الفصل الثاني

البرهنة على وجود الله

(١) ثلاثة براهين عامة

جعلوا من البرهنة على وجود الله معضلة كبرى، وهي في الحقيقة من أيسر البرهنات، خلافًا لما ظنَّ بسكال وأضرابه، بل لعلها أيسرها، لدورانها على معانٍ غاية في البساطة، كمعنى الفعل والقوة، وعلى مبادئ غاية في البيان، كتقدم الفعل على القوة. فما إن نتأمل معنى الفعل حتى ندرك تقدمه على القوة.

وما إن ننظر في شواهد القوة حتى ندرك بساطتها وبيانها وخضوعها لهذا المبدأ خضوعًا مطلقًا لا يحتمل أدنى تردد، بل يقودنا رأسًا إلى اليقين الناصع.١ هذه الشواهد هي: التركيب، والتغير، والحدوث، والتناهي: أربعة وجوه يتبين منها نقص العالم، واحتياجه إلى موجود كامل يفسره. وهذا هو الأصل في اشتغال العقل بالفحص عن وجود الله وماهيته.

فالمركب تابع لأجزائه لاحق عليها، وليس التابع اللاحق مفسرًا بنفسه، بل بأجزائه، وبالعلة المركبة. والمتغير لا يتغير بذاته من الوجه الذي هو فيه بالقوة، فليس للساكن أن يتحرك إلا بمحرك حاصل على قدرة التحريك بنفسه، أو متحرك بآخر، حتى نصل إلى محرك بنفسه. والحادث، أي الموجود بعد لا وجود، لا يوجد ذاته، وإلا كان سابقًا على ذاته، وهذا بيِّن البطلان في كل ما لا يوجد بنفسه. والموجود المتناهي المحدود محصور في ماهية معينة، وفي مكان وزمان معينين، وينقصه ما خلا ذلك من ماهيات وأمكنة وأزمنة، فلا يكون مبدأ أولًا مفسرًا بنفسه. وغير صحيح أن فكرة اللامتناهي الكامل سابقة في عقلنا على فكرة المتناهي الناقص. ولأجل أن نعلم أن موجودًا ما هو ناقص، فلا حاجة إلى مقارنته بالكامل، بل تكفي مقارنته بموجود أقل نقصًا منه.

هذا إجمال للبراهين على وجود الله، قد يقنع به المتأمل في معانيها ومبائدها برؤية بريئة من تقليد المنكرين وإغرابهم. ولكن المنكرين قد أسرفوا حقًّا في الاعتراض والتخريج والإغراب، فلابدَّ من استئناف النظر في تلك البراهين لزيادة جلائها، ودفع الشبهات عنها، ودحض الاعتراضات عليها، كي تخرج جلية ناصعة شارحة للصدور. ولم نشأ أن نجمع كل ما أسمي برهانًا أو دليلًا، فإن منها الضعيف الحقيق بالإبطال، وأخصر من الإبطال والإغفال، والنتيجة واحدة. بل اقتصرنا على ثلاثة براهين عامة، أي شاملة للموجود بما هو موجود أعني لجميع الموجودات، وخمسة منطبقة على طائفة معينة أو ناحية من الوجود.

(٢) برهان من الحركة إلى محرك ثابت

كل موجود طبيعي؛ فهو متحرك إما بالنقلة من مكان إلى آخر، أو من حال إلى غيرها، أو من مقدار إلى أكثر منه، وبالعكس. فالحركة ظاهرة عامة في الطبيعة. ومبدأ البرهان أن ليس يمكن أن يكون شيء بعينه محركًا لنفسه، وإلا لزم وجوده قبل نفسه، وهذا محال، حتى الكائن الحي الذي نقول إنه متحرك من ذاته. فإنه منتظم من قوى ومن أعضاء يحرك أحدها الآخر. فكل متحرك هو في الحقيقة متحرك من غيره. وسنبين الآن أنه لا يجوز التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل المحركة، وأن لا بد من الانتهاء إلى محرك أول غير متحرك.

وليس المقصود فقط الحركة المادية الآلية، بل كل تغير أو خروج من القوة إلى الفعل، كخروج الإرادة التي هي قوة روحية، فنصل إلى محرك كلي يحرك كل موجود، مباشرة لا بالواسطة، فإن العلة الأولى تفعل في كل فعل؛ لأنها علة كل وجود، والفعل وجود، لكن بحيث يكون لكل موجود أيضًا فعل خاص، على ما سنوضحه بعد.

وليس المقصود الرجوع إلى لحظة أولى بدأت فيها علية الله، كما يتوهم كثيرون، بل الصعود في الآن الحاضر وفي كل آن إلى علة أولى. بغض النظر عن قدم العالم وحدوثه. وهذا يعني أن البرهان يعتمد بالذات على علل مقتضاة بالذات للمعلول ومرتبة فيما بينها، فهي متناهية العدد حتمًا، وإلا لم يوجد هذا المعلول. والفارق بين هذا الترتيب أو التسلسل بالذات وبين التسلسل الزماني أو بالعرض أنه ليس يستحيل أن يتولد الإنسان من إنسان إلى غير نهاية إذا افترضنا قدم العالم، وهذا تسلسل بالعرض، بينما يمتنع التسلسل لو كان توليد إنسان متوقفًا على إنسان وعلى العناصر الطبيعية وعلى الشمس، وهكذا إلى ما لا يتناهى.

وامتناع التسلسل في العلل يعني عدم الوصول أبدًا إلى علة أولى، أو عدم وصول العلية إلى المعلول، فيظل المعلول الذي نطلب علته معلقًا بلا علة، ويبطل مبدأ العلية، وهو بديهي لا يمكن إبطاله. وليس معناه أن لكل موجود علة، كما ظن كنط، بل إن لكل معلول علة، أي لكل ما يظهر للوجود ويدل بهذا الظهور على افتقاره، وإلا لأدى مبدأ العلية إلى إنكار العلية، كما تقدم، وهذا خلف. وتتضح ضرورة الوقوف عند علة أولى إذا عكسنا السير وحاولنا التأدي من العلة إلى المعلول، فإننا نرى حينئذ استحالة هذه المحاولة أيضًا، من حيث إننا افترضنا مسافة غير متناهية بين الحدين، والمعلول مع ذلك ماثل أمامنا. فهل هناك برهان أبين من هذا؟

(٣) برهان من النظام إلى منظم

يمضي هذا البرهان من النظام البادي في الأشياء وفي علاقاتها بعضها والبعض، حتى العاطلة عن المعرفة، فإنها جميعًا توجد في هيئة مخصوصة متناسقة، وتفعل دائمًا أو في الأكثر على سياق مطَّرد، إذا لم يعقها عائق، كما يبين من تجربتنا اليومية ومن القوانين العلمية، فتصون وجودها وتصون النظام في العالم؛ مما يقطع بأنها لا تبلغ إلى غايتها مصادفة، بل قصدًا، والمصادفة لا تجري على نظام، ولا ترمي إلى نظام. وإذا فرضنا المستحيل وسلمنا جدلًا أنها قد تؤدي إلى النظام مرة، فليس يعقل أن تكون هي سبب تحقيق النظام في جميع الكائنات، وسبب استمراره واطِّراده، ومبدأ البرهان أن الكائن الخالي عن المعرفة، لا يتجه إلى غاية ما لم يوجه إليها من عارف، وأن المتباينات لا تتسق بعضها مع بعض ما لم يطبعها طابع على الاتساق. والنتيجة أن لا بد من موجود عارف صنع الكائنات، ورتب لكل منها هذين النوعين من النظام، واحد له في ذاته، وآخر له مع غيره.

ومما تجب ملاحظته أن هذا البرهان، في حد ذاته، لا يقتضي إثبات نظام شامل في العالم أجمع، بل حتى لو أربت جملة الاضطراب على جملة النظام — وهذا محال — يبقى من المتعين الفحص على علة النظام حيثما وجد. والعلامة المميزة للمصادفة، والمفرقة بينها وبين الغائية، هي عدم الاطراد وعدم النظام، بينما النظام السائد في العالم ثابت كل الثبات، مطَّرد بلا تخلف على تعقده، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعًا يقينيًّا: فكيف يُدَّعى أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة، أي من عدم النظام وعدم الاطراد؟ ومع ذلك فهذا ما يدعيه منكرو الغائية. وهم يؤيدون دعواهم بقولهم: إن جميع الذرات المركبة للأشياء قد تحققت تركيباتها مرة أو أخرى ضرورة في غضون أزمنة متطاولة.

ونحن نرد بأن من الممكن جدًّا بل من الراجح جدًّا أن تكون أبسط المركبات هي التي تحققت، وهي التي تعود إلى ما لا نهاية لقلة ذراتها وسهولة اجتماعها، ولا تكون عادت المركبات المعقدة. ونسألهم: ماذا تفيد المركبات المعقدة لو عادت ملايين المرات؟ كيف نسلم بأن الحياة والفكر ينتجان عن اجتماع ذرات مادية، أي عن قوى عمياء؟ إحدى اثنتين: إما أن موجودًا عاقلًا صنع العالم المادي، أو أن العالم المادي صنع العقل والعاقل، ولا وسط بين الطرفين؛ ولا ريب أن الطرف الأول أكثر رجحانًا وأيسر قبولًا.

وعلى ما لهذا البرهان من قوة وحُظْوة في كل عصر، فقد عارضه كثيرون. أهم اعتراض أن العالم متناهٍ، فلا يقتضي سوى منظم متناهٍ، وأن الانتقال من المنظم المتناهي إلى منظم غير متناهٍ، غلط منطقي هو أشبه شيء بغلط دليل القديس أنسلم حيث ينتقل من الموجود الكامل المتصور في الذهن إلى موجود كامل في الحقيقة. والجواب أن هذا القول كان يصح لو أن نظام العالم ترتيب أشياء جاهزة واستخدام علاقات خارجية على ما يصنع صانع الساعة، أو أي آلة من آلاتنا؛ حينئذ كان يمكن أن يقال: إن هذا البرهان يؤدي إلى مهندس متناهي الذات ليس غير؛ ولكن نظام العالم ناتج من تجهيز الأشياء أنفسها بإيجادها على نحو معين منسجمة الأجزاء ثابتة التركيب باقية الخصائص؛ فهو صنع صانع الأشياء، مادة وصورة. ثم إن هذا الصانع إمَّا أن يكون وجوده بذاته، فلا يعود للاعتراض وجه؛ إذ يكون هو الإله اللامتناهي الذي نفحص عن وجوده؛ وإما ألا يكون بذاته، فيصبح هو موضوع سؤال ومطلوب برهان، حتى نصل إلى العلة الأولى اللامتناهية. وأخيرًا فلا جدوى من هذا الاعتراض؛ لأننا نصل على كلِّ حال إلى علة أرفع منا، وإذا سلمنا بها، أي بمهندس للكون، فما الذي يمنع من التسليم بإله خالق غير متناهٍ؟

وقد وجه هنري برجسون إلى هذا البرهان هجومًا لم يخطر لأحد من قبل، قال: إن النظام على نوعين، أحدهما آلي، والآخر إرادي، والنظام ضروري دائمًا على إحدى هاتين الصورتين، وما يسمى عدم نظام تعبير منا عن حالة لم نكن نتوقعها أو لا نريدها، كما إذا قلنا عن غرفة: إنها غير منظمة، فمعنى هذا أننا كنا نتوقع أن نرى فيها نظامًا إراديًّا، وإذا بنا أمام نظام آلي، ومن هنا نرى أن فكرة عدم النظام فكرة زائفة، وأن من العبث التساؤل عن سبب النظام، فهذه مسألة يجب محوها.٢

وجوابنا أن التسليم بهذين النظامين لا يمنع من تصور عدمهما جميعًا. فمن الضروري التساؤل عن سبب النظام متى وجد؛ لأن كل نظام فهو معلول، وليست الآلية مصدر نظام، وعلى ذلك فليس يوجد نظام آلي إلا بافتراض منظم للعلل الفاعلية، فيرجع النظام الآلي إلى الإرادي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن انتظام الموجودات كل في ذاته وكلها فيما بينها، يوجدان في نفس الوقت، فإنَّ النظام العام يعني أن الموجودات مختارة لهذا الغرض من بين الممكنات. وأخيرًا إن النظام نسبة الوسائل إلى الغاية، والنسبة أثر من آثار العقل، وعدم النظام أثر عدم العقل، والعلل الفاعلية لا تشرع في العمل إلا إذا كانت موجهة إلى غاية؛ لذا كانت الغاية علة العلل. فمتى وجد النظام وجدت له علة، وهي علة عاقلة أو مرتبة من عاقل.

ومن الطبيعي أن يخطر اعتراض آخر، فيقال: كيف يمكن أن تؤثر الغاية غير الموجودة بعد، وأن يؤثر المستقبل في الحاضر، وما ليس موجودًا فيما هو موجود؟ وجوابه: أن الغاية علة حقة بما هي متصورة ومرادة، فيسبق لها وجود في فكر الفاعل، وإما بما هي مرتسمة في طبيعة الفاعل، دافعة به إلى العمل، كما نشاهد في تطور الجنين، إذ تنبت أعضاء مخصصة في تتالٍ مخصص، دون أن يكون لها شأن بحاضره، وإنما هي تهيئة لمستقبله. وجميع الطبائع الجمادية والنباتية والحيوانية فاعلة على هذا النسق، موجهة إلى بقاء الموجود وخيره بكليته. وليس يمكن أن ينتج مثل هذا الانسجام آلي، ولكن ينتج من سبق تدبير طبيعي. قد نخطئ إذا ظننا أن غاية الخراف توفير حاجتنا من الصوف، وغاية البنجر توفير حاجتنا من السكر، والغاية من صياح الديك منعنا من الاسترسال في النوم، وأن الشمام رسمت فيه الطبيعة قطعًا كي يؤكل في الأسرَّة. هذه غايات ظاهرة تجيز لخصوم الغائية أن يتندروا بها وبأمثالها. ولكنا لا نخطئ إذا توخينا الغايات الباطنية، واعتقدنا أن الغاية من صوف الخراف إمدادها بالحرارة اللازمة لحياتها، وأن الطبيعة وفرت وسائل أخرى للمحرومين من الصوف.

وعلى أي حال فليس احتجاج خصوم الغائية بحاسم، فقد تكون الغاية هدفًا يقصد إليه، كما ندعي نحن، وفي نفس الوقت نهاية أفعال آلية دون قصد كما يقولون. أجل إن الطير يطير؛ لأن له جناحين، وإن الساعة تسجل الوقت؛ لأن أجزاءها متناسقة؛ ولكن أجزاء الطير وأجزاء الساعة اتَّسقت للطيران ولتسجيل الوقت، لا لشيء آخر، ولولا هذا الاتساق لتعطل الطير وتعطلت الساعة حتمًا، فإنكار وجود صانع صنع الساعة عن قصد وعقل غلط ليس له أدنى مسوغ. كذلك الطيران هو العلة الغائية للجناحين، وهو الملحوظ في تركيب الطير هذا التركيب المعين. وإنما يبدو القصد والعقل من النسب المتناسقة والوسائل الكفيلة بإنتاج نتائج جميلة نافعة. والعالم مصنوع تسطع فيه أعجب الأنظمة وأدق الوسائل للغايات المنشودة. فهو إذن صنع علة عاقلة. ثم إن للإنسان عقلًا، وليس هو صانع نفسه، فكيف لا يكون صانعه عاقلًا؟

وقد كان خليقًا بالمتندرين أن يحذوا حذو أصحاب الغائية، ويمتحنوا شواهدها التي لا تحصى كي يروا إن كانت متفقة مع المنهج العلمي، ذلك ما فعله ابن رشد في صفحة نريد أن نثبتها هنا مثالًا للاستدلال السليم، قال: إن الشمس لو كانت أعظم جرمًا وأقرب مكانًا لهلكت أنواع النبات والحيوان من شدة الحر. وكذلك لو كانت أصغر أو أبعد لهلكت من شدة البرد. وتظهر العناية في أنه لولا فلكها المايل لما كان هنا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف.

وهذه الأزمان ضرورية في وجود أنواع النبات والحيوان. ولولا الحركة اليومية لم يكن ليل ولا نهار، وكانت تكون نصف السنة نهارًا، والنصف الأخير ليلًا، وكانت الأشياء تهلك من الحر في النهار، ومن البرد في الليل. وأما القمر فأثره بيِّن في تكون الأمطار، وإنضاج الفواكه؛ ولو كان أعظم أو أصغر أو أبعد أو أقرب، أو لم يكن نوره مستفادًا من الشمس، لما كان هذا الفعل، وأيضًا لو لم يكن له فلك مايل، لما كان يفعل أفعالًا مختلفة في أزمان مختلفة؛ ولذلك تسخن به الليالي في زمن البرد، وتبرد في زمن الحر: أمَّا سخونتها في زمن البرد فلأن وضعه منا يكون كوضع الشمس في زمن الحر بأن يكون أقرب إلى سمت رءوسنا إذ كان فلكه أكثر ميلًا. وأما في زمان الحر فيكون الأمر بالعكس إذ كان أبدًا إنما يظهر في الجهة المقابلة للشمس … وليس ينبغي أن يتوهم أن ذلك لغير العناية بما هاهنا. وعلى مثال ما قلنا في الشمس والقمر ينبغي أن يعتقد الأمر في سائر الكواكب.٣

(٤) برهان من الممكن الوجود إلى الواجب الوجود

الكائنات المختلفة تتكون وتفسد، تظهر وتزول، فهي قبل التكون والظهور ممكنة، قد توجد وقد لا توجد، وليست معينة بذاتها وطبيعتها لأحد هذين الطرفين، فلا توجد إلا لأمر مرجح، بعكس الممتنع لذاته وطبيعته، فإنه لا يوجد أصلًا، كالدائرة المربعة؛ وبعكس الواجب لذاته وطبيعته، فإنه موجود ضرورة، كالله، على ما سنذكر بعد، فلو لم يكن هناك موجود واجب، وكانت جميع الكائنات ممكنةً وقتًا ما، لما كان يوجد شيء الآن، ولن يوجد شيء أبدًا. والممكنات الموجودة كثيرة جدًّا، وإذن يوجد موجود واجب.

وليس يمكن أن يكون هذا الموجود مجموع الكائنات، فإنها متغيرة، والمجموع متغير مثلها: إنه مزاج من فعل وقوة، ومن ثمة غير موجود بذاته، والتغير في عمومه يقتضي علة منزهة عن التغير، كما بيَّنَّا في برهان الحركة.

ومحال التداعي إلى غير نهاية في سلسلة الممكنات، كما أثبتنا آنفًا. وحتى لو كانت هذه السلسلة أزلية، فإنها عاجزة عن توفير علة كافية للوجود موجودة بذاتها. وإذن يوجد موجود ضروري لذات ماهيته.

ولا نقولن مع الغزالي:٤ إن من التناقض إثبات صانع العالم مع الاعتقاد بقدم العالم، كما فعل الفلاسفة؛ إذ ليس الصنع متعلقًا بسبق العدم، وإنما هو لازم لإيجاد الممكن في أي زمان كان، وسنبين في مسألة حفظ الله للمخلوقات أن المخلوق مفتقر إلى الله في كل آن.

ويدعي كنط أن هذا البرهان مركب على غرار دليل القديس أنسلم المدعو بدليل الأنطولوجي الذي يستنتج من فكرة الموجود الضروري فكرة وجود موجود كلي الكمال، وهذه نتيجة إذا عكسناها عادت «الموجود الكلي الكمال موجود ضروري، أي يوجد ضرورة». ولكن برهاننا يمضي من الوجود الواقعي لموجودات ممكنة لاستنتاج وجود واقعي تقتضيه.

(٥) خمسة براهين خاصة

تلك هي براهين عامة، أي شاملة لكل موجود طبيعي. وهي يقينية لأول وهلة إذا خلصنا اليقين من الشوائب التي غشَّوْه بها. تستند على يقينيات كالمشاهدات التجريبية ومبدأ العلة الفاعلية، ومبدأ العلة الغائية، بحيث تبدو أنها وفطرة العقل شيء واحد. وهنالك براهين أخرى خاصة، أي مأخوذة من موجودات معينة أو وجهات معينة للموجودات، لا تقلُّ عن تلك إحكامًا وضرورةً ويقينًا:
  • برهان أول: من حيث العموم والشمول موضوع تضاؤل الطاقة في الطبيعة: فقد كان المعتقد أن الطاقة ثابتة للمادة، لا تخلَق ولا تندثر، وأن المادة لا تخلَق ولا تندثر، ثم تبيَّن أن الطاقة تنتظم من قسمين، قسم عامل يتحول إلى كيفية من الكيفيات الطبيعية كالحرارة مثلًا، أو كالحركة، وقسم ساكن عديم الأثر كأنه معدوم، وأن القسم العامل تتضاءل كميته باستمرار، فدلَّ ذلك على أمور هامة للغاية:
    • أمر أول: أن الطاقة — وبخاصة الطاقة العاملة — ليست للمادة بماهيتها، كما اعتقد كثيرون في مقدمتهم الماديون، فهي إذن آتية من علة مغايرة لها، وأن لوجود المادة نفسها علة.
    • أمر ثان: أن العالم ليس أزليًّا؛ لأن تضاؤل الطاقة العاملة يعني أنها متناهية ذاهبة إلى النفاد، فلو كانت الطاقة أزلية لنفدت حتمًا.
    • أمر ثالث: أن العالم ليس أبديًّا ما دامت الطاقة متروكة لشأنها، وهي زائلة، فإذا بقي العالم كان بقاؤه بفضل علة متمايزة منه.
  • برهان ثان: مأخوذ من علم الحياة. وهو أضيق نطاقًا من البرهان السابق: مؤداه أنه يمتنع تفسير الحياة بالعناصر المادية وحدها، فلا بد من خالق لها، على ما بينَّا هنا في مبحث الحياة النامية.
  • برهان ثالث: مستمد من غرائز الحيوان، وهي جزء من كيانه لا يتجزأ، وهي وكيانه أعجب ما يكون من بين الغائيات تنوعًا ودقةً.
  • برهان رابع: أو براهين لا تحصى مستمدة من وجهات تبدو فيها استحالة تعليل أي شيء كان بدون الله. وهي براهين خُلف تعدل البراهين المستقيمة قوة ودلالة.
  • برهان خامس: متخذ من النفس الإنسانية، وما نشعر به من اشتهاء السعادة اشتهاءً ضروريًّا، وتجربتها أن الخيرات الجزئية لا توفر لها إلا سعادات جزئية زائلة قد يكون جُلُّها زائفًا خادعًا، وعلمها بأن السعادة لا تتحقق إلا بالخير بالذات البريء من كل شائبة؛ وأن من المستحيل ذهاب النزوع الطبيعي عبثًا، إذ إنه يكون حينئذ بلا غاية ولا علة، وما كان هكذا فهو متناقض معدوم، فإن للنزوع الطبيعي نسبة إلى غاية وميلًا إليها؛ فتحكم النفس بوجود موجود هو الخير بالذات الذي يرضي ذلك الميل تمام الرضى. وما لمبدأ الغائية من قيمة مطلقة يعطي هذا البرهان قيمة مطلقة. وإذا اعتبر كل إنسان هذا الميل الأساسي والتزم به، اتجه إلى الفضيلة وانحلَّت المشكلة الخلقية، إن توقان النفس إلى الخير والكمال — ولو مرة واحدة — لهو الدليل الأقوى على وجود الله.

هوامش

(١) ينظر كتابنا «العقل والوجود» ص١٤٨ وما بعدها.
(٢) Evolution creatrice, 236 et suiv.
(٣) ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة ص٨٣.
(٤) في كتاب: تهافت الفلاسفة ص١٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤