الفصل الخامس

الحب والانتقام

نزلت سلمى ورفيقاها بعد انصراف الأضياف حتى دخلوا غرفتهم، وعبد الرحمن ساكت لا يتكلم، وقد أدرك عامر وسلمى ما جاش في خاطره من أمر الانتقام، فلما وصولوا إلى الغرفة هموا بالجلوس إلا عبد الرحمن فإنه ظل واقفًا والقلق ظاهر على وجهه، فتجاهلت سلمى حاله، ودعته إلى الجلوس فقال: أتدعينني إلى الجلوس وقد أزفت الساعة التي نحن في انتظارها منذ أعوام؟!

ففهمت مراده ولكنها تجاهلت، وقالت: وأي ساعة تعني؟

قال: أراك تتجاهلين حين لا ينفع التجاهل؛ فقد قضي الأمر وآن أوان الانتقام.

فاختلج قلبها في صدرها خوفًا عليه من الخطر الشديد بعد أن شاهدت كثرة تلك الحاشية وما معهم من العدة والسلاح، وقالت: دعنا الآن من الانتقام يا عبد الرحمن، فإن الساعة لم تأتِ بعد.

قال: وكيف ذلك وهذا يزيد خارج للصيد بكلابه وفهوده وجوارحه؟

قالت: ذلك هو الأمر الذي أخافه عليك. بالله لا تلقِ بيدك إلى التهلكة؛ فإن المركب خشن والطريق وعر.

قال: لقد عزمت وتوكلت على الله. قال ذلك وهو يبحث عن خنجره ويصلح ثيابه ويتأهب للخروج.

فأمست سلمى بذيل ثوبه، وقد توردت وجنتاها وغلب عليها الحب والحياء معًا وقالت: بالله لا تذهب؛ إني خائفة عليك من هذا الأمر العظيم؛ إنك واحد وهم جماعة.

فقال: دعيني، لا أبالي مهما يكن من كثرتهم، وقد صممت على الانتقام، وهذا وقته فلا تثني من عزمي.

فقالت وهي تكاد تشرق بدموعها: لا، لم يئن وقت الانتقام، فلا تذهب الآن.

قال: إني لا أرى فرصة أنسب من هذه، فدعيني يا سلمى، دعيني أقتل هذا الرجل وأنقذ المسلمين من شره، وأنتقم لحُجْر بن عدي، وأشفِ غليلي منه.

فقالت: إذا لم يكن بدٌّ من الذهاب فدعني أذهب معك، فإما أن نُقتل معًا، وإما أن ننجو معًا.

قال: أليس عارًا عليَّ وأنا رجل أن أصطحبك في مهمة كهذه؟ دعيني يا سلمى. وحاول التخلص منها فإذا هي ممسكة ثوبه بيدها، فغضب وأراد أن يتخلص بالعنف، ثم نظر إلى وجهها فرأى الدموع تتساقط من عينيها، فسكن غضبه ووقف وهو ينظر إليها بعين المحب المفتون وقال لها: ما هذا يا سلمى؟ ما الذي تفعلينه؟ إنك تضعفين عزيمتي وتحملينني على الجبن. ما الذي يدعوك إلى ذلك، وعهدي بك أشد حنقًا مني وأكثر رغبة في الانتقام؟

فقالت وهي تجهش بالبكاء وصوتها يتلجلج: ألا تدري ما الذي يدعوني إلى ذلك؟ هو الحب يا عبد الرحمن. إن الحب يحملني على هذا الخوف! ثم قالت بصوت ضعيف متقطع وهي تنظر إلى الأرض: نعم، إن الحب حلو شهي لذيذ.

فابتسم إعجابًا وابتدرها وهو يتجلَّد مخافة أن تغلب عواطفه على ما في نفسه وقال: صدقت يا حبيبتي، إن الحب حلو، ما أحلاه! ولكن الانتقام يا سلمى أحلى منه. ليس في العالم ألذ من الانتقام ولا أحلى. دعيني أخرج إلى هذا الرجل الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين فأقتله بهذا الخنجر، وأنتقم لك ولي وأنقذ المسلمين منه، أو أموت في نصرة الحق و…

فقطعت كلامه وقالت: لا تذكر الموت يا عبد الرحمن، إن ذكره يؤلمني ويؤذيني، حماك الله من شره.

قال: أيؤلمك ذكره، وقد ذاقه قبلي من هو أكرم عند الله مني؟ لقد ذاقه الإمام علي، وذاقه أبوك حُجْر بن عدي، وذاقه كثيرون غيرهما في سبيل نصرة الحق، فما أنا خير منهم، وقد آن وقت الانتقام.

وهمَّت سلمى بأن تجيبه فوقف عامر وقد أثر في نفسه ذلك الجدال، ووقع في حيرة لا يدري لأيهما ينتصر؟ ولكنه خاطب عبد الرحمن مترفقًا وقال: تمهَّل يا بني وارفق بنا، واعلم أنك سالك طريقًا وعرًا لا نرضى أن تسلكه وحدك. دعني أسرْ معك، لعلي أنفعك في جهادك، أو أكون بين يديك فيصيبني ما يصيبك.

فالتفت عبد الرحمن إلى عامر وقال: وأنت أيضًا يا عماه تثبط عزيمتي؟ ألم نسمع كلام الهاتف معًا؟ ألم يقل الهاتف فوق قبر حُجْر: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، أترى بعد ذلك مجالًا لقائل. إنه لا بد لي من الذهاب، إن لم يكن إجابة لدعوة الهاتف فانتقامًا لحُجْر بن عدي الراقد تحت الجوزة، وانتقامًا لصهر النبي وابن عمه ووصيِّه الإمام علي، وإن لم يكن لهذا ولا لذاك فانتصارًا للحق وإنقاذًا للإسلام والمسلمين من سلطان شُغل عن رعاية الأمة برعاية الجوارح والكلاب والفهود والمنادمة على الشراب.

فأراد عامر أن يجيبه ليثنيه عن عزمه إشفاقًا على سلمى فقال له: لا أنكر عليك نبالة الغرض الذي ترمي إليه، ولكنني أظن الوقت لم يحن بعد.

•••

ملَّ عبد الرحمن الجدال فقال: لقد ضيَّقتما عليَّ السبل، ولست أرى وقتًا أنسب من هذا للوفاء بعهدي، ثم التفت إلى سلمى وقد هاجت أشجانه فوق هياج غضبه، وكأنه تحقق عِظم الخطر الذي يتهدده في طريقه فقال: ويكفي يا سلمى أن يكون تأجيل قتل هذا الرجل باعثًا على تأجيل زواجنا، ألم أجعل قتله يا منتهى أملي شرطًا لعقد زفافنا؟ إنك تبتغين البعد وأنا أسعى في القرب وأشتريه بحياتي؟ ألم أعاهد نفسي على ذلك؟ آه يا سلمى! إني عالم بما يهددني، ولا أجهل خطر الطريق، ولكنني مضطر لركوب هذا المركب، فاتركيني وادعي لي، فإن دعاءك من دعاء الملائكة لأنك ملاك في صورة إنسان.

قال ذلك واختنق صوته، فسكت وراح ينظر إلى سلمى وعيناه تلمعان بما غشاهما من الدمع، وقد هاجت شجونه وتلَّوت عواطفه وهو يغالبها بشهامته وبسالته، وسلمى لا تزال ممسكة بطرف ثوبه، والحب والحياء يتنازعانها، فلما سمعت كلامه أطرقت والدمع يسيل على خديها وهي تحاول إخفاءه بسكوتها، وعامر ينظر إلى ذينك الحبيبين وقلبه معهما، ولكنه لا يدري لأيهما ينتصر.

ظلوا صامتين وعبد الرحمن يغالب عواطفه ويخاف أن تغلبه، ولكنه تجلَّد وأعاد الكرَّة وقال بصوت هادئ: لا أجهل يا سلمى أني سائر في مهمة ذات خطر عظيم، ولكنك تعلمين أننا إنما قطعنا البراري والقفار وجئنا هذه الديار من أجل الانتقام، وقد أردت المجيء وحدي فأبيتما إلا اللحاق بي، وهذا ما كنت أخشاه منذ بادئ الأمر، فلا تكوني عثرة في سبيلي وسبيل الحق. إنني إنما جئت إلى هذه الديار لقتل هذا الرجل. أما صدَّقتما ما ادَّعيناه من أننا جئنا للاتِّجار بالتمر والجمال؟! إننا ما جئنا إلا للانتقام، فهل يليق بنا بعد أن استخرنا الله وعزمنا، أن نرجع إلى الوراء؟! أليس من الغلو أن يكون ابن ملجم الباغي أكثر ثباتًا مني، وهو إنما ثبت على قتل نفس بريئة، وأنا أسعى في استئصال شجرة فاسدة؟! إني أسعى في إنقاذ الإسلام من فساد تولَّاه، ولا علاج له غير قتل يزيد، لكي تعود الخلافة إلى حبيبنا سيد شباب المسلمين الإمام الحسين ابن بنت الرسول فاتركاني أذهب في سبيلي، فقد اتكلت على الله في أمري، وما الموت الذي تخافانه عليَّ إلا سنة الله في خلقه، فإذا حكم عليَّ به فلي أسوة بغيري من القوم الصالحين، وأكون قد توسدت الثرى قرير العين، ألقى وجه ربي باشًّا مطمئنًّا تشهد كل ذرة من ترابي بحسن جهادي، وإذا فزت وحييت فإني إنما أحيا سعيدًا وسلمى زوجتي، والحسين مولاي وخليفة المسلمين. هذا هو القول الفصل، وكفانا ترددًا.

فلم يبقَ ثمَّة مجال للدفاع، فقال عامر: دعيه يا سلمى، إن الله قد دعاه إلى عمل صالح اختاره له، فعسى أن يوفقه فيه، دعيه وألقي أمرك إلى الله.

فتركت سلمى ثوب عبد الرحمن ولكنها ظلت صامتة، فأتم عامر كلامه قائلًا: والآن إذا أنت خرجت في أثر هذا الركب فما الذي تفعله، وكيف نطَّلع على خبرك؟ ألا ترى أن أسير أنا معك؟

قال: أقسم بتربة عمي الثاوي في هذا الجوار لا يذهبن أحد معي. أما خبري فسأحمله إليكما بنفسي وإلا … وسكت.

فعادت سلمى إلى القلق وقالت: وإلا ماذا؟ قل!

قال: إني ذاهب الآن في أثر هذه الحملة إلى حيث ينزلون لصيدهم، وسأختبئ في مكان ما حتى أنفرد بيزيد فأقتله، أما أنتما فامكثا هنا في انتظاري بقية هذا النهار وطول ليله، فإذا جاء مساء الغد ولم أعد إليكما فلا تطلباني، فلا أدري أين أكون.

فقال عامر: سر واتكل على الله، ونحن في انتظارك إلى غروب الغد، فإذا غابت الشمس ولم تعد إلينا، ﻓ …

فقطع عبد الرحمن كلام عامر قائلًا: لا أظنني بعد قتل يزيد إلا مضطرًّا للاختفاء فلا أستطيع دخول هذا الدير، وسكت برهة يفكر ثم قال: ولكنني أرسل إليكم علامة.

قال: وما هي علامتك وكيف ترسلها؟

قال: أرمي إليكم بسهم أكتب بين ريشتيه اسم المكان الذي نلتقي فيه فتوافيانني إليه، فإذا جاء غروب الغد فانتظرا سهمي على سطح هذا الدير، ولن أذكر لكما بين الريشتين غير اسم المكان فلا خوف منه إذا وقع في أيدي الرهبان.

فأعجب عامر بفطنته وقال: إنها لنعم العلامة.

وتقلد عبد الرحمن قوسًا صغيرًا وأسهمًا، كما تقلد الخنجر، ولبس ثوبًا أصبح فيه يشبه أتباع يزيد، وتزمَّل برداء فوق ثوبه، وكانت سلمى في أثناء ذلك تنظر إليه وقلبها لا يطاوعها على مفارقته، فلما أتم الاستعداد وهمَّ بوداعها خفق قلبها وندمت على قبولها ذهابه، وأرادت أن تعود إلى منعه، فلم يتح لها فرصة، بل أسرع ففتح الباب وخرج، فلم تعد تستطيع اللحاق به مخافة أن يشتبه الرهبان في أمرهم، فتظاهرت بالسكينة، وتبعته بنظرها فإذا هو قد أدرك باب الدير وخرج منه، فاصطحبت عامرًا والتمست سطح الدير لكي تشيِّعه ببصرها وهو سائر في الغوطة، فصعدا السلم وهما يتظاهران بالتفرُّج، فلما أشرفا على السطح رأيا عبد الرحمن قد قطع البستان حتى خرج من بابه وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ثم أوغل بين الأشجار.

وفيما هما ينظران إليه من خلال الأشجار، رأيا رجلًا ملثمًا خرج من الدير وسار في أثره، فلم يعرفاه ولا اشتبها فيه لخلوِّ ذهنهما من وجود رقيب يراقبهما هناك، ولو علما من هو ذلك الملثم وما نصبه من الشراك لعبد الرحمن لتعقَّباه وأوديا به، أو لأرجعا عبد الرحمن عن عزمه.

وما كان ذلك الملثم إلا الضيف الأبرص الذي جاء الدير بالأمس واختبأ في إحدى غرفه، وكان قد رافقهم خلسة منذ خروجهم من الكوفة لحاجة في نفسه لو عرفتها سلمى لارتعدت فرائصها ولما صبرت إلى غروب الغد تنتظر رجوع حبيبها.

وظلت سلمى واقفة تتطاول بعنقها وتحدِّق بعينيها بين الأشجار حتى غاب عبد الرحمن عن بصرها، فلما توارى أحست كأن قلبها انخلع من مكانه، ولم تعد تتمالك عن البكاء؛ لما غلب عليها من الخوف على حياة حبيبها، وندمت على تركه يذهب وحده، ثم عادت إلى غرفتها حزينة كئيبة لا تخاطب عامرًا ولا تنظر إليه.

ولم يكن عامر أقل ندمًا على ذلك، فظل صامتًا، ونزل في أثرها، والرهبان في شاغل عنهما برفع الآنية والأبسطة التي كانوا قد أعدُّوها للخليفة.

•••

دخلت سلمى غرفتها وقد أظلمت الدنيا في عينيها وضاقت بها السبل فأطلقت لعينيها عنان الدموع واستغرقت في البكاء كأنها أُشعرت بما سيلقاه عبد الرحمن من الخطر، وودت لو تتبعه عسى أن تكون له عونًا، ولكنها لم تكن تعرف الجهة التي مضى إليها، ولا التي سار إليها موكب الخليفة، فظلت تتردد بين اليأس والرجاء، وعامر جالس منقبض الصدر وفي نفسه هواجس أمسك عن إظهارها إشفاقًا على سلمى، ثم تجلَّد فاقترب منها وجعل يخفف عنها ويطمئنها وهي لا تصغي إليه.

على أنها عادت تعلل نفسها بنيل المنى، فتصورت فوز حبيبها بقتل يزيد وما يترتب على ذلك مما تتوق إليه نفسها ونفس كل مسلم من دعاة أهل البيت، فضلًا عن شفاء غليلها بالانتقام لأبيها، فسكن روعها وخف بكاؤها، فاغتنم عامر الفرصة وقال لها: خففي عنك يا بنيتي واتكلي على الله، فإنه ولي التوفيق وهو على كل شيء قدير، وما قتل هذا الخليفة بالأمر العسير، ولا سيما أن عبد الرحمن لن يقدِم على قتله وهو بين رجاله، ولكنه سيتربص به حتى يراه وحده، ولا شك في أنهما إذا تبارزا فستكون الغلبة لعبد الرحمن.

فنزل كلام عامر عليها بردًا وسلامًا، فكفَّت عن بكائها، ونهضت تتشاغل بترتيب فرش الحجرة وأثاثها، ثم استلقت وقد غلبها التعب وأدركها النعاس، وأدرك عامر ذلك فتركها وخرج ليخلو بنفسه.

وظلت سلمى نائمة إلى العصر وعامر يتردد إلى الحجرة يتفقَّدها، فإذا رآها ما زالت نائمة عاد إلى السطح وتشاغل بالتأمل في مشاهد الكنيسة، أو محادثة بعض الرهبان.

وفيما هو عائد ذات مرة رأى شيبوب تحت الصفصافة، فتذكر الشيخ الناسك، وخطر له أن يذهب إليه لعله يسمع منه كلامًا يطمئنه على عبد الرحمن، وكان يعتقد الكرامة في مثل هذا الناسك، ثم بدا له أن يصطحب سلمى لتشاركه اطمئنانه، فلما ذهب إلى غرفتها وجدها قد استيقظت وجلست مضطربة حزينة النفس فقال لها: ما بالك يا بنية؟ ما لي أراك مضطربة؟

قالت والدمع ملء عينيها: آه يا عماه، تسألني عن شيء أنت تعلمه! ولقد زاد في همي ما انتابني من الأحلام أثناء نومي.

فابتدرها الشيخ قائلًا: دعينا من الأحلام والأوهام، وهلمِّي بنا إلى الشيخ الناسك لنجلس إليه عسانا نسمع منه ما يسرُّ، فإني والله أعتقد الكرامة في أمثاله.

فارتاحت سلمى لهذا الاقتراح، ووقفت وقد انبسط وجهها وزالت عبوسته وقالت: نعم الرأي يا عماه، فهيا بنا إليه، أين هو؟

قال: أظنه في بعض جوانب الدير فقد رأيت كلبه الساعة تحت الصفصافة، فلا يبعد أن يكون في زاوية من زوايا الدير، أو في بعض غرفه.

•••

خرج عامر وسلمى في أثره، فلما أطلَّا على الباحة رآهما الكلب فهرول إلى سلمى وهوى يحرك ذيله ويغمغم استئناسًا بها، وذهب عامر للبحث عن الناسك، ثم عاد وهو يقول: سألت في كل أطراف الدير فلم أقف له على أثر، وقد أخبرني الرئيس بأنه خرج عندما كان الخليفة هنا ولم يعد.

قالت: هل تظنه في بعض جوانب البستان؟

قال: ربما، هلمَّ نبحث عنه هناك.

فمشيا حتى خرجا من باب الدير، والحظيرة إلى يمينهما وفيها الماشية والدواب، فوقفا ينظران في جوانب البستان، وكان الكلب قد خرج في أثرهما، ثم رأياه يجري إلى اليسار مسرعًا، فقالت سلمى: يظهر أن شيبوب اشتمَّ رائحة صاحبه فأسرع إليه، فلنذهب في أثره.

وتبعاه فإذا هو قد انتهى إلى جميزة قديمة العهد، في أسفل ساقها كهف يشبه غرفة صغيرة أوى إليه الناسك، ورأياه عن بعد جالسًا الأربعاء ويداه متقاطعتان على ركبتيه، وقد أطرق كأنه يفكر في معضلة يبتغي حلَّها، فلما وصل الكلب إليه وجعل يلحس يديه ويتحكك به انتبه الشيخ من غفلته فرفع عينيه وشعر حاجبيه يغطيهما، وأمسك لحيته وثناها إلى فيه وأطبق شفتيه عليها، فوقعت عينه على سلمى وعامر، فجعل يتفرس فيهما وهما قادمان إليه يفكران فيما يبدآن به الحديث، ولم يكادا يدركانه حتى سمعاه يقول بصوت جهوري اخترق نطاق قلبيهما: أين عبد الرحمن؟

فلما سمعت سلمى اسم حبيبها خفق قلبها وارتعدت فرائصها، ولم يكن عامر أقل بغتة منها، وأُرْتِجَ عليهما فلم يعلما بماذا يجيبانه.

ولم يكادا يقتربان منه حتى انتصب واقفًا كأنه شاب في عنفوان الشباب وصاح فيهما: أين عبد الرحمن؟ أين ذهب؟

فاقشعرَّ بدن سلمى، وهمَّت بالجواب فأُرْتِجَ عليها فأجابه عامر قائلًا: وأي عبد الرحمن؟

قال: أتسألني يا عامر عن عبد الرحمن وأنت كفيله؟! قل أين ذهب، وقد كان معكما بالأمس؟

فلم يشك عامر في أنه بين يدي ولي من أولياء الله، المرفوع عنهم الحجاب، فقال: إنه سار في مهمة، لعلك عرفتها من تلقاء نفسك.

قال: أظنه ذهب وراء يزيد بن معاوية الذي يدعونه خليفة.

فخاف عامر وسلمى أن يسمع أحد كلامه، فالتفتا فإذا هما في معزل عن الناس، فقال عامر: نعم يا سيدي.

فضرب الناسك يدًا بيد، ونظر إلى السماء وقال: حماك الله يا عبد الرحمن من ذلك الخائن المنافق، كيف تركتماه يذهب في هذا الخطر العظيم؟

فلما سمعت سلمى كلامه ترامت على قدميه وصاحت: قل يا سيدي! قل لي بالله عليك، هل من خطر على عبد الرحمن؟

قال: الخطر عليه من ذلك الأبرص الذي خرج في أثره.

قال عامر: وأي أبرص يا مولاي؟ قل بالله؟ أفصح فقد أقلقتنا.

فأطرق الشيخ وظل هنيهة ساكنًا، وهو يقبض على لحيته ثم يتركها ويداه ترتعشان تأثرًا، فلم تعد سلمى تستطيع صبرًا على سكوته فقالت: قل بالله يا سيدي. ماذا ينتظر عبد الرحمن في رحلته هذه؟ ومن هو ذلك الأبرص؟

فرفع الناسك طرف ثوبه، وغطى به رأسه وقال: ألا تعرفان ذلك الأبرص؟ ألا تعرفان شمر بن ذي الجوشن؟

فقالا بصوت واحد: بلى نعرفه، وأين هو؟

قال: إنه خرج في هذا الصباح من الدير ملثمًا بعد خروج يزيد، وأظنه رأى عبد الرحمن خارجًا فاقتفى أثره ليوقع به.

فالتفتت سلمى إلى عامر والشيخ لا يزال ساترًا رأسه بثوبه وقالت: تبًّا له من خائن، أظنه اقتفى أثرنا من الكوفة وقد علم بالغرض الذي جئنا من أجله إلى الشام. تبًّا لك يا شمر! ثم التفتت إلى الشيخ وقالت: وماذا نعمل الآن يا سيدي؟ وما الذي تخشاه على عبد الرحمن؟ قل لنا ماذا نعمل، فإنا نراك من المحسنين.

قالت ذلك وخفق قلبها وقد اصطكَّت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف وكأنها في حلم، وعامر ينظر إلى الناسك مستغربًا لا يدري كيف يفسر فراسته، ولكنه شُغل بأمر الخطر المحدق بعبد الرحمن عن التفكير في الفراسة وكرامات الأولياء، وأحب أن يغالط الشيخ فقال له: إنك تخاطبنا يا سيدي بالرموز والألغاز، فما هو خبر عبد الرحمن؟ وما الشأن الذي ذهب فيه؟

ولم يتم عامر كلامه حتى قهقه الشيخ، ثم توقف بغتة وقال: أتجرِّبني يا عامر وتتجاهل؟ لعل لك عذرًا، ولكن الأمر الذي جئتم له لا يخفى على هذه الأحجار ولا على هذه الأشجار، وإذا لم تصدقاني فاسألا الهاتف الذي كلمكم من الجوزة ألم يقل لكم: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلا تسل عن حال عامر وسلمى عند سماعهما ذلك الكلام، فهم عامر بيد الشيخ ليقبلها لا يبالي برائحة قذارتها وقذارة ذلك الثوب، فلما أحس الشيخ بيد عامر ابتعد عنه وانزوى في الكهف والغطاء لا يزال على رأسه، فقال له عامر: بالله أيها الشيخ الجليل ألا كشفت عن وجهك وأظهرت نفسك؟

فزجره الشيخ وقال: الزم الأدب يا عامر، ولا تتطاول إلى ما لا يعنيك، واعلم أنني لن أخاطبك بعد الآن إلا مستترًا، ويكفيك ما علمته من أمر ابن ذي الجوشن الأبرص، وما يبغيه من اللحاق بعبد الرحمن.

فخافت سلمى أن يغضب الناسك إذا هما أكثرا من السؤال فقالت: لا تغضب يا سيدي ولا يسؤك سؤالنا وأنت تعلم حالنا بعد ما ظهر من اطلاعك على أمرنا، إنا سائلوك سؤالًا واحدًا لا نزيد عليه شيئًا، فهل تجيبنا؟

فلم يزد على قوله: هم هم.

ولكنها فهمت أنه موافق فقالت: هل ترى من بأس على عبد الرحمن في مهمته هذه؟ وماذا نصنع لإنقاذه مما عساه أن يحيق به من الأخطار؟

فأطرق الشيخ برهة ثم قال: أرجو ألا يكون عليه بأس، فإنه عرض نفسه في سبيل خدمة المسلمين. وهذا كل ما أقوله لكما فلا تزيدا. قال ذلك وهرول مسرعًا نحو الغوطة والكلب يجري في أثره مخلفًا سلمى وعامرًا على أحرِّ من الجمر، وقد جمد الدم في عروقهما وهما لا يكادان يمسكان النفس مما اعتراهما.

فلما توارى الشيخ وكلبه عنهما ظلَّا برهة صامتين ثم قالت سلمى: ما قولك يا عماه في هذا الشيخ وما سمعناه من كلامه؟

قال: إني والله في عجب عجاب من أمره، وقد كنا نسمع بالأولياء وكراماتهم، فالآن قد رأينا أحدهم رأي العين.

فقالت: إني أحسبني في منام. وفركت عينيها، وتلفتت إلى ما حواليها كأنما تريد أن تستوثق من يقظتها.

وأدرك عامر استغرابها وحيرتها فقال: لا تستغربي يا سلمى مما شاهدته من أمر هذا الشيخ مع ما يظهر من بلاهته، فإن الله يعطي من يشاء بغير حساب، ثم إنه قد توافرت فيه شروط الولاية من الزهد والتقشف، وقد قيل في أهل الولاية إنهم جواسيس القلوب، فلا أرى غرابة في معرفته حقيقة حالنا، ويلوح لي أنه على مذهبنا، فلا خوف منه على سرنا.

فقالت سلمى: ولكن من عسى أني يكون هذا الرجل؟

فأجابها عامر: إن أمره حيرني؛ لأن حاله ولباسه يدلان على تنسكه وانقطاعه عن الدنيا، ولكن كلامه عن يزيد يدل على اهتمامه بأمر المسلمين، ويظهر أنه عربي، وكأن لهجته عراقية.

فقالت سلمى: ليتنا سألناه عن بلده، وطلبنا إليه أن ينتسب.

فقال: ومن يتجرأ على هذا السؤال وقد رأيت مبالغته في التستُّر حتى غطى وجهه، ولما طال الحديث بيننا توارى؟ فلعله من بعض الذين بُلوا بمثل بلوانا فلجأ إلى هذا الدير للاختفاء.

قالت: أظنه مصابًا بعقله؛ لأنه شاذ الأطوار. ألم تسمع من رئيس الدير عن معيشته وكيف يقضي نهاره بين الأشجار يقتات بثمارها، ولا أنيس له غير هذا الكلب؟

قال: مهما يكن من أمره فإنه ذو كرامة، وعساه أن ينفعنا بكرامته.

قالت: وما العمل الآن؟ إني لم أزدد من حديثه إلا قلقًا، وسكتت برهة ثم قالت: وما قولك في شمر اللعين؟

قال: هذا الذي شغل بالي، قبحه الله! لقد طالما شككت في هذا الأبرص وخفت غدره، ويلوح لي أنه علم بسفرنا إلى الشام واطَّلع على غرضنا، فاقتفى أثرنا ليَشي بنا، ولولا ما قاله الناسك مما يدعو إلى الاطمئنان على عبد الرحمن لأسرعت في البحث عن وإرجاعه عن عزمه، ولكن هبي أني لم أطمئن فليس لي سبيل إليه؛ لأني لا أعرف الجهة التي سار فيها، وأخاف إذا أنا لحقت به أن أضل الطريق، وتبقي أنت وحدك، ولعل هذا الخائن قد نصب لك أحبولة أخرى.

قالت: أذهب معك أنا أيضًا.

قال: ولكننا وعدنا عبد الرحمن أن ننتظره هنا، فقد يجيء الليلة ونحن غائبون فيرمي سهمه، وقد يكون فيما يكتبه عليه ما يبعث على ذهابنا لموافاته إلى مكان ما، فيقع السهم بين يدي أحد الرهبان ولا نطلع عليه. دعينا نمكث هنا، ونكل أمرنا إلى الله فهو نعم الكفيل.

قال ذلك ومشيا حتى اقتربا من الدير وهما كأنهما في حلم، فأراد عامر أن يشغل وقته في شيء يبعد الشبهة عنهما فقال لسلمى: تعالي معي إلى الحظيرة نتفقد جمالنا وأحمالنا.

قالت: دعنا من الجمال والأحمال، وحسبنا التفكير فيما نحن فيه.

قال: هذا ما أشعر به أنا أيضًا، ولكن لا بدَّ لنا من الانتظار إلى مساء الليلة أو صباح الغد أو مسائه، فكيف نقضي الوقت ووقت الانتظار طويل؟

فأطاعته وتحولا إلى الحظيرة، فرأيا الخدم قد بذلوا العناية في خدمة الجمال وأما أحمال التمر فلم يجدوها، فبُغت عامر لأول وهلة، ثم تذكر أنهم حملوها إلى داخل الدير.

وقضيا هناك بعض الوقت، وسلمى في شغل شاغل عمَّا حولها لا تنتبه لشيء لعظم ما ثار في خاطرها من القلق على حبيبها، ولا سيما بعد ما سمعته من الشيخ الناسك، ولم يكن عامر أقل قلقًا منها ولكنه أراد تشجيعها وتحويل ذهنها، فلما لم يفلح في ذلك، أجاب رغبتها في العودة إلى الدير، وسارا توًّا إلى حجرتهما، ومكثا برهة بين كلام وتفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤