قبل أن تنهار عمارة بيومي

كان في نيَّتي أن أناقش هذا الأسبوع «حكاية» التعليم في مصر بعد أن أصبحتْ فعلًا حكاية لها العجب كل العجب، ولكني فوجئت في بريد الصباح بخطاب من الإسكندرية، أعرف الخطوط الرجالي من الحريمي على الفور؛ ذلك أن عضلات أصابع الأنثى بكينونتها الدقيقة تجعل خط المرأة عامةً مختلفًا عن خط الرجل، أقول عرفت أن الخط خط أنثى رغم أن الإمضاء كان لقارئ، بمعنى أنه تنكُّرٌ داخل تنكُّر. والخطاب يدل على أن صاحبته متعلِّمة فعلًا وقارئةً ومطَّلعةً. ناقشتني في بعض ما أكتبه، ولكنها باحت في النهاية بالسر الذي دعاها لكتابة الخطاب؛ ذلك أنها ومجموعة من أصدقائها وصديقاتها اختلفوا كثيرًا حول ديانتي؛ بعضهم يقول إني مسلم وبعضهم يؤكد أني مسيحي، وتطلب وتستحلفني في نهاية الخطاب أن أجيب على هذا السؤال «المهم جِدًّا» في المفكرة ليعرف القراء جميعًا.

أمسكتُ بالخطاب بعد قراءته وأنا حائر فعلًا. لقد كنت جهزتُ نفسي عقليًّا ووجدانيًّا لمعالجة قضية من أخطر قضايا مجتمعنا، وإذا بهذا الخطاب القادم لا يعنيه أبدًا ما أُبديه من آراء، وإنما مشكلته الكبرى هي هذا السؤال الذي ليس أول سؤال، ولكن الأسئلة الأخرى على الأقل كانت تُلقى عليَّ شفويًّا. أمَّا أن يُجشِّم قارئ أو قارئة نفسه عناء الجلوس إلى مكتب وتدبيج خطاب طويلٍ عريض يسأل تحريريًّا هذه المرة عن كُنه ديانتي، فتلك مسألة أخرى في حاجة إلى وقفة، بل إن هذا التساؤل السطحي بدأ يتشابك في عقلي ويتعانق إلى أن وجدتُ نفسي في قلب مشكلة التعليم دون أن أدري. سأفعل كما تفعل أجاثا كريستي وسأُبقي الإجابة إلى النهاية، عسى هؤلاء الذين وصل بهم الوضع التعليمي والثقافي إلى هذا الحد يتابعون معي ومع غيرهم من القراء «حكاية» التعليم في مصر.

•••

الحكاية أصلها ثابت وفرعها في السماء. إن التعليم هو: تلميذٌ يريد المعرفة، وأستاذٌ لديه المعرفة، ومكانٌ يجمعهما ومع الآخرين ليصبحا في النهاية مدرسة أو جامعة أو دراسات عليا دقيقة التخصص.

إلى أن تخرجت أنا في الجامعة في الخمسينات وربما بعدها بقليل، لم تكن هناك مشكلة تعليم في مصر. كانت هناك بالطبع مشاكل للتعليم، ولكن لم تكن هناك «مشكلة» تربية وتعليم عويصة ورهيبة، وكالأمراض الخبيثة وصلت إلى داء الحلقة المفرغة التي ربما استغرقت أجيالًا لحلِّها أو الخروج منها.

كان حجم وزارة التربية والتعليم مساويًا لعدد القادرين على التعليم، أو بالضبط مجتمع اﻟ ٥٪ كما أطلقت عليه ثورة يوليو.

وجاءت ثورة يوليو، ومُصِّر الاقتصاد الأجنبي، ثُمَّ ما لبث أن أمم هو الاقتصاد المصري بالمرة، واندفعت إلى الطبقة المتوسطة كمياتٌ هائلة من رصيد المعدمين حتى وصلنا بعد قرارات التأميم في يوليو وبعد أن بدأ فعل الثورة عمله في رجِّ المجتمع المصري رجًّا عنيفًا، إلى أن وصل عدد القادرين على التعليم إلى عشرة أضعاف.

المكوِّن الثاني للمعادلة «المدرس»، وتمشِّيًا مع سياسة تصدير التعليم والمدرس المصري إلى كل أشقائنا العرب نقص عدده بدرجةٍ كبيرة، ليس هذا فقط، وإنما أن مستواه «الكيفي» قد قَلَّ بدرجةٍ خطيرة.

المكوِّن الثالث للمعادلة «المدرسة»، صحيح أُنشئت مدارس كثيرة، أُنشئت جامعات أكثر — ست جامعات — ولكن هل الاتساع الأفقي هذا كان متناسبًا مع الأعداد الأكبر من الطلبة؟ أي هل وصل عدد المدارس إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الثورة؟ قبل الثورة كانت هناك جامعتان ونصف «النصف هو بداية تكوين جامعة عين شمس»، مفروض أن يكون عدد جامعاتنا الآن خمسًا وعشرين جامعة، ولكنها «كلها على بعضها» الآن تسع جامعات.

وليس هذا هو المهم، المهم أن عدد التلاميذ له أن يتضاعف ويتكاثر إن شاء له الهوى، ولكن لا بُدَّ ليكون التعليم تعليمًا — أو على الأقل للوصول إلى الحد الأدنى من التعليم — أن تقابل هذه الزيادة بزيادةٍ كيفيةٍ وكمية لعدد المدرسين والأساتذة. وما حدث كان العكس تمامًا، فالمدارس الابتدائية عندنا تشكو من نقصٍ هائل في عدد المدرسين المثقفين تربويًّا، بل نحن نعهد بالتعليم الابتدائي إلى أقل المدرسين تعليمًا وكفاءةً.

•••

والنتيجة هي ما نراه الآن؛ وضع يكاد يشبه لوحات الرسم العبثية، أعدادٌ رهيبة من خريجي جامعات لا معنى لتعليمهم الجامعي بالمرة حيث يعهد إليهم بأعمالٍ بعيدة كل البعد عما درسوه، نقصٌ شديد في العمالة اليدوية والحرفية، ولا أقول التكنولوجية والصناعية. تصوَّروا رغم تعدادنا الهائل هذا نشكو عجزًا رهيبًا في عدد السمكرية والكوَّائين والنجَّارين وبالذات نجارو البناء ونجارو الباب والشباك.

إن المثل الذي يقول إن الشيء إذا زد عن حده انقلب إلى ضده لا ينطبق على شيء بقدر ما ينطبق على التعليم في مصر؛ فبدلًا من أن تأتي الثورة بعقولٍ وأناسٍ أكفاء يضعون في الخمسينات سياسة طويلة المدى لمصر الثورة التي تريد أن تتطور بسرعةٍ قصوى، ولا بُدَّ لكي تحقق أهدافها الستة التي قامت من أجلها أن يكون التعليم — والتعليم على أرقى مستوى — هو وسيلتها للوصول إلى ذلك. جاءت بضابطٍ شاب انتهز فرصة ركوع بعض أساتذة الجامعة وبعض المسئولين عن التعليم لرغباته وتخبطاته، لا أقول وضع سياسة، وإنما جعل من كلمة طه حسين «التعليم ضروري كالماء والهواء ولكافة فئات الشعب» أصبح ليس المهم عنده هو نوع التعليم وضرورة أن يكون كالماء والهواء فعلًا؛ الماء النقي والهواء النقي، وليس التجهيل وحتمية أن يؤدي إلى ماءٍ ملوَّث وهواء خانق سامٍّ. لم تضع الثورة إذن «سياسة» للتعليم، لم تُحاول أن تفهم ما تُحدثه هي في المجتمع من دفع بأعدادٍ هائلة إلى فئة القادرين وضرورة أن تُعدَّ لهذه الأعداد وما يتلوها الفرصة لتعليم ولعلاج ولرعاية، المفروض في الثورات كلها أن يكون الهدف من قيامها أوَّلًا وأخيرًا الإنسان والأخذ بيده ورفع مستواه حضاريًّا وفكريًّا وثقافيًّا …

•••

وليس المهم الآن أن ننعي أو نحاسب على ما فات.

المهم هو الوضع الصارخ الآن وكيف نعالجه.

لم أرَ وزيرًا أجمع الناس على ذكره بالخير مثل الدكتور مصطفى كمال حلمي المسئول الأول الآن عن التعليم بكافة مراحله ومستوياته.

ولكن ليت المشكلة هي مشكلة وزيرٍ عبقري أو وزيرٍ عادي، المشكلة أكبر من أي وزير، بل أكاد أقول أكبر من أي مجلس وزراء بأسره.

إن أثمن ما في مصر هو الإنسان في مصر. وصحيح أن أثمن شيء في مصر «الإنسان» قد أصبح أرخص شيء في مصر من ناحية سعره «وتصوَّروا مثلًا أنني حسبتها فوجدتُ أن شقَّتي — نظرًا لموقعها — لو أجرتها مفروشة لكان دخلها خمسة أضعاف مرتبي في الأهرام!» فما بالك بموظف عادي أو عامل عادي؟!

الأزمة التي تجتازها مصر أزمةٌ خطيرة، بل تكاد تكون أخطر الأزمات؛ إذ هي ليست أزمة حرب أو سلام، وليست أزمة اختناقات اقتصادية أو اجتماعية، إنها أزمة الإنسان المصري.

وثلاثة أرباع أزمة الإنسان المصري هي غرقه الخانق في مشاكله الخاصة، وسوء توظيف طاقته الإنتاجية، وتعليمه قسرًا ووضعه في وظيفته قسرًا. لا أحد يختار مساره، لا أحد يختار وظيفته أو حرفته، إنما هي أشياء تحدث لنا ولا خيار لنا فيها، وهكذا فما دام الإنسان قد فقد سيطرته على مصيره، كيف تطلب منه أن يُنتج؟ كيف يُنتج شيئًا لا يريده؟ أو يصنع أعمالًا لا أهمية لها بالمرة عنده؟ المسألة إذن خطيرة وليست مسألة تعليم وتعلُّم، إنها في الحقيقة مسألة أن يكون الإنسان المصري أو لا يكون. إنها أخطر مشاكل مصر على الإطلاق في رأيي وليس علاجها أبدًا لجانًا تنعقد في المجالس القومية المتخصصة.

إنها في حاجة إلى أن نعقد من أجلها مؤتمرًا يضم خلاصة العقول في مصر، ولا أقول خلاصة الأساتذة في المدارس والجامعات، ولكن أؤكد مرةً أخرى على خلاصة العقول في مصر وفي كل المجالات لدراسة أوَّلًا: إلى أين نحن ذاهبون بالإنسان المصري؟ أو إلى أين يذهب بنا هذا الذي أصبح عليه الإنسان المصري؟

ولأن الثقافة والمستويات الثقافية — سواء في حدها الأقصى أو في حدها الأدنى — هي القلب الذي تنبض به أي سياسة للتعليم وأي الاتجاهات ومدى الأعماق التي ينبغي أن تصل إليها.

الثقافة التي — للأسف — عادتها عناصرُ كثيرةٌ من عناصر الثورة حتى اعتُبر المثقف المصري ذات يوم وكأنه عميلٌ للفكر الأجنبي، وبالتالي لدولةٍ أجنبية. والتي كان من نتيجتها الوصول إلى درجة الخزعبلات حتى في فهم ديننا العظيم الحنيف.

ذلك الذي يصل بجامعيةٍ خريجة جامعة، مثل الفاضلة القارئة وأصحابها وصاحباتنا الذين لم يعد يهمُّهم من فلان الذي هو أنا إلا دينه.

أنا مسلم يا سيدتي وموحِّد بالله، ومؤمن أشد الإيمان بكافة الأديان السماوية وعلى رأسها المسيحية واليهودية.

أقولها وأنا فخور، هذا حقيقي، ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الحزن والأسى؛ فوراء السؤال تكمن مشكلةٌ بالغة الضخامة والفجيعة، مشكلة الثقافة في مصر التي أساسها تعليم انعدام وفي سبيله للعدم، ولو كانت مشاكل الإنسان من تربية وتعليم وصحة وخلافها تنهار مثل انهيار عمارة بيومي لانهارت عمارته من زمن.

فلنعقد فورًا ذلك المؤتمر.

فلم تعد تكفي أعمدة الخشب التي نصلب بها البنيان.

العمارة توشك أن تنهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤