الفصل السابع

بين التشاؤم والتفاؤل

(١) التشاؤم

في الأحادية نظرية تعد مثال الإلحاد القاطع الشامل، أرجأنا الكلام عنها لما تتطلب من شرح وتدقيق وموازنة بغيرها: تلك هي مسألة الشر، وما أكثر المعتقدين أنها مسألة المسائل في علم الألوهية، وامتحان عسير للموحدين يطوح بآرائهم في الهواء جملةً وتفصيلًا. ليس الأحاديون كلهم متشائمين: فالهنود متبرمون بالحياة الأرضية، ولكنهم مترقبون الحياة الأخروية تشرح صدورهم؛ إذ تفتح لهم باب «النرفانا» مقر السعادة، وإن تكن سعادة لا شعورية لا تفترق بشيء عن العدم. بل إن جل الأحاديين متفائلون لهذا الاعتبار البسيط، وهو أن العالم صنع الله، والله كامل خير جواد، فلا بد أن يكون العالم مسهمًا في هذه الصفات. وإلى مثل هذا ذهب بالفعل جيوردانو برونا وسبينوزا. أما النظرية المتشائمة فترجع إلى شوبنهور وتلميذه هارتمان.

قالا: إن العالم رديء بالذات؛ لأن كل موجود فهو فاعل، وكل فعل جهد مؤلم، ففي العالم إرادة شريرة لاشعورية تتمثل في كل فعل وكل قوة كالجاذبية والألفة الكيميائية وما إليهما في سلم الوجود؛ وهي تدفع إلى الحياة، والحياة ألم. وتدلنا التجربة على أن اللذات موهومة، وأنها تربى على الشرور.

الألم قانون الحياة ونسيجها، يغتالنا بالمرض والشيخوخة والموت والنكبات المختلفة، وتقلب الأحوال والعواطف، ولما كان أصل الألم اشتهاه الوجود، فالدواء الوحيد قهر «إرادة الحياة» بالعدول عن العمل لكي نصل رويدًا رويدًا إلى إفناء شخصيتنا في «النرفانا».

لكن ليس بصحيح أن كل عمل فهو مؤلم، الحقيقة أن ليس لنا من لذة إلا بالعمل؛ وأن العمل لا يعود علينا بالألم إلا متى تجاوز قدرة الفاعل فأرهقها. أليس العمل العقلي المدرك للحق والجمال، المولد للإعجاب والنشوة، هو لذة حقة، وأرفع أنواع اللذة؟ فمن السهل رد حجة شوبنهور بقولنا: إن الحياة عمل، والعمل لذة، فالحياة لذة لا ينبغي قصر الاستشهاد على اللذات الجسمية، فإن للإنسان من اللذات العقلية والخلقية أكثر منها وأرق وأعلى. يقال: إن اللذة وقف الألم، فهي حالة سلبية، والألم حالة إيجابية، والأمر على العكس، فإنَّ اللذة تعمل على تنشيط الفرد وحفظه ونمائه، بينما الألم يتلف ويفسد.

(٢) الشر

هذه المناقشة الموجزة مفيدة في تعريف الشر؛ فنقول أولًا: إن الشر «لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح جوهر». من هذا التعريف بالعدم نفهم أن الشر لا يؤثر لذاته، لا يطلب من جهة كونه ضارًّا أو مؤلمًا، كما تنبه عليه التجربة الباطنة، بيد أنه إذا لم يكن للشر ذات، فنحن نخلع عليه شبه ذات بنسبته إلى ما ينتقص به أو يفسد، كتصورنا الصمم عدم السمع. فالشر في شيء ما عدم خير مقتضى لطبيعة الشيء، كاقتضاء الصم للإنسان، وعدم اقتضائه للنبات والجماد.

بناءً على هذا التعريف يجب استبعاد ما سماه ليبنتز بالشر الميتافيزيقي وأراد به حرمان المخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته واقتصارها على بعض العناصر، وإذا سلمنا بهذا النوع من الشر لزم أن يحصل كل مخلوق على جميع الكمالات، والحقيقة أن هذا ليس حرمانًا من شأنه أن يفوِّت على الموجود كمالًا من كمالاته، وإنما هو محض نفي، أي حد أو نقص، وواضح أنه لم يكن من الممكن أن يتفاداه الله إلا بعدم الخلق؛ لأن كل مخلوق فهو محدود بالضرورة. كما قلنا الآن، بحيث ترجع المسألة إلى هذا السؤال: هل خير للمخلوق أن يوجد محدودًا من ألا يوجد أصلًا؟ ومثل هذا السؤال يحمل الجواب على نفسه. فهل يريدون أن يقولوا: «كان على الله أن يحبس خيرًا كثيرًا تحرُّزًا من شر قليل؟ وذلك مثل خلق النار، فإن منافعها جمة، وهي لا تفضل فضيلتها إلا بحيث تؤذي، أجل إن الشر كثير، ولكنه ليس أكثريًّا، كالأمراض فإنها كثيرة، وليست أكثرية.»١

أما الشر الفيزيقي أو الألم الجسماني والشعوري، فله فوائد لا يستهان بها، إنه حامي الحياة البدنية، ينبهنا إلى كل خطر يتهددنا، وهو مهماز الترقي يدفع بنا إلى التخلص من الألم فيفتق الحيلة ويقود إلى بحوث واختراعات لم تكن لتتسنى لنا لولاه. بل إنه شرط الفضيلة إذا كان نتيجة لرذيلة تبين حينئذ أنها يجب الإقلاع عنها. فضلًا عن أنه إذا قبلناه وقدسناه كإرادة إلهية وامتحان رباني، كان كفارة للذنوب. فليس الألم ضدًّا للحكمة، أما الموت فحقيقته أنه ليس نهاية الحياة. ولكنه انتقال إلى حياة جديدة سعيدة إذا كنا صالحين. وأخيرًا لنا أن نقول: إن عدد اللذات يربو على عدد الآلام، بدليل أن كل كائن ذي شعور يؤثر الحياة على الموت.

وأخيرًا الشر الخلقي، وهو أكثر الشرور خطورة، وأشدها منافاة لله الطاهر القدوس. لكن ليس يمكن أن يكون الله علة هذا الشر من قريب ولا من بعيد. بيد أنه منح الإنسان منحة عظمى إذ خلقه حرًّا، فكيف يمنع الإرادة الحرة من فعل الشر إلا بتجريدها من حريتها وحطها إلى مستوى الحيوان؟ وكيف يجردها من حريتها، والحرية من صميم الطبيعة العقلية. وإذا لم يكن للشر ذات، وكان مجرد عدم الخير، فليست الإرادة بحاجة إلى البحث عن فاعله، وليس للعدم فاعل. هذه ردودنا بكل اختصار على الاعتراض بالشر على وجود الله، تنزل به إلى درجة باقي المسائل الخلافية. وعلى المعترضين أن يذكروا أن الإنسان علة مسئولة لكثير من آلامه، يسببها ويزيد فيها بأهوائه، من غيرة وحسد وحب للذات وطلب للذة غير المشروعة؛ فلا يطرحوا عن كواهلهم تلك المسئولية ولا يلقوا بها على الله.

(٣) التفاؤل

المؤمنون متفائلون طبعًا. إنهم واثقون بكمال الله وطيبته وعدالته، فلا يخشون ظلمًا ولا إعراضًا. إنهم واثقون أنه لا يدع للأحداث الكونية الغاشمة أصحاب الإرادة الصالحة والضمير النقي. غير أنهم يختلفون في معنى التفاؤل، وينقسمون فريقين: فريق يرى أن الكمال الإلهي يقضي بأن يكون العالم خير العوالم الممكنة؛ لأن الكامل لا يحتمل أي نقص. قال أفلاطون (في محاورة تيماوس): إن الله خير الموجودات، فليس يمكن أن يكون قد صنع إلا خير مصنوع. وقال سبينوزا: «لما كان العالم ناشئًا من النمو الضروري للطبيعة الإلهية، فيلزم أن يكون حاصلًا على أعلى مرتبة من الكمال.»

وهذا هو التفاؤل المطلق، يلتقي فيه بعض الأحاديين وبعض المؤمنين. وهو يضيف إلى العالم أعلى كمال، ويقصر حرية الخلق على هذا الكمال الأعلى. ولكنا نلاحظ أن «خير عالم» فكرة لا تتصور؛ إذ ليس يوجد وليس يمكن أن يوجد حد أخير للحسن والكمال، ومهما يكن حسن العالم فيمكن دائمًا أن تتصور حسنًا أعظم بالزيادة والإصلاح، وحقيقة المصنوع أنه متناهٍ من حيث إنه محدث، فالمسألة بينه وبين الكمال مسافة لامتناهية، فيستحيل أن يصنع لامتناهيًا، والاستحالة آتية هنا منه لا من الله القادر على جميع الممكنات.

إذا لم يكن التفاؤل المطلق جائزًا، فإنه يدع مجالًا لتفاؤل نسبي أساسه ما في العالم من كمال وجمال ولذة. واعتمادًا على حكمة الله وجوده نستطيع أن نعتقد أن العالم الراهن خير عالم، مع إمكان كونه خيرًا مما هو. يلوح أن أنصار التفاؤل المطلق يعتقدون أن الخير الأقل هو شر، وأن الخير إما أن يكون كاملًا، أو ألا يكون خيرًا. ولكن كل شيء يحتوي على درجة من الوجود ومن الكمال، فهو خير ويمكن أن يكون موضوعًا لإرادة عاقلة.

هوامش

(١) ابن سينا في كتاب الإشارات، ما بعد الطبيعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤