الفصل الثالث

غادة كربلاء

وأنبئ الرئيس بدخولهم، فنزل لملاقاتهم ورحَّب بهم ودعاهم للجلوس، فأنسوا بفصاحة لسانه العربي وإن تكن العجمة ما زالت بادية فيه، وجلس على مقعد تحت الصفصافة وكل منهم في شاغل من نفسه، فتفرس الرئيس فيهم فرأى أحدهم كهلًا في نحو الخمسين من عمره، طويل القامة، عريض الأكتاف، خفيف العضل، واسع العينين أسودهما، خفيف العارضين واللحية، رقيق الوجه، فتذكر أنه رآه غير مرة، وكان الثاني شابًّا لا يتجاوز بضعًا وعشرين سنة، ولكن من يراه يحسبه ابن ثلاثين؛ لخصب جسمه ونمو عارضيه ولحيته، وكان مشرق الوجه تكاد الصحة تتدفق من وجنتيه.

وأما الفتاة، فلم يتمالك الرئيس عند النظر إليها من الإعجاب بجمالها؛ إذ لم يسبق له أن رأى فتاة مثلها في عمره الطويل الذي قضاه في دمشق وضواحيها، على كثرة ما شاهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود، ولم تقع عينه من قبل على فتاة في وجهها من الجمال والهيبة ما في وجه هذه الفتاة، وقد أدهشه منها بنوع خاص جمال عينيها وإن لم تكونا كبيرتين كعيني رفيقها الشاب، ولكنهما كانتا حادَّتين ينبعث النور من أهدابهما، جذَّابتين لا يستطيع من يراهما غير الاستسلام لهما والرضوخ لسلطانهما، وقد زادهما تأثيرًا في القلوب أنهما كانتا في وجه ناضر، وقد توردت وجنتاه حتى كاد الدم يقطر منهما.

والتفت الرئيس إلى بساطة ثوبها فخُيِّل إليه أنها من الفقراء، وقال في نفسه: إذا كان أبوها فقيرًا بالمال فإنه غني بهذه الفتاة. إنها لو حسرت أكمامها وأزاحت لثامها لعلم أنها ليست من الفقر في شيء؛ لما بأذنيها من أقراط اللؤلؤ، وما في معصميها من الأساور والدمالج من الذهب والفضة والعاج، ناهيك بما يراه حينئذٍ من جمال فمها وما فيه من المعاني السالبة للقلوب مما يقصر دونه القلم ويكلُّ عن وصفه اللسان. والجمال الذي يعبر عنه باللسان أو القلم ليس جمالًا، وإنما هو صورة يصنعها الكاتب أو المتكلم ألفاظًا، وأما الجمال فما أعجزك عن وصفه، وخانتك القريحة في التعبير عنه. ذلك هو جمال سلمى عروس روايتنا؛ فقد كان في محيَّاها شيء لا يعبَّر عنه إلا بالسحر، فلا يراها أحد إلا شعر بميل إليها، ولا يكلمها حتى يقع تحت سلطانها فلا يقوى على جدالها، فضلًا عمَّا يبدو عليها من مخايل الذكاء وحدَّة الذهن وأصالة الرأي، مع ما يتجلى في وجهها من عزة النفس والأنفة.

وكان الرئيس لما رأى أولئك الضيوف قد ظنَّهم لأول وهلة أبًا وولديه، ولكنه ما لبث أن تبين من تباين الملامح أنه ليس أباهما، وإن تكن المشابهة قريبة بين الشاب والشابة.

فافتتح الرئيس الحديث قائلًا: يظهر أنكم قادمون من مكان بعيد، لعلكم من العراق؟

فأجاب الكهل قائلًا: نعم يا سيدي، إننا قادمون من الكوفة بأحمال التمر إلى أسواق دمشق.

ولم يكد يتكلم كلامه حتى كان الرئيس قد تذكره وعرف اسمه فابتدره قائلًا: ألست عامرًا الكندي؟ فابتسم عامر وقال: نعم، أنا هو يا سيدي، وقد كتمت أمري لأرى هل تذكر ضيفك القديم؟

فتنهد الرئيس وقال: وكيف لا أذكره وقد شاهدت من أيام ضيافته يومًا هائلًا؟! إني لا أزال أذكر تلك الساعة الرهيبة تحت الجوزة.

فأشار عامر بملامح وجهه إشارة تنمُّ عن أنه لا يحب تلك الذكرى المؤلمة، وأراد استئناف الحديث فسبقه الرئيس إلى السؤال قائلًا: لعل هذا الشاب ابنك وهذه الفتاة ابنتك، ما اسماهما؟

فتوقف عامر لحظة وهو يحكُّ طرف ذقنه بسبابته ثم قال: نعم إنهما ولداي: عبد الرحمن وسلمى.

فاكتفى الرئيس بذلك وقد لحظ أن في نفس عامر شيئًا يريد كتمانه، فتشاغل بحصى كانت في جيبه جعل يعدُّها بين أصابعه في داخل الجيب، وكانت هذه الحصى تقوم مقام السبحة عند الرهبان في تلك الأيام؛ لأنهم كانوا يفرضون على أنفسهم صلوات معدودة في اليوم فيضعون في جيوبهم من الحصى بقدر ذلك العدد، وكلما فرغوا من صلاة رموا حصاة حتى يفرغ الجيب، فيكون هذا دليل إتمام الفرض، ولم تُتَّخذ السبحات في النصرانية إلا في القرن الثالث عشر للميلاد، فتشاغل الرئيس بتلك الحصى وحوَّل الحديث إلى موضوع آخر فسأل: في كم يوم قطعتم الطريق من الكوفة إلى هنا؟

قال عامر: قطعناها في عشرين يومًا مع القافلة.

فقال الرئيس: وهل تكبدتم هذا السفر الطويل للاتجار بهذه الثمار؟! إنها لا تباع بما يساوي تعبكم في حملها.

فاشتمَّ عامر من سؤال الرئيس رائحة الارتياب ولم يرَ بدًّا من إزالة كل شك في نفسه فقال: صدقت يا مولاي، ولو كان الأمر لبيع هذه البضاعة فقط ما تكبَّدنا المشقة من أجلها، ولكننا نبيعها ونبيع الجمال أيضًا، وهي تباع بثمن غالٍ وأرباحها أضعاف أرباح التمر، وفي عودتنا نتجر في تجارة أخرى نحملها من دمشق إلى العراق، ثم تذكر أن مجيء سلمى معه غير عاديٍّ، فراح يبرِّره بقوله: أما سلمى فأرادت أن تأتي معنا للتفرج على دمشق ومعالمها، فرأينا ذلك أولى لها من البقاء في الكوفة وحدها في أثناء غيابنا.

•••

وكان عامر والرئيس يتحدثان وسلمى تنظر إلى شيخ متكئ في زاوية الباحة وبجانبه كلب كبير الهامة أسود اللون قوي البنية أقعى على مؤخَّره، وقد نصب يديه واعتمد عليهما كأنه أسد رابض، واتجه إلى سلمى كأنه يتأمل وجهها وعيناه تتلألآن كالمصباح.

وأما الشيخ المتكئ فإنه استلفت انتباه سلمى بنوع خاص لغرابة هيئته وخشونة لباسه، ولم تكن قد رأت مثل ذلك الرجل قط ولا سمعت بمثله؛ إذ كان من الشيخوخة بحيث لم يبقَ في رأسه ووجهه شعرة سوداء حتى يُخيَّل إلى الناظر إلى رأسه عن بعد أنه عمامة بيضاء قد برز منها أنف وعينان سوداوان غائرتان أحدق بحدقتيهما قوس الشيخوخة، يعلوهما جبين متجعد، ومما يزيد منظره رهبة أنه لم يمشط شعره ولا غسل وجهه منذ أعوام، فأصبح الشعر ملبَّدًا لا يسلك فيه مشط، وكان ساعة رأته سلمى يحكُّ لحيته ورأسه، يحاول تمشيطهما بأظافر مستطيلة كالمناجل! وأغرب من ذلك أنها لم ترَ عليه من اللباس إلا ثوبًا من نسيج الشعر كالمُسُوح التي يلبسها النُّسَّاك، أو هي عباءة أصبحت لقِدم عهدها لا يُعرف لها لون.

وكان الشيخ متكئًا بجانب الكلب وقد غلبه النعاس، فكان يغمض جفنيه فينام وهو لا يريد أن ينام، وكلبه بالقرب منه، وكلاهما مستأنس برفيقه.

وكان عبد الرحمن أيضًا مأخوذًا بذلك الشيخ الهرِم وبكلبه، ينظر إليهما مفكرًا، فلما ذكر عامر اسم سلمى انتبهت والتفتت إليه والدهشة ظاهرة في وجهها، وأشارت إلى ذلك الشيخ وهي تقول: أدهشني أمر هذا الشيخ، وأرى عبد الرحمن قد استغربه مثلي.

فسمع عبد الرحمن اسمه فالتفت لفتةً تدل على تعجُّبه مثلها، فأشار الرئيس إليهم بإصبعه وعض شفته، ودنا منهم فتطاولوا إليه بأعناقهم فقال لهم همسًا: إن هذا الشيخ أشبه الناس بالنُّسَّاك والمتعبدين، ولكنه يخالفهم في أمور كثيرة وكأن به خبلًا! جاءنا منذ أعوام فأقام عندنا، وهذا الكلب الأسود قلَّما يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ولم نرَه مرة غسل وجهه أو قلَّم أظافره أو غيَّر ثوبه، ومن غريب أمره أنه لا يأوي إلى غرفة ينام فيها؛ فهو يتوسد يومًا هذه الزاوية، ويومًا تلك، وآونة يبيت في الغوطة على بعض الأشجار أو تحت بعضها، ومن أغرب ما فيه أنه لا يذوق اللحم ولا الخبز، ولا يأكل شيئًا غير الفاكهة، فيطوف البساتين يقطف الثمار بيده ويتسلق الأشجار لهذه الغاية لا يعترضه معترض منَّا رحمة به وشفقة على حاله، والفاكهة هنا كثيرة.

فقال عامر: لا بدَّ أن يكون ذا كرامة؛ لأن أمثال هذا الرجل يُعدُّون عندنا من أصحاب الكرامات.

وبينما هم يتهامسون إذ سمعوا قرع الناقوس، فخفَّ أحد الرهبان ليستقبل القادم، فطال وقوفه خارجًا ولم يعُد، فنهض الرئيس في أثره.

•••

وكانت سلمى قد مدَّت يدها نحو الكلب وأشارت إليه تدعوه، فهرول إليها مسرعًا، فناولته ثمرة كانت في جيبها، فاستأنس بالفتاة وجعل يحكُّ رأسه بثوبها، وهي تمسُّ جبينه بأناملها فيبالغ في الدنوِّ منها وهو يحرك ذنَبه، فلما سمع قرع الناقوس انتصب بغتة ورفع ذنَبه والتفت إلى باب الدير وحدَّق بعينيه ونشر أذنيه كأنه يتوقَّع أن يرى أحدًا وقد تأهب للوثوب عليه.

فلما طال وقوف الرئيس خارجًا نبح الكلب نبحة قوية ذُعر لها الجالسون وبخاصَّة الشيخ الناسك، وكان نائمًا فأفاق والتفت إلى ما حوله فرأى كلبه بعيدًا عنه فناداه: شيبوب! فدنا الكلب منه وجعل يلحس أنامله وذراعه والشيخ يقول: أهلًا برفيقي الصديق، ما ظنُّك بهذا القادم، يظهر لي من عوائك أنك أسأت الظن به.

فلما سمع عامر صوت الشيخ يتكلم العربية الفصحى وقد سمَّى كلبه باسم عربي جاهلي قال في نفسه: يظهر أن الرجل عربي أيضًا، فمن هو يا ترى وما هو شأنه.

أما الرئيس فكان قد لحق براهبه فرأى بالباب رجلًا في لباس يشبه لباس عامر ورفيقيه، ولكنه أجفل لما رآه في وجهه من البرص الشديد إلى درجة البياض الناصع، على أنه ظنه لأول وهلة رفيقًا لعامر وقد تخلَّف في الطريق فرحب به وقال له: ادخل إن رفاقك هنا منذ ساعتين.

فأومأ إليه الرجل أن يسكت واجتذبه بيده إلى منعطف وراء الباب حيث لا يراهما أحد وقال له: احذر أن تذكر أمر مجيئي لأحد، وبخاصَّة أولئك الثلاثة الذين ظننتهم رفاقي، فإن في الأمر سرًّا عظيمًا سأطلعك عليه فيما بعدُ، وأما الآن فأرجو منك أن تدخلني غرفة لا يراني فيها أحد ولا يعلم أحد بوجودي هنا، وأقول لك مرة أخرى: احذر جيدًا، فالأمر يتعلق بمولانا أمير المؤمنين.

فأجفل الرئيس وأجاب على الفور قائلًا: إني فاعل ما تريد، وإذا شئت أن أخرج هؤلاء الأضياف من الدير في هذه الساعة فعلت.

قال: لا تخرجهم، بل استبقِهم كما يشاءون، ولكنني أوصيك بأن تكتم خبر مجيئي.

قال: سمعًا وطاعة، وأدخله من باب في تلك الطرقة يؤدي إلى ممر يستطرق إلى حجرات يقيم بها الرهبان الذين يشتغلون بالصناعات، وفيهم الحائك والخياط والنجار وصانع النعال أو السلال وغيرهم، في حين لم يكتم الضيف الأبرص دهشته مما يراه وكأنه في بعض أسواق الكوفة، على أنه لم يستغرب ملابسهم؛ لأنه كان قد رأى رهبان العراق في مثلها، وهي مسوح من نسيج الشعر أو القطن فوقه جلد أبيض من جلود الماعز لا يفارق أجساد الرهبان ليلًا ولا نهارًا إلا وقت تناول الأسرار المقدسة.

ومشى الرئيس حتى انتهى إلى غرفة بجانب الكنيسة، فأدخله إليها وهو يردد في ذهنه ما سمعه منه، ثم عاد إلى ضيوفه في ساحة الدير واختصر في مجالستهم ومحادثتهم، فأمر بعض الرهبان أن يعدَّ لهم مكانًا يقيمون به، فأدخلهم غرفة ليس فيها إلا حصير، وعاد، فأغلقوا الباب وجلسوا يتهامسون.

وكان أول من تكلم منهم عبد الرحمن، فخاطب عامرًا قائلًا: ألم أقل لك إنك أخطأت بمجيئك في أثري إلى هذه الديار؟ ولو أتيت وحدك لكان خيرًا، ولكنك اصطحبت سلمى فأوجبت إساءة الظن بنا، حتى سمعت من رئيس هذا الدير ما سمعته من التلميح والتعريض.

فقال عامر: قلت لك يا بني، إنني إنما جئت بدافع مما أخذته على عاتقي من أمر حراستك؛ فإنك بمنزلة ولدي، وقد مات أبوك وأوصاني بكفالتك، ورأيتك تورطت في عمل خطير لم يقدِم عليه أحد قبلك، وأردت أن تأتيه منفردًا في بلاد غريبة، فكيف لا أتبعك؟ وأما سلمى فإنها أشد قلقًا مني عليك.

فقال: أتخطئني في عمل أنتقم به لآل الرسول وأنجي به المسلمين؟

فقطعت سلمى عليه الكلام بصوت هادئ والرزانة بادية في وجهها وقالت: لا ريب في أن ما جئت لأجله أمر مقدس، وإذا أنت لم تقم به فأنا أتولَّاه، ولعلِّي أولى به منك؛ فإن الرجل الذي تريد قتله وإراحة الناس منه قد أساء إليَّ، وبيني وبينه ثأر عظيم، فإنك تعلم أن أباه قتل أبي شرَّ قتلة. قتله وأنا لم أرَه ولا عرفت له صورة، قتل «حُجْرًا الكندي» سيد قومه ووجيههم، وقد قتله لأنه أبى أن يطيعه ويلعن الإمام عليًّا ابن عم رسول الله ، والله لقد حق القتل على يزيد، إن لم يكن انتقامًا للإمام علي فانتقامًا لحُجْر بن عدي، وإن لم يكن لهذا أو ذاك فإنقاذًا للعباد من سلطانٍ شغل عن مصالح الخلافة بتربية الكلاب والقرود والفهود، ومجالسة النساء، والصيد والقنص، والشعر وضرب الطنابير والشراب، ناهيك بتهاونه في أمور الدين. فالإقدام على قتله فضيلة، ولكنه عمل خطير محفوف بالمخاطر؛ أنَّى لك أن توفق إلى ذلك وأنت فرد ويزيد خليفة، يحيط به الأعوان والأنصار في الليل والنهار؟! إني أخاف عليك مما أصاب ابن ملجم الذي تجرأ على قتل الإمام علي وسط المسجد ولم ينجُ من القتل، فهل تعرِّض نفسك لمثل ذلك الخطر؟

وكان عبد الرحمن جالسًا وسلمى تتكلم، فلما بلغت هذا الحدَّ وقف وجعل يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا، وعليه مظاهر الاهتمام، ثم قال: سامحك الله يا سلمى، إذا كنت وأنت فتاة تتطوعين لقتل هذا الرجل، وترين ذلك فريضة وفضيلة، فكيف ترضين لي أن أحجم عن ذلك، وإن ضحيت في سبيله بحياتي؟

فقطعت كلامه قائلة: لا تضحِّ حياتك حماك الله من كل شرٍّ. هذا هو الأمر الذي دفعني إلى اللحاق بك مع عمي هذا. خرجت من الكوفة تريد قتل يزيد في دمشق الشام، ومن هو يزيد؟ أليس خليفة المسلمين الآن وفي يده الحل والعقد، وحوله الجند والأعوان؟! فخفنا أن تقع بين يديه أو يصيبك شر، فلحقنا بك لنكون بقربك نبذل لك العون، إذ لا صبر لنا على بعدك. أما يزيد فأنا لا أرى راحة إلا بقتله، وما كان أغنانا عن ارتكاب هذه الجريمة لو أن أباه ترك الخلافة بعده شورى للمسلمين، وإذن ما كان ليتولاها إلا حبيبنا وسيد شباب المسلمين الإمام الحسين؛ لأنه أحق الناس بها، ولكن معاوية أبى إلا أن يوصي بها لابنه هذا بالرغم من كل مسلم، فكيف نسكت على ذلك؟ وزد على هذا أن معاوية قتل أبا حُجْر شرَّ قتلة، فإذا كنت أنت ناقمًا لقتل حُجْر لأنه عمك، فإنه أبي، وقد قتل ولم أرَه، ثم إنكم لم تنبئوني بمصيره إلا من عهد قريب، فقد رُبِّيت في البادية صغيرة لا أعرف غير اللعب والمرح وأنا أحسب أبي حيًّا في الكوفة، والناس إذا ذكروه أطنبوا في مدح مروءته وشهامته، وكنت أتوقع إذا شببت أن آتي إليه فأراه وأفاخر به الناس، فما لبثت حتى علمت بقتله.

قالت ذلك وغصَّت بريقها وتوقفت عن الكلام هنيهة ثم قالت لعامر: وأنت يا عماه ألا تخبرني كيف كان قتل أبي؟ إنك قد وعدتني بذلك حين نصل إلى قبره، وها نحن وصلنا، فأين ما وعدتني به؟

فتنهد عامر وقال: نعم يا بنيتي إني أعرف مدفنه، وأظن رئيس هذا الدير يعرفه أيضًا. ألم تسمعي إشارته إلى ذلك العمل الفظيع؟

قالت: سمعت ولم أُظهر شيئًا؛ لأننا نريد كتمان أمرنا عن كل إنسان لنرى ما ينتهي إليه حالنا.

وكان عبد الرحمن ما يزال يخطر في الغرفة وقد حلَّ عقاله وأرخى الكوفية على أكتافه وراح يردد بصره في سلمى وهي تتكلم معجبًا بحميَّتها، فلما قالت ذلك أجابها: اعلمي يا سلمى يا بنت عمي وخطيبتي ويا أملي ويا منتهى أربي، اعلمي رعاك الله أني لا يهنأ لي عيش حتى أنتقم لأبيك المدفون في هذا المرج، مرج عذراء، فإذا وُفِّقت إلى ذلك فقد حق لي أن أكون لك وتكوني لي كما أوصى أبوانا وهما من الأحياء، وإذا لم أوفق فلا آسف على حياتي.

فصاحت وقد كاد الحياء يغلبها وهي تحاذر أن ترفع صوتها خوف الرقباء: حياتك أعزُّ حياة عندي، وما معنى بقائي إذا أنت أصبت بسوء! فكيف تلومني إذا لحقت بك؟ وأما عمنا عامر فإنه لنا بمنزلة الأب وقد انقطع عن العالم من أجلنا، وهو رفيقنا في السراء والضراء.

وكان عامر مع شدة إعظامه الأمر لا يمل النظر إلى سلمى متتبعًا كل حركاتها وسكناتها وهي تتكلم، ثم ينظر إلى عبد الرحمن، ويعجب بما أودعه الخالق فيها من الخلال النادرة.

•••

وأدرك القارئ من خلال الحديث أن سلمى هي ابنة حُجْر بن عدي قتيل مرج عذراء، وأن عبد الرحمن ابن عمها وخطيبها، وعامرًا كفيلهما.

وتفصيل ذلك أن سلمى وُلدت في الكوفة قبل مقتل أبيها بثمان سنوات، فعهد في أمرها إلى امرأة عامر ترضعها عند زوجها في البادية، وكانت تلك عادة المتحضرين من العرب، إذا وُلد لهم مولود عهدوا في رضاعته إلى بعض نساء البادية، فيربَّى في الخلاء حيث الهواء الطلق والعيش الرغيد، فيشبُّ أولادهم أصحَّاء البنية أشدَّاء، فرُبِّيت سلمى في حُجْر عامر ثماني سنين لم ترَ فيها أباها. فلما سيق إلى مرج عذراء سنة ٥١ للهجرة مع آخرين كانت أمها قد ماتت، وكان آخر ما قاله حُجْر أن أوصى عامرًا بالعناية بها وأن يتخذها ولدًا له، وأن يزوجها بعبد الرحمن، ولكن بعد موت معاوية بن أبي سفيان، فظلَّت في حجره حتى شبَّت، وكان عامر كثير التردد على الشام للتجارة منذ صباه، وبنو كندة ما زالوا على النصرانية، فكان إذا جاء الشام أقام بها حينًا يتردد الأديار والكنائس يجالس أهل المعرفة فيقصُّون عليه شذرات من تاريخ اليونان وما يتعلق به من تواريخ الشام وغيرها، وكان يحفظ كل ذلك ويتفهمه حتى عُدَّ بين رهطه من أحسنهم معرفة وأوسعهم اطلاعًا على التاريخ، وآنس عامر في سلمى ذكاء ورغبة في استطلاع أقاصيص الأولين، فكان يقص عليها كل ما اتصل به من أخبار الفرس والروم وما بينهما.

وكانت كثيرًا ما تسأله عن أبيها فيكتم عنها خبر مقتله، حتى اتفق منذ عامين أن ذكر الناس خبره وهي تسمع، فاستطلعته الحقيقة فباح لها بها، فثارت حميَّتها، وهاجت عواطفها، وعزمت بينها وبين نفسها على الانتقام.

وأما عبد الرحمن ابن عمها فقد رُبِّي معها في تلك البادية منذ كانا طفلين على أن تكون زوجة له، وقد مات أبوه وهو طفل فكفله عامر، فلما بلغ أشده وسمع بمقتل عمه حُجْر وما أعظمه الناس من أمره عزم على أن يثأر له، وكان كسائر بني كندة وغيرهم من دعاة أهل البيت لا يرون لمعاوية حقًّا في الخلافة، فشبَّ هو وابنة عمه على كره الأمويين والتشيع لآل البيت، وكان معاوية ما زال حيًّا والناس يتوقعون موته ليبايعوا الإمام الحسين، فصبر على ما في نفسه، وقد نزل هو وعامر الحجاز ومعهما سلمى وأقاموا بالمدينة في منزل الإمام الحسين زمنًا ينتظرون ما يأتي به القدر.

وقضت عليهم الأحوال قبيل وفاة معاوية أن يعودوا إلى الكوفة، فبلغوها وقد مات معاوية، وجاء الخبر بمبايعة يزيد فعظُم ذلك على عبد الرحمن، وأقسم لا يفرحنَّ حتى يقتل يزيد، ووافقته سلمى على ذلك، وعامر لا يبدي اعتراضًا، ولكنه لم يكن يحسب أن عبد الرحمن سيقدِم على ذلك لتوِّه. فأصبح عبد الرحمن ذات يوم فودَّع سلمى وعامرًا، وأخبرهما أنه عازم على السفر إلى دمشق ليبرَّ بقسمه، فاستمهلاه وهو لا يصغي، وأخيرًا ودَّعهما وخرج يريد دمشق، وفي مساء يوم سفره تعاظم بلبال سلمى، فلم يهدأ لها بال حتى لحقت به هي وعامر بحجة الاتِّجار بالتمر، فالتقيا به في القافلة قبل الغوطة بقليل، فساءه ذلك ولامهما على مجيئهما، ولكنه لم يرَ حيلة في إرجاعهما، فجاءوا معًا إلى الدير كما مرَّ، وبعد أن دار ما دار بينهما من الحديث قالت سلمى: لا بدَّ لنا من تدبر الأمر بالحكمة؛ أما قتل يزيد بين رجاله وجنوده فتهوُّر لا نرضاه لك ولا هو مستطاع. فهل من رأي صائب رأيته في الوصول إلى الغاية؟

فلما سمع عبد الرحمن كلامها رجع إلى صوابه، وجلس وهو يصلح وضع كوفيته على رأسه وقال: إنك تنطقين بالحكمة، ولا تظنيني من الجهل بحيث أقتحم هذا الأمر بجهالة، ولكنني رأيت رأيًا سأعرضه عليكما وأظنكما توافقانني عليه.

قال عامر: وما هو؟ قال: إنه لا يمضي أسبوع لا يخرج فيه يزيد للصيد؛ لأن له ولعًا شديدًا، فيخرج بحاشية كبيرة بين فارس وراجل إلى هذه الغوطة؛ لكثرة ما فيها من الطير والظباء. وأعرف قرية على مقربة من هنا يقال لها: «جرود»، يكثر فيها حمار الوحش، وهو مولع بصيده، فإذا أوغل في الصيد خرجت متنكرًا أراقب انفراده خلف طريدة فأرميه بنبل أو أطعنه بخنجر، فإذا لم أتمكن في المرة الأولى حاولت ذلك في الثانية أو الثالثة حتى أظفر به وأكفي الناس شرَّه.

فلما سمعت سلمى قوله ابتسمت وأبرقت عيناها سرورًا بصواب رأيه وقالت: أنت رأي حسن، ولكن علينا أن نراقب خروجه للصيد.

قال عامر: ذلك عليَّ، فإذا أصبحنا غدًا دخلت دمشق بأحمالي وتجارتي واستطلعت خبر الصيد.

فقالت سلمى: على الله التوفيق، ولكنني أرجو منك يا عماه أن تدلنا على قبر أبي فنزوره وأكحِّل عيني بترابه، وأسمع منك خبر مقتله بالتفصيل.

قال: إن القبر يا ابنتي على مسافة ربع ساعة من هذا الدير، تحت شجرة من الجوز كبيرة تظهر للرائي عن بعد، ولكننا لا نستطيع الذهاب إليها إلا ليلًا لئلَّا يرانا الرئيس أو غيره ممن يعرفون المكان فيشتبه فينا.

وقضوا بقية ذلك اليوم في الاستراحة من وعثاء السفر وهم يتأهبون للخروج في الليل إلى قبر حُجْر.

•••

ولما غربت الشمس صعدوا إلى سطح الدير وهم يتظاهرون برغبتهم في تفقد منظر الغوطة ليلًا، فلقيهم رئيس الدير وكان جالسًا في أحد جوانب السطح يصلي على انفراد، فتغافلوا عنه وجعلوا يتحادثون، حتى إذا فرغ من صلاته نهض واقترب منهم، وكان القمر بدرًا كاملًا، فما أزف الغروب حتى أطل من وراء الأفق، كأنه يتطلع إلى الشمس يبغي وداعها وهي تتجاهل غرضه، وظلت سائرة في سبيلها لا تلتفت إليه ولسان حالها يقول: إذا كنت تبغي لقائي فاتبعني. وكأنه شعر بحاجته إلى نورها فجرى في أثرها يتبع خطاها ويسترق من أشعتها حبالًا يرسلها على تلك الغوطة الواسعة الأطراف، وفيها من الفاكهة أزواج، ومن المياه أقنية وبحيرات، ينعكس النور على أسطحها متلألئًا كالمصابيح، ولم تمضِ ساعة حتى علا البدر فأنار تلك الحدائق الغنَّاء فأصبحت بحرًا كثير الألوان، ينوب فيه عن هدير الأمواج حفيف الورق وخرير المياه وزقزقة الطيور وهي عائدة إلى أوكارها أسرابًا متكاثفة، تسبِّح الخلاق العظيم.

وشُغل عامر بالحديث مع الرئيس، أما سلمى وعبد الرحمن فإنهما لبثا واقفين يتأملان في ذلك المنظر البديع، وسلمى قلقة تفكر فيما يهدد عبد الرحمن من الخطر المقبل، وتحاول أن تلهي نفسها بالنظر إلى ما أمامها من الأشجار الباسقة والينابيع الجارية والأشعة المتلألئة، وما يتخلل ذلك من تغريد العصافير وأصوات الماشية في الحظيرة من معاء الماعز وخوار الثيران وجعجعة الجمال، على أن هذا كله لم يُلهِها عن مقتل أبيها وما تتوقعه من سماع حديث عامر تلك الليلة.

وأما عبد الرحمن فقد كان همُّه تدبير الحيلة لبلوغ أربه من يزيد، لا يعير الغوطة ولا مناظرها التفاتًا، ثم حانت منه لفتة إلى سلمى وهى تنظر إلى الغوطة وقد أطل عليها البدر ووقع ضوءُه على وجهها، فكأنهما قمران تلاقيا على موعد، فثار فيه ثائر الحب، وأعجب بما في ابنة عمه من جمال المعاني، وتذكر إعجاب الشعراء بجمال البدر فقال في نفسه: أين تلك الصفحة المستديرة الصماء من هذا الملاك الناطق الذي ينبعث نور الحياة من محيَّاه! وكأن لسان حاله يقول:

بدر أرقُّ محاسنًا
والفرق مثل الصبح ظاهر

وكان عامر يحدِّث الرئيس في شئون شتَّى لا علاقة لها بما في نفسه من أمر حُجْر وعزمهم على زيارة قبره تلك الليلة، وكان نظره متجهًا إلى الجوزة التي يعرف أنها تظلل ذلك القبر، وهو يغافل الرئيس في ذلك لئلَّا يلحظ تطلُّعه، حتى إذا وقع نظره على تلك الجوزة عرفها عن بعد من كبرها وانبساط أغصانها، فتنهَّد عميقًا وجعل يتفرس في الطريق المؤدي إليها، ثم التفت إلى الرئيس فقال له: سبحان الخالق العظيم! ما أجمل هذه الليلة المقمرة، وما ألطف هذه المناظر البديعة.

قال الرئيس: إن هذا يدلُّنا يا ولدي على قدرة الباري سبحانه وتعالى. إني أقف هذا الموقف فيدفعني جماله إلى شكر العناية العظمى التي أعدَّت للإنسان كل ما يحتاج إليه في هذه الحياة الدنيا.

فقال عامر: سبحانه جل سلطانه، ما أجمل صنعه! وما أبدع مخلوقاته! إن في العراق كثيرًا من البساتين الغضة ولكن أكثر أشجارها من النخيل. أما أصناف الفاكهة التي أراها في هذه الغوطة فإنها خاصَّة ببلاد الشام، وتحدثني نفسي أن أخرج في هذا الليل أستمتع بشذا الرياحين وأجول بين الأشجار، فهل ما يمنع من ذلك؟

قال: لا أرى مانعًا يمنعكم، غير أني أفضِّل النظر إليها من فوق هذا السطح؛ فإنه أوسع أفقًا، وبخاصَّة في ضوء القمر.

قال: الحق ما قلت، ولكنني سمعت ابنتي هذه تتشوق إلى الخروج فوعدتها بأن أرافقها فنمشي هنيهة ثم نعود.

قال: لا مانع من خروجكم، وإذا شئتم أرسلت معكم بعض الرهبان يرشدكم ويسير في خدمتكم.

قال: إني أعرف الطريق جيدًا فلا حاجة بنا إلى دليل.

قال: افعلوا ما بدا لكم.

فاتجه عامر إلى عبد الرحمن وسلمى وقال لهما: هلمَّ بنا إلى الغوطة نتمشى بين أشجارها، فقد أذن لنا الرئيس بذلك.

فنهضا، وتحولوا جميعًا فنزلوا إلى ساحة الدير وأطلوا منها على الحجرة التي كانوا مقيمين بها أثناء النهار، فرأوا بابها مفتوحًا، فأسرع عامر وأغلقه، وبينما هو عائد رأى كلب الناسك نائمًا بالقرب من الباب ولم يرَ شيخه معه، فعجب لذلك؛ لأنه كان قد سمع أن الشيخ الهرم قلَّما يفارق كلبه ليلًا أو نهارًا.

وكان عبد الرحمن وسلمى قد سبقاه إلى باب الدير، فخرج في أثرهما وهو يقول: لقد رأيت شيبوب نائمًا وحده بقرب حجرتنا فأذكرني ذلك الشيخ الجليل، ومما أدهشني من أمره أنه يتكلم العربية الفصحى وفي لهجته ما يقارب لغة العراق، ووالله لقد تمنيت أن أخلو به لأسأله عن أصله.

قالت سلمى: أين هو من العراق? وما الذي يأتي به إلى هذه الديار؟ إني أراه رجلًا له، ولكنني استأنست بشيبوب، ليتنا نصطحب هذا الكلب؛ فإنه قد يدفع عنا أذى الدبابات أو ينبهنا إلى لص قادم.

فقال عبد الرحمن: دعونا من هذا الرفيق، فإننا في حاجة إلى التستُّر.

وكانوا قد وصلوا إلى باب البستان ففتحوه وخرجوا إلى الغوطة وهم يتظاهرون في بادئ الأمر بأنهم يريدون التنزُّه مشيًا. حتى إذا تواروا عن الدير أوغلوا بين الأشجار المتكاثفة، وعامر يسير أمامهما، وسلمى وعبد الرحمن يتبعانه، تارة يطلعون وطورًا ينزلون، وهم يتحسسون الطرق على ضوء القمر المنبعث من خلال الأغصان.

وما زالوا يقطعون قناة هنا، أو يعبرون جسرًا هناك، وهم سكوت، وقلب سلمى يخفق تطلُّعًا إلى قبر أبيها، وعبد الرحمن يفكر فيما عزم عليه من قتل يزيد، حتى أشرفوا على مرتفع بسيط تعلوه شجرة جوز منبسطة الأغصان، تظل بقية خالية من النبات وفيها مرتفعات من الأتربة على غير نظام. فلما صاروا تحت الجوزة وقف عامر ثم التفت إلى سلمى وأشار إلى أكمة صغيرة بجانب ساق الجوزة وقال: هذا هو يا سلمى قبر أبيك.

وما أتم كلامه حتى ترامت على ذلك التراب تقبله وهي تبكي وتصيح: وا أبتاه! هذا هو ترابك، فأين أنت! أين أنت يا حُجْر بن عدي سيد كندة! وأوغلت في البكاء.

أما عبد الرحمن فتقدم حتى وقف بجانب سلمى وقد أنكر صياحها وخشي افتضاح أمرهم بسببه، فوقف إلى ساق الجوزة وقال لسلمى: لا تبكي يا سلمى فإن البكاء لا يليق على ميت سننتقم له في الغد، والتفت إلى عامر وهو يقول: اقصص علينا يا عماه تفصيل مقتل صاحب هذا القبر.

فقال عامر: اجلسا يا ولديَّ لأقص عليكما الخبر كما عرفته، ثم قال بصوت ضعيف: اعلما أننا في أرض العدو فينبغي أن نتستَّر ما استطعنا.

فسكتوا برهة وهم ينظرون إلى ما حولهم، فإذا بالمكان قفر خالٍ، لا يسمع فيه غير خرير السواقي عن بعد ونقيق الضفادع، وقد وقعت ظلال تلك الجوزة على ما حولهم فأووا إلى الظل بجانب القبر، وجلسوا على التراب وسلمى جاثية وعيناها تدمعان، وهي صامتة تتطاول بعنقها وتنتظر ما سيقوله عامر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤