الفصل الحادي والعشرون

في دير بحيراء

كانت سلمى قد استأنست بالناسك وذهب اضطرابها وخوفها، وقد آنست انعطافه إليها وبكاءه على أبيها، فزاد استئناسها به وتوسَّمت فيه شيئًا ترجو أن يفرج كربها، ولكنها ما زالت في ريب من أمره، ولم تجسر على استفهامه عن حقيقة حاله بعد أن سمعت ما سمعته من تمنُّعه، على أنها عوَّلت على استطلاع ذلك في فرصة أخرى.

فلما رأت عزمه على السفر إلى بصرى والإقامة بدير بحيراء، شقَّ عليها الانزواء هناك وهي في ريعان الصبا، ولم تنل غير الفشل في مقاصدها وضياع حبيبها، ولبثت برهة تفكر في سفرها إلى بصرى وتردد في ذهنها أمر خطيبها وقد علمت من زينب أنه سار إلى الكوفة، فلما رآها الشيخ صامتة قال: ما الذي يجول في خاطرك يا سلمى؟ أظنك تترددين في سفرك إلى دير بحيراء؟ وكأني بك تقولين كيف أسير إلى بصرى وقد تركت عبد الرحمن في الكوفة، فاعلمي يا سلمى أني لو لم أيأس من وجوده هناك ما دعوتك إلى ذلك الدير. آه لو علمت أين هو ولو في الصين لقصدته كما قصدتك هنا. قال ذلك وصوته يتلجلج كأن البكاء يعيقه عن الكلام.

فلم تزدد سلمى من ذلك إلا أسفًا؛ لأنها كانت لا تزال عالقة الذهن ببقاء عبد الرحمن في الكوفة، فإذا لم يكن هناك فأين يكون؟ فازداد قلقها، ولم تجد بدًّا من تسليم قيادها إلى ذلك الشيخ، وهي تعتقد حسن قصده وصدق غيرته، على أنها لولا بقية أمل بلقاء عبد الرحمن ما فضلت مكانًا على الدير أو القبر، ثم قالت للشيخ: وهل أترك بقية بيت الرسول وقد فارقت زينب على أن أنتظرها هنا ريثما تخرج مع أهل بيتها إلى المدينة فأسير معها.

قال: لا أرى أن تسيري معهم، فقد كفاك ما لقيته من الأهوال في رفقتهم، تعالي إلى دير بحيراء فنقيم هناك حتى يأتي الله بالفرج. قالت: إني فاعلة ما تريد والاتكال على الله، ولكن أين نبيت الليلة؟

قال: نبيت هنا ولا خوف علينا والبلاد في أمان. نامي أنت وسأسهر أنا لأني قد نمت طول النهار.

وباتا تلك الليلة وسلمى في بحر من الهواجس لا تدري ما يصير إليه أمرها.

فلما أصبحا قال الشيخ: اعلمي يا بنية أن طريقنا من هنا إلى بصرى كثير الوعر، ولا بدَّ لنا من قطعه على أقدامنا.

قالت: لا يهمني ذلك؛ فما أنا أولى بالراحة منك وأنت شيخ وأنا صبية.

قال: سنسير بضعة أيام نحو الجنوب حتى نُقبل على بصرى مدينة الروم ومركز تجارة بلاد العرب، فسكتت ولم تُجب.

فقال لها: امكثي هنا ريثما أعود إليك.

ثم تركها ومضى، وعاد بعد قليل ومعه جراب فيه زاد وفاكهة وقال: هذا طعام يكفينا يومًا كاملًا ورزق الغد إلى الغد.

•••

وبعد أن سارا بضعة أيام سيرًا بطيئًا أشرفا قرب العصر على مدينة بصرى (وهي غير البصرة في العراق)، وكانت سلمى قد تعبت واستوحشت وتغيرت حالها ولم تذهب صورة عبد الرحمن من ذهنها، وإن لم ترَ سبيلًا إليه لأنها لا تعلم مقرَّه، ولكنها كانت قد استسلمت إلى الشيخ الناسك لاعتقادها أنه إنما يسير بها إلى الخير، وأنه ذو كرامة ولا يخطو خطوة إلا لغرض فيه نفع لها.

فلما أطلَّا على بصرى وهي من أكبر مدن حوران في ذلك العهد، انبهرت سلمى لعظمها وعمرانها وخصبها وسط تلك البلاد الجرداء التي يندر فيها الشجر، ورأت خارج المدينة من جهة الغرب بحرًا لامعًا بما ينعكس عنه من أشعة الشمس، فسألت الشيخ الناسك عنه فقال: ما هو بحر يا بنية، وإنما هو حوض كبير يخزن البصريون مياههم فيه إبان الشتاء ليستقوا منها في الصيف، وهو خزان للمياه طوله نحو ١٢٠٠ ذراع وعرضه ٥٠٠ ذراع، وكان لبصرى أحواض أخرى تهدَّمت.

ثم قال: إن بصرى مدينة قديمة عاصرت دول اليهود فاليونان فالرومان، وفيها أبنية رومانية ويونانية وسريانية.

فالتفتت سلمى إلى تلك المدينة والشيخ واقف بجانبها، فإذا هي بديعة الانتظام يكتنفها سور يزيد محيطه على أربعة أميال، ويحيط بالمدينة غياض وبساتين بها أنواع الأشجار والثمار، ووراء ذلك سلاسل جبال حوران ممتدة على عرض الأفق، ورأت لون أبنية المدينة مغبرَّا كأنها تلوثت بالدخان فقالت: وما الذي غيَّر لون هذه الأبنية؟

قال: ذلك هو لون أحجار هذه البلاد، فإن فيها حجرًا أسمر يسمونه الحجر الحوراني، هذا لونه، ومما يزيدك عجبًا أن أبينة حوران لا يدخل في بنائها شيء من الخشب، وإنما هم يصنعون سقف بيوتهم وأجنحة أبوابها ونوافذها من الحجر الصلد.

فاشتاقت سلمى إلى النزول للمدينة لمشاهدة أسواقها، فقال لها الشيخ: إذا أردت النزول إليها فما أنا نازل معك؛ لأني كما قلت لك لا آوي المدن ولا أمرُّ بها، ثم إني أعرف هذه المدينة كما أعرف بيتي؛ فقد زرتها غير مرة وأنا شاب وكنت على دين النصرانية، وزرت كنائسها وحمامتها وشوارعها وقصورها فإذا هي من أعظم المدن، وربما سنحت لك الفرصة بعد حين بمشاهدتها، أما الآن فتعالي معي إلى الدير.

فلما سمعت قوله أنه كان على دين النصرانية في شبابه تفرَّست في سحنته فرأته يشبه أن يكون كنديًّا من قبيلة أبيها؛ لأن كندة كانوا نصارى حتى جاء المسلمون بلادهم فاعتنقوا الإسلام، وزادها ترجيحًا لذلك ما رأته من غيرته على أبيها والانتصار لبيت علي، ولم يزدها كل ذلك إلا حيرة وشكًّا، وهي مع ذلك لا تستطيع مخاطبة الشيخ في هذا الموضوع لئلَّا يغضب، فلم ترَ خيرًا من الصبر حتى يتأتَّى لها استطلاع الحقيقة.

أما هو فقال ما قاله وسار، فسارت هي في أثره حتى أشرفا على الدير فإذا هو بناءان: أحدهما كبير وفيه قبة فوقها صليب علمت سلمى أنه كنيسة، والآخر صومعة على رابية، فمشيا نحو الكنيسة، فلما أقبلا عليها تفرَّست سلمى في بنائها فرأتها مبنية على النمط الروماني، فدخلا صحنها حتى جاءا البيعة فرأيا المكان ديرًا وفيه كنيسة، وشاهدا الرهبان والقسوس وكلهم من الروم يتكلمون اللاتينية وبعضهم اليونانية والسريانية الممزوجة بالعبرانية، وهي لغة تلك البلاد بعد الفتح.

فقالت سلمى: ما لي أرى الناس هنا أخلاطًا من لغات شتَّى؟

فقال: لأن بصرى يا ابنتي عند النصارى مركز أسقفية بلاد العرب الكبرى، وفيها يقيم رئيس الأساقفة، ومنها يرسلهم إلى الآفاق.

قالت: أين دير بحيراء؟

قال: هذا هو الدير الآن، وأما المكان الذي كان يقيم فيه الراهب بحيرا، فهو صومعة بجانب الدير.

قالت: هلمَّ بنا إليه.

فخرج بها، والرهبان لم يلتفتوا إليهما ولا استغربوا حالهما؛ لأن الدير ملتقى الغرباء، وفيهم النساء والمهاجرون والمسافرون والمرضى وأهل النذور وغيرهم.

فلما خرجا من الدير التفتت سلمى إلى الصومعة فإذا هي لا تشبه الأبنية، بل هي مؤلفة من خمسة أحجار ضخمة، أربعة منها للجدران وواحد للسقف، والباب حجر واحد مرتكز على مصراع يُفتح ويُغلق بسهولة، فاستغربت تلك الصومعة فقالت: ما هذه يا سيدي؟

قال: ألم أقل لك إن هذه البلاد لا أخشاب بها، وأهلها يصنعون أبواب بيوتهم وأجنحة نوافذهم ومقاعدهم وسائر آنية القعود والرقاد من الحجر، وقد يفعلون ذلك ولو كان المنزل مؤلفًا من عشر غرف أو عشرين، فإنك لا تجدين فيه أثرًا للخشب. قال ذلك ومشى أمامها وعكازه بيده وهو على ما وصفناه به من إرسال الشعر وعليه رداؤه القديم، وسارت هي في أثره، حتى دخلا الصومعة فلم يجدا فيها من الآنية إلا مصباحين معلَّقين أمام صورتين إحداهما تمثل مريم العذراء، والأخرى تمثل السيد المسيح، وهناك صورة أخرى لم يعرفاها، ولم يجدا في الصومعة أحدًا.

فلما دخلت سلمى تخشَّعت وتذكرت حالها، فقالت للناسك: ها أنا ذا الآن في دير بحيراء، فكيف ترى أن تكون إقامتنا به؟

قال: إن في الدير الذي خرجنا منه الآن غرفًا يقيم بها المسافرون، والدير يقدم لهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة مجانًا، فتقيمين أنت بغرفة، وأقيم أنا بهذا البستان بالقرب منك، فنجتمع في أثناء النهار ونفترق في الليل.

أطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: ولكنني لم أرَ في الدير نساء فكيف أقيم وحدي؟ قال: في الدير نساء كثيرات، وأكثرهن يعملن في إعداد الطعام وغسل الثياب. قالت: أرى أن أكون معهن لكي يكون في إقامتي فائدة.

•••

خرج الشيخ الناسك وسلمى من الصومعة، وسارا إلى رئيس الدير، وقال له: إنني وابنتي هذه نريد أن نقضي بقية حياتنا هنا نعبد الله، وأنا شيخ ناسك لا آوي إلى البيوت، وابنتي تريد أن تلتحق بخدمة الدير فتساهم في إعداد الطعام وتنظيف الغرف، فهل تقبلوننا؟

فقال الرئيس: أهلًا بكم ومرحبًا، ثم أمر لسلمى بثوب مما ترتديه خادمات الدير فلبسته، وهو لا يقضي على لابسه باتباع شروط الرهبنة، ولكنه يفرض عليه الخدمة في الدير … فرحبت بها وأعجبت بما رأته من جمالها وما توسمته في عينيها من الذكاء، وسمتها باسم جديد على العادة المتبعة في مثل هذه الحال، فصار اسمها مريم، ولم يمضِ قليل حتى أحبها كل من في الدير من نساء ورجال، وأعجبوا بما آنسوه من تعقلها وصدق خدمتها، وقد زادها الانقباض والسكوت هيبة ووقارًا، وأصبحت بعد حين مرجع مشاوراتهم وزهرة جمعياتهم.

ولم يكن يمضي يوم لا يأتي الدير فيه وفود الأضياف من أنحاء جزيرة العرب والعراق والشام، وفيهم أهل التجارة وأهل السياحة وأصحاب النذور ونحوها، فأصبحت مريم مضرب أمثال أهل الدير واضحًا في الرزانة والتعقل.

أما هي فكانت تجد في تلك الخدمة راحة وعزاء عن مشاغل العالم، وأحست بسعادة لم تكن تشعر بمثلها من قبل لولا ما كان يعترض سعادتها من تذكر عبد الرحمن وما مر بها من الحوادث المؤلمة، على أنها بمضي الأيام كادت تنسى كل ذلك إلا عبد الرحمن.

وكانت إذا اجتمعت بالراهبات أو الرهبان ودار الحديث على الأحوال العامة، سمعت طعنًا قبيحًا في يزيد وسوء تصرفه وما يرتكبه من شرب الخمور والانشغال باللهو والطرب وضرب الطنابير وتربية القرود، وكانت إذا سمعت ذلك ينقبض قلبها وتقول في نفسها: لا يصلح الحاكم إلا إذا أتيح له الاطلاع على سرائر رعيته وما يدور في مجالسهم الخاصَّة من نقد أعماله، ولو أنه أتيح له ذلك ما بقي على غيِّه مهما يبلغ من حمقه وجهله. كذلك كان يفعل عمر بن الخطاب؛ فكان يتنكر ويخالط الناس فيسمع ما يقوله عجائزهم وصبيانهم وشبانهم وكهولهم، ويتدبر ما يسمعه من الانتقاد، فينصف المظلوم ويضرب على أيدي الظالمين، فساعده ذلك على تشييد مملكة الإسلام وتقويم دعائمها على العدل والحق. وأما يزيد فإنه انشغل بنسائه وخموره واستبدَّ بأبناء الرسول واضطهد أهل بيته حتى كاد يهدم ما أسسه الخلفاء الراشدون، ولو أنه وجد من أصحاب شوراه من يطلعونه على حقيقة أمره وما يقوله الناس عن حكومته وعن ضعفه وإهماله، لاضطر إلى الإصلاح جهد طاقته، ولعل الله أراد ذلك تعجيلًا لخروج الخلافة من يده.

•••

قضت سلمى في دير بحيراء سنتين وبعض السنة وهي على تلك الحال، حتى ألفت الوحدة وكادت تنسى مصائبها، ولكن ذكرى عبد الرحمن كانت تعادوها فتستغرق في التأملات، ويُخيَّل إليها أحيانًا أنه ما زال حيًّا فيتجدد أملها بلقياه، ثم لا يلبث ذلك الأمل أن يضمحلَّ من مخيلتها فتعود إلى البكاء عليه في خلوتها، ولا سيما أن الشيخ الناسك لم يكن يشفي غليلها بخبر صريح.

وأصبحت ذات يوم فرأت أهل الدير في هرج ومرج، وقد أخذوا في تزيين الأبواب والنوافذ، ومد الأبسطة وذبح الذبائح، فسألت عمَّا دعاهم إلى ذلك، فقيل لها: إن الخليفة قادم إلى حوران، ولا بدَّ له من المرور بالدير والإقامة به يومًا أو يومين، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها وانقبضت نفسها ولم تجد بدًّا من الذهاب إلى الشيخ الناسك، فلما أقبلت عليه رأته جالسًا تحت شجرة وعكازه بيده ينكت الأرض بها وقد بالغ في الإطراق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فلما دنت منه رفع بصره إليها وعيناه تتلألآن كأنهما شعلتان، وابتدرها قائلًا: إن الطريدة أوشكت أن تقع في الفخ، فهل تفلت منك هذه المرة؟

فشعرت سلمى بتجدد آمالها في الانتقام وقالت: أرجو ألا تفلت والله المستعان.

قال: إن يزيد قادم إلى الدير مساء اليوم، وسيقيم هنا ليلة ريثما يستريح ثم يشخص إلى حوران، فإذا استطعت أمرًا ينسينا مصائبنا وأحزاننا فإنك تفرجين كربنا وترفعين عن عاتق المسلمين ثقلًا كبيرًا.

فأطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: إني فاعلة ذلك بإذن الله، ولكن هل يسعدني الحظ بعد ذلك بلقيا عبد الرحمن؟

قال: إذا نجحت في قتل هذا الرجل فإنك تحيين عبد الرحمن وتقيمينه من بين الأموات.

فاقشعرَّ بدنها وقالت: إذن أنت واثق من موته؟

قال: كلا، ولكن أرجو أن تؤدي الواجب عليك والله نصير المظلومين، وإذا كتب لك لقاء عبد الرحمن في هذه الدنيا فإنك تلقينه ظافرة وتعيشان سعيدين، وإلا فإنك تلاقينه في الآخرة وقد انتقمت لأبيك ولأهل البيت.

وأرادت أن تجيبه فسمعت الناقوس يدعو الرهبان وسائر أهل الدير إلى العمل فهمَّت بالرجوع. فناداها وقال: تمهَّلي يا سلمى، ثم تناول طرف ثوبه فحلَّ عقدة فيه وأخرج منها ورقة دفعها إليها وقال: خذي هذه الورقة فإن فيها دواء الظلم، إذا شربه يزيد شُفي الإسلام من دائه.

فعلمت أنه سم فتناولت الورقة وفتحتها فرأت فيها مسحوقًا ناعمًا، فعادت وطوتها وخبأتها في جيبها، وهرولت إلى الدير حتى أتت المطبخ واشتغلت مع سائر النساء بإعداد الطعام.

ولما مالت الشمس إلى الأصيل ظهر غبار في عرض الأفق، ولم يكد يراه الرهبان حتى خرجوا بالمباخر والقماقم واصطفوا في ساحة الدير، وعليهم الملابس الرسمية تتلألأ بألوانها الزاهية، وفيهم المرتلون وضاربو الصنوج والرئيس في مقدمة القوم وبين يديه غلمان يحملون سعف النخل وطاقات الزهور.

وبعد هنيهة أقبل الركب تتقدمه الخيالة، وأولهم يزيد راكبًا على جواد عربي عدته من الفضة الناصعة البياض، وعلى كتفه قباء وردي اللون مزركش بالقصب، فلما وقع نظر سلمى عليه عرفته، واقشعرَّ بدنها إذ تذكرت حالها معه، ولكنها تجلَّدت ولبثت تنتظر ما يكون، فإذا بالرجالة أسرعوا فضربوا فسطاطه بقرب الدير، وترجَّل الفرسان وأقبل الخدم وفيهم خدمة الصيد يحملون البزاة والقرود ويسوسون الكلاب والفهود كما رأتهم في دير خالد منذ نحو عامين، وكان يزيد إذا رحل جعل همَّه الاشتغال بالصيد.

ولما ترجَّل يزيد استقبله الرئيس وكبار أهل الدير ورحبوا به، فلما دخل الفسطاط دخلوا في أثره واستعطفوه ليقيم بينهم ويتناول العشاء عندهم فأجاب دعوتهم.

فأمروا بالأبسطة ففُرشت في مكان معدٍّ لذلك، وجاءوا بأصناف الأشربة الحلوة بألوانها الزاهية وقدموا ليزيد ورجاله فشربوا، ثم أمر الرهبان بإحضار الطعام فحملوه إلى هناك وكانت النساء تهيئه وتساعد الخدم في إحضاره.

فلما رتبت المائدة وصُفَّت الآنية والأطباق، نزع يزيد كوفيته وغسل يديه وتصدر المائدة جالسًا على وسادة من الحرير المزركش، وجلس أمراؤه بين يديه، وأخذوا جميعًا في تناول الطعام.

وفيما هم في ذلك، التفت يزيد إلى الراهبات الواقفات للخدمة، فوقع بصره على الأخت مريم فبهره جمالها، وتذكر سلمى وكان يعلم أنها ماتت منذ عامين أو أكثر فقال في نفسه: يا للعجب! كم يتشابه الآدميون.

وقضى مدة الطعام وهو يردد بصره فيها ولم يتمالك عن الميل إليها والإعجاب بأمرها لشدة شبهها بسلمى.

وكانت سلمى تتجاهل وتتظاهر بتقديم الأطعمة والأشربة وهي مطمئنة البال إلى أن يزيد لا يمكن أن يعرفها بعد أن بلغه موتها من طبيبه، وبعد أن بدَّلت اسمها وثيابها وسائر أحوالها.

أما يزيد فكتم شغفه بها ريثما يحتال في استقدامها إليه، فأخذ يلاطف الرئيس ويثني على ما لاقاه من كرمه وحسن وفادته ويعده خيرًا، فلما نهضوا عن المائدة دعاه إلى خيمته وبالغ في إكرامه حتى غربت الشمس ودق ناقوس الصلاة، فاستأذن الرئيس في الانصراف فأذن له، ثم أسرَّ إلى بعض أهل بطانته ما أضمر من أمر الأخت مريم وكلفه استقدامها بحيلة، فخرج الرجل إلى الرئيس وقال له: لقد تعود الخليفة أن يتناول المرطبات قبل النوم.

فقال الرئيس: إننا أعددنا كل ما ترتاح إليه نفسه، ونحن طوع إشارته.

قال: ولكنني لا أظنكم تستطيعون القيام بكل ما يحتاج إليه.

قال الرئيس: وكيف ذلك ونحن لا ندخر وسعًا في سبيل مرضاته؟

قال: إن مولانا أمير المؤمنين تعود أن تصلح له الطعام فتاة جئنا بها معنا من دمشق، ولكنها مرضت في أثناء الطريق فأرجعناها، وقد قضينا طول الرحلة والخليفة لا يكاد يلتذُّ بالطعام، ولكنه لما تناول العشاء عندكم، أعجبه حسن طهيه، ورأى بين الخادمات فتاة أعجبته لباقتها في إعداد المائدة، وتمنى لو أنها تصحبه بقية سفره إلى حوران.

فابتدره الرئيس قائلًا: إن بين النساء هذا الدير فتاة ليست راهبة ولكنها من أحسن النساء عقلًا وذكاء، وهي تصلح الطعام أحسن إصلاح، فإذا كانت هي التي وقعت من مولانا أمير المؤمنين موقع الاستحسان، ألحقناها ببطانته في هذا السفر، ولا نظنها إلا فرِحة بهذا الشرف العظيم.

فاستبشر الرجل بنيل المرام وقال: وأي فتاة هي؟

قال: هي التي ندعوها الأخت مريم …

فقطع الرجل كلامه قائلًا: إنها هي التي أعجبت الخليفة، فهل تظنها ترضى بخدمته؟

فهز الرئيس رأسه هزة الاستخفاف وقال: ومن ذا الذي يرفض هذا الشرف؟

ونادى الرئيس قيِّمة الدير وطلب إليها أن تدعو الأخت مريم، فلما جاءت ووقفت بين يدي الرئيس قال لها: اعلمي يا بنية أن مولانا الخليفة مسافر إلى حوران ويحتاج إلى فتاة تصلح له الطعام، وقد امتدحت له مهارتك في ذلك، وقد تنازل أن تكوني في خدمته، فأبشري بإقبال سعدك واذهبي إليه، وأوصيك أن تبذلي الجهد لإرضائه.

فسكتت سلمى وأبدت الاستحسان بملامح وجهها وقد خفق قلبها سرورًا بتلك الفرصة.

ففرح الرئيس أيضًا وأثنى على لطفها وقال لها: سيري منذ الآن مع هذا الأمير، وكوني ساهرة في خدمة الخليفة، فإنه قد غمرنا بفضله وإحسانه.

فسارت سلمى وقد تهيَّبت تلك المهمة ولكنها صممت على الفتك بيزيد مهما يكلفها ذلك.

وكان يزيد في انتظار رسوله، فلما عاد إليه ظافرًا غانمًا أثنى على صدق خدمته، وأمره أن يعد المرطبات والفاكهة ليتناولها قبل الرقاد، فأعد كل شيء وانصرف، وبقي يزيد في الخيمة وحده فدعا بالأخت مريم، فدخلت وقد تلثمت بالخمار متظاهرة بأن اللثام من تقاليد أهل الدير.

وسايرها يزيد في ذلك ترغيبًا لها في خدمته، على أن ينال منها مرامه بعد سفره، واكتفى بأن يتمتع بمرأى ما ظهر من عينيها، فلما وقفت بين يديه أمرها أن تناوله بعض الفاكهة فقدمت له ما شاء وهو لا يُبدي شيئًا مما في نفسه مخافة أن تأبى الذهاب معه، ثم تظاهر بالرغبة في النعاس وقال: اسقيني كأسًا من الماء المحلى بالعسل.

فقالت في نفسها: إني والله قاتلته بسلاحه، فتناولت الكأس وصبت فيها العسل وتظاهرت بإحضار ماء بارد فخرجت من الخيمة ويداها ترتعشان من عظم الاضطراب، وفكرت هنيهة في أمر السم الذي أعطاها إياه الشيخ الناسك، فرأت أنها إذا صبَّته كله ربما يظهر تأثيره عاجلًا قبل أن تتمكن من الفرار فيقبضون عليها، فصبت جانبًا منه في الماء ومزجته بالعسل وقدمته له، فتناوله وشربه إلى آخره وهو يريد أن ينام ليبكر في الرحيل ويخلو بالفتاة في حوران.

أما هي فلما تحققت أنه شرب الكأس خرجت من الخيمة، وسارت توًّا إلى الناسك فرأته واقفًا في ظل الشجرة، فأشارت إليه إشارة فهم منها أنها أتمت مهمتها وتريد الفرار فقال: هيا بنا لا تخافي.

وتسلق الشجرة وعاد منها بصرَّة تأبطها، وأمسك سلمى بيده، ومضى بها في طريق لا يراهما أحد فيه، ولم تمضِ برهة حتى كانا قد بعدا من الدير وأصبحا في الصحراء، فوقف الشيخ وفتح الصرة فأخرج منها ثوبين من أثواب أهل البلقاء أعطى سلمى أحدهما فلبسته، ولبس هو الآخر، فأصبح من يراهما لا يشك في أنهما رجلان من أهل البلقاء، فعجبت سلمى لتأهب الشيخ الناسك وتحوُّطه، ولكنها ما زالت خائفة فقالت: أخشى أن يلحق بنا الجند فما العمل؟

قال: لا تخافي. اتبعيني والله المنجي، فسارت في أثره، وقضيا بقية الليل يلتمسان الطريق والناسك يرشدها كأنه يسير في ضوء النهار.

•••

أصبحا في اليوم التالي فإذا هما بالقرب من بناء خرب تدل بقاياه على فخامة أصله لكبر أحجاره وسعة مساحته، فقالت سلمى: أين نحن يا مولاي؟

قال: إننا في البلقاء، وهذا صرح الغدير الذي يتغنى به الشعراء.

قالت: ألا يسكنه أحد الآن؟

قال: كلا فإنه من بناء الغساسنة، وكانوا عربًا نصارى، فلما جاء المسلمون الشام وفتحوها دخلوا في حوزتهم، وكان القصر لبعض ملوكهم يقيمون فيه بعض السنة، وهو من بناء ثعلبة بن عمرو أحد أجدادهم، بناه منذ أربعة قرون، وقد درس كما درسوا، وسبحان الحي الباقي، ثم أشار عليها بالاستتار هناك بقية النهار، على أن يستأنفا المسير ليلًا فقالت: والله لا أبالي إذا مات يزيد أن أموت أنا في أثره؛ إذ أكون قد قمت بالواجب وشفيت ما في نفسي ونجيت المسلمين من شرٍّ عظيم.

قال: إنه مائت لا محالة؛ لأن نصف ذلك السم كافٍ لقتله.

قالت: ولكنني لم أسقه أكثر من النصف فهل يميته؟

قال: إنه يميته بعد أيام وقد فعلت حسنًا بتقليل المقدار.

ومشيا وهما يتكلمان حتى دخلا من باب القصر إلى ساحة تراكمت فيها الأتربة والأحجار، وانسابت فيما بينها بعض أنواع الحشرات، فتحول الشيخ وسلمى إلى بقايا غرفة كأنها كانت مجلس أهل ذلك القصر في أيام عمارته، لها نافذة تطل على وادٍ فيه آثار جدول جف ماؤه منذ أعوام. فاختار الشيخ حجرًا نظيفًا بجانب النافذة أجلسها عليه وجلس هو بجانبها، ثم نهض بغتة وقال: دعيني أنصرف عنك برهة ثم أعود إليك بالطعام. هل تخافين الانفراد؟

قالت: لا أخاف، ولكنني أستوحش وأنا في هذه الخرائب المرهبة. دعنا من الطعام فإني لا أحتاج إلى شيء منه غير الذي جئتني به من الدير ريثما ننتقل إلى مكان آخر.

قال: تحدثني نفسي أن نختبئ في هذا المكان حتى نرى ما يكون، ولكن ما معنا من الزاد لا يكفي، فامكثي هنا ولا بأس عليك، وإني أعرف عربًا من بقايا الغساسنة على مقربة من هذا المكان، فأذهب إليهم وآتيك بما تصل إليه يدي، والله الموفق، فلم ترَ بدًّا من طاعته.

وخرج الشيخ الناسك وعليه ثوب أهل البلقاء، وبقيت سلمى بين تلك الأطلال وحدها، فما لبث الشيخ أن توارى عن بصرها حتى أحست بالوحشة، وندمت على بقائها في ذلك المكان، وودت لو أنها سارت معه إلى حيث سار، ونظرت إلى ما حولها فإذا هي بين آكام من الأتربة تزحف بينها الخنافس وأنواع النمل، فملَّت الجلوس هناك، فوقفت وأرادت أن تشغل نفسها عن وحشتها فمشت لتتفقد بقايا ذلك الصرح وتتأمل في أصل تكوينه، فخرجت من تلك الحجرة إلى غيرها فغيرها حتى انتهت إلى دهليز مشت فيه فأفضى بها إلى سلم يطل على الوادي، فعلمت أنه كان مخرج أهل القصر إلى ضفاف ذلك الجدول، فانحدرت على السلم حتى انتهت إلى مصطبة صغيرة، وكانت قد تعبت فجلست عليها، وأعجبها الظل وأنعشها النسيم البارد فطاب لها البقاء هناك، وجلست وقد أحست بالتعب الشديد والنعاس الثقيل على أثر ما قاسته في الليل الماضي من التأثر والسهر والركض، فغلب عليها النعاس فنامت واستغرقت في النوم، ولا تسل عمَّا مر في مخيلتها من الأحلام وفيها المرعب والمزعج.

•••

استيقظت سلمى من نومها مذعورة؛ إذ طرق سمعها جعجعة جمال، فنهضت وتلفتت إلى ما حولها فرأت ثلاثة رجال قادمين من عرض البر نحو القصر، وعلى الرجال لباس الدماشقة، فارتعدت فرائصها ولم تشك في أنهم من أتباع يزيد وقد اقتفوا أثرها بعد أن أصيب يزيد بسوء، فهرولت على السلم وعادت إلى الدهليز ومنه إلى الحجرة التي كانت فيها وانزوت بحيث ترى القادمين ولا يرونها، فإذا بهم ترجَّلوا بجانب شجرة على قيد أذرع من القصر، وعقلوا الجمال وأخرجوا طعامًا وجعلوا يأكلون. فتوارت سلمى وعادت إلى جهة باب القصر لعلها تجد الشيخ عائدًا من مهمته فتستأنس به، فلما استبطأته شغل بالها، ثم عادت إلى الحجرة، ولبثت حتى مالت الشمس عن خط الهاجرة ودنت من الأصيل ولم يعد الشيخ، فازداد قلقها وعادت إلى باب القصر، ولم تكد تصل إليه حتى رأت الشيخ يعدو نحوها فوقفت في انتظاره، فلما أقبل استغربته لأنها رأته قد قلَّم أظافره ومشط لحيته وقص شعره ورفع حاجبيه عن عينيه، ولولا الثوب الذي رأته عليه في ذلك الصباح لأنكرته ولكنها رأت التعب والبغتة في وجهه فقالت: ما وراءك يا مولاي؟ وما الذي جرى؟

قال: ما ورائي إلى الخير، دعيني أسترح، ثم أقص عليك الخبر ولكنه خبر مفرح فلا تخافي. فاطمأن بالها بعد أن كانت تضطرب، وبينما هي في انتظاره وهو يلهث من التعب، سمعت وقع أقدام خارج الباب، وسمع الشيخ ذلك أيضًا، فجلس حتى استراح وهدَّأ نفسه، ثم وقف ومشى إلى الباب وأمر سلمى أن تبقى داخل القصر ريثما يعود فمكثت حسب إشارته.

ورأى الشيخ رجلًا عليه لباس أهل دمشق فرحَّب به وحيَّاه، فقال الرجل: هل في هذا المكان منزل للأضياف؟

قال الناسك: كلا إنه قصر خرب لا يسكنه أحد.

قال: ولكننا رأينا فيه أناسًا.

قال: ليس فيه أحد إلا أنا وابني، وقد مررنا به هذا الصباح فأقمنا ريثما نستريح. من أين أنت قادم؟

قال: إنني قادم مع رفيقيَّ هذين — وأشار إلى رفيقيه — من دمشق.

قال الشيخ: وإلى أين تقصدون؟

قال: إلى بصرى، ويظهر لي من لباسك أنك من أهل البلقاء، فهل كنت في بصرى؟

قال: نعم، إني قادم منها.

قال: هل مررت بدير بحيراء؟ قال: نعم.

قال: أرأيت في الدير أو جواره شيخًا ناسكًا لا يأوي المنازل؟

فلما سمع الشيخ كلام الرجل خفق قلبه وقال: نعم أظنني رأيت مثله هناك، ولكن ما الذي يهمك من أمره؟

قال: لا يهمني شيء، ولكن رفيقيَّ عرفاه مذ كان في جوار دمشق، ثم سمعا أنه يقيم بجوار بصرى وهو شيخ ذو كرامة لو لقيته وخاطبته لعلمت أنه من الأولياء.

فأدرك الشيخ أن في الأمر سرًّا يهمه استطلاعه فقال: ومن هما رفيقاك؟ قال: لا أدري من هما، ولكنني صحبتهما من جوار دمشق على أن آتي بهما بصرى ثم أعود، وهما اللذان قصَّا علي كرامات الشيخ الناسك.

قال الشيخ: لماذا لا يتأتيان إلى هنا فأقصَّ عليهما من نبأ الشيخ الناسك وما يغنيهما عن التعب الكثير.

•••

تحول الرجل إلى رفيقيه، وسار الشيخ في أثره حتى أقبل على الرجلين، وكانا جالسين تحت الشجرة، فلما رأيا رفيقهما ومعه آخر تبرَّما كأنهما استاءا من ذلك. أما الشيخ فلم يكد يراهما حتى عرف أنهما عامر وعبد الرحمن، ففرح فرحًا عظيمًا ولكنه تجلَّد وأراد أن يمتحنهما، فلما أطل عليهما رحَّبا به وهما لا يعرفانه لتغيُّر هيئته، فقال لهما: ماذا تريدان من الشيخ الناسك؟ لعلكما من أهله؟

فقال له عامر: لسنا من أهله، ولكننا عرفناه في دمشق وأحببنا أن نلقاه، فهل رأيته؟

قال: لقيته في دير بحيراء، ولكنكم إذا ذهبتم إليه فلن تجدوه هناك.

قال عامر: وأين نجده؟

فالتفت الشيخ إلى رفيقهما وخاف من التصريح أمامه فقال لعامر: إذا شئت أن ترى الشيخ الناسك فإني أدلك على مكانه في هذه الساعة تعالَ معي.

وكان عبد الرحمن جالسًا يسمع حديث عامر والشيخ ولا يتكلم، فلما سمعه يقول ذلك، نهض ونهض عامر، ومضيا حتى بعُدا عن الشجرة، ودنَوا من القصر فقال الشيخ: إن الشيخ الناسك مقيم بهذا القصر.

فقال عبد الرحمن: ما زلت منذ صباح هذا اليوم وأنا أنظر إلى هذا القصر فلم أجد فيه غير شخص يظهر أنه في ريعان الشباب، وقد استغربنا مقامه وحده هنا.

قال وقد رفع صوته: يا للعجب! أقول لكم قولًا فلا تصدقونني؟!

فلما سمع عامر صوت الشيخ، داخله الشك في أمره، وأخذ يتفرس في سحنته فرآه يشبه الناسك من جهة، ويشبه من جهة أخرى شخصًا آخر يعرفه، ولم يكن قد رآه منذ بضعة عشر عامًا، فلبث صامتًا لا يتكلم كأنها أصيب بالبله.

فقال له الشيخ: ما بالك؟ ما الذي ربط لسانك يا عامر؟

وما أتم كلامه حتى ترامى عامر على الشيخ وجعل يقبل يديه ويقول: أنت الشيخ الناسك؟ أنت؟

فلما سمع عبد الرحمن ذلك صاح فيه: أين سلمى؟

قال: وما أدراك ببقائها وأنت أخبرتني أنها ماتت ورأيت قبرها محفورًا؟

فقال: قلت لك ذلك وكان هذا اعتقادي واعتقاد عمي عامر، ولكن زينب بنت علي أنبأتنا ببقائها على قيد الحياة، وأنها صحبتها في وقعة كربلاء، ثم إلى دمشق، ثم لم تعد تعرف مقرها.

فنظر الشيخ إلى عبد الرحمن وقال: وهي أيضًا كانت تعتقد أنك ميت حتى أنبأتها ببقائك حيًّا ونحن في كربلاء، ثم علمت أنك خرجت إلى الكوفة في مهمة وانقطع خبرك فيئست من بقائك و …

فقطع عبد الرحمن حديثه وقال: والآن قل لي أين هي سلمى، هل هي معك أم أين؟ قل لي. بالله قل لي.

قال: ألم ترها اليوم؟

قال: أين؟

قال: في هذا القصر.

فأطرق عبد الرحمن ثم قال: لعلها الشخص الذي رأيته وحسبته شابًّا؟ قال: نعم.

فهم عبد الرحمن بالمسير إلى القصر وقد شاعت عيناه وخفق قلبه ولم يعد يصبر عن رؤية سلمى، فمنعه الشيخ وقال: تمهل لأطلعها على خبرك رويدًا رويدًا لئلَّا تضر البغتة بها، وأرى أن تصرفا هذا الرفيق لئلَّا يطلع على شيء من أمرنا.

فقال عامر: إنه رفيق مأجور ليدلنا على الطريق.

قال الشيخ: اصرفه الساعة ونحن نعرف الطريق.

قال: سأرسله إلى بصرى ليسأل عن الشيخ الناسك هناك.

•••

أشرق وجه عبد الرحمن، وأبرقت أسرَّته، وأخذ يتطلع إلى القصر ويتطاول لعله يلمح سلمى.

وعاد الشيخ إلى القصر، فرأى سلمى في الحجرة وقد ملَّت الانتظار لتعلم من هو ذلك الرجل وتستطلع ما دعا إلى تغيير سحنة الشيخ، فلما أقبل عليها ابتدرته بالاستفهام عن سبب ذلك التغيير فقال: دعي عنك ذلك الآن وفكري معي في سبيل للنجاة من الورطة التي نحن فيها.

قالت: وأي ورطة؟ وعلت الحمرة وجهها.

قال: إن هؤلاء الرجال قادمون من عند يزيد للبحث عنك، فهل أخبرهم بمحلك؟

فبغتت سلمى وقالت: قلت لك إني لا أبالي بالموت إذا علمت أن سهمي أصاب مقتلًا من يزيد.

قال: إذا أكدت لك أن يزيد مات من تلك الجرعة، هل تسلمين نفسك إلى رجاله ليقتصُّوا منك؟

قالت: إذا استطعت النجاة فلا ألقي بنفسي بين أيديهم، أما إذا قبضوا عليَّ وأرادوا قتلي فإني لا أبالي، ولكن … وسكتت.

قال: مالك تترددين؟ قولي، إن هؤلاء الثلاثة تتبعوا خطواتنا حتى أدركونا هنا وهم يبحثون عنك فهل أقول لهم أنك هنا؟

فاستغربت سؤاله ولم تفهم أمازحٌ هو أم جادٌّ، فقالت: قلت لك إني إذا نفذ سهمي لا أبالي أن أُقتل إلا إذا كان … وخنقتها العبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء والشيخ صامت لا يتكلم، ثم سألها: إذا كان ماذا؟

قالت والبكاء يغالبها ويخنق صوتها: أراك تهزأ بي، وعهدي بك أحنُّ عليَّ من الوالد على ولده، فما بالك تتجاهل عواطفي؟ على أني مع ذلك لا أستحيي أن أقول: إذا كان حبيبي عبد الرحمن ما زال حيًّا فإني أضن بحياتي وأحب البقاء من أجله، وإلا فإني لا أنتظر رجال يزيد ليبحثوا عني، بل ألقي بنفسي بين أيديهم وأعرض صدري لأسنَّتهم أو أتجرع بقية السم وهو ما زال معي. قالت ذلك وهي تشهق من شدة البكاء.

فأجابها الشيخ بضحكة طويلة طالما سمعتها منه وقال لها: عبد الرحمن؟! ومالك وعبد الرحمن؟ وإذا فرضنا أن يزيد مات وعبد الرحمن ما زال حيًّا صحيحًا معافًى فماذا تقولين؟

قالت: لا تهزأ بعواطفي يا مولاي، فقد كفاني ما أصابني، أستحلفك بالله أن تتركني وشأني.

قال: وما معنى الاستهزاء الآن، إني أقول الجد، وإذا كنت لا تصدقينني فإني أرفع صوتي مناديًا عبد الرحمن فإذا هو بين يديك وعامر معه.

فتفرَّست في الشيخ وقد تملَّكتها الدهشة، وفكرت قليلًا وهي لا تزال تظنُّه يمزح ولكن قلبها خفق خفوق الفرح وكأنه دلَّها على صدق قوله فقالت: نعم ادعُ لي عبد الرحمن، أو قل لي أين هو فأسعى إليه على رأسي ويدي.

قال: بل هو الذي يسعى إليك، تربَّصي ريثما أدعوه إليك. قال ذلك وخرج وهي لا تزال تحسبه يعبث بها، ولكنها سارت في أثره، فما كاد بصرها يقع على الرجلين حتى عرفت عبد الرحمن، فأسرعت نحوه، وأسرع هو نحوها حتى تقابلا، فرمت نفسها بين ذراعيه فضمَّها ودموعها تتساقط من شدة الفرح، وعامر والشيخ واقفان وقلباهما يرقصان فرحًا.

ثم دخلوا جميعًا إلى القصر ويد سلمى في يد عبد الرحمن، وعامر لا يزال يفكر في أمر الناسك ومشابهته رجلًا يعرفه.

ولما دخلوا الحجرة جلسوا يقصُّون ما مر بهم من الحوادث.

فبدأ عامر يقص ما أصابه وأصاب عبد الرحمن منذ ذهبا إلى الكوفة، فقال: ذهبنا إلى الكوفة للبحث عن أمر مسلم بن عقيل، فقبضوا على رفقائنا ونجونا نحن واختفينا في مكان ريثما نرى ما يكون من أمر الحسين ورجاله، فلما علمنا بمقتلهم وإرسال أهلهم إلى دمشق اقتفينا أثرهم إليها فقيل لنا إنهم أرسلوهم إلى المدينة، وكان اليأس قد أخذ منَّا مأخذًا عظيمًا؛ لاعتقادنا بموت الحبيبة سلمى، مع حبوط مسعانا في نصرة الحسين، وسرنا إلى المدينة فأقمنا فيها حينًا، ولم يتفق لنا لقاء زينب إلا بعد وقعة الحرة التي أتم بها يزيد فظائعه.

وكنت في أثناء هذه الوقعة مع أهل البيت، وقد أوصى بهم يزيد خيرًا هذه المرة فلم يصابوا بسوء، فلما انقضت المذبحة لقيت زينب فسألتني: هل لقيت سلمى؟ ثم أخبرتني بما كان من أمرها، وبأنها فارقتها آخر مرة خارج دمشق، فركبنا إلى دمشق وبحثنا عنها فلم ينبئنا منبئ بخبرها، ولكننا فهمنا في أثناء البحث أنك كنت هنا في ذلك الوقت، فترجَّح لنا أنكما سرتما معًا، وبعد التحرِّي علمنا من بعض القادمين من بحيراء إلى دير خالد أنك تقيم إلى جانب بصرى، فجئنا لعلنا نراك ونبحث عن سلمى، فالحمد لله على هذه الصدفة الغريبة.

وقصَّت سلمى ما اتفق لها منذ كانت في قصر يزيد إلى آخر حديثها.

وقص الناسك ما كان من وقعة كربلاء، حتى أتى على حديث الأمس وجرعة العسل فابتدرته سلمى قائلة: لم تخبرني بعد عن سبب تغير سحنتك.

قال: هذا لا أخبرك به الآن، ولكنني أخبرك بسبب تأخري عن الرجوع؛ ذلك أني لما خرجت لجلب الطعام، رأيت أن أستطلع عاقبة تلك الكأس، فهرعت إلى بصرى لأتنسَّم الأخبار، فعلمت أن يزيد ركب في ذلك الصباح وهو يشكو جنبيه، وقد أصابته بحَّة، وهي أول أعراض ذلك السمِّ، وما أظنه إلا مائتًا قريبًا فينجو الإسلام والمسلمون من خلافته.

وكان الشيخ يتكلم وعامر يتأمل في ملامحه وحركاته؛ لمشابهته رجلًا يعرفه، فلما سمعه يذكر قرب موت يزيد، شغله الفرح بذلك عن كل شاغل، وكذلك عبد الرحمن وسلمى، وباتوا تلك الليلة ولم يناموا إلا قليلًا لشدة الفرح.

وفي ضحى اليوم التالي عاد رسولهم الذي أنفذوه إلى بصرى فسألوه عمَّا وراءه فقال: لم أجد الشيخ الناسك، ولكني سمعت بموت يزيد على حدود حوران.

فصاح الشيخ: هل تحققت من موته؟

قال: نعم يا مولاي.

فقال الشيخ: وما سبب موته وعهدنا به صحيح البدن، ولم يجاوز الثامنة والثلاثين؟

قال الرجل: سمعتهم يقولون إنه أصيب بداء الجنب والذبحة، وكأنه ذاب ذوبان الرصاص.

فتظاهر الشيخ بالأسف وأشار إلى عامر أن يصرف رسوله ففعل ثم عاد، وخلا الأربعة في إحدى حجرات صرح الغدير، ولم يمر بأحدهم يوم أسعد من ذلك اليوم، ولا سيما سلمى؛ لأنها هي التي باشرت الانتقام بنفسها.

ونظر إليها عبد الرحمن نظرة المحب المفتون وقال: لا أدري كيف أبدي لك حبي وقد أحرزت أشرف خلال النساء وأندر خلال الرجال، فحويت الجمال والوقار والحكمة والعقل والشجاعة، وحسبك أنك قتلت ذلك الدعيَّ وأنقذت المسلمين من ظلمه، وانتقمت لأبيك انتقامًا عجزنا كلنا عنه.

فقالت سلمى: إني إنما فعلت ذلك لأنه الواجب.

وكان الشيخ في أثناء ذلك شاخصًا في الفضاء كأنه مستغرق في أمر ذي بال، وعامر ينظر إليه من طرف خفي ويتفرس في وجهه لمشابهته رجلًا يعرفه، وهو عزيز عليهم جميعًا، ثم انتبه الشيخ الناسك كأنه هبَّ من رقاد والتفت إليهم وقال: آن لي أن أقص عليكم ما تتساءلون عنه من خبري. تعالوا معي. فساروا في أثره حتى دخلوا غرفة، فجلس وقد تغير وجهه وبان الجد في عينيه وكأنه كان مصابًا بالجنون وعاد عقله إليه في تلك الساعة، وظهر ضعف الشيخوخة فيه، وقبل أن يقص حكايته التفت إلى عامر وقال: ألم تعرفني يا عامر؟

فتفرس فيه عامر وقال: قد عرفتك الآن فقط، ألست عديًّا والد حُجْر؟

قال: نعم.

فلما قال ذلك التفتت سلمى إليه وقالت: جدِّي؟

قال: نعم يا حبيبتي، ولعلك أدركت شيئًا من ذلك يوم سمعتِني أرثي الحسين في سهل كربلاء.

فترامت سلمى على يديه تقبلهما، فقبلها عدي وهو يبكي ويشهق، وبكى عبد الرحمن وقبَّل يد الشيخ، ثم عاد الشيخ إلى إتمام الحديث فقال: أما سبب تكتُّمي فذلك أني لما أصبت بمقتل حُجْر لم يعد يحلو لي البقاء، ولكن قلبي ظل عالقًا بالانتقام، فعلَّلت نفسي بموت معاوية ومبايعة الحسين، وجعلت مقامي فوق قبر ابني في غوطة دمشق أستنشق ترابه وأتنسم ريحه، فلما لم يظفر الحسين بالبيعة، وتولى الخلافة يزيد، صبرت في انتظار الفرج أو الموت، فلما جئتم إلى دير خالد واجتمعتم تحت الجوزة وتعهد عبد الرحمن بقتل يزيد، كنت أنا مختبئًا في أعلاها، وأنا القائل لكم في تلك الليلة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، وظللت كاتمًا أمري وأنا أسعى في مساعدتكم جهدي، وأخفي وجهي حتى لا يعرفني عامر، وقد عاهدت الله منذ مقتل حُجْر ألا أقص شعري ولا آكل غير الفاكهة ولا آوي إلى المنازل، فلما علمت أمس بقرب موت يزيد حللت نذري وقصصت شعري كما ترونني.

وسكت الشيخ قليلًا ثم قال: أما وقد مات يزيد، فقد آن لي أن أُسلم الروح، وإني أوصيكم بتقوى الله، والتفاني في نصرة أهل النبي، فأقيموا بمكة وحجُّوا إلى كربلاء وابكوا قتلاها ما استطعتم، وسيقتص الله من القوم الطاغين.

قال ذلك وقد تلجلج صوته، وكلهم يبكون ويعجبون، ثم توسد وتمطَّى وهو يقول: إني أتلقى الموت بالترحاب. وما أتم قوله حتى أسلم الروح.

فبكوه وهم في دهشة من أمره، ثم دفنوه في أصيل ذلك اليوم.

وبعد أيام رحلوا عن البلقاء، حتى أتوا مكة وفيها ابن الزبير ولا سلطان للأمويين فيها، فعقدوا لعبد الرحمن على سلمى، وعاشوا في هناء وسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤