الفصل الثاني

الحياة النامية

(١) تعريف الحياة

موضوعات الفصل الأول بمثابة الأمور العامة بالنسبة للطبيعة بالإجمال، أي أعم المعاني المشتركة فيها جميع الأجسام، التي يجب أن تقدم على ما سواها في الفلسفة الطبيعية، كما أن الموضوعات التي عالجناها في كتاب «العقل والوجود» هي الأمور العامة بالنسبة للموجودات إطلاقًا. فكل ما قلناه في الفصل الأول ينطبق على جميع الموجودات الطبيعية، فكأننا قد استوفينا الفحص عن الجماد. وفي الواقع كان كلامنا منصبًّا عليه في أكثره، وكانت استشهاداتنا مأخوذة منه في معظمها.

وفي الطبيعة أجسام حية عديدة مختلفة الماهية موزعة في ثلاث ممالك كما يقولون: مملكة النبات، ومملكة الحيوان، ومملكة الإنسان الذي وإن كان حيوانًا إلا أنه حيوان عاقل، والعقل يجعل منه كائنًا ممتازًا للغاية، بينه وبين سائر الحيوانات مسافة سحيقة تستحق له مكانة خاصة. نخطو إذن في دراسة الطبيعة إلى المملكة التالية لمملكة الجماد، والتي توجد قواها وظواهرها في المملكتين الأخريين، فنعرِّف الحياة على العموم، ثم نعرِّف الحياة في النبات على الخصوص. ثم ننتقل إلى الحياة الحاسة المشتركة بين الحيوان والإنسان، فإلى الحياة الناطقة أو العاقلة الخاصة بالإنسان وحده على سطح الأرض.

هنا أيضًا نلقى المذهب الحسي، ونقرأ له تاريخًا طويلًا منذ فجر الفلسفة اليونانية، بل قبل بزوغه، إلى عصرنا الحاضر. أشياعه القدماء يتحدثون عن النفس كمبدأ للحياة وقوام للجسم، ولكنهم يعتبرونها مادية، ويجعلها كل منهم شيئًا من العنصر الذي رآه مبدأ الأشياء: الماء عند طاليس، أو الهواء عند انكسيمانس، أو النار عند هرقليطس؛ وتصور كل منهم عنصره مدركًا ومتحركًا بذاته، فوعدوا هيلورفيست Hylozoïsts أي: أصحاب المادة الحية. وذهب أنبادوقليس إلى أنها مركبة من العناصر الأربعة. وقال ديموقريطس، صاحب نظرية الجوهر الفرد أو الذرة، والمؤسس الحقيقي للمذهب الحسي: إنها مركبة من أدق الذرات وأسرعها حركة، وهي المستديرة المركبة للنار ألطف المركبات وأكثرها تحركًا.

وفي العصر الحديث نجد ديكارت، وقد رد الطبيعة كلها إلى الامتداد والحركة، يقول: إن النبات والحيوان وجسم الإنسان آلات كآلاتنا الصناعية، ولو أنها أكثر تعقيدًا وأعجب أفعالًا، أي إن الجسم الحي مجموع أجزاء من الامتداد خاضعة لقوانين الميكانيكا، وإن ترتيبها بعضها من بعض كافٍ لتعليل الظواهر الحيوية. وتبعه كثيرون أو قالوا: إن الحياة ترجع إلى القوى الفيزيقية والكيميائية. ويمكن القول: إن غالبية العلماء والفلاسفة تميل إلى الآلية؛ لأن الآلية تبدو لهم أقرب إلى فكرة العلم، والعلم مجموع من القوانين الكلية الثابتة المتعالية على الفوارق الجزئية والتنوعات الحادثة. وقد كدسوا الحجج آملين أن يبينوا أن ليس للأحياء تفوق على الجماد بالماهية، بل فقط بالتركيب والتعقيد.

والحق أن الناس، ومن بينهم الآليون حين لا يفلسفون، متفقون بداهة على تمايز الحي من غير الحي بخاصتين أساسيتين: إحداهما الحركة الذاتية في كافة الأحياء، أعني التغير باطنيًّا وظاهريًّا، والخروج من القوة إلى الفعل، لا الحركة المكانية فقط، بينما المادة الصرف لا حراك لها إلا بدفع من خارج أو إزالة عائق، بحيث إن الحي الذي يفقد هذه الخاصية يعتبر ميتًا محرومًا من الحياة، والخاصية الأخرى الإدراك في بعض الأحياء، لا سيما والإدراك نفسه، فعل أو حركة، وأنه مبدأ باعث على الحركة الذاتية طلبًا أو هربًا، وهم جميعًا يعتقدون أن للكائن الحي قوة باطنة هي علة حياته وأفعاله الحيوية، تسمى بالنفس، والحركة الذاتية مقدمة على الإدراك لوجودها في الأحياء قاطبة، بل هي لهذا السبب الخاصية الأساسية للحياة الأرضية.

ينتج من هذا التعريف أن الأفعال الحيوية باطنية في الحي قارة فيه، وأن هذه الباطنية تفترض فيه أجزاءً أو أعضاءً متنوعة الوظائف والتراكيب. فلنشرح هاتين الخاصتين: أما باطنية الفعل أو استقراره في الحي، فمعناها أن الفعل الحيوي يصدر عن الحي وينتهي إليه، ولكن من وجهين: أحدهما بالنسبة إلى الحي في جملته، تحرك قوة فيه قوة أخرى، ولا تتعدى الحركة إلى شيء خارجي، بخلاف فعل الجماد فإنه يبدأ في الفاعل ويتجه إلى شيء خارجي، فهو متعدٍّ بالذات. والوجه الآخر بالنسبة إلى كل قوة من قوى الحي: يبدأ منها الفعل ويبقى فيها، كالعقل والإرادة، وهذه هي الباطنية بمعنى الكلمة، على ما سنبينه عند الكلام عن النفس الناطقة، وباطنية الحياة من هذا الوجه الثاني. أما ما يبدو في الجماد حركة ذاتية، كانفجار بعض المركبات الكيميائية، فناشئ من اختلال التوازن بين الذرات أو الجسيمات. وتتفاوت الباطنية وتكون الحياة أشرف فأشرف كلما بعد الحي عن تأثير المادة: فالنبات المستغرق كله في المادة يتحرك تنفيذًا لغايات مفروضة عليه بالطبع؛ والحيوان يتحرك لذلك ولأجل مدركات يكتسبها بحواسه ويدبر أحواله بحسبها في حدود الإحساس والغريزة، ولغاية لا تفرضها عليه طبيعته، فإن المعرفة الحسية تدع شيئًا من عدم التعيين؛ فمن الحيوان ما لا يدرك سوى الأشياء المماسة له، فحركاته ترجع إلى الانبساط والانقباض؛ ومنه ما يدرك أشياء بعيدة منه بفضل ما له من حواس ومن قوة تؤهله للانتقال في المكان؛ والإنسان يتحرك لأجل غاية يعيِّنها بنفسه لنفسه بفضل العقل والإرادة الحرة.

وأما التنوع فبادٍ للعيان، وهو خاص بالحي كباطنية الحركة، فإن الحي كلٌّ مركب من أعضاء منسقة فيما بينها بحسب رسم معين لكل نوع، لتأدية وظائف مختلفة متجهة كلها إلى بقاء الحي ونمائه، بينما الجماد متجانس، فكل جزء من الخشب خشب، وكل جزء من الذهب ذهب، حتى ذو الخلية الواحدة، فإنه مركب من ألياف وبروتوبلاسما ونواة؛ فليس هو مجرد كتلة زلالية، ولكنه بناء متنوع متناسب؛ تمثل فيه النواة مركزًا مدبرًا؛ وإذا حرمت منها الخلية لم تستطع الهضم ولا التمثيل، فهلك، وهذا يكفي لدحض نظرية الحياة الكلية أو المادة الحية عند قدماء اليونان من إيونيين ومن رواقيين قائلين: إن العالم حيوان كبير، وفي العصر الحديث عند كل مشايع لوحدة الوجود ولتطور الموجودات. في الخليقة إذن جميع ظواهر الحياة مصغرة؛ فإنها تولد وتتغذَّى وتنمو وتتكاثر وتموت. وفي الحي التام أجهزة منها ما هو جملة أعضاء متعاونة على تحقيق غاية مشتركة، كالجهاز الهضمي؛ ومنها ما هو جملة أجزاء ذات طبيعة واحدة تؤدي وظيفة واحدة في البدن بأكمله، كالجهاز العصبي يضم جميع الأعصاب، والجهاز العضلي يضم جميع العضلات.

(٢) تعريف الحياة النامية

هي المشتركة بين جميع الأحياء التي نعرفها. وقد قلنا: إن لها ثلاث وظائف هي: الاغتذاء والنمو والتوليد. الاغتذاء مرتب بذاته لتحويل المادة الغذائية إلى جوهر الحي، فيحفظ كيانه ويحفظ له الكمية اللائقة بنوعه وبحالته الشخصية. والنمو مرتب بذاته لتحويل كمية الغذاء إلى كمية الحي، والتوليد مرتب بذاته؛ لإيجاد جوهر جديد شبيه بالمولد. ثلاث وظائف متباينة، فلها في النفس النامية ثلاث قوى متباينة. فليس من الصواب إرجاع النمو إلى الاغتذاء، كما قال بعضهم بحجة أن النمو ينتج عن فائض الغذاء، فإن هذا لا يفسر تعيين كمية الحي أو مقداره، إذ إن من شأن الغذاء أن ينضاف بعضه إلى بعض دون حد؛ ولكن القوة المنمية تستخدم فائض الغذاء كمادة يتم بها النمو وهي تدبر جسم الحي وتوجه الحياة، بينما القوة الغاذية تعمل على تمثيل الغذاء وتقديم مادة النمو. «الفج من الثمار له القوة الغاذية دون المولدة، والهرم من الحيوان له الغاذية وليس له المنمية.»١

في هذه الوظائف الثلاث تتبين فاعلية الحي بأجلى بيان: ففي التغذية يقبل مواد غريبة عنه، فتفسد بالتدريج في أعضاء الجهاز الهضمي، فيتمثلها، أي يحيلها إلى ذاته مادة حية بعد أن كانت خلوًا من الحياة. فليست التغذية إضافة مادة إلى مادة، ولكنها تمثيل؛ ويختلف التمثيل عن الهضم، ومن ثم يختلف عن التفاعلات الكيميائية. ومهما يكن تنوع المواد الغذائية فإن الحي يحيلها إلى جسمه، ويستخدمها لاستبقاء كيانه، وهذا ما لا يتسنى للجماد بحال.

والنمو يحدث بفعل باطن وفي جميع أجزاء الحي على السواء، اللهم إلا إذا طرأ طارئ على جزء منه، وليس للشذوذ حكم الكلية. أما الجماد فيزداد ازديادًا خارجيًّا بإضافة مادة إلى مادة. فبالنمو تتكثر الخلية الأصلية وتتنوع إلى أنسجة وأعضاء مختلفة، فيتكون الحي على حسب نوعه وبالحجم الملائم له، ويقاوم أعداء الداخل والخارج، ويعوض ما يتحلل منه، ويصلح ما يفسد. ويستحيل تعليل الحد والنسبة بالاغتذاء وحده، أو بالقوى الفيزيقية والكيميائية. بل إن الحياة تبدو قوة حقيقة تحمل في طيها «فكرة موجهة»، أي: خطة مرسومة تعمل على تحقيقها وصيانتها وسط تغير الخلايا المستمر. وليس في عالم الجماد نظام ينتقل بذاته من التجانس أو من تنوع أقل إلى تنوع أكثر. والحياة توازن غير مستقر دائم متقلب: يستنفد الحي مادته باستمرار، ويكتسب غيرها؛ فهو في نمو ونقصان لا ينقطعان، يلائم بين نفسه وبين البيئة والظروف، حتى لقد تنشأ من هنا أصناف من الأحياء في النوع الواحد. وهذه الملاءمة خاصية أخرى للحي، وليس لها ولآثارها نظير في الجماد.

والتوليد شأنه أن يوجد الحي من ذاته حيًّا آخر من نوعه، يتطور كما تطور هو: وهكذا تتداول الأجيال إذ يصنع الحي من جسمه خلايا قادرة على النمو الحي حتى تصير أشخاصًا من ذات النوع. وليس في الجماد شيء من ذلك أيضًا. وليس في ظواهر التبلور ما يصح مقارنته بهذه الوظائف. وسنعرض لهذه المسألة بعد حين.

وثمة خاصية أخرى هي أن للحي عُمرًا، وليس للجماد عمر. يولد الحي وينمو ثم يموت؛ فلوجوده مراحل معينة، وليس يمكن أن يقال: إن الجماد يتطور؛ فإن التطور الحق من باطن. ولنا في الموت الظاهر شاهد قاطع على حقيقة «القوة» التي ينكرها الآليون: فإن الغرقى المختنقين الذين «يردون للحياة» بالتنفس الصناعي، والمصروعين الذين يشرع في دفنهم، والحشرات التي تخلد للخمود التام أثناء الشتاء، لا يظهر منهم أي علامة على الحياة، والحياة باقية مع ذلك. فليس يكفي توقف الوظائف الحيوية للدلالة على الموت الحقيقي، كما يكفي انحلال جسم الحي وتعفنه؛ بحيث لا نعرِّف الحياة التعريف الدقيق بقولنا: إنها حركة باطنة، بل يجب القول: إنها «القوة على الحركة الباطنة»، ولهذه القوة أن توجد بالفعل أو أن تكمن بالقوة، وللآليين أن يعجبوا لذلك ما يشاءون.

يضاف إلى ما تقدم أن للأحياء خاصية أساسية لا مثيل لها في الجماد؛ وهي المجاوبة بحركة نوعية، أي خاصة بكل نوع على تأثير الفاعلين الخارجيين، مثل الانقباض العضلي والإفراز، ونقل التيار العصبي والفعل المنعكس وتقلص أوراق النبات. والغرض من هذه المجاوبة اتقاء الخطر أو جلب النفع؛ وهي تختلف اختلافًا جوهريًّا عن المجاوبات الميكانيكية. أجل إن في الجماد أيضًا مجاوبات على التأثيرات الخارجية؛ بل إن ظاهرة فيزيقية بعينها، كالمجاوبة الكهربائية، توجد في مجاوبات المادة الحية وغير الحية، بيد أن مجاوبات الأحياء ظواهر خاصة كالتي ذكرناها، ولا يلاحظ مثلها في سائر المجاوبات. وفوق المجاوبة المشاهدة في النبات نجد الإحساس في الحيوان والإنسان، فإنه مجاوبة على تأثير خارجي، ولكنه «إدراك» لا يتسنَّى للنبات.

(٣) الغائية في الحياة النامية

من هذا الوصف للحياة النامية ووظائفها الكبرى يلزم أن في الحي مبدأً غائيًّا يوجهه إلى تمام طبيعته دون علم ولا إرادة. والعلم هاهنا لا يجدي، فإن تحليل الظواهر الفيزيقية والكيميائية التي تجري في البيضة لا يسمح لنا بتوقع النتيجة التي نراها فيما بعد. وحالما يوجد الجنين نراه يعمل للمستقبل كأنه يعلمه؛ وهذا المستقبل غير ظاهر فيه بالمرة. إن الحي يتعهد حياته، فإن عطب جزء من أجزائه أصلحه، وإن بُتِر جزء شفي جرحه، بل قد يستعيد عضوًا بتمامه في بعض الحالات. وعظام الهيكل الإنساني تجبر ما ينكسر منها، والألياف العصبية المجروحة تندمل جروحها، بل قد يستعيدها الحي، ولو في أطراف الجهاز العصبي. وفي جزء من الأخطبوط يظهر رأس أو ذيل. وكذلك تعود الأرجل التي يفقدها السلطعون، وقد لوحظت عودة مخ الحمام وذيل الحردون، وتصنع بعض الأعضاء ترياقًا لمادة سامة يصنعها عضو آخر، يصنع الترياق بوفرة تفوق الحاجة الراهنة، ويكون «احتياطيًّا» للمستقبل، أو مناعة مكتسبة. فليست هي الأعضاء التي تحدث الحياة، ولكنها الحياة التي تحدث الأعضاء لتكوين الحي، وتعيدها لاستبقائه. توجد قوة حيوية متقدمة على الجسم الحي، وهي مبدأ مدبر بالطبع دون تدبير مروي، وخير مثال للصورة في المركب منها ومن الهيولي، فإذا كان الجسم الحي آلة، فإنه آلة تصنع نفسها: هي المهندس وهي البناء، وفنها عجيب.

تلك هي الغائية الباطنة واضحة كل الوضوح في الوظائف الكبرى والصغرى. وليست الغائية الظاهرة — وهي ترتيب الكائن لغاية خارجة عنه — بأقل منها وضوحًا، فإن الموجودات — حية كانت أو جمادًا — مرتبطة بعضها ببعض أوثق ارتباط، وبذلك يتحقق النظام الكلي: هل يمكن دراسة العين بدون دراسة الضوء، أو دراسة الأذن دون دراسة الصوت؟ والشواهد عديدة لا تحصى، وبحسبنا ذكر تبادل الأكسجين والكربون بين عالم النبات وعالم الحيوان: ينظف النبات الهواء المشبع بالحامض الكربوني الناتج عن تنفس الحيوان ويحلله ويلفظ الأكسجين الضروري لحياة الحيوان، ويستنشق الكربون. هذا مع ملاحظة أن الغائية الظاهرة قد لا تتحقق دائمًا: ففي الوقت الذي لم تكن ظهرت فيه الحياة الحيوانية، لم تكن الحياة النباتية (إن كانت حينذاك) تبلغ غايتها الظاهرة؛ على حين أن الغائية الباطنة متحققة ضرورة، وإلا لم يوجد الموجود.

وقد اعترض الماديون على الغائية الباطنة بالمسوخ أو الأحياء الناقصة التكوين المشوهة الخلقة. والرد على هذا الاعتراض أن المسوخ ترجع، لا إلى صنع الطبيعة باعتبارها مبدأ غائية وترتيب وتنظيم، بل إلى فساد المادة التي يخرج منها الحي، ذاتًا أو تفريطًا أو إفراطًا، فتعجز عن مطاوعة الصورة. يدل على ذلك أن المسوخ قلة ضئيلة لا تذكر بالقياس إلى الأحياء المستوية طبقًا لطبيعتها؛ وأنها لا تحيا، أو تحيا حياةً ناقصةً، كأن الطبيعة تنكر الإخلال بقوانينها وتنتقم له، النظام هو الغالب، ولا وجه لتجريحه بشواذ لا حكم لها.

وخطر لبرجسون، وقد تبيَّن بطلان التفسير الآلي للحياة، أن الغائيين ينهجون منهج الآليين؛ إذ يتخيلون الجسم الحي مركبًا من أصول معينة جاهزة كما تتركب الآلة من أجزائها، مع أن الحياة فعل ذاتي موجد للأعضاء، فيجب اطِّراح الغائية أيضًا.٢ يريد أن الحياة فعل تلقائي وخلق فجائي، فهي تعلو على كل تفسير، وتدفع بنا إلى تصور العالم «تطورًا خالقًا» على مثالها؛ وأن العقل هو الذي يتصور الآلية، ويتصور الغائية على مثال الآلية، في حين أن التجربة باطنة وظاهرة ترينا الحياة ماضية في «وثبات» لا عداد لها. فرأي برجسون في المعرفة العقلية، على ما فصلناه ونقدناه في كتاب «العقل والوجود» هو الذي يتفق مع رفضه الآلية والغائية جميعًا، ومحاولته التسامي عليهما لاتخاذ موقف أعم. والحقيقة أن العمل الغائي في الحياة يختلف كل الاختلاف عن العمل الغائي المركب للآلة بأجزاء جاهزة، فإن هذه الأجزاء موجودة بالفعل وبتركيبها نحصل على كلٍّ عرضي، وأجزاء الحي لا توجد قبل تعضونها في كل جوهري، حتى إن اليد المبتورة لا تدعى يدًا إلا تجاوزًا على حد ملاحظة أرسطو، وقد فصلت عن الكل الذي يحييها وينميها. فالمبدأ الحيوي مبدأ وجود ومبدأ تعضون في آن واحد؛ أما مبدأ التركيب الآلي فهو مبدأ تركيب فقط. فليس تطور الحياة الكلمة الأخيرة في الوجود، ولا هو يمنع من السؤال عن أصله وعلته، بل بالعكس يحتم هذا السؤال من حيث إن لكل تطور علة، وإن الغائية المسندة إلى علة عليا هي تفسير وافٍ له.

(٤) حجج مادية

للماديين حجج يعارضون بها القول بالنفس كمبدأ حيوي متمايز من المادة الصرف، فينكرون تفوق الحي بالماهية على الجماد، ويذهبون إلى أن كل ما هنالك قاصر على تعقد القوى الفيزيقية والكيميائية. من حججهم تشبيه الحياة بالتبلور، واعتبارهم البلور حلقة وسطى تسد الثغرة بين الجماد والحياة. والواقع أن للبلور كما للحي شكلًا نوعيًّا معينًا يبين طبيعته؛ وأنه يكتسب هذا الشكل بالتدريج، ويتعهده بالاغتذاء في ماء التبلور، ويوجد بلورًا مثله بانقسام مادته، ويصلحها متى انكسرت أو تَلِفَتْ في موضع ما. ولكن الواقع أيضًا أن ليس في البلور دليل على الحياة: فالشكل هندسي، والبلور الكبير يتكون من بلورات صغيرة من نفس الشكل، والبلور في حالة توازن تام من حيث المادة والقوى، وهذا يعارض الحياة معارضة كُلية، وليس في البلور اغتذاء بأغذية غريبة عن المغتذي، ولا تمثيل، بل فقط تجمع أجزاءً من طبيعة واحدة، أي: تكوين جسيمات من ماء التبلور، ومن ثمة من طبيعة واحدة، تتبلور على التعاقب، وبقوة أشد في المواضع غير المنتظمة، ولا نمو من باطن ابتداءً من خلية واحدة تتنوع إلى أعضاء مختلفة، بل فقط قبول أجزاء من خارج بمحض التجاور، وهذا النمو من خارج ليس حيويًّا ولكنه فيزيقي بحت. ويلزم عن انتفاء الاغتذاء والنمو انتفاء التوليد بمعنى الكلمة، أي: بإيجاد جرثومة تصدر عنها عين الأفعال في عين المراحل، وتنتهي إلى تكوين حي جديد.

ويتخذون حجة على مادية الحياة انقسام النبات والحيوانات الدنيا أشخاصًا قائمة بذاتها من عين النوع، ويقولون: إن هذا الانقسام يعني أن الأحياء المنقسمة هكذا إلى أحياء تامة، ليست بسيطة ولكنها كالمادة قابلة للقسمة، خلافًا لما يدعيه القائلون بالنفس من أنها بسيطة غير منقسمة. وفعلًا من المعلوم منذ أمد مديد أن كل غصن ينتزع من نبات ويزرع أو يطعم به نبات آخر، فإنه يعطي شخصًا من النبات كله، أو يحتفظ بنوعه أو يعطي ثمرًا من نوعه، ولا يفيد من النبات المنقول إليه سوى الحياة. وفي الحيوان أيضًا نجد بعضًا منه، وهو البسيط التركيب، إن قسم أعطى أشخاصًا تامة التكوين بعدد الأقسام. ويمكن قسمة البروتوبلاسما، فكل قسم محتوٍ على جزء من النواة يحيا منفردًا حياة الشخص كله. والحيوانات العليا تبدو قابلة للقسمة في المرحلة الجنينية التي هي أبسط المراحل. ولكن كلما ارتقى الحيوان كان أشد إباءً للقسمة حتى في المرحلة الجنينية. وبعض الأجزاء المنتزعة تستطيع استطالة الحياة: فقلب الضفدع إذا انتزع استمر على النبض، وقطعة من عضل تحيا بعض الوقت، وتنقبض تحت التأثير الكهربائي، هذه الوقائع وأمثالها تفسر ببساطة التركيب وكفايته للحياة وللفعل: ففي النبات والحيوانات الدنيا ليست الوظائف وأعضاؤها مخصصة لفعل بعينه، فكل قسم منها ذي مقدار كافٍ فهو حاصل على ما يلزم لاستمرار حياة الكل؛ وهذا الحكم يسري على الأعضاء المنتزعة. أما في الحيوانات العليا فكل وظيفة فهي مخصصة بعضو أو جهاز، فلا تتحقق حياة الشخص إلا بتمامه، وما من عضو يستطيع أن يعيد بناء الحي بتمامه وأن يطيل بقاءه، فإذا قسم الحي هلك؛ بل ما من عضو يستطيع استطالة فعله بذاته، وإذا استطيل الفعل فليست حركته حركة حياة نامية، ولكنها حركة آلية راجعة إلى معالجة صناعية. فتلك الوقائع تؤيد رأي القائلين بالنفس ولا تنقضه، وليست القسمة واقعة على النفس مباشرة، ولكنها واقعة على بدن الحي ونسبته إلى الحياة.

ويقولون: بالتمثيل يحدث في داخل الخلايا الحية تحليلات شبيهة بتلك التي تحدث عن الفواعل الجمادية، وتحدث مركبات كيميائية من مواد دهنية توصل الكيميائيون إلى صنع مثلها خاضعة لعين القوانين، فليست الحياة مباينة للجماد. ولكنهم يغفلون عن الفوارق الكبيرة بين الطرفين: فالكيميائيون لم يصنعوا جميع المركبات؛ والتي صنعوها ليست مواد حية، بل الأحرى أن تسمى مواد حيوية، فلم يصنعوا ورقة نبات أو ثمرة أو عضلًا أو عضوًا، مع أن المادة الحية لا تحتوي إلا على العناصر التي تحتوي عليها المادة البحت. وصنعوا تلك المواد الحيوية بوسائل تختلف كثيرًا عن وسائل الحي: ففي الهضم مثلًا لا يستخدم الحي الأحماض القوية ولا الحرارة العالية أو الضغط المرتفع، وإنما تتركب المواد الحيوية تركيبًا طبيعيًّا في الحي فقط، ولا توجد طبعًا في عالم الجماد. وإذا كانوا قد أفلحوا في تقليد الهضم، فإنهم لم يفلحوا ولن يفلحوا في تقليد التمثيل أو أي فعل حي بمعنى الكلمة.

(٥) مبدأ الحياة أو النفس

وإذا جئنا إلى تفسير الحي تفسيرًا فلسفيًّا قلنا: إنه كائن واحد مع تعدد وظائفه وأعضائه. ومحال أن تكون المادة البحتة علة هذه الوحدة، فإنها هي ذات أجزاء متخارجة وقابلة للقسمة بالذات، ويستحيل أن تكون المادة البحتة علة الوظائف الحيوية لما بيَّنَّا من الفوارق الجوهرية بين أفعالها وأفعال الجماد. الأفعال الحيوية أرقى من القوى الفيزيقية والكيميائية مسيطرة عليها. ففي الحي إذن مبدأ مغاير للمادة هو علة حياته. وإذا كان الجسم الطبيعي مركبًا من هيولي وصورة، كما أسلفنا، كان ذلك المبدأ صورة الجسم الحي أو نفسه قبل أن يخصص ديكارت لفظ النفس، ويقصره على القوة المفكرة في الإنسان، ويتبعه معظم المحدثين، ولا بد من مزيد تعليل لوجود النفس النامية، ومزيد شرح لطبيعتها فنقول:

من الوجهة النسيجية نجد بين الخلايا اتصالًا عجيبًا يدل على الوحدة، فإن تكاثر الخلايا لا يتم بمحض انفصالها ومحض تجاورها، بل يتم بحيث يتكون منها بدن واحد، وبحيث يخضع بعضها لبعض، حتى إنه من جزء واحد، كالسن مثلًا، يمكن معرفة طبيعة الحي كله ورسم هيكله ووصف معيشته، فتنوع الأعضاء أو تبيانها لا يعطيها استقلالًا الواحد عن الآخر، ولكنها تتسق وتتوافق، فتبين الوحدة تمام التبيين. ومما تجب ملاحظته أن العظام والعضلات والأعصاب ليست متشابهة في جميع الأحياء، فإن هناك فرقًا جوهريًّا بين عظم الإنسان وعظم الكلب مثلًا. وكثيرًا ما أخطأ العلماء في استدلالهم بفعل دواء ما في حيوان أو حيوانات ما على فعل هذا الدواء في الإنسان، ومن باب أولى ليس يمكن القول بأن الحي «مستعمرة خلايا» لكلٍّ منها حياتها الخاصة: هذه وحدة عرضية كالتي في الآلات الصناعية، لا تكفي تعليلًا للوحدة النامية في الوجود وفي الفعل على ما هو ظاهر في الجسم الحي. فليس الحي آلة مركبة من خلايا أو من أعضاء، وإلا كان كل جزء ينتج جزءًا من الحي، بينما هو ينتج الحي بتمامه. وإذا سلمنا جدلًا أن التركيب علة الحياة — وهذا محال كما قدمنا — سألنا عن علة التركيب ذاته، إذ ليس للمادة أن تتركب هكذا أجزاءً معينة مؤتلفة بعضها مع بعض مطَّردة الظهور والفعل؛ ثم سألنا عما يحفظ على الجسم الحي كيانه، وهو دائم التغير حتى تزول مادته بأكملها مرات أثناء العمر.

وليس للقوى الفيزيقية والكيميائية في الحي أفعال مستقلة، ولكنها آلات لمبدأ الحياة. وهذا هو السبب في أنها تحدث في الحي معلولات أشرف منها، هي الأفعال الحيوية، مما هو شأن الآلة تحت توجيه المنصرف فيها، النفس ترفعها إلى مرتبة أعلى، وتدبرها بقواها المنمية والمولدة. فالعناصر المركبة للخلايا موجودة فيها على نحو أسمى من وجودها مستقلة. وأظهر ما يبين سيطرة المبدأ الحيوي أو النفس تقدم الوظيفة على العضو، فإن الأحياء المكروسكوبية تهضم وتتنفس وتتناسل وتنقبض وتحس دون أعضاء. ففائدة الأعضاء المعاونة على استكمال الوظائف، لا على توفير الحياة وبناء الحي، فإن الوظائف في أسفل سلم الأحياء منبثة في كل الجسم، ثم تتمكن وتستكمل خلال هذا السلم.

على أنه لا ينبغي تصور النفس النامية روحية، وجوهرًا تامًّا متقومًا بذاته، ومدبرًا للجسم من خارج. في هذا التصوير لا يكون الجسم حيًّا، بل يكون آلة صناعية كما قال أفلاطون وديكارت، وقد بيَّنَّا بُطلان هذا القول. وفي هذا التصور خلط بين البساطة والروحية: النفس النامية صورة جوهرية أو قوة بسيطة غير منقسمة بالفعل، وإن كانت منقسمة بالقوة على ما فصَّلنا، وهكذا تتحد بالجسم اتحادًا كليًّا، وتحفظ عليه كيانه، وتؤلف وإياه موجودًا واحدًا هو الذي يحيا ويعمل. ليس لها مقدار لا بالذات ولا بالعرض، فهي موجودة كلها في الجسم كله، وموجودة بقواها في كل جزء منه، فهي في العين بقوة الإبصار، وفي الأذن بقوة السمع، وهلم جرًّا. فهي في الكل أولًا وبالذات؛ لأنها صورته الجوهرية، وهي في الأجزاء ثانيًا بمختلف القوى. ولو كانت متصلة بالجسم كالمحرك فقط لجاز أن يقال إنها ليست في كل جزء منه، بل في جزء واحد فقط به تحرك سائر الأجزاء؛ ولكنها متصلة بالجسم كالصورة الجوهرية، فيجب أن تكون فيه كله وفي كل جزء منه كما أسلفنا. وجميع أفعالها تتم بأعضاء جسمية وبوساطة كيفيات جسمية، وإذن فليست هي روحية، ونستطيع أن نقول: إنها مادية، لا بمعنى أنها مادة، أو أنها مركبة من هيولي وصورة؛ إذ إنها هي صورة ومبدأ وحدة، بل بمعنى أنها عاجزة عن التقوم بذاتها باستقلال عن الجسم الذي توجد فيه وتحييه.

وليس في الحي سوى نفس واحدة متعددة القوى والوظائف، وإلا انفصمت وَحدته. وهذا التمييز بين الماهية وقواها سنصادفه عند الكلام على النفس الحاسة والنفس الناطقة للغرض عينه، وهو صون الوحدة في الحيوان وفي الإنسان فنقول: إن للحيوان نفسًا واحدة لها قوى النفس النامية وتزيد عليها الحواس، وإن للإنسان نفسًا واحدة لها قوى النفس النامية والنفس الحاسة، وتزيد عليها العقل والإرادة. غير أن بعض الفلاسفة أخذ القوة كأنها ماهية فوضع في الإنسان أكثر من نفس واحدة: مثلما يذكر عن الفيلسوف الصيني «تسي تسشان» من أهل القرن السادس قبل الميلاد أن قال: إن للإنسان نفسين؛ واحدة سفلى تقوم بوظائف الحياة النامية، وتتكون من الجسم، وأخرى عليا تتكون شيئًا فشيئًا بعد الميلاد بتكاثف الهواء المستَنشَق، والنفس السفلى تتبع الجسم إلى الغير ثم تتلاشى أما العليا فتخلد. وذهب أفلاطون إلى أن للإنسان ثلاث نفوس: واحدة في الرأس للأفعال العقلية، وثانية في الصدر للأفعال الغضبية، وثالثة في أسفل الحجاب للأفعال الشهوية. وهذان الرأيان يتضمنان تمييزًا واضحًا بين الحياة النامية وحياة الإدراك، وبين ما يفنى من الإنسان وما يبقى، ولكنهما يقضيان على وحدته.

ويظن الكثيرون من العامة، بل بعض العلماء أيضًا، أن للنبات حياة حاسة، مستشهدين بانقباض بعض النبات على الذباب أو غيره من الحشرات التي تحط عليه وتماسه. لكن الحساسية ينم عليها أفعال تلقائية تصدر دون سوابق ثابتة مجاوبة على الإحساسات، وهذه متنوعة مفاجئة، فتتنوع تلك الأفعال تبعًا لها، ويستحيل على المُشاهد توقع اتجاهها ومداها وتغيراتها ومدتها. وأفعال النبات آلية تتم على وتيرة واحدة ويمكن توقعها؛ فانقباض النبات فعل منعكس آلي لا نتيجة إحساس. ثم ليس للنبات أعضاء حاسة، وليس الإحساس مجرد تأثر الأعصاب، ولكنه الإدراك الموعي الحادث بعد تأثر الأعصاب، وما من إدراك موعٍ إلا بوساطة أعضاء مخصصة بموضوعات.

(٦) أصل الحياة

إذا كانت طبيعة الحياة مباينة لطبيعة المادة الصرف وقواها الفيزيقية والكيميائية، فما أصل الحياة؟ تلك هي المسألة الأخيرة في هذا الباب، ولا يعلم أصل الشيء إلا بعد العلم بطبيعته؛ ولقد كان عدم العلم بحقيقة الحياة سببًا في تعدد الآراء في أصلها وبطلان هذه الآراء. فمنذ أمد بعيد كان الاعتقاد شائعًا بأن بعض الحيوانات الدنيا تتولد من الماء الآسن والطين والجثث المتعفنة؛ أو أن الأحياء جميعًا تولدت في مياه الأنهار والبحار، ثم تطورت إلى ما نشاهده الآن: وهذا ما يسمى بالتولد الذاتي، أي التولد الحادث عن الجماد مباشرة، لا عن حي سابق.

ولكن وجد من الفلاسفة عدد قليل لم يمنعهم هذا الاعتقاد من الإيمان بمبدأ العلية، وما يُحتِّمه هذا المبدأ من علو العلة على المعلول، أو مساواته على الأقل، فلا تكون أدنى منه؛ فعلل أرسطو نشوء الحي من غير الحي بتأثير الأجرام السماوية في المادة الأرضية؛ وكانت هذه الأجرام، في نظره ونظر اليونان عمومًا، أجسامًا أثيرية تحركها أرواح، فكانت لها في ظنهم فاعلية أعلى من فاعلية العناصر الأربعة. واصطنع هذا الرأي الفلاسفة المسلمون والمسيحيون في العصر الوسيط، فأقروا بذلك بقصور العناصر الأرضية عن توليد الحياة، ووجوب إضافته إلى فعل الشمس وغيرها من الكواكب، اعتمادًا على حكم العقل بأن الأكثر لا يخرج من الأقل أو أن الأكمل لا يخرج من الأنقص. وظل هذا الإيمان بالفاعلية السماوية سائدًا إلى أن أثبت باستور بالتجربة القاطعة أن تلك الحيوانات تتولد من جراثيم حية لا ينالها البصر المجرد، وأن كل حي فهو من حي.

وارتأى القديس أوغسطين أن الله في البدء أودع المادة البحت غير المعضونة بذورًا حية، كمنت فيها ونمت بعد ذلك في مختلف الأنواع على مر الزمان. وهذا الرأي جائز في حد ذاته؛ لأنه يرجع الحياة إلى فعل الخالق، ويرجع الأنواع الحية إلى أصول خاصة بكل نوع، فيحترم مبدأ العلية ونبذ الرأي القائل بالمادة الحية بما يتضمنه من التمييز البات بين الحياة والمادة، وما يضع تبعًا لذلك من مبدأ للحياة متمايز من المادة هو الأصل البذري المودع من الله. وليس يمكن دحضه بالتجربة، فكل ما تشهد به هو أن الجسم الحي يخرج دائمًا من الحي «الآن»، أي في عهد التاريخ، ولا تدل بذاتها على أن الله لم يستخدم التولد المشكك لإيجاد الأحياء الأولى، غير أنه ليس من الطبيعي للبذرة الحية أن تكمن في المادة البحت لما بينهما من منافاة تعطل البذرة عن كل عمل أزمنة متطاولة إلى أن تطلق من أسرها وتشرع في نشاطها. وإذا كان الغرض من احتباسها على هذا النحو تنزيه الله عن تكرار الخلق، فإن هذا التكرار متحقق فعلًا بالنسبة للنفوس الإنسانية على الأقل، وهي روحانية تعلو على الأسباب الطبيعية وتحتم خلقًا من الله. فلا موجب لهذا الرأي.

ويشبهه رأي النظام المعتزلي، وقد صدر عن الغرض السابق، وأخذ مثل أوغسطين عن الرواقيين، فقال: «إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، ولم يتقدم خلق آدم خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة.»٣ وليس لدينا شيء نقوله بعد الذي قلناه ما دام الرأي واحدًا عند أوغسطين وعند النظام.
وكان لابن سينا موقف غريب حاول به أن يجمع بين فاعلية المادة والفاعلية السماوية. قال: «وقد يتكون من العناصر أكوان بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجًا أكثر اعتدالًا، وأولها النبات … فإذا حدثت مادة بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها، أحدثت العلل المفارقة [الأرواح المحركة للكواكب] النفس الجزئية … فالنفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح. لاستعمالها إياه.»٤ ونحن ننكر جواز تكوُّن أجسام صالحة لاستعمال النفس إياها، من العناصر، سواءٌ أكانت العناصر فاعلة وحدها أو متأثرة بالكواكب، فإن فاعليتها الخاصة، وهي مادة صرف، لا تسمو إلى هذه المرتبة، وفاعلية الكواكب، خصوصًا كما نعلمها الآن، لا تتناول مثل هذا التكوين، ولا تخلق نفوسًا، فإن الخلق لله وحده.

وبدا لبعض العلماء المعاصرين، وأشهرهم هلمولتز، أن الجراثيم الحية هبطت إلى الأرض من بعض الكواكب. ولكن هذا الرأي يدع المسألة حيث هي؛ إذ إننا نفحص عن أصل الحياة أرضية كانت أو فلكية، وكل ما يفعله أصحابه هو أنهم يرجعون القهقرى إلى زمن مديد وعلة خارجة عن مشاهدتنا، وكان يتعين عليهم أن يفسروا أصل الحياة في تلك الكواكب، وذهب غيرهم إلى أن حرارة الشمس كانت في العصور الخوالي أشد بكثير مما هي الآن، فكانت أغنى بالأشعة فوق البنفسجية وأقدر على تركيب المادة الحية. ولكنهم غفلوا عن نقطة جوهرية هي أن مثل هذه الحرارة كانت خليقة أن تقتل الحياة لا أن توجدها.

فيبدو لنا بعد هذا العرض وهذه المناقشة أن الحياة بدأت على الأرض بفعل الله خالق المادة والحياة، وأن لا سبيل إلى تفادي هذه النتيجة.

هوامش

(١) ابن سينا: النجاة ص٢٥٧.
(٢) Evolution créaxtrice p. 40–57, 95–106.
(٣) الشهرستاني: كتاب الملل والنحل، الجزء الأول، ص٧١، ٧٢ من طبعة القاهرة.
(٤) ابن سينا: كتاب النجاة، ص٢٥٦، ٣٠١، ٣٠٤ على التوالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤