الدور الثالث

تصريح إرل جرانفيل

من الواضح البين أن تصريح إرل جرانفيل الذائع الشهرة قد جاء بعد نكبة هكس باشا. وهاك نصه الذي عرَّبناه من الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام ١٨٨٤، ج١، ص١٧٦:

رقم ٢١٠: من إرل جرانفيل إلى سير إ. بارنج
وزارة الخارجية في ٤ يناير سنة ١٨٨٤
سيدي

لقد ذكرتم في برقيتكم المؤرَّخة في ٢٢ من الشهر الماضي أنه في حالة تشبُّث حكومة صاحبة الجلالة الملكة بطلب إخلاء السودان، لا تقبل حكومة الخديو — حسب رأيكم — تنفيذ هذه السياسة.

وأكاد لا أرى حاجة إلى الإفضاء إليكم بأنه من الضروري في المسائل الخطيرة التي تستهدف إدارة مصر وسلامتها للخطر، أن تتأكد حكومة صاحبة الجلالة الملكة طول مدة احتلال الجنود الإنجليزية للبلاد احتلالًا وقتيًّا، مع وجوب اتباع نصائحها التي ترى من واجبها بعد مراعاة آراء الحكومة المصرية مراعاة تامة أن تتقدم بإسدائها إلى الخديو.

ويتعين أن يكون الوزراء المصريون والمديرون على بيِّنة من أن التبعة الملقاة الآن على عاتق إنجلترا تضطر حكومة صاحبة الجلالة الملكة أن تُصِرَّ على اتباع السياسة التي تراها. ومن الضروري أن يتخلى عن منصبه كل من لا يسير وفقًا لهذه السياسة من أولئك الوزراء والمديرين.

وإن حكومة جلالة الملكة لواثقة من أنه إذا اقتضت الضرورة استبدال أحد الوزراء، فهناك من المصريين سواء الذين شغلوا منهم منصب الوزير، والذين شغلوا مناصب أقل درجة من هم على استعداد لتنفيذ الأوامر التي قد يصدرها إليهم الخديو بناءً على نصائح حكومة جلالة الملكة.

ويمكنكم في كل ما تريدون توجيهه من التبليغات لتنفيذ ما سبق من الآراء أن تعتمدوا على مؤازرة حكومة جلالة الملكة لكم المؤازرة كلها.

وإني لكم … إلخ …

الإمضاء
جرانفيل

وهذا التصريح مع كونه قد صدر بعد نكبة هكس باشا، يبرهن بكل جلاءٍ من نص عباراته على أن المبادئ المبينة فيه — وهي أن الحكومة البريطانية قد أخذت على عاتقها مسئولية كل ما يجري في مصر، وأن كل أمر يصدر عنها في شكل نصيحة يكون واجب الاتباع — قد أفضت بطريقة واضحة جَلِيَّةٍ إلى وضع مصر تحت الوصاية البريطانية. وذلك ليس من تاريخ هذا التصريح فقط، بل من الوقت الذي حدث فيه الاحتلال البريطاني. ومن ثَمَّ فمسئوليتها منذ هذا التاريخ عن كل ما حدث في البلاد من خير أو شر، كمسئولية الوصي نحو القاصر الموضوع تحت وصايته حالًا بحال. فسواء أكان هذا التصريح صدر قبل نكبة هكس المشئومة أم بعدها، فتلك نقطة لا أهمية لها مطلقًا ما دامت هذه المبادئ كانت معمولًا بها في الخفاء. والحكومة البريطانية تبقي مسئوليتها كما كانت عن تعيين هكس باشا وعن ضياع السودان.

وهاك تصريحًا آخر صرَّح به عضو آخر من أعضاء الوزارة البريطانية في ذلك الوقت، وهو اللورد هارنجتن Lord Hartington وزير الحربية. وهذا التصريح يؤيد تصريح اللورد جرانفيل في نفس الموضوع تأييدًا تامًّا، وقد أذاعته شركة روتر في برقية منها بعد ظهور التصريح الأول بوقت قصير:

لندن في ١١ مارس سنة ١٨٨٤

أفاض لورد هارنجتن بصفة خاصة في غضون تصريحه الأخير عن موضوع السودان في بيان أهمية الاحتفاظ بموانئ البحر الأحمر؛ منعًا لاحتلالها بأية دولة أخرى. ثم قال الوزير عقب ذلك إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة تظل في مصر إلى أن تقوم في البلاد حكومة على أسس راسخة وأركان ثابتة، وأنها تقبل المسئولية في المسائل الرئيسية في السياسة المصرية مدة الاحتلال. ا.ﻫ.

وهذا التصريح لا يؤيد فقط تصريح إرل جرانفيل، بل يعزز المبدأ المقرر فيه، ويثبت بصورة جلية أن الحكومة البريطانية أخذت على عاتقها مسئولية المسائل الأساسية في السياسة المصرية طول مدة الاحتلال؛ أي من أوله وليس بعد نكبة هكس باشا فقط.

وبما أن تقرير قبول هذه المسئولية قد حدث بمناسبة أسئلة توجَّهت بصدد السودان، فيترتب على ذلك أن يكون السودان داخلًا ضمن المسائل الأساسية في السياسة المصرية التي تكلفت إنجلترا أن تتحمل مسئوليتها، والتي تشمل حتمًا ضياع السودان.

وطول المدة التي أبدت فيها الحكومة المصرية تساهُلًا وامتثالًا للأخذ بمشورات إنجلترا، أو بعبارة صحيحة بأوامرها غير الرسمية، لم تكُن هناك حاجة لإبداء هذا التصريح بهذه الطريقة المكشوفة. وعمل كهذا لا يتحتم صدوره إلا عند اشتداد المعارضة، كما حدث في الحالة التي أفضت إلى استقالة شريف باشا بسبب رفضه التخلي عن السودان.

ونظن أن الحكومة الإنجليزية كانت تفضل بكل تأكيد أن لا تحملها الظروف إلى إبداء هذا التصريح، بل كانت تُؤْثِرُ أن تقف عند حد الطريقة الهَيِّنَة اللَّيِّنَة التي اتبعتها، وهي بقاء مصر مُصْغِيَةً بسهولة إلى مشوراتها. فهذا كان يسخر لها الوسيلة للإفلات من المسئولية واجتنابها، كما حدث في الحالة التي تشغل الآن بالنا؛ وذلك بادِّعائها أن ليس لها يد في المسألة، وأنها كانت تعطي نصائح فقط، ولكنها اضطرت تجاه المعارضة الشديدة أن تكشر عن نابها لتُقصِي الوزراء الذين أظهروا عنادًا.

وهذه الحالة ما زالت قائمة إلى الآن رغم استقلال مصر المزيف الذي منح لها بموجب تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢. وهذا شيء ثابت من نصوص التصريح ذاته. وإليك هذا التصريح نقلًا عن جريدة الوقائع المصرية، العدد ٢٠ بتاريخ يوم الثلاثاء ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، المجلد الأول، وقد نُشِرَ نصه الإنجليزي في الكتاب الأزرق عن مصر عام ١٩٢٢، ج١:

تصريح لمصر

بما أن حكومة جلالة الملك — عملًا بنواياها التي جاهرت بها — ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية.

فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية:
  • (١)

    انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة.

  • (٢)

    حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات — إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية — نافذ الفعل على جميع ساكني مصر، تُلغَى الأحكام العرفية التي أُعلِنَت في ٢ نوفمبر سنة ١٩١٤.

  • (٣)
    إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور، وهي:
    • (أ)

      تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر.

    • (ب)

      الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة.

    • (جـ)

      حماية المصالح الأجنبية في مصر، وحماية الأقليات.

    • (د)

      السودان.

وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن. ا.ﻫ.

ويؤيد أيضًا الاحتفاظ بهذه الحالة المنشور العمومي الذي أرسلته حكومة صاحب الجلالة البريطانية إلى جميع سفرائها، وها هو معرب نصه الإنجليزي المنشور في الكتاب الأزرق عام ١٩٢٢، ج٢:

وزارة الخارجية في ١٥ مارس سنة ١٩٢٢
سيدي

لقد قررت حكومة صاحب الجلالة البريطانية بموافقة مجلس العموم انتهاء الحماية التي فرضت على مصر في ١٨ ديسمبر سنة ١٩١٤، والاعتراف بها كدولة مستقلة ذات سيادة. وعند إعلان هذا القرار للحكومة التي أنتم معتمَدون لديها يجب أن تبلغوها ما يأتي:

لما أضحى سلم مصر ورفاهيتها مهددًا بسبب تدخُّل تركيا حليفة دول الوسط في الحرب الكبرى في شهر ديسمبر سنة ١٩١٤، وضعت حكومة جلالة الملك البريطانية حدًّا لسيادة تركيا على مصر، وأخذت هذا البلد تحت حمايتها، وصرحت بأنه أمسى في كنفها.

ولقد تغيرت الأحوال الآن وخرجت مصر من الحرب رافهة سليمة، فقررت حكومة صاحب الجلالة — بعد إمعان كبير، وطبقًا لسياستها التقليدية — أن تضع حدًّا لحمايتها بتصريح اعترفت فيه بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة. وذلك مع الاحتفاظ ببعض المسائل المرتبطة بمصالح الإمبراطورية البريطانية والتزاماتها ارتباطًا وثيقًا. أما هذه المسائل فستُسوَّى باتفاقيات قادمة بين مصر والإمبراطورية. ومن الآن إلى أن يتم عقد هذه الاتفاقيات تظَل هذه المسائل باقية على حالتها الراهنة بدون تغيير.

وللحكومة المصرية الحق في أن تؤسس وزارة للخارجية، وتمهد بهذه الكيفية السبيل لتمثيل مصر السياسي والقنصلي في الخارج.

ولا تتولى بريطانيا العظمى في المستقبل حماية المصريين في الخارج، اللهم إلا إذا رغبت الحكومة المصرية في منح هذه الحماية، وإلى أن يتم تمثيل مصر في البلد الذي ترى لها فيها مصلحة.

وانتهاء الحماية البريطانية على مصر لا يستوجب مع ذلك أي تغيير في الحالة الراهنة فيما يختص بالمركز الذي تشغله الدول الأخرى في مصر.

إن خير مصر وسلامتها ضروريان لسلام الإمبراطورية البريطانية وأمانها، وهي من أجل ذلك تَعتبِر من مصلحتها الجوهرية أن تحافظ على العَلاقات الخاصة التي بينها وبين مصر، المعترف بها من الدول الأخرى منذ زمن طويل. وهذه العلاقات الخاصة التي ترى بريطانيا أنها مصلحة حيوية لها مُحدَّدة في التصريح المعترف فيه بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة.

ولقد أقرت حكومة صاحب الجلالة هذه العلائق كمسألة مرتبطة بها حقوق الإمبراطورية البريطانية ومصالحها ارتباطًا حيويًّا وثيقًا، وهي لا تسمح لأية دولة أن تفتح بابها أو المناقشة فيها. وترى بناءً على هذا المبدأ أن كل محاولة من جانب أي دولة يقصد بها التدخل في شئون مصر تُعَدُّ عملًا عدائيًّا.

وستعتبر كل تَعَدٍّ على أرض مصر عملًا يجب مقابلته وصده بكل الوسائل التي لديها.

وإني لكم … إلخ …

الإمضاء
كرزن أف كدلستون

الخلاصة

ومما تقدم ذكره من الوثائق في هذا الباب يتبين بوضوح وجلاء أن الحكومة البريطانية وضعت مصر تحت وصايتها منذ اليوم الأول لاحتلالها بالجنود البريطانية، وصارت مصر أمامها بمنزلة القاصر أمام الوصي، واستمرت هذه الحال في هذا المجرى إلى اليوم.

وإذا سأل سائل: هل مصر تستحق ذلك أو لا؟ فالجواب على ذلك أن هذه مسألة أخرى ليست لها عَلاقة ما بالحالة التي نعالجها، والشيء الوحيد الذي يجب أن نثبته من هذه الحالة، هو أنه لما كانت مصر قد وضعتها إنجلترا حيالها في مركز القاصر المحجور عليه، فكل اتفاقية تُعقَد بينهما تكون لاغية ولا قيمة لها مطلقًا، كما هو الحال في أي اتفاقية من هذا النوع بين وصي وقاصر موضوع تحت وصايته سواء بسواء، وللأسباب عينها التي تبطل مثل هذه الاتفاقية لأنها تمنح الأول فوائد وتلحق أضرارًا بالأخير.

وبناءً على ذلك تكون اتفاقية السودان التي عُقِدَتْ بين مصر وإنجلترا في ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ باطلة، ولا قيمة لها للأسباب التي ذكرناها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤