الفصل الثالث عشر

فشل ابن الزبير

تأمل حسن في وجه مخاطبه وهو يتكلم والاهتمام بادٍ في محياه لا يدري بماذا يعبر عن منزلة ابن الزبير عنده ولا مقدار حبه له، ورآه موجهًا نفسه إليه كأنما يتوقع أن يسأله عن ابن الزبير ليشرح له ما يعلمه من تقواه وشجاعته وصدق دعوته. قرأ حسن كل ذلك في عيني الرجل فأدرك أنه من أشد أنصار ابن الزبير غيرة عليه، وتبين له من قيافته وهندامه أنه من وجهائهم. وزاد اعتقادًا في وجاهته لما آنسه من لطفه ودِعَته؛ لأن الإنسان يزداد لطفًا ووداعة بازدياد منزلته رفعة، فإذا رأيت جفاء وكبرياء من أحد الناس وأنت لا تعرفه فاعلم أنه دنيء الطبع، ولا عبرة بما قد يكسوه من اللباس الفاخر، ولا بما في خزائنه من الأموال الطائلة.

وبينما حسن يفكر في ذلك ومخاطبه واقف إلى جانبه، سمعا عبد الله ينادي: «أين ابن صفوان؟» ثم رأى الرجل الذي كان يخاطبه بغت وأسرع إلى عبد الله يقول: «لبيك يا أمير المؤمنين.»

ففهم حسن أنه عبد الله بن صفوان الجمحي، وكان قد سمع عن حبه لابن الزبير وتفانيه في نصرته، وهو أصلع في نحو الستين من عمره، عريض الجبهة خشن الملامح عريض الفكين، مما يدل على الثبات والقوة. ثم الْتفت حسن إلى ابن الزبير وتهيأ للسلام عليه إذا مر بجانبه فإذا هو طويل القامة عريض الكتفين لحيته غزيرة في أسفل ذقنه خفيفة في عارضيه. وتفرس فيه وهو يصلح عمامته عند نهوضه من الصلاة فرأى شعره جمة مفروقة طويلة. وتأمل في وجهه فرأى الهرم قد بدا في ملامحه لفرط ما قاساه من أمر ذلك الحصار وشدة ما أحاط به من الضيق، وهو في الثالثة والسبعين من عمره؛ لأنه أول مولود وُلد للمسلمين بعد الهجرة.

وهمَّ حسن بالسلام عليه وتقبيل يده، ولكنه رآه اتجه إلى موضع آخر دون أن يلتفت إلى أحد، وأعجب بمشيته الثابتة التي تدل على جلال ووقار، ورأى ابن صفوان يسير في أثره مراعيًا إياه بعينيه وكل جوارحه، وفي مشيته عرج، فعلم أنهما سائران إلى البيت، فاقتفى أثرهما وهو يفكر في مخاطبة عبد الله بالأمر الذي جاء من أجله لكنه تهيَّب واستحيى لما رآه فيه من الاضطراب والضيق، ورأى أن يتحين لذلك فرصة أخرى.

وخرج عبد الله من المسجد وابن صفوان يتبعه وحسن في أثرهما. وكان الناس يقفون في الطريق لتحية عبد الله، حتى أشرفوا على دار واسعة قد غصَّت بالواقفين من الناس، وخارجها مرابط الخيول والمعالف. فلما أقبل عبد الله على الدار توجهت أبصار الناس إليه ووسعوا له، فاخترق الصفوف وهو مطرق حتى أشرف على مقعد في صدر القاعة فجلس عليه الأربعاء، وجلس إلى يمينه شاب كبير الشَّبه به. فأدرك حسن أنه أحد أولاده. ثم جاء شابان آخران فجلسا عن يساره، وجلس بقية القوم بين يديه لا يفوه أحدهم بكلمة لفرط ما أحاط بهم من الأمر العظيم، ولبثوا هنيهة كأن على رءوسهم الطير. أما حسن فرأى نفسه غريبًا بين هذه الجموع، وهمَّ بالخروج فرأى ابن صفوان يشير إليه من بعض جوانب القاعة داعيًا إياه إلى الدخول، فمشى إليه وجلس إلى جانبه وقال له: «يسرني أني عرفتك اليوم وقد طالما سمعت باسمك.» فقال ابن صفوان: «فهلا انتسبت لأعرفك أنا أيضًا.»

قال: «سأطلعك على أمري فيما بعد، فلا غنى لي عن معونتك.»

وكانا يتكلمان همسًا والناس سكوت، وربما أدرك أحدهم السعال فأمسك عنه. فالْتفت حسن إلى ابن صفوان وقال له: «أي أبناء أمير المؤمنين هؤلاء؟»

قال: «إن الذي تراه إلى يمينه هو أخوه عروة بن الزبير. أما الجالسان إلى يساره فولداه حمزة وحبيب، وترى على مقربة منهما شابًّا مطرقًا هو الزبير ولده الثالث، وإن هذا الشَّاب لجدير بأن يكون ابن أمير المؤمنين.» ثم تهيأ للنهوض قائلًا: «لا بد لي من مفارقتك الآن لأمر يدعو إلى ذلك، فإننا في مجلس ذي بال اليوم، وستسمع وترى فإن هؤلاء من قريش وهم رؤساء القبائل.» ثم سار حتى وقف على مقربة من عبد الله فأشار إليه عبد الله أن يقعد.

وبعد قليل، وقف أحد الجالسين وخاطب عبد الله قائلًا: «يا أمير المؤمنين، إننا بحمد الله نؤمن بصدق دعوتك وأنك على الحق، وقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلًا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج.»

فلما سمع حسن ذلك الكلام تحقق ضعف القوم وأنهم صائرون إلى الفشل. ثم سمع ابن الزبير يقول: «ألم تبايعوني على أنفسكم وأموالكم؟»

فقال الرجل: «بلى ولكنا نرجو أن تقيلنا بيعتنا؛ إذ لا نرى فائدة من البقاء عليها.»

فقال عبد الله: «إنني عاهدت الله على ألا يبايعني أحد فأقيله بيعته إلا ابن صفوان.»

فالْتفت حسن إلى ابن صفوان فرآه قد وقف بغتة والحمية والغيرة تنبعثان من عينيه وقد ظهر التأثر في وجهه وقال: «أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت ولا أسلمك في مثل هذه الحالة.»

ولم يتم صفوان قوله حتى علت الأصوات وضج الناس، وانقسموا شيعًا وأحزابًا، وبدا أن أكثرهم لا يرون رأي ابن صفوان. فشقَّ ذلك على حسن ودبَّت الحمية في عروقه فوقف وقال: «بورك فيك يا ابن صفوان، بورك في رجل بايع وثبت على بيعته، إن أمير المؤمنين كما تعلمون أولى الناس بهذا الأمر؛ وذلك لأن عثمان استخلفه على داره يوم مقتله فهو ولي عهده من ذلك اليوم. وإنكم لتعلمون أنه نعم الخليفة لا تغرُّه بهارج الدنيا. ألا ترون عبد الملك بن مروان كيف يستعين على هذا الأمر بالمال والرجال؟ في حين يستعين أمير المؤمنين بالصوم والصلاة! تلك هي خلافة الراشدين رحمهم الله أجمعين. ألم تسمعوا ماذا فعل عبد الملك يوم جاءه الخبر بالبيعة بعد موت أبيه مروان؟ أنتم تعلمون أن عبد الملك كان من فقهاء المدينة، ولكثرة ما كان يظهره من التدين والتقوى سموه حمامة المسجد، فلما مات أبوه وبُشر بالخلافة كان المصحف في يده فأطبقه وقال: «هذا فراق بيني وبينك!» فأين هذا من سجود أمير المؤمنين وصلاته وصيامه مما لا يخفى على أحد. هذا وإن لأمير المؤمنين بيعة في أعناقكم، وأنتم جماعة قريش أهل الحماسة والنخوة، فكيف تغادرون أمير المؤمنين في مثل هذه الحال؟ أما لكم أسوة بابن صفوان؟!»

وكان حسن يتكلم والعرق يتصبب من جبينه وقد امتقع لونه وأيقن أن القوم قد نكصوا على أعقابهم، ولكنه لم يستطع غير الانتصار لما رآه حقًّا، وكانت الأبصار شاخصة إليه؛ لأنه غريب لم يعرفه أحدهم. وكان عبد الله بن الزبير ينظر إليه ويعجب بغيرته. فلما فرغ من الكلام علت الضوضاء فوقف رجل آخر وقال: «لقد نطقت بالصواب، وإن البيعة في أعناقنا لا ننكرها، وما نحن خارجون من بين يديه إلا بأمره. ولكننا نرى القتال أصبح عبثًا، ومعنا من الرجال عشرة آلاف، وقد جُعْنا جميعًا وعطشنا وقلَّت مئونتنا وذخيرتنا. وهذه منجنيقات الحجاج ترمينا من فوق الكعبة لا يبالي حرمة هذا البيت. وقد نصب لنا الحجاج الآن راية الأمان فمن خرج إليها سلم. فما بالنا لا نختار الطريق الأسلم!» ثم الْتفت الرجل إلى عبد الله بن الزبير وقال: «اكتب إلى عبد الملك بن مروان لترى رأيه، فلعلكما تنتهيان إلى أمر فيه صلاح الحال.»

فلما سمع عبد الله اسم عبد الملك بن مروان أجفل وتغيَّر وجهه وقال: «كيف أكتب إليه؟! أبدأ بنفسي أو أبدأ به؛ أأكتب «من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟» فوالله لا يقبل هذا أبدًا، أم أكتب «لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟» فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إليَّ من ذلك.» قال ذلك وعاد إلى إطراقه، وسكت الناس ينتظرون رأيًا جديدًا فإذا بعروة بن الزبير أخي عبد الله الْتفت إليه وهو جالس بجانبه على المقعد وقال له: «يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة.»

فقال عبد الله وقد ظهر الغضب في جبينه: «من هو؟»

قال عروة: «حسن بن علي، فإنه خلع نفسه وبايع معاوية.» ولم يتم عروة قوله حتى رفع عبد الله رجله وضربه بها حتى ألقاه عن المقعد. فأجفل الناس من سقوط عروة وأعظموا غضب عبد الله فتهيبوا، ثم سمعوه يقول له: «يا عروة، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلًا ولا أخذت إلى الدنية. وإن ضربة بسيف في عزٍّ لخير من لطمة في ذل.» ثم وقف والْتفت إلى الجموع ولحيته ترقص في وجهه من شدة التأثر وقال لهم: «أنتم مخيرون فافعلوا ما تشاءون، وإن رجلًا يجر إلى الحرب بحبل لا يحارب، وإن الله وليي ونعم النصير.» قال ذلك وأراد الانصراف، فوقف ولداه حمزة وحبيب وقالا: «هل نحن مخيران أيضًا؟»

فعجب حسن لما سمعه وقال في نفسه: «حتى أولاده تخلوا عنه.» والْتفت إلى عبد الله فرآه ينظر إليهما وعيناه تلمعان بما يتجلى فيهما من الدمع ثم قال: «نعم وأنتما أيضًا في حلٍّ، امضيا واطلبا الحياة ولا تموتا.» ثم اختنق صوته فسكت ريثما ابتلع ريقه ونظر إلى ابنه الثالث الزبير وقال له: «يا بني اطلب لنفسك أمانًا مع أخويك فوالله إني لأحب بقاءكم.»

فوثب الزبير من مجلسه وقال ولم يبد على وجهه شيء من الخوف: «حاش لله أن أتخلى عنك فما كنت لأرغب بنفسي عنك.»

•••

انصرف عبد الله من باب يؤدي إلى دار النساء، وظلَّ حسن واقفًا يسمع ما يدور بين الحاضرين، فعلم أنهم أجمعوا على الخروج إلى الحجاج يلتمسون أمانه، وأدرك أن أشد ما أبعدهم عن عبد الله أنه يقتر عليهم، في حين يسخو عبد الملك على بني أمية ويبذل الأموال لمناصريه، فساءه ذلك لاعتقاده أن هؤلاء إنما أرادوا الخروج رغبة في العطاء، وإن صبر ابن الزبير لا يفيده شيئًا ولكن الإنسان لا يعيش في هذه الدنيا عمرين وإنما هي موتة فلا كانت عيشة تُشرى بالشرف والمروءة.

وأحس حسن بيد أمسكته، فالْتفت فإذا بابن صفوان يدعوه إليه، فتبعه حتى دخلا حجرة بجانب تلك الدار وابن صفوان يقول: «إن أمير المؤمنين يدعوك وقد أحبَّ أن يراك.» قال ذلك وتركه هناك وخرج.

فسر حسن لهذه الدعوة ورآها فرصة لأداء المهمة التي جاء لأجلها، وإن كان الكلام فيها لا يجدي نفعًا.

ثم عاد إليه صفوان وأشار إليه أن يتبعه، ومضى به إلى حجرة رأيا عبد الله يتمشى فيها وحده وقد أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا، وهو تارة يمسح جبهته وطورًا يحك لحيته، وآونة يشمر عن ساعده أو يرسل كمه مما يدل على عظم البلبال. وتأمل حسن في تلك الحجرة فإذا هي لا شيء فيها من الأثاث غير حصير ومقعد. فلما أقبلا عليه تقدم حسن إليه وسلم بالخلافة، فرحب به ودعاه إلى الجلوس على المقعد، فلم يرَ الجلوس وابن الزبير واقف، فألح عليه هذا بالجلوس وقال: «دعني واقفًا وسأجلس بعد هنيهة.»

فجلس حسن وبقي صفوان واقفًا مكانه يراعي عبد الله ويراقب حركاته ولا يتكلم.

ثم الْتفت عبد الله إلى حسن وقال: «من أين قدمت؟»

قال: «من الشَّام.»

فبغت عبد الله عند سماع اسم الشَّام؛ لأن فيها أعداءه ومناظريه، والْتفت إلى ابن صفوان كأنه يطلب مشاركته في الاستغراب فرآه لا يقل عنه استغرابًا، فقال عبد الله: «وما الذي جاء بك إلينا ونحن في هذه الحال. لعلك جاسوس؟»

قال: «معاذ الله يا مولاي! كيف أكون جاسوسًا وأفعل ما فعلته اليوم؟»

فجلس عبد الله على جانب المقعد وأمر ابن صفوان بالجلوس فجلس، ثم قال عبد الله: «لا غرابة فيما ظهر منك إن كنت جاسوسًا؛ لأن الجواسيس يتلونون تلون الحرباء. على أني لا أبالي مهما يكن من أمرك فما أنا ممن يستعينون بالجواسيس وأنا لا أخافهم وإنما أستعين بالحق والعدل.»

فوقف حسن وهو يقول: «العفو يا مولاي، إني أجل نفسي عن الجاسوسية في هذا السبيل، وإنما أنا رسول إليك في مهمة لا أرى مسوغًا للكلام فيها الآن.»

قال: «وماذا تعني؟ وكيف لا مسوغ لها؟ قل … لا بأس مما تراه من الأحوال. من أرسلك إلينا من الشَّام؟ لعلك قادم من عبد الملك بنصيحة؟»

قال: «لا يا مولاي، بل أنا قادم من عند خالد بن يزيد بن معاوية.»

قال: «وهو أيضًا أموي، وشأنه عندنا مثل شأن عبد الملك وإن يكن أعرف منه بالكيمياء والشعر وما إلى ذلك.»

فقال حسن: «ما كنت أحسب الحقيقة تخفى على مولاي أمير المؤمنين فإنها عكس ذلك على خط مستقيم.»

قال: «كيف يكون هذا وكلاهما أموي وقد اتحدا وقاما لحربنا؟»

قال: «أما الحرب فقد نصبها عبد الملك وليس خالد، ولو عرفت ما بينهما من الدخائل لتحققت أن خالدًا أرغب في بيعة أمير المؤمنين من آل العوام أنفسهم.»

فقال عبد الله وهو يبتسم ابتسامة الاستخفاف: «وكيف يكون ذلك وهو ابن يزيد الذي أمر بحصار هذا البيت وقاتلنا حتى هدم الكعبة بمنجنيقاته ثم احترقت وأعدنا بناءها؟!»

فقال حسن: «صدقت يا مولاي إنه ابن يزيد بن معاوية، ولكن لا يخفى عليك أنه لما مات يزيد كان الحصين بن النمير لا يزال محاصرًا البيت الحرام وأنتم فيه، وهو لا يعلم بموت خليفته يزيد، وقيل إنكم عرفتم بموته قبله، وإذا صح ما سمعته عما دار بينكم وبينه في شأن الخلافة …»

فقطع عبد الله كلامه وقال: «أظنك تعني أنه عرض عليَّ البيعة بعد موت يزيد؟»

قال حسن: «نعم يا مولاي ذلك ما أعنيه، ولو أنك أجبته إلى هذه البيعة لما كان على منصة الخلافة سواك.»

فتقطب حاجبا عبد الله بغتة كأنه تذكر أمرًا يؤلمه ذكره وقال: «ولكنه أراد أن أذهب معه إلى الشَّام، وأبى إلا أن تكون البيعة هناك.»

قال: «وما منع مولاي أن يذهب إلى الشَّام؟! إنك لو ذهبت معه إليها وقربته منك لم يختلف عليك أحد.»

فأسرع عبد الله في قطع الكلام لأنه لا يحب أن يتذكر الخطأ الذي ارتكبه في ذلك ولولاه لكان بنو العوام خلفاء الإسلام بدل بني أمية؛ لشدة اضطراب حال بني أمية في ذلك الحين. وقال لحسن: «ثم ماذا؟ أوصلنا إلى حديث خالد.»

قال: «لما مات يزيد بايع أهل الشَّام ابنه معاوية (الثاني) كما تعلمون، وهذا لم يكن يرى لبني أمية حقًّا في الخلافة كما صرَّح جهارًا في خطابه بعد أن تولاها بأربعين يومًا، فإنه أمر فنودي: «الصلاة جامعة.» فلما اجتمع الناس وقف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشَّورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا. ما كنت لأتزودها ميتًا وما استمتعت بها حيًّا.» ثم دخل داره وتغيب حتى مات. فلما مات معاوية هذا اختلف الناس فيمن يولونه، واضطربت الأحوال حتى آل الأمر إلى مبايعة مروان بن الحكم؛ لأنه أكبر بني أمية سنَّا. وكلنا نعلم شأن هذا الرجل في أمر عثمان وكيف أنه قد أوقد جذوة تلك الفتنة التي لم نتخلص من عواقبها إلى اليوم. وهكذا تولى الخلافة مروان دون خالد بن يزيد الذي كان أحق بها منه، بحكم نظام الوراثة الذي وضعه جده معاوية. على أن بني سفيان لم يرضوا ببيعته حتى عاهدهم على أنه يجعل الخلافة بعده لخالد. فلما تولاها مروان حدثته نفسه أن يخرجها من نسل معاوية إلى نسله، فتزوج أم خالد حتى تصغر نفس خالد عن طلب الخلافة، واتفق بعد بضعة أشهر أن مروان ناظر خالدًا في شأن وشتمه وأهان أمه، فخرج خالد إلى أمه وأطلعها على ما كان فقالت له: «دعه فإنه لا يقولها بعد اليوم.» وفي المساء جاءها مروان وسألها: «هل أخبرك خالد بما جرى بيننا؟» فقالت: «يا أمير المؤمنين، خالد أشد تعظيمًا لك من أن يذكر لي خبرًا جرى بينك وبينه.» فلما أمسى المساء وضعت مرفقة على وجهه وقعدت عليها هي وجواريها حتى مات ولم يتم السنة في خلافته، والناس يظنونه مات حتف أنفه. فخلفه ابنه عبد الملك وهو يعلم بالأمر، ولكنه خشي إذا انتقم لأبيه أن يفتضح أمره ويُقال إن امرأة قتلته، فظلَّ حاقدًا على خالد، وظلَّ خالد ينظر إليه نظره إلى مختلس. ولهذا قلت لمولاي أمير المؤمنين إن خالدًا أرغب من آل العوام في خلافتك.»

•••

لما فرغ حسن من كلامه، أطرق عبد الله طويلًا، وشعر حسن وابن صفوان بما يجول في خاطره في أثناء ذلك الصمت الطويل، ثم رفع رأسه بغتة ونظر إلى حسن وقال: «لقد فات الوقت، ما يقدره الله فهو كائن. على أني ما أظن خالدًا يرضى بخروج هذا الأمر من بني أعمامه إلى رجل حاربه أبوه عليه، ولا أرى ثمة مسوغًا لذلك.» ثم استدرك فقال: «ولكنك لم تذكر بعد ما هو الأمر الذي جئت لأجله؟»

فقال حسن: «إنه أمر لا يُستحسن الخوض فيه الآن؟»

قال: «بل قل.»

قال: «لقد بعثني خالد إلى أمير المؤمنين خاطبًا.»

قال: «مَنْ؟ ولمَنْ؟»

قال: «مولاتي رملة أخت أمير المؤمنين، إلى مولاي خالد بن يزيد. وقد كتب بذلك كتابًا فقدته في المدينة لسبب يطول شرحه.»

فوقع الطلب موقع الاستغراب عند عبد الله لما بينه وبين بني أمية. على أنه لما تذكر ما سمعه من حسن مال إلى تصديق الأمر، وإن بقي مرتابًا في حقيقة مهمته، فقال له: «إذا كان خالد كما وصفت فإني أرحب بمصاهرته، وكنت أود الاطلاع على كتابه. وليس هناك ما يدعو إلى العجلة والحال على ما ترى، فلنصبر حتى يقضي الله بيننا وبين هذا الطاغية الذي يرمي بمنجنيقاته بيت الله ولا يخاف عقابًا.»

فقال حسن: «ذلك ما دعاني إلى التردد في تبليغ الرسالة، ولكن يكفيني ما علمته من رضاكم، رغم أني لا أحمل كتاب خالد، وسأكتب إليه لأطمئنه بالقبول ولكي يرسل كتابًا آخر في هذا الشَّأن. ثم إني أعرض على مولاي أن أكون في خدمته لعلي أستطيع أمرًا يكون فيه مصلحة له. فهل ترى أن أذهب إلى الحجاج فأكلمه في شأن الهدنة أو الصلح فربما كان لكلامي وقع عنده؛ لأني أُعد من أنصار بني أمية فلا يرتاب في إخلاصي؟»

فقطع عبد الله كلامه وقال: «لا … لا … دعهم وما يفعلون، إني لا أريد وساطة لدى عبد ثقيف.» قال ذلك ووقف، فوقف حسن وحياه ثم انصرف من غير الباب الذي دخل منه، وكان الليل قد أرخى نقابه فتبعه ابن صفوان وناداه قائلًا: «رويدك يا أخا العرب.»

فوقف حسن حتى اقترب ابن صفوان منه، فأمسك هذا بيده وأدنى فمه من أذنه وقال همسًا: «تعال معي.»

فمشى معه حتى دخلا دارًا بجانب دار ابن الزبير، فأدخله غرفة خالية وقال له: «سمعتك تعرض على أمير المؤمنين التوسط لدى الحجاج في المهادنة أو نحوها، وأمير المؤمنين لم يقبل ذلك أنفة منه، ولكنني أعلم ما نحن فيه من الضنك، وإن المهادنة تفيدنا في لمِّ شعثنا؛ لأننا قد تشتتنا. لا أقول ذلك خوفًا من الموت فإننا لا رغبة لنا في هذه الحياة، وإنما نحن نطلب الآخرة وبنو أمية يريدون هذه الحياة الفانية ويسفكون الدماء من أجلها. فإذا رأيت أن تقوم بهذه المهمة فافعل.»

قال: «سأسعى في ذلك جهدي، ولعلي أُوفق إلى ما فيه الخير إن شاء الله.»

فقال ابن صفوان: «انزل الآن في دار الأضياف إذا شئت، أو انزل في داري.»

فقال حسن: «بل أنزل في دار الأضياف ريثما أدبر الأمر.»

قال: «ولكن الليل أدركنا، فامكث عندنا الليلة، فإذا أصبحنا خرجت إلى حيث تريد.»

فتذكر حسن بلالًا والجمل، وكان قد تركهما بباب المسجد فقال: «إن خادمي ينتظرني بباب المسجد والجمل معه، وأخاف أن يستبطئني فيظن أن قد مسني سوء.»

فقال ابن صفوان: «إنه إذا استبطأك، فسينام حيث هو، وفي الغد نراه.»

فأطاعه حسن وبات عنده. وقضى معظم الليل يفكر في أمر ابن الزبير وفي مسيره إلى الحجاج، ثم أدركه النوم فرأى في منامه أنه لقي الحجاج وجادله في أمر الكعبة وكيف يرميها بالمنجنيق، فسمع من الحجاج كلامًا غليظًا، فأفاق في الصباح وهو منقبض النفس.

ثم جاءه ابن صفوان بالطعام فأكل، وعرض عليه أن يسير معه إلى بيت الأضياف فقال حسن: «أرى أن أبحث عن الخادم والجمل.»

فقال: «لا خوف عليهما، هلمَّ بنا إلى دار الأضياف لتعرفها فإنها بجانب بيت أمير المؤمنين، ثم تذهب بعدئذ إلى حيث تشاء.»

•••

سار ابن صفوان مع حسن حتى أدخله دار الأضياف، واتجه هو إلى بيت عبد الله. ورأى حسن في الدار أناسًا لم يعرف أحدًا منهم، فجعل يتفرس في الوجوه لعله يرى خادمه بينهم، فلما لم يجده همَّ بالخروج إلى مواقف الدواب عسى أن يجده مع جمله هناك، ثم رأى بلالًا مقبلًا والبغتة بادية في وجهه وعيناه شائعتان كأنه يفتش عن ضائع، وما كاد بلال يراه حتى سارع إليه وقال: «أين كنت يا مولاي. إن سيدي أبا سليمان يبحث عنك.»

فبغت حسن لذكر أبي سليمان لعلمه أنه فارقه في المدينة وقد عهد إليه في تنسم أخبار سمية. فقلق لمجيئه ونهض وقال: «أين هو؟»

قال: «تركته في المسجد وجئت للبحث عنك، فهل أدعوه إليك؟»

قال: «بل أذهب إليه.» وهمَّ بالخروج فرأى أهل الدار في هرج ومرج يزاحم بعضهم بعضًا كأنهم يوسعون الطريق لقادم عظيم، فوقف مع الواقفين وسأل أحدهم عن القادم، فقال له: «إن ذات النطاقين قادمة إلى دار الأضياف.»

فعلم أنها أسماء بنت أبي بكر، أم عبد الله بن الزبير، وكان يحسبها قد ماتت لكبر سنها؛ لأنها وُلدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة. فهي يومئذ قد بلغت المائة من عمرها. وكانت مشهورة بكبر العقل وسعة الصدر وصحة الدين. فأحب أن يراها، فجعل يتطاول حتى أقبلت فإذا هي قد احدودب ظهرها وعميت، وجاءت تتوكأ على عكاز، وبجانبها رجل يسندها ويرشدها إلى الطريق. ورأى الناس يدنون منها ويقبلون أطراف ثوبها تبركًا بها. حتى إذا أقبلت على موقف خدم الدار قالت لهم: «خافوا الله ولا تبخلوا على عباده بالطعام وإن كان قليلًا في الأسواق فإن الله كفيل بطعام الغد.»

فعجب حسن لاهتمام أم الخليفة بأمر الأضياف على عجزها وضعفها، ولكنه تذكر ما يُقال عن بخل ابنها عبد الله فظنَّها جاءت تحث الخدم على إكرام الضيوف لاعتقادها أن ذلك يدفع البلاء عن أهلها. ولا شك في أنها كانت قلقة على ابنها عبد الله لعلمها بما يتهدده من الخطر العظيم.

وبعد أن مرَّ موكب ذات النطاقين، خرج حسن ومعه بلال وسارا إلى المسجد، وسارع حسن إلى لقاء أبي سليمان. فحياه وقال: «ما وراءك يا عماه؟»

قال: «إن ما ورائي ذو بال يا بني.»

فبغت حسن وقال: «وما هو؟ قل يا عماه. هل أصاب سمية سوء؟»

قال: «لم يصبها سوء ولكنها جاءت إلى مكة.»

قال حسن: «جاءت إلى هنا؟ وأين هي؟»

قال: «اصبر ريثما نجلس في بعض جوانب المسجد على انفراد وأقص عليك الخبر.» وكان المسجد خاليًا من الناس خوفًا من حجارة المنجنيق، فانتحيا ركنًا فيه، وحسن في قلق شديد، فلما جلسا قال: «قل يا عماه أين سمية الآن فقد نفد صبري؟ وكيف جاءت مكة؟»

قال: «إنها جاءت مكة، ولكنها الآن خارجها.»

فانتبه حسن وقال: «لعلها عند الحجاج؟»

قال: «نعم يا بني إنها عنده.»

فصاح وهو لا يعي ما يقول وما في المسجد من يسمعه غير أبي سليمان: «وكيف كان ذلك؟ أفصح بالله.»

قال: «أخذها زوجة له؛ لأن أباها عرفجة زفَّها إليه يوم سفرك، وأرسلها مع الحملة التي بعث الحجاج يطلبها من طارق بن عمرو عامل المدينة.»

فلما سمع حسن ذلك أطرق كأنه أُصيب بذهول، وتذكر أنه شاهد تلك الحملة بالأمس مارة قرب مكة ومعها هودج يحرسه فارسان فارتعدت فرائصه وهز رأسه وقال: «أعوذ بالله! أأرى سمية تُساق إلى الحجاج وأبقى واقفًا أنظر إلى هودجها ولا أنقذها؟ ولكنني لم أعرفها ولا بد من إنقاذها من يد ذلك الظالم، ومن يد أبيها الخائن الغادر — قبحه الله.» ثم الْتفت إلى أبي سليمان وقال: «وهل سِيقت إلى الحجاج برضاها؟»

فقال أبو سليمان: «ما أظنها إلا سيقت مرغمة؛ فقد علمت أن أباها احتال في إخراجها من المنزل إلى ضواحي المدينة وسلَّمها للجند المعسكرين هناك.»

قال حسن: «إذن هي الآن أمامنا في هذه الخيام قرب جبل أبي قبيس. لا بد لي من الذهاب إليها، فإما أن أنقذها أو أموت في سبيلها.»

فقال أبو سليمان: «اعلم يا بني أني رهين إشارتك وقد قلت لك إني وقفت حياتي على خدمتك، فإذا رأيت أن تبعثني في شأنها فافعل.»

فصمت حسن مفكرًا ثم قال: «إنني أحتاج إليك يا عماه في إبلاغ رسالة إلى مكان بعيد.»

قال: «إني على استعداد للذهاب إلى السند في خدمتك.»

قال: «لا … بل إلى الشَّام، إلى خالد بن يزيد، فهل تقبل؟»

قال: «أفعل إن شاء الله، أين الرسالة؟»

قال: «أكتبها إليه الآن وهي خاصة بالمهمة التي جئت لأجلها.»

قال: «اكتب وأنا بين يديك.»

فأخرج حسن من جيبه منديلًا من القباطي (نسيج مصري) وكان قد أعد دواة وقلمًا في جيبه لمثل هذه الغاية. وجلس على حجر بجانب إحدى عضادات المسجد فكتب أسطرًا قال فيها:

إلى خالد بن يزيد من حسن، أما بعد فقد جئت البيت الحرام بعد أن مررت بالمدينة وأضعت فيها كتابك، ولهذا حديث سأقصه عليك عند اللقاء، على أني واصلت السفر إلى مكة ولقيت ابن الزبير وأبلغته الأمر خلال اشتغاله بالحصار وضيق ما حوله، فأجاب بالرضاء. ولكنه رأى أن تبعث إليه بكتاب آخر في هذا الشَّأن، فإذا شئت فافعل، وابعث الكتاب مع حامل هذا إليك، وأنا باقٍ هنا لأمر يهمني كثيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله.

ثم سلَّم الكتاب إلى أبي سليمان وقال له: «امضِ على عجل، واحذر أن يعترضك الحراس حول مكة.»

قال: «لقد دخلت ولم ينالوا مني مأربًا، وسأترك بلالًا في خدمتك لعلك تحتاج إليه في شيء.»

فأثنى عليه وودعه، وعاد إلى ما كان فيه من الاهتمام بأمر سمية، فرأى أن يذهب إلى معسكر الحجاج يبحث عنها ويستطلع خبرها. وكان كلما فكر في الأمر، وتصور أنها زُفت إلى الحجاج اضطرب وثارت أشجانه واشتد قلقه، حتى لم يعد يستطيع صبرًا، فعزم على الذهاب إلى معسكر الحجاج بحجة أنه مندوب من قبل ابن الزبير للمخابرة في شأن وقف الحرب، ولكنه لم يرَ بدًّا من استشارة ابن صفوان لئلا يغضب ابن الزبير، فنهض لساعته وأسرع إلى بيت ابن صفوان فلم يجده، فالْتمسه في دار ابن الزبير، فلم يجد أحدًا في القاعة التي كان الاجتماع فيها بالأمس، وبينما هو مارٌّ بالقرب من مرابط الخيل والجمال وبينها الخدم والجمالة وقع نظره على رجل كان في خدمة ليلى الأخيلية، فتوسم فيه الخير وناداه وقال له: «ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟»

قال: «جئت مع مولاتي.»

قال: «ليلى هنا الآن؟ وأين هي؟»

قال: «هي عند أمير المؤمنين في بيته، وأظنها في حجرة أمه ذات النطاقين.»

قال: «ومن أين أتيتم؟»

قال: «من معسكر الحجاج.»

فاستبشر بذلك الخبر لعلمه بأن ليلى لا بد أن تكون قد رأت سمية هناك وسمعت منها شيئًا، لم يعد يصبر على لقائه ليلى وأخذ يتمشى خارج البيت، وكلما سمع حركة أو صوتًا ظنها خارجة، حتى ملَّ الانتظار فعاد إلى الخادم وقال له: «هل أقمتم بمعسكر الحجاج طويلًا؟»

قال: «أقمنا يومًا وليلة، ثم رأيت مولاتي أسرعت إلى مكة، وأرسل الحجاج معنا من أوصلنا إليها لئلا يعترضنا الحراس المحيطون بها.»

فأدرك حسن أنها جاءت بإشارة الحجاج فزاده رغبته في مقابلتها واستطلاع حقيقة الأمر. وفيما هو يفكر في ذلك رأى ابن صفوان خارجًا من الدار مهرولًا. فلما تلاقت نظراتهما أقبل عليه ابن صفوان وقال: «أحمد الله على أني رأيتك هنا، فقد كنت ذاهبًا للبحث عنك مخافة أن تكون قد مضيت في الأمر الذي ندبت نفسك له بالأمس.»

قال حسن: «وماذا تعني؟»

قال: «أعني مقابلة الحجاج.»

قال: «وما الذي حدث؟»

قال: «لقد جاءت ليلى الأخيلية من عنده، لمثل هذا الغرض. وقد سمعت من أمير المؤمنين أنه لا يرى صلحًا ولا هدنة؛ لأن الحجاج لا يريد منه غير الاستسلام، وهذا أمر مستحيل عندنا والموت أهون منه.»

فقال حسن: «وأين هي ليلى الآن؟»

قال: «في دار النساء وقد نزلت عند مولاتي ذات النطاقين، ورملة بنت الزبير عندها أيضًا.»

قال: «هل من سبيل إلى مقابلتها؟»

قال: «ذلك يسير. هل أخبرها بأنك تطلب مقابلتها؟»

قال: «افعل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤