه وابتسم، وخف هو إليها، فلما صار إلى جانبها قال: «ليست هذه ميمى التى أعرفها».

قالت وهى تنظر إليه: «نعم ولا أنت الذى أعرفك».

قال: «أسمعينى رأيك الجديد فى العبد لله».

قالت: «لا تمزح … لماذا كذبت؟»

قال: «لأن ما تفعلينه وأنت معى وحدى، لا أرى من حقى أن أدع لسانى يثرثر ويلغط به».

قالت: «لم يسألك أحد حتى تحتاج إلى الكتمان».

قال: «سؤال الحال أبلغ يا فتاتى.. يراك تشربين البيرة.. بطبيعة الحال وبغير تردد، كأنما تفعلين ذلك منذ نعومة أظفارك فماذا يظن بك وبى؟»

قالت: «وماذا يعنينى من ظنه بى؟ بل ماذا يدعونى إلى كتمان علاقتى بك؟ ماذا يمنعنى أن أصارحه بهذا؟ ما شأنه هو؟ أى حق له على؟ وسأصارحه وأحسم هذا الأمر الذى طال».

قال: «هل ساءك منه أن معه هذه الفتاة؟ كونى أوسع صدرًا وأرحب أفقًا».

قالت: «ولماذا يسوءنى؟ وما شأنى إذا كان معه ألف فتاة؟ إنه حر وأنا أيضًا حرة».

فلم ير أن الموقف يسمح بطول الحديث وقال: «طبعًا. طبعًا. والآن أرينا هذه الابتسامة التى احتجبت عنا اليوم. أرينيها، وأرى صادقًا أيضًا، هاتى».

فأدركت مراده، وغالبت نفسها حتى استطاعت أن تبتسم.

فقال: «هذا أحسن.. ولا تبخلى على.. علينا جميعًا.. بحلاوتها وفتنتها حين نعود إليهما. أريد أن أرى ميمى — اليوم على الخصوص — كما أعرفها.. تمامًا».

فهزت له رأسها هزة خفيفة، وألقت إليه نظرة شكر. فقال وهو يعود بها: «والآن. من الاَن سنكون ضيوفك، فأذيقينا كرمك، واحتقبى شكرنا وشكر العبد لله خاصة، وثقى أنك ستحمدين ما أكلفك».

قالت: «هذا يقينى. وأنت تعرف ثقتى بك».

ورأى صادق بشرها، وتطلق وجهها، فتعجب لسلطان إبراهيم عليها، وود لو كان له مثله، وشعر بالغيرة تدب فى نفسه.

٨

وانحدرت الشمس. فخرجت الدنيا من الحر، وطاب الوقت، واعتدل الجو وطالت الجلسة على النهر، وانشرحت الصدور. ولم يعد إبراهيم يلمح ما كاد يعكر الصفو قبل ساعة. وسره من ميمى أنها قدرت على مغالبة نفسها وارتدت إلى السجاحة والبشاشة، وحسن الإيناس. وأعجبه من صادق أنه يتكلم بسهولة، ولا يبدو عليه تكلف، أو تحرز، كأنما لا يعنيه من ميمى شىء. أما فتحية فكانت معظم الوقت صامتة وكان هذا خير ما يمكن أن تصنع فى رأى إبراهيم، فقد كان يشعر، حين تتكلم، أن صوتها يجرح أذنه، أو يصك سمعه بمثل الحجارة.

وآن أن ينصرفوا. وكان صادق يود لو لبثوا ساعة أخرى، ولكن ميمى ألقت إليه نظرة رقيقة فيها من الأسف والتوسل والاعتذار معان، وقالت: «أنت تعرف خالتك»، فهز رأسه وهو مطرق، ثم التفت إلى إبراهيم وقال: «لا داعى لركوب القطار فإن معى السيارة. والطريق جميل».

فقال إبراهيم: «ونرمى فلوسنا؟» وأخرج من جيبه التذكرتين.

ووقفوا أمام السيارة. ودار إبراهيم حولها معجبًا بها، متمنيًا لو كان له مثلها، فعرض عليه صادق أن يتولى عنه قيادتها فأبى وقال: «لا يا سيدى، فإنى أخشى أن أتلفها، ثم إنى، إذا قدت هذه، لا أحسبنى أرضى بعدها عن سيارتى الحقيرة. فاصنع معروفًا ودعنى قانعًا بما أملك».

وخيل إلى صادق أنه يبالغ فى إعجابه بالسيارة، والغض من سيارته هو لأمر ما، فقال — لا يدرى لماذا —: «إنها سيارة الوالد المحترم، ولم أشترها أنا بمال لى».

ولم يسر ميمى أن تسمع عبارة (الوالد المحترم)، فقد أذكرتها بما كان من أمره معها فى طريق الإسكندرية، وهى تجربة لا تمحى ذكراها ولا تحمد، لشدة ما يختلط فيها الحلو بالمر، والأمل بالخوف، والوهم بالحقيقة.

وسمعت إبراهيم يقول، وهو يفتح الباب ويشير إليها أن تركب: «أحسب أن بلادنا هى الوحيدة التى يجتمع فيها هذا العدد الضخم من السيارات الفخمة من كل طراز أوروبى وأمريكى. أو لعل الأصح أن أقول بلادنا ونظائرها من البلدان التى لا تصنع السيارات، وإنما تقتنيها. ولا أعد هذا مظهر غنى، أو اَية رخاء، وانما هو عندى مظهر غفلة، أوآية تخلف. والمثل العامى يقول (رزق العبط على المجانين) ونحن الأمم المتخلفة فى ركب الحضارة العالمية، المجانين الذين تجد أوروبا وأمريكا رزقهما عندهم».

واتخذ صادق مقعد القيادة، وإلى يمينه تلميذته. واحتل إبراهيم وميمى المقعد الخلفى. ودارت السيارة، ومضت على مهل. وكان القمر فى ليلة السواء، والطريق على جانبيه الشجر، وجله وريق منتشر الأغصان، ملتبس بعضها ببعض فوق الرءوس، والقليل منه أمرد انجرد من الورق، والأرض دنانير رقاصة.

وكان صادق متمهلاً، ولكن إبراهيم مع ذلك لا يطمئن. وكان لا ينفك يدفع قدميه كأنما يحاول أن (يربط)، وتلك آفة من يحسنون قيادة السيارات حين يتولى غيرهم قيادها. وأكثر من يفعلون ذلك من ذوى المزاج العصبى. وكانت عين إبراهيم على الطريق لا تتحول عنه. وكان لا يفتأ يحرك رأسه يمنة ويسرة ليستبين فلم يكن باله، من أجل ذلك، إلى جارته. ولا كان يستطيع الكلام أو الإصغاء. بل ما كان ينعم بجمال الطريق وسحره فى هذه الليلة المقمرة الساجية لفرط اشتغاله بالطريق وما يصنع صادق. على أنه على قلقه كان يتقى أن ينبه صادقًا أو يحذره، مخافة أن يحدث له اضطرابًا، فإن كثيرين يرتبكون إذا صحت بهم فجأة. وكان شر ما يزعجه أن الحقول على يمين الطريق أوطأ وأدنى، فهو يخاف أن تنقلب السيارة، ويود لو توسط صادق ونأى عن الحافة. ولم تكن كثرة الشجر تطمئنه وتنفى ما يحاذر من الانقلاب، فإن المسافة ما بين الشجرة والشجرة غير قصيرة.

ولكنهم بلغوا مصر القديمة فى سلام ومن غير أن يقع لهم حادث. وكان حق إبراهيم أن يتشهد ولكنه لم يفعل. وقال لنفسه إن شوارع المدينة غاصة بالترام والمركبات والسيارات، والناس الذين يسيرون وكأنهم يتنزهون فى حدائق بيوتهم. وهم مرات أن يستأذن ويركب الترام، فإنه آمن فيما كان يحس، غير أنه استحى وطال تردده فضاعت الفرصة.

وصاروا فى ميدان الإسماعيلية. ولم يكن نظام المرور فى ذلك الوقت وافيًا بالحاجة بل لم يكن ثم نظام ما، فكان كل سائق يمضى على هواه، إلى حيث يشاء وهو آمن أو مجازف. وكاد إبراهيم، والسيارة تقتحم هذا الميدان المضطرب، يثب من السيارة إلى الأرض من فرط الجزع، ولكن صادقًا كان حاذقًا فمر كالسهم، بسلام، من بين قطارى ترام، فاضطجع إبراهيم، ومسح العرق المتصبب بكفه، ونظرت إليه ميمى فأدركت ما به وقالت بابتسام: «خائف؟»

قال: «بل ميت من الخوف.. مت مائة مرة وسأموت مائة مرة أخرى إذا لم أنزل».

قالت: «لا تخف وثق بصادق..» وضحكت: «غريب أن أدعوك أنا إلى الثقة به وأنت الذى تلح على بذلك».

قال: «هذا شىء آخر، مختلف جدًّا».

قالت: «على كل حال قربنا، أعنى أن فى وسعك إذا شئت أن تتركنا عند شارع فؤاد».

قال: «يؤسفنى أن أقول إن هذه ستكون أسعد لحظة».

ولكن صادقًا أبى أن يدعه، وأصر على أن يبلغه بيته بعد الفتاتين، — فضحكت ميمى وقالت: «هذا امتحانك، فأرنا إرادتك القوية».

فتنهد وقال: «لا إرادة ولا شبهها.. الأمر لله، ثم لهذا المجنون».

قالت: «ولكنه ليس مجنونًا.. إنه متمهل جدًّا، ومحاذر جدًّا».

قال: «محاذر؟ ألا ترين كيف يمرق بين السيارات كأنه بسكليت؟»

قالت: «هل تريد أن يقف حتى يخلو له الشارع من كل راكب وراجل؟»

قال: «تركت لك البيعة».

وفى هذه اللحظة، وقبل أن يتم ما كان ينوى أن يقول، وقعت الحادثة! ولا يدرى أحد كيف وقعت، أو كيف تعذر اتقاؤها. وكان صادق فى هذه اللحظة يقطع شارع فؤاد وهو مقبل من شارع سليمان باشا، ويحاول أن ينثنى متجهًا إلى اليسار فرأى على ما يقول، موتوسيكلاً مقبلاً بسرعة من اليمين فخشى أن يصطدما فمال ميلاً شديدًا إلى اليسار ليفسح له، فاصطدم بالترام الواقف فى محطته، ولم يصب أحد بسوء يستحق الذكر، ولكن السيارة تحطم مصباحها الأيسر، وانطبق جناحها على العجلة، فوجب رفعه عنها ليتسنى لها أن تدور، أما الترام فلم ينله أذى.

وأقبل الخلق من كل صوب وتزاحم الرجال والغلمان وعلت الأصوات واختلطت الصيحات وعظمت الضجة، وأقبل شرطى يسأل عن الخبر، وينحى أهل الفضول عن طريقه. وكان صادق قد نزل، وألقى على السيارة نظرة، والترام أخرى، فلما جاء الشرطى تقدم إليه وقال:

«اسمع، لا أستطيع أن أجيئك بالمسئول الحقيقى، ولكنك ترى أن سيارتى هى التى تحطمت، وأن الترام ليس به شىء، ومن حسن الحظ أننا نجونا ولم يحق بنا مكروه، فهل لك أن تتفضل وتصرف هؤلاء الناس وتدعنى أمضى فى سبيلى؟»

قال الشرطى: «لا بد من المعاينة وكتابة المحضر».

قال: «معاينة لماذا؟ ومحضر لأى شىء؟ سيارتى هى التى تلفت، وبفعلى أنا، والترام بخير، وأنا أعلن هذا على مسمع من ألف واحد يستطيعون أن يكونوا شهودًا لك وللترام، وعلى، فاصنع معروفًا ودعنى، فما بأحد أية حاجة إلى معاينة أو محضر».

وبدا على الشرطى التردد، وانقسم الجمهور فريقين، واحدًا يريد التطويل لتطول متعته، وآخر يحمد من صادق أنه لا يكابر، ويعجبه منه إقراره بالحق وأنه يشهد على نفسه. ونظر الشرطى إلى سائق الترام فقال هذا: «إذا كان الأفندى يريد أن يصرف الحكاية، فلا مانع عندى ولكن خذ رقمه واسمه ودون اعترافه، حتى لا يعود فيدعى علينا زورًا أننا كسرنا سيارته».

فقال صادق: «هذا عدل». وأخرج بطاقة كتب عليها إقراره، ودون الساعة والدقيقة ورقم السيارة، ومد يده بها إلى الشرطى، فقدمها هذا إلى السائق.

ولم يستغرق هذا كله سوى دقائق عشر، وكانت هذه أعجوبة، ثم عادت السيارة فانطلقت فى طريقها، وإبراهيم معجب بحزم صادق، وما أظهر من رجولة وقدرة على الحسم السريع، وحمد له تعجيله بإخراجهم من هذه «الزفة»، وحدث نفسه أنه لم يخطئ حين قال لميمى إن صادقًا ذو مواهب قد تكون معطلة ولكنها موجودة، وإن كانت كامنة، ولو أتيح لها مجال أو فرصة لظهرت.

وخطر له وهو مضطجع أنه لا يستغرب أن يحدث هذا فى اليوم الثالث عشر، وحمد الله على اللطف فى قضائه.

ولاحظ إبراهيم أن صادقًا مالك لأعصابه على الرغم من رجة الحادث، وأن عقله حاضر غير غائب، ولم يفته أنه ذهب بفتحية إلى بيتها، قبل غيرها، فنزلت أول من نزل، ثم عاد فعرج على بيت ميمى، وهنا ألح إبراهيم فى الاستئذان إشفاقًا على صادق، وإيثارًا لراحته — هكذا زعم — ولكن صادقا ظل على إصراره، ووقف الرجلان أمام البيت يتجادلان، فقالت لهما ميمى: «الأولى أن تدخلا إذن».

فقال إبراهيم: «كلا اصعدى أنت واستريحى، ولا حاجة إلى جدل فإنى ذاهب».

ورأى صادق صحة العزم فى صوته ووجهه فأقصر آسفا.

وكان الذى دعا إبراهيم إلى الإصرار على ترك صادق، أنه خاف عاقبة اصطحابه والتقائه بتحية، فما يستطيع، ولا يليق، أن يكلفه رحلة طويلة ثم يصرفه من الباب بكلمة شكر فارغة. ولا بد أن تساله تحية عما حدثها به زوجها من أنه — أى صادق — يوشك أن يتزوج ميمى، والنساء ثرثارات، وليس أحب إليهن من اللغط بقصص الزواج والشروع فيه. وقد يحدثها صادق عن الحادثة، وعن جلسة المعادى، ولا يبعد أن يروى الأمر على وجهه الصحيح وأن يتحرى الدقة، فيذكر أنه وجدهما معًا فماذا عسى أن تظن زوجته إذا علمت أنه يتواعد مع ميمى، ويلقاها ويذهب بها إلى هنا وههنا ولا يخبرها بشىء من ذلك؟ إن هذه تكون صدمة جديدة تردها إلى الوجوم القديم، وتقوى سوء ظنها به، وقد تدفعها إلى اليأس منه، أو من قدرتها على الاحتفاظ به، وليس مما يقوى على احتماله أن يعانى هذه المحنة مرة أخرى، وأن يفقد ثقة تحية وحبها على الأرجح، وسيفقد ميمى يوم تعرف ما تبطن لصادق من الحب، فإذا ترك صادقًا يصاحبه فإنه خليق أن يفقد المرأتين جميعًا. وهب صادقًا لم يقل شيئًا، وتحية لم تسأله عن شىء، فإنه حقيق أن يبدو بينهما مرتبكًا مضطربًا، فيثير الوساوس أو الشكوك فى نفس تحية، فالخير كل الخير، أن يبقى هذا الشاب حيث يشاء إلا معه، وأن يلقى من شاء غير تحية، على الأقل إلى حين.

٩

وفى تلك الليلة خلا اثنان بنفسيهما، أستاذ وتلميذته، كل على حدة.

فأما التلميذة فميمى. ذهب بها صادق إلى بيتها، وصعد معها فتركته مع أمها ريثما تغير ثيابها وتصلح من شأنها، ولكنها لم تغيرها ولا كانت بها حاجة إلى ذلك. وإنما قعدت على كرسى بين السرير والمرآة وقالت لنفسها: «لست أستطيع أن أجرد من نفسى شخصًا ثانيًا — كما يصنع إبراهيم — ولكنى أستطيع أن انظر إلى خيالى فى المرآة».

وأقبلت على الخيال البادى فى صقال المرآة تتأمله، وتُميل وجهها يمنة ويسرة وتسوى شعرها ببنانها، وأخرجت (الأحمر) فمرت به مرًا خفيفًا على شفتها السفلى ثم أطبقت العليا عليها، وتبسمت إذ تذكرت أن إبراهيم كان إذا بلغ بها مأمنًا أشار إلى ثغرها، فتخرج منديلاً وتبله بريقها، بطرف لسانها، وتمسح هذا الأحمر الذى لا يطيقه إبراهيم، وإن كان يغضى عنه فى الطريق، ولا يأبى عليها زينته وهى غادية أو رائحة. وتساءلت ميمى أتراه يخشى أن يبقى بفمه أثر منه؟ ونفت ذلك. وقالت إن تحية لا تصبغ شفتيها بهذا الأحمر، ولا تمسح وجههابالمساحيق، بل ليس فى بيتها شىء من هذا.

وعكفت على إصلاح هندامها وهى تحدث نفسهما أن إبراهيم ينطوى لتحية على حب عميق متغلغل فى شعاب نفسه، إلا أنه ساكن لا يثور ولا يفور، وأنه لم يرفعها — هى — هذا المقام فبقيت فى منزلة الصديقة ليس إلا. نعم أقطعها من نفسه مكانًا كريمًا، ولكنه أبى أن يجاوز هذا الحد الذى خطه من أول يوم، وأولاها وده وعطفه، وآثرها على غيرها — وكان لها أبًا وأخًا وصاحبًا — غير أنه فى سنوات طويلات المدد لم يجر لسانه — ولا مرة واحدة — بذكر الحب، ولم يقل لها قط إنه يحبها، وزجرها مرارًا عن اللغط بهذا اللفظ. حتى فى اللحظات القصار التى يسهل فيها، من فرط النشوة، وطيب المتعة، أن تنتزع العاطفة اللجام وتنطلق به جامحة، كان الزمام لا يفلت من أصابعه، والرشد لا يخرج من كفيه، والعقل لا يفقد سلطانه وسيطرته، واللسان لا يجرى إلا بقدر.

وتذكرت كيف أنه كاد مرة ينسى نفسه، ويعدو ما خط ورسم، فقد رق حتى قارب أن يذوب، ثم هاجه لما به ما لا تدرى، فانتفض وانقض عليها يطوقها، ويعصرها، ويهصرها، كأنما يريد أن يشق بها ضلوعه إلى قلبه وهى تلين له فى العناق، وتئن من طيب ما تجد وألمه، ويلثم فاها ووجنتيها وعينيها، وجبينها، وشعرها — ويشمه أيضًا — ويدفع راحتيه متحسسًا، ويملأ قبضته بلحمها كأنما يريد أن يقتطع منه، وهى مُدار بها كالمسحورة أو المخمورة من دهشة المفاجأة وسرعة التحول من اللين إلى العنف، وحلاوة الأخذ بقوة، ولسع الرغبة المضطرمة، وتود لو مضى إلى ما يشاء من مدى، وتشفق أن لا يفعل، وترجو أن يطول أمد النشوة. وإذا به يدفعها عنه فجأة، كما جذبها فجأة، وينأى عنها وصدره كالخضم مضطرب، ويقول بجهد واضح: «كلا. ما ينبغى هذا فلست لى، ولا أنا لك، وسنندم — كلانا — إذا لم نرشد».

ومر أمام عينها — كشريط السينما، ولكن كخطف البرق — كل ما كان بينها وبينه، ولم يسعها إلا أن تعترف بأنه أمتعها ولم يحرمها، كما قال لها مرة وهو يضحك: «إلا استيفاءات يتم بها (المحضر)، ولا يعد ناقصًا بغيرها على حد تعبير الشرطة».

ونهضت ودارت أمام المرآة، وتأملت قدها من الجانبين، ومن خلف ومن قدام، وحدثت نفسها أنها هى أيضًا أمتعته. ولم تقل ذلك على سبيل المن، بل إعجابًا بحسنها، فما كان يخفى عليها — ولا كانت فى هذه اللحظة تنكر — أنه كان أسهل شىء على إبراهيم أن ينال منها كل منال. فما كانت تشعر، إذ تكون معه أن لها إرادة غير ما يريد، وكانت ربما اشتهت أن يرخى أصابعه ويدع اللجام يفلت من بينها. ولكن وطأة هذه الرغبة لم تكن تثقل عليها أو تلج بها. وكانت تحس — ويخيل إليها — أنها ما تمنت ذلك أحيانًا إلا من أجله، ولتهبه من السعادة كل ما لعله يحلم به. وكان يطيب لها أن تغالط نفسها على هذا النحو، وأن تتصور أنها مصدر سعادة له، وأن عندها ذخائر من الاستمتاع بحسنها فوق ما فاز به ونعم. وكانت ربما تعجبت لزهادته وقناعته، وخشيت أن يكون ذلك مرده إلى نقص فى فتنتها وقوة جذبها عن حد الكفاية. فلولا صراحة إعجابه بها، وخوفه عليها، وضنه بها، لعذبها هذا الشك الذى كانت وساوسه تهجس فى خاطرها كلما أقصر.

وألفت نفسها تكبر منه، وتحمد له، أنه أكرمها، ووقاها ما كان غيره خليقًا أن يجرها إليه، وصانها عن الشعور بالابتذال. ولقد قتر عليها، ولم يعاطها الحب إلا بقدر يكفى أن يعفيها من عذاب الالتياح وإن كان لا يبلغ أن يكون ارتواء. ولكنه قتر على نفسه أيضًا، وتجشم فى ذلك ما لم تتجشمه هى، فقد كان الزمام فى يديه، والمجهود كله مجهوده، فإن شاء أخب وأوضع وإن شاء تمهل وترفق، فأبى إلا التحرز.

وأحست أن نفسها تفيض بالشكران له على ما توخى من تجنيبها الامتهان، ولو كان أزال ما يجب أن يصان، لما وسعها أن تلقى صادقًا بما لقيته وتلقاه به.

صادق …

وأدارت اسمه على لسانها كأنما تريد لتتذوقه.. فأحست بمثل النار تندلع فى صدرها، وتتقد علوًا وسفلاً، فرفعت يدها إلى وجهها تتحسسه وتجسه، فوجدت بردًا، ولم تجد حرًا، وحدثت نفسها ساخرة أن هذا لنعم القريب المحب العاشق.. توليه الثقة التى لا يستحقها، عملاً بمشورة إبراهيم وتؤثر معه الحسنى، وتبدى له صفحة الود، لتتألفه وتغريه بأن يكون شيئًا، فينقلب وحشًا يستدرجها إلى مهمة قفر ليفتك بها زاعمًا أن هذا من الحب! وهو مع ذلك قريبها، ومن لحمها ودمها، فكان حقه أن يصونها ويعف كما عف عنها إبراهيم وليس من نسبها، فإذا كان يهم بها هذا الهم، ولا تمنعه قرابة الدم أن يحاول اغتصابها، فماذا تراه يصنع باللواتى لا تصله بهن صلة رحم كفتحية مثلاً؟ تلميذته التى ترى له عليها حق الأمر.

ومطت شفتيها لما ذكرت فتحية. ولم تنكر أن لها جمالاً ولكنها أنكرت أن صوتها يطاق، وشبهته بصوت زمارة ينفخ فيها من لا يحسن الزمر. وليست هذه بالتلميذة الوحيدة … وكل همه أن يكون مونولوجست.. بففف! وإن أباه لفى سعة، ولكن لا هو ولا أبوه يخطر لهما أن يصنعا شيئًا يعالجان به هذه البطالة المزرية. هى فتاة تكسب رزقها بعرق جبينها، وهو فتى لا يستنكف أن يعيش حميلة على ذويه، وهذا هو الذى يطمع فى، ويحلم بأن أكون له زوجة.

ومع ذلك أحست أن قلبها يرق له. وإنه لجدير بكل ما صبت على رأسه من نعوت ولكنها لا تحفل ذلك كثيرًا وإن كان يمضها ويرمضها. أليس من رحمها وإن كان عاطلاً؟ وإن الفتيات ليحمن ويلبن عليه كالذباب.. أى نعم كالذباب. فما هى بخير منه ولا أطهر.. فلا بد أن له مزية.. فتنة.. جذبًا.. وإلا لما قدر على ذلك.

واعترفت أن له جذبًا. ولكنه يخيفها ويفزعها. أما لو لا ذلك، لولا خشيته لأمكن أن.. ماذا؟ أترى إبراهيم قد صدق، وصحت فراسته حين قال لها إنها تحبه فى قرارة نفسها وهى لا تدرى؟ نعم تنطوى له على الود والعطف والأسف لما هو فيه. ولكن.. كيف تحبه وهو عاطل؟ وكيف تأمنه وتطمئن إليه وهو لا ينفك يحمل على ذراعه فتحية ونظائرها ولا يشعر بارتباك أو خجل حين تلقاهما معًا؟؟

وذهبت تقطع الغرفة جيئة وذهوبًا، ثم انحطت على الكرسى وقد أحست أنها تعبت. وتجمعت العبرات فى مدمعها وحلقها، وجاهدت أن تردها، ولكنها ارفضَّت فتركتها تقطر على خديها، أو تنهمل، ولم يكن يُسمع لها بكاء. ولكن صادقًا كان قد استبطأها، فدخل عليها — كالثعلب — فالفاها هكذا جالسة، ورأسها مثنى على صدرها، والدموع تتسايل على وجهها، وتقطر على كفيها فى حجرها، فخطا إليها بسرعة وجثا أمامها وراح يلثم راحتيها باطنًا وظاهرًا، ثم رفع رأسها وجفف لها دموعها بمنديل، ثم ضمها إليه حانيًا عليها، مريحًا خده على شعرها.

فتنهدت وهمست: «صادق».

قال: «نعم يا ميمى».

قالت: «تعدنى! …».

قال: «إنما لك الأمر وعلى الطاعة».

قالت: «وتترك المونولوجات … وفتحية وغيرها؟»

قال: «كل ما لا يرضيك لا أفعله».

قالت: «و.. و.. ولكنك عاطل …».

قالتها بعد تردد وتلعثم وتشجع، ولم تقذف بها فى وجهه.

فقال: «من الغد أحاول جادًا أن أغير هذا».

فاستدارت شفتاها لشفتيه.

وتحاجزا، فقال صادق: «أشكرك يا ميمى».

قالت: «بل اشكر إبراهيم، هو الذى فتح لى عينى.. أو علمنى حبك.. لا أدرى».

قال: «ما أغربه».

ولم يزد.

١٠

وأما الأستاذ إبراهيم.

دخل كالصاروخ، وكانت تحية تنتظره، وفى يدها كومة من ورق اللعب تلقيه متجاورًا على المنضدة فى صفوف متتالية، وتتبين حظها من تقارب ورقات معينة، أو تباعدها، فابتسمت له ابتسامة السرور والترحيب بأوبته وتوقعًا لسخره مما هى فيه. ولكنه مضى إلى باب غرفة المكتب وقال وهو يهم بالدخول: «لا تدخلى على حتى أدعوك. وسأدعوك».

ورأت صرامة نظرته وتجهم وجهه، فتحجرت الأبتسامة — لم تغض بل صارت رسمًا تنقصه الألوان والمعنى — ولم يكن هذا عهدها به إلا حين يكربه هم ثقيل. فقلقت، وارتدت عينها إلى الورقات المتجاورة فنحتها بكلتا يديها، واتكأت بكوعها على المنضدة وأسندت رأسها إلى كفها، وراحت تنتظر قضاء الحظ فيها.

وارتمى إبراهيم على كرسى وهو يقول لنفسه: «إن الأمر جاوز الحد. هذا الجار الذى انشقت عنه الأرض اليوم، وأقبل بتعقبنا، من يدرينى أنه ليس هناك غيره، يرى، ويتتبع، ويستخبر، ويروح يلغط؟ وإذا ألح الرجال على ميمى بالمطاردة فما عسى أن تكون العقبى؟ وتحية؟ تحية التى رددت إلى محياها البشر والتطلق، هل أعود فأعذبها هذا العذاب الغليظ الذى لم أرحها منه إلا بمشقة؟»

وخطر له أن يرجئ البت فى هذه الأمور الإشكال إلى الغد، فإن اليوم هو يوم النحس الثالث عشر.. ثم عاد يقولى: «كلام فارغ.. الأمر أكبر من ذلك وأنا هنا الساعة لأراجع نفسى وأحاسبها وأستقر على رأى لا تردد بعده. وماذا تقولْ تحية إذا خرجت إليها متحيرًا بعد أن وقع فى روعها من كلامى ولهجتى وهيئتى أنى مزمع أمرًا له ما بعده؟»

واضطجع وشرع فى الحساب. وخيل إليه، وقد استغرقه ذلك، أن نفسه تتمثل له جالسة قبالته، مضطجعة مثله، وإحدى ساقيها ملتفة بالأخرى. وكبر هذا فى وهمه حتى لقد هم أن يقدم لها سيجارة.

وقال: «إن السؤال الأول — والأولى بالتقديم، والذى يقع على المحز ولا يترك سبيلاً إلى المراوغة والهرب — هو: هل أستطيع أن أستغنى عن تحية؟»

فهزت نفسه رأسها بشدة أن: «لا».

قال: «كلا، لا أحسبنى قادرًا على ذلك، أو مطيقًا له، وما أظن بتحية إلا أنها قد صارت «عادة لى».

فقالت نفسه: «نعم عادة، ولم لا؟ أى ضير فى هذا؟ إن كل إنسان حزمة من عادات تكبر وتضخم، شيئًا فشيئًا، على الأيام مع ارتفاع السن، ويحسن أن توطن نفسك على هذا، وليست تحية بالعادة المفردة فإن هذا الحساب العقيم الذى لا تزال تؤديه، وتكلفنى أداءه، وتسود به عيشى معك، عادة أخرى. وأقول الحق إنك أتعبتنى وقد مللت صحبتك، ولو كنت تصدر عن رأيي، وتعمل بمشورتى، ولكنك عنيد مكابر».

قال: «وكيف بالله أصنع وأنت تشيرين بالرأى ونقيضه؟»

فأحست نفسه أنها تهورت، فأقصرت وقالت: «مهلاً، فليس هذا وقته، لقد كنا نقول إنه لا غنى عن تحية، وإنها عادة لك، انتهينا إذن».

فقال: «كلا لم ننته، فهل أنا أحبها؟»

قالت: «يا أخى ما قيمة هذا؟ ثم إنك تحبها ولا شك حبًا هادئًا لا فائرًا عارمًا كما كان فى البداية، ولكل فورة سكون، ولكل جديد لذته ثم تبلى الجدة، وتذهب معها اللذة، كالثياب..».

فثار بها مقاطعًا: «قبحك الله، تشبهين تحية بثوب يبلى وُيطرح، وُيخلع على فقير؟»

قالت: «ها، ألم أقل لك إنك تضمر لها حبًا وإكبارًا؟»

قال: «دعى هذا. المهم أنه لا غنى بنا عنها ولا طيب للحياة بدونها».

قالت: «ولماذا كل هذا النفور، بل الفزع، من ذكر الحب؟ أتراك أصبحت كمصاصة القصب التى ذهب عصيرها؟ فأنت تنفر مما لم تعد قادرًا عليه لأنك جففت ونشفت؟»

قال: «أما إنك لثقيلة، ثم إنك لم تصدقى، فما عجزت عن الحب، ولكن».

قالت مقاطعة: «مع غيرها … اختش يا شيخ، هبها ملتك كما مللتها وذهبت تنشد التسلى كما تنشده..».

فصاح بها «اخرسى..».

قالت: «إذن أنصفها، ولا تكلفها إلا ما تكلف نفسك، وإلا زهقت روحها إذا ظلت على التصبر والتشدد، ولم تذهب تتعزى وتتلهى مثلك، وعلى فكرة … إن روحها تكاد تزهق الاَن من القلق والاضطراب. ما أقل ذوقك معها وأسخف رعايتك لها.. ألا ترى أن الأوفق أن تفض الجلسة وتخرج لترد إليها روحها؟»

قال: «صدقت، وإنى لوحش، فلنعجل، إذن لا معدى عن عمل نعمله؟»

قالت: «طبعًا، وإنه لسهل».

قال: «سهل؟ تقولين سهل؟؟»

قالت: «نعم. إذا كانت علة الفتور أنها لم تستطع أن تجدد نفسها لك فجددها أنت لنفسك».

قالى: «يبدو لى أن هذا غير معقول ولكن كيف؟»

قالت: لا تكن بليدًا. فكر.. اختر لها ثيابها برأيك.. مثلاً.. فصلها على قدها على هواك، فلن يسوءها، بل أخلق أن يسرها أنك معنى بها وبتجَميلها فى عينك.. غير لها ولك المناظر التى تحيط بكما.. اذهب بها إلى لبنان، ولا تخش ولا تقبل منها اعتراضًا، واذكر أنك حفيد أولئك الأجداد الحكماء العمليين من أهل الكهوف والغيران، وأنها هى أيضًا حفيدة أولئك الجدات اللواتى كن يفرحن بقوة الرجل وسطوته ويلتذذن طاعتهن له».

قال: «أظنك على صواب، وهذا يذكرنى بقول أبى تمام:

وطول مقام المرء فى الحى مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإنى رأيت الشمس زيدت محبة
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

بل الحياة نفسها إنما كانت لها هذه المحبة لأنها ليست بسرمد، اتفقنا.. وإلى لبنان إذن».

وهم بالنهوض، فأومات إليه أن مهلاً، وقالت: «ميمى؟»

قال: «هى عاقلة، تفهم، وتعذر».

قالت: «خير لك أن تكتب إليها، هذا أسهل».

قال: «الحق معك».

ودعا تحية فأقبلت واجفة القلب فابتدرها بقوله: «سنسافر فاستعدى».

فريعت، وتوهمت أن مكروهًا حاق بأحد من الأهل، ولمح آية الجزع والفزع فى محياها، ووخزته نفسه وهمست فى أذنه: يا شيخ حرام عليك». فتبسم وقال: «إلى الشام».

فوضعت يدها على صدرها وتنهدت، ثم سألته: «الشام؟»

قال: «نعم بأسرع ما نستطيع». قالت: «ولكن الشام؟ هذا.. كلا. ليس الآن».

قال: «ماذا تعنين؟ الشام قلت، وإلى الشام سنذهب».

فهمست نفسه فى أذنه معجبة به راضية عنه: «هكذا يتكلم الرجل … برافو …».

قالت: «ولكنك غير فاهم، ليست المسألة أنى لا أريد السفر فإنى أريده وأشتهيه ولكن.. ولكن..».

وتلعثمت واتقد وجهها كالجمرة، وغضت من بصرها، فدنا منها وأحاطها بذراعه وسألها بحنو: «مالك؟»

قالت وهى مطرقة، وشفتها تختلج: «إنى … إنى … أنا حامل».

فقال على البديهة، وبغير تفكير، وذهنه متجه إلى الحجة لا إلى الخبر: «كلام فارغ.. أليس فى لبنان حوامل!». ثم تنبه فصاح بها: «إيه؟ ماذا تقولين؟»

فضحكت ما وسعها أن تضحك، بعد أن أجرت لسانها بما كانت مستحيية كالعذراء من ذكره.

فانحنى عليها وقبلها، وضمها ضمًا خفيفًا. وجلس وأجلسها على حجره، ومسح لها شعرها بكفه وأسندها إلى صدره وقال: «أظن أن أمى يسرها هذا، لو أمكن أن تدرى».

قالت: «فى الصباح نذهب إليها ونخبرها».

قال: «ثم إلى الشام».

قالت: «إذا شئت».

وأغمض عينيه، وذهب يتصور أنه يوشك أن يصبح أبًا، وذهل حتى عن تحية على حجره، فغمزته نفسه وهمست: «لا تنس من فرحتك أن تكتب إلى ميمى».

فقال بضجر وصوت عال: «كيف يمكن أن أنسى؟»

فاستغربت تحية وسألته: «تنسى؟ تنسى ماذا؟»

فتنبه، وسخط على «نفسه» التى كادت توقعه فى ورطة، وقال: «لا شىء، أحسبنى كنت أفكر فى هذا.. كل جديد من الأمر يتطلب جديدًا من التفكير».

فضحكت ونهضت عن حجره، وقالت وهى تسوى خصل شعرها: «هذا دأبك أبدًا.. لا يمكن أن تتغير».

فحدق فى وجهها وقال: «بل أنا أتغير كل ساعة، وقد تغيرت الاَن منذ لحظة … فلو أنى..».

«ليس فى عينى».

ومالت عليه ولثمته: «ولا فى قلبى».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤