الفصل الرابع عشر

سمية في بيت الحجاج

دخل ابن صفوان، ثم عاد وأشار إلى حسن أن يتبعه، فدخل وراءه غرفة رأى فيها ليلى وحدها في انتظاره. فلما أقبل عليها قالت: «إذن أنت حسن حقًّا؟ كيف إذن أكدوا لي أنك قُتلت؟»

فابتسم وقال: «كدت أُقتل. ولكنني حي الآن فأخبريني هل كنت في معسكر الحجاج؟»

قالت: «نعم.»

قال: «وهل رأيت سمية هناك؟»

قالت: «نعم رأيتها.»

فخفق قلبه عند سماع جوابها وعاد يسألها قائلًا: «هل رأيتها حقيقة؟»

قالت: «رأيتها ورأتني، وكلمتها وكلمتني!»

قال: «بالله كيف حالها؟ وما الذي جرى لها؟»

قالت: «أراك غائبًا عن الدنيا؟ ألم تعلم أنها حُملت إلى الحجاج لتُزف إليه؟»

فلما سمع ذكر الزفاف صعد الدم إلى وجهه وقال وهو يظهر التجلد: «نعم علمت، ولكن هل زُفت إليه حقًّا؟»

قالت: «زُفت إليه منذ يومين، وهي الآن في داره مع نسائه.»

قال: «في داره مع نسائه؟ إذن صارت زوجة له؟!»

قالت: «نعم.»

قال: «وهل ذكرتماني في حديثكما؟»

قالت: «ذكرناك وبكينا عليك وهي التي أخبرتني بموتك.»

قال: «وهل هي آسفة على موتي؟»

قالت: «أما قلبها فمعك، فهي لا تفتر عن ذكرك لحظة مع حبها من لقائك، لا يهنأ لها العيش مع أحد غيرك.»

فأبرقت أسرة حسن عند سماعه ذلك وقال: «إذا كان الحجاج عقد قرانه بها كما تقولين، ويئست من لقائي فكيف ألقاها؟»

قالت: «الحب كله رجاء يا حسن، بل الحب يضع الرجاء في موضع اليأس.»

قال: «أباقية هي على حبي؟»

قالت: «نعم وهي مع ذلك لا ترجو لقاءك فكيف إذا علمت بأنك حي؟! فهل أنت تحبها مثل حبها لك؟»

قال: «كيف لا؟!» وهاجت أشجانه ولم يعد يستطيع صبرًا على الذهاب إليها وأحس أنه مقصر في حق سمية، وهان عليه أن يضحي بنفسه لإنقاذها. وكلما تصوَّر أنها زُفت إلى الحجاج عظم الأمر عليه وكادت الغيرة تحرقه، فأطرق برهة ثم قال: «وهل زُفت إلى الحجاج حقيقة؟»

قالت: «قلت لك إنها زفت إليه وهي في داره مع سائر نسائه.»

قال: «أعوذ بالله! ولكن قلبي لا يصدق أنها في بيته مثل إحدى نسائه. وهل يحبها هو؟»

قالت: «يحبها حبًّا شديدًا، ولم يكن يحلم بحصوله عليها لأنها لا تريده، ولكن المقادير ساعدته فحملوها إليه قسرًا.»

فاضطرب وجمد الدم في عروقه وقال: «إني أطير إليها وأختطفها من وسط بيته ومن بين مخالبه!»

فقطعت ليلى كلامه وقالت: «تبصر يا حسن، إن دون الوصول إليها عقبات لا يُستطاع تجاوزها إلا بالحكمة.»

قال: «وأي حكمة؟ كيف يمسها الحجاج وأنا حي؟ ليس في الحب حكمة. الحب شيء والحكمة شيء آخر. إن الرجل إذا أحب خضع لقوانين الحب وحدها، وما في الحب حكمة ولا سياسة ولا رياء.»

فلما رأت ليلى شدة هياجه أشفقت على حياته مما يعترض السبيل إلى سمية من الأخطار، ولا سيما أنها عند الحجاج الذي اشتهر بالظلم والجبروت، فإذا وقع حسن بين يديه فلن يعفيه من القتل، فقالت له: «إني معك في أن الحب لا سياسة فيه ولا حكمة، ولكن المحب ينبغي أن يحرص على حياته لأجل حبيبه، فيجب أن تحرص على حياتك لأجل سمية. تبصر في الأمر يا بني، وسأكون في عونك حتى تبلغ ما تريده، فإني أعرف قيمة الحب ويسوءني أن يفرق أحد بين حبيبين، بل إني لأنقم على من يسعى في التفريق بينهما!» قالت ذلك وتنهدت وأشرق الدمع في عينيها.

فأدرك حسن أنها تنطق عن إحساس صادق؛ لأنها أحبت توبة ومنعوها منه فقال: «بورك فيك يا ليلى، فلقد خففت من شدة بلواي، فأشيري عليَّ بما ترين.»

فقالت: «إني وفدت على الحجاج في معسكره، على عادتي في الوفود على الأمراء، فرحب بي وأنزلني في دار أعز نسائه عليه، وهي هند بنت النعمان. ولعلك تعلم أنها جميلة ذات حسب ونسب ولكنها لا تحبه ولا تحترمه، فلقيت سمية عندها، وتحدثت معها في شأنك فلما أنبأتني بفقدك شق ذلك علي، واعتزمت أن أستطلع خبرك في مكة، فعرضت على الحجاج أن آتي إليها وأحاول إقناع ابن الزبير بالاستسلام، مع أني أعلم أن استسلامه مستحيل. فلما جئت مكة علمت أنك جئتها بالأمس، وخطبت رملة لخالد فقبل ابن الزبير ولكنه استمهلك ريثما تنقضي الحرب. فكان سروري مزدوجًا بسلامتك ونجاحك في المهمة التي جئت لأجلها. وأرى أن أعود الآن إلى معسكر الحجاج وأجعلك راويتي، وأنت تعلم أن لكل شاعر عربي راوية يرافقه فيحفظ أشعاره ويرويها عنه. والحجاج لا يعرفك، فلن يخطر بباله أنك مناظره على سمية، ومتى وصلنا إلى المعسكر وأقمنا به، تفكرنا في أمر سمية، وأسأل الله التوفيق.»

فاستحسن حسن رأيها وقال: «إذن هلم بنا الآن، فإني لا أصبر على هذه الحال.»

قالت: «اسبقني إلى المسجد ريثما أودع ذات النطاقين وألحق بك.»

قال: «لقد أنساني حديث سمية استطلاع ما دار بينك وبين ابن الزبير في أمر الصلح أو الاستسلام.»

قالت: «كنت على يقين من أنه لن يقبل، وقد رأيت أمه أسماء ذات النطاقين أكثر منه تشددًا، وإني لأعجب لهذه العجوز وصبرها على المكاره فقد رأيتها مع يأسها من نجاح ابنها تشجعه وتحرضه على الثبات في دعوته. على أني وقد رأيت معسكره ومعسكر الحجاج، لا أشك في أن ابن الزبير مغلوب، فالفرق كبير بين المعسكرين في العدد والعدة وكل شيء.»

فابتدرها حسن قائلًا: «لقد رأيت بعيني أصحاب ابن الزبير وإخوته وأهله يتخلون عنه، وقد نفدت قواته وأقواته، فالأمر خارج من يديه لا محالة.»

قالت: «القوة هي الغالبة يا حسن، والخلافة صائرة إلى بني أمية؛ لأن عندهم الرجال والأموال، وقد ساعدتهم الأقدار من كل ناحية.»

فقطع حسن كلامها وقال: «ليس يهمني الآن إلا أمر سمية، وسأسبقك إلى المسجد فأتهيأ للسفر.» قال ذلك وتركها وأسرع إلى المسجد، فوجد بلالًا جالسًا بباب حانوت لرجل فارسي يبيع الأقمشة بجوار الصفا. فلما رآه بلال نهض وتبعه حتى دخلا المسجد، فقصَّ حسن عليه عزمه على الذهاب إلى معسكر الحجاج وأسرَّ إليه الغرض من ذلك.

فقال بلالًا: «ألا أستطيع أن أكون في خدمتك يا مولاي؟»

قال: «بورك فيك. ولكنني ذاهب في مهمة لا تخلو من الخطر، وإذا انكشف أمري فيها فلن ينفعني الرجل والرجلان، على أني أرجو التوفيق. فابقَ أنت هنا بضعة أيام، فإذا لم أعد فاطلبني في معسكر هذا الطاغية.»

تنكر حسن في ثياب غير ثيابه، وحمل جرابًا فيه أدراج من الرق كتب فيها بعض القصائد. ثم مكث ينتظر ليلى حتى عادت وقد تلثمت وركبت جملًا يقوده خادم، فركب حسن جمله، وسارا والخادم يمشي وراءهما حتى مروا ببيت ابن صفوان وكان واقفًا بالباب فرأى ليلى وعرفها، وتفرس في حسن فعرفه كذلك رغم تنكره. فحياهما وقال: «إلى أين؟» فقال حسن: «لقد عزمت على أن أبدأ السعي في سبيل التوفيق.»

فهزَّ ابن صفوان رأسه وتنهد وقال: «أسأل الله لكما السلامة.»

وما لبث حسن وليلى أن ابتعدا عن بيت ابن صفوان وخرجا من مكة حتى لقيهما رجال الحجاج، فعرفوا ليلى ولم يعترضوهما، فواصلا السير حتى أقبلا على معسكر الحجاج.

نظر حسن إلى المعسكر والأعلام تخفق فوقه والخيام ممتدة على مسافة بعيدة، فعظم أمر الحجاج في عينيه وقال: «يا ليلى إن الأمر صائر إلى هذا العاتي لا محالة، وإني لينفطر قلبي كلما تصورت مصير عبد الله بن الزبير. أتظنينه مغرورًا بنفسه؟»

قالت: «كلا، ولكنه يعتقد أنه على الحق.»

قال: «ما الذي أراه على جبل أبي قبيس؟»

قالت: «ألم ترَ وقوع الأحجار على الكعبة. إن الحجاج نصب منجنيقاته على الجبل وهو يرمي الحجارة منها على الكعبة. ومع المنجنيقات فصيلة من الجند.»

قال: «وأين خيام النساء التي تقيم بها سمية؟»

فقالت: «نحن سائرون الآن إلى خيمة الحجاج، وهي الكبيرة القائمة في وسط هذه الخيام، وسأدخل أنا ثم أخرج وأسير بك إلى مكان أعرفه، وأذهب إلى هند بنت النعمان فأرى سمية هناك وأقص عليها قصتك، وأتفق معها على موعد تلتقيان فيه خارج المعسكر.» وما زالا سائرين حتى أقبلا على خيمة كبيرة قائمة على بضعة عشر عمودًا أمامها أناس بالحراب، وآخرون بالسيوف، وهم أشبه بالحراس عند الروم — وكان بنو أمية قد اقتبسوا نظام الحرس من الرومان وتوخاه عُمَّالهم إرهابًا للناس — وقبل وصولهما إلى الباب أناخا الجملين، ونزلا فمشت ليلى والناس يوسعون لها وحسن يسير في أثرها حتى وقفت بباب الخيمة، فدخل أحد الحراس يستأذن لها ثم عاد يدعوها إلى الدخول، فدخلت وظلَّ حسن مع الواقفين بالباب وهو في شوق شديد لرؤية الحجاج، وقد طالما سمع به وبعظم أعماله، فوقف بحيث يستطيع رؤيته من باب الخيمة. فإذا هو جالس في صدرها على سجادة ثمينة وقد تربع ووضع السيف على فخذيه تحت مطرف من خز ألقاه على كتفيه وأداره على جنبه. ورآه لما دخلت ليلى رحب بها بصوت أرق مما كان يتوقعه، وكان الحجاج رقيق الصوت إلا إذا استفاض في الخطابة فيرتفع كثيرًا. وتفرس حسن فيه وهو يخاطب ليلى فإذا هو أخفش العينين، مقطب الوجه، ولم يجد في وجهه قبولًا للابتسام أو الضحك.

•••

لاحت من حسن الْتفاتة إلى جلساء الحجاج، فرأى رجلًا لم يكد يتبينه حتى اضطربت جوارحه واستعاذ بالله من رؤيته؛ فقد كان عرفجة أبا سمية، وقد جلس بجانب الحجاج يقضي ويمضي وله الحول والطول. وأدرك حسن أن عرفجة لم ينل هذا المنصب إلا بتضحية ابنته سمية، فهاجت عواطفه وحدثته نفسه بأن يفتك به انتقامًا منه، ولكنه ما لبث أن عاد إلى رشده وعلم بما يحيط به من الأخطار، فأشاح بوجهه إلى خارج المعسكر لئلا يلاحظ أحد عليه شيئًا. كما خشي أن يراه عرفجة فيعرفه ويدبر له مكيدة أخرى، فمشى متظاهرًا بأنه يسير على غير هدى حتى بعد عن خيمة الحجاج.

ثم سمع ليلى تناديه فسار إليها وتبعها والجراب معلق في كتفه بوصفه راويتها. وبعد أن قطعا مسافة في المعسكر قالت: «انظر إلى هذه الخيمة بجانب هذه الراية إنها خيمة القادمين من الشَّعراء وغيرهم، فأقم بها ريثما آتيك أو أبعث إليك.»

قال: «وسمية؟! ألا أستطيع رؤيتها الآن؟ خذيني معك بوصفي خادمًا لك أو تابعًا أو أي شيء لأرى سمية.»

فرقَّ له قلب ليلى وقالت له: «سر في أثري حتى ندخل مضرب خيام النساء واجعل كأنك تحمل لي هذا الجراب حتى تضعه في الخيمة التي نحن سائرون إليها، ومتى وصلنا أدبر لك حيلة لمشاهدتها ومخاطبتها.»

فرقص قلبه فرحًا ونسي كل خطر في سبيل شوقه لرؤية حبيبته. وبعد هنيهة وصلا إلى خباء له عدة أبواب وحوله خيام أخرى صغيرة، فعلم أنه خباء أهل الحجاج، وقالت ليلى: «امكث تحت هذه النخلة ومتى دعوتك فادخل.» وكانت الشَّمس قد مالت إلى المغيب، فجلس هناك وقلبه يدق وعيناه شائعتان.

ودخلت ليلى الخباء، وهو أقسام لكل امرأة قسم على عادة العرب في بناء الأخبية، فدخلت القسم الذي فارقت هندًا فيه فرأتها وسمية جالستين لا تتكلمان. ولما رأتاها رحبتا بها، وآنست في وجه هند انقباضًا فقالت: «ما لهند غضبى؟» فأجابت سمية بقولها: «من ذا الذي يقترب من النار ولا يحترق بها! إن ظلم هذا الجبار العاتي ليصل حتى إلى أهل بيته.»

وكانت ليلى تعلم ببغض هند للحجاج، فلم تستغرب ذلك، ولكنها اغتنمت الفرصة وأجابت سمية قائلة: «أراك تشكين من الحجاج وقساوته وأنت لم تعرفيه إلا بالأمس، وهو مغرم بك، ولا يكاد يصدق أنه حصل عليك.»

فقطعت كلامها وقالت: «لم يحصل ولن يحصل على شيء بإذن الله.»

فقالت: «ولكن هذا بعيد وأنت في داره وبين يديه ليلًا ونهارًا.»

فأشارت بعينيها كأنها تكتم أمرًا لا تريد أن تبوح به أمام هند. فاستغربت ليلى قولها وتظاهرت بأنها تريد مخاطبتها في شأن فدخلت بها إلى خيمتها الخاصة، فاستقبلتها أمة الله جارية سمية وكانت تهيئ الطعام، ثم خرجت من الخيمة لبعض شأنها. فلما خلا المكان قالت ليلى: «رأيتك تتوعدين الحجاج وتتبرئين منه وهو زوجك الشَّرعي، فضلًا عما له من السلطان النافذ عليك، فكيف تقولين إنه لم يحصل على شيء؟!»

وكانت سمية قد جلست على حصير من سعف النخل، وبين يديها وسادة تتشاغل بإصلاح ثنياتها وهي تسمع كلام ليلى. فلما سمعت سؤال ليلى بدت الحيرة على وجهها وامتقع لونها امتقاعًا شديدًا وبقيت تنظر إلى الأرض وليلى تفكر في ذلك وتستغربه ولا تعلم سبب هذا الانفعال فقالت: «ما لي أرى سمية ساكتة لا تجيبني عن سؤالي؟ كيف تقولين إنه لم يحصل عليك وأنت بين يديه؟»

فرفعت سمية رأسها وقد بدا التأثر في عينيها وشفتيها وقالت: «صدقيني يا ليلى، إنه لن يحصل مني على شيء رغم عقد قرانه بي. ولم يكن ذلك تفضلًا منه ولكنه أُجبر عليه لقسم سبق به لسانه. وأما كونه لن يحصل على فقد أعددت وسيلة أنجو بها منه إلى حبيبي …» قالت ذلك وشرقت بريقها فاختنق صوتها فأرسلت دموعها وهي صامتة لا تشهق ولا تتكلم، فازداد عطف ليلى عليها، ولكنها استغربت ما سمعته منها عن الوسيلة التي أعدتها للنجاة. فقالت: «وأي وسيلة أعددت؟ وأين هو حسن الآن؟»

فلما سمعت سمية اسم حسن لم تعد تتمالك عن البكاء فكان جوابها الشَّهيق والنحيب، وهمَّت ليلى بأن تطمئنها عن حسن ولكنها خشيت أن يصيبها سوء من المفاجأة. فقالت: «إذا كنت تحبينني فلا تخفي على سر هذا الأمر، فقد رأيت مني كل إخلاص وأنا خادمة لك إلى آخر نسمة من حياتي. قولي، ولا تخفي علي شيئًا.»

فقالت وهي تمسح دموعها: «أما سبب كونه لم يحصل على شيء مني، فذلك أنه أراد أن يطوف بالكعبة آخر الحجة الماضية فمنعه ابن الزبير من ذلك، فأقسم ألا ينزع سلاحه ولا يقرب نساءه ولا الطيب حتى يقتله.»

فتذكرت ليلى أنها كانت لا ترى الحجاج إلا مدججًا بسلاحه حيثما كان ليلًا ونهارًا، واعتزمت أن تفضي إلى حسن بذلك لعلمها أنه يشرح صدره، ثم قالت لسمية: «وما هي الوسيلة التي دبرتها للنجاة منه في المستقبل؟»

فمدت سمية يدها إلى جيبها فأخرجت منه صرة صغيرة حلت عقدتها فإذا في داخلها قطعة رق ملفوفة على هيئة درج، فتبادر إلى ذهن ليلى أنها كتاب. ثم رأت سمية تناولت ذلك الرق بين أصابعها وقالت: «إن الفرج يأتيني من هذا الدواء!»

فقالت ليلى: «وما ذلك؟»

فقالت: «هو سم احتفظت به حتى إذا تحققت وقوع الخطر تناولته فيذهب بي إلى مكان أرجو أن ألاقي حسنًا فيه.»

فرأت ليلى أن تبوح لها بالسر فقالت: «وما قولك إذا لاقيت حبيبك وأنت حية؟»

فتفرست سمية في وجه ليلى وهي تحسبها تمازحها وقالت: «لا تحببي الحياة إلي، فإن لقائي إياه في العالم الآخر خير وأبقى. أما هنا فلا أمل لي في ذلك.»

قالت: «لا تقطعي الأمل يا سمية.»

فأجابت وهي تحسبها تخفف عنها: «لا أبالي أقطعت الأمل أم لم أقطعه، فإن مدة عذابي في هذا العالم أصبحت قصيرة، ولا بد من انقضاء هذه الحرب، فإذا ظل هذا الطاغية حيًّا كان دوائي في هذه الصرة، وإذا مات …» ثم تنهدت وأكملت حديثها فقالت: «ولكن ما الفائدة من بقائي حية وحدي؟»

فقطعت ليلى كلامها وقالت والجد في غنة صوتها: «إذا بقيت حية فإنك لا تكونين وحدك؛ لأن حسنًا حي!»

فلما سمعت سمية ذلك بغتت وعادت إلى التفرس في وجه ليلى، فرأت الجد باديًا في عينيها فوثبت من مجلسها وقالت: «بالله أعيدي ذكره وعلليني ببقائه. قولي إنه حي فإن ذكره يحييني!» قالت ذلك واختنق صوتها فبكت ثم قالت: «ولكن ما الفائدة من التعلل بالأحلام؟!»

فقالت ليلى: «لسنا في حلم، وإنما نحن في يقظة، وقد آن لك أن تري حسنًا إنه في انتظارك على مقربة من هذا الخباء وسأدعوه إليك لتلتقيا.» ثم خفضت صوتها وقالت: «وتتواعدا على وقت تفران فيه من هذا المعسكر، ولا خوف من مجيء الحجاج إلى خيام النساء ما دام قد أقسم ألا يقربهن.»

•••

وكانت سمية تسمع قول ليلى وهي لا تكاد تصدقه، ولكنها لم ترَ بدًّا من تصديقه ولا سيما بعد أن سمعت أن حسنًا بقرب خبائها، فهرولت إلى شق في الخباء ونظرت إلى الخارج وكان الليل قد سدل نقابه فلم ترَ أحدًا، فنادت أمة الله فأسرعت إليها وقد أنارت السراج ودخلت حتى وضعته على المسرجة، فقالت لها سمية: «هل رأيت أحدًا جالسًا حول هذا الخباء؟»

قالت: «كلا يا مولاتي، ولكنني رأيت رجلين مرَّا معًا وخرجا من المعسكر.»

فقالت ليلى: «هل رأيت أحدهما يحمل جرابًا؟»

قالت: «أظنني رأيت مع أحدهما شيئًا كالجراب.»

فأسرعت ليلى وسمية في أثرها وأطلَّتا من باب الخباء فلم تريا أحدًا، فتحولت ليلى نحو المكان الذي أجلست فيه حسنًا فلم ترَ له أثرًا، فأسقط في يدها، وفكرت في سبب ذهابه ومن يكون الرجل الذي ذهب به فلم تهتدِ إلى حلٍّ.

أما سمية فخامرها شك في قول ليلى، ولكنها تحققت صدقها لما بدا في عينيها من دلائل الاهتمام وما غشي جبينها من أمارات الانقباض، فقالت لها: «أين عسى أن يكون حسن الآن؟»

فقالت ليلى: «إن ذهابه لا بد أن يكون لأمرٍ ذي بال، فقد جاء معي وهو لا يكاد يصدق أنه يحظى برؤيتك، وما أظنه تحول من هذا المكان بإرادته. ولعله يعود الليلة فلنترقب رجوعه. ولكن من يكون رفيقه الآخر وهو غريب في المعسكر وقد جاء إليه متنكرًا؟»

ثم دخلتا الخباء، ومكثت سمية مطرقة مستغرقة في الهواجس وهي مرهفة سمعها فإذا هب النسيم ظنت حسنًا قادمًا فيضطرب قلبها. وخرجت ليلى إلى خباء هند وهي تكتم ما في نفسها لعلها تستطلع شيئًا جديدًا.

أما سمية فنادت أمة الله وكانت أنيستها في وحشتها وعزاءها في أحزانها والمطلعة على مكنونات قلبها. فلما نادتها لم تسمع جوابها ولا جاءتها فأعادت الصوت فلم يجبها أحد، فاستعاذت بالله من تلك الليلة، وخرجت إلى حيث تتوقع أن تراها فرأت في الظلام شبحين عرفت منهما أمة الله، ورأت الثاني بلباس الرجال فخفق قلبها وتوقعت أن يكون حبيبها فلم تعد تصبر عن المناداة فقالت: «أمة الله؟»

فقالت: «لبيك يا مولاتي إني قادمة على عجل.» قالت ذلك وظلَّت واقفة مع الرجل، فقلقت سمية ولم تعد تستطيع صبرًا، وهمَّت بالمسير نحوهما فرأتهما قادمين فتقهقرت حتى وقفت بباب الخباء ووسعت حتى يقع نور السراج على وجه القادم مع أمة الله فتعرفه، ولكنه ظلَّ واقفًا على بضع خطوات من الخباء، ثم تبينت أنه بلباس حرس الحجاج، فتشاءمت منه ودخلت الخباء مسرعة وأمة الله في أثرها. وكانت أمة الله قد أدركت اضطراب سيدتها من منظر الرجل فابتدرتها قائلة: «لا تخافي يا مولاتي إن الرجل رسول خير.»

قالت: «ممن؟»

قالت وقد خفضت صوتها: «من حسن.»

فبدت البغتة في وجهها وقالت: «ليدخل.»

فخرجت أمة الله وعادت والرجل معها وعليه لباس الحرس. ولم تكن ملابس الجند قد تميزت يومئذ عن ملابس سائر الناس تمييزًا تامًّا، غير أن حرس الأمراء الأمويين كان لهم لباس خاص بهم، اقتبسه معاوية من الروم مع علامات خاصة، فوقفت سمية لاستقبال الرجل وركبتاها تصطكان لعظم اضطرابها من منظره.

أما هو فلما دخل حيَّاها باحترام وقال لها بصوت منخفض: «لا يزعجك أمري يا مولاتي ولا يخيفك هذا اللباس، فإني خادم لك ولمولاي حسن.»

فلما سمعت صوته تفرست في وجهه فعرفت أنه عبد الله خادم حسن فصاحت فيه: «أنت عبد الله؟»

قال: «نعم يا مولاتي إني خادمك عبد الله.»

قالت: «وما الذي جاء بك إلى هذا المعسكر؟ وأين حسن؟ هل هو حي كما يقولون؟!» قالت ذلك وشرقت بدموعها.

فقال: «نعم يا سيدتي إنه على قيد الحياة، ولم أكن أعرف ذلك إلا هذه الساعة، وكنت قد يئست من حياته مثلك ولكن الله أنعم علينا بنجاته. فالحمد لله.»

قالت: «وأين هو؟»

قال: «إنه مختبئ على مقربة من هذا المكان حتى لا يراه أحد؛ لأنه جاء متنكرًا ولم ينتبه له إلا أبوك، فطلب إلى الأمير أن يقبض عليه. وقد اطلعت أنا على هذه المكيدة فأسرعت إليه وأنبأته بها، وخرجت به إلى مخبأ قرب هذا المعسكر، وجئت لأنبئك بذلك لنتعاون على استنباط حيلة تخرجان بها إلى حيث تشاءان وأنا في خدمتكما.»

فقالت: «سامح الله أبي، بل لا سامحه الله على ما يسومنا إياه من البلاء. لقد أصبحت أكره اسم عرفجة وأكره أن أراه من أجل هذه المعاملة. آه يا ربي! ما العمل؟ ما الحيلة؟ قل لي يا عبد الله هل حسن في مأمن؟»

قال: «نعم يا مولاتي إنه في مكان أمين ولا بأس عليه.»

فقالت: «وكيف أدخلت نفسك في زمرة الحراس، وكيف انطلى أمرك على الحجاج وعلى أبي؟»

قال: «إن حكايتي طويلة، وخلاصتها أني لما يئست من لقاء مولاي حسن في المدينة وكنت قد عثرت على رحله وفيه كتاب من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير لا بد من إيصاله إليه، رأيت القدوم به إلى مكة، فإذا كان مولاي حسن قد سبقني إليها لقيته وسلمته إليه، وإذا لم أجده أوصلت أنا الكتاب إلى ابن الزبير، فلما دنوت من مكة علمت أن رجال الحجاج يحيطون بها من كل جانب، ولا يستطيع أحد الدخول إليها، وخشيت أن يقع الكتاب في أيديهم، واحتلت لدخول معسكر الحجاج لعلي أتنسم خبرًا عن سيدي، وقد يسر لي الدخول أني من ثقيف قبيلة الحجاج، وهو كثير الثقة في أهل قبيلته ويعرفني من قبل، ولكنني أعلم أنه رجل شديد داهية فربما شك في أمري فيأمر بقتلي، فعزمت على أن أتقرب إليه بأن أعطيه الكتاب، ولا سيما أني لم أرَ فيه فائدة بعد فقد مولاي، وربما تمكنت باقترابي من الحجاج من استطلاع خبر مولاي، فتظاهرت بأني قادم على الحجاج لأمر ذي بال يهمه، وجئت المعسكر وطلبت أن أقابله في خلوة فأذن لي، فلما عرفته بنفسي عرفني. ثم أخرجت له ذلك الكتاب وأنا عالم أن ليس فيه ذكر لمولاي حسن، وإنما هو خطاب من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير في أمر خطبة أو نحوها، فتظاهرت بأني عثرت بالكتاب مع رجل قادم من الشَّام، ولما رأيت عليه اسم عبد الله بن الزبير شككت في أمره فقتلت حامله، وجئت بالكتاب إليه.

فلما سمع الحجاج ذلك مني، مع علمه بأني من قبيلته، أحسن الظن بي وقربني وجعلني من حراسه كما ترين. وفي مساء ذلك اليوم قدم أبوك على الحجاج فأطلعه على ذلك وأنا واقف ببابه. فلما اطلع أبوك على الكتاب ناداني فدخلت الفسطاط فقال: «من أين أتيت بهذا الكتاب؟!» فقصصت عليه الخبر كما ذكرته، فقال: «إن صاحب هذا الكتاب عدو لنا عرفناه في المدينة وحاولنا قتله، ولكن الذي ذهب لاغتياله لم يعد إلينا، فهل قتلته أنت؟» فلما سمعت قوله اطمأننت على حياة مولاي، ومضيت في إتمام الحيلة فقلت: «لا أعلم أهو الذي قتلته أم لا، ولكنني قتلت شابًّا بلباس كذا.» وذكرت له ما يقرب من صفات مولاي فقال: «لعله هو وقد أحسنت على أي حال.» وأدناني أبوك منه ومكثت في جملة الحراس وأنا أتفقد الأحوال وأستطلع الأخبار حتى جاءنا مولاي في هذا النهار مع ليلى الأخيلية وقد تنكر، فعرفته، ولم ينتبه لي ولا أنا أردت أن يعرفني لئلا ينكشف أمرنا. فتجاهلت حتى دخلت ليلى على الحجاج وخرجت. وكان أبوك مع الحجاج في الفسطاط، فلما خرجت ليلى رأيت علائم الغدر في وجه أبيك، وسمعته يخاطب الحجاج فأصغيت فإذا هو يشير بإصبعه إلى ليلى ويقول: «إن راويتها جاسوس متنكر.» وأشار بالقبض عليه، فعلمت أنه عرف حسنًا واحتلت في الخروج حتى جئته وهو جالس بقرب هذا الخباء فأخبرني أنه جاء من أجلك، فذهبت به إلى خربة وراء هذا المعسكر لا يهتدي إليها أحد، ووعدته أن آتي إليك وأطلعك على أمره لندبر حيلة للفرار.»

وكان عبد الله يتكلم وسمية تتطاول بعنقها وتصيخ بسمعها وعيناها شاخصتان فيه. فلما جاء على آخر الحديث اطمأن قلبها وزال قلقها على حبيبها، فانبسطت أسرتها وقالت: «بورك فيك يا عبد الله، إنك لنعم الرجل، وإذا أُتيح لنا أن ننجو على يدك فستكون شريكنا في سعادتنا، وإلا فلا حول ولا …»

فقال: «إن النجاة قريبة إن شاء الله، ولكن لا بد من الصبر، فأذني لي في الانصراف الآن، لأعود إلى موقفي لئلا يشكوا في أمري، فإذا حدث شيء أو احتجت إلى شيء فإني رهين إشارتك، وإذا حدث عندي شيء جئتك به.» قال ذلك وهمَّ بالخروج فاستوقفته وقالت له: «إلى أين؟ وكيف تترك حسنًا وحده في تلك الخربة ومن أين يأكل وأين ينام؟!»

فقال: «أتظنين أني تركته ولم أعد إليه؟ كوني مطمئنة فإني أدبر له كل ما يحتاج إليه.» وودعها وخرج.

وتذكرت سمية ليلى، فنادت أمة الله وقالت لها: «أين هي ليلى؟» فقالت: «هي في خباء هند.» وخرجت ثم عادت تقول: «لم أجد في الخباء أحدًا.»

فاستغربت ذلك وقالت: «ألم تسألي الخدم عنهما؟»

قالت: «سألت الخادمة فذكرت لي أن هندًا خرجت عند الغروب تتمشى بين الأخبية، ثم جاءت ليلى للسؤال عنها فلما لم تجدها اقتفت أثرها، ولم تعودا من ذلك الحين.»

فقالت: «وأين تذهبان في هذا الليل؟ أخاف أن يكون الحجاج بعث للقبض على ليلى لأنها واطأت حسنًا على التنكر.» وخافت سمية إذا بالغت في البحث عنهما أن تنصرف الشَّبهة إليها، فدخلت خباءها وجلست تفكر فيما مر بها في تلك الليلة من الغرائب. وكلما تصورت أنها نجت بحبيبها وخرجت من معسكر الحجاج يختلج قلبها فرحًا.

أما عرفجة فإنه عرف حسنًا حالما وقع بصره عليه، فتجاهل وانتظر حتى خرجت ليلى ثم طلب القبض عليه كما تقدم. ففوض إليه الحجاج أن يفعل به ما شاء، فلما ارفض المجلس خرج عرفجة إلى كبير الحراس وأوصاه بأن يبعث بضعة عشر من رجاله بالسلاح يقتفون أثر راوية الشَّاعرة ويقبضون عليه حيثما وجدوه. وكان عبد الله قد سبق إلى حسن وخرج به إلى ذلك المخبأ.

فلما لم يعثر الحراس على حسن هناك، عادوا إلى عرفجة وأنبأوه بذلك فقال: «إلي بليلى فإنها في أخبية النساء.» فعادوا إليها فرأوها تتمشى مع هند بجوار الأخبية فأشاروا إليها أن تأتي إلى فسطاط الحجاج. فلما سمعت ذلك خافت من انكشاف أمرها ولكنها لم ترَ بدًّا من الطاعة، فسارت مع الحراس حتى أتوا الفسطاط والظلام قد عقد قبابه، فلم يدخلوا فسطاط الحجاج بل دخلوا فسطاطًا آخر رأت في صدره عرفجة جالسًا. فلما رأته استعاذت بالله من شر ذلك المساء، ولكنها كانت جريئة لا تبالي بمن تلاقي، فدعاها إلى الجلوس وقال لها: «أين هو راويتك يا ليلى؟»

فلما سمعت سؤاله أدركت أن أمر حسن قد انكشف فلم تشأ أن تشرك نفسها في ذنبه فيقعان معًا فلا تعود قادرة على مساعدته، فعمدت إلى الحيلة وقالت: «وأي راوية تعني؟»

قال: «راويتك الذي يحمل جرابك وقد جئت به اليوم.»

قالت: «وهل دخلت على الأمير ومعي راوية؟»

قال: «لم يدخل معك ولكنه بقي خارجًا، ولما مضيت اقتفى أثرك.»

قالت: «وهل يدل ذلك على أنه راويتي؟ وكيف يكون راويتي ولا أدعوه إلى الجلوس في حضرة الأمير؟»

قال: «أراك تتنصلين منه ونحن لا نريد به شرًّا.»

قالت: «لا يهمني ما تريدون به، ولكني جئت إلى المعسكر بالأمس وليس معي راوية.»

قال: «كان معك رجل يحمل جرابًا.»

قالت: «أتعني الرجل الذي يحمل الجراب؟ لقد الْتقيت به عند دخولي المعسكر ورأيته يسير بجانبي فلم أنتبه لأمره، ولا أعرفه … ومع ذلك فإذا كنتم تسيئون الظن بمن يبذل نفسه في خدمتكم فلا حيلة لنا فيكم.»

فلما رآها غضبت جعل يخفف عنها ويقول: «نحن لم نسيء الظن بك يا ليلى، وأنت شاعرة الأمير ولك عنده المنزلة السامية، ولكن هذا الرجل قد خدعنا وهو جاسوس دخل معسكرنا ونحن نحسبه راويتك.»

قالت: «وهل الأمير ممن يخافون الجواسيس؟ إن من كان مثله حزمًا وقوة لجدير بأن يخافه الجواسيس، على أني لو علمت بجاسوس في هذا المعسكر لأطلعت الأمير على خبره.»

قال: «بورك فيك، وأرجو أن تكوني عينًا على هذا الرجل، فإذا رأيته فأنبئينا بمكانه، فقد بعثنا من يقبض عليه فلم يقفوا له على أثر ولعله يظهر غدًا فاكتمي هذا الآن.» قال ذلك ونهض، فنهضت ليلى وخرجت من عنده قلقة على حسن، وإن سرت لنجاته من قبضتهم. ثم عادت توًّا إلى سمية وقصَّت عليها الخبر، فأطلعتها سمية على حديث عبد الله فاطمأن بالها.

قضى حسن ليلته في الخربة التي اختبأ فيها بجانب المعسكر، وهي تطل على الطريق المؤدي إلى مكة، ولم يغمض له جفن لشدة قلقه وتشتت أفكاره. وقد عظم عليه أن يخرج من معسكر الحجاج فرارًا ولكنه أدرك أنه يستحيل عليه النجاة بغير ذلك، ولبث حتى الصباح وهو يفكر في وسيلة لإنقاذ سمية من الحجاج.

كان عبد الله قد وعده أن يوافيه في مخبئه ليدله على طريقة للفرار، فقضى ليله في هذه الهواجس، وفي الصباح صعد على أكمة أشرف منها على معسكر الحجاج لعله يرى عبد الله أو رسولًا منه، فرأى بينه وبين المعسكر أرضًا خالية وتبين المكان جيدًا. وفيما هو يتطلع رأى رجلًا قادمًا على هجين من أطراف المعسكر كأنه آتٍ من الصحراء، ثم اقترب الرجل منه فتبين أنه خادمه عبد الله، فاستبشر بقدومه، فلما وصل عبد الله ترجل وأشار إليه أن يعود إلى الخربة مخافة الرقباء، فقال له حسن: «ما وراءك الآن؟»

قال: «أبشرك أولًا بأن الحجاج لم يقرب سمية وإن كان قد عقد قرانه بها.» قال: «وكيف عرفت ذلك؟»

قال: «عرفته عن ثقة، فقد أخبرتني به ليلى الأخيلية، وهي التي ساعدتنا في تدبير الحيلة للخروج.» وذكر له أمر القسم الذي أقسمه الحجاج، فانشرح لذلك صدر حسن، ثم قال: «وماذا دبرتموه للنجاة من بطش الحجاج، إني لأستنكف فرارنا على هذه الصورة، ويخيل إلى أن سمية لا ترضى مني هذا الضعف.»

قال: «إنها لما علمت بنجاتك سرت سرورًا عظيمًا؛ لأنهم لو ظفروا بك لفتكوا بكما معًا. ثم أي فائدة من بقائك في المعسكر بعد انكشاف أمرك، وهل تستطيع مقاومة الحجاج وجنده؟ وعلى أي حال قد جئتك بما استقر رأينا عليه في هذا الصباح، وهو أن أترك هذا الجمل عندك وأعود، فتتأهب أنت للرحيل في العشاء وتخرج من وراء هذا التل حتى تطل على الطريق التي تراها أمامك، وستجدني وسيدتي سمية هناك وكل منا على هجين ومعنا المئونة اللازمة للسفر في الصحراء أيامًا. ومتى بعدنا عن مكة صرنا في مأمن.»

فسر حسن لهذا التدبير، على صعوبة تنفيذه، وقال لعبد الله: «احذر أن يطلع أحد على ما دبرتموه، فتكون الثانية شرًّا من الأولى. وثق بأنني إن وقعت في هذه المرة فلن يسعني إلا أن أناضل عن سمية حتى أموت بين يديها.»

قال: «لقد أعددنا كل شيء، ولا خوف على سمية؛ لأن الحجاج لا يأتي إلى خباء أهله مطلقًا في هذه الأيام للسبب الذي ذكرته لك.»

اطمأن بال حسن وجلس في مخبئه بالخربة يتناول طعامًا أحضره له عبد الله، ولم تمضِ ساعة حتى سمع صوت قعقعة اللجم ووقع حوافر الخيل، فصعد إلى الأكمة وتطلع نحو مصدر الصوت فرأى أكثر من عشرين فارسًا قد اكتسوا بالدروع، وفي مقدمتهم فارس ضخم أسود، هو قنبر عبد عرفجة. فلما وصلوا إلى المكان أشار قنبر بيده إلى حسن وقال: «هذا هو فأمسكوه.» فأحاطوا به من كل ناحية، ولم يرَ حسن بدًّا من التجلد فقال لهم: «ما بالكم؟ وما الذي تطلبونه؟»

فضحك قنبر مستهزئًا وقال: «إن الأمير يدعوك إلى وليمة العرس!»

فاستشاط حسن غضبًا من استخفاف العبد به، وقال له: «اخسأ يا عبد السوء.»

وما أتمَّ كلامه حتى أحدق به الفرسان وسيوفهم مسلولة، فوضع حسن يده على قبضة سيفه وقد ثارت الحمية في رأسه وقال لهم: «لا يغرنكم عددكم، ولا تظنوا أني أهاب سيوفكم وخيولكم، فإما أخبرتموني بما تريدون بالحسنى، وإما فلن تنالوا مني شعرة قبل أن يقطر حسامي من دمائكم.» قال ذلك وقد أخذ الهياج منه مأخذًا عظيمًا ولم يعد يبالي الحياة.

فتقدم إليه فارس منهم لا يظهر من وجهه غير عينيه خلال اللثام وقد شهر السيف بيده وقال: «نراك تظهر من الضعف قوة، وما أنت إلا جاسوس نذل لا أحسبك تحتمل ضربة من هذا السيف.»

فلما سمع حسن قوله صعد الدم إلى رأسه وصاح في هذا الفارس قائلًا: «أتخوفني بسيفك؟ إنما يخاف السيوف من يخاف الموت، ولست ذلك الرجل. فإذا أردت النزال فانزل نتبارز راجلين، فلا يصح النزال وأنت راكب وأنا راجل. وإذا خفت فانزلوا جميعًا وأنا أستعين الله عليكم.»

فضحك الفارس بصوت عالٍ سمعه الجميع، قال وهو يحول شكيمة جواده عن حسن: «لو أن الأمير أمرنا بقتلك لأريتك القتل كيف يكون، ولكنه أمرنا أن نقودك إليه أسيرًا، فامشِ.»

قال: «لا أسير ماشيًا وأنتم راكبون، فإما أن أركب معكم أو تمشوا معي!»

فلما رأوا هذه الجرأة منه هابوه وحسبوا له حسابًا، وجعلوا يتشاورون فيما يفعلونه. فأشار بعضهم بقتله، وعارض آخرون؛ لأن الأمير لم يأمرهم بذلك. ثم قرَّ رأيهم على مسايرته ريثما يبلغون به المعسكر ويقدمونه فيرى الأمير رأيه فيه.

وكانوا يعلمون أنه يندر أن يُساق إلى الحجاج متهم وينجو من القتل؛ فإنه كان سفاكًا للدماء حتى أحصوا الذين قتلهم في حياته فبلغوا مائة ألف وعشرين ألفًا، ووجدوا في سجونه بعد موته ثلاثة وثلاثين ألفًا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب. فرأى الفرسان أن يعاملوا حسنًا بالحسنى ويتركوا أمر الإيقاع به إلى الحجاج. فتقدم إليه فارس غير الذي كلمه أولًا وقال له: «لو كنا قد أمرنا بقتالك لقاتلناك مشاة أو فرسانًا، ويحكم الله بيننا وبينك، ولكننا جئنا لنحملك إلى الأمير.»

قال: «قلت لكم إني لا أسير معكم ماشيًا وأنتم راكبون.» وكان قنبر واقفًا يسمع كلامه وهو يستغرب صبرهم على جرأته، فلما سمع قوله تقدم إليه وقال بلهجة العبيد ورطانتهم: «امشِ يا حسن وهل أنت أحسن مني؟»

فلما سمع حسن كلامه جرَّد سيفه وصاح فيه قائلًا: «إذا تكلم الناس فاخرس أنت يا عبد النحس. وإلا فإني مطير رأسك بحد هذا السيف.»

فضحك قنبر حتى بانت نواجذه ثم قال: «بعد قليل نرى من المقتول منا. ولكنك غير ملوم لأن سمية خرجت من يديك، تعالَ وانظرها بين نساء الأمير.»

فلما سمعه حسن يذكر سمية، عزَّ عليه أن يحتقره ذلك العبد ويهزأ به، فهاج غضبه واستغرب سكوت سائر الفرسان عن وقاحته، ولكنه أمسك نفسه وقال له: «لولا خوفي أن يُقال لطخت حسامي بدم عبد لئيم لأطرت رأسك عن جذعك، ولكنني أرجو أن يكون ذلك نصيب مولاك الخائن، فاخرس ولا تخاطبني وإلا فأنت الجاني على نفسك.»

فلم يزدد قنبر إلا قحة واستخفافًا، واقترب من حسن ويده على قبضة سيفه وقال: «ألمثلي تقول هذا الكلام يا حسن ثم تعرض بذكر مولاي! والله إني ضاربك ضربة أعلمك بها الأدب والحشمة.» قال ذلك وهمَّ باستلال السيف، فعيل صبر حسن لقحة ذلك العبد وسكوت بقية الفرسان، فجرد حسامه وتلقاه بضربة على عنقه فذهب رأسه يتدحرج على الأحجار.

فلما رأى الفرسان ذلك صاحوا فيه: «لقد حلَّ لنا دمك بعد هذه الجرأة، كيف تقتل هذا الرجل بين أيدينا؟!»

فلم يبالِ حسن ضوضاءهم وقال لهم: «أتعدون هذا رجلًا؟ إن من يعده رجلًا لجدير بأن ينال ما ناله، ثم إني رأيتكم سكتم عن قحته فلم يسعني إلا قتله، وقد قلت لكم إني لا أبالي الموت فلا تخوفوني به.» قال ذلك والشرر يكاد يتطاير من عينيه، وظل واقفًا وسيفه يقطر من دم قنبر وقد اشتفى قلبه بقتله ويئس من الحياة؛ لأنه لم يكن يتوقع من هؤلاء الفرسان إلا الفتك به، فعزم على الدفاع إلى آخر نسمة من حياته، فإذا مات مات كريمًا.

على أنه ما لبث أن رأى الفرسان يتسارون، ثم تقدم أحدهم وترجل عن فرسه وقدمه له قائلًا: «هذا جوادي فاركبه حتى تأتي المعسكر وشأنك والأمير، وسأركب أنا جملك.»

فلما سمع صوت الفارس عرف أنه خادمه عبد الله، فاستأنس به، وأدرك أنه هو الذي حملهم على الإبقاء عليه. فركب الجواد، وساروا جميعًا نحو المعسكر.

وكان السبب في معرفة مكان حسن أن عرفجة لما خرجت ليلى من عنده ولم تطلعه على مقره بعث عبده للبحث عنه في المعسكر، فقضى هذا طول الليل في البحث، وفي الصباح رأى هجانًا قادمًا إلى المعسكر من ناحية تلك الخربة، فلم يعرف الهجان ولكنه شك في أمره، فذهب يبحث في المكان الذي رآه قادمًا منه، وهناك وقع بصره على حسن وجمله فأسرع إلى سيده فأنبأه بما رأى، فأوعز هذا إلى الحجاج فأرسل كوكبة من الفرسان للقبض على الجاسوس الهارب.

وكان عبد الله قد عاد إلى موقفه مع الحراس، فلما علم بالأمر احتال حتى أُلحق بأولئك الفرسان، لعله يستطيع مساعدة سيده، وبذل جهده حتى أبقوا عليه بعد أن قام بقتل قنبر، رغم ما له من منزلة رفيعة عند الحجاج مراعاة لسيده، ولأنه ينفع في مثل هذه المهام.

وقد ساعد عبد الله في بلوغ غايته أن الجند لم يكونوا يحبون قنبر لفرط استبداده وقحته — واستبداد العبيد ثقيل على الطباع — فلما قتله حسن فرحوا فيما بينهم وبين أنفسهم، وإن أظهروا الغضب.

وبعد أن أرسل عرفجة الفرسان دخل على الحجاج في خيمته، وجلسا ينتظران ما يكون، وأخذ عرفجة يمهد للفتك بحسن، فأقنع الحجاج بأنه جاسوس وبأنه إذا بقي حيًّا فلا يؤمن شره. وما كان الحجاج في حاجة إلى من يوصيه بالقتل، وهو بطبعه شديد الرغبة في سفك الدماء.

وآن وقت الغداء، فلم يشأ الحجاج مغادرة الفسطاط قبل مجيء الفرسان ليرى ذلك الجاسوس الذي بالغ عرفجة في وصف خطره، فلما أحس الجوع أمر بأن يؤتى بالطعام إلى الفسطاط، وكان الحجاج من الأكلة المشهورين في الإسلام أمثال: سليمان بن عبد الملك، وميسرة البراش، وغيرهما، حتى قالوا إنه أكل ٨٤ رغيفًا مع كل رغيف سمكة في أكلة واحدة! فلما جاءوه بالطعام دعا من في مجلسه إلى مشاركته فيه، فاعتذروا جميعًا تهيبًا منه إلا عرفجة فإنه أكل معه، وإن ظل طول الأكل قلقًا يفكر فيما دبره لحسن من المكايد. فلما فرغ الحجاج من الطعام رُفعت المائدة، وجلس الحجاج صامتًا. وكان عظيم الهيبة حسن الفراسة فإذا سكت لبث الذي في حضرته سكوتًا كأن على رءوسهم الطير.

•••

وفيما هم على تلك الحال، دخل الحاجب وقال: «لقد عاد الفرسان وعما قليل يصلون.»

فقال الحجاج: «وهل الأسير معهم؟»

قال: «لم أرَ بينهم أحدًا ماشيًا.»

قال: «لعله جاء على جواد.» قال: «إن بينهم رجلًا بلباس غريب، فلعله هو الأسير.»

فنهض عرفجة ووقف بباب الفسطاط يتفرس في القادمين، ولما وقع نظره على حسن عرفه، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يراه فيها بعد مقابلتهما في المدينة.

ولما رأى حسن عرفجة ارتعدت فرائصه من الغيظ، وودَّ لو أن سيفه أصاب عنقه بدلًا من قنبر. ولاحظ عرفجة أن قنبر ليس بين القادمين فظنه تأخر في الطريق، وعاد إلى الفسطاط وجلس بجانب الحجاج ثم دخل الآذن وأنبأ الحجاج بوصولهم فقال: «أدخلوا الرجل لنراه.»

فأدخلوه عليه وقد نزع سيفه ووقف بين حارسين أحدهما عبد الله وفي يد كل منهما حربة. ولا تسل عن هواجس عبد الله في تلك الساعة لما يعلمه من رغبة الحجاج في سفك الدماء. وأما حسن فإنه وقف بقدم ثابتة كأنه بين بعض الأصدقاء، والْتفت إلى من حوله في الفسطاط فرأى في صدره الحجاج وعرفجة، وإلى الجانبين رؤساء الأجناد وكلهم سكوت تهيبًا من الحجاج؛ لأنه قلما رُئي ضاحكًا، وإذا ضحك فإنه لا يزيد على أن يكشر عن أنيابه. وقد تسمع قهقهته فإذا نظرت إلى وجهه لم تجد فيه أي أثر لغير التجهم والعبوس!

وكان حسن يسمع بظلم الحجاج وشدة وطأته ورغبته في سفك الدماء، ولكنه اعتزم الصبر والثبات حتى الموت، وبقي واقفًا برهة لا يخاطبه أحد في شيء والحجاج ينظر إليه ويتفرس فيه ثم قال له: «ممن أنت؟»

قال: «ما أنا من ثقيف ولا من أمية.»

قال: «وماذا تعني؟»

قال: «أعني أني لست من قبيلة الأمير ولا من قبيلة أمير المؤمنين، ومهما يكن من أمري بعد ذلك فليس مما يغير رأي الأمير فيَّ…»

فقطع عرفجة كلامه وقال: «أبمثل هذا الجواب يُخاطب ولي أمير المؤمنين؟! إنها قحة!»

فلم يصبر حسن على سماع ذلك من عرفجة والْتفت إليه وقال: «بل القحة أن يتصدى مثلك للجواب عن مولانا الأمير ويقطع الكلام عليه.»

فأراد عرفجة أن يتكلم فرأى الغضب في وجه الحجاج وهو يهم بالكلام فسكت، وقال الحجاج: «لسنا في مقام جدال، فأخبرني ما الذي جاء بك إلى هذا المعسكر متنكرًا؟»

فتحير حسن ولم يدرِ بم يجيب، وخاف أن يصرح بحقيقة غرضه فيهيج غيرة الحجاج عليه، ولا سبيل بعد ذلك للنجاة، فلبث ساكتًا. فاستبطأ الحجاج جوابه فأعاد السؤال فقال حسن: «جئت لأمر يهمني ولا يهم سواي ولا علاقة له بأمر الخلافة أو الإمارة.»

فقال الحجاج: «نرى أجوبتك مبهمة فأفصح.»

فلبث حسن ساكتًا، فاغتنم عرفجة فرصة سكوته وقال للحجاج: «إن أجوبته مبهمة لأنه يخاف أن يعترف بفعلته، وهو جاسوس من عبد الله بن الزبير على مولانا الأمير. بل هو عدو أمير المؤمنين يتمنى سقوط دولته ويسعى في ذلك جهده. وإذا شئت أن تتحقق ذلك فاطلب إليه أن يلعن الكاذبين.»

فالْتفت الحجاج إلى حسن كأنه يستطلع رأيه فيما قاله عرفجة، فقال حسن: «حاش الله أن أكون كما يقول.»

فقال الحجاج: «إذا كان الأمر كذلك، فالْعن الكاذبين: عليًّا بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد.»

فارتبك حسن؛ لأنه لا يعتقد كذب هؤلاء، ولا يريد أن يلعنهم. وكان يعلم أنه إذا لم يلعنهم فإن هذا يكون حجه عليه فقال: «لا أرى علاقة بين صدق نيتي في خدمة أمير المؤمنين عبد الملك وبين لعن هؤلاء.»

فقال عرفجة: «أرأيت يا مولاي كيف هو خائن غادر يكذب على الأمير كذبًا صريحًا؟ أما قلت لك إنه جاسوس والجاسوس يستوجب القتل. اقتله يا مولاي وأرح نفسك منه.» قال ذلك وأطرافه ترتعش ولحيته تنتفض في وجهه على صغرها، وعيناه ترتعشان كأنهما قد فُت فيهما حصرم.

وكان الحجاج مع عتوه وظلمه ذا فراسة ونظر، فأدرك أن تمنع حسن عن اللعن لا يدل على جاسوسيته، ولكنه أعاد السؤال عليه وقال: «لقد صبرنا عليك حتى الآن؛ سألناك عن نسبك فلم تجبنا وهذا ذنب وحده يكفي لاتهامك. ثم سألناك عن غرضك في طرق هذا المعسكر متنكرًا فأجبت جوابًا مبهمًا، وكلفناك لعن الكاذبين فأبيت. فهل تتوقع أن نصبر عليك أكثر مما صبرنا؟»

فلما سمع كلام الحجاج أيقن بدنو أجله، ولكنه لم يجزع، وعزَّ عليه أن يشمت به عرفجة، فلبث ساكتًا يفكر فيما يفعل، واغتنم عرفجة الفرصة فخاطبه قائلًا: «أجب الأمير. ألست جاسوسًا خائنًا جئت لتكيد لأمير المؤمنين؟»

ثم الْتفت إلى الحجاج وقال: «إني أعجب لصبر مولاي على هذا الخائن وكيف لم يأمر بقطع رأسه؟!»

فلما تحقق حسن بلوغ الأمر غايته وخاف أن تنفذ حيلة عرفجة فيه فيأمر الحجاج بقتله، اعتزم الإيقاع بعرفجة، فالْتفت إليه وخاطبه بقلب جسور وقال: «أتدعوني خائنًا وما الخائن إلا أنت؟!»

فوثب عرفجة من مجلسه مغضبًا وقال: «كيف تجرؤ على هذا الكذب في حضرة الأمير وهو أعلم الناس بصدق طاعتي وإخلاصي! والله لو أذن لي الأمير لقطعت رأسك بيدي، فإني لأعلم الناس بخيانتك، ويعلمها أيضًا غلامي قنبر.» قال هذا ثم تلفت حوله متفقدًا عبده قنبر، فلما لم يجده صاح: «أين قنبر؟» فأجابه حسن ساخرًا وقال: «لن يجيبك قنبر؛ لأنه نال جزاءه!» فالْتفت عرفجة إلى الحراس مستفهمًا، وقبل أن يسألهم أشار أحدهم بيده إشارة فهم منها أن قنبر قُتل بيد حسن فأجفل عرفجة وحملق عينيه وصاح فيه: «وهل قتلت غلامي أيضًا؟ ثم تقف غير خائف من القصاص؟!» ثم الْتفت إلى الحجاج وقال: «أتراه لم يستوجب القتل بعد؟»

فابتدره حسن قائلًا: «قتلته لخيانته، وسوف تنال جزاءك بأمر مولانا الأمير متى ثبتت خيانتك.»

فقال عرفجة: «أتتهمني بالخيانة وخيانتك ظاهرة للعيان وقد أضفت إليها جريمة القتل؟»

فلما رآهما الحجاج يتجادلان ويحاول كل منهما إثبات الخيانة على الآخر رأى من الحزم والدهاء أن يصبر حتى يستمع لجدالهما، وإن كان هذا على غير ما تعوده جلاسه منه.

أما حسن فلما رأى الحجاج مصغيًا الْتفت إلى من حوله من الأمراء وقال: «أشهدكم على أن دم الخائن مهدور أيًّا كان!»

فقال عرفجة: «ما الخائن إلا أنت.»

فتجلد حسن حتى ملك نفسه ونظر إلى عرفجة وقال له بصوت هادئ: «من الخائن منا يا عرفجة؟ أأنا الخائن وأنت الأمين الصادق في خدمة أمير المؤمنين؟»

قال: «وهل في ذلك شك؟»

قال: «وماذا تقول في الكرسي؟»

فلما سمع عرفجة لفظ الكرسي ارتعدت فرائصه وبدت البغتة في وجهه، ولكنه تجاهل ولجأ إلى المغالطة، قال وهو يضحك ويظهر الاستخفاف: «أي كرسي؟ لا شك في أنك تهذي.»

فقال حسن: «أنسيت الكرسي ولهيب ناره يلفح وجهك! أفلم تدرك أي كرسي أعني يا عرفجة؟!»

فتحقق عرفجة اطلاع حسن على حرق الكرسي، ولكنه استغرب ذلك وأنكره وعاد إلى محاولته المغالطة فقال: «ما بالك تهذي يا رجل؟ وأي كرسي تعني؟»

وكان الحجاج ينظر في عيني عرفجة، فلمَ يخف عليه أنه في ورطة، وبقي صامتًا يصغي. فقال حسن: «ألم تفهم أي كرسي يا عرفجة؟ هو كرسي المختار بن أبي عبيد الذي كلفتموني لعنه الآن!»

فازداد تغير وجه عرفجة وقال: «وما شأنه؟ وما علاقة المختار بما تقول؟»

فقال حسن وقد رفع صوته: «ألا تعرف علاقته بك؟ إذا كنت لا تعرف تلك العلاقة، فاسأل محمدًا بن الحنفية، وهو قريب من هنا. اسأله أو اسأل من شئت. وإذا أنكرت استنطقنا رماد الكرسي.»

فلما سمع عرفجة هذا التعريض أوجس في نفسه خيفة، ولم يجد سبيلًا إلى التخلص إلا أن يمضي في تجاهله ومغالطته فقال وهو يضحك: «أتظن مثل هذه المفتريات تنطلي على مولانا الأمير؟ وهل تظنه يصغي لكلام مختلق لا معنى له ولا أصل؟ إن الأمير إن يكن قد مدَّ لك في حبل الحلم، فما ذلك إلا لكي يأخذك بجريرتك ويجعلك عبرة لأمثالك من الخائنين.»

فقال حسن: «للأمير أن يفعل بي ما يشاء، ولكن ذلك لا ينفي كونك خائنًا منافقًا. وإذا كنت قد أنكرت أمر الكرسي، فإن أمره معروف، وأهل المدينة يعرفون عنك محافظتك بضعة أعوام على محفة لا يعرف أحد ما فيها. ولم يكن فيها إلا كرسي المختار الذي زعم أنه لعلي بن أبي طالب، واستغله في الدعوة إلى قتال بني أمية من ورائه، فلما مات أخذت أنت الكرسي لنفسك، لتخلف المختار في استغلاله لمناصبة بني أمية العداء ومحاولة إخراج الخلافة منهم إلى محمد بن الحنفية الذي كان المختار يدعو له.»

فقطع عرفجة كلامه وقال: «ما هذا إلا اختلاق.»

فقال حسن: «إن ابن الحنفية شاهد على ذلك، ومهما يكن من أمره فيما يختص بالخلافة فلا يشك أحد في صدقه، وإذا كان شعب علي بعيدًا من هنا، ففي المسجد بمكة من شهدوا حريق الكرسي معي، وشهدوا الإهانة التي لحقت بعرفجة النزيه الصادق من محمد بن الحنفية حين جاءه مستأذنًا في الدعوة إلى بيعته وخلع أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان!»

ولم يتم حسن كلامه حتى ضجَّ من في الفسطاط، ومال الحجاج إلى تصديق حسن، وكان الحجاج مع تقريبه عرفجة لا يجهل خبثه ونفاقه، ولكنه إنما قربه لأنه يحتاج إلى أمثاله في بعض أغراضه. فلما رجح ثبوت هذه التهمة عليه صمم على قتله، ولكنه أجَّل ذلك ليرى ما يكون.

أما عرفجة فلما غلبته الحجة عمد إلى المواربة فقال وهو يظهر التعقل والهدوء: «يلوح لي أن أمير المؤمنين سكت عما سمعه من هذا الرجل كأنه مال إلى تصديقه.»

فقال الحجاج: «وهل تحسبه اختلق ذلك كله اختلاقًا؟»

قال: «نعم يا مولاي.»

فقال الحجاج: «لا يعقل أنه يفعل ذلك، ولا سيما أنه يستشهد أناسًا معروفين. ثم ما الذي يدعوه إلى هذا الاختلاق؟»

فقال: «يدعوه إلى ذلك أمر أفظع من خيانته، ولو أني ذكرته لك ما ترددت في صلبه!»

فقال: «وما ذلك؟»

قال: «إني لأضن بعرض أمير المؤمنين أن يُذكر في مثل هذا المقام، فإذا أذن مولاي في خلوة ذكرت له السبب، وأنا ضامن أنه يقتنع ببراءتي.»

فقطب الحجاج حاجبيه وأشار بيده فخرج كل من في الفسطاط من الأمراء والحراس وبينهم حسن، وقد سر لما رآه في وجوه الأمراء من دلائل نقمتهم على عرفجة لفظاظته وسوء سريرته. وإن أظهروا له غير ذلك خوفًا من الحجاج. وفاتهم أن الحجاج نفسه لم يكن يثق به.

فلما خلا عرفجة بالحجاج أخذ يقص عليه حديث حسن مع سمية ثم قال: «وقد كنت أعدها لخدمة مولاي بعد أن طلبها منذ أعوام، فجاء هذا الشَّاب وخدعها بحبه، وهي فتاة لا تدرك أمور الدنيا، فانخدعت بظاهره، وكادت توافقه على أن تفرَّ معه لو لم أطلع على فعلته، فسعيت في قتله بمساعدة طارق بن عمرو عامل المدينة. وهذا طارق بين يدي مولاي ينبئك بصدق قولي. ولكن الرجل الذي أنفذناه لقتله لم يظفر به، فنجا ثم جاء متنكرًا إلى معسكر الأمير بعد أن علم بزفافها إليه ليحاول أن يخدعها مرة ثانية، ولكني رأيته ساعة مجيئه مع ليلى بالأمس، وبعثت من يأتون به، فعلمت أنه سار إلى جهة أخبية النساء، وقد شقَّ على أن أصرح بذلك لمولاي الأمير لئلا أكدره، فاكتفيت بأن ذكرت أنه جاسوس، لعلمي بأنه صاحب الكتاب الذي جاءنا به الفتى الثقفي منذ حين وظنناه قتله. ثم علمت بأنه فرَّ إلى الخربة المجاورة فأرسلنا الفرسان للقبض عليه، ويؤيد صدق قولي، أنك لما سألته عن سبب مجيئه إلى هنا لم يستطع جوابًا.»

فرأى الحجاج كلام عرفجة معقولًا، ولكنه رأى التهمة الموجهة إليه معقولة أيضًا فلم يرَ خيرًا من التريث حتى ينجلي له وجه الصواب. فأمر بسجن حسن، وتظاهر بأنه اقتنع ببراءة عرفجة.

سيق حسن إلى خيمة أفردوها له في طرف المعسكر، ووقف ببابها حارسان مسلحان. فلما تركوه فيها بعد أن شدوا وثاقه أيقن باستحالة النجاة، وجعل يفكر فيما مرَّ به وما كان من أمر عرفجة معه، فرأى أن الحجاج لم يقتنع كل الاقتناع بخيانة عرفجة، وأدرك أن هذا يستعديه عليه من طريق إثارة غيرته، والغيرة تعمي وتصم.

وقضى حسن في ذلك بقية يومه، وجاءوه بالطعام فلم يتناول منه شيئًا، ثم قضى ليلته ساهرًا وخيال سمية أمام عينيه، وفكره يبحث عبثًا عن وسيلة إلى النجاة بنفسه وسمية.

وفيما هو متوسد على حصير من سعف النخل وقد أثقلته الأغلال، سمع وقع أقدام خفيفة في الخيمة، ثم صوتًا يهمس في أذنه قائلًا: «لا تخف يا مولاي إني خادمك عبد الله.»

وحاول أن ينهض فأعانه على ذلك عبد الله ثم قال له: «لقد احتلت حتى جعلوني أحد الحارسين المنوط بهما تناوب مراقبتك، وأنا الآن في نوبة السهر على حراستك. وقد نام رفيقي فدخلت لأسألك عما تريد.»

فقال حسن: «لا أريد شيئًا ولا رغبة لي في النجاة، إلا إذا نجت سمية معي.»

فقال عبد الله: «وما حيلة الحر الأعزل يا مولاي إذا وقع بين أيدي من لا يتورعون عن قتله ظلمًا وعدوانًا، مستعينين بكثرة عددهم وعدتهم؟! أيسلم نفسه لهم طوعًا، أم يحاول الخلاص من أيديهم بأي وسيلة؟»

قال: «أتريد أن أفرَّ من المعسكر وحدي وأترك سمية في بيت الحجاج؟ وهل تحسب أن حياتي بعيدًا عن سمية مما أحرص عليه؟»

فقال عبد الله: «لا يا مولاي، لست أعني أن تخرج وحدك، وإنما أعني البحث عن وسيلة تخرج بها أنت وسمية معًا. ولا عارَ في الفرار من وحش كاسر لا يعرف الحق ولا يراعي العدل.»

فسكت حسن، واستأنف عبد الله الكلام فقال: «سأذهب غدًا إلى خباء النساء لاستطلاع الأمر، ثم أعود إليك بما يستقر عليه الرأي. فدع القنوط وكل واشرب حتى يأتي الله بالفرج.» ثم ودعه وخرج.

وشعر حسن بالارتياح وأعجب بغيرة عبد الله وصدق مودته، ثم مكث في اليوم التالي ينتظر رجوعه.

وكانت سمية قد واعدت عبد الله على الخروج معه في مساء الأمس، ثم سمعت خبر القبض على حسن والرجوع به إلى المعسكر، وسجنه، وما لبثت أن رأت الجند قد أحدقوا بخبائها ومعهم السلاح، فأيقنت أن الحجاج اطلع على سر قدوم حسن إلى معسكره فتحققت وقوعها في الخطر، ودعت إليها أمة الله جاريتها، وكانت هي التي أخبرتها بسجن حسن، فجاءت وهي تظهر عدم المبالاة، فقالت لها سمية: «هل رأيت الجند المحدقين بنا إحداقهم بالقتلة المجرمين؟»

قالت: «رأيتهم. ولكن ما لنا ولهم؟»

فقالت سمية: «أتتجاهلين يا أمة الله؟ ألا ترين أنهم سجنوني كما سجنوه؟ وهل تشكين في أن ذلك العاتي قد اطلع على ما بيني وبين حسن فلم يبقَ إلا أن يفتك بنا؟!»

قالت: «لا أظنه يفتك بك.»

فقطعت كلامها وقالت: «تظنينه يستبقيني لمأربه الدنيء! ولكن ما أنا مبقية على نفسي. أين السم الذي حفظته لي؟ لقد آن وقته!» وكانت أمة الله قد أخذته لتحفظه عندها.

قالت: «لا أظن وقته أزف يا مولاتي، وحسن لا يزال على قيد الحياة، ومن يدري ما يأتي به الغد؟»

قالت: «أتتوقعين لحسن البقاء وقد وقع في قبضة هذا الظالم الذي لا يرى فيه إلا مناظره على عروسه؟ آه يا أمة الله! يا ليتني ظللت على يأسي الماضي ولم أعلم ببقاء حسن حيًّا! إن هذا لن يعفيه من القتل. فكيف أبغي الحياة في بيت رجل قتل حبيبي؟»

فقطعت أمة الله كلامها وقالت: «إنه لم يقتله بعد يا مولاتي. وعسى الله أن ينقذه من بين يديه فإن الله قادر على كل شيء.»

قالت: «نعم إن الله قادر على كل شيء، ولكن أليس حسن في حكم المقتول الآن؟» قالت ذلك وخنقتها العبرات.

فاحتارت أمة الله، ولم تدرِ بم تعزيها عن توقع قتل حبيبها، ولم تستطع لومها على تفكيرها في الانتحار حتى لا تبقى في بيت قاتل حبيبها، فظلت ساكتة، واستأنفت سمية الكلام فقالت: «أين السم؟ أعطيني إياه.»

فتغير وجه أمة الله وتناثرت الدموع من عينيها وقالت: «دعي السم الآن فإن وقته لم يأتِ بعد.»

قالت: «أعطيني إياه، وأعاهدك على أني لا أتناوله إلا بعد أن أقطع الأمل من بقاء حسن.» ثم أطلقت لنفسها عنان البكاء، فبكت أمة الله معها، ولكنها أشفقت عليها من الاسترسال في الحزن على هذه الصورة فكظمت ما في نفسها وقالت: «أتعدينني أنك لا تتناولين السم إلا بعد وقوع الخطر حقيقة؟» فلما عاهدتها على ذلك خرجت ثم عادت وناولتها ورقة فيها المسحوق السام. فتناولته منها وقبَّلته وهي تقول: «أنت هو منقذي من أحزاني ومتاعبي. أنت وحدك معيني على قهر ذلك العاتي وإنقاذي منه.»

وكان الحجاج قد أمر بإخراج النساء من الخباء إلا سمية وخادمتها وأمر الحراس أن يحدقوا به وهم في غفلة عن سبب ذلك، فكانت سمية تصيخ بسمعها من جدران الخباء لما يتحدث الحراس به. وسمعتهم يتحدثون بما أظهره حسن من الشَّهامة وعزة النفس وما ظهر في كلام عرفجة من التلاعب والغدر. وكانت كلما سمعت ذلك منهم رقص قلبها فرحًا، ولكنها لا تلبث أن تعود إلى هواجسها.

أما عبد الله فلما جاء إلى سمية ليخاطبها في أمر الفرار رأى الحرس محدقًا بخبائها فعاد ولم يرها، وأخبر حسنًا بما كان فازداد الأمر تعقيدًا عنده ففزع بآماله إلى الصبر والتسليم للأقدار.

•••

قضى حسن أيامًا على هذه الحال، ثم حدث أن رأى نفسه فيما يرى النائم وكأنه يقول لبلال خادمه الذي تركه في مكة: «إذا استبطأتني فاطلبني في معسكر الحجاج.» فلاح لحسن أن يكون بلال جاء المعسكر ولم يعلم بمكانه. فلما دخل عبد الله عليه ذكر له هذا الأمر ووصف له بلالًا وقيافته فقال عبد الله: «رأيت في هذا المعسكر عبدًا أظنه هو الذي تعنيه ويظهر أنه يفتش عن ضائع ولم ينتبه له أحد؛ لأن الحجاج وحاشيته وسائر الأمراء يتأهبون للهجوم على ابن الزبير مرة واحدة، ولولا ذلك لكشف عرفجة أمره واتهمه بالجاسوسية.»

فقال حسن: «يهمني أمر هذا العبد، فاستقدمه إليَّ على عجل.» فخرج عبد الله فرأى بلالًا فاغتنم اشتغال الناس بالتأهب وجاء به إلى السجن متظاهرًا بأنه يحمل له طعامًا، فقال بلال لحسن: «لقد بحثت عنك حتى يئست من لقائك وكدت أرجع خائبًا. فالحمد لله على أني رأيتك ولو في السجن …»

فقال حسن: «وماذا وراءك؟»

قال: «جئت إليك في مهمة مستعجلة وأخشى أن يكون قد فات أوانها.»

قال: «وما هي؟»

قال: «استدعاني ابن صفوان إلى منزل عبد الله بن الزبير في مكة وسألني عنك، فلما أجبته بأنك لم تعد بعد قال: «إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير يحب أن يراك لأمر ذي بال خاطبه في شأنه منذ بضعة وعشرين يومًا، وهو يريد الآن أن يعهد إليه في أمر مهم.» فجئت على عجل وقد قضيت ثلاثة أيام في البحث عنك حتى جاءني عبد الله كما رأيت.»

فقال حسن: «ابن الزبير يطلب أن يراني في مكة؟!»

فقال: «نعم يا مولاي وقد ألحَّ عليَّ كثيرًا، وقال إن الوقت ضيق.»

فأطرق حسن وأعمل فكرته فتبين له أن ابن الزبير إنما طلبه في شأن خطبة أخته رملة لخالد بن يزيد، وتذكر أنه إنما جاء الحجاز لأجل هذا الأمر، ولكنه لم يدرِ كيف يجيب الدعوة وهو سجين، فالْتفت إلى عبد الله وقال: «إنك عرضت علي منذ أيام أن تخرجني من هذا المعسكر، فهل تستطيع هذا اليوم؟»

قال: «ذلك سهل علي في أي وقت تشاء، وإني أفديك بروحي.»

فقال: «لا أبغي الفرار وإنما أبغي الخروج الليلة لمقابلة ابن الزبير ثم أعود في الصباح إلى محبسي.»

فأُعجب عبد الله بعزة نفسه وقال له: «افعل ما بدا لك فإني رهن إشارتك.»

وكانت الشَّمس قد مالت إلى المغيب فقال عبد الله: «تمهل قليلًا حتى يجيء الليل فأعطيك ثوبي فتلبسه وتخرج به وألبس أنا ثوبك وأحل محلك هنا ريثما تعود، وسوف لا يشك من يراك أنك من حراس الحجاج. فتظاهر بأنك ذاهب في مهمة إلى ابن الزبير، وإذا رأيت أن تبقى هناك على أن ألحق بك، فافعل.»

فأُعجب حسن بمروءة عبد الله وتضحيته في سبيل نجاته، فقال: «بورك فيك من صديق صادق، أخاف أن أُصاب بسوء فلا أعود فتقع أنت تحت طائلة العقاب.»

قال: «إذا أصابك سوء، فلن يبقى لي مأرب في الحياة. على أن القوم يعتزمون الهجوم غدًا على ابن الزبير، فما أظنهم ينتبهون لخروجك، ولن أجد مشقة في إطلاق نفسي من السجن.»

فقطع حسن كلامه وقال: «أما رجوعي فلا بد منه؛ لأني لا أستطيع أن أترك سمية.» قال ذلك وصمت بغتة كأن فكرًا جديدًا طرق ذهنه ثم قال: «لا بد لي من الانتقام من أبيها الخائن.» ثم الْتفت إلى بلال وقال له: «أتذكر ما رأيناه خلسة من خيمة صاحبك سعيد في فسطاط محمد بن الحنفية؟»

قال: «أتعني حكاية عرفجة والكرسي؟»

قال: «إياها أعني، فهل تستطيع الحصول على كتاب من محمد بن الحنفية إلى الحجاج يشهد فيه بأن عرفجة جاء بذلك الكرسي وعرض عليه أن يدعو إلى بيعته أهل العراق ليخلعوا بيعة عبد الملك بن مروان؟»

قال بلال: «ذلك شيء يسير، فإني صديق قديم لسعيد، ولهذا دالة عليه.»

فقال حسن: «إذن اذهب الآن إلى شعب علي، واسلك أقرب الطرق إليه، فإذا حصلت على الكتاب فعجل بالعودة به إلى هنا، حيث أكون قد عدت بعد مقابلة ابن الزبير.»

فخرج بلال وسار في مهمته. وخرج عبد الله إلى المعسكر فوجد القوم يتأهبون للقتال في صباح الغد، ورأى زميله واقفًا بباب الخيمة ينظر إليهم متحسرًا على حرمانه من الذهاب معهم ليصيب بعض الغنيمة. فقال له: «إذا شئت اللحاق بالجند فافعل وأنا أبقى هنا لحراسة السجين.» فسُر الرجل وشكره وانصرف.

ولما غابت الشَّمس دخل عبد الله على حسن فألبسه ثيابه وسلمه الحربة، ثم لبس هو ثياب حسن وجلس مكانه. فخرج حسن قاصدًا إلى مكة، ولم يشك فيه أحد لظنهم أنه من الحراس ولانشغالهم بالتأهب للهجوم على مكة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤