ما دمنا نتكلم عن الفن

على كثرة ما نناقش الفن والفنانين والكتابة والكُتَّاب على صفحات جرائدنا ومجلاتنا ووسائل إعلامنا المختلفة، إلى درجة غريبة في أحيان؛ إذ أليس من الغريب أن تشاهد أو تسمع برنامجًا بأكمله أو ربما سهرةً تناقش عملًا فنيًّا مثل أغنية أو رقصة، وتناقش مسائل «الوحي» وتفاصيل عملية «الإبداع»؟ ذلك أن مشاكل كهذه تعتبر مشاكلَ خاصةً جِدًّا لا يمكن أن يناقشها المجتمع إلا إذا كان قد فرغ من مناقشة معظم مشاكله الحقيقية العامة، حينئذٍ باستطاعته أن يتفرغ لمناقشة مهنة كالهندسة، ويتتبع تفاصيل خلق وإقامة عمارة مثلًا.

المهم

على كثرة ما نناقش مسائل الفن والكتابة، فنحن أحيانًا نَغفَل عن أبسط مبادئ الفن والكتابة. وأولها في رأيي التفريق بين الفنان والحرفي، وبين الكتابة و«حرفة» الكتابة. فنحن مثلًا حين نتداول كلمة «موهوب» أو كلمة «فنان»، نعني بها ذلك الإنسان الذي أُوتي قدرةً فريدة على مزاولة الرسم مثلًا أو التلاعب بالكلمات كشاعر. نعتبر الموهبة إذن شدة حذق في صنعة الرسم أو صنعة الكتابة أو صنعة التمثيل. ويصبح «الفنان» حينئذٍ إنسانًا مساويًا تمامًا لأي حرفيٍّ آخرَ حاذقٍ في صنعته.

ولنأخذ القصة مثلًا.

عاملناها كحرفة، وعاملنا القَصَّاص أو اعتبرناه إنسانًا يحذق «فن» القَصِّ، وجعلنا اختلاف القصاصين بعضهم عن البعض يُقاس «بمهارة» كلٍّ منهم في كتابة القصة أو حبكها.

ولا شك أن الفنون جميعًا بدأت كصنعة أو كحرفة يُتقِنها بعض الناس، كما يُتقِن آخرون «قص الأثر» أو صناعة القلل. وظل الناس يعجبون بصنعة الفن لمرحلة طويلة جِدًّا من الوقت، ويفرِّقون بين الرسام أو النحات والآخر بمقدار كفاءته أو حذقه في الرسم أو النحت أو الكتابة.

ولكن العصر الحديث حمل لنا ثورة في مفهومنا للفن وللفنان، فالفنان لم يعد مجرَّد ذلك الحاذق في نحت الحجر أو الرسم بالفرشاة، أصبح الفنان هو الشخص الموهوب، ليس الموهوب في صنعة التلوين أو الكلام وإنما الموهوب برؤيته. أي أنه موهوب لأنه «يرى» فيما نراه أشياء «لا نراها»، أشياء نعبرها أو نراها ولا نفهم مدلولها ومعناها. الفنان هو ذلك الإنسان القادر على أن يكتشف لنا أو يعيد اكتشاف العالم من وجهة نظره. بمعنى آخر الفن لم يعد حذقًا وصنعةً، وإنما أصبح «رؤية» مختلفة إلى الواقع. فصحيح أن لنا عينين وأننا نرى، ولكننا في حقيقة الأمر رؤيتنا محدودة جِدًّا، محدودة بقدرتنا الخاصة على الرؤية، محدودة بمعلوماتنا عما نراه، محدودة حتى بما نريد رؤيته.

فنحن نعيش في الواقع ونرى، ولكن أبصارنا محدودة بقدرة أعيننا على إدراك ما نراه. الفنان هو الإنسان القادر على أن يرى ربما أبعد، ربما جانبًا آخر لا نراه، ربما نظرةً جديدة إلى النفس والآخرين. إن الإنسان في الكون الهائل يشبه الطفل يوضع في حجرةٍ مظلمة لا يعرف ما فيها إلا بمقدار ما يلمس أو يتذوَّق أو يرى. ولأن الأصل هو الظلام، فالقدرة على الرؤية محدودةٌ جِدًّا. الفنان هو بمثابة شمعةٍ تُضيء وترينا أشياء ما كُنَّا نراها، أو بمعنًى آخر قوةٌ بصرية وإدراكية جديدة تُضاف إلى قدراتنا السابقة؛ فنحن مثلًا نمر بالعربجية كل يوم، ولكننا لا ندرك أنهم بشر وأن لهم أحاسيسهم البشرية البالغة الرقة إلا حين نقرأ مثلًا قصة العربجي الذي مات ابنه واضطر إلى العمل في نفس اليوم، وهو يحاول أن يحدِّث ركاب العربة عن ابنه وعن إحساسه بفقده ولا أحد يأبَهُ، وهكذا في آخر النهار يجد نفسه يتحدث إلى حصانه عن ابنه الذي فَقَده. بقصةٍ كهذه جعلنا تشيكوف «نرى» إنسانية ذلك الرجل، بحيث ما من مرة نرى فيها عربجيًّا إلا ونراه مُضافًا إليه رؤية تشيكوف له.

الفن كان صنعة حاذقين في الصنعة فعلًا. ولكن الفن في عصرنا الحاضر له مفهومٌ مختلف تمامًا، إذ لم يعد صنعة، أصبح رؤية، أو وجهة نظر.

وقديمًا كان يقسم الناس الأعمال الفنية إلى فنونٍ تشكيلية، وهذه بدورها يقسمونها إلى نحت ورسم وزخرفة إلى آخره، وأدب وهذا بدوره يقسَّم إلى رواية ومسرحية وقصة طويلة وقصة قصيرة ومَقَال. بل وأُضيف إليها أنواع أخرى: التمثيل والإخراج المسرحي والسينمائي والرقص والموسيقى … إلى آخره. ذلك النوع من التقسيمات «المهنية» للفنانين لم يعد مُهمًّا؛ إذ أصبح المهم في عصرنا نوعًا أو خبرةً، أو صدق الرؤية التي يراها الفنان سواء الرؤية البصرية أو السمعية.

هنا ارتفع دور الفنان من إنسان يصنع الأعاجيب والطرائف ليستدرَّ إعجاب الآخرين به وبعمله، استحال إلى ما يشبه الرسول أو قرن الاستشعار الاجتماعي الفائق الحساسية. أصبح هو ذلك الملَّاح أو «الناضورجي» الذي يعتلي الصارية و«يرى» الآفاق لركاب السفينة وينقل لهم هذه الرؤية بصدق ودِقَّة. على وجه أكثر تحديدًا تحوَّل الفنان من كائنٍ طريف وظريف ومجنون بعض الشيء وعبقري في روايات أخرى، تحول من «أعجوبة» إلى وظيفة اجتماعية لا يمكن أن يستغني عنها مجتمع، إذ هو قد أصبح «عين» المجتمع الذي ترى له وتنقل إلى ملايين خلاياه كُنْه ما تراه من خطر أو أحلام أو من نظراتٍ جديدة تمامًا أو إرادة أو ثورة.

طبعًا لم يتحوَّل كل الفنانين إلى هذا النوع، ولا تزال الأغلبية العظمى من الفن والفنانين والنقاد والجماهير ترى في الفن نوعًا من الصنعة البالغة الإتقان والروعة، ويأخذ الفنان مكانته على قدر حذقه فيها. بل إن البشرية ستأخذ بعض الوقت لكي تبدأ تقدير الفنان ليس على أساس قدرته وبراعته فقط، وإنما على أساس نوع وحجم وصدق رؤيته. حينذاك سيقل كثيرًا عدد من يمكن أن نطلق عليهم فنانين؛ ذلك أنهم سيصبحون أصحاب الرؤية الجديدة فقط.

ويصبح الحكم على فنية العمل الفني ليس بمقدار ما فيه من جمالٍ مطلق أو حلاوة، وإنما بمقدار ما يحدثه في المتلقي من أثر؛ فنحن إذا لم «ننفعل» بالرؤية التي ينقلها لنا صاحب الرؤية فمعنى هذا أنها خرجت عن دائرة الفن تمامًا. أي لا بُدَّ أن تكون هذه الرؤية مؤثرة في الناس وتجعلهم ينفعلون إلى درجة تبنِّيها، وإلا لسقطت كعملٍ فني أو كأي شيءٍ آخر.

وقد يعترض البعض ويقول إن الرؤية هي دور المفكِّر وليست دور الفنان، ولكن العصر الحديث أيضًا يحسم الموقف؛ إذ لم يعُدْ لأي عملٍ فني قيمة إلا بمقدار ما يحمل من فكر أو أفق أو وجهة نظر. ومشكلتنا أننا بعدُ لم ندرك هذا وبالذات على مستوى الإخراج السينمائي وكتابة القصص، وحسبنا أن القصة الجديدة «طريقة» جديدة في كتابة القصة، في حين أنها في الحقيقة وسيلة صاحبها وحده لرواية وجهة نظره. إنها شيء خاص يصاحب الرؤية لا تقبل النقل أو التقليد، وأنه في عصرنا هذا تتولى وجهة النظر الجديدة خلق الطريقة التي تصل بها إلى المتلقي، بمعنى أن الطريقة غير منفصلة أبدًا عن وجهة النظر. وأيضًا بمعنى أن أي وجهة نظر جديدة لا بُدَّ أن تأخذ طريقها إلى الجماهير بطريقةٍ جديدة خاصة بها. انتهت مرحلة المدارس الكلاسيكية والتعبيرية والتجريدية إلى آخره، وبدأت في البشرية مرحلة وجهة النظر، مرحلة الفنان المُفكِّر خالق الرؤية وخالق الطريقة لإيصال الرؤية، ونغادر شيئًا فشيئًا عصر الفنان «الصنايعي» الذي كل عمله أن يحذق فنَّ القصِّ أو فن الرسم أو فن الإخراج.

•••

أعتقد أن ما تقدم كافٍ لكي ندرك لماذا لا ننفعل بمعظم قصصنا السينمائية والمسرحية الرائجة؛ ذلك لأنها لا تزال في مرحلة الحرفة ومحاولة «العمل الجميل» ولم تدخل بعدُ عصر فن وجهة النظر أو فن الرؤية.

وتلك أيضًا الإجابة على الذين يسألون دائمًا: أين القصص الجديدة؟ أو أين المسرحية؟ إن الكاتب ليس «معمل» كتابة كما رأينا، وكذلك الجمهور ليس فاغرًا فاه طول الوقت على استعداد لتلقي القصة أو الرواية. إن أي كتابة تحمل وجهة نظر جديدة هي «عملٌ فني»، بشرط أن تؤثر في الآخرين وينفعلوا بها؛ فالكتابة ليست مجرد رصِّ كلمات وحروف، إنها وجهة نظر. على الكاتب أو الفنان أن يكون صادقًا تمامًا في رؤيته وحسَّاسًا جِدًّا عند إيصال وجهة نظره إلى الآخرين، بحيث يختار أنسب وأسرع الطرق لإيصالها. بهذا تكمل دائرة العمل الفني، وتكمل دائرة الرؤية.

المهم إذن أن تتصل الدائرة، أن يكون هناك ذلك المركز الحساس المُتنبِّه بالمسمَّى بالفنان، وأن يصلنا ما يحسه بأي طريقة تجعلنا نشعر وننفعل.

إذ إن نفس هذه الطريقة ستكون «الشكل» المناسب للرؤية، وبالتالي لعمله الفني. فقد يقول قائل: وماذا لو كان في إمكان الفنان «الرؤية»، ولكنه لا يستطيع نقل رؤيته إلى الآخرين على هيئة عملٍ فني؟ والردُّ على هذا بسيط؛ فكل قادر على «الرؤية» المختلفة أو الجديدة أو الخاصة هو بالتأكيد فنان، ولا يمكن لغير الفنان أو المفكر أو المكتشف أن يرى «رؤية» كهذه، وما دام قد رآها — ذلك الفنان — فهو قادر على نقلها وأيضًا بطريقةٍ فنية إلينا، أي الطريقة التي ننفعل بها وتؤثر فينا. بمعادلةٍ أبسط: كل صاحبِ رؤيةٍ فنانٌ، وليس كلُّ فنانٍ «أو حرفي» هو صاحبَ رؤية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤