الفصل الأول

الوقت عشي قبل المغرب

يُكشَف الستار عن وصيد خيمة أعرابي قد فرش أمامها بساط (كليم) مقلَّم، جلست عليه أميمة البدوية، وأمامها نول نصبت عليه شالًا وهي تطرز. والشال من الحرير الأبيض، وإذا تفحصها الناظر وجدها مشتغلة الفكر، مختلجة اللب، قوية النفس، مُلِئت صراحةً وثباتًا. أما هي فعينها براقة قوية النظرة، ذات رمش أسود طويل الشعر، يظل خدًّا أبيض مشربًا بحمرة وردية ساحرة، إلى جانبه أنف صغير، حاد العرنين دونه، فم مثل فم الأطفال، طريء ندي صوتها في الحديث، بيِّن النبرة ليِّن النغمة. أما ملابسها، فغطفة زرقاء، وثوب أسود به أسماط من الفضة، وفي قدميها نعل بقبالين، يعلوهما خلخال من الفضة. وعلى الجملة، فهي فتاة لا تمتاز عن مثيلاتها إلا بفرط جمالها، وشدة سحر هذا الجمال.

البدوية (تنظر في النول وتقرأ) :
نعمة الحب يا حبيب فؤادي
متعة من نعيم جنة عدنِ
فاحفظ الحب بالوفاء لتحظى
بنعيم الفردوس في المنزلينِ
أجل، أجل، سيكون هذا الشال مذكرًا لابن مياح بمن تطرزه الآن إذا أبعدته الأسفار عني، وحل عقاله عند الرقاد، لاح له البيتان فتذكر. آه! متى تنقضي أشهر الشتاء حتى أُزَف إليه وتسعد النفس بجواره … لقد كان يزورني لا ينقطع عن داري حتى خطبني له أبوه، ليته لم يخطبني. وي … كلا! كلا! إنا سنجتمع إن شاء الله ولا فراق (تسكت وتنظر في النول مدةً، ثم ترفع رأسها كمن سمع صوتًا وتنظر هنا وهناك) من القادم يا تُرى؟! إنهم لم يذهبوا إلى البادية إلا منذ قليل (تنادي) زياد! (تنهض تدفع بالنول إلى جانب، وتنفض ملابسها، وتذهب صوب اليسار) زياد … إني سمعت وقع أقدام، أيكون أحد النَّوَر قد ألم علينا؟ (تنظر حذرة؛ فهي تمد عنقها كأنها تتسمع وبها شيء من الخوف، هنا تدخل ناعسة ابنة عم البدوية، وأخت ابن مياح، وهي فتاة عربية أكبر من البدوية سنًّا … يكون دخولها من اليمين من وراء البدوية على أطراف أصابعها قصدًا، فإذا التفتت البدوية ورأتها ذُعِرت، وأخذت تمسح صدرها بيديها، ثم وقفت يداها فوق ثدييها، وهي تتنهد).
ناعسة : ها! ها! ها! (تجري إليها تقبلها، وتحتضنها).
البدوية : ويحك ناعسة! لقد أفزعتني كافأك الله.
ناعسة : لا روع عليك! لا روع عليك! كيف حالك يا ابنة عمي؟
البدوية : بخير، وأنت؟
ناعسة : بخير ولله الحمد، ما ظننت أنك وحيدة.
البدوية : لقد ذهبوا إلى البادية جميعًا.
ناعسة : وأين صديقتك النِّوَرية؟
البدوية : من؟ ريطة؟ لقد ذهبت إلى مصر منذ شهر.
ناعسة : ما علمت ذلك.
البدوية : كيف تعلمين عنها شيئًا، وقد انقطعت عنا مدة طويلة، ليس بين مخيمنا ومخيمكم إلا مسافة ساعة، وي! ماذا جرى؟
ناعسة : معذرةً يا أميمة، إن أبي لم يعد يطيق أن يتولى له الطعام أحد سواي، وأنت تعلمين أن حكاية الطعام هذا لا تنقطع، بالله خبريني لماذا خلقنا الله نأكل ونشرب؟
البدوية : وكيف كان يمكننا أن نعيش؟!
ناعسة : لا أدري، لم تخبريني لماذا جاءت إليكم تلك النِّوَرية يا تُرَى؟
البدوية : كيف؟! جاءت ضيفة.
ناعسة : أجل أجل … ولكن عهدي بالنَّوَر لا يسيرون فُرادى.
البدوية : إنهم قوم فقراء يا ناعسة، وليس من مصلحة الفقير أن يستصحب فقيرًا يغالبه على ما ينال.
ناعسة : نحن الفقراء لا هم؛ لأنهم يتسولون، ويسرقون، ويتاجرون بأثمن الأشياء عند الناس، وأرخصها عليهم.
البدوية : وما هو هذا؟
ناعسة : العِرْض.
البدوية : وي! يتاجرون بالأعراض؟!
ناعسة : أجل؛ يمرون بالقرى فإذا وجدوا ابنةً سائمةً غفل عنها أبواها، سرقوها، ثم ظلت معهم كواحدة منهم، حتى إذا كبرت عرفت أساليبهم، ولم تجد في ذلك غضاضةً.
البدوية : أستعيذ برب العالمين … وهل تظنين أن ريطة من هؤلاء؟
ناعسة : هذا الذي من أجله أردت أن أعرف شيئًا عنها؛ لأني ما توهمت أنها منهم، إن بها شيئًا من العزة وكبر النفس، وإن كنت أراها أحيانًا على شيء من الجرأة.
البدوية : ذلك لأنها كانت من جواري الخليفة المستنصر كما تقول.
ناعسة : كانت من جواري الخليفة المستنصر؟!
البدوية : سمعتها تقول إنها كانت في خدمة ابنه الأمير نزار، ثم هربت يوم نُكِب.
ناعسة : نزار الذي حاربته قبيلتنا؟
البدوية : هل حاربت قبيلتنا أحدًا من أولاد الخليفة المستنصر؟
ناعسة : كذلك سمعتهم يتحدثون.
البدوية : من أجل هذا كان أبي يجادل ريطة … وريطة تقدح عينها شررًا، بل لقد قالت له يومًا من الأيام إنه نصر ظالمًا على مظلوم، ودعت عليه بما فعل.
ناعسة : دعت عليه؟
البدوية : أجل، ولم تحتشم.
ناعسة : وماذا قال أبوك؟
البدوية : ضحك وانصرف، هل كان يستطيع أن يؤذي ضيفه؟!
ناعسة : كلا! ومع ذلك فإن لأمثال هؤلاء الناس دلالًا على الرجال؛ لأنهم لما كانوا يعيشون عيشة الدعارة لم يكن يُنتظَر منهم أن يتأدبوا.
البدوية : صدقتِ، صدقتِ! بل لقد كان أبي يستطيب حديثها ويأنس بها، ولا يكاد يصبر عنها مع أنها امرأة مسنَّة.
ناعسة : مسنة؟ … إن بها أثرًا من الجمال تخفيه تحت ذلك الكحل الذي تكسو به وجهها عمدًا … لقد رأيتها يومًا وهي تغتسل قبل الرقاد، فرأيت وجهها أبيض كالقمر، نعم! إنها شريرة الطلعة والنظرة، ولكن الرجل …
البدوية : خسئتِ يا ناعسة! أتعنين أن أبي …
ناعسة : هاهاها! لا والله، ولكن …
البدوية : ويحك ناعسة! لم يكن أبي يأنس بها إلا لأنها كانت تعرف من أخبار الدنيا ما لا يعرفه إلا أمثالها، ولا تبالي في حديثها بشيء مما تعارف عليه الناس من الآداب، وفي هذا فرجة للقلوب أحيانًا.
ناعسة : أكنت تسمعين حديثها مع أبيك؟
البدوية : بعض الشيء، ولكني أعرف ذلك مما كانت تحدثني به هي.
ناعسة : كيف؟
البدوية : كانت تحدثني، ولا تحتشم، ولا تذكر أني عذراء.
ناعسة : كيف ذلك؟ بالله خبريني.
البدوية : لقد كانت تذكر لي سعادة الزوجين في خلوتهما … أف … دعيني!
ناعسة : ها، ها، وهل كان يسوءك هذا؟
البدوية : كلا، ولكني كنت أخجل، وهي لا ترحمني … تتبين ذلك مني فتضحك، وتقبلني، وتحتضنني.
ناعسة : هاهاها! يا ليت أني …
البدوية : أعوذ بالله منك يا ناعسة! أتدرين ماذا قالت لي ليلة رحيلها؟
ناعسة : ماذا؟
البدوية : قالت إنها ذاهبة إلى مصر، وسترقص للخليفة، ثم تذكرني له، وتغريه بزواجي.
ناعسة : فبماذا أجبتها؟
البدوية : زجرتها … بل لقد أهنتها؛ فقالت لي إنها تمزح معي.
ناعسة : أما والله لئن سمع بك الخليفة لرحل إليك يا أميمة.
البدوية : لا قدر الله … لا قدر الله … لِمَ تُحيِّريني؟ أجئت وحدك؟
ناعسة : أجل! أم زعمت أن يجيء معي …؟
البدوية : دعي عنك هذا!
ناعسة : آه منك يا أميمة … لقد أصبحت الآن تكتمين كل شيء.
البدوية : أنا؟! لا والله، ولكن …
ناعسة : لم يعد بك حاجة إليَّ؛ خطبك أخي وارتاح فؤادك، ولم يبقَ إلا …
البدوية : ناعسة!
ناعسة : سأخبره أنك لم تعودي تسألين عنه، ولا تفكرين فيه.
البدوية : ما أقساك يا ناعسة! تعالي، تعالي اجلسي (تترك لها فضلة من الكليم) انظري ما على النول.
ناعسة : ماذا؟
البدوية : لقد أوشكت أن أنتهي من تطريز شال أخيك.
ناعسة : شال أخي! ألا يزال أخي؟! لماذا لا تسمينه بغير هذا؟ أم يصعب عليك أن تقولي شال عروسي؟!
البدوية : شال عروسي وسيدي، أيرضيك هذا؟
ناعسة : كلا!
البدوية : وي! لا يرضيك؟!
ناعسة : إنه يسعدني يا أختاه؛ لم تكن لي في حياتي أمنية أرتجيها إلا أن يجمع الله بينكما، وقد أجاب سؤلي، فالحمد لله على ذلك؛ لقد ذاب أخي غرامًا بك ولوعةً، وأنت كم مسحت لك هذي الأكف دمعة، ما أسعدني اليوم يا أختاه!

(تقبِّلها وتقبِّلها البدوية.)

البدوية : شكرًا لك يا أختاه، شكرًا.
ناعسة : ماذا طرزت له؟
البدوية : اسمه المحبوب، اقرئي!
ناعسة (تقرأ) : «حسين بن مياح» ما أسعده بك يا أميمة! وما أشد ازدهاءه بالشال فوق رأسه يوم تكونين له حقًّا! سيُقال هذا عروس أميمة البدوية شاعرة الصعيد، وفخر بني قريظة.
البدوية : شكرًا شكرًا، واقرئي هذا.
ناعسة : ما هذا أيضًا؟ بيتين من الشعر؟ لا عجب، إذا لم يكن شعرك لمن تحبين فلمن يكون؟!
البدوية : إن الشعراء يمدحون الملوك تحببًا … ومن ملكي يا ناعسة من سلطاني؟ من خليفة أبي علي.
ناعسة : بل من سيد أبيك لديك (تنظر في النول)؟
البدوية : أنت وما ترين.
ناعسة : لا أستطيع قراءتهما.
البدوية : كيف؟ أليس الخط واضحًا … اسمعي (تقبض على النسيج، وتديره أربع مرات كلما انتهت من تلاوة شطر حوَّلته عنها، وهنا يبدو ابن مياح، ولكنه لا يتقدم، وإنما يأخذ ينظر ويستمع، وهو يكاد يذوب اغتباطًا وشوقًا):
نعمة الحب يا حبيب فؤادي
متعة من نعيم جنة عدنِ
فاحفظ الحب بالوفاء لتحظى
بنعيم الفردوس في المنزلينِ
ناعسة : أحسنتِ يا أميمة، أحسنت والله، أرنيها (تقدم البدوية نولها إليها) أجل (تنظر فيه) أعيديهما بالله عليك … إن للشعر من فمك لحلاوة … يُخيَّل إلي أنك لا تنطقين بهما إلا بفؤادك. ها، حسين! (وإذا بابن مياح قد دخل عليهما، فإذا تقدم غلبه شيء من القلق والرغبة في عناق البدوية، فيتقدم منها، حتى إذا التفتت إليه مد ذراعيه، فمدت البدوية ذراعيها عفوًا واحتضنته. أما الفتى فهو في العشرين من العمر أبيض اللون أصفر الشارب، قد تردى بقفطان أحمر تحزم عليه، وفوق القفطان عباءة من الحرير الأبيض، وعلى رأسه شال — كوفية — قد اعتقله بعقال).
مياح : أجل يا أُمَيْم أجل، إن الحب من نعيم الجنة لا من الدنيا، بل إن عناق العشاق لأجمل منظرًا من اتكاء الأبرار على الأرائك، وأنت يا أميمة، أنت أجمل من الحور، وأرق من ولائد النور … أين الشراب الطهور من كؤوس تزفها عيناك (يقبِّلها).
ناعسة : لا يفُتْك أنهم يحسبون هذه الدنيا لهم وحدهم، فهم لا يشعرون بوجود غيرهم معهم، كأنما خفقت عيونهم لا ترى إلا وجه المحبوب، ولا تسمع آذانهم إلا صوت الغرام من أعماق الفؤاد.
مياح : معذرةً يا أختاه معذرةً (يمد إليها ذراعه اليسرى إذ تكون الثانية حول البدوية)، لقد طال شوقي إلى ابنة عمي كما تعلمين فأنسانيك فرط لهفتي.
البدوية : معذرةً يا ناعسة!
ناعسة : لماذا تعتذران؟ والله ما سُرَّ قلبي بمثل ما رأيت اليوم … إني لموضع سرك وسرها، وربما عرفت من أمرها أكثر مما تعرف.
مياح : أتقول حقًّا؟ (يخاطب البدوية).
البدوية : لا تخفي الفتاة عن صديقة لها شيئًا من أمور فؤادها.
مياح : ولا الأخ عن أخته التي يحبها.
ناعسة (إلى البدوية) : ولقد جئت إليك، والله عمدًا؛ أردت أن أكون لكما في مثل هذه الساعة.
البدوية : آه! ولماذا لم تخبريني بأنه قادم؟
ناعسة : أكنت تريدين أن أخبرك بقدوم من تحبين لكي تظلي تفكرين فيه، وتشتغلين عني!
البدوية : ها ها ها!
مياح : ها ها ها!
البدوية : ومن أدراك أنني اليوم وحدي؟
مياح : ألممت عليك بالأمس خفيةً، ودنوت من الدار فسمعت عمي يأمر عبيده بتسريح جماله في البادية، وسمعته ينذرهم بمجيئه، فعدت وأسررت الخبر إلى ناعسة، وها هي قد تقدمتني لكي لا نُفاجَأ.
البدوية : ويل للمتأمِّرين!
ناعسة : لعمري لئن ظللت معها على هذا الحال ودخل عليك أهلها، ما حمدت ستري في شيء.
البدوية : وي! (تبتعد عنه).
مياح : آه! إن ذكرى العواذل — ذكراهم وحدها لتنفر الأليفَيْن، وتشقي العاشقَيْن.
ناعسة : لا روع عليكما، هأنذا بمرقب فاطمئنا (تخرج من حيث أتت).
مياح : أميمة!
البدوية (وقد دنا منها ابن مياح) : لا تدنُ مني … اجلس بُعَيْد هذا النول (تذهب هي إلى مجلسها منه).
مياح (يذهب وراءها) : لماذا؟ ماذا جرى؟
البدوية : أنت أدرى …
مياح : لا أدري والله، ألا إنك تنكرت لي على حين فجأة في ساعة لم نظفر بمثلها منذ شهرين.
البدوية : أجل … فماذا خبأك عني طول هذه المدة؟
مياح : آه يا أميمة! … خبأني عنك أبوك يا ابنة عمي، كأنه أوجس أني غدًا أصبحت على وشك أني أحملك إلى بيتي أغالبه على محبتك؛ فهو يغار مني …
البدوية : يغار منك؟!
مياح : أجل … ما رأيته نظر إلي منذ ذلك اليوم الهني إلا نظرة الحاسد المخجول.
البدوية : حقًّا؟
مياح : أجل، والله!
البدوية : وهل يمنع المحب رؤية من يحب أمر كهذا؟!
مياح : كلا … كلا، ولكن لعمي هيبة يا أميمة ومحبة في قلبي، أردت أن أقيله تلك النظرة وأحميه ذلك الخاطر؛ فامتنعت عن غشيان دارك على مضض مني ولوعة … ولطالما يمَّمتُ هذا المخيم — كما يممت بالأمس — فألفيت عمي فيه، وعدت أدراجي والعين بالدار عالقة، أتلفت تلفُّت الأم خلَّت رضيعها حتى تعود إليه كما عدت إليك الآن يا أُمَيْم.
البدوية : إذن فادنُ، ولكن إياك أن تغيب عني بعد اليوم أو تبالي بأحد.
مياح : كلا، كلا (يدنو منها) لن أبالي بأحد بعد اليوم … يالله! ما أشد دلالك يا أميمة! لقد — والله — أذعرني فكيف بالهجر … يالله! إني لا أطيق مسماه.
البدوية : إذا أنت غبت عني بعد اليوم؛ فوالله لن أُقبِّلك هذه القُبلة في حياتي (تُقبِّله).
مياح : يومئذ آخذها أنا عنك يا أميمة هكذا (يقبلها).
البدوية : لم أُرِد أن أبدهك بذلك ساعة جئت؛ لكي لا أحرمك لذة اللقاء، ولكني كنت واجدة عليك، ولذلك …
مياح : مددت ذراعيك لتضربيني، فعانقتني من حيث لا تعلمين.
البدوية : على غير قصد مني، ولا هوى.
مياح : إذن فعانقيني الآن بقصد، وهوى.
البدوية : إلي، إلي (يتعانقان، وهنا تنادي ناعسة من خلف الستار).
ناعسة : أميمة!
البدوية : صوت ناعسة (تبتعد عنه، ويظل ابن مياح جالسًا في مكانه متكئًا على يده، وهو متطلع إلى البدوية، وهي واقفة).
مياح : ما سمعت شيئًا، تعالي.
ناعسة : أميمة (على بعد كبير أيضًا).
البدوية : هذه هي تنادي، لبيك.
مياح : لا تبالي بأحد.
البدوية : كيف؟! انهض من مجلسك يا أخي، إن ناعسة تنذرك.
مياح : أنا لا أبالي بأحد، كذلك أمرتني.
البدوية : قم! لقد أقلتك أن تطيع.
مياح : هذه المرة وحدها.
البدوية : أجل، أجل، انهض! (ينهض ابن مياح).
ناعسة (قبل دخولها المرسح) : أين أنت يا أختاه؟
البدوية : لبيك، هأنذا …
ناعسة (تدخل) : قد رأيت أباك يعدو على بعيره الأبلق … ماذا تفعل يا حسين؟
مياح : لا شيء، لقد وعدت أن لا أبالي بأحد، ولا سيما بعمي، بل لقد أمرت بذلك.
ناعسة : ويحك … حسين … هلم … انصرف إذا لم تكن تريد لقاء عمك، أو فانحدر في الوادي ريثما يعود … ثم أقدم علينا كأنك وافد.
مياح : ولا هذا أيضًا.
البدوية : فماذا أنت فاعل؟
مياح : سأقف بالعراء حتى يعود … فإذا حط رجله ودخل عليك ورآك؛ فاستأذني لي عليه ودعيني أظل على ما عهد في من الإباء وحفظ حقه علي، لا أريد أن يرى أنني دخلت دار عروسي على غير علمه ورضاه.
ناعسة : ما أعرفك بحق الأعمام!
البدوية : هذا رأي حسن.
ناعسة : انصرف على بركة الله!
مياح : وداعًا، لا لا! لقاء يا أميمة، لقاء (يهم بالذهاب بظهره)
ناعسة : فهمنا، فهمنا، انصرف (يعود ابن مياح فيتقدم من البدوية) ماذا؟ …
مياح (يقرب من البدوية ويُقبِّلها) : لماذا أحرم نفسي قبلة الوداع (يبتعد وهو يتكلم) إن من العشاق من يشتهي فراق المحبوب رغبةً في عناقه ساعة النوى.
البدوية : إليك … إليك … (يخرج ابن مياح جاريًا) لقد ضرَّج خدي أخوك يا ناعسة.
ناعسة : آه! هذا افتئات على الغلام يا أختاه.
البدوية : كيف … ألا ترين ماذا صنع بي؟ (تُقدِّم خدها).
ناعسة (تُقبِّلها) : لقد ضرَّجه الخالق يا أختاه … لا تأخذي أخي بجريرة غيره.
البدوية : ويحك ناعسة!
ناعسة : أتريدين أن أمنعه أنا قبلة من خديك … أأنا موكلة بخفارتهما، ومع ذلك فلن أسمح لكما بعد اليوم بشيء مما رأيت؛ فإني — ولا أكذبك — قد ملكتني اليوم غيرة (تنظر خارج المرسح) أين عمي؟ لماذا لم يحضر؟ ها هو الآن بمنعطف الجبل يسير الهُوَيْنى، ليتني لم أذعر الفتى.
البدوية : إذا كانت قد ملكتك غيرة مني … فأمريه الآن أن يكون حيث هو.
ناعسة : والله لقد غرت حقيقة.
البدوية : ها ها ها! ها هو ذا بالعراء، اذهبي إليه، دعيه يُقبِّلك ألف قبلة … فوالله لا أغار.
ناعسة : لا تغارين … حنثت، ورب الكعبة!
البدوية : وي! أجل والله، لقد حنثت … شعرت إذا تمثلت قبلات أخيك بلذعة في فؤادي يا ناعسة … يالله ما هذا؟!
ناعسة : ها ها!
البدوية : معذرةً معذرةً! لن أغار بعد اليوم، ولكن لماذا تغارين أنت يا ناعسة؟
ناعسة : لا أدري، ولكني تمنيت من حيث لا أدري أن …
البدوية : أن يكون لك عروسًا!
ناعسة : أخي … عروسًا … أجل … كلا، وي … لا أدري لقد اختلط لبي.
البدوية : ها ها ها!
أسامة (من الخارج) : أُمَيْم.
البدوية : لبيك يا أبي (تخرج إليه).
ناعسة (لنفسها) : قوادة، ورب الكعبة!
أسامة (يدخل، وهو رجل في الخمسين من عمره ذو لحية، وخطها الشيب، وشاربه غير طويل، وهو لابس لبسه العربي البدوي) : سلام على ابنة أخي ناعسة … كيف حالك يا بُنَيَّة؟
ناعسة (تتقدم منه ساعة الدخول، وتُقبِّل يديه) : بخير يا عماه.
أسامة : كيف حال إخوتك وأمك؟
ناعسة : نحمد الله على العافية يا عماه.
أسامة : كيف جئت وحدك؟
ناعسة : جئت برفقة أخي حسين.
أسامة : حسين، وأين هو؟ (يلتفت).
ناعسة : إنه بالعراء يا عماه حتى يأذن له أهل الدار.
أسامة : وي! (لنفسه) لقد أخذ الغلام علي غضي (لناعسة) اذهبي إليه … عليَّ به.
ناعسة : سمعًا يا عماه (تخرج من اليسار).
أسامة : فارس العين والضمير حسين لحظ مني أني أستحيي أن أرى فارس أُمَيْمتي بعيني فأقالني، بارك الله … مضى اليوم أشهر أربع لم أره فيها إلا فواقًا في حظيرة أبيه، كأنما كان يتجنب لقائي، وكان لا يفارق مجلسي لحظة، ولا يميل عني هنيهة … أحبه ورب الكعبة، ولكن، واسوأتاه … ماذا يخجلني منه وأنا أسلمه عرض ابنتي بيدي؟! … آه! هذا يؤلمني، لعن الله الشيطان! يلقي في روعي كأني أبيح عرضي مستبيحًا … لا … رب آمنت بك، وبكتابك، وسنة نبيك، ولكني لا أطيق تخيل ابنتي بين ذراعَيْ سواي … آه! إنك اللهم تعذبني بما أخذت به حَماي؛ إذ حماني رؤية أمها بعد الخطبة … لقد آليت يومئذ لا أحرم الخاطب رؤية ابنتي، وأراني اليوم حنثت، وإن لم أمنعه. كلا، سأقلع عن هذا أو فلأزفها إليه وشيكًا لِأُقال طول النظرة، وي! كلا … لا أفارقها، ليعِش معي … أجل … ليعِش معي … (يسكت ويراجع نفسه) لا أراه بعيني … كلا … ليعش بعيدًا عني فلن أراه، هذا عرض يُباح فما يهمني أحل أم حرم! كلا، من يطيق هذا؟! (يعاود نفسه)، وأعيش كالشجرة الملحاة! أعيش، ولا أُمَيْم. أعيش، ولا حسين (يسكت) رب أَوْلِني منك عطفًا … أنزل على نفسي السكينة … رب اهدني بهداك (يركع مستقبلًا القبلة ويسجد) حمدك اللهم هذي سنة خلقك يا أكرم الأكرمين (ويظل راكعًا مستقبلًا القبلة، ويدخل حسين تتبعه أخته ناعسة، فينتظر أن حتى يتم صلاته، فإذا سلم أسامة يسارًا ورأى حسينًا نهض إليه) هلم إلى صدري يا بني … أنت أحب الناس إلى نفسي … لا تأخذني بما أجرمت إليك، ابقَ هنا، لا تبرح حتى أزف إليك أميمة.
مياح : عماه! عماه! (يقبل يده، وعمه يقبله وناعسة تمسح دموعها، وعند ذلك تدخل أميمة).
أسامة : تعالي يا ابنتي … هذا بعلك … خذيه … لا تبارحي مجلسه، لا تفارقيه، لن يكون أبوك في هذا المنزل إلا ضيفًا عليكما، وسأقضي بقية أيام حياتي أشم في أردانكما ريح شبابي الماضي، وأدعو الله لكما بالسعادة (أميمة ومياح يركعان ويقبلان يده) انهضا انهضا، بارك الله لي فيكما، إلى الدار، علينا بالعشاء يا أميمة، عاونيها عليه يا ناعسة.
ناعسة : حبًّا وكرامةً (تخرج هي وأميمة من اليسار).
أسامة : حسين!
مياح : لبيك!
أسامة : إني راحل إلى المغرب عما قريب.
مياح : إلى المغرب يا عماه! … لماذا؟
أسامة : لقد استنفرنا مولانا أبو علي المنصور خليفتنا الآمر بأحكام الله؛ لنفقأ عين فتنة أثارها ابن عمه حسن.
مياح : من حسن هذا يا عماه؟
أسامة : الأمير حسن بن نزار، نزار الذي حاربناه عام مولدك يا بني حتى سقناه أسيرًا إلى أخيه المستعلي بالقاهرة، ثم قضى في السجن نَحْبَه.
مياح : وما كان جرمه يا عماه؟
أسامة : آه! هذا ما تُغضَى له عيني يا بني.
مياح : كيف؟! أكان على الحق يا عماه؟
أسامة : كان مظلومًا يا بني … لما مات الخليفة المستنصر ترك ولدين: نزار وأحمد، وكان نزار أكبر من أخيه بثلاثين عامًا، ولكنه كان زعيم فرقة دساسة خبيثة تُسمَّى الإسماعلية؛ نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق … كانت تكره صاحبنا الوزير الأفضل شاهنشاه، فلم يشأ الأفضل أن يبايع نزارًا هذا خشيةً منه على البلاد، وبايع أخاه أحمد ونعته المستعلي بالله.
مياح : هذا أبو مولانا الخليفة الآمر.
أسامة : أجل يا بني هو … إنه مدين لنا بما هو فيه اليوم من الملك … لذلك فإنه يبعث إلي أنا وأبيك بهدايا كريمة كل عام … إن قبيلتنا هي التي أخضعت نزارًا هذا، وهي الآن مدعوة لقتال ولده حسن في برقة.
مياح : ولماذا ترحل يا عماه إذا كان نزار مظلومًا؟ فإن المعاونة على ولده إثم فيما أرى.
أسامة : ما كانت الخلافة ميراثًا يا بني، إنها للأصلح منا نحن المؤمنين، وأنت تعلم أنا لم نرَ في الفاطميين مثل أبي علي رجلًا … يا بني إنه رجل يحب الشعر، ويكرم العرب، ولا يفرط في تراث أجداده … لم تزهر الدنيا كما أزهرت في أيام هذا الخليفة.
مياح : ولكنه سفاك للدماء، ألم يقتل الأفضل شاهنشاه وزيره، ثم يقتل بعده المأمون البطائحي؟
أسامة : آه يا بني! إنك لا تدري لماذا قتلهما … قتلهما لأنهما عملا على نزع الخلافة منه؛ فالأفضل ود أن يظل وزيرًا يعمل بقوة الخلافة كلها، وجعل الخليفة ألعوبة في يديه، وأما المأمون فقد استكشفنا مؤامرة دبرها كان يريد بها خلعه من الخلافة، ومبايعة محمد بن نزار الذي كان في اليمن، وقد تحقق له الأمر؛ إذ وجد الخليفة محمدًا هذا قد جاء ووجد المأمون وإخوته في بيت مختفاه …
مياح : لقد فعل الخليفة حقًّا … لا مراء في ذلك، ولكني سمعت يا عماه أنه فاسق … لا يني عن العبث بالأعراض غير خجل ولا وجل.
أسامة : آه! هذا ما يحزنني يا بني، لعن الله الشيطان، هكذا الملوك يا بني إلا من عصم ربك! (يسكت) لعلي ذاهب بعد الحصاد يا بني.
مياح : في حفظ الله يا عمي.
أسامة : أجل. سأرحل مطمئنًّا … اسمع يا حسين، إني أترك هذا البيت وابنتي ومالي وعبيدي لتقوم عليهم، فإن أسعدني الله بالشهادة فهي لك، فاعمل بما أمر النبي — عليه السلام — إذ قال: «اتقوا الله في الضعيفين: المرأة، والرقيق.» إن الرق مفسدة والحرية مكرمة، فلا تأخذ عبدًا بما جنح وإلا كنت دونه خلقًا، ولكن إياك والتفريط في الكرامة … إياك والرضاء بالضيم، وإذا استُنفِرت من بعدي لقتال فلا تحجم، دع ابنتي في بيتها حتى تعود إليها أو تعود في ذمة الله. هذي وصيتي إليك، وأنت عند ظني بك إن شاء الله.
مياح : سمعت، ووعيت، وأطعت، والله خير الشاهدين:
نحن يا عمُّ معشر إن دُعِينا
لقتال العدا نفرنا سِراعا
دأبنا الجُود فالنفوس عطاء
خالص بَيْدَ أنها لن تُباعا
أسامة : أحسنت يا بني أحسنت، من أجل ذلك ارتضيتك فارسًا لها (هنا يدخل عبد أسود) ما وراءك يا زياد؟
زياد : إن بالوادي قومًا وفدوا من عند مولانا الخليفة.
أسامة : من عند الخليفة! أخبروك بهذا؟
زياد : أجل يا مولاي … قابلوني أنا وسعيد وسائر العبيد عند منعطف الوادي، وحادثني بذلك فارس منهم يلتمع النبل في عينيه.
أسامة : مرحبًا بالأضياف مرحبًا، اخرج إلى العبيد فاجمعهم، وحيوا الأضياف في اللقاء.
زياد : سمعًا يا مولاي (يخرج من حيث أتى).
أسامة (لنفسه) : لقد استبطأوني لعن الله الشيطان … حسين!
مياح : لبيك.
أسامة : اذهب يا بني، وانظر في العشاء … اعقر لهم بعيري الأبلق، وألقه إلى العبيد ليعدوا لنا طعامًا؛ إنا لم نعد شيئًا قيِّمًا.
مياح : كيف أعقر بعيرك الأبلق يا عماه وقد دفعت فيه مائة جمل لطي؟! إنهم لا يأكلون دمًا بل لحمًا، والجمال في هذا سواء.
أسامة : أجل يا بني، ولكن وفد الخليفة لا بد أن يُنحَر له خير النَّعَم.
مياح : ومن أين لهم بمعرفة ذلك يا عماه؟
أسامة : ما بك يا غلام؟! ألست من أبيك؟! إن العربي لا يكتفي من الكرم بظاهره، وما كريم من يموه على الناس كرمه.
مياح : ولكن الأبلق هذا …
أسامة :
ويك! قل لي يا ابن مياح متى
عزَّت الدنيا علينا في الكرَمْ
هانت النفس علينا، عجبًا
نبذل النفس، ونستبقي النعَمْ!
مياح : صدقت يا عماه صدقت … ولكن …
أسامة : إذن فلأنحره بيدي، هلم (يخرجان من اليمين، ويدخل رجلان قد ترديا رداء أهل البادية إلا أنه على غاية ما يكون من الحسن، أما هذا اللباس فيستر من تحته ملابس الإمارة، فالأول وهو الخليفة الآمر بأحكام الله ظاهر الجلال، والثاني إذ هو الأمير أبو علي بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش جليل، إلا أنه أقل مظهرًا، والرجلان متنكران).
الخليفة : هذا هو المكان الذي وصفته ريطة يا أبا علي.
أبو علي : إن ريطة دقيقة الوصف يا مولاي، لا يفوتها صغير ولا كبير، كيف؟! تلك كانت مهمتها في الحياة، ومن أجل هذا ارتضيتها أمينة سرك.
الخليفة : لقد — والله — أنصفت يا أبا علي … إن القوم في القاهرة قد عرفوا كل نساء سري، وعيوني على ملاحهم، فوجب علي أن أتخذ غيرهن لذلك، ولا أكذبك أني سئمت وصال التركيات والصقلبيات؛ إن بهن لكنة لا تسر العربي، وأراني ظفرت في ريطة بمفتاح خزائن الأعرابيات.
أبو علي : عسى أن تكون صادقة فيما خبرت يا مولاي.
الخليفة : أما وربي لئن تبين لي أنها أرسلتني إلى الصعيد عبثًا لأستلنَّ لسانها من قفاها، ولأفقأن عينها التي كذبتها فكذبتني.
أبو علي : ما أظنها تخطئ الوصف يا مولاي.
الخليفة : لقد أبصرت بفتاة كاللؤلؤة على المخمل الأسود تدخل خيمة بجوار هذي، وهي كما وصفت لي ريطة … لولا أنني لم أملأ كل عيني منها.
أبو علي : تعني تلك الفتاة البيضاء ذات الخلخال الأبيض، والخمار الأزرق، والثوب الأسود.
الخليفة : أجل هي يا أبا علي … لعمري لئن كانت هي البدوية التي ذكرتها ريطة لأغدقن عليها نعمتي، ولأجعلنها قهرمانة قصري ما حييت … هذي الفتاة ساحرة يا أبا علي، والله لئن كانت هي البدوية لاستوجبت أن أهبها كل ملكي.
أبو علي (يضحك) : ها ها ها! هب أنها فتاة أخرى يا مولاي، ألا تهبها ملكك سواءً بسواء؟!
الخليفة : لا أدري.
أبو علي : لا تدري … كيف؟ إنك لا تطلب من البدوية إلا جمالها الفتَّان الذي روت عنه ريطة، وقد فتنك جمال من رأيت الآن قدر ما فتنك وصف الأولى، فماذا يفضل هذي عن تلك؟
الخليفة : إن للبدوية هوى قديمًا في نفسي يا أبا علي، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا … لقد ذكرت لي ريطة ما ذكرت عن جمالها فصورته لنفسي، وعشقته، وهمت به في الفلوات والبوادي كما تراني الآن. أليس مجيئي من مصر مقر ملكي إلى سيوط هذي غرامًا وهيامًا؟
أبو علي : وفوق الهيام يا مولاي.
الخليفة : ليس فوق الهيام إلا الجنون (يضحك) أتعني ذلك؟ أجل إنه جنون، ولكن لذة العيش في الجنون … فأنا إذا آثرتها على غيرها فذلك ائتمارًا بأمر الهوى، ولا مرد لما قضى.
أبو علي : صدقت يا مولاي … ما عجبت لشيء في الحياة عجبي للإنسان.
الخليفة : كيف ذلك؟
أبو علي : أنت أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، تخفق راية عزك برًّا وبحرًا، ويزأر أسد مجدك شرقًا وغربًا،١ ومع ذلك تصبو إلى جمال فتاة عربية شريدة في الفيافي، ولا تجد غضاضةً عليك أن تهبها كل جاهك وعزك كما تقول، فما هذا يا مولاي؟
الخليفة : أصغِ يا أبا علي، هاك الجواب: لقد شبِعتْ نفسي من كل شيء؛ نلتُ كل ما تشتهي النفوس، وبلغتُ أقصى المقاصد، وهدأت ثائرة النفس مني، فأنا أستطيع اليوم أن أعرف السر … أتدري ما هذه الدنيا التي نعيش فيها؟ وما دنيا من سبقونا في الجاهلية، وما بعدها … في الشرق والغرب على اختلاف العادات، والمشارب؟!
أبو علي : هاتِ لنرى!
الخليفة : الدنيا هذه … أي طريقة معاش الناس، أمر افتعلوه؛ خلقوه لأنفسهم، ونشأوه لأنفسهم كما تنشئ لنفسك دارًا تحشوها أثاثًا، وتهيئها كما تشتهي، وقد تتقوض، وتُبنَى على نظام آخر يختلف عن الأول في كل شيء؛ تتغير أو تفنى، ولكن الأرض التي تقيم دارك عليها باقية لا تتغير ولا تفنى.
أبو علي : هذا صحيح، كل ما خلقه الله يبقى ولا يتغير، وكل ما خلقه الإنسان يتغير ويفنى. هذا شيء صريح؛ فما المراد؟
الخليفة : الإنسان على الفطرة. لا يستطيع التخلي عنها مهما حاول، ومهما قيد نفسه أو قيد غيره بشرائع، وأديان، وآداب، وواجبات … وأول شيء رُكِّب فيها حب البقاء على أحسن حال، وآخر مجهود الإنسان الحصول على المرأة ليبقي منها في ولده من حيث لا يدري، والأمم كالأفراد يتزاحمون ويتشاحنون ويتضاربون ويتقاتلون؛ لتحصيل ذلك على أحسن حال، وكل ذلك تحقيقًا لفكرة البقاء التي رُكِّبت عليها أنفسهم من حيث لا يعلمون إلا بإعمال الفكر.
أبو علي (بعد التفات وإصغاء بتلطف) : لو نهض أفلاطون اليوم من قبره ما كان عجبه لهذه الحِكَم دون عجبي ودهشتي.
الخليفة : ليست هذه فلسفة يا أبا علي، هذا ما رأيته كما قلت لك بالاختبار والنظر، دخلت بيت الحياة … الدار التي وصفتها لك … أو الواحة التي أخصبها الإنسان بيده، وهيأها كما اشتهى، وسط الصحراء القديمة الخالدة التي لا تفنى، وسرت في الواحة من أدناها إلى أقصاها، وأمعنت في طلب آخرها؛ فرأيتني خرجت إلى الصحراء مرةً ثانيةً.
أبو علي : فماذا شعرت يومئذ؟
الخليفة : شعرتُ — بل تبيَّنتُ — أن المرأة سيدة العالم، وأن الرجل خادمها، ولكن ضعف جسمانها وقلة حيلتها اليدوية توهمانه أنه السيد وأنها المسود … وقد جمد الرجل على هذا الوهم وظل مغتبطًا به فزادت سيادة المرأة عليه؛ لأنه لما لم يعرف ذلك لم ينازعها سلطتها الحقيقية، وقد زادته الأديان والشرائع ثباتًا على هذا الظن؛ ولذا فهو الآن لا يعمل إلا لها ولا يقاتل إلا لحمايتها ولا يُعنَى إلا بلذتها، فإذا قصر في ذلك تكدر وغضب، لا لأنه لم يحصِّل غرضه بل لأنه جدير يومئذ أن تَزْوَرَّ عنه المرأة وتغضب عليه؛ فكان مصابه عظيمًا. أما إذا هي عزته أو هوَّنت عليه الأمر اطمأنَّ وأفرخ، كأنه يشعر من أعماق نفسه أنه لا يعمل إلا لها، وإن كان هناك بون شاسع وفرق عظيم بينه وبينها حسبًا ونسبًا. إن الفطرة لا تعرف المراتب ولا تُقِر المناصب … حَسْبُ المرأة أن تكون جميلةً لتكون سلطانةً، تأمر وتنهى، وتحل وتبرم بلسان الرجل ويده. يتوهم الرجل إذ ذاك أنه يفعل ذلك بملكه، والحقيقة أنه مَسُوق بيدٍ خَفِيَّة هي يد المرأة التي تلبسها يد الفطرة كالقفاز.
أبو علي : صدقت … صدقت يا مولاي … مرحى لك مرحى.
الخليفة : ولذلك فإني لا أراني أتردد في أن آخذ من كانت فتانة الحسن، لا لأهبها ملكي تكرمًا بل لأعطيها ما أمرتني الفطرة أن أعده لسيدة آمرة مطاعة، وأنا أتظاهر من حيث لا أرى بأنني أنا الآمر بأحكام الله، لا المأمور بأحكام النساء.
أبو علي : ها ها ها، إذا كنت اليوم على وشك أن تهب ملكًا وتمنح تاجًا؛ فإني سائلك بالله أن لا تنساني، أعطني الوزارة التي كانت لأبي، يغفر الله لك.
الخليفة : ها ها ها! إذا شاءت البدوية أن تنالها يا أبا علي فهي لك بإذن الله … ألم تعِ ما كنت أقول؟!
أبو علي : معذرةً يا مولاي … ما أنا إلا رجل واهم مثلك.
الخليفة : ها ها! هلم بنا نرجع، أنا في انتظار رسول أسامة، وأرانا غبنا عن العسكر طويلًا … سنظل متنكرين في هذه الثياب حتى نرى الفتاة، ونستطلع رأي أبيها.
أبو علي : هو كذلك يا مولاي، هلم بنا، عوضني الله خيرًا.
الخليفة : ها ها ها! هلم بنا (يخرجان من اليسار، وتدخل البدوية عجلةً تتبعها ناعسة ومعها وسائد).
البدوية : هلمي يا ناعسة، هلمي! أعدي الوسائد؛ إني رأيت الجمع يدنون من مخيمنا، أسرعي (تلقي لها الوسائد فتأخذها ناعسة، وتهيئها إلى اليسار).
ناعسة : وفد الخليفة يجلس على هذه الأرض، يا للعجب!
أسامة (يدخل، وهو يرخي كمه كأنه كان مشتغلًا بشيء يخشى أن تتسخ منه أطراف الكم) : إن هذه الأرض أرفع منزلًا من عرش الخليفة نفسه، هذي أرض لم يدنسها دنس، ولم يُقترَف عليها مُحرَّم، هذه الأرض أخرجت للناس عمك وأباك، وأهلك الذين أجلسوا ابن فاطمة على عرش الخلافة، هلم أسرعي، أعدي العشاء.
ناعسة : حبًّا وكرامةً (تخرج أثناء حديث أسامة، لا ينقطع الطبل، وعليه فإذا خرجت ناعسة يقدم الموكب يتقدمه بعض الجند والخليفة وأبو علي في وسطه، ويحيط بهم جملة عبيد وبعض رجال ونساء جاؤوا على الصوت، وهم ينشدون):
يا مرحبًا بالوافدينْ
يا مرحبًا بالأكرمينْ
قد زارنا كل منى
وجاءنا الخير المبينْ
أسامة وعبيدة :
أهلًا بوفد الآمر
مولى موالي المسلمينْ
خليفة الله على
كل البرايا المؤمنينْ
الخليفة وأبو علي ورجاله :
شكرًا لمن أنتم له
خير الموالي الصالحينْ
ما كان عبدًا من يكونْ
كمثلكم في العالمينْ
أسامة : مرحبًا بكم يا سادة، مرحبًا برسل أمير المؤمنين، نزلتم أرضًا سهلًا ومكانًا رحبًا، تفضلوا بالجلوس على بركة الله.
الخليفة : سلام على أسامة شيخ أعراب الصعيد ونصير مولانا الخليفة، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام …
أسامة : وعلى أمير المؤمنين وعليكم السلام.
الخليفة : إنا وفدنا على ديارك قاصدين، لقد طالما ود أمير المؤمنين أن تكون معه في القصرين جليسًا يأنس بك ويستعز، وتكون له نعم النصيح الأمين، وقد بلغه أنه لا يقعدك عن الرحيل إليه إلا فتاة حسناء تؤثر البادية على الحاضرة، ولبس العباءة على الشف، فجئنا إليك بأمر مولانا نستدعيك إليه أنت وابنتك لتنزل بها في منظرة اللؤلؤة …
أسامة : شكرًا لأمير المؤمنين وحمدًا، لا مرد لحكمه ولا تعقيب لكلماته … ولكني استُنفِرت لقتال أعدائه في المغرب وسأرحل في سبيل الله وشيكًا، إن أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه — كثير الوزراء والنصحاء، بيد أن له من حكومته وصواب رأيه عصمةً من الزلل، وحمى من الخطل، وما أنا إلا أعرابي لا أعرف إلا الله والسيف، فأما السياسة ومناهجها والممالك ونظامها، فما لي فيها حيلة ولا اقتدار، وما خسر امرؤ عرف قدر نفسه …
الخليفة : إن الخليفة قد أقالك الرحيل إلى المغرب؛ لأنه يريدك لأمر أهم لديه وأعظم …
أسامة : إن كان الخليفة قد أقالني فما أقالني ربي، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هذا يوم أيها الفرسان يغتبط به المسلم، فإما نال الشهادة فزُفَّ إلى جنة عدن، وإما استُبقِي حتى يتم حق الله عليه في قومه ودينه، أفتعرض لي الجنة ثم آباها، أوثر عليها مجلسًا في منظرة على الخليج من القاهرة؟! كلا، كلا …
الخليفة : لك ما ترى يا أسامة، ولكنا أتينا إليك بأمر مولانا نلقي إليك جملته، فإن يكن لك على حكاية بِره بك اعتراض فليس من الجود أن تحملنا إياه، تعالَ معنا أنت وابنتك شاكرًا ثم اعتذر؛ فإنه لا يأبى عليك السؤل متى استبان له العذر …
أسامة : سأذهب معكم أيها الوفد الكريم وحدي، أما ابنتي فلم تعد تقعدني حمايتها عن الرحيل …
الخليفة : كيف؟
أسامة : لقد عزمت أن أزفها إلى ابن عمها فهو اليوم يحميها، بل لقد نزلت لهما عن ضيعتي ومالي ورجالي، وأصبحت اليوم ضيفًا عليهما، فإذا قضى مولاي أن أجيء إليه فإني أملك ذلك، أما ابنتي فلم أعد أملك رحيلها أو بقاءها لنرحل معًا حتى ألاقيه، ثم لأرحل بعد ذلك في سبيل الله (يرى ابن مياح داخلًا) هذا بعلها ابن أخي حسين بن مياح …
الخليفة (يُؤخَذ) : بعلها! هذا؟! … سلامٌ يا ابن مياح.
مياح : وعليك السلام أيها الفارس، مرحبًا بك وبصحبك في ديارنا.
الخليفة : شكرًا لك يا ابن مياح.

(عند ذلك تدخل أميمة وناعسة، فإذا رآها الخليفة امتلكته دهشة لروعتها، أثناء التفات الخليفة يلتفت الجمع وأسامة أيضًا إلى القادمتين.)

أسامة : وهذه ابنتي أميمة، وبنت أخي ناعسة.

(أثناء نطق أسامة بالجملة ينطق الخليفة بجملته الآتية دون أن ينتظر أسامة.)

الخليفة : هذه! هذه! ما أبهى هذا الجمال! لقد صدقت ريطة.
البدوية (عند انتهاء أبيها والخليفة من جملتهما) : مرحبًا بالفوارس أنصار مولانا أمير المؤمنين.
الخليفة : مرحبًا بك يا زهرة العرب، إن أمير المؤمنين يهدي إليك هذا العقد تذكارًا لشكره القديم الباقي.
أسامة : شكرًا لأمير المؤمنين؛ إنه يطوقنا منة كبرى، تقدَّمي يا أميمة فتقبَّليه.

(تتقدم أميمة إلى الخليفة فيقلدها العقد وهو مأخوذ.)

الخليفة : سبحان الخلَّاق العظيم!
البدوية (وقد ابتعدت وتعرضت المرسح في عودتها إلى الجمع) : لَتلك والله مكرمة تملأ بيت آبائي عزًّا وفخرًا، ما لنا بشكر أمير المؤمنين يَدان.
الخليفة : يا أميمة، لقد كلفني مولاي أمير المؤمنين أن أستأذنك أنت وأبوك الكريم في الرحيل إليه لتكونا في جواره بقصر اللؤلؤة؛ اعترافًا بفضل أبيك على آل بيته، وأملًا في الائتناس به وبرأيه.
البدوية : إن أمير المؤمنين يستكثر قليلنا ويستكبر صغيرنا، فاحمل إليه سلامنا وشكرنا ثم ابذل له عذرنا، إنا قومٌ لا نطيق سكنى الحضر ولا نستلذه، فما ظنه أمير المؤمنين بِرًّا بنا ليس إلا شقوةً لنا، له منها ثواب حسن نيته ولنا فيها عذاب إيثاره.
الخليفة : ولكن قصر اللؤلؤة يا أميمة مغنى ليس له في القصور مثيل.
البدوية : من ذا يترك هذه البادية الواسعة الأرجاء، يؤثر عليها غرفًا ضيقة الصدر مقيدة الهواء؟ من ذا يترك سماء الله انتثرت فيها نجوم اللؤلؤ والجمان، إلى قبة دانية افتعلتها يد الإنسان؟ إن العربي أيها الفارس لا يعتاض عن خيمته إيوان كسرى، ولا حاضر نعمته نعمة أخرى، يذود عن المدينة ليبقي على نفسه سيفه وخُلقه ودينه، يرى أهل الحضر فيشفق عليهم، ويستنظر الله إليهم؛ خلق غير وثيق، وتنكر للصديق عند الضيق، سعاية يوم الامتحان، ووشاية يوم الكتمان، وما نرضى لأنفسنا أيها الفارس، ولا لأعقابنا حالًا كهذا:
نحن قوم نرى الحياة اعتزازًا
بنفوس أبية وصوارِمْ
قد خُلِقنا لا نعرف المَيْن في الحقْ
قِ ولا نرتضي بصغرى المظالِمْ
ديننا دين عِزَّة وإباء
ومضاء ونجدة ومكارِمْ
والبوادي كفيلة ببقاها
وسواها كفيلة بالمحارِمْ

(تنسحب إلى الوراء هي وابن مياح، وتدخل وسط جماعتها.)

أسامة : أحسنت يا بنية!
مياح : أحسنت يا أميمة!
الجميع : مرحى! مرحى!

(تظل البدوية وابن مياح مشتغلين عن حديث الخليفة وأسامة بما يجري بينهما من الكلام الذي لا يُسمَع.)

الخليفة : لقد استلبت هذه الفتاة لبي، وأفحمتني فما تنفع حيلتي، دبرني يا أبا علي.
أبو علي : لقد — والله — أُرتِج علي، فلا أدري بماذا أشير، ولكن لماذا لا تخطبها إلى أبيها؟
الخليفة : أما سمعت أنها مخطوبة لابن عمها هذا؟
أبو علي : قد ينزل عنها إيثارًا لأمير المؤمنين.
الخليفة : لا أرى ذلك؛ إن هؤلاء الأعراب لا يروننا مثلهم بما خالط دماءنا من دماء الأعاجم، ومع ذلك (يلتفت إلى أسامة) يا شيخ العرب، لم أشأ أن أبدهك بما يريد أمير المؤمنين، إن أمير المؤمنين ليعرف صدق مقال ابنتك ويقره، بل لقد كان منذ أيام في قاعة الذهب يثني على الأعراب، ويذم عِشرة الأخلاط، ولقد ودَّ أن يحيي في نفسه سنة آبائه الأولين ويحفظ نسب الفاطميين باتصاله ببيت كريم؛ فنظر وتدبر فإذا أنت قطرة العطر المشتارة من أزهار العرب؛ فأوفدني إليك خاطبًا، ولكني لم أشأ أن أنفض إليك الخبر إذا استطاع أن يكون هو أول النافضين، كذلك أمرني وكذلك فعلت، فلما لم تجبه إلى طلبته في القدوم عليه، لم أرَ بدًّا من أن أنفض إليك عبارته، وأنت ترى أن مصاهرة أمير المؤمنين …
أسامة : آه! ويح نفسي من لكنة تصيبني وعيٍّ يتولاني (للخليفة) لقد كان فيما فات بلاغ أيها الفارس (يلتفت عنه، ثم يعود إليه ويتكلم) إن أمير المؤمنين سيِّد البلاد له الأمر وعلي الطاعة، ولكن ابنتي — كما خبرتك — قد خرجت من يدي، عزمت أن أزفها إلى ابن عمها.
أبو علي : ليس العزم نفاذًا يا أسامة.
أسامه : كيف؟! إني ما عزمت على شيء ترددت فيه؛ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، بيد أني وهبتها لابن عمها، ولن يحل الله أن أهب ما ليس ملك يميني … فإذا عُدْتَ إلى مولاي أمير المؤمنين فانشر له بلاغي وما قد رأيت.
الخليفة : ولكن الهبة لم تتم يا أسامة … إنك لم تعقد له عليها.
أسامة : ما حتَّم الله علينا أن يكون العقد كتابةً، لقد رضيت بزواج الفتى من ابنتي وأنا وليُّها، فتمَّ العقد والحمد لله.
الخليفة : ولكن شرعة الناس في مصر أن يكتبوا بذلك؛ حفظًا للأنساب وقطعًا للارتياب.
أسامة : إنهم هناك في حاجة إلى ذلك؛ لأنهم يخشون تعنُّت الأزواج ونحن لا نخشى عنتًا، وقد زوجت ابنتي بملكي لكفؤ لها ولن يغلبه أحد عليها، بل لعمري لئن لم أفعل ذلك وكانت ابنتي في يدي، لأبيتها إلا على طاهر الخؤولة والأعمام.
الخليفة : وي … أفأنت لا ترى خؤولة أمير المؤمنين؟! …
أسامة : أنا وما أرى أيها الفارس … أقلني الحديث في هذا الشأن.
الخليفة : إنك لجريء المقالة يا أسامة!
أسامة : ما عهدتني أخشى في الحق لومة لائم … إن هؤلاء الفاطميين قد استباحوا الخلافة لأنفسهم بما لهم من صلة بفاطمة الزهراء لا بزوجها علي عليه السلام، وإلا لتساوَوْا هم وبنو العباس في حق الخلافة … فإذا كانت المرأة قد ميَّزتهم؛ إذ كان دم محمد في ابنته كل شرفهم، فلماذا نراهم لا يستولدون إلا الروميات، والصقلبيات، والتركيات؟! أفٍّ لهم كيف يكذبون؟!
الخليفة : ويحك يا أسامة! إن لأمير المؤمنين حرمةً …
أسامة : ما دام على الحق، ولا أراه في هذا على شيء من الحق.
الخليفة (لنفسه) : إذن فلا سبيل …
أبو علي : إلا بالاقتسار.
الخليفة : هذه جرأة لا تُحمَد يا أسامة.
أسامة : لا أجرؤ إلا على الظلم أيها الفارس … أما سمعت مقال ابنتي؟! … أين الفتاة؟
ناعسة (تنادي) : أميمة.
أسامة : أميمة.
البدوية (تأتي من بين الصفوف) : لبيك يا أبي.
أسامة : تعالي واسمعي … إن أمير المؤمنين يخطبك لنفسه.
البدوية : يخطبني! فضل من أمير المؤمنين، ولكني لا أبيع ابن عمي هذا بتاج بني فاطمة الأكرمين.
مياح : ولا أنا إياكِ بِحُورِ الجنة أجمعين.
البدوية : إن كان العِقد سبيل الخطبة؛ فهذا عِقده أرده إليه مع الشكر العظيم (تنزعه، وتقدمه للخلفية وهو مضطرب).
الجميع : مرحى! مرحى! (تظل أميمة ممسكةً بالعقد تقدمه إلى الخليفة، وهو ملتفت عنها).
الخليفة : لقد أشعلت الفتاة نار غرامي، وزادني الرفض هيامًا.

(عند ذلك تعلق البدوية العقد على يد الخليفة وهي ممدودة، ثم تنسحب وهو في غفوته الأولى، وتبقى يده ممدودة، والعقد مدلى منها وهو لا يشعر.)

أبو علي : اقتسر، إنما العاجز من لا يستبد، دع لي الكلام (إلى أسامة) لقد بقي لنا يا أسامة أن نبلغك وعيد الخليفة … إذا أنت لم تجبه إلى طلبته فقد أهدر دمك.
أسامة : أهدر دمي! اخسأ أنت ومن عنه تتوعد، تنذرني بوعيد الخليفة المأفون؟! وي! لعمري لئن بغى علي لتموجن البوادي بكل عربي في صدره نفَس يتردد، وليسيلن الوادي قبائل إلى القصرين فهدوهما هدًّا، وثلوا عرشه ثلًّا.
مياح : أراكم يا قوم شر الرسل! متى كان أمير المؤمنين يهم بمنكر كهذا، وبخرق كالذي عنه تنذرون؟! إن ابنة عمي هذه زوجتي بسنة الله ورسوله؛ فهل قام أمير المؤمنين لينقض سنة الله ورسوله؟! لعمري لئن كان كذلك لأهدرتُ أنا دمه.
أبو علي : ويحك! يا زعنفة العرب.
أسامة : خسئت من أحمق ثرثار، أيقال هذا لهذا الفتى؟! لعمري لنقطة دم من دمه لأشرف من دمائكم أجمعين، انصرفوا خبِّروا خليفتكم بما سمعتم، وافتقدوا زادكم على الأبواب، لقد نحرت لكم أكرم نعمي — حسن ظنٍّ بكم وإجلالًا لمن أرسلكم — ولكني، وإن غضبت، لا يصرف الغضب نفسي عن الجود، اذهبوا على بركة الله، ولا تحملونا على أذاكم بما تهترون.
أبو علي : ويحك! أتقول هذا؟! يا رجال (يدخل عدة رجال مسلحين).
البدوية : ويلاه!
أبو علي : اعتقلوا هذا الشيخ، واذهبوا بالفتاة إلى العشاريات.
أسامة (وقد دنا منه بعضهم شاهرين السيوف) : إليكم يا أعوان الشيطان (يجرد سيفه ويضاربهم، ولكنهم في النهاية يضربونه فيقع، ويكون الجماعة الذين ذهبوا ليأخذوا البدوية قد ضاربوا ابن مياح، وهو متعلق بأهدابها حتى جُرِح فسقط، وخرج الناس حاملين البدوية على أيديهم).
البدوية (أثناء خروجها) : حسين، حسين!
مياح (وهو ملقى على الأرض) : لبيك، لبيك!
ناعسة (تعود بعد فرارها فترى أخاها) : أخي، أخي، ويلاه جُرِحتَ؟
البدوية (من الخارج) : حسين، حسين!
مياح : لبيك هأنذا (يحاول النهوض فيسقط)، ويلاه! خارت قواي.
ناعسة : ويلي! ويلي (تضمد جرحه بالشال تنزعه عن المنسج).
البدوية (على بعد) : حسين، حسين!
ناعسة (تسمع تأوه عمها فتلتفت) : من هذا؟! عمي يُحتضَر، ياويلتاه!

(تذهب إليه.)

أسامة : عاطني سيفي، عاطني سيفي.
ناعسة (تبحث عن السيف، ثم تقدمه له) : ها هو ذا، رباه!
مياح : أميمة! أميمة!
أسامة (يحاول أن ينهض، ولكنه لا يستطيع، فيمد يده ليقبض على السيف فيتناوله، ثم لا يلبث أن يسقط من يده) : سيفي، سيفي … آه، آه، آه.

(يظل على الأرض يتأوه ويُسدَل الستار.)

١  كان عَلَم الفاطميين قطعتين من النسيج خُيِّطتا على صورة أسدٍ مفتوح الفم، فإذا ملأهما الهواء انتفختا فمثلتا أسدًا يسير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤