الفصل الثاني عشر

رمي الكعبة بالمنجنيق

سار حسن وصاحباه حتى أقبلوا على مكة فرأوا الطلائع من الفرسان والهجانة تجول حولها، وجاء إليهم بعضهم، فتقدم سعيد لاستقبالهم وأخبرهم بأنهم ذاهبون في شأن يخص ابن الحنفية، فأذنوا لهم في الدخول.

ونظر حسن إلى جبل أبي قبيس فرأى فيه خيامًا وحولها الناس وقد صغرت أشباحهم لبعد المسافة. وبعد قليل وصلوا إلى تل فيه بعض المدافن فقال سعيد: «إننا في الحجون.» فوقف حسن على مرتفع ونظر إلى مكة فأشرف على المسجد الحرام والكعبة في وسطه. وكان قد زار مكة من قبل ورأى الكعبة لكنه رآها اليوم أكبر مما عهدها، ورأى على سطحها أشياء غريبة كالفرش والأثاث، فوقف هنيهة يفكر في الأمر، ثم قال لسعيد: «إني أرى الكعبة على غير ما أعهدها فيه، وكأنها اتسعت، وكأن عليها فرشًا وأثاثًا، وكأن على أرض المسجد خيامًا! ألست ترى ذلك؟»

فقال سعيد: «لقد صدق ظنك، فالكعبة الآن أكبر مما تعهدها؛ لأنها احترقت في الحصار الماضي على عهد يزيد بن معاوية، فأعاد ابن الزبير بناءها ووسَّعها إلى ما كانت عليه في الزمن الأول قبل أن تبنيها قريش. وأما ما تراه على سطحها فهو ألواح من الساج وضعها عبد الله هناك ووضع فوقها الفرش والقطائف وقاية لها من حجارة المنجنيق؛ لأن الحجاج نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس وجعل يرمي الكعبة بالحجارة نكاية بابن الزبير.»

فقطع حسن كلامه وقال: «أعوذ بالله! أيرمون بيت الله بالحجارة؟»

فقال: «هذا عمل الحجاج، فإنه رجل ظالم لا يبالي شيئًا في سبيل مقاصده، فقد رأيناه يرمي الكعبة بالمنجنيق والناس يطوفون حولها. واتفق في الحجة الماضية أن عبد الله بن عمر حجَّ، وكان مولاي الإمام محمد في جملة الحجاج، فكنا نطوف والحجارة تتساقط علينا، فبعث ابن عمر إلى الحجاج يقول له: «اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرًا، وإن المنجنيق قد منعهم من الطواف والسعي.» فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: «انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود إلى رمي الحجارة على ابن الزبير الملحد.» وسمعت أنه أول ما رمى الكعبة بالمنجنيق أرعدت السماء وأبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم رجاله الأمر وأمسكوا أيديهم. فأخذ الحجاج حجارة المنجنيق بيده فوضعها فيه ورمى بها معهم. فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلًا فقال الحجاج لرجاله: «يا أهل الشَّام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر فأبشروا.» فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت نفرًا من أصحاب ابن الزبير، فقال الحجاج: «ألا ترون أنهم يُصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها!» …»

فعجب حسن لدهاء الحجاج وعتوه وساق جمله حتى نزلوا أسواق مكة فقال لسعيد: «لقد بلغنا مأمننا، فإذا رأيت الرجوع فارجع، جزاك الله خيرًا.»

فقال: «بل أوصلكما إلى المسجد فأطوف طوفة وأعود.»

ولما دنوا من المسجد سمعوا صدمة قوية، فقال سعيد: «هذا صوت حجر من حجارة المنجنيق وقع على جدار الكعبة. انظر إلى حمام الحرم كيف تطاير إجفالًا من صوت وقوعه.»

وكان حسن قد أحس بالجوع؛ لأنهم خرجوا من الشَّعب ولم يأكلوا، فقال لسعيد: «بالله ألا أخذتنا إلى أحد باعة الأطعمة فنأكل شيئًا!» فضحك سعيد وقال: «إن الأطعمة قليلة في مكة، والناس في ضنك شديد من الجوع، فقد بِيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد من الذرة بعشرين درهمًا، وقد سمعت أن ابن الزبير اضطر لما أصاب رجاله المجاعة أن يذبح فرسه ويقسم لحمها فيهم.» قال ذلك وأدنى فمه من أذن حسن وقال بصوت منخفض: «ولكنني أعلم أن بيوت ابن الزبير مملوءة قمحًا وشعيرًا وذرةً وتمرًا اختزنها خوف المجاعة، ولولا ذلك لما استطاع الصبر على هذا الحصار، والحجاج ورجاله ينتظرون فراغ ما عنده من المئونة ليستسلم.»

فقال حسن: «لا بد من ابتياع شيء نأكله ولو كان غاليًا.» وأشار إلى بلال فانصرف إلى السوق وعاد بشيء من خبز الشَّعير والسويق فأكلوا على عجل، وساروا حتى أتوا المسجد الحرام، فدخل حسن وسعيد إلى المسجد وهما يتظاهران بالرغبة في الطواف، ثم سأل حسن عن ابن الزبير فقيل له: «إنه يصلي بجانب الكعبة.» فسأل: «وأين يذهب بعد الصلاة؟» فقالوا: «إنه يذهب إلى بيته.» ثم دلَّه سعيد على بيت ابن الزبير وودَّعه وعاد إلى الشَّعب.

وبعد أن صلى حسن ركعتين وطلب إلى الله أن يرشده إلى الصواب، جلس في بعض أطراف المسجد ينتظر فراغ عبد الله من صلاته، وجعل يفكر في أمر المهمة التي جاء لأجلها، والوقت ليس وقت خطبة ولا زواج. ثم تذكر ما كان من أمر سمية وانتظارها رجوعه ليقترنا، وانتقل به التفكير إلى ما كان من أمر عرفجة في ذلك الصباح، وخيل إليه أن الفشل الذي أصابه سيحمله على العودة إلى المدينة؛ لأنه لا يستطيع الغياب عنها طويلًا وليس عند سمية أحد، ولعله يعدل بعد ذلك عن رفضه تزويجها له.

ولاحظ أن من يدخلون المسجد قليلون، ثم ما لبث أن سمع قرقعة وأحس شيئًا هوى بالقرب منه وسمع رفرفة أطيار فالْتفت فرأى حجرًا كبيرًا أصاب الكعبة وسقط على الأرض، فعلم أنه من أحجار المنجنيق وقد أجفل حمام الحرم من وقعه فتطاير ثم عاد فوقع على جوانبها وعلى جدران المسجد. ولم يرَ الناس يهتمون لتلك الحجارة؛ لأنهم ألفوا سقوطها بينهم.

وتذكر أن عبد الله يصلي بجوار الكعبة فاستغرب تعريضه نفسه لحجارة المنجنيق، وخاف أن يكون ذلك الحجر قد أصابه ولا سيما أن وقت صلاته طال، فقلق عليه، ونهض فسار في فناء المسجد يلتمس الكعبة حتى مرَّ بالحطيم وحجر إسماعيل، ودار نحو بئر زمزم فرأى وراء الكعبة من الجهة الأخرى بضعة رجال وقوفًا، فأقبل عليهم ليسألهم عن عبد الله، فلما دنا منهم رأى بجانب الكعبة رجلًا ساجدًا قد استقبل الأرض بوجهه، ورأى على ظهره حمامتين من حمام المسجد كأنهما واقفتان على حائط والرجل لا يتحرك، فخيل له أنه ميت، واستغرب وقوف الناس هناك دون أن يهتموا له. فاقترب من أحدهم وحياه، وسأله ما شأن ذلك الساجد؟ فابتسم الرجل وقال: «ألا تعرف من هو؟! إنه أمير المؤمنين.»

فأدرك حسن أنه عبد الله بن الزبير، وزاد استغرابًا وقال: «وما للحمام يقع على ظهره فلا يتحرك.»

قال: «إنك غريب فيما يبدو، فلا تعلم أن مولانا أمير المؤمنين أكثر الناس صلاة وسجودًا، وكثيرًا ما رأينا الطير على ظهره في أثناء الصلاة تظنه حائطًا لسكونه وطول سجوده.»

فقال حسن: «إنه سجود طويل.»

وجاء رجل آخر كان واقفًا هناك وقال: «إنكم لا تعلمون من تقوى أمير المؤمنين إلا قليلًا. أما أنا فقد صحبته طويلًا فرأيته يقضي لياليه على ثلاث: ليلة يقضيها قائمًا إلى الصباح، وليلة راكعًا، وليلة ساجدًا. ناهيك بصومه؛ فإنه يصوم الدهر كله إلا ثلاثة أيام يفطرها في كل شهر.»

فدهش حسن وقال في نفسه: «يجدر بمن كان هكذا أن يُكتب له النصر.»

وفيما هم وقوف سمعوا صوتًا كهزيم الرعد، أدركوا أنه صوب المنجنيق فتنافروا ووقع الحجر على حائط الكعبة وسقط إلى الأرض بجانب ابن الزبير فنفر الحمام عنه وهو لا يزال ساكنًا لا يتحرك. فذهل حسن وقال لصاحبه: «ألا تخافون على حياة أمير المؤمنين؟»

قال: «لقد طالما نبهناه إلى ذلك، وكثيرًا ما وقع له مثل ما تراه وهو لا يبالي.»

فقال حسن: «أرجو أن يحرسه الله.»

فقال الرجل: «إن الله حارسه لفرط تقواه وكثرة عبادته، وقد وقع هنا في العام الماضي سيل طبق البيت ومنع الناس من الطواف فطاف أمير المؤمنين سابحًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤