الفصل السادس

حل إشكالات في الصفات

(١) كيف تعين الصفات؟

عينَّا الصفات الإلهية تبعًا لما لزم لدينا عن البراهين على وجود الله، ورتَّبناها ترتيبًا منطقيًّا بحسب علاقاتها بعضها ببعض، ولكن المشبهة المجسمة قالوا: إن الأشياء جميعًا مخلوقة من الله، فهي جميعًا في الله مادة وصورة، ويجب أن تؤخذ الصفات من هيئة الإنسان، فغفلوا عن ضرورة تنزيه الله عن كل تركيب، والمادة مركبة من أجزاء تنقسم وينفصل بعضها عن بعض. ثم إنها في ذاتها غير قابلة للتعقل، وإنما تعقل بالصورة المتحدة بها، والصفات العقلية لازمة لماهية الله ولفعله. فيجب سلب المادة عن الله سلبًا باتًّا، وليس يمكن بحال إشراك صفات الأجسام في استقراء صفات الله، أجل إن الماديات في الله لكونه خالقها، لكنها ليست في الله ذاتًا، بل بالتضمن وعلى نحو عالٍ يتفق والماهية الإلهية الروحية، أعني بمعانيها وبقدرة الله على إيجادها.

هل نأخذ الصفات الإلهية من صفات النفس. هكذا ارتأى ديكارت فقال: «لأجل أن أعرف طبيعة الله بقدر ما في وسع طبيعتي، لم يبقَ إلا أن أعتبر في كل فكرة أجدها عن الله في نفسي إن كانت كمالًا أم لا؛ إذ ليس في الله نقص، وإنما فيه جميع الكمالات.»١ هذا المنهج سائغ بشرط أن نبعد من صفات النفس كل حد وكل نقص، وأن نحسب أكبر حساب للفارق الفاصل بين الله وباقي الموجودات، فإن الواجب الوجود مغاير كل المغايرة للممكنات الحادثات، ويقتضينا أن نتصور الصفات فيه لانهائية كماهيته بريئة عن التدرج والامتداد والحركة والعدد، وما إلى ذلك من علامات الحد والنقص. فالطريقة التي اتبعناها أخصر وأصح وآمن، والصفات المكتسبة بها هي الأصل والأساس للصفات المستقرأة. ألسنا نعرف الصفات أولًا بالعقل خالصة نقية، ثم ننظر إن كانت في الله حقًّا وعلى أي وجه هي في الله؟

(٢) كيف توجد الصفات في الله؟

أمَّا صفات الذات فأمرها هين؛ إذ «إنها الموجود نفسه، إما مع إضافة، كما لو قيل: إن الله جوهر، أي مسلوب عنه الكون في موضوع، وإما مع سلب، كما لو قيل: إن الله واحد، أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو بالقول أو بالشريك، فهي اعتبارات مختلفة لا توجب مغايرة ولا كثرة» على حد تعبير ابن سينا.

وأما صفات الفعل فيلوح أنها متغايرة ومن ثمة منافية للبساطة الواجبة للعلة الأولى، كالعلم والإرادة والقدرة والمحبة والعناية، فإن هذه الألفاظ وما شاكلها تدل عندنا على قوى وأفعال، بحيث نجد أنفسنا مضطرين إمَّا أن نمحو البساطة بإثبات وجود عيني للصفات، وإما أن نمحو الصفات بإثبات البساطة.

وقد قيل: لما كانت الصفات دالة على ذات واحدة بسيطة، فهي مترادفة لا مقابل لها في الذات. كيف تكون مترادفة وهي تدل على مفهومات متباينة، ممثلة في الكائنات، فلا بدَّ من مقابل لها في الذات، ولو أنها لا توجد فيها منفصلة كما توجد المعاني في عقلنا.

وقيل: إنها سالبة أحرى منها أن تكون موجبة، مثلما لو قال قائل: «إن الله حي.» يكون المراد أنه ليس كالجماد خلوًا من المعرفة والشعور، وهكذا في سائر الأسماء. ولكن المتكلم يقصد إلى وصف الذات الإلهية، فهذا التأويل مخالف لقصده. ثم إنه عديم الجدوى في تعريفنا بالله؛ إذ لو كان الله حيًّا بمعنى أنه ليس كالجماد، وكان خيرًا بمعنى أنه ليس شريرًا، فما هو؟

النتيجة المحتومة أنه يجب وضع الصفات في الذات، ويجب من جهة أخرى التوفيق بينها وبين البساطة، من أمثلة التوفيق قول أبي الهذيل العلاف: «إنَّ الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته، وإنما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها.»٢ وهذه عبارة جامعة تضع الصفات في الله بقول: إن الله عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، وتصحح هذا الوضع بقول: إن علم الله ذاته، وقدرته ذاته، وحياته ذاته، بيد أنَّ هذا التصحيح ظاهري لا يعدو الجمع بين القضيتين.

وإذن فكيف توجد الصفات في الله؟ قلنا: إن مفهوماتها متباينة كتباينها في عقلنا، خلافًا لرأي ابن سينا، الذي قال: «واجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه.» (وهذا صحيح) «ولا مغايرة المفهوم لعلمه» (وهذا غير صحيح) وتخلص من الصعوبة على أهون سبيل. غير أننا لا نقول: إن التباين عيني كما هو في عقلنا، وإلا أدخلنا الكثرة على الذات الإلهية، بل نقول: إنه ذهني، لكن مع هذا الفارق بينه وبين سائر الذهنيات، وهو أنه يعتمد على أساس عيني هو الكمال الإلهي، فإنَّ هذا الكمال يستوعب الوجود ويقابل أحكامنا الصادقة في حق الله، وهذه هي الوجهة الموضوعية للمسألة دون افتراض تغاير عيني، لبساطة الذات وكمالها، أما التمايز في العقل فمنطقي صرف ناشئ من فعل العقل لا من طبائع الأشياء. إنه كالتمايز بين الوجود ولواحقه حين نقول: إن الوجود واحد حق خير جميل، فإن هذه وجهات للوجود لا فارق بينه وبينها، أو كالتمايز في الإنسان بين النفوس الثلاث، وليس للإنسان سوى نفس واحدة، ولكنها حائزة في وحدتها على ما للنفسين الأخريين (النامية والحاسة) من قوى وأعضاء. ولما كانت الصفات الإلهية غير متناهية، فإنها تتضمن بعضها بعضًا وتندمج في اللانهاية.

(٣) الصفة الرئيسة

الصفات متحققة إذن في الله تمثل كمالاته التي هي عين ماهيته، دون تمايز ولا تفاوت، ولكن بعض المفكرين — قدماء ومحدثين — أرادوا أن يجعلوا بينها ترتيبًا، في اعتبار العقل على الأقل، وأن يعينوا الصفة الرئيسة التي تهيمن على سائرها، وتعد لبَّ الماهية والتعريف الحق لله، فمنذ أوائل الفلسفة، سمي أنكساغوراس منظم الأشياء بالعقل. وهكذا قال سقراط. ومع موافقة أفلاطون على هذا القول، آثر صفتي الخير والجمال؛ لأن الموجود الأول مفيض للخير بصنعه للأشياء، وجميل بروحانيته وقداسته.

وعاد أرسطو إلى تقديم العقل؛ لأن العقل روحاني صرف، ومن ثمة عاقل ومعقول، يعقل ذاته بذاته، فهو «عقل العقل». وأضاف أرسطو صفة ثانية هي أن الله محرك العالم، المحرك الأول، المحرك غير المتحرك، فأثبت لله العلو على العالم، وأثبت له روحانيته من هذا الطريق؛ لأن الجسم لا يحرك إلا إذا كان هو متحركًا، مع أن تحريك الله للعالم عند أرسطو ليس فاعليًّا، وإنما هو غائي، أي: انجذاب المتحرك صوب المحرك.

وذهب دَنْس سكوت وديكارت وغيرهما من بعدهما مذهبًا آخر، فمالا عن العقل إلى الإرادة، وقالا: إن لله حرية غير متناهية، لا يحده حد ذاتي ولا خارجي، له أن يصنع ما يشاء، دون أن يتقيد بقانون، حتى القوانين التي شرعها، ودون مسئولية عما شاء وفعل.

أجل إن العقل جليل مقدس كما ينعته أفلاطون، ولكنه ليس الصفة الرئيسة. إنه حال للوجود، فيجب أن يتأخر عنه. قبل التعقل يجب أن يوجد المتعقل، وأن يوجد بذاته إذا كان تعقله هو التعقل الأسنى. وهذه هي «القيومية» أي: قيام الموجود بذاته، وهذه هي الصفة الرئيسة، من جهة مفهومها ومن جهة أنها خاصة بالله وحده لا يشاركه فيها كائن. والإرادة أكثر بعدًا عن مفهوم الوجود من العقل، فإنها تابعة للعقل يدلها على المراد. ومحال تصورها دونه فاعلة بغير إدراك وروية. فهي لا تصلح صفة أولى.

القيومية إذن أو الوجود بالذات أو وجوب الوجود، هي الصفة الرئيسة: إليها انتهت البراهين على وجود الله، ومنها استخلصنا الصفات، وهنا يجب التمييز بين علة الوجود وعلة الإيجاد، فهذان معنيان أولهما مقبول وثانيهما غلط، وقد اصطنع ديكارت وسبينوزا وآخرون المعنى الثاني بديلًا من الأول في تفسير الوجود بالذات، ظانين أن الله أوجد ذاته بذاته، وهذا خلف ظاهر. والتفسير الصادق أن ماهية الله عين وجوده، أو أن وجود الله هو له بماهيته. فلسنا نعني ما عنى الغزالي من أن مقصد الفلاسفة هو أن واجب الوجود ليس له إلا وجوب الوجود، وليس ثَمَّ ماهية يضاف الوجود إليها.٣ كلَّا؛ مقصدهم أن واجب الوجود لما كان منبع الماهيات ومحل الكمالات فهو لا يحصر في ماهية معينة محدودة، ولا يختص بكمال مفرد تضاف إليه محمولات. ولقد كان لابن سينا كبير الشرف بإبرازه هذا المعنى، وباصطناعه كبرهان ممتاز على وجود الله عن بينة وبصيرة. قال: «تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن الصمات، إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك دليلًا عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف.»٤

هوامش

(١) مقال في المنهج، القسم الرابع.
(٢) الشهرستاني: كتاب الملل والنحل، ج١، ص٦٢، ٦٣.
(٣) الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص١٨٨–١٩٢.
(٤) ما بعد الطبيعة في كتاب الإشارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤