الفصل السابع عشر

محاكمة حسن وعرفجة

قضى حسن ليلته في السجن وعليه الحراس. وفي الصباح ساقوه إلى فسطاط الأمير باكرًا وقد أمر الحجاج ألا يحضر المجلس أحد غير عرفجة وحسن. فدخل حسن ووقف وسط الفسطاط، وظلَّ عرفجة جالسًا بجانب الحجاج كأنه من خاصته وكان الحجاج إذا نظر إلى حسن كاد يتميز غيظًا ولكنه صبر نفسه حتى يثبت التهمة على عرفجة فقال له: «لقد كنت في السجن من قبل، فكيف خرجت منه؟»

قال حسن: «خرجت منه لأمر اقتضى هذا الخروج، ثم عدت إليه طائعًا ولو أنني أردت الفرار ما رجعت.»

فقطع عرفجة كلامه وقال ساخرًا: «ذهبت لأمر ضروري؟ أما ذهبت إلى عدونا وكنت في منزله طول ليل أمس، وإذا كنت قد رجعت فذلك لكي تذهب إلى الخباء، لا إلى الحبس.»

فالْتفت الحجاج إلى عرفجة لفتة ظهر الغضب فيها وأدرك عرفجة منها تغير الحجاج عليه، فأراد تخفيف غضبه فقال: «لا أجهل أني جاوزت الحد بتكلمي في حضرة الأمير، ولكنني لم أستطع الصبر على نفاق هذا الغلام وخداعه، فهو يوهمنا أنه ليس من الأعداء ولا من الجواسيس، ثم يفر من السجن ليلًا ويحمل أخبارنا إلى عدونا، ويرجع بعد ذلك لكي يوهمنا أنه رجع إلى السجن بينما الأمير قد رأى بنفسه لأي شيء رجع.»

فأدرك الحجاج أن عرفجة يعرض بوجود حسن في الخباء ليثير غضبه عليه فيأمر بقتله توًّا قبل استكمال التحقيق، فصبر والتفت إلى حسن وقال: «لا يهمنا السبب الذي خرجت لأجله إلى ابن الزبير، فإنك متهم عندنا في أي حال. وسنبحث أمر دخولك خباء نسائنا فيما بعد. أما الآن فإنك اتهمت صديقنا عرفجة بالأمس، ونريد أن نعلم ما حملك على هذا الاتهام، وأي دليل على صحته لديك؟»

فاضطرب عرفجة لعودة الحجاج إلى التحقيق في تهمته. وخاف عاقبة تملق الحجاج له بذكر الصداقة ولكنه تظاهر بالاستخفاف وجلس يصغي لما سيقوله حسن، فقال هذا: «أما كونه خائنًا لدولة بني أمية فأمر لا شك فيه. وقد رأيته بعيني واقفًا بين يدي محمد بن الحنفية في الشَّعب، ومعه الكرسي الذي كان المختار بن أبي عبيد يسميه كرسي علي ويستغله في الدعوة إلى بيعة ابن الحنفية. وقد سمعته يطلب من محمد إمداده بالمال للخروج على بني أمية في العراق، والدعوة إلى بيعته؛ لأنه في زعمه أولى من بني أمية بهذا الأمر.»

وكان الحجاج مصغيًا لما يسمعه وهو يتفرس في حسن ويراقب حركاته وسكناته فرجح أنه صادق في دعواه. فقال له: «ثم ماذا؟»

قال: «أما ابن الحنفية فاستخف بطلب عرفجة وردعه عن القيام بهذا الأمر، ثم أمر بإحراق الكرسي، فأُحرق بين يديه، وأخرج عرفجة من عنده مهانًا.»

ورأى عرفجة أن الحجاج أوشك أن يصدق حسن ضده، فلم يرَ سبيلًا إلى دفع تلك التهمة إلا بالخداع والمغالطة. فوقف ووجه خطابه إلى الحجاج وقال: «إذا كان لكلام هذا الغلام أقل تأثير في نفس مولاي فليأمر بقتلي حالًا، ولكن هذا الغلام كاذب في كل ما ادعاه، وقد اختلق هذه التهمة ليخفف بها ذنبه الذي لم يرتكبه أحد قبله.»

فقال حسن: «أما ذنبي فلا أنكره، وسأبسطه لمولاي، وله أن يحكم بعد ذلك بما يشاء، وأما أنت …»

فقاطعه عرفجة قاصدًا أن يشغل الحجاج عن ذنبه هو، وقال له: «إن ذنبك لا يحتمل الإنكار لأنه ظاهر العيان. وأما اتهامك إياي بالمروق من دعوة بني مروان فاختلاق محض لم نسمع بمثله. وأغرب ما فيه أنك لم تستطع إقامة دليل عليه، ويستحيل عليك ذلك.» قال ذلك وجلس وكأنه فاز على خصمه بالحجة والبرهان.

ولكن الحجاج لم يعبأ بذلك فالْتفت إلى حسن وقال: «لا تصح دعوى بلا بينة، فما هي بينتك على ما تقول؟»

قال: «لقد كان الحديث بينه وبين ابن الحنفية سرًّا ولم يكن معهما ثالث.»

فصاح عرفجة: «أسمعت يا مولاي؟ أرأيت تناقض أقوال المنافق الكذاب؟ إذا كان ذلك الأمر حدث سرًّا بين اثنين كما قال الآن فما الذي أطلعه على هذا السر؟ إن جهله أبى إلا أن يوقعه في شر أعماله لأنه لم يحسن سبك أكذوبته.»

وشك الحجاج في صدق حسن فقال له: «لقد صدق عرفجة، فإنك زعمت أنك عرفت ما دار بينهما وسردته على أنك رأيت وسمعت، فكيف تقول بعد هذا إن الحديث كان سرًّا بينهما ولم يكن معهما ثالث؟!»

فلما رأى حسن انخداع الحجاج بكلام عرفجة، تجلد وقال: «نعم يا مولاي كان الكلام بينهما في فسطاط مقفل، ولكنني سمعت ورأيت خلسة!»

فقال عرفجة: «لقد بدا من تناقض أقوالك أنك لم تسمع ولم ترَ، ولعلك تريد أن تستشهد بشريك لك في خداعك وكذبك، ولكني لا أقبل إلا شهادة محمد بن الحنفية نفسه، فإنك اعترفت بأنه وحده الذي سمع حديثي.»

فقال الحجاج: «هذا طلب عادل، ما في ذلك شك.»

وهنا تذكر حسن أنه أرسل بلالًا إلى ابن الحنفية ولا يدري ماذا كان من أمره معه فقال: «إن الأمير أدرى مني بما يحول دون الوصول إلى مثل هذه الشَّهادة؛ لأننا إما أن نستقدم ابن الحنفية إلى هنا، وإما أن نذهب إليه أو نستكتبه …»

فقطع عرفجة كلامه وقال: «لا أقبل إلا شهادة ابن الحنفية نفسه.»

فقال الحجاج: «ذلك شيء يسير، وإن ابن الحنفية مصدق عندنا وإن لم يكن على دعوتنا.»

قال ذلك وتحرك عن وسادته كأنه يريد استئناف البحث، ثم الْتفت إلى حسن وقال: «بقي علينا النظر في تهمتك ولكنها ليست تهمة نطلب إثباتها وإنما نحن نسألك عما دعاك إلى هذه القحة؟»

•••

وكان حسن قد همَّ بإخبار الحجاج أنه أرسل من يأتي بشهادة ابن الحنفية، فلما فاجأه بهذا السؤال، اضطرب ولكنه تجلد وهمَّ بأن يجيب، فاعترضه عرفجة قائلًا: «أنا أروي لك الخبر كله يا مولاي، فإنه يخجل أن يرويه.»

فلم يعد حسن يصبر على نفاق عرفجة فرفع صوته وقال: «لماذا أخجل؟ أأخجل لأني أنقذتك من الموت أنت وأهل بيتك؟ أم أخجل لأنك خدعتني بوعدك ثم نكثت غير مرة؟ إني لم أعمل عملًا أخجل من ذكره.» ثم وجه كلامه إلى الحجاج وروى له باختصار قصته مع عرفجة منذ أنقذه في العراق. وكان الحجاج مصغيًا إلى الحديث باهتمام، فلما بلغ حسن إلى سعي عرفجة في قتله قاطعه هذا قائلًا: «لقد سعيت في قتله يا مولاي لأني رأيت معه كتابًا إلى عبد الله بن الزبير الذي فرَّ إليه بالأمس. وقد أبلغت أمره إلى طارق بن عمرو عامل المدينة فعده جاسوسًا، وأرسل من يقتله. أما أني وعدته بابنتي فإن مولانا الأمير خطبها بعد ذلك فكيف أرفض شرفًا أولانيه الأمير؟ والعجب كل العجب أنه بعد أن علم بأنها زُفت إلى الأمير ما برح يرجو الحصول عليها. وبلغ من قحته أنه جاء إلى هذا المعسكر محاولًا إغراءها بالفرار معه. ولكن الله أوقعه في أيدينا وسجناه، ففرَّ إلى عدونا ليوقع بنا، ثم اغتنم اشتغال الأمير وجنده بالقتال وعاد إلى حيث رآه الأمير بنفسه خارجًا من خباء سمية، فإذا كان الأمير يرى الصبر عليه حلمًا، فإني لا صبر لي على مثل هذه الخيانة.»

فوقع كلام عرفجة على قلب الحجاج وقوع النار على يابس العشب، وثارت غيرته فالْتفت إلى حسن وقال: «هل تنكر أنك تحب سمية؟»

قال: «كلا.»

قال: «تقول ذلك بين يدي وأنت تعلم أنها من نسائي؟!»

فظل حسن ساكتًا، فقال الحجاج: «وهل هي تحبك؟»

فأدرك حسن أنه إذا صرح بحبها له جرَّ عليها الموت كما جرَّه على نفسه فأراد الرفق بها فقال: «لا أدري …»

فقال عرفجة: «إنها لا تحبه، ولكنها فتاة ساذجة استغل طيبة قلبها ليخدعها. ولا شك في أنها تفاخر كل نساء المدينة بما نالته من الحظوة لدى أمير جند عبد الملك وفاتح الحجاز وحامي ذمار بني أمية.»

فاستاء حسن من ذلك التدليس القبيح ولم يسعه إلا توبيخ عرفجة فقال له بصوت ملؤه الرزانة والتعقل: «لا أنكر أن سمية نالت أحسن ما تتمناه فتاة بزواجها من مولانا الأمير، ولكنك يا عرفجة لم تزف ابنتك إلى الأمير إلا رغبة في المال، ولو مهرك هذا المال زنجي لزففتها إليه!»

فصاح عرفجة: «يا للقحة! أتقول ذلك في حضرة الأمير وتذكر عروسه بين يديه على هذه الصورة؟!» ثم الْتفت إلى الحجاج وقال: «لقد كفاك يا مولاي صبرًا وحلمًا على من لا يستحق غير القتل والعذاب الأليم.»

فالْتفت حسن إليه وقال: «أتحرض الأمير على قتلي يا عرفجة وإنك لأكثر استحقاقًا للقصاص؟ إنك ملاقٍ حتفك عاجلًا جزاء خيانتك للدولة التي تدعي أنك تدافع عنها. وأما أنا فإذا قُتلت فإني أذهب شهيد الأمانة والحب الصحيح!»

فالْتفت عرفجة إلى الحجاج وقال: «أسمعت يا مولاي؟ إنه ما زال يذكر الحب.»

فقال حسن: «وهل الحب عار؟ نعم إني أحب سمية حبًّا شديدًا، كما أني أكره أباها كرهًا شديدًا. ولا أبالي أن أصرح بذلك ولا أن أُقتل في سبيله. أما أنت فإنك ستُقتل لأن شهادة ابن الحنفية آتية عما قليل، وهي قاطعة بخيانتك للدولة ولأمير المؤمنين.»

وحانت منه الْتفاتة إلى باب الفسطاط، فرأى بلالًا قادمًا من بعيد وقد علاه الغبار. فخفق قلبه، والْتفت إلى الحجاج وقال: «أرجو أن يأذن مولاي في إدخال هذا القادم، فهو رسولي إلى ابن الحنفية، وعسى أن يكون قد عاد من عنده بكتاب يثبت صحة دعواي.»

فقال الحجاج: «وأي رسول؟»

قال: «رسول كنت أنفذته إلى ابن الحنفية في شعب علي ليستكتبه شهادة بما دار بينه وبين عرفجة من حديث الكرسي. وهذا الرسول كان معي يوم حريق الكرسي، فليأمر مولاي بإدخاله لنرى ما جاء به.»

فنادى الحجاج: «يا غلام.» فدخل أحد غلمانه فقال له: «ترى رجلًا قادمًا برسالة فأدخله إلينا.»

فعاد الغلام ومعه بلال. وأخرج هذا عقدة من القصب الغليظ سلمها إلى الحجاج مختومة، فقرأ الختم من الخارج فإذا هو ختم ابن الحنفية، ثم أخرج من العقدة لفافة من الرق فتحها وقرأها وعرفجة جالس وقد بانت البغتة في وجهه ورقصت لحيته على صدره، ولكنه عمد إلى الاستخفاف والمغالطة فصار ينظر إلى الحجاج ويبتسم كأنه واثق بأن الكتاب يتضمن براءته. فلما فرغ الحجاج من قراءة الكتاب الْتفت إلى عرفجة وقال له: «لقد صح الصحيح ولم يبقَ مجال للمكر والخديعة؛ وهذا خط محمد بن الحنفية وختمه يثبتان صحة ما اتهمك به هذا الشَّاب.»

فهمَّ عرفجة بأن يتكلم، ولكن الحجاج انتهره وقال: «لا تتكلم ولا تدافع فقد كفانا ما سمعناه من خلطك.» ثم صفَّق فجاءه الغلام فقال له: «إلي بالجلاد.» فخرج وعاد برجل عليه قميص من جلد وعلى رأسه عمامة مستطيلة وبيده سيف حاد. فأشار الحجاج بسبابته إلى عرفجة وحسن وقال للجلاد: «ائتني برأسيهما.» فصاح عرفجة: «كيف تأمر بقتلي ولم تتحقق تهمتي؟! إن هذه الرسالة مزورة.» وأخذ في الصياح حتى سمع صوته كل من في المعسكر، فغضب الحجاج وصاح في الجلاد: «هاتِ رأس هذا أولًا.» وأشار إلى عرفجة.

فجرَّه الجلاد حتى أركعه في الفناء ونزع عمامته عن رأسه، فأخذ يلتفت إلى الحجاج وهذا معرض عنه، ولم يكن إلا كلمح البصر حتى طار رأسه من بين كتفيه والناس ينظرون.

ووقف الجلاد بين يدي الحجاج وسيفه يقطر من دماء عرفجة، فأشار الحجاج إلى حسن وقال للجلاد: «وهذا أيضًا.»

فأمسك الجلاد بطوق حسن وأراد جره إلى الخارج. فقال حسن للحجاج: «أتقتلني بعد أن رأيت صدقي وإخلاصي؟»

فصاح فيه الحجاج صيحة الغضب وقد احمرت عيناه وتجلى الغدر فيهما وقال: «أتسألني لمَ أقتلك وأنت مستحق الصلب منذ أيام؟! إنما صبرت عليك حتى تحققت خيانة ذلك الغادر.»

فقال حسن: «إذا لم يكن بدٌّ من قتلي فاقتلوني داخل هذه الخيمة وليس على مشهد من الناس.»

فقال الحجاج: «أتشترط علينا؟» ثم الْتفت إلى الجلاد وصرخ فيه قائلًا: «اقتله يا جلاد وإلا قتلتك!»

فعاد الجلاد إلى حسن وهم بجذبه، فقال حسن: «لا تجذبني هكذا فما أنا بخائف من الموت، رغم أني واثق ببراءتي.» قال ذلك ومشى نحو الباب.

وفيما هما يهمان بالخروج، علا صوت قعقعة وسمع الحاضرون معها قائلًا يقول: «البريد … البريد … بريد أمير المؤمنين.»

وكان عادة الولاة إذا جاء البريد ألا يمنعوه أو يؤخروه لحظة واحدة فلما سمع الحجاج بوصوله صاح قائلًا: «أدخلوه.»

ولم يتم كلامه حتى دخل عليه رجل كهل قد أنهكه التعب وتعفرت ثيابه، فترامى عند قدميه وسلم إليه كتابًا مختومًا. وكان حسن مشغولًا بنفسه عن كل تلك المشاهد ولكن عينه ما كادت تقع على ذلك الكهل حتى بغت؛ إذ عرف أنه صديقه أبو سليمان، وتذكر أنه كان قد أرسله إلى خالد بن يزيد في الشَّام ليأتي منه بكتاب في شأن رملة إلى ابن الزبير، فهمَّ باستئذان الحجاج في كلمة يقولها لذلك الرجل قبل قتله، ليكلفه إبلاغ خالد رضاء ابن الزبير وأن رملة في انتظاره لتُزف إليه فيكون قد أتمَّ مهمته قبل موته.

ورفع حسن وجهه إلى الحجاج فرآه تناول الكتاب ونظر إلى خاتم الخلافة على ظاهره، ثم قبَّله ووقف تعظيمًا للخلافة. ثم نظر إلى الرجل الذي حمله وقال له بعد أن تفرس فيه: «من أين لك هذا الكتاب؟ أأنت من عمال البريد؟»

فقال أبو سليمان: «لست منهم يا مولاي. ولكنهم حملوني على دواب البريد تعجيلًا بإبلاغ هذه الرسالة.» قال ذلك وهو يلهث وصوته يتقطع ويتلجلج من التعب والخوف.

ففضَّ الحجاج خاتم الكتاب وفتحه، وجعل يعيد قراءته ويتثاءب ويحك شفتيه بإصبعه ويعبث بشعر لحيته وقد ظهر التأثر في عينيه. ثم أخذ ينظر إلى حسن ويتفرس فيه ثم يعود إلى قراءة الكتاب ويتأمل ختمه ويقلبه بين يديه، كل هذا وأبو سليمان ما زال مستلقيًا عند قدميه وهو يلهث من التعب وينظر إلى وجه حسن كأنه لم يعرفه وحسن ينظر في وجهه، وكلهم ينتظرون ما يبدو من الحجاج بعد تلاوة ذلك الكتاب.

وأخيرًا، أشار الحجاج إلى الجلاد بالانصراف فانصرف، ثم صرف بقية الحاضرين ولم يبقَ في الخيمة إلا هو وحسن وأبو سليمان. فالْتفت إلى حسن وقال: «هذا كتاب من أمير المؤمنين جاءني بما كنت تبغيه أنت. ووالله لولا حرمة الخليفة لم يكن في الأرض من ينجيك من القتل.»

فلما سمع حسن ذلك أبرقت أسرته ولكنه لم يطمئن تمامًا؛ لأنه لم يفهم فحوى هذا الكتاب، فأطرق وظلَّ ساكتًا.

فنادى الحجاج: «يا غلام.» ولما أقبل غلامه قال له: «ادع الكاتب.» فخرج ثم عاد بالكاتب، فدفع الحجاج إليه الكتاب وقال: «اتل هذا علينا.» فتلاه وهذا نصه:

من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، إلى الحجاج بن يوسف أمير جندنا في الحجاز، أما بعد، فقد بلغني أنك خطبت ابنة عرفجة المنافق وهي مخطوبة لحسن، فأخذتها وحرمته منها. والرجل ينتمي إلينا وتهمنا رعايته، فإذا أتاك كتابي فاحمل الفتاة إلى خطيبها، وأمهره بما يقوم بالنفقة. ووالله لرجوعك عن الحجاز ولم تفتحه أهون علي من ارتكابك هذا الأمر مع رجل من صنائعنا وخاصتنا. وثقتي أنك فاعل ما أقول والسلام.

فما فرغ الكاتب من تلاوة الكتاب حتى رقص قلب حسن طربًا، وخيل إليه أنه في حلم، فجعل ينظر إلى ما حوله ليتحقق أنه في يقظة، ثم سمع الحجاج يقول له: «لم نتل الكتاب عليك إلا لتعلم أننا ما تجاوزنا عنك إلا عملًا بأمر أمير المؤمنين.» والتفت إلى غلامه وقال: «أعطه ألف دينار. وسمية طالق منذ الآن … فامضِ إلى خباء النساء وأنبئها بذلك، لتخرج معه من هذا المعسكر قبل غروب اليوم.» قال ذلك ووقف، فلما خرجوا خرج معهم وهو يهم بأن يخاطب حسنًا وحسن يهم بأن يخاطبه.

وقبل أن يتكامل خروجهم، رأوا فارسًا يسوق جواده نحو فسطاط الحجاج والبغتة ظاهرة في وجهه، فلما وصل ترجل ودخل دون أن يستأذن وقال: «إن مصيبة حلَّت في خباء النساء.»

فلما سمع حسن الصوت علم أنه صوت عريف الحرس، وخفق قلبه خشية أن تكون المصيبة حلت بسمية. ثم ما لبث أن سمع العريف يقول: «إن مولاتنا سمية سقطت لا حراك بها كأنها تجرعت سمًّا أو أصابها الموت بغتة!»

فأحس حسن كأن جبلًا سقط على رأسه، وكاد يفقده رشده وشغل عما كان فيه من سؤال أبي سليمان عن الطريقة التي حصل بها على ذلك الكتاب، ثم لم يسعه إلا أن يعدو نحو خباء سمية، ولم يكن أبو سليمان أقل بغتة منه؛ إذ جاء ذلك الخبر صدمة قوية أطارت صوابه، فسار في أثر حسن إلى الخباء، وسار في أثرهما بلال وغلام الحجاج.

وكانت سمية قد سمعت ما دار بين الحجاج وفرسانه أمام خبائها، كما سمعته وهو يأمرهم بأخذ حسن إلى السجن إلى الصباح، وأيقنت أن الحجاج قاتله لا محالة. ولكنها تعللت بالآمال البعيدة وصبرت حتى ترى ما يكون في الغد، فقضت ليلتها تفكر في مصير حسن، وأصبحت وقد أعدت السم وجلست وراء الخباء، تستطلع أنباء المحاكمة من الحراس. فلما جاءها أحدهم بمقتل أبيها وأخذ حسن لقتله أظلمت الدنيا في عينيها. وكانت أمة الله قد يئست من تخفيف المصيبة عليها ولم تعد تستطيع مخاطبتها فتركتها وشأنها، وبعد قليل جاءها أحد الحراس بنبأ قتل حسن داخل خيمة الحجاج، فسارعت إلى السم وابتلعته مرة واحدة ثم وقعت مغشيًّا عليها. فصاحت أمة الله وولولت، وأخبرت الحراس أن مولاتها تجرعت السم، فأسرع أحدهم على جواده بالنبأ إلى الحجاج.

وظلَّ حسن يعدو نحو الخباء، وهو لا يكاد يرى طريقه، ولا يبالي ما يعترضه من الأحجار أو الأوتاد حتى أشرف على الخباء فصاح وهو لا يعي ما يقول: «سمية … سمية … أنا حي يا سمية!»

ولما وصل إلى الخباء أراد الفرسان منعه، ثم تركوه بعد أن أخبرهم الغلام بأمر الحجاج، فأطل من الباب فرأى سمية مستلقية وحولها نسوة يبكين. وكأنها جثة بلا روح وقد أطبقت عيناها وامتقع لونها وانحل شعرها وابيضت شفتاها فلم يتمالك أن اندفع نحوها وفي يده خنجره فتفرقت النساء عنه، ثم أخذ يجس يدها ويقول: «حبيبتي … روحي … منيتي … ماذا أصابك؟! تجرعت السم يأسًا من حياتي؟ إني حي يا سمية … سمية إما أن تحيي مثلي أو أموت مثلك!»

ولما أيقن بموتها همَّ بأن يطعن نفسه بالخنجر، ولكنه شعر بيد أمسكت به وسمع صوتًا يناديه: «تمهل يا حسن، إن سمية حية لا بأس عليها.» فالتفت فرأى ليلى الأخيلية وبيدها كوب ماء جاءت لترش سمية به. فقال لها: «ماذا تقولين؟ كيف تحيا سمية وقد تجرعت السم؟! إنه كافٍ لقتل أشد الرجال!»

قالت ليلى: «إن الذي تجرعته ليس سمًّا فلا تخف!»

فوقف ذاهلًا ثم قال لليلى: «لا تعلليني بالأوهام، إن سمية قد ماتت ولا بد لي من أن أموت لأنها ماتت لأجلي.»

قال ذلك ورفع يده بالخنجر فصاحت فيه ليلى: «تمهل يا حسن. إن سمية حية ولم تتجرع السم ولكنها في غيبوبة.»

قالت ذلك وتناولت بعض الماء بيدها ورشتها به فحركت رأسها ثم حركت شفتيها وقالت: «حسن … حسن … قتلوك قتلهم الله! إني ذاهبة إليك.»

فلما سمع صوتها جثا عند رأسها باكيًا وقال لها: «سمية … أنت حية يا حبيبتي؟ انظري إلي … أنا حسن … أنا حي يا حبيبتي وقد أنقذني الله … افتحي عينيك يا سمية.»

ففتحت عينيها فلما رأته قالت: «ما هذه الأحلام؟ حسن؟ أين نحن يا حسن؟!»

فأجابها: «نعم أنا حسن يا سمية.»

فجلست وألقت نفسها عليه وأخذت في البكاء، فقال لها: «لا تبكي يا سمية إنني في خير.»

فقالت له ليلى: «دعها تبكي لتنفس عن كربتها وتصحو من سكرتها.» فسكت وترك سمية تبكي وتشهق، ثم رآها ترفع رأسها وتنظر إلى وجهه وتصيح: «حسن حبيبي … هل أنا في يقظة أم في منام؟!»

فأجلسها بجانبه وهو يقول لها: «انظري يا سمية، ها أنا ذا حي، وهذه صديقتنا ليلى. إن أسباب تعاستنا قد زالت والحمد لله.»

فقطعت كلامه قائلة: «والحجاج؟ الحجاج؟» وعادت إلى البكاء.

فقال لها: «لقد جاء أمر الخليفة بأن يطلقك ويردك إلى خطيبك، وسنخرج اليوم من هذا المعسكر.» فحدقت بنظرها فيه كأنها تتحقق ما يقول، فأقسم لها بحبها أنه ما قال إلا الحق.

سكن روع سمية بعد أن اطمأنت إلى نجاتها ونجاة حسن، ثم الْتفتت إلى من حولها فرأت أمة الله جاريتها، وليلى الأخيلية، وهند زوجة الحجاج، فقالت: «إن السم تأخر فعله، أليس كذلك؟»

فقالت ليلى: «إنك لم تتجرعي إلا دقيق الذرة، وأما السم الذي ظننت أنك تجرعته فهو معي.» قالت ذلك وأخرجت من جيبها ورقة فتحتها وفيها السم وقالت: «ألا تذكرين الليلة التي بتُّ فيها عندك؟ إني غافلتك وأبدلت بالسم دقيق الذرة؛ لأني خفت أن تعجلي بتجرعه دون ما يدعو إلى ذلك، فالحمد لله على نجاتك.»

فهمَّت سمية بليلى وقبلتها وقالت: «جزاك الله خيرًا.» وكذلك شكرها حسن، ثم قصَّ عليهم ما دار بينه وبين الحجاج حتى أتى على ذكر أبي سليمان وكيف جاء في إبان الضيق فكان السبب في نجاته من الموت، كما كانت ليلى سببًا في نجاة سمية منه. وكان أبو سليمان واقفًا خارج الخباء فناداه حسن فدخل وهو يقول: «هل يدخل عبد الله؟»

قال حسن: «أي عبد الله؟»

قال: «خادمك.»

قال: «فليدخل. إني أعده صديقي.»

ثم دخل عبد الله وهو يقول: «لا تظن أني تخلفت عن خدمة مولاي، ولكنني أصبحت بعد إخراجك من السجن موضع غضب عرفجة، فلم أعد أستطيع الظهور وبقيت متخفيًا أتنسم الأخبار. فلما تحققت نجاتك جئت لأكون في خدمتك.»

وكانت سمية قد صحت وتحققت أنها فازت بحبيبها وأنها نجت من أبيها فثبتت بصرها في حسن، وثبت هو بصره فيها، واكتفيا بتفاهم اللواحظ، ثم قال لها: «إلى أين تودين الذهاب، وأين نقيم؟»

فأجابه أبو سليمان على الفور: «تقيمان عندنا بالمدينة.»

فقال حسن: «لقد أذكرتني أمر رملة، هل أتيت بالكتاب من خالد إلى ابن الزبير؟ وكيف حصلت على هذا الأمر من عبد الملك؟»

فقصَّ عليه سليمان قصة سعيه في ذلك الأمر على يد خالد، ثم قال: «وأما ابن الزبير فقد جئته بالكتاب ولكنه وا أسفاه عليه قُتل ولا ندري ما تمَّ بأهله.»

فقال: «أهله في مأمن بمكة، وقد صرَّح لهم قبل موته بقبوله مصاهرة خالد. وبعد عودتنا إلى المدينة سأبعث عبد الله إلى خالد بالخبر ليبعث من يحمل رملة إليه.»

ثم الْتفت إلى ليلى وقال لها: «لن أنسى لك جميلك ما حييت، ويكفي أنك كنت سببًا لبقاء سمية كما كان العم سليمان سببًا لبقائي.»

فقالت ليلى: «لا فضل لي في ذلك وقد فعلته لأني جربت هذا العناء وعرفت شقاء المحبين وجهادهم، ولا أظن أحدًا من هؤلاء أدرك من حالكما ما أدركته.» قالت ذلك وشرقت بريقها.

فأدرك حسن أنها تشير إلى قصتها مع توبة، فشكر الله وسكت حتى لا يثير عواطفها.

ثم وقف أبو سليمان وقال: «كل ذلك بتدبير العزيز الحكيم، وكل شيء يجري بقضاء من الله — سبحانه وتعالى. هلمَّ بنا الآن نستعد للرحيل.»

فلما تحققت سمية قرب سفرها الْتفتت إلى هند بنت النعمان زوجة الحجاج وقالت: «أرجو أن يوفقك الله إلى سبيل تنجين به كما نجوت أنا.»

فتلألأت الدموع في عيني هند ولم تجب.

•••

وفي أصيل ذلك اليوم شدوا الرحال وساروا جميعًا قاصدين المدينة، ما عدا ليلى فإنها الْتمست وجهة أخرى. ولما وصلوا ساروا توًّا إلى بيت عرفجة وقد أصبح بما فيه إرثًا شرعيًّا لسمية، وكذلك كل ما كان يملكه.

وفي يوم وصولهم جاء سليمان لاستقبالهم وقد سر بنجاح مهمتهم. واحتفلوا بزفاف سمية إلى حسن احتفالًا شهدته سكينة بنت الحسين وكثير من سكان المدينة، وأكثرهم كانوا يكرهون عرفجة، وغنى ليلتها طويس، كما غنت عزة الميلاء، وأجاد أشعب الطماع في المجون حتى كادت تتمزق خواصر الناس من الضحك. وبعد انتهاء العرس سار عبد الله إلى خالد في دمشق ومعه كتاب من حسن بتفصيل ما حدث في شأن رملة وقبول عبد الله بن الزبير خطبته لها، فجاء خالد وتزوج رملة كما هو مدون في التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤