الفصل السادس

الوقوع في الفخ

وحين مالت الشمس إلى المغيب علقت آمال سلمى بسهم عبد الرحمن، وخُيِّل إليها من فرط قلقها أنها لا تكاد تصل إلى السطح حتى ترى السهم ساقطًا أمامها، فحثَّت عامرًا على الصعود معها، فأطاعها وقلبه لا يدله على خير، فوقفا على السطح ينظران إلى الأفق وقد تملكتهما الهواجس، وسلمى كلما لاح لها طائر ظنته سهمًا من حبيبها حتى تعبت عيناها من طول التحديق، وعامر يراقب حركاتها ساكتًا، حتى آذنت الشمس بالزوال ولم يأتِ السهم ولا سُمع له همس.

وكان رئيس الدير مشغولًا في ذلك اليوم بصلوات خاصَّة لم يفرغ منها إلا نحو الغروب، فخرج من عُلِّيَّته وتمشى على السطح، فرأى عامرًا وسلمى جالسين ينظران إلى الغوطة، وقرأ آيات القلق على وجهيهما فلم يشأ أن يزعجهما بالسؤال، بل ظل بعيدًا وفي نفسه أنهما إذا أحبَّا مجالسته دعواه إليهما.

فغابت الشمس وهما على السطح ولم يحدث شيء، فاشتد قلقهما وعامر يحاول عبثًا طمأنة سلمى بحديث أو رأي، وشاع بصرها بعد الغروب نحو الغوطة في الطريق الذي سار فيه عبد الرحمن لعلها ترى قادمًا تستأنس به فلم ترَ شيئًا، وأخيرًا نهض عامر وهو يقول: إن موعدنا غدًا حتى الغروب، ومن العبث بقاؤنا هنا الليلة على السطح فضلًا عن أنه يوجب الشبهة. قال ذلك ومشى فمشت في أثره، وعيناها لا تكادان تستقرَّان.

باتا تلك الليلة وهما يفكران في عبد الرحمن، وقد عزمت سلمى، بينها وبين نفسها، على أنها إذا غربت شمس الغد ولم يأتِها خبر من عبد الرحمن تسارع إلى التنكر في زي الرجال، ثم تذهب للبحث عنه، ولم يكن عامر أقل قلقًا منها أو رغبة في البحث عن عبد الرحمن، ولكنه كان يخشى إذا تركها في الدير وحدها أن يكون عليها بأس، وأخيرًا اعتزم إذا لم يعد عبد الرحمن أن يذهب هو وسلمى معًا للبحث عنه.

وأما رئيس الدير، فقد لاحظ بقاء عامر وسلمى على السطح، كما لاحظ أن عبد الرحمن ليس معهما، ولكنه حسبه في بعض جوانب الدير، ولم يداخله ريب في أمره.

ونهضت سلمى والفجر لم يبدُ بعد فأيقظت عامرًا وحرَّضته على الصعود إلى السطح عسى أن يكون سهم عبد الرحمن قد وقع في أثناء الليل، فصعد ولم يرَ شيئًا فرجع، فحثته بعد هنيهة على الصعود وهو لا يحتاج إلى من يحثه، وما صدق أن أشرقت الشمس حتى دعاها إلى الصعود معه، وفيما هما صاعدان على السلم شاهدا طائرًا يحلِّق في الجو ولا يحرك جناحيه، فتطيَّرا به، وكان من عادة العرب، إذا رأوا طيرًا يحلِّق على تلك الصورة تشاءموا منه! وأدرك عامر تشاؤم سلمى فابتدرها قائلًا: أراك تطيَّرت بمنظر هذا الطائر، وقد نهى النبي عن ذلك بقوله: «من عرض له من هذه الطِّيَرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.» وكذلك قال : «إذا تطيرت فلا ترجع.» فانزعي من بالك هذا الوهم وكِلي أمرك إلى الله، فسكتت وخاطرها لم يطمئن ولكنها سايرته وصعدت معه.

ولما طال انتظارهما واشتد بهما القلق، تذكَّرا الشيخ الناسك ولم يكونا قد رأياه منذ فرَّ من بين أيديهما بالأمس ولا رأيا كلبه في الدير.

ولم يكن أطول من ذلك النهار على سلمى، فلما دنا الأصيل ولم يطمئن بالها أخذت تلوم نفسها وتقرِّع عامرًا على التقاعد عن اللحاق بعبد الرحمن، وهي إلى الحين لم تذق طعامًا، فخارت قواها، ولكنها لم تشعر بالجوع لشدة قلقها.

وبينما هي غارقة في هواجسها إذ لمحت فارسًا يركض فرسه بين الأشجار بالقرب من باب البستان، فخفق قلبها والتفتت إلى عامر فإذا هو ينظر أيضًا إلى ذلك الفارس وقد علته البغتة، ورأت رئيس الدير قد خرج من عُلِّيَّته مسرعًا وهو يُصلح عباءته وينظر إلى باب البستان، ثم نادى القيِّم وقال له: ابعث راهبًا ليفتح الباب؛ لأني أرى عبيد الله بن زياد قادمًا، لعله جاء لينبئنا بقدوم الخليفة.

فلما سمعت سلمى اسم ابن زياد ارتعدت فرائصها، ونظرت فإذا هو قد وقف بالباب، ثم هرول بعض الرهبان ففتحوا له، وهمَّت بمخاطبة عامر فإذا هو يقول لها: انزلي يا سلمى إلى غرفتك واستتري هناك وأنا أبقى هنا لنرى ما يكون من الأمر، فأرادت أن تستمهله فألحَّ عليها بالنزول ووعدها بأن يبقى هو في انتظار رسالة عبد الرحمن، فنزلت مسرعة واختبأت في غرفتها وظل عامر على السطح.

وكان الرئيس قد نزل إلى الباب واستقبل ابن زياد، ووقف معه برهة وهما يتكلمان همسًا، ثم صعدا إلى السطح، وقبل أن يصلا فاحت رائحة المسك، فعلم عامر أنها رائحة عبيد الله بن زياد؛ لأنه كان مشهورًا برائحته الطيبة، ولبث عامر جالسًا وقد ندم على بقائه هناك، ثم ما عتَّم أن رأى الرئيس مقبلًا نحوه وعبيد الله إلى جانبه، فوقف له وحيَّاه، فرد عبيد الله التحية هاشًّا والرئيس يبتسم كأن في نفسه قولًا يهمُّ به، فتجاهل عامر وتأدَّب في موقفه، فدعاه ابن زياد إلى الجلوس، وأمر الرئيس بطنفسة فُرشت لهم على حصير فجلسوا عليها، وعامر يعجب بما يبدو من مظاهر الترحاب، ونفسه تحدِّثه بظنون كثيرة حتى لم يبقَ له صبر على استطلاع السبب، وهو يخاف أن يكون فيما سيسمعه بأس على عبد الرحمن.

فلما استتبَّ بهم المجلس، جيء إليهم بالفاكهة وكئوس الأشربة فأكلوا شربوا، ثم بدأ الرئيس الكلام قائلًا: لعل مولانا الخليفة قادم إلينا فنتأهب لاستقباله.

فضحك عبيد الله وهو يصلح حمائل سيفه وقال: لا أظن مولانا يمرُّ بكم اليوم.

قال الرئيس: أعائد هو إلى دمشق؟

قال: نعم إنه عائد الليلة.

قال: ولماذا عجَّل بالرجوع من صيده، وقد كنت أحسبه لا يعود قبل أسبوع؟

قال: إنه تشاءم من سفرته هذه فآثر الرجوع سريعًا.

فارتاب عامر في أمر عودة يزيد، وهمَّ بالاستفهام، فإذا بابن زياد يستأنف الحديث قائلًا: وقد نجا أمير المؤمنين من خطر عظيم.

فلما سمع عامر قوله توسَّم الوصول إلى ما يتوقعه، لكنه خاف أن يكون ثمَّة ما يسيئه، فبدت البغتة على وجهه وتطاول بعنقه لسماع بقية الكلام.

فأتم عبيد الله حديث قائلًا: وكانت نجاته من الخطر بسرٍّ عجيب يرجع الفضل فيه إلى كلبه وإلى رجل من خاصَّتنا.

فقال الرئيس: وكيف ذلك؟

قال: خرجنا من عندكم بالأمس، وبتنا في قرية على بضعة أميال من هذا الدير، فجاءني مساء أمس رجل أعرفه من أهل الكوفة، ونبَّهني إلى وجود غريب متنكِّر يعتزم الفتك بأمير المؤمنين في أثناء صيده، فشكرت مسعاه ووعدته خيرًا على جميله، وأصبحنا وأنا لم أُطلع الخليفة على ذلك لئلَّا أزعجه، فخرجنا إلى الصيد وكلما أراد الخليفة الانفراد في الغوطة لحقت به مخافة أن يكون ذلك المتنكِّر متربصًا في بعض الأماكن، وأوصيت جماعة من رجالنا الأشداء أن يقتفوا أثرنا ويتأهَّبوا للوثوب عند أول إشارة، وكان معنا كلب من كلاب الصيد يمتاز بسرعة عدوه وذكائه، وقد أحبه الخليفة حتى ألبسه الدمقس والحرير، وملأ قوائمه بالأساور الذهبية، وفيما نحن على خيلنا بالقرب من غابة متكاثفة الأغصان نبح الكلب نباحًا شديدًا وأسرع أمامنا حتى أوغل بين الأشجار وهو يبالغ في نباحه، فعجبنا لأمره وما زلنا ندعوه إلينا وهو لا يطيع حتى ارتبت في الأمر، فتفرَّست في أثره فإذا بشاب ملثَّم قد خرج من الغابة وفي يده خنجر مسلول، طعن به أول من صادفه من الحاشية، ثم طعن الثاني والثالث واخترق الجمع وهو يلتمس الخليفة، فأمرت الرجال بأن يقبضوا عليه ولا يقتلوه، فتكاثروا عليه فقتل منهم خمسة، ولم يبلغوا منه وطرًا إلا بعد أن عثر بجزع شجرة ناتئ، فتجمهروا عليه وأوثقوه وثاقًا شديدًا وساقوه إلى الخليفة، وكنت قد سبقته إليه وأخبرته بخبره فأمر بإرساله إلى دمشق، وعدل عن إتمام الصيد وأوعز بالإياب فأسرعت في المجيء قبله لغرضٍ عند عمي هذا، وأشار إلى عامر.

•••

سمع عامر حديث ابن زياد فلم يبقَ عنده شك في أن الذي قبضوا عليه هو عبد الرحمن، ولكنه عجب للغرض الذي قدم عبيد الله من أجله، وخاف أن يكون فيه بأس عليه؛ إذ لا يبعد على الذي وشى بعبد الرحمن أن يشي بهم جميعًا! فاسودَّت الدنيا في عينيه، ولكنه صبر صبر الرجال وتجلَّد، والتفت إلى عبيد الله وهو يظهر الاستغراب مما اتفق للخليفة وقال: مهما يأمر سيدي فإني رهين إشارته.

قال: إنني أحببت مصاهرتك، فهل ترضاني لك صهرًا؟

فوقع ذلك الكلام على قلب عامر وقوع الصاعقة، وأُرْتِج عليه فلم يعلم بماذا يجيبه، وهو لا يستطيع مجافاته لأنه في قبضة يده، فأراد أن يحتال في جوابه، وقبل أن يبدأ بالكلام رأى ابن زياد قد وقف فجأة وهو ينظر إلى البستان وتطاول بعنقه وعلته البغتة، فالتفت عامر فإذا بالخيول تتزاحم عند باب البستان وعليها الفرسان وفيهم يزيد بن معاوية، ثم رأوا يزيد قد ترجَّل وحده وأقبل مسرعًا على قدميه نحو الدير كأنه يطارد شيئًا، فبغت الرئيس وأسرع إلى باحة الدير وهو يتعثر بأذياله حتى كاد يقع على السلم، فرأى كلبًا من كلاب الخليفة دخل الباب وعليه الأطلس والأساور كما وصفه ابن زياد، فلما رأه الكلب مهرولًا نحوه انحرف بمسيره نحو غرفة سلمى ويزيد في أثره؛ لأنه افتقده وهو بقرب الدير فلم يجده، فعلم أنه دخل الدير فجاء للقبض عليه بنفسه لأنه كان يحبه، ولا سيما بعد ما بدا من نباهته في ذلك اليوم.

وكانت سلمى متكئة على عباءة وباب غرفتها مفتوح نصف فتحة، وفي يدها منديل تمسح به دموعها وهي غارقة في ظلمات الخيال، تفكر في حبيبها وما عرَّض نفسه له من الخطر الشديد، وقد طال غيابه فغلبها البكاء، وأطلقت لعواطفها العنان حتى احمرَّت عيناها وتكسرت أهدابها وتوردت وجنتاها. وكان شعرها محلولًا فاسترسل بعضه على جبينها وتدلى البعض الآخر حتى غطَّى معصمها، وانحسر كمُّها عن زندها فانكشف معظمه وعليه الوشم كدبيب النمل.

وفيما هي على تلك الحال سمعت خشخشة الأساور في قوائم الكلب، ثم رأته داخلًا غرفتها فتذكرت يزيد فأجفلت وتشاءمت، وإذا بها تسمع صوت يزيد وهو يناديه، وأحست به مقبلًا نحو غرفتها فارتعدت فرائصها ومدت يدها إلى النقاب لتستر رأسها به فلم تدركه فأرسلت شعرها على وجهها ريثما تستتر، وإذا يزيد قد دخل ورآها فانذهل لرؤيتها ووقف مبهوتًا لا يدري ما يقول وقد نسي الكلب وأساوره.

أما هي فغطت وجهها بكمها وغلب عليها الحياء والوجل، وظلت جالسة لا تدري كيف تحتجب! وداخلتها الدهشة فزادتها رونقًا ومهابة، فولَّت وجهها عرض الحائط وظهرها نحو يزيد الذي لم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، ولم يستطع أن يكبح انعطافه إليها، فناداها بنغمة المحب المفتون قائلًا: لا تحجبي شمس وجهك عن خلق الله يا أجمل خلق الله.

فظلت صامتة وجمد الدم في عروقها من شدة الخجل، فتحول يزيد من الغرفة وقد وقعت سلمى من نفسه موقعًا عظيمًا، وكان عبيد الله بن زياد قد نزل إلى الباحة والرئيس معه فرأى يزيد خارجًا من غرفة سلمى وأمارات الإعجاب بادية في عينيه، فشعر بغيرة شديدة ممزوجة بالحسد، لعلمه أن الخليفة إذا رآها وأعجبته لا يبقى له هو سبيل إليها، فتجاهل ما ثار في خاطره وخاطب الخليفة على سبيل المزاح قائلًا: أرى أمير المؤمنين مشغولًا بكلبه بعد الطريدة التي اصطادها له هذا الصباح.

فقال يزيد وهو يحاول الابتسام: لكنه اصطاد طريدة أخرى أجمل من تلك، فتضاعف فضله علينا.

فأدرك ابن زياد تلميحه فازدادت غيرته، ولكنه اضطر إلى الكتمان وندم على امتداح نباهة الكلب، ولعن الساعة التي جاء فيها إلى الدير، ولكنه عمد إلى المغالطة ونادى أحد الخدم فسلم إليه الكلب، واستشار الخليفة فيما يراه من البقاء أو الرحيل فأشار بالرحيل، والرئيس يرحب به ويرجو بقاءه للاستراحة بقية ذلك اليوم، فقال يزيد، لقد طرأ ما يدعو إلى التعجيل بعودتنا. ثم طلب إليه أن يتبعه فتبعه الرئيس حتى انتحيا ناحية وظل ابن زياد واقفًا وعيناه تتبعانهما حتى تواريا وراء الصفصافة.

فلما خلا يزيد إلى الرئيس سأله عن تلك الفتاة فأخبره أنها ابنة تاجر قدم من العراق منذ بضعة أيام.

فقال يزيد: هل هي عزبة؟ قال: أظنها كذلك يا مولاي.

قال: حسنًا، ولم يزد، ثم أمر فركبت حاشيته وركب هو وابن زياد معه، وودعا الرئيس وخرجا، وعامر لا يزال على السطح يختلس النظر إلى حركات يزيد وقد رآه وراء الصفصافة مع الرئيس.

فلما مضى يزيد ورجاله صعد الرئيس إلى السطح وفي وجهه ابتسامة استدل عامر منها على شيء في نفسه، فتقدم إليه وملامح الاستفهام بادية على وجهه، وقبل أن يهم بالكلام ابتدره الرئيس قائلًا: إني أبشرك بالسعادة يا بني.

قال عامر: بماذا؟ وكيف؟

قال: لأني رأيت أمير المؤمنين معجبًا بابنتك.

فشق ذلك على عامر وقال وهو يتظاهر بالسذاجة: وماذا في ذلك من دواعي الغبطة؟

قال: لحظت من كلامه أنه يريد أن يسعدك بالمصاهرة.

فوقع ذلك الكلام على عامر وقوع البلاء العظيم، ولم يفُه بكلمة وتراكمت عليه الهموم، وحار فكره بين وقوع عبد الرحمن في الأسر، وبين ما سيصيب سلمى إذا علمت بما أصابه، ثم برغبة يزيد في زواجها، فلم يعد يعرف كيف يتخطى درجات السلم لشدة كدره.

أما سلمى فأسرعت بعد أن خرج يزيد من غرفتها وأغلقت الباب، ثم وقفت مبهوتة وهي تردد ما سمعته منه، وأدركت ما جال في خاطره عنها، فوقعت في حيرة لا تدري ماذا تعمل؟ ثم عاد خيال عبد الرحمن إلى ذهنها فشُغلت به عن كل هاجس، وودت لقاء عامر لتستطلع ما علمه عن عبد الرحمن، وحدثتها نفسها بأن تخرج في طلبه على السطح، ولكنه خافت أن يكون يزيد باقيًا هناك فأحجمت.

وبينما هي تتردد في ذلك إذ فتح عامر الباب ودخل، فرآها على تلك الحال من القلق، وأثر البكاء في عينيها، والبغتة لا تزال غالبة على محيَّاها، فلم يدرِ كيف يخاطبها، ولا كيف يفضي إليها بما جاء به من الخبر المحزن عن عبد الرحمن، فوقف لحظة لا يتكلم، وأدركت هي ما يساوره فقالت: ما وراءك يا عماه؟

قال: ما ورائي إلا الخير إن شاء الله.

قالت: هل جاءت رسالة عبد الرحمن؟ هل وصل إليك سهمه؟

قال: نعم ولكنه وقع في قلبي.

ففهمت أنه سمع شيئًا يسوءُها فقالت: ما الخبر؟ أين عبد الرحمن؟ ماذا جرى له؟

قال وهو يتلجلج: لم يجر له شيء، ولكن …

قالت: ولكن ماذا؟ هل قتلوه؟ قالت ذلك وقد اختنق صوتها وسبقتها العبرات.

قال: لا لم تصل يدهم إلى ذلك، ولكنهم أسروه.

فلطمت خدها حتى كادت تقع أقراطها وقالت: من أسره؟ وكيف؟

فجعل يخفف عنها وهو يقص عليها حديث ابن زياد، دون أن يذكر لها شيئًا مما قد بدأ به من المصاهرة، فلما فرغ من كلامه عادت سلمى إلى البكاء وهي تقول: وقبحهم الله! إنهم قبضوا عليه. أرأيت تطيُّرى في هذا الصباح وأنت لا تزال تغالطني؟ هذا ما كنت أخشاه، فما العمل الآن؟

فلبث عامر ساكنًا غارقًا في بحار أفكاره، فابتدرته قائلة: قل يا عماه. قل ما الرأي؟

قال وهو يفرك لحيته بسبابته كأنه يهيئ عبارة يخفف بها عنها: لا تعجلي يا سلمى، تمهَّلي واستعيني بالله، ولننظر في الأمر على مهل.

قالت: كيف أتمهل وقد أسروا عبد الرحمن، ولا أدري ما الذي يحدث له هناك؟ قالت ذلك وأجهشت بالبكاء، فتحير عامر في أمره وهو أشد منها خوفًا عليه؛ لما سمعه من حديث ابن زياد، وحدثته نفسه أن يطلعها على ذلك ولكنه خاف أن يزداد قلقها فقال: لا يفيد التسرع، ونحن الآن حوالي الغروب، والليل أعمى لا نستطيع فيه عملًا، ولا بدَّ من الانتظار إلى الغد، وإن غدًا لناظره قريب.

قالت: إنني خائفة من هذا الليل. إني خائفة أن يصاب عبد الرحمن ببلاء عاجل، فلا نملك حيلة لإنقاذه.

قال: لا أظنهم يبتُّون في شأنه الليلة، ولا بدَّ من أن يمهلوه حينًا ريثما يستطلعون حاله، وما دفعه إلى قتل الخليفة، وأرى أن أنزل غدًا بأحمال التمر إلى دمشق، لاحتال لاستطلاع الخبر وأعود إليك، فنرى ما يكون.

قالت: لا بدَّ من الانتظار إذن؟ فلنصبرنَّ، إن الله مع الصابرين.

وقضيا تلك الليلة على مثل الجمر، وسلمى لم تذق رقادًا، وعامر يفكر في تدبير الحيلة لاستطلاع حال عبد الرحمن، فلما أصبحا هيأ عامر جماله وتزيَّى بزي التجار، وركب قاصدًا دمشق، وسلمى تدعو له بالتوفيق وقلبها يخفق خوفًا عليه أيضًا، لئلَّا يكون شمر قد دبر له مكيدة، ولما توارى عن نظرها عادت إلى غرفتها وأغلقت الباب، ولما تذكرت حبيبها وما هو فيه من الخطر الشديد فهاجت أشجانها وأجهشت في البكاء.

وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام خارج غرفتها، وصوتًا يشبه صوت الرئيس، ولم تكد تصيخ بسمعها حتى سمعت قرع الباب فأجابه قلبها بدقات متوالية، ووقفت بلا انتباه ويدها اليسرى على خمارها تتأهب لإرساله على رأسها إذا رأت في الباب رجلًا غريبًا.

ولا تسل عن اضطرابها ووجلها لما فتح الباب ورأت الرئيس، ومعه شمر بن ذي الجوشن، وقد ارتدى أفخر ملابسه وتطيَّب وأصلح هيئته كأنه يستعد للقاء عروس، فلما رأت برصه ارتعدت فرائصها وحدَّثتها نفسها أن تبتدره باللعن والتأنيب، ولكنها خافت الفضيحة وهي وحدها هناك، فتجلَّدت وهي ترتعش. أما الرئيس فلما رأى سلمى وحدها قال لها: أين أبوك؟

قالت: أظنه ذهب إلى دمشق بأحمال التمر في هذا الصباح، فما الذي تريده منه؟

قال: إن مولانا الخليفة بعث إليه بهذا الأمير ليكلمه في شأن.

فلما سمعت اسم الخليفة ورسالته خافت مما وراء تلك الرسالة ولكنها أمسكت عواطفها وأجابته بهدوء فقالت: إن أبي ليس هنا الآن. قالت ذلك وهي ترجو أن ينصرف شمر بهذا الجواب.

فابتسم شمر وهو يحاول أن يتظاهر بالرزانة والاستخفاف معًا وقال: لا بأس، فإني مكلَّف بتأدية هذه الرسالة له أو لك.

قال ذلك ودخل الغرفة، فتحول الرئيس راجعًا.

وأما سلمى فظلت واقفة، وقد اصطكَّت ركبتاها واقشعرَّ بدنها وخافت أن يبدو ذلك الاضطراب في وجهها فبالغت في إرخاء النقاب عليه، ولم تكشف منه إلا عينيها، ولكن شمرًا قرأ في تينك العينين أمارات الخوف والوجل، فلما خلا إليها، قال متلطفًا: لا تخافي يا سيدتي ولا تظني بي سوءًا، ولكني أرجو أن تكوني قد عرفت هذا الوجه. قال ذلك وقبض على لحيته.

فقالت: وماذا في معرفتي إياه؟

قال: إذا عرفتِه عرفتِ أني جاركم القديم، وأني من أصدقاء أبيك أو كفيلك عامر، قال ذلك وهو يحاول الابتسام فأدركت أنه يهددها بمعرفة سر وجودها هناك، وتحققت الغدر في وجهه، وندمت على بقائها وحدها.

ولكنها لما تذكرت ما ارتكبه ذلك الأبرص من الوشاية بعبد الرحمن، هان عليها كل صعب وعوَّلت على التفاني في سبيل شفاء غليلها منه فقالت: وإذا كنت كذلك، فما الذي يهمُّك من أمرنا؟

قال: وما بالك تخاطبينني بالجفاء يا سيدة الملاح وأنا إنما جئت لاستعطافك؟

فأدركت ما رواء هذه الملاطفة، وسكتت وقد صعد الدم إلى رأسها فتحول وجلُها إلى غضب وقالت: إنك جئت لمخاطبة أبي، ولكنه غائب، فإذا جاء فخاطبه.

قال: وماذا يفيدني خطابه إذا لم تكوني أنت راضية؟!

قالت: أراك تلمِّح إلى ما لا يليق بك بين يدي فتاة لا تعرفك.

قال وهو يظهر الاستخفاف: كيف تقولين إنك لا تعرفينني وأنا أعتقد غير ذلك؟ أم أنت لا تزالين مغرورة بذلك الفتى الغرِّ الجاهل؟

فلم تعد سلمى تستطيع صبرًا على تلك القِحَة، وأعملت فكرها فيما تفعل فرأت نفسها ضعيفة غريبة، والخليفة وأعوانه وكل أهل الشام ضدها، وحياتها وموتها بين شفتي ذلك الرجل، فأحست كأن الجبال تراكمت على صدرها وتساقطت دموعها بالرغم منها، فحولت وجهها لئلَّا يلحظ شمر ذلك فيزداد طمعه فيها.

أما هو فلما رآها تبكي استسهل استرضاءها، فعمد إلى الملاينة، واقترب منها وقال في حنان: لا تبكي يا سلمى ولا تخافي، فإني مع علمي بسرِّك وسرِّ عامر وعبد الرحمن، لا أريد بك شرًّا، بل أنا نصيرك وعونك حتى تخرجي من هذه الديار آمنة، على شرط أن تجيبي سؤال قلبي، وترحمي محبًّا قطع البراري والقفار سعيًا إليك، فارحمي قلب هذا العاشق الولهان، وأقلعي عن مجاراة الغلمان الذي يسوقون أنفسهم إلى الموت بجهلهم وغباوتهم، كما فعل ابن عمك عبد الرحمن الذي أغواكِ بشقشقة لسانه، حتى وقع أسيرًا وسيق إلى السجن مغلولًا، ولو أردت أن أسوقك وأسوق عامرًا معه لفعلت، ولكن قلبي لم يطاوعني؛ لأني أحبك، فإذا أطعتني ورضيت بما أطلبه منك عشت سعيدة آمنة، لأن ما تسعون إلى نيله إنما هو أضغاث أحلام، ونحن الآن أهل الصولة والبطش، وخليفتنا صاحب السلطان والأعوان، فما قولك؟

وكان شمر يتكلم وهو ينظر إلى وجهها من وراء النقاب وهي معرضة عنه وفرائصها ترتعد، وقد جمد الدمع في عينيها وحارت في أمرها فظلَّت صامتة، فاستبشر شمر وظنَّ السكون جوابًا فأعاد الكرَّة وقال: إني والله ليعجبني تعقُّلك وسداد رأيك، فأفصحي لي عن رضاك وهذا يكفيني الآن.

فلم تعد سلمى تصبر على الجواب فحوَّلت وجهها إليه وقالت: إنك لتطمع في أمر يقصر عنه باعك، فانصرف من هنا بسلام.

فضحك وقال: إلى أين أنصرف يا سلمى؟ أأنصرف إلى أمير المؤمنين فأطلعه على أمرك فيصيبك ما أصاب ابن عمك؟ أظنُّك لم تفهمي مغزى كلامي بعدُ، فاعلمي إذن أن عبد الرحمن أصبح في قبضتنا ولم يبقَ له مطمع في الحياة، فاستبْقي نفسك وعامرًا، وإلا فالموت أقرب إليكما من حبل الوريد.

قال ذلك والخبث يتجلَّى في وجهه، فابتدرته سلمى قائلة: خسئت يا نذل! إن باعك وباع يزيد أقصر من أن تنالا شعرة من عبد الرحمن.

فضحك شمر ضحكة طويلة وقال: أتظنين أننا قاصرون عنكم؟! ألم تفهمي أن عبد الرحمن أسير عندنا وقد قبضنا عليه وهو يحاول قتل أمير المؤمنين؟ فمن أين تأتيه الحياة بعد؟! أقلعي عن عنادك وأطيعي ناصحًا يعرض عليك السعادة، فإذا رفضتها أذاقك الموت الزؤام.

قالت: لا تحسبني جاهلة ما تقوله؛ فقد علمت أن عبد الرحمن أسير، وأنك وشيت به، وأعلم أنك قادر على أن تشي بي أيضًا وتميتنا معًا، ولكن الموت مع عبد الرحمن خير من الحياة معك يا خائن! فامضِ لشأنك وافعل ما تشاء، والموت أسهل ما تخوفني به، وهو أحب إليَّ من قربك، فإذا بعدت عن وجهي لا أبالي حييت أم مت.

فوقع ذلك التقريع موقع السهام في قلبه، ولكنه كان شديد الولع بسلمى منذ كانت في العراق، وهو إنما لحق بهم إلى الشام وأوقع بعبد الرحمن طمعًا في الحصول عليها؛ لأنه لم يكن يجرؤ على منافسته فيها، فلما أوقعه في الأسر ظنها تيأس من حياته وتخاف على حياتها فترضى به، وكان يريد مخاطبة عامر في هذا الشأن، فلما لم يجده هناك خاطبها وعجب لشجاعتها وعزة نفسها، فقال: يا للعجب من جهالتك! لقد كنت أحسبك عاقلة فإذا أنت حمقاء مغرورة! ولكني أعرض عليك الحياة مرة أخرى فإذا رفضتها كان ذلك آخر العهد بك.

قالت: امضِ وافعل ما تشاء. اخرج من هنا وليكن ما يكون.

فخرج شمر والغضب ظاهر في وجهه وحركاته، وهو يلعن سلمى ويتوعدها، ولكن قلبه لم يطاوعه، فصبَّر نفسه ريثما يعود عامر ويحمله بالوعد أو الوعيد على إقناعها.

•••

أغلقت سلمى الباب وراء شمر وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجلست تندب سوء حظها وتفكر في مصير عبد الرحمن ومصيرها. حتى إذا كلَّت من البكاء والنحيب استرجعت رشدها وأعملت فكرها فلم ترَ خيرًا من أن تنتظر عودة عامر فتستشيره في الخروج من هذا الدير والاختفاء في مكان آخر ريثما ينفتح باب الفرج.

ومضى معظم النهار وسلمى بين بكاء وتأمل، دون أن تذوق أي طعام أو شراب. حتى إذا مالت الشمس نحو الأصيل سمعت وقع خطوات مسرعة أمام باب الغرفة، فخفق قلبها، ثم رأت الباب قد فُتح ودخل عامر وعلى وجهه ظواهر الدهشة فازداد اضطرابها وقالت: ماذا وراءك؟

قال: ما ورائي إلا الخير، ما بالك في هذه الحال؟ هل جاءك أحد بخبر جديد؟

قالت: كيف تسألني عن حالي وأنت تعلم أن عبد الرحمن مسجون؟ هل علمت جديدًا من أمره؟ وما سبب اضطرابك؟ قل ولا تُطِل السكوت.

قال: أما عبد الرحمن فقد علمت أنه حي في سجنه ولا خوف عليه الآن، وأما سبب اضطرابي فإني رأيت جوادًا واقفًا بباب الدير موسومًا بلفظ «عدة» فعلمت أنه من خيل الحكومة، وخفت أن يكون قد جاءنا أحد من رجال يزيد يريد بنا سوءًا؛ لأني صرت أحسب أشجار هذه الغوطة عيونًا علينا.

فقالت: لقد نطقت بالصواب، وأنا أيضًا أرى رأيك، فهل توافقني على الخروج من هذا الدير والاختفاء في مكان آخر؟

قال: نعم، ولكنني أخاف إذا خرجنا الساعة أن يكون صاحب ذلك الجواد في انتظارنا، فلنصبر قليلًا.

فتذكرت سلمى حديث شمر فقالت: ربما كان هذا الفرس لذاك الرجل الأبرص.

قال: وما شأنه؟ هل جاء إلى الدير اليوم؟

قالت: نعم جاء وتطاول إلى ما يقصُر عنه بنو أمية جميعهم.

فتعجب عامر وقال: وما تعنين؟ هل رأيتِه؟ وهل خاطبك في شأن ما؟

قالت: إنه جاء بعد خروجك هذا الصباح، وجعل يستعطفني ويسترضيني، ولما لم يرَ غير الإعراض خرج مغضبًا وهددني بالوشاية بي إلى خليفته، وما زلت مذ خرج وأنا أفكر في هذا الأمر، فلم أرَ خيرًا من الإسراع بمغادرة هذه البلاد.

فدقَّ عامر يدًا بيد وقال: تبًّا له من غادر! أظنه لن يصبر إلى الغد لكي يشي بنا، وقد كان من الحكمة أن تماطليه وتدافعيه ريثما نخرج من هذا المكان ولا سيما أنك تعلمين أن قيادنا في يديه، وأنه قادر على أن يؤذينا.

فقطعت سلمى كلامه قائلة: لا تلمني يا عماه؛ فإني لم أستطع صبرًا على قِحَته وغدره وتهديده. ولم أعد أريد الحياة بعد ما أصابنا. قالت ذلك وخنقتها العبرات فسكتت واغرورقت عيناها بالدموع، فندم عامر على ما بدا من لومه وقال: إني لا ألومك يا سلمى، فلو كنت أنا مكانك لما قابلته بأخف من ذلك، على أني أخفيت عليك أمرًا وقع لي بالأمس من ابن زياد، ولم أُطلعك عليه بعد.

قالت: وما ذاك؟ فقص عليها خطبة ابن زياد لها إلى أن قال: وقد ماطلته خوفًا من غضبه. والآن لم يبقَ لنا إلا التأهب للسفر، فقد بعت الجمال والأحمال فخفَّت أمتعتنا، ولم يبقَ لنا ما نحمله غير هذه الثياب.

قال ذلك وأخذ في جمع الثياب وحزمها، ولم يكد يفعل ذلك حتى سمع رئيس الدير يناديه باسمه، فأجفل وتحول إلى الباب ففتحه وتطلَّع فرأى الرئيس واقفًا تحت الصفصافة وأمارات البِشر على محيَّاه، فلما وقعت عينه على عامر أومأ إليه بإصبعه أن يأتي إليه.

فاستبشر عامر بوجه الرئيس وذهب عنه اضطرابه، واستأذن سلمى في الخروج إليه، ثم خرج على عجل. وقبل أن يصل إليه تحول الرئيس نحو السلم المؤدي إلى السطح وهو يومئ إليه أن يتبعه، فسار في أثره حتى صعد إلى السطح، ودخلا غرفة الرئيس، فإذا هناك عبيد الله بن زياد جالسًا على وسادة مثناة فوق البساط فانقبضت نفس عامر، وأوجس خيفة من قدومه؛ إذ تيقن أنه إنما جاء خاطبًا. ولكنه تجلَّد وتظاهر بالبشاشة والارتباك، فوقف له ابن زياد ورحب به وأجلسه إلى جانبه، وجلس الرئيس على جانب البساط بقرب الباب، فلما استقر بهم الجلوس قال عامر: كيف أصبح مولانا أمير المؤمنين اليوم؟

قال: أصبح في خير، وقد كلفني أن أحمل إليكم بشرى أظنها تسرُّكم، وإن كانت لا تسرُّني.

فسكت عامر، ثم أدرك أن سكوته يعدُّ احتقارًا لإنعام الخليفة فقال: إننا جند أمير المؤمنين، نأتمر بأمره.

قال: أنت تعلم ما في نفسي من أمر ابنتك وما خاطبتك به بالأمس، ألا تذكر ذلك؟

قال: نعم أذكر يا مولاي.

قال: وقد كان في نيتي أن أعود إليك مرة أخرى، فسبقني أمير المؤمنين؛ لأنه شاهد ابنتك اتفاقًا، فوقعت من نفسه موقعًا حسنًا، واعتزم أن يسعدك بالمصاهرة لتكون ابنتك من بعض نسائه.

فوقع هذا النبأ في أذن عامر وقوع السهم في قلبه، وتلعثم لسانه وظهرت الحيرة على محيَّاه فظل ساكتًا، فلم يخطر ببال ابن زياد أن عامرًا يتردد في الجواب، ولكنه حسبه فوجئ بنعمة لم يكن يتوقعها، فأعاد عبارته ونمَّقها وقال: ولو لم يسبقني أمير المؤمنين إلى ذلك لكنت أحسبني سعيدًا بمصاهرتك، ولكن أمره فرض، فأهنئك بهذه النعمة التي يغبطك عليها كثيرون.

فلم يزدد عامر بذلك الإيضاح إلا ارتباكًا، وحدثته نفسه أن يعتذر بخطبة سلمى لشاب آخر، ولكنه خاف أن يسأله عن اسم الخطيب وهو لا يقدر على التصريح باسمه ولا أن ينتحل اسم أحد سواه؛ لأنه لا يعرف أحدًا يسلم إليه سرَّه في تلك الديار، فلم يستطع غير التظاهر بالقبول وإسداء الشكر ريثما يدبر حيلة للفرار، فقال وهو يحاول الابتسام: إني أعدُّ نفسي أسعد الناس بهذه النعمة؛ لأن التقرب من أمير المؤمنين شرف وسعادة، وما ابنتي إلا جارية من جواريه، ولكني أرغب إلى مولاي أن يمهلنا يومًا أو يومين حتى نتأهَّب لحمل الفتاة إلى دار الخليفة؛ لأنها ستتلقى الخبر بالدهشة؛ لبُعد هذه النعمة عن خاطرها، ولا سيما أنها أصبحت اليوم مريضة.

فقال ابن زياد: لا أظن الخليفة إلا راضيًا بما ترتاح إليه العروس، وإذا تعجل الأمر فإنما يكون ذلك رغبة في استقدامها إليه ليرسل إليها من يكون في خدمتها حتى تصل إلى داره في أمن وراحة.

وسكت عامر، فحمل ابن زياد سكوته على الرضا، ثم نهض فنهض الرئيس وعامر، فودعهما وخرج.

•••

أسرع عامر إلى سلمى ليرى رأيها في هذا الأمر الجديد، وكان صبرها قد نفد في انتظاره، فلما أطل عليها وشاهدت البغتة على وجهه أوجست خيفة وابتدرته بالسؤال فقال لها: هلمَّ بنا نهرب، فإني لا أرى فرجًا إلا بالفرار من هنا.

قالت: ما الذي حدث؟

قال: إننا وقعنا في مشكلة أعظم مما كنا نخافه.

قالت: وما ذلك؟

فقص عليها حديث ابن زياد كما وقع، وكان يتكلم وهو يتوقع إجفالها فإذا هي قد أبرقت أسرَّتها وأشرق وجهها وزال غضبها ولم تُجب.

فقال: ما رأيك يا سلمى؟ ألا ترين أن نسرع في الفرار.

قالت: ولماذا الفرار؟

فاستغرب سؤالها وقال: ما هذا السؤال؟ ألا نفرُّ من هذه الهوَّة؟

قالت: أتحسب الاقتران بالخليفة هوَّة؟! وضحكت.

فازداد استغرابًا ولكنه حسبها تمزح فقال لها: صدقت، إن الاقتران بالخلفاء سعادة، هيا بنا نحمل أمتعتنا وننصرف قبل أن تداهمنا تلك السعادة.

فقالت: كيف نفر من سعادة يتمناها كل إنسان؟! أم تحسبني أمزح؟!

قال: لا أشك في أنك تمزحين.

قالت: كلا إنما أقول الجد، ومتى رأيتني أُزفُّ إلى الخليفة، عرفت أني أجدُّ ولا أهزل.

فلم يصدق قولها وظل يحسبها تعبث فقال: دعينا من المجون الآن فإن الوقت قصير. هلمَّ بنا نرحل، وأرى أن نخرج منفردين، وإذا رأينا حمل الأمتعة يدعو إلى شبهة تركناها.

قالت: إذا شئت الخروج فاخرج. أما أنا فإني أنتظر وفد الخليفة لأسير إليه.

فقال: دعينا من المجون يا سلمى فليس هذا وقته.

قالت والجدُّ بادٍ في وجهها: قلت لك إني لا أهزل، بل أقول الجد، وأنا باقية هنا حتى أُحمل إلى دار الخليفة، وإذا ساءك ذلك فابقَ حيثما شئت.

فقال وقد ملَّ إصرارها: إذا كنت تجدِّين فما أنا معك؟ وإلا فما الذي تعنينه؟

فقالت: كن حيث شئت؛ فإني أعني ما أقول.

قال: أتعنين أن تقبلي يزيد زوجًا لك؟

قالت: لا تقل: يزيد، بل قل: أمير المؤمنين.

فذهل عامر وظن نفسه في حلم، وكان وهو يخاطبها قد همَّ بجمع الأمتعة فلما سمع كلامها ترك ما كان بيده من الثياب، ووقف وأسند ظهره إلى الحائط مبهوتًا لا يبدي حراكًا، وهو يعجب لما سمعه منها، وقال في نفسه: لقد صدق من قال: إن النساء ضعيفات العقول، إن هذه الفتاة نسيت ابن عمها بعد أن كانت تتظاهر بالاستماتة في حبه ورضيت رجلًا كان السبب في القبض عليه وربما قتله. لك الله يا عبد الرحمن! ثم نظر إلى سلمى فإذا هي جالسة لا تعبأ بغضبه فناداها قائلًا: سلمى! قالت: نعم. قال: أأنت ابنة حُجْر بن عدي؟! قالت: لا أدري.

قال: ألم نكن بالأمس نبكي أباك تحت تلك الشجرة؟! ألم نقسم لنأخذنَّ بثأره؟! هل نسيت موقف عبد الرحمن والخنجر بيده؟! أنسيت عبد الرحمن ابن عمك وخطيبك؟! أنسيته لأنه وقع في ضيق ويئست من حياته؟! أطمعت في القرب من الخليفة ابن قاتل أبيك؟! أعوذ بالله! ما هذا الذي أراه؟! أفي حلم أنا أم في يقظة؟

فقالت بصوت هادئ لا يشوبه اضطراب وهي مطرقة: لا، بل أنت في يقظة.

فلما سمع كلامها تصاعد الدم إلى رأسه وبدا له فشله بعد أن شهد انقلابها فتناثر الدمع من عينيه وهو يحاذر أن تلحظ سلمى ذلك فتنسبه إلى الضعف، فتحوَّل وخرج من الغرفة وهو لا يدري ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب، ولم يصل إلى الصفصافة حتى لقيه الرئيس، فلم ينتبه لوجوده حتى سأله عمَّا كان من أمر سلمى، فلم يدرِ بماذا يجيبه لئلَّا يلمح كدره فيطلع على شيء من سرِّه، ويفتضح أمره، ولكنه تجلَّد وحاول الابتسام وقال: لا ريب في أنها اغتبطت بهذه النعمة. قال ذلك وتظاهر بأن أمرًا طرأ على ذهنه يدعو إلى سرعة الرجوع، فاستأذنه وعاد حتى أتى باب الغرفة وهو لا يلتمسه، فأراد التحوُّل عنه فوقعت عيناه على سلمى فإذا هي مشتغلة بشيء تحاول دسَّه في جيبها، ولما رأته بادرت إلى الباب فأغلقته في وجهه ثم أوصدته.

فلما رأى تستُّرها منه إلى هذا الحد، داخله ريب في أمرها، ولبث واقفًا بالباب وهو لا يفهم سرَّ هذه الظواهر الغريبة، فلم تطاوعه نفسه على طرق الباب وأحب العزلة برهة لعله إذا خلا بنفسه ينكشف له شيء من هذا الغموض، فانقلب راجعًا حتى خرج من باب الدير، ومشى في البستان حتى تجاوزه وهو غارق في بحار الهواجس، لا يدري إلى أين تسير به قدماه.

وما شعر إلا وهو على مقربة من الجوزة، ولما وقع بصره على قبر حُجْر اختلج قلبه في صدره لتذكره ليلتهم على ذلك القبر، فتاقت نفسه إلى البكاء فوق ترابه لعل هاتفًا ينبئه بحقيقة ما يبدو له من الغرائب، وفيما هو يفكر في ذلك مرَّ بخاطره الشيخ الناسك فقال في نفسه: يا ليتني ألقاه وأستطلعه هذا الأمر فلعله يفرج همي، ولم يكد يفكر في ذلك حتى رأى شيبوب خارجًا من وراء الجميزة وهو يثب على جذعها كأنه يحاول الصعود، فأراد عامر أن يناديه ولكن بصره وقع على أعلى الجوزة فرأى شيخًا متكئًا على بعض أغصانها، فتفرَّس فيه فإذا هو الشيخ الناسك بعينه. فأجفل وعجب لوجوده هناك، ثم تذكر ما ظهر منه من الغرائب السابقة فزال عجبه، وارتاح لالتقائه به في ذلك المكان، وقبل أن يهمَّ بمخاطبته رآه يتحرك، فتربص ليرى ما يبدو منه فإذا هو ينحدر نازلًا بأسهل ما يكون، فظل عامر واقفًا حتى وصل الناسك إلى الأرض والكلب يحوم حوله ويثب على يديه ورجليه كأنه يرحب به.

وكان الناسك قبل أن يصل إلى الأرض قد أرسل شعر ناصيته على جبينه وعينيه فغطى ما بقي من سحنته خاليًا من الشعر إلا رأس أنفه وصاح قائلًا: لقد قضي الأمر يا عامر، ولكن لا تجزع فإنهم لن يقتلوه على عجل، فارتعدت فرائص عامر واقشعرَّ بدنه وهمَّ بيد الشيخ ليقبلها فأمسك الشيخ يده وقال: تجلَّد يا عامر وكن رجلًا.

فأمسك عامر نفسه وارتاح لمكاشفته بحال سلمى فقال: إني لا أجزع على عبد الرحمن ولكني خائف على سلمى.

قال: وما يخيفك عليها؟

قال: لقد طلبها يزيد لتكون زوجًا له فقبلته بالرغم مني.

فأرخى الشيخ الناسك يده فأفلتت يد عامر، ولبث كلاهما صامتًا وعامر ينظر ما يبدو من كرامات الشيخ وقلبه يخفق، فإذا بالشيخ قد جلس وأسند ظهره إلى الجوزة وهو يحك رأسه بأطراف أظافره كأنه يفكر في أمر، ثم قال: وأي بأس على سلمى من زواجها بيزيد؟

قال عامر: ألا ترى بأسًا عليها يا سيدي؟ وهبْ أنه لا بأس عليها، فكيف تنكَّرت لعبد الرحمن؟!

فضحك الشيخ حتى بدت نواجذه وقال: لا شك في أنها لم تقرر ذلك إلا بعد تفكير.

فتعجب عامر وقال: لكن كيف يطاوعها قلبها على ذلك؟! كيف تخون خطيبها وابن عمها وترضى بذلك الأموي بديلًا منه؟!

فقال الشيخ: تأدب يا عامر، إن ابنة عدي لا تخون، وهي لم تأتِ الشام وتكابد مشاقَّ الأسفار وتتحمل الأخطار لتخون قلبها وتغدر بابن عمها.

قال عامر: ولكنها قد فعلت يا مولاي، وها هي ذي مستعدة للذهاب إلى يزيد.

قال: دعها تذهب، وأظهر لها رضاك بذهابها، ثم انظر ما يبدو منها.

فدهش عامر لتلك المعمَّيات ولم يلحَّ في الاستفهام لئلَّا يُغضب الناسك، ولكنه استحسن رأيه في مسايرتها ليستطلع ما يكنُّه ضميرها، وتظاهر برغبته في الانصراف إليها فابتدره الناسك قائلًا: اذهب إليها على عجل.

•••

نهض عامر ومشى وهو يتعثر بأذياله لفرط ذهوله حتى أتى الغرفة فرأى الباب لا يزال موصدًا فطرقه، وصبر فلم يجبه أحد، فألحَّ في قرعه ففتحته سلمى وتحولت إلى حصير جلست عليه وهي مطرقة، فدخل عامر وأقفل الباب وراءه ونظر في وجه سلمى فرأى الكآبة بادية فيه وكأنها كانت تبكي، فقال لها: ألا تزالين مصرَّة على رأيك يا بنية؟

فأشارت برأسها أن نعم.

فقال: لقد فكرت في أمرك بعد خروجي من عندك فرأيت أنك على حق؛ لأننا لا نستطيع الفرار الآن وعلينا الأرصاد والعيون من كل ناحية، ثم إن تقرُّبنا من الخليفة نعمة كبرى ستعود علينا بالخير.

فرفعت بصرها إليه وتفرَّست في وجهه هنيهة ثم قالت: يظهر أنك تريد الذهاب معي.

قال: وكيف لا؟!

قالت: لا، لا تذهب معي.

قال: كيف لا أذهب معك؟! وإلى أين أذهب؟!

قالت: لا أدري أين ينبغي أن تذهب، ولكني لا أريد أن يذهب معي أحد.

قال: ماذا تقولين؟ إذا كنت تعدِّين اقترانك بالخليفة نعمة فلماذا تريدين حرماني منها؟ إني لأرجو إذا صرت أنت زوجة أمير المؤمنين أن تساعديني في إطلاق سراح عبد الرحمن؛ لأنك ستتسلطين على قلب الخليفة ولا أظنه يرفض لك طلبًا، وربما وصلنا بوساطتك إلى مناصب رفيعة. قال ذلك وهو يراقب ما يبدو منها وعيناه شاخصتان إليها.

أما سلمى فحدقت ببصرها إليه وهي تشك في صدق كلامه ثم قالت: أصحيح ما تقوله يا عماه؟ هل تقرُّني على الذهاب إلى الخليفة؟ أقسم بعبد الرحمن أنك تسمح لي بذلك.

قال: نعم يا سلمى، إنه صحيح لا ريب فيه، وأقسم لك.

قالت: أطعني إذن ودعني أذهب وحدي.

قال: ولماذا؟ إني لأعجب من أمرك. أكلما جاريناك في غريبة أتيتنا بغريبة أخرى. إن إصرارك على منعي من ذهابي معك لأغرب من قبولك الذهاب. ما هذا يا سلمى؟ قال ذلك والأسف والعتاب باديان في عينيه، ولكنه لم يكد يتم قوله حتى رأى وجه سلمى قد علته أمارات الكآبة والغضب، فتقطب حاجباها وتوقدت عيناها وقد زادهما الاحمرار بريقًا حتى لم يعد عامر يستطيع النظر إليها، ثم وقفت بغتة وتحولت من السكون والرقَّة إلى الخفة والشدة وقالت: أتظنني ذاهبة للاقتران بيزيد؟!

قال: وفيم أنت ذاهبة إذن؟

فمدت يدها إلى جيبها واستلَّت خنجرًا كانت قد خبأته فيه وقالت: إني ذاهبة لأقتله بهذا الخنجر.

فأجفل عامر، وأكبر شجاعة سلمى، وقال: لكن كيف تفعلين ذلك يا سلمى؟ وكيف أرضى بأن تفعليه؟! إننا ما زلنا نشكو من اندفاع عبد الرحمن وعدم تبصُّره، وأراك تندفعين إلى ما هو أشد منه خطرًا.

فقالت: وقد هاجت عواطفها: أتعلم أن عبد الرحمن مهدَّد بالقتل ثم تمنعني من الذهاب إليه، وتلومني على رغبتني في اللحاق به؟! وكيف يدعونا يزيد إلى أن نسير إليه ويمكِّننا من التحكم فيه ولا نرضى؟! نعم إني عددت عمل عبد الرحمن تهورًا لأنه اقترب من يزيد وحوله الخدم والأعوان، ولكن يزيد يدعوني إلى الزواج به، وهي فرصة ينبغي ألا أضيعها. أم تريد أن أخاف على حياتي فأترك عبد الرحمن في خطر القتل وهو في قبضة يزيد؟ دعني أذهب إليه فإما أن أقتل يزيد وأنقذ الإسلام من شره وأنتقم لأبي، وإما أن أموت فداء حبيبي، أو نموت جميعًا. لا تقف في سبيلي إني ذاهبة إلى يزيد رضيت أم لم ترضَ.

قالت ذلك وقد تغيرت هيئتها من شدة ما اعتراها من الاهتياج والانفعال، فلم يزدد عامر إلا استغرابًا ودهشة، وظل برهة صامتًا متحيرًا ثم قال: إذا كنت ترين الموت هينًا عليك في سبيل عبد الرحمن، فلماذا تريدين أن أبقى؟ إنني إنما أعيش لأجلكما، فارفقي بي ودعيني أسرْ معك، فإما أن نموت جميعًا، وإما نجونا جميعًا. أم تراك تحسبينني جبانًا؟

فلما سمعت قوله أمسكت نفسها وتجلَّدت ثم قالت: حاشَ لي يا عماه أن أظن بك الجبن، ولكن لا فائدة من ذهابك، ثم قطعت حديثها كأنها كانت تهمُّ بأن تقول شيئًا ثم أمسكت عنه.

فابتدرها قائلًا: كيف لا يكون في ذهابي فائدة؟ وما فائدة بقائي هنا؟!

قالت: أعرني سمعك يا عماه، وتبصَّر في قولي، إنك إذا ذهبت معي كنا جميعًا في خطر الأسر أو القتل، فإذا لم أفز أنا بقتل يزيد وحُكم علي بالموت يُحكم عليك أنت أيضًا بمثله، فمن يسعى بعد ذلك في إنقاذ عبد الرحمن؟ وأما إذا كنت طليقًا وقُدِّر عليَّ الموت، فإنك تستطيع حينئذٍ أن تسعى لإنقاذ عبد الرحمن، وإني لأرجو إذا تمكنت من ذلك أن تقرئه تحيَّتي، وتنبئه بأن سلمى آثرت الموت في سبيل حبه على البقاء بعده، وأن عظامها تتهلل في أعماق القبر لتمكنها من إنقاذ حياته. قالت ذلك وخنقتها العبرات، وجلست وقد خارت قواها ووقع الخنجر من يدها، ثم انتبهت لنفسها فاسترجعت رشدها والتقطت الخنجر من الأرض وقرَّبته من فمها فقبلته وهي تقول بصوت مختنق: إن فيك آمالي وعليك متكلي، فإما أن تُغمد في أحشاء يزيد أو في أحشائي، ويا حبذا إذا كان في ذلك نجاة مالك فؤادي، ثم أغمدت الخنجر وأرجعته إلى جيبها، وجلست وقد تكسرت أهدابها من فرط البكاء وعيناها تتقدان شجاعة وثباتًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤