الفصل السادس عشر

مقتل ابن الزبير

خرج حسن في أثر عبد الله بن الزبير وقد عزم على البقاء معه حتى النهاية. وشعر عبد الله بذلك، فالْتفت إليه وقال: «ناشدتك الله ألا تعرض نفسك للقتل.»

وكان حسن على يقين من فوز جند بني أمية، لكثرتهم واتحادهم، ولكنه ظل سائرًا في أثره حتى خرجا من المنزل، فلما وقع نظر عبد الله على المنتظرين هناك وقد تهيأوا للقتال وغطت الدروع أبدانهم، قال لهم: «اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم.» ولما كشفوها علم أنهم بقية أهله فقال: «يا آل الزبير لو طبتم بي نفسًا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله. فلا يفزعكم وقع السيوف؛ فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونوا وجوهكم، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني فمن كان سائلًا عني فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله.»

وبقي حسن حائرًا لا يستطيع الاشتراك في القتال، نزولًا على رغبة ابن الزبير. وحتى لا يراه الحجاج أو بعض رجاله فيثبت لديهم ما اتهمه به عرفجة. فآثر الالتجاء إلى المسجد حتى تنتهي المعركة. فلما مضى عبد الله ومن معه إلى القتال الْتفت فرأى أعلام بني أمية قد ملأت الطرقات، فسارع إلى المسجد الحرام، ولكنه لم يستطع الدخول؛ لأن الحجاج كان قد أوقف ببابه أناسًا ليمنعوا الناس من دخوله، فدخل منزلًا إلى جوار المسجد وأطل من كوة فيه فرأى ابن الزبير يناضل مناضلة الأسود، وينتقل في المعمعة من جهة إلى أخرى، وبجانبه ابن صفوان يدافع عنه، ثم سمع عبد الله يقول: «ويلمه فتحًا لو كان له رجال.» فقال له ابن صفوان: «أي والله وألف.» فحدثت حسن نفسه بأن يمضي إليهما ويقاتل معهما، ثم لاحت منه الْتفاتة فرأى الحجاج قد ترجَّل وأقبل يسوق الناس إلى مقاتلة ابن الزبير بعد أن رآهم لا يقوون على الوقوف بين يديه، وكان حامل علم ابن الزبير يقف بباب شيبة من أبواب المسجد، فهجم الحجاج عليه بمن معه، فرآهم ابن الزبير فسارع إلى صدهم عنه، واستمر القتال على أشده بباب المسجد، ثم دخله الفريقان، ولم يمضِ قليل حتى استطاع الحجاج ورجاله قتل صاحب العلم وأخذوه منه، فتفرق رجال ابن الزبير من حوله، ولكنه ظلَّ يقاتل حتى قُتل هو وابن صفوان، ثم رأى حسن رجلًا أسرع إلى جثة عبد الله وحزَّ رأسه وحمله إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج الرأس سجد وأكرم صاحب البشارة. ثم أمر بأن يُحمل رأسا ابن الزبير وابن صفوان إلى المدينة، وبأن تُصلب جثة ابن الزبير في الحجون — وقد صلبوها أيامًا — وهكذا أيقن حسن بانتصار الحجاج، وتذكر أن سمية عنده في المعسكر، فرأى أن يسارع إليها فيه، فإما نجا بها، وإما عاد إلى محبسه، وسرعان ما تسلل إلى المعسكر، وهو يحاذر أن يراه أحد ممن يعرفونه فيحبط مسعاه، وقال في نفسه: «لقد خلا الجو لعبد الملك بن مروان وأصبحت الخلافة لا ينازعه فيها منازع.» وكان حسن كلما دنا من معسكر الحجاج تمثلت له النجاة بسمية هينة، فمشى وهو لا يزال بلباس الحرس والحربة بيمينه فلا يشك الذي يراه عن بعد أنه من حرس الحجاج، فلما دخل المعسكر لم يرَ فيه إلا نفرًا قليلًا من الحامية. فالْتمس خباء النساء وقلبه يخفق لما يتنازعه من عوامل الرجاء والخوف الحياء والشوق. فبينما هو يرجو السعادة بالفرار بسمية كان يعد الفرار عارًا، ولكنه هونه على نفسه؛ لأنه لا يرى غير الفرار سبيلًا إلى نجاته وإلا فإنه سيكون سببًا لتعاسة سمية أو قتلها. فمشى في طريقه إلى المعسكر، وهو في ملابس الحراس التي أخذها من خادمه، فلما بلغه رأى أن يذهب أولًا إلى خيمة السجن ليرى ما تم في أمر خادمه الأمين وليستعين به على إنقاذ سمية، فلما بلغ الخيمة رآها خالية، فوقف برهة يفكر في الأمر، ثم رأى أن يعجل بالذهاب إلى سمية في الخباء لئلا تفوت الفرصة. وفيما هو سائر وقد أوشك أن يبلغ الخباء سمع صوت أبواق، فالْتفت فرأى جماعة من الفرسان عائدين من مكة، فأسرع في مشيته ليبتعد عنهم. وكانت الشَّمس قد مالت إلى الغروب فلما أطل على الخباء لم يرَ حوله أحدًا، وخشي أن تحول بغتة سمية دون ما يبغيه من سرعة الخروج بها؛ لأنها لم تره منذ خروجه من المدينة، فتمهل في سيره، وأخذ يبحث لمعرفة مدخل الخباء ومخرجه، وهل سمية وحدها، أم عندها أحد من النساء أو الخدم أو غيرهم.

وفيما هو يدور حول الخباء سمع خفق نعال فيه، فأصاخ بسمعه فرأى شبحًا خارجًا، وما تفرس فيه حتى أدرك أنه أمة الله جارية سمية، ولم يكن قد رآها من قبل ولكنه سمع بأوصافها، أما هي فكانت قد رأته في دار عرفجة بالمدينة، فلما رأته والحربة في يمينه وعليه ثياب حراس الحجاج، استعاذت بالله، ثم ما لبثت أن تفرست فيه فعرفته وقالت: «حسن؟!»

قال: «نعم. أين مولاتك؟»

قالت: «هنا». وأشارت إلى الخباء الذي خرجت منه.

قال: «وكيف حالها؟» قالت: «إنها في حال تدعو إلى الرثاء حزنًا عليك، وخوفًا من ذلك الظالم ولا سيما بعد أن فرغ من الحرب، وقتل ابن الزبير، فتحلل بذلك من قسمه.»

فاضطرب حسن وهمَّ بالدخول إلى الخباء ولكنه خشي أن تسيء البغتة إلى سمية فقال لأمة الله: «ادخلي وأنبئيها بقدومي لنخرج معًا من هنا الآن.»

فدخلت أمة الله، ولم يصبر حسن إلا قليلًا ثم دخل في أثرها فوجد سمية جالسة وهي تفرك عينيها بأناملها وتنظر إلى أمة الله وتقول: «أصحيح ما تقولين؟ حسن هنا؟! حسن جاء؟! لا … لا … إنك تمزحين، أو أنا في حلم!»

ولاحظ أنها قد تغيرت وامتقع لونها لفرط ما قاسته، فازداد خفقان قلبه، وأجابها بدلًا من أمة الله فقال: «بل أنت في يقظة يا حبيبتي، وها أنا ذا جئت لإنقاذك، هلمَّ بنا نخرج الآن من هذا المعسكر. هيا يا سمية فإن الوقت ضيق والخطر قريب.»

فوقفت وركبتاها تصطكان، ولبست نعالها والْتفت بعباءتها، وقالت وهي ما زالت مذهولة: «ما أحسن هذا اللقاء! هلم بنا.»

وكانت أمة الله مشتغلة بأخذ بعض الطعام للتزود به خلال الرحيل، ولكنها كانت أكثر منهما انتباهًا لما حولها. فسمعت وقع حوافر خيل قادمة من بعيد فأسرعت إليهما وهي تقول: «لقد جاء الفرسان. وأظنهم الحراس الذين كانوا حول الخباء بالأمس.»

فلما سمعت سمية وقع ذلك التفتت إلى حسن وقالت وصوتها يرتجف: «حسن. حسن. لا تخرج فإنهم إذا رأوك خارجًا اشتدت شبهتهم فيك … لا تخرج. وإذا كانوا قد جاءوا للقبض عليك فلنمت معًا.»

فثارت الحمية في رأس حسن، وهان عليه لقاء الألوف تفانيًا في الدفاع عنها فقال: «لا عاش من يمسك بسوء وأنا حي.»

وشعروا باقتراب الخيل من الخباء، وكان الليل قد سدل نقابه وبدأ الظلام يتكاثف فأمسكت سمية بيد حسن، وقالت وهي ترتعد: «إما أن نعيش معًا، وإما أن نموت معًا.» ولا تسل عن خفقان قلبيهما تأثرًا للقاء الفجائي وما صحبه من بواعث الاضطراب لقدوم أولئك الفرسان. فبقيا واقفين صامتين، وقد امتقع لونهما وتصبب العرق من وجهيهما وارتعدت فرائصهما، ومع ذلك كان حسن يشعر بأنه أشد بطشًا من الأسد، وبأنه قدير على إنقاذ سمية من جيش بأكمله. وكذلك كانت سمية قد أنساها اللقاء كل خوف على نفسها، وأصبح كل همها ألا يُصاب حسن بسوء، فأمسكت به وهي لا تدري أتحرضه على الفرار بنفسه ولا صبر لها على فراقه بعد هذا اللقاء، أم تفر هي معه وفي فرارها خطر عليه، أم تستبقيه في الخباء معها وفي بقائه تهمة كبرى؟

مرَّت كل هذه الهواجس بهما في لحظة انتظارهما وصول الفرسان القادمين، ومعرفة ما وراءهم، فلما وصل الفرسان إلى الخباء، أحدقوا به من جميع الجهات ولكنهم ظلوا مرابطين خارجه، كما كانوا بالأمس، فاطمأن قلب حسن ورجح أن قدومهم ليس لشبهة أو تهمة جديدة. فأخذ يهدئ روع سمية حتى سكن جأشها، وقضيا ساعة يتبادلان الأحاديث، وقد نسيا الحجاج وفرسانه، وحسبا أنهما في مكان غير ذلك المكان، بل خيل لهما أن أولئك الفرسان إنما هم ملائكة من السماء جاءوا لحراستهما، في تلك الساعة التي تزيد قيمتها عندها على قيمة الحياة كلها.

•••

وبينما حسن وسمية سابحان في ملكوت المناجاة، يتشاكيان ما مرَّ بكل منهما من أحداث الفراق سمعا طنين سهم مرسل في الفضاء، ثم سمعا صوت ارتطامه بعمود الخباء من الخارج. وكانت أمة الله مشغولة ببعض الشَّئون في طرف الخباء بالقرب من موقع السهم فلمَّا سمعت صوت وقوعه أطلَّت من الخباء فلم ترَ غير الفرسان. ثم رأت السهم يستقر في العمود، فخفت إلى مكانه وانتزعته فإذا في موضع الريش منه رق مطوي، فعادت به مسرعة إلى حسن ففتحته فإذا هو كتاب من عبد الله خادمه يقول فيه: «اطلع عرفجة على مقركما فوشى بكما وأرسل الفرسان للقبض عليكما فتجلدا والله مع الصابرين.»

فاضطرب حسن وأيقن بوقوعهما في الخطر، ولم يرَ بدًّا من تهيئة كل أسباب الاطمئنان لسمية. وكانت قد قرأت الكتاب معه فامتقع لونه لما تملكها الجزع فابتدرها قائلًا: «لا بد لي من الذهاب إلى الحجاج بنفسي، فإني لا أظنه أرسل في طلبي إلا معتقدًا أني فررت من محبسي بالأمس.»

فقطعت كلامه قائلة: «أتذهب إلى الحجاج وأنت تدري ما يكون منه؟! أعوذ بالله من شر هذا الرجل. إنه لا يعرف غير القتل وسفك الدماء. ولا شك في أن نقمته عليك قد اشتدت بعد أن علم بأنك عندي هنا. يا ليتني مت قبل هذا. دعني أذهب بدلًا عنك فداء لك. فإني مقتولة على أي حال.»

فوضع يده على كتفها وقال: «لا أرى الأمر يقتضي كل ذلك، ولئن قُتلت فما كنت أنت سبب قتلي، وعسى ألا أُقتل، وقد كنت أستطيع الفرار بنفسي من بين أيدي هؤلاء الفرسان، ولكني لا أريد النجاة وحدي، وأخاف إذا خرجت معي أن تقعي بين أيدي أحدهم فتلحقك إهانة، وهي عندي شر من القتل. أما ذهابي إلى الحجاج بنفسي فإنه أحفظ لشرفي وشرفك، وما يأتي به القدر لا مناص منه. هذا ابن الزبير كان إلى صباح هذا اليوم يسمونه أمير المؤمنين فقتلوه وصلبوه وحملوا رأسه إلى المدينة، وقد استقبل الموت باسمًا وأمه تشجعه على استقباله، فلا توهني عزيمتي، ولا تخوفيني لقاء الحجاج. ولكن إذا قُدر لي الموت فاذكري أنني ذهبت شهيدًا في سبيل هواك.» قال ذلك واختنق صوته، فتساقطت دموعها على خديها تأثرًا، وكانت مطرقة فرفعت وجهها ومدَّت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافة السم وقالت: «ليطمئن قلبك فقد أعددت ما يلحقني بك إذا أصابك سوء. وهب أنك نجوت وأراد هذا الظالم أن يتخذني زوجة له بالفعل، فإن هذا السم كفيل بإنقاذي من ذلك.»

فأُعجب حسن بإخلاصها له وأنفتها وقال: «الحق أن مثل عواطفك النبيلة هذه لا تُكافأ بأقل من الروح، ولكن عسى الله أن يأتي بالفرج.»

ثم رفع يده عن كتفها وقال: «أستودعك الله يا سمية وموعدنا غدًا إن شاء الله.» قال ذلك وخرج ولم ينتظر جوابها لئلا تحاول أن تثنيه عن عزمه بدموعها. فلما صار خارج الخباء صاح بأعلى صوته: «أين عريف هذه الكوكبة؟»

فتقدم إليه فارس منهم وقال: «وماذا تريد منه؟»

قال: «أريد أن يهديني إلى فسطاط الأمير لأذهب إليه.»

فقال: «لم يأذن لنا الأمير في الرجوع إليه، وإنما أمرنا أن نحرس هذا الخباء حتى يأتي هو، ولعله آتٍ الساعة.»

فأدرك حسن أن ذلك تدبير عرفجة، وأنه أراد أن يرى الحجاج حسنًا وسمية معًا ليثير غيرته، فاعتزم أن يحبط محاولته فقال: «ولكنني في حاجة إلى رؤية الأمير الساعة.»

قال الفارس: «لا يمكنك الخروج من هذا المكان».

قال: «لا بد من خروجي.» ثم همَّ بالعدو ليذهب توًّا إلى خيمة الحجاج ويحاول إحباط مكيدة عرفجة، ولكن الفارس حذره قائلًا: «خير لك أن تمكث هنا.»

فقال: «وإذا لم أمكث؟»

قال: «إننا مأمورون بإبقائك هنا حيًّا ريثما يجيء الأمير.»

فأدرك حسن أن الحجاج إنما أراد الإبقاء عليه ليبحث التهمة التي وجهها إلى عرفجة في شأن الكرسي، فتجلد وقال: «أقول لكم لا بد من ذهابي الساعة إلى الأمير، وإلا فخذوني إلى السجن أمكث فيه إلى الصباح.» قال ذلك ومشى فتجمهروا حوله ليمنعوه، وإذا بفارس أقبل من بعيد ووراءه بضعة فرسان، فلما رآه حراس الخباء تهامسوا فيما بينهم ثم ترجلوا. ففهم حسن أن الحجاج وحاشيته هم القادمين. فوقف ينتظر ما يكون.

وكان الحجاج ما زال بثيابه التي حارب فيها ابن الزبير وقد غطته الدروع هو وجواده وعليها بقع الدماء. فلما أقبل قال للفرسان: «ماذا تفعلون هنا؟»

فقال عريفهم: «نحرس هذا الخباء لنمنع من فيه من الخروج.»

قال: «ومن أمركم بذلك؟»

قال: «أمرنا به عرفجة باسم مولانا الأمير.»

فأطرق الحجاج وقد أدرك أن عرفجة لا همَّ له إلا الإيقاع بحسن ولم يكن الحجاج يعلم بمجيء هذا إلى خباء سمية ولا بما أمر به عرفجة، وإنما جاء إلى خباء نسائه لأنه تحلل من قسمه بعد مقتل ابن الزبير، فلما علم بما أمر به عرفجة، سأل العريف: «وهل حاول أحد الخروج؟» فقال العريف وهو يشير إلى حسن: «وجدنا هذا الرجل خارجًا، وطلب الذهاب إلى الأمير.»

ونظر الحجاج إلى حسن، فلما عرفه تحقق صحة ما اتهمه عرفجة به، وعظم عليه أن يراه خارجًا من خباء نسائه. فهمَّ بأن يقتله ولكنه تذكر التهمة التي وجهها إلى عرفجة فرأى أن يصبر عليه إلى الغد حتى يثبت التهمة على عرفجة، ثم يقتلهما معًا شر قتلة.

وكان الحجاج مع عتوه وظلمه ذا دهاء وحكمة، فكظم غيظه ريثما يتحقق الأمر فقال: «خذوه إلى السجن وموعدنا الغد.»

فسر حسن لذلك التأجيل، ومضى مع الحراس وهو يلتفت إلى الوراء ليتحقق ابتعاد الحجاج عن خيمة سمية غيرة عليها منه وإن كان زوجها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤