الفصل السابع

في مجلس الخليفة

تضاعف إعجاب عامر بشجاعة سلمى وبشهامتها بعد ما سمعه منها، ولكن بقي في حيرة ولم يدرِ كيف يجيبها، وأعمل فكره فلم يرَ مندوحة عن الإذعان لإرادتها، ولما تصور ما يهددها من الخطر تحقق أنها ملقية بنفسها إلى التهلكة، وأنها مع ذلك لا تستطيع إنقاذ عبد الرحمن، فقال لها: وما قولك إذا حكم القضاء بقتلك وقتل عبد الرحمن، هل تكون هناك فائدة من بقائي؟

قالت: أوصيك إذا حكم القضاء بذلك أن تقضي بقية حياتك فوق قبر أبي تبكيه عني وعن عبد الرحمن، وإذا ملكت رشدك فاذهب إلى الإمام الحسين سيد شباب المسلمين وجاهد في سبيل نصرة الحق، لعل الله أن يأتيه بالفرج بعدنا.

فسكت عامر إذ لم يجد ما يقوله، ثم عاد بعد قليل فقال: لقد سددت عليَّ السبيل بحجتك، وإني فاعل ما تأمرين، والله حسبي ونعم الوكيل.

قالت: ولكن احذر يا عماه أن تبقى في هذا الدير؛ لأنهم إذا عرفوا من أنا لا آمن أن يبعث يزيد إليك بجند يقبضون عليك على حين غفلة.

فقال: لقد أصبت، ولا فائدة من بقائي هنا وأنت في قصر الخليفة، ولكنني سأتنكر وأدخل دمشق لأتنسَّم الأخبار، وأوصيك أن تدبري الأمر بالتأني والحيلة عسى أن يوفقك الله إلى ما فيه الخير.

قالت: ليطمئن بالك، ولا تعبأ بما تراه فيَّ الآن من ظواهر الحدَّة، وتذكر كيف رأيتني حين جئتني بخبر يزيد.

قال: إني والله معجب بثبات جأشك يا سلمى، ولكنني أخاف عليك. قال ذلك وشرق بدموعه.

قالت: لا تكن أقل ثباتًا مني، وأنا فتاة وأنت كهل عركه الدهر، ولا يخفى عليك أننا نهضنا لعمل كبير، إذا فزنا فيه كان خيرًا وسعادة لسائر المسلمين، أفلا يجدر بنا أن نعرض أنفسنا للخطر من أجل ذلك؟!

فجثا عامر على ركبتيه ورفع يديه إلى فوق وقال: اللهم إني أستودعك وديعة أودعنيها عبدك حُجْر بن عدي، شهيد الحق ونصير صاحب الحق، فلا تفجعني فيها، إنك فاحص القلوب وعالم الغيب وأرحم الراحمين.

ثم نهض ونهضت سلمى وقد سكن روعها، وارتاحت لما تم لها من أمر الذهاب وحدها، وتعزَّت بما عوَّلت عليه من التفاني في سبيل الحب الصادق ونصرة الحق القويم.

وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وهمَّ الليل بإرسال النقاب، وأخذ التعب من سلمى وعامر مأخذًا عظيمًا؛ لما مرَّ بهما من الأهوال في أثناء ذلك النهار، فقضيا ليلتهما والقلق سائد عليهما.

واستيقظ عامر قبل الفجر وسلمى لا تزال في الفراش، فظنها نائمة وانسلَّ خارجًا من الغرفة وهو يريد الخلوة ليستخير ربه فيما يرجوه من ذهاب سلمى إلى دار الخليفة وفيما يخشاه من عواقب اندفاعها.

فصعد إلى السطح في هدوء لئلَّا يشعر به الرئيس، فلما أطل على الغوطة رأى الأطيار فيها بين تغريد وزقزقة ومداعبة، لا يشغلها شاغل عن التمتع بما خُلقت له، فاتَّجه فكره إلى ما هو فيه وقال في نفسه: هنيئًا لهذه الخلائق الصغيرة، إني إخالها أسعد حالًا من بني الإنسان، وإذا فاخرناها بما نعتقده في أنفسنا من السلطان عليها وما نرجوه من ثواب أو نتوقعه من نعيم فالواقع أنها أسعد منَّا حالًا؛ لا تجزع على حبيب ولا تخاف من رقيب، وما أدرانا أنها ترجو ثوابًا مثلنا؟ واعترض تفكيره معاء الماعز في الحظيرة وخوار الثيران فقال: ولا إخال هذه أتعس حالًا من أسيادها بني الإنسان، ونحن إنما نخدمها التماسًا لسعادتنا، ولكن السعادة تبعد عنا لما يقف في سبيلها من عقبات الطمع والشره مما لا نعرف له حدًّا.

ولم تطل أحلامه في عالم الخيال لما قام في نفسه من الاهتمام الشديد بأمر سلمى وذهابها إلى يزيد، فلما عاد إلى هذه الهواجس اقشعرَّ بدنه خوفًا عليها، ولكنه لم يدرِ ما يفعل وقد نفذت حيلته في استبقائها، فلم يشأ التسليم، وعزَّى نفسه بما سمعه تحت الجوزة من قول الهاتف: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فارتاح باله وتحول ذهنه إلى عبد الرحمن وخاف أن يستعجل يزيد قتله فيذهب سعيهم هباءً منثورًا.

وما انتبه إلى نفسه حتى وقعت أشعة الشمس على عينيه وهو ينظر إلى مشرقها على غير انتباه، فخاف أن تستيقظ سلمى ولا تراه في الغرفة فتضطرب، فمشى نحو السلم فإذا بباب عُلِّيَّة الرئيس قد فُتح وخرج الرئيس وقد تزمَّل بعباءته، فاستقبله عامر بالتحية، فردَّ عليه بمثلها وقال: أراك مبكرًا؟

قالت: خرجت أستنشق نسمات السَّحَر.

قال: ظننتك رأيت رسول الخليفة. ألم تراه؟

فاختلج قلب عامر عند سماع اسم الخليفة وقال: لا لم أرَه، أين هو؟

قال: جاء مساء أمس وأنتم نيام فبات عندنا على أن يراك هذا الصباح.

قال: وأين هو يا سيدي؟

فنادى الرئيس أحد الرهبان وأمره أن يدعو الرسول.

ولم تمضِ برهة حتى رأى الرجل صاعدًا، وحالما وقع عليه نظره عرف من برصه أنه شمر بن ذي الجوشن، فاستعاذ بالله من شره، وعلم أنه قدم لمخاطبته في شأن سلمى.

•••

أما شمر فاستقبل عامرًا باسمًا وقال له: هل تأذن لي في خلوة قصيرة؟

قال: تعالَ. ومشى به إلى جانب منعزل من جانب السطح، وقبل أن يصلا إلى المكان قال شمر: أظنك أدركت سبب مجيئي يا عامر؟

فرأى عامر أن يبغته بخبر خطبة الخليفة لسلمى لكيلا يترك له مجالًا للكلام.

فقال: لعلك قادم من قبل الخليفة لحمل خطيبته إليه؟

فلما سمع شمر ذلك بُغت واستوقف عامرًا بيده وقال له: ماذا تقول؟ وأي خطيبة تعني؟

قال: سلمى. قال: هل خطبها الخليفة؟

قال: هكذا يقولون، ونحن ننتظر وفدًا من عنده اليوم.

فبهت الرجل وظل صامتًا برهة ثم قال: إذن قد خرجت سلمى من يدي.

فخاف عامر إذا جافاه أن يشي بسلمى أو ينوي بها شرًّا، وظن مجاملته تدفع ذلك الشر عنه فقال: لا أدري أخرجت أم لم تخرج، ولكني أعلم أن مولانا أمير المؤمنين بعث يخطبها لنفسه، ومع ذلك فالمستقبل في علم الله.

قال: ويحك! أتغرر بي يا عامر؟ لكن هذا كله من عناد تلك الفتاة الجاهلة، ألم تخبرك بما لقيتني به من الجفاء أمس؟ أظنها كانت طامعة في الخليفة؟ قال ذلك وضحك ضحكة مغتصبة ثم قال: فلتهنأ بالخليفة هي وخطيبها الأول إذا كان لا يزال على قيد الحياة.

فارتعدت فرائص عامر وقال: هل تعرف شيئًا عن عبد الرحمن؟

قال: لا أعلم ما جرى له حتى الآن، ولكنني أخبرك إن عناد سلمى سيجر الوبال عليها وعليه، أتظن الخليفة إذا عرف علاقتها به يستبقيها أو يستبقيه؟! فلتهنأ ابنة حُجْر بما يجره عليها رفضها شمر. قال ذلك وتحول مسرعًا وهو يتعثر بأذياله لفرط سرعته، حتى نزل وخرج فركب جواده وسار، وعامر واقف وقد جمد الدم في عروقه وهو لا يدري ما يفعل.

وهمَّ عامر بالنزول، فإذا بفارس أقبل على الدير، ورآه يدخل من فوره على الرئيس ويخاطبه، ثم رأى الرئيس يتحول إليه هو قائلًا: أبشر يا عامر، إن وفد الخليفة قادم لحمل العروس، فأخبرها لتتأهب.

فهرول عامر حتى دخل الغرفة وهو لا يدري ما يقول لسلمى، وكانت قد نهضت ولبست ثيابها وتأهبت للسفر.

فقال لها: ألا تزالين يا سلمى على عزمك؟ قالت: قد عزمت واتكلت على الله.

قال لها: ألا تراجعين نفسك؟ ألا تذكرين أن في دار الخليفة أناسًا يعرفونك ويعرفون علاقتك بعبد الرحمن؟ أتظنين الخليفة إذا عرف حقيقة حالك يبقي عليك؟

قالت: إن الذي يرى الموت أمام عينيه ويسعى إليه باختياره لا يخاف العقبى. أتظنني أجهل أن شمرًا اللعين يترقب فرصة للإيقاع بي وأنه حالما يعلم بوجودي في دار الخليفة يطلعه على سري؟ ولكن …

فقطع عامر كلامها قائلًا: وما قولك إذا كان قد عرف ذلك قبل خروجك من هذا الدير؟

قالت: لا أبالي عرف أم لم يعرف، وليفعل ما يشاء، دعني الآن من بواعث التردد فقد عزمت وتوكلت والسلام. هل سمعت عن وفد الخليفة؟

قال: علمت الساعة أنهم قادمون لحملك، فإذا رأوني هنا ولم أذهب معهم يرتابون في أمرنا، وأرى أن أخرج بحيلة، فإذا جاءوا فاذكري لهم أني ذهبت في حاجة وسأوافيكم إلى دار الخليفة. قال ذلك ثم تنهد والتفت إلى سلمى وقال: إنك ذاهبة إلى خطر هو أشد مما خفناه على عبد الرحمن يوم خروجه لقتل يزيد، فكيف أرضى بهذا الذهاب؟ لا. لا. لا أدعك تذهبين وحدك.

قالت: لقد قُضي الأمر يا عماه، تعالَ ودِّعني على عجل، واحفظ وصيتي لك في شأن عبد الرحمن.

قالت ذلك وشرقت بدموعها، ولكنها حاولت الكظم وهي تتشاغل بإصلاح خمارها. أما هو فلم يعد يتمالك عن البكاء لاعتقاده أنه لن يرى سلمى بعد هذا الفراق، ولكنه لم يشأ أن يكدِّرها فقال لها: سيري في حراسة الله وارفقي بنفسك، وإذا رأيت سبيلًا للنجاة غير القتل فافعلي.

قالت: سأرى ما يكون، وأكبَّت على يده لتقبلها فضمها إلى صدره والدموع تتناثر من عينيه، ثم قال: حيِّي عني عبد الرحمن، ولا أكلفك إنفاذ خبرك إليَّ؛ فإني سأستطلع كل شيء بنفسي وأقف على مخبآت الأحوال في حينها، ولكنني أوصيك بأن ترفقي بنفسك ما استطعت.

قالت: لا تخف يا عماه، وأنت تعلم أني بنت حُجْر بن عدي، وهذا يكفي.

قالت ذلك وقد استرجعت قواها وأمسكت عواطفها.

وفيما هما في ذلك سمعا ضجيجًا في باحة الدير فقال عامر: إن الوفد قد وصل، وسأخرج خلسة حتى لا ينتبه إليَّ أحد، فاعتذري عني كما أوصيتك، أستودعك الله. ثم تزمل بعباءته وخرج مستخفيًا وانسل مسرعًا فما لبث أن اختلط بالجمع، ولم ينتبه له أحد حتى خرج من الدير وقلبه يقطر دمًا.

وكان الوفد قد وصل إلى الدير وفي مقدمته عبيد الله بن زياد، وقد أعدُّوا هودجًا مجللًا بالأطلس، وتقدم ابن زياد توًّا إلى الرئيس وطلب مقابلة عامر، فنزل الرئيس بنفسه إلى غرفة سلمى فاستقبلته بجأش ثابت، واعتذرت لغياب عامر وذكرت أنه سيوافيهم إلى دمشق، فعاد الرئيس بالخبر، فلم يعبأ ابن زياد بذلك ولكنه طلب أن يقابل سلمى، فأخذه الرئيس إليها فقابلته والنقاب على رأسها وأخبرته بغياب أبيها.

فقال: هل أنت مستعدة للذهاب إلى الخليفة؟

قالت: نعم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤