الفصل الأول

الجمعة، ٢٦ من أغسطس ٢٠٠٥

في الليالي التي يغيب فيها القمر، يخرج الرجال والصبيان في جبلة؛ تلك القرية الصغيرة ذات الشوارع الترابية التي تعيش على صيد السمك على ساحل سوريا، فيجمعون مصابيحهم وينطلقون إلى البحر في أهدأ قواربهم، وهكذا تبحر خمسة قوارب أو ستة، وفي كل منها صيادان أو ثلاثة، وعلى مبعدة ميل من الشاطئ تنتظم قواربهم على شكل دائرة في البحر الغارق في الظلام، ثم يلقون بشباكهم في الماء، رافعين مصابيحهم فوق صفحة الماء كأنما يسطع القمر عليها.

وسرعان ما تبدأ أسراب السردين في التجمع، فتبدو كتلة فضية اللون صاعدة من الأعماق؛ طلبًا لغذائها من العوالق الحية الصغيرة التي اجتذبتها الأضواء، فتبدأ الالتفاف والدوران في سلسلة ذات حلقات غير مترابطة، وتزداد أعداد أفرادها في الساعة التالية، فتغلق الفجوات السوداء بين الحلقات الفضية، بحيث يبصر الصيادون من تحتهم كتلة مصمتة من الفضة تدور حول نفسها.

لم يكن عبد الرحمن زيتون قد جاوز الثالثة عشرة من عمره حين بدأ يمارس صيد السردين بهذا الأسلوب الذي يسمى «لامبارا» المستعار من الإيطاليين، وكان قد انتظر سنوات طويلة للحاق بالرجال والشبان في قواربهم الليلية، وقضى تلك الفترة في طرح الأسئلة. لماذا لا يخرجون إلَّا في الليالي غير المقمرة؟! وأجابه أحمد قائلًا: «لأن العوالق تبرز بوضوح في الليالي المقمرة في كل مكان، وتنتشر في أرجاء البحر كله، فيستطيع السردين أن يرى تلك الكائنات الدقيقة البراقة بسهولة ويأكلها، وأما في الليالي غير المقمرة فيستطيع الرجال أن يأتوا بقمر من عندهم، أي مصباح، فيجتذبوا السردين إلى السطح في تجمعات مذهلة.» وقال أحمد لأخيه الصغير: «عليك أن ترى ذلك، فلم تشاهد من قبل شيئًا يشبهه!»

وعندما أبصر عبد الرحمن أول مرة ذلك السردين وهو يدور في الماء الحالك، لم يصدق ما يشاهد؛ جمال الحلقة الفضية المتماوجة تحت الضوء الأبيض والذهبي للمصابيح، ولم ينطق بكلمة واحدة، كما حرص الصيادون على التزام الصمت، فجعلوا يجدفون من دون تشغيل المحركات؛ خشية إخافة الأسماك النافرة فتهرب. كان من عادتهم أن يتهامسوا فوق البحر فيطلقوا الفكاهات، ويتحدثوا عن النساء والفتيات وهم يرقبون الأسماك ترتفع من تحتهم وتدور. وبعد بضع ساعات عندما يجتمع السردين — عشرات الآلاف اللألاءة في الأضواء المتكسرة — يُحكم الصيادون طرح الشبكة ويأتون بالأسماك إلى القوارب.

وفي طريق العودة إلى الشاطئ يديرون المحركات ويحملون الأسماك إلى تاجر الجملة في السوق قبل بزوغ الفجر، حيث يدفع النقود للرجال والصبيان، ثم يبيع الأسماك في شتى أنحاء غرب سوريا؛ في اللاذقية، وبانياس، ودمشق. ويتقاسم الصيادون النقود، ويعود عبد الرحمن وأحمد بنصيبيهما إلى المنزل. كان والدهما قد توفي قبل عام واحد، وأمهما واهنة، ومِن ثَم كان كل ما كسباه من صيد السمك يُنفق على المنزل الذي كانا يعيشان فيه مع عشرة أشقاء.

ولكن عبد الرحمن وأحمد لم يكونا يوليان المال اهتمامًا كبيرًا، بل كانا على استعداد للقيام بهذا العمل من دون مقابل.

•••

وبعد أربع وثلاثين سنة، وعلى مبعدة آلاف الأميال غربًا، كان عبد الرحمن زيتون في فراشه صباح يوم جمعة، وقد أخذ يفيق ببطء من حلم أتاه قرب الصباح يحمل شتات ذكرى تلك الليلة غير المقمرة في جبلة. إنه الآن في نيو أورلينز يسمع صوت أنفاس زوجته كاثي الراقدة إلى جواره، ولم تكن زفراتها تختلف عن هسهسة الماء على جوانب القارب الخشبي، وفيما عدا ذلك كان الصمت يسود المنزل، كان يعرف أن الساعة تقترب من السادسة، وأن الهدوء لن يستمر؛ إذ كان ضوء الصباح عادة ما يوقظ الأطفال عندما يصل إلى نوافذهم في الطابق الثاني، كان أحد الأربعة يفتح عينيه، فتبدأ الحركة السريعة، وسرعان ما تعلو الأصوات في المنزل، فما إن يستيقظ أحدهم حتى يستحيل إبقاء الثلاثة الآخرين في الفراش.

وصحت كاثي على صوت رطمة مكتومة في الطابق العلوي، وكان مصدرها غرفة من غرف الأطفال، فأصاخت السمع وهي تدعو الله في نفسها أن يعود الهدوء. كان كل صباح يتسم بفترة دقيقة، ما بين السادسة والسادسة والنصف، تلوح فيها الفرصة، وإن كانت بعيدة الاحتمال، لاستراق بعض النوم ولو عشر دقائق أو خمس عشرة، ولكن صوت الرطمة تلاه صوت رطمة أخرى، ونبحت الكلبة، وتلا ذلك رطمة أخرى. ماذا كان يحدث في هذا المنزل؟ وتطلعت كاثي إلى زوجها فوجدته يحدق في السقف. كان هدير الحياة قد عاد إلى المنزل.

وبدأ رنين التليفون قبل أن يضعا أقدامهما على أرضية الغرفة، وهو ما يحدث في كل يوم، كان زيتون وكاثي يديران شركة للمقاولات المعمارية والطلاء، وكان معظم الناس ينادونه باسم الأسرة «زيتون» لأنهم لا يستطيعون نطق اسمه الأول، وفي كل يوم كان العاملون في الشركة وعملاؤها وجميع من لديهم تليفون ورقم تليفونهما، يتصورون، فيما يبدو، أنه من المناسب أن يتصلوا بهما بمجرد أن تحين السادسة والنصف صباحًا، وكانوا يتصلون، وعادة ما كانت المكالمات تكثر في السادسة والنصف تمامًا إلى الحد الذي يجعل نصفها يتحول إلى جهاز التسجيل الصوتي.

وتولت كاثي الرد على المكالمة الأولى من عميل يقيم في الجانب الآخر من المدينة، بينما انطلق زيتون ليغتسل في الحمام، كان يوم الجمعة دائمًا يوم ازدحام العمل، ولكن هذا اليوم كان ينذر بالجنون خصوصًا بسبب سوء الأحوال الجوية المتوقع؛ إذ كانت الأحاديث المقلقة تتردد طوال الأسبوع عن العاصفة المدارية التي تعبر جزائر فلوريدا الغربية واحتمال اتجاهها شمالًا، وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال كان يتكرر في شهر أغسطس من كل عام ولم يكن يثير دهشة معظم الناس، فإن عملاء كاثي وزيتون وأصدقاءهما كانوا الأشد حرصًا؛ كثيرًا ما يتخذون أهبتهم له، وكان المتصلون بالتليفون على امتداد الصباح كله يريدون أن يعرفوا إن كان زيتون سوف يسد الشبابيك والأبواب بألواح خشبية، وإن كان سوف ينتهي من العمل في مبانيهم قبل هبوب الرياح العاصفة، وكان العمال يريدون أن يعرفوا إن كان عليهم القدوم للعمل في ذلك اليوم أو في اليوم التالي.

وأجابت كاثي عن إحدى المكالمات، فبدأت بذكر اسم الشركة «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء» — محاولة أن تبدو يقظة منتبهة. كانت المتحدثة عجوزًا تقيم وحدها في منزل فاخر في حي الحدائق، وكانت تسأل إن كان عمال زيتون سوف يأتون لسد نوافذها بألواح خشبية.

وأجابت كاثي: «قطعًا، طبعًا.» وقدماها تقعان بقوة على أرضية الغرفة، كانت قد استيقظت تمامًا، كانت كاثي تتولى مهام السكرتارية في الشركة، وإمساك الدفاتر، والمحاسبة، وإدارة العلاقات العامة، باختصار جميع المهام في المكتب، ويتولى زوجها مهام البناء والطلاء، كان التوازن بينهما كاملًا، فلما كانت إجادة زيتون للإنجليزية محدودة، وكان لا بد من التفاوض عند عقد الصفقات، كان العملاء يطمئنون عندما يستمعون إلى نبرات كاثي ذات الحروف الممطوطة التي يتميز بها سكان ولاية لويزيانا.

كان ذلك يمثل جانبًا من جوانب عمل الشركة، أي مساعدة العملاء على إعداد منازلهم لاتقاء العواصف المتوقعة. ولم تكن كاثي قد شغلت بالها بالعاصفة التي كانت تلك العميلة تتحدث عنها، ولم يكن سقوط بضع الأشجار في جنوب فلوريدا كافيًا لشد انتباهها.

وقالت كاثي للمرأة: «سنرسل إليكم بعض العمال عصر اليوم.»

•••

كان قد مضى على زواج كاثي وزيتون أحد عشر عامًا، وكان زيتون قد أتى إلى المدينة قبل سبعة عشر عامًا في عام ١٩٩٤م، من مدينة هيوستن، ثم باتون روج، وبضع مدن أمريكية أخرى كان قد استطلعها في شبابه، وكانت كاثي قد نشأت وترعرعت في باتون روج وغدت تألف السلوك المعتاد في مواجهة العاصفة؛ تكرر الاستعدادات والانتظار والترقب، وحالات انقطاع الكهرباء، والشموع وكشافات الجيب، والدِّلاء التي تتجمع فيها مياه الأمطار، وكان للعواصف التي تهب في أغسطس عشرة أسماء أخرى أو أكثر، ونادرًا ما كانت أيها جديرة بكل هذه الاستعدادات، وقالت كاثي في نفسها: إن هذه العاصفة التي تسمى «كاترينا» لن تكون مختلفة.

وفي الطابق السفلي كانت نديمة التي تبلغ العاشرة، وهي الثانية من حيث السن بين الأطفال، تساعد في إعداد طعام الإفطار لأختيها الصغريين عائشة وصفية، وكانتا في الخامسة والسابعة من عمريهما على الترتيب، أما زخاري، ابن كاثي من زوجها السابق، وكان في الخامسة عشرة، فكان قد غادر المنزل لمقابلة أصدقائه قبل الذهاب إلى المدرسة. وأخذت كاثي في إعداد وجبات الغداء أثناء جلوس الفتيات الثلاث إلى مائدة المطبخ، وكن يأكلن ويرددن حوارًا من مشاهد من فيلم «الكبرياء والهوى» بنبرات بريطانية. كن قد أولعن ولعًا شديدًا بذلك الفيلم، وكانت نديمة ذات العينين السوداوين قد سمعت به من صديقاتها وأقنعت كاثي بشراء أسطوانة اﻟ «دي في دي» التي تحمله، ومنذ وصوله والفتيات الثلاث يشاهدنه كثيرًا، بل كل ليلة على مدى أسبوعين. وعرفن كل شخصية وحفظن كل كلمة وتعلمن كيفية التظاهر بالإغماء مثل العذارى الأرستوقراطيات. كان ذلك أسوأ ما حدث لهن منذ أن شاهدن مسرحية «شبح الأوبرا»؛ إذ شعرن آنذاك بالحاجة إلى غناء كل أغنية، في المنزل، أو في المدرسة، أو على السلم الكهربائي في المركز التجاري بأعلى صوت.

لم يكن زيتون واثقًا بأي الحالتين كانت أسوأ. وعندما دخل المطبخ وشاهد بناته ينحنين ويؤدين تحيات المجاملات ويحركن مراوح وهمية في أيديهن، قال في نفسه: «إنهن على الأقل لا يغنِّين»، وأخذ وهو يصب لنفسه كوبًا من عصير البرتقال يرقب هؤلاء الفتيات في حيرة، كان قد نشأ في سوريا وكانت له سبع أخوات، لم تكن أيهن تعشق الدراما هذا العشق، كانت بناته يحببن اللعب والتظاهر بالشجن، دائمات الرقص في أرجاء المنزل، يتواثبن من فراش لفراش، وينشدن الأغاني بأصوات تتكلف التهدج، ويتظاهرن بالإغماء. كان ذلك ولا شك بتأثير من كاثي. كانت في الواقع تنتمي بروحها إليهن، فهي مرحة ذات طبع طفولي في سلوكها وأذواقها، مثل الولع بألعاب الفيديو، وروايات هاري بوتر، وموسيقى البوب المحيرة التي يستمعون إليها. وكان واثقًا بأنها مصممة على أن تهيئ لهن فترة طفولة هانئة تختلف عما مرت به هي.

•••

قالت كاثي لزوجها: «أهذا كل ما تفطر به؟!» إذ شاهدته يلبس حذاءه استعدادًا للخروج، كان متوسط الطول، قوي البنية في السابعة والأربعين. أما كيف احتفظ بوزنه فكان لغزًا؛ إذ يمكن ألا يتناول إفطارًا، ويكتفي بلقيمات في الغداء، ولا يكاد يلمس طعام العشاء، وهو يعمل اثنتي عشرة ساعة كل يوم بنشاط لا يتوقف، ومع ذلك لم يتذبذب وزن جسمه قط. وكانت كاثي تعرف على مدى العقد الماضي أن زوجها ينتمي إلى نوع من الرجال الذين يتميزون بصلابة لا تفسير لها، والاكتفاء الذاتي، وعدم الحاجة إلى شيء أبدًا، والعيش على الماء والهواء، من دون أن يصيبه ضرر أو مرض، ومع ذلك كانت تعجب له كيف يقيم أوده! كان يمر في المطبخ ويقبل الفتيات في رءوسهن.

وقالت كاثي: «لا تنسَ تليفونك.» حين لمحته فوق فرن الميكروويف.

ورد قائلًا، وهو يضعه في جيبه: «ولماذا أنساه؟!»

– «وإذن أنت لا تنسى شيئًا؟»

– «مطلقًا!»

– «هل تزعم حقًّا أنك لا تنسى شيئًا؟»

– «بل أزعم ذلك. هذا ما أقوله.»

لكنه ما إن نطق الكلمات حتى أدرك أنه أخطأ.

وقالت كاثي ضاحكة: «نسيت بنتنا البكر!» كان يدرك أنه وقع في الفخ بقدمَيه، وابتسمت الصغيرات لوالدهن، كن يعرفن القصة خير المعرفة.

وقال زيتون في نفسه: «إنه من الظلم أن تؤدي هفوة واحدة في أحد عشر عامًا إلى توفير الذخيرة لزوجته حتى تغيظه بها طوال حياته.» لم يكن النسيان من طبع زيتون، ولكنه إذا حدث ونسي شيئًا، أو إذا حاولت كاثي أن تثبت أنه نسي شيئًا، لم يكن عليها إلا أن تذكِّره بالوقت الذي نسي فيه نديمة؛ إذ كان قد نسيها. لم ينسَها فترة طويلة، ولكنه نسيها يومًا ما.

كانت نديمة قد ولدت يوم ٤ من أغسطس، في الذكرى السنوية الأولى لزفافهما، وكان المخاض شديد الوطأة، وفي اليوم التالي، وبعد أن عادا إلى المنزل، قام زيتون بمساعدة كاثي على الخروج من السيارة وأغلق الباب المجاور للراكب، ثم حمل نديمة وكانت لا تزال في كرسي الرُّضَّع بالسيارة، وبدأ عند ذلك في حمل الطفلة في إحدى يديه قابضًا على ذراع زوجته باليد الأخرى. وكان الدرج الموصل إلى الطابق الثاني قريبًا من باب الدخول، وكانت كاثي تحتاج إلى المساعدة على الصعود، فساعدها زيتون في صعود الدرجات العالية، وكاثي تئن وتتأوَّه أثناء ذلك، حتى وصلا إلى غرفة النوم، حيث انهارت كاثي على الفراش والتحفت بالأغطية. كان إحساسها بالراحة يصعب التعبير عنه لفظًا أو معنًى لعودتها إلى المنزل حيث تستطيع الاسترخاء مع رضيعتها.

ورفعت كاثي ذراعيها إليه قائلة: «أعطها لي!»

وألقى زيتون نظرة على عروسه، دهشًا من فتنة جمالها الأثيري؛ إذ كانت بشرتها مشرقة وضاءة، وعيناها يلوح فيهما الإرهاق. ثم سمع ما قالته: «الطفلة!» كانت بطبيعة الحال تريد الطفلة، فاستدار ليعطيها الطفلة، لكنه لم يجدها، لم تكن الطفلة تحت قدميه ولم تكن في الغرفة. لم تكن الطفلة بالغرفة!

وقالت كاثي: «أين هي؟!»

وشهق زيتون شهقة سريعة قائلًا: «لا أدري!»

وصرخت بصوت عالٍ: «أين الطفلة يا عبده؟!»

وأصدر زيتون صوتًا، ما بين الشهقة والصرخة، وانطلق يجري خارجًا من الغرفة، وأسرع نازلًا الدرج فخرج من الباب الأمامي ورأى كرسي السيارة فوق الكلأ، كان قد نسي الطفلة في الفناء. نسي الطفلة في الفناء! كان كرسي السيارة يواجه الشارع. لم يلمح أولًا وجه نديمة، فأمسك بالمقبض وأدار الكرسي الصغير تجاهه وعندما شاهد الوجه الضئيل للصغيرة التي لا تدري شيئًا، مكورة ونائمة، ومسها بأصابعه لقياس حرارتها، ولكنها كانت على ما يرام.

وحمل كرسي السيارة إلى الطابق العلوي، وسلَّم نديمة إلى كاثي، وقبل أن يتيح لها الفرصة لتوبيخه، أو للتفكه مما حدث، أو طلب الطلاق، انطلق هابطًا الدرج بسرعة وخرج يمشي وحده. كان يحتاج إلى السير وحيدًا ذلك اليوم، بل احتاج إليه في أيام كثيرة تالية؛ حتى يفهم ما فعل ولماذا فعله، أي كيف نسي طفلته وهو يساعد زوجته؟! ما أصعب أن يقوم المرء بالأمرين، أي أن يكون شريكًا لطرف وحاميًا للطرف الآخر. ما سبيل الموازنة بينهما؟ وقضى سنوات طويلة يتأمل ذلك اللغز.

وأما اليوم، والجميع في المطبخ، فقد قرر زيتون ألا يتيح الفرصة لكاثي حتى تعيد رواية القصة من جديد أمام أطفالهما، فلوَّح بيده مودعًا.

وتعلقت عائشة بساقه صائحة: «لا تخرج يا بابا!» كانت تحب الحركات المسرحية، وكانت كاثي تسميها «دراما راما»، وأدى فيلم «الكبرياء والهوى» إلى زيادة هذه النزعة سوءًا.

كان ذهنه مشغولًا بالعمل الذي ينتظره ذلك النهار، وكان يشعر بأنه قد تأخر في الخروج، ولمَّا تتجاوز الساعة السابعة والنصف.

وألقى زيتون بصره على عائشة، وأمسك بوجهها بين كفيه، وابتسم لمرأى كمال الحُسْن في عينيها الدكناوين الدامعتين، ثم فصلها عن ساقه كأنما يخلع سروالًا مبللًا، ولم تمضِ ثوانٍ معدودة حتى كان يقف في مدخل المنزل أمام الشاحنة، ويقوم بتحميلها بلوازمه.

وخرجت عائشة لمساعدته، وجعلت كاثي ترقبهما وهي تتأمل معاملته للصغيرات. كان من العسير وصف ذلك؛ إذ لم يكن من الآباء الذين يسرفون في إبداء الحب لأطفالهم، ومع ذلك لم يعترض يومًا على تواثبهن فوقه ولا على الإمساك به. كان حازمًا واثقًا بنفسه، ولكنه كان يجد في ذلك التسرية الكافية فيتيح لهن «المساحة» التي يطلبنها، ويجد في نفسه من المرونة ما يكفي لقيامهن باستغلاله إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بل إنه حتى إذا تكدر من أمر ما، فإنه يخفي الكدر خلف قناع عينيه بلونهما الأخضر العسلي وأهدابهما الطويلة. وعندما قابل كاثي أول مرة كان يكبرها بثلاثة عشر عامًا، ومِن ثَمَّ لم يكن مرشحًا فورًا للزواج منها، ولكن هاتين العينين اللتين كانتا تشعان ذلك الضوء الغريب استولتا عليها. كانتا حافلتين بالأحلام، ولكنهما ثاقبتا البصر أيضًا، قادرتان على التقدير الصائب؛ كانتا عيني مقاول ناجح. كان يلقي نظرة على مبنى أخنى عليه الدهر ويستطيع أن يرى بعين خياله فورًا ما يمكن أن يتحول إليه، وإلى جانب ذلك يحدد استنادًا على معرفته العملية التكاليف المطلوبة والزمن اللازم لإجراء الإصلاحات.

وقامت كاثي بإحكام الحجاب الذي تلبسه، وهي تنظر في زجاج النافذة الأمامية، فأدخلت الشعرات الخارجة منه — وكانت هذه عادة تلقائية — وهي ترقب زيتون أثناء انطلاقه بالسيارة من مدخل المنزل إلى الشارع، ومن خلفه سحابة رمادية تتلوى في الجو، وقالت في نفسها لقد آن الأوان لشراء شاحنة جديدة. كانت الشاحنة التي يملكانها تشبه دابة بيضاء متهالكة، طالت بها المعاناة ولكن يُعتمد عليها، وقد غُصَّتْ بالسلالم والأخشاب، وتصدر قعقعة بسبب ما تناثر هنا وهناك من مسامير لولبية وفراجين، وعلى جانب الشاحنة يعلو رمز الشركة الذي لا يختلف من مكان لمكان، وتحته الاسم الرسمي «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء»، وأما الرمز فكان فرجون طلاء أسطواني الشكل مرتكنًا إلى ذيل قوس قزح، كان الرمز مبتذلًا ولا شك ولكنه كان يصعب نسيانه، فكان كل من في المدينة يعرفه؛ إذ كان يظهر فوق محطات الأوتوبيس، ولافتات المتنزهات وأرائكها، وكان شائعًا في مدينة نيو أورلينز شيوع أشجار البلوط ونبات السرخس، ولكنه في البداية لم يكن بشير خير على الإطلاق.

لم يكن زيتون يدري عندما وضع تصميم ذلك الرمز للمرة الأولى أن لافتة تحمل رسمًا لقوس قزح عليها يمكن أن تعني أي شيء لأي شخص، باستثناء رمزية الألوان والصبغات المتعددة التي يستطيع العملاء أن يختاروا ما يشاءُون منها، ولكن سرعان ما أصبح يدرك هو وكاثي دلالة ذلك الرمز المضمرة.

الواقع أنهما ما إن وضعا ذلك الرمز حتى بدآ يتلقيان مكالمات من أزواج من ذوي الميول الجنسية المثلية، ولم يكن في ذلك بأس على الإطلاق؛ إذ يبشر بازدهار العمل، ولكنهما لاحظا في الوقت نفسه أن بعض من يطلبونهما لأداء العمل كانوا يرفضون التعامل مع شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء بمجرد وصول الشاحنة إلى منازلهم. كما بدأ بعض العمال يتركون العمل بالشركة ظانِّين أن العمل بها سوف يؤدي إلى تصور أنهم من ذوي الميول المثلية، أو أن الشركة كانت تقتصر بصورة ما على تشغيل ذوي الميول المثلية.

وعندما أدرك زيتون وكاثي أخيرًا الصلة بين قوس قزح وقوة دلالة ذلك الرمز، ناقشا الأمر مناقشة جادة، وتساءلت كاثي إن كان زوجها يريد أن يغير تصميم الرمز حتى يتحاشى إساءة تفسيره؛ إذ لم يكن لديه أصدقاء أو أقارب مثليون.

ولكن زيتون لم يُبْدِ أدنى اهتمام بالتغيير، قائلًا إن ذلك يتكلف أموالًا طائلة، بعد أن أعد ما يقرب من عشرين لافتة، ناهيك عن البطاقات التِّجَارية والأدوات الكتابية التي تحمل ذلك الرمز نفسه، أضف إلى ذلك أن جميع عملائهما الجدد كانوا يدفعون فواتيرهم. لم تكن المسألة تزيد في بساطتها على ذلك.

وقال زيتون ضاحكًا: «تأملي الأمر جيدًا؛ نحن زوجان مسلمان ندير شركة للطلاء في لويزيانا، وليس من المستحسن تنفير العملاء.» فإذا كان البعض سوف يصعب عليه قبول قوس قزح، فلا بد أن يصعب عليه قبول الإسلام.

وهكذا استمر قوس قزح يشغل مكانه في رمز الشركة.

توقفت شاحنة زيتون في شارع إيرهارت، وإن كان جانب من ذهن الرجل ما زال في جبلة. كان كلما اعتادته هذه الخواطر الصباحية فتذكر طفولته، قضى فترة ما في التساؤل عن أحوال أهله جميعًا في سوريا، عن كل إخوته وأخواته وأقاربه المنتشرين في كل مكان على الساحل، وعن غيرهم الذين رحلوا من هذا العالم من وقت طويل. كانت والدته قد تُوفيت بعد سنوات قليلة من رحيل والده، كما فقد أخًا يعتز كثيرًا به واسمه محمد في مقتبل عمره، ولكن باقي أشقائه الذين كانوا لا يزالون في سوريا، وإسبانيا، والمملكة العربية السعودية كانوا بخير حال، بل كانت أحوالهم مزدهرة بصورة فذة.

كانت عشيرة زيتون ذات منجزات رفيعة؛ إذ تحفل بالأطباء، ومديري المدارس، وكبار ضباط الجيش، ورجال الأعمال، ولكل منهم غرام مشبوب بالبحر؛ إذ نشأ الجميع وترعرعوا في منزل حجري ضخم على ساحل البحر المتوسط، ولم يبتعد أحد منهم كثيرًا عن البحر. وكتب زيتون في مفكرته إشارة إلى ضرورة الاتصال بأهله في ذلك اليوم. كان يولد في كل يوم أطفال جدد، بحيث لم تنقطع الأخبار قط. لم يكن عليه إلا أن يتصل بأحد إخوته أو أخواته — وكان سبعة منهم لا يزالون في سوريا — حتى يحيط بكل ما يريد أن يعرفه.

وأدار زيتون مفتاح الراديو ليسمع الأنباء، كانت العاصفة التي يتحدث الناس عنها لا تزال بعيدة في فلوريدا، وتنتقل ببطء إلى الغرب، ولم يكن من المتوقع لها أن تعبر الخليج إلا بعد بضعة أيام أخرى، هذا إذا قُدِّر لها أن تعبره، وعندما مضى بالشاحنة إلى أول عمل من أعمال اليوم، ألا وهو ترميم قصر رائع عتيق في حي الحدائق، حرك مؤشر الراديو بحثًا عن شيء آخر، أي شيء.

•••

تطلعت كاثي وهي واقفة في المطبخ إلى الساعة، وشهقت. كان من النادر أن تصحب الأطفال إلى المدرسة في الموعد المحدد، وكانت تعمل على حل تلك المشكلة، أو تنتوي العمل على حل تلك المشكلة عندما يهدأ العمل في ذلك الفصل من العام. كان الصيف أكثر فصول العام انشغالًا للشركة، فكثير من الناس يرحلون هاربين من الحرارة والرطوبة، طالبين من الشركة طلاء بعض الغرف أو مدخل المنزل في أثناء غيابهم.

وأخذت كاثي تحث الأطفال على الإسراع بكلامها وحركات يديها حتى اصطحبتهم حاملين معداتهم المدرسية إلى الشاحنة الصغرى، وانطلق الجميع عبر نهر المسيسيبي إلى الضفة الغربية.

كانت لمشاركة زيتون وكاثي العمل في الشركة مزايا كثيرة، بل فوائد جمة لا تُعد ولا تُحصى، ولكن المثالب كانت واضحة وتزداد باطراد، كانا يقدِّران أرفع تقدير أن ذلك العمل يتيح لهما تحديد ساعات العمل، واختيار عملائهما وأشغالهما، والقدرة على الوجود في المنزل كلما دعت الحاجة على ذلك؛ إذ إن قدرتهما على الحضور والاستجابة لأي شيء يتعلق بأطفالهما في أي وقت كانت دائمًا مصدرًا للارتياح العميق، ولكن عندما كان الأصدقاء يسألون كاثي إن كان من المستحب أن يبدءُوا هم أيضًا أعمالهم الخاصة، كانت تنصحهم بألَّا يفعلوا ذلك قائلة لهم: «إن صاحب العمل لا يدير عمله، بل إن العمل هو الذي يديره ويتحكم فيه.»

كان زيتون وكاثي يَجِدَّان في عملهما جدًّا يزيد على جد أي شخص يعرفانه، ولم يكن تبدو للعمل وللقلق نهاية. ليلًا، وفي عطلة نهاية الأسبوع، والعطلات، لم يكن للراحة أي مجال، وكانا في العادة يقومان في الوقت نفسه بثمانية أعمال أو عشرة، ويتوليان الإشراف على ذلك من مكتب منزلي ومساحة للتخزين في شارع دبلن، المتفرع من طريق كارولتون، ناهيك بجانب العمل المتمثل في إدارة عقاراتهما، فقد حدث في وقت ما أن بدآ يشتريان المباني، والشقق والمنازل، وأصبح الآن لديهما ستة عقارات يقيم فيها ثمانية عشر مستأجرًا. وكان كل مستأجر يُعتبر من زاوية أخرى شخصًا يعتمد عليهما، شخصًا آخر يسهران عليه، ويوفران له المأوى، والسقف الذي يحميه، وأجهزة تكييف الهواء، والماء النظيف، كان الواقع يقول إن النجاح أتى معه بضرورة التعامل مع عدد مذهل من الأفراد بعضهم يتقاضى أجرًا وبعضهم يدفع الإيجار، ومنازل تحتاج إلى التحسين والصيانة، وفواتير تتطلب السداد، وفواتير مطالبة بالدفع، ومعدات تُشترى وتُوضع في المخزن.

ولكنها كانت تعتز بما آلت إليه حياتها، وبالأسرة التي شاركت زيتون في تكوينها، كانت تسير بالسيارة الآن مع بناتها الثلاث في الطريق إلى المدرسة، وكان إدخالهن مدرسة خاصة، والاطمئنان إلى التحاقهن بالجامعة، وتوافر كل ما يحتاجون إليه وزيادة، يدفعها إلى أن تلهج بالشكر في كل لحظة وكل يوم.

كانت كاثي بنتًا من تسعة أطفال، وكانت قد نشأت وترعرعت بأقل القليل، وكان زيتون الأخ الثامن بين ثلاثة عشر طفلًا، كما نشأ وترعرع على ما يقترب من العدم، ولكن انظر إليهما الآن، انظر إلى ما استطاعا بناءه! لقد استطاعا بناء أسرة مديدة، وعمل بارز النجاح، واستطاعا الاندماج التام في مجتمع المدينة التي اتخذاها وطنًا حتى أصبح لهما أصدقاء في كل حي، وعملاء في كل عمارة تقريبًا يمران بها، وكانت هذه جميعًا من نعم الله عليهما.

كيف يمكنها مثلًا أن تتجاهل نديمة؟ كيف تَأَتَّى لهما أن ينجبا مثل هذه الطفلة البالغة الذكاء، الواثقة بنفسها، المؤمنة بالواجب، الحريصة على مد يد العون، والمتقدمة ذهنيًّا على عمرها بمراحل؟ كانت فيما يبدو الآن في عداد الكبار، وكان حديثها قطعًا ينم عن النضج؛ إذ كثيرًا ما تبدي فيه من الدقة والحذر ما يزيد على ما يفعل والداها. وألقت كاثي نظرة إليها وهي تجلس الآن في مقعد الراكب بجوارها تلعب بالراديو، كانت تمتاز دائمًا بسرعة البديهة، فعندما كانت في الخامسة من عمرها وحسب، لا أكبر من خمسة أعوام، عاد زيتون ذات يوم إلى المنزل لتناول الغداء فوجد نديمة تلعب على أرضية الغرفة، ورفعت بصرها إليه وقالت: «أريد أن أصبح راقصة يا أبي!» وخلع زيتون حذاءه وجلس على الأريكة، ثم قال وهو يدلك قدميه: «في المدينة عدد أكبر مما ينبغي من الراقصات، ولكننا نحتاج إلى أطباء، وإلى محامين، وإلى معلمين. أريدكِ أن تصبحي طبيبة حتى تعتني بصحتي.» وفكرت نديمة فيما قاله لحظة ثم رددت قائلة: «لا بأس! إذن أكون طبيبة!» وعادت إلى كراس الرسم وتلوين الصور. وبعد دقيقة واحدة هبطت كاثي من الطابق العلوي بعد أن شاهدت الفوضى في غرفة نوم نديمة، فقالت لها: «نظفي غرفتكِ يا نديمة.» لم تجفل نديمة، ولم ترفع بصرها عن كراس الرسم، بل قالت: «لن أنظفها يا ماما، سوف أصبح طبيبة، والأطباء لا يقومون بالتنظيف!»

بينما كانت السيارة تقترب من المدرسة رفعت نديمة صوت الراديو؛ إذ التقطت أذناها خبرًا عن العاصفة المقبلة. لم تكن كاثي تصغي باهتمام كبير؛ إذ بدا لها أن نبرات التحذير المبكر المزعجة تتكرر ثلاث مرات أو أربعًا في كل موسم، منذرة بهبوب الأعاصير المتجهة مباشرة نحو المدينة، ودائمًا ما كان اتجاهها يتغير، أو تهبط سرعة الريح في فلوريدا أو فوق الخليج، فإذا قُدِّرَ للعاصفة أن تصيب مدينة نيو أورلينز على الإطلاق فسوف تكون شدتها قد تناقصت كثيرًا، فلا تلبث إلا يومًا يسوده الغيوم وتهب فيه الرياح المتربة وتسقط فيه الأمطار.

ولكن المذيع كان يتحدث في الراديو الآن عن العاصفة المتجهة إلى داخل خليج المكسيك بقوة من الدرجة الأولى، وفي موقع يبعد نحو ٤٥ ميلًا إلى الشمال الغربي من جزيرة «كي ويست»، وهي في أقصى غرب جزر فلوريدا. وكان المذيع يقول إن العاصفة تتجه غربًا. وأغلقت كاثي الراديو، فلم تكن تريد للأطفال أن يقلقوا.

وسألت نديمة: «تظنين أنها سوف تصيبنا؟»

وردت كاثي قائلة إنها لا ترى للأمر أهمية، فمن ذا الذي عساه أن يقلق إزاء عاصفة من الدرجة الأولى أو الثانية؟ وأخبرت نديمة أنها ليست بشيء على الإطلاق، ثم ودَّعت الأطفال بالقبلات عند المدرسة.

وعندما سمعت كاثي انصفاق أبواب السيارة الثلاثة انتابها شعور مباغت وقاطع بالوحدة. وفي أثناء عودتها بالسيارة من المدرسة فتحت الراديو من جديد. كان مسئولو المدينة يقدمون التوصيات المعهودة بتخزين المؤن الكافية لاستهلاك ثلاثة أيام، وكان زيتون دائمًا ما يعمل حسابًا لذلك. ثم إذا بالمذيع يتحدث عن رياح سرعتها ١١٠ أميال في الساعة، إلى جانب الأمواج العالية التي أثارتها العاصفة في الخليج.

وأغلقت الراديو ثانية، وطلبت زيتون على تليفونه الخلوي.

وسألته: «هل سمعت عن هذه العاصفة؟»

فقال: «أسمع أشياء مختلفة».

وعادت تسأل: «هل تظن أنها خطيرة؟»

ورد قائلًا: «حقًّا؟ لا أعرف.»

كان زيتون قد أعاد ابتكار تعبير «حقًّا» فجعله يسبق عددًا كبيرًا من عباراته، كأنما كان التعبير عوضًا عن النحنحة. فإذا سألته كاثي أي سؤال أجابها: «حقًّا، إنها مسألة عجيبة.» كان قد اشتهر بحكاياته المسلية، والأمثال المألوفة في سوريا، والمقتطفات من القرآن، والقصص المستقاة من أسفاره حول العالم. وكانت كاثي قد اعتادت ذلك كله، فيما عدا تعبير «حقًّا»، وإن كانت قد كفت عن معارضتها. كانت بالنسبة إليه مثل استهلال عبارة بالحشو كتعبير «أتعرف؟» أو «فلأقل لك شيئًا». كان قائلها زيتون، وكان لا بد أن تجد فيها سببًا للإعزاز.

وأردف قائلًا: «لا تقلقي. هل الأطفال في المدرسة؟»

وردت قائلة: «لا، بل في البحيرة! يا ربي!»

كان الرجل مهووسًا بالمدرسة، وكانت كاثي تحب أن تغيظه بذلك وبعدة أشياء أخرى. كان زيتون وكاثي يتحادثان تليفونيًّا عدة مرات في أثناء النهار، حول كل شيء؛ عن الطلاء، عن العقارات المؤجرة، وعما ينبغي إصلاحه، وعمله، والإتيان به، وكثيرًا ما لا يزيد موضوع المكالمة على تبادل التحية والسلام. كان الهزل الذي ابتدعاه تشيع فيه نبرات ضيق صدره وأحاديثها المقتضبة، وكان مصدر تسلية لكل من يستمع إليه خلسة. وكان ذلك أيضًا محتومًا نظرًا إلى تعدد محادثاتهما معًا كل يوم، ونظرًا إلى ضرورة توصيل المعلومات الزاخرة بأقصى سرعة. لم يكن أحدهما يستطيع من دون الآخر إدارة منزلهما، أو شركتهما، أو حياتهما، أو أيامهما.

وكانت كاثي دائمًا ما تندهش لقدرتهما على تحقيق مثل هذا التكامل؛ إذ كانت قد نشأت باعتبارها من أتباع طائفة المعمدانية الجنوبية في ضاحية من ضواحي مدينة باتون روج، ودأبت على أن تحلم بالرحيل (والواقع أنها رحلت بمجرد الانتهاء من مرحلة الدراسة الثانوية) وبإدارة مركز للرعاية النهارية للأطفال. وها هي ذي قد اعتنقت الإسلام، وتزوجت من أمريكي سوري، وتدير شركة لا تفتأ تتضخم للطلاء والمقاولات المعمارية، وعندما قابلت كاثي زوجها، كانت في الحادية والعشرين وكان في الرابعة والثلاثين، وينتمي إلى بلد لا تكاد تعرف عنه شيئًا. كانت تتعافى من آثار زواج غير ناجح، وكانت قد اعتنقت الإسلام مؤخرًا، ولم تكن تهتم أدنى اهتمام بالزواج من جديد، ولكنها اكتشفت أن زيتون كان يمثل كل ما لم تصدق وجوده في البشر؛ كان رجلًا أمينًا، أمينًا إلى النخاع، جادًّا مجتهدًا، صادقًا، يُعتمد عليه، مخلصًا لأسرته. وكان أفضل ما فيه أنه كان يريد لكاثي أن تكون من كانت تريد أن تكونه، وعلى الحال التي أرادتها تمامًا، لا أكثر ولا أقل.

ولكن ذلك لم يكن يعني عدم نشوب بعض نوبات القلق، وهو التعبير الذي كانت كاثي تطلقه عليها، وتعني به مجادلاتهما العنيفة حول كل شيء؛ من الطعام الذي سيتناوله الأطفال في الغداء، إلى إذا ما كان عليهما تكليف وكالة لتحصيل الديون المتراكمة على أحد العملاء.

وكانت تقول لأطفالها: «نحن قلقون وحسب.» عندما كانوا يستمعون لتلك المجادلات بينهما. ولم تكن كاثي تملك أن تتحاشى ذلك؛ فهي تهوى الكلام ولا تستطيع كتمان شيء في نفسها. وقالت لعبده في الأيام الأولى لعلاقتهما إنها سوف تفصح عن رأيها دائمًا، ولم يفعل سوى أن هز كتفيه إذ كان يقبل ذلك، كان يعرف أنها كانت تحتاج أحيانًا إلى التنفيس عن نفسها، وكان يسمح لها بذلك، وكان في هذه الأثناء يومئ صابرًا، وأحيانًا يشعر بالامتنان لأن لغته الإنجليزية لن تسعفه بسرعة استخدامها للُّغة، فبينما يبحث عن الكلمات المناسبة للرد عليها تستمر هي في الكلام، وكثيرًا ما يحدث أن يكتشف أنها عندما تنتهي تكون قد شعرت بالإرهاق فسكتت، ولم يعد لديها أو لديه شيء يقال.

وعلى أي حال، فكلما شعرت كاثي بأنها سوف تجد أذنًا صاغية، بل صاغية إلى النهاية، كان ذلك يخفف من حدة المجادلات، وهكذا، أصبحت مناقشاتهما أقل حماسة، وكثيرًا ما كانت أقرب إلى إثارة الضحك، ولكن الأطفال، خصوصًا في سنيهم الأولى، لم يكونوا يدركون الفرق.

وقبل سنوات، أثناء وجودهم في السيارة، نشبت مجادلة عنيفة حول أمر ما، فاعترضت نديمة وهي جالسة في مقعد السيارة الخلفي وحزام الأمان مربوط حولها؛ إذ شعرت بأنها لم تعد تطيق ما تسمع. هتفت قائلة: «تلطَّف في الحديث مع أمي يا أبي.» ثم خاطبت كاثي قائلة: «تلطَّفي في الحديث مع أبي يا أمي.» وتوقف زيتون وكاثي فورًا، وتبادلا النظرات، ثم نظرا معًا وفي الوقت نفسه إلى نديمة الصغيرة، كانا يعرفان سلفًا أنها ذكية، ولكن الأمر الآن مختلف، لم تكن إلا في الثانية من عمرها!

بعد أن انتهت مكالمتها مع زيتون، فعلت كاثي ما كانت تعرف أنه خطأ؛ لأن العملاء يريدون ولا شك أن يتصلوا بها وينتظرون أن يستطيعوا مكالمتها ذلك الصباح، لكنها فعلت ما كانت تُقدم كثيرًا على فعله؛ أغلقت تليفونها المحمول، بعد أن غادر الأطفال السيارة وبدأت العودة إلى المنزل، لم يكن لها دافع سوى أن تهنأ بالعزلة ثلاثين دقيقة أثناء رحلة العودة — كان ذلك ترفًا باهظًا، ولكنه كان ضروريًّا. كانت تحدق في الطريق، وفي صمت تام، دون أن يخطر لها خاطر على الإطلاق. كانت تعرف أن اليوم سيكون طويلًا، إذ لن تتوقف عن العمل حتى يأوي الأطفال إلى الفراش، ولذلك أباحت لنفسها هذا السرف. ألا وهو فسحة لمدة ثلاثين دقيقة من الصفاء والسكينة، لا يقطعها مُقاطع.

وفي الطرف الآخر من المدينة، كان زيتون يتابع أولى مهام ذلك النهار، كان مولعًا بذلك المكان، ذلك المنزل الجليل العتيق في حي الحدائق، وكان قد أرسل عاملين من شركته للقيام بالعمل فأراد التوقف للاطمئنان على وجودهما وانهماكهما في العمل وعدم احتياجهما لأي شيء، فصعد الدرج وَثْبًا وخَطَا مسرعًا داخل المنزل الذي كان قد بُني منذ ١٢٠ عامًا على الأقل.

وشاهد إميل، وهو دهَّان ونجار من نيكاراجوا، منحنيًا يلصق شريطًا على بعض أخشاب الأرضية، فتسلل خلفه وقبض على كتفيه فجأة، فانتفض إميل واقفًا وضحك زيتون.

لم يكن واثقًا بشأن ما الذي يدفعه إلى أن يفعل مثل هذه الأشياء، ولم يكن من اليسير تفسير ذلك، كان أحيانًا يجد نفسه يميل إلى اللهو، ولم يكن العمال الذين يعرفونه خير المعرفة يدهشون لذلك، ولكن العمال الجدد كانوا ينزعجون ظانِّين أن سلوكه لون غريب من أساليب دفعهم إلى العمل.

وتمكَّن إميل من رسم بسمة على شفتيه.

وفي غرفة الطعام، كان ماركو منهمكًا في طلاء الجدار بطبقة ثانية، وكان أصلًا من السلفادور، وكان الاثنان، ماركو وإميل، قد تقابلا في الكنيسة، وانطلقا يبحثان عن العمل باعتبارهما فريقًا من عمال طلاء المنازل. وذات يوم مَرَّا بموقع من المواقع التي يعمل فيها زيتون، ولما كانت لديه في كل الأوقات تقريبًا أعمال أكبر من طاقته، قرر استخدامهما. كان ذلك منذ ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين وماركو وإميل يعملان لديه.

وإلى جانب استخدام عدد من أبناء مدينة نيو أورلينز، كان زيتون قد استأجر عمالًا من كل مكان؛ من بيرو، والمكسيك، وبلغاريا، وبولندا، والبرازيل، وهندوراس، والجزائر. وكانت له خبرات عميقة مع معظمهم، وإن كان معدل ترك العمال وتعيين عمال جدد في شركته أعلى من المتوسط. كان كثيرون من عماله مؤقتين؛ إذ لا يعتزمون إلا قضاء أشهر معدودة في البلد قبل العودة إلى أسرهم. وكان يسعده استئجار هؤلاء الرجال، كما تعلَّم قدرًا معقولًا من اللغة الإسبانية في خلال ذلك، ولكن كان عليه الاستعداد لرحيلهم دون إخطار بموعد الرحيل بمدة كافية. وكان بعض العمال الآخرين مجرد صبية لا يتحملون المسئولية ويعيشون للحاضر فقط، ولم يكن يلومهم؛ فلقد كان يومًا ما شابًّا لا يرتبط بشيء هو الآخر، ولكنه حاول، كلما أتيحت له الفرصة، أن يغرس فيهم إدراكه بأن التعقل وادخار عدة دولارات كل أسبوع كفيل بتوفير معيشة طيبة لهم، وتمكينهم من تكوين أسرة اعتمادًا على هذا اللون من العمل. ولكنه نادرًا ما كان يقابل شابًّا يقوم بهذا العمل ويعمل حسابًا للمستقبل، كان مجرد توفير الطعام والملبس لهم، ومطاردتهم حين يتأخرون أو يتغيبون جهدًا مرهقًا، وأحيانًا ما يثبط الهمة، كان أحيانًا ما يشعر بأنه لا يعول أربعة أطفال فقط بل عشرات، معظمهم ذوو أيد ملطخة، وشوارب تحمل آثار الطلاء.

•••

ورن جرس التليفون، ونظر إلى اسم المتحدث في الشاشة ورد عليه.

وقال زيتون بالعربية: «أحمد، كيف حالك؟»

كان أحمد الأخ الأكبر لزيتون وأقرب أصدقائه، وكان يحادثه من إسبانيا، حيث يقيم مع زوجته وطفليه اللذين كانا في مرحلة الدراسة الثانوية، وكان الوقت قد تأخر عند أحمد، الأمر الذي جعل زيتون يخشى أن تكون لدى أخيه أخبار خطيرة.

وسأله زيتون: «ماذا حدث؟!»

فقال أحمد: «إنني أتابع أنباء العاصفة.»

فقال زيتون: «لقد أفزعتني!»

ورد أحمد: «لا بد أن تفزع! فالعاصفة هذه المرة خطر حقيقي!»

وعلى الرغم من تشكك زيتون فقد أصغى بانتباه. كان أحمد ربَّان سفينة، وظل يقوم بهذا العمل على امتداد السنوات الثلاثين الماضية؛ إذ يتولى قيادة ناقلات البترول وسفن الركاب في كل بحر أو محيط، وكانت لديه معرفة وثيقة بالعواصف، وباتجاهاتها وقوتها. وكان زيتون في صباه قد صحبه في عدد من هذه الرحلات؛ إذ إن أحمد الذي يكبر زيتون بتسع سنوات قد ألحقه بالعمل في طاقم البحارة، فصحبه إلى اليونان ولبنان وجنوب أفريقيا، كما كان زيتون قد مارس العمل بالسفن من دون اصطحاب أحمد أيضًا، فشاهد معظم بلدان العالم، مولعًا بالتجوال، على مدى سنوات عشر، انتهت به إلى مدينة نيو أورلينز آخر الأمر وحياته مع كاثي.

وطقطق أحمد لسانه قائلًا: «إنها تبدو حقًّا غير عادية، فهي ضخمة وتتحرك ببطء، وأنا أراقبها الآن على القمر الصناعي.»

وكان لأحمد غرام مشبوب بالتكنولوجيا، وكان يولي أحوال الجو اهتمامًا وثيقًا، وخصوصًا العواصف الناشئة، سواء في وقت فراغه أو في أثناء عمله. وكان آنذاك في منزله بمدينة مالقة، تلك المدينة الساحلية على الشاطئ الإسباني للبحر المتوسط، جالسًا في مكتبه الغاص بالمعدات، يتابع مسير العاصفة عبر ولاية فلوريدا.

وتساءل أحمد: «هل بدءُوا إجلاء السكان؟»

وقال زيتون: «لم يبدأ ذلك رسميًّا، ولكن البعض يرحلون.»

«وكاثي والأطفال؟»

وأخبره زيتون بأنهم لم يفكروا في الأمر بعد.

وتأوه أحمد قائلًا: «لمَ لا ترحلون ولو طلبًا للسلامة وحسب؟»

وأصدر زيتون صوتًا في التليفون لا يفصح عن القطع بشيء.

فقال أحمد: «سأطلبك في وقت لاحق.»

وغادر زيتون المنزل وسار على قدمَيه إلى حيث يجرى العمل في منزل آخر قريب. كانت الأمور تسير كثيرًا على هذا المنوال؛ عدة أعمال قريبة بعضها من بعض، وكان العملاء يدهشون كثيرًا للتعاقد مع متعهد طلاء أو مقاول يستطيعون الوثوق به وتزكيته لغيرهم، ويدهشون كيف يتسنى لزيتون أن ينجز نصف دستة أعمال في أي حي من الأحياء، من خلال تزكية العملاء له وبتتابع سريع.

وكان هذا المنزل الذي لم يتوقف عن العمل فيه سنوات طويلة، يثير الدهشة، كان يقع عبر الشارع في مواجهة منزل الكاتبة آن رايس، ولم يكن قد قرأ ما تكتبه ولكن كاثي قرأته، كانت كاثي تقرأ كل شيء، كان منزلًا فخمًا فاخرًا يضارع أمثاله في نيو أورلينز، كانت له سقوف عالية، وبه درج رائع يتلوى هابطًا إلى البهو، وكل ما فيه نحته النحَّاتون بأيديهم، بحيث تتميز كل غرفة بطابع خاص بها. وكان زيتون قد قام بطلاء معظم الغرف أكثر من مرة، ولم يكن يبدو أن أصحابه يريدون التوقف، كان يحب التواجد في هذا المنزل، حيث يتأمل فن الصنعة بإعجاب، والعناية الفائقة بأدق التفاصيل والزخارف وأغربها؛ إذ رُسمت لوحة جدارية فوق المدفأة، ورُكِّبَتْ زخارف حديدية يختلف بعضها عن بعض في كل شُرْفة. كان هذا اللون من الاهتمام الرومانسي المتعمد والطليق بالجمال — وهو جمال سرعان ما يتأثر ويتغير ويتطلب الرعاية الدائمة — هو الذي جعل هذه المدينة تختلف اختلافًا شاسعًا عن غيرها، وجعلها فرصة إبداع لا نظير له أمام المهندس المعماري.

ودخل المنزل فصحح وضع الستار الهابط في البهو الأمامي، واتجه إلى مؤخرة المنزل، وأطل بنظره على جورجي، النجَّار البلغاري، الذي كان يقوم بتثبيت بعض معدات السباكة الجديدة بالقرب من المطبخ، كان جورجي عاملًا ممتازًا، في نحو الستين من عمره، واسع الصدر، لا يكل ولا يتعب، ولكن زيتون كان يعرف كيف يتحاشى دفعه إلى الحديث؛ إذ إنك إن جعلته يتحدث فسوف تصغي لحديث لا يتوقف على مدى عشرين دقيقة عن الاتحاد السوفييتي السابق، والمنازل المقامة على ساحل البحر في بلغاريا، وشتى رحلاته الطويلة في البلاد وهو يقود السيارة التي يعيش فيها — وتشبه الحافلة المزودة بكل ما يحتاج إليه المنزل المتنقل — مع زوجته ألبينا التي رحلت عن هذا العالم منذ عدة سنوات وغدا يفتقدها بشدة.

وركب زيتون شاحنته وأدار الراديو «فهاجمه» المزيد من إنذاراته بشأن هذه العاصفة التي تسمى كاترينا. وكانت قد تشكَّلت بالقرب من جزر البهاما منذ يومين، وبعثرت القوارب الراسية كأنها لعب أطفال. وانتبه زيتون لما يقال ولكنه لم يجده ذا بال، ما دامت الرياح لن تكون لها علاقة به قبل عدة أيام.

واتجه إلى متحف برسبتير في ميدان جاكسون، حيث بعض عماله يقومون بإجراء ترميمات دقيقة في ذلك المبنى الذي بلغ عمره مائتي عام، وكان منذ زمن بعيد مبنى محكمة، ولكنه أصبح الآن يضم مجموعة تحف وآثار فذة للاحتفال بثلاثاء المرفع، كانت المهمة تحظى بالاهتمام الجماهيري، وأراد زيتون إنجازها على خير وجه.

واتصلت كاثي به من المنزل، كان أحد العملاء قد اتصل بها لتوه من حي برودمور، وتتلخص الرسالة في أن عماله كانوا قد أغلقوا أحد الشبابيك بالطلاء ولا بد من إرسال عامل آخر لفتحه بعد أن التصق.

وقال لها: «سأذهب بنفسي.» كان ذلك فيما يتصور أيسر، فليذهب ليقوم بالعمل، من دون إجراء مكالمات أخرى، أو انتظار وصول أحد.

وقالت كاثي: «هل سمعت بالرياح؟ قتلت ثلاثة في فلوريدا حتى الآن.»

وأبدى زيتون استهانته بما سمع قائلًا: «لن تضيرنا هذه العاصفة!»

•••

كثيرًا ما كانت كاثي تتفكَّه بعناد زيتون، وبرفضه الانصياع لأي قوة طبيعية كانت أم سواها، ولكن زيتون لم يكن يملك تغيير طبعه؛ إذ نشأ في ظل أبيه، البحار الأسطوري الذي واجه سلسلة من الشدائد الملحمية، وكان يتمكن من النجاة دائمًا بما يشبه المعجزة.

كان محمود والد زيتون قد وُلِد في جزيرة أرْوَض التي لا تبعد كثيرًا عن جبلة، وهي الجزيرة الوحيدة بالقرب من الساحل السوري، وهي صغيرة إلى الحد الذي لم تكن تظهر معه في بعض الخرائط، وكان معظم الصبيان يتأهلون للعمل ببناء السفن أو صيد الأسماك، وبدأ محمود في يفوعه يعمل في السفن على الطرق البحرية بين لبنان وسوريا، وخصوصًا سفن البضائع الشراعية الضخمة التي تحمل الأخشاب إلى دمشق والمدن الأخرى الساحلية، وكان محمود إبان الحرب العالمية الثانية على متن إحدى هذه السفن المتجهة من قبرص إلى مصر، وكان هو ورفاقه يدركون دون أن تتضح لهم الصورة تمامًا وجود قوات المحور التي تستهدفهم ما داموا يمكن أن ينقلوا المؤن إلى الحلفاء، ولكنهم ذهلوا عندما ظهر سرب من الطائرات الألمانية في الأفق واتجه إليهم، وسارع محمود ورفاقه بالغطس في البحر قبل أن تبدأ الطائرات إطلاق وابل من الرصاص، وتمكنوا من استخراج قارب نجاة مطاطي نفخوه قبل أن تغرق سفينتهم، وكانوا قد بدُءوا يزحفون إلى القارب عندما عاد الألمان الذين كانوا فيما يبدو قد قرروا قتل جميع من نجا من أفراد طاقم السفينة، واضطر محمود ورفاقه إلى الغطس تاركين القارب، والانتظار حتى يقتنع الألمان أن البحارة قد قُتِلوا أو غرقوا جميعًا، وعندما عاد البحارة إلى قاربهم، بعد أن لاح لهم أن الأمان قد عاد إلى سطح الماء، وجدوا القارب مليئًا بالثقوب … وهكذا، خلعوا قمصانهم وسَدُّوا بها تلك الثقوب، وجعلوا يجدفون بأياديهم لأميال حتى وصولوا إلى الساحل المصري.

وأما القصة التي كان محمود يكثر من روايتها عندما كان زيتون في بواكير صباه، وكان محمود يريد بها منع أطفاله من الحياة في البحر، فكانت القصة التالية:

كان محمود في طريق عودته من اليونان على متن سفينة شراعية ذات صاريتين، ويبلغ طولها سِتًّا وثلاثين قدمًا، عندما فاجأت السفينة عاصفة سوداء متعرِّجة المسار، وظل البحارة يقودون السفينة وسط العاصفة ساعات متوالية حتى أصيبت الصارية الرئيسة بشرخ أدى إلى وقوع الشراع في الماء، وهو ما كان ينذر بإلقاء السفينة كلها في البحر! ومن فوره، ومن دون تفكير، تسلق محمود الصارية، منتويًا تخليص الشراع منها وتصحيح وضع جسم السفينة، ولكنه عندما وصل إلى الشرخ في الصارية إذا بها تنهار تمامًا، فسقط محمود في البحر، كانت السفينة تبحر بسرعة ثماني عقد (أي ثلاثة عشر كيلومترًا في الساعة)، وهو ما جعل عودتها لإنقاذ محمود مستحيلة، فأخذ البحارة يلقون كل ما استطاعوا إلقاءه إلى محمود — بعض الألواح الخشبية وبرميل — ولم تمضِ دقائق حتى اختفت السفينة في الظلام، وظل وحيدًا في البحر يومين كاملين، وأسماك القرش تسبح تحته والعواصف تهب من فوقه، متعلقًا بما بقي من البرميل، حتى ألقته الأمواج آخر الأمر على الساحل بالقرب من اللاذقية، على مبعدة خمسين ميلًا شمال جزيرة أرْوَض.

ولم يستطع أحد، ولا محمود نفسه، أن يصدق أنه نجا، ولكنه حلف بعدها ألا يُعَرِّض نفسه لتلك المخاطرة مرة أخرى، فأقلع عن الإبحار، وانتقل مع أسرته من أرْوَض إلى أرض سوريا الداخلية، ومنع أطفاله من العمل بالبحر، وقرر توفير تعليم جديد لهم جميعًا، وإتاحة فرص أخرى للعمل بعيدًا عن صيد السمك وبناء السفن.

وانطلق محمود وزوجته يبحثان عن منزل جديد بعيد عن الماء، وذلك في جميع أنحاء سوريا؛ فقضيا شهورًا طويلة في السفر مع أطفالهما الصغار، ينظران في هذه البلدة وذلك المسكن، دون أن يلوح لهما ما يصلح، ولم يجدا شيئًا يناسبهما حتى عثرا على هذا المنزل الذي يتكون من طابقين، وبه متسع لجميع أطفالهما الآن ومَن سينجبانه في المستقبل، وعندما أعلن محمود أن هذا المنزل مناسب لهم، ضحكت زوجته؛ إذ كان المنزل يواجه البحر، ولا يكاد يبتعد خمسين قدمًا عن الساحل.

وفي بلدة جبلة، افتتح محمود حانوتًا للخردوات المعدنية، وألحق أبناءه وبناته بأفضل المدارس، وعلَّم أبناءه كل حرفة يعرفها، وعرف الناس جميعًا أسرة زيتون؛ إذ كان أفرادها كلهم مجدِّين مجتهدين أذكياء، كما عرف الناس جميعًا عبد الرحمن، الطفل الثامن، الذي أصبح الآن يافعًا يريد أن يعرف كل شيء، ولا يخشى أي لون من ألوان العمل، وقد وجد نفسه في يفوعه يراقب الصناع وأصحاب الحرف في البلدة، كلما استطاع ذلك، ويدرس أسرار حرفهم، وعندما كانوا يدركون أنه جاد وسريع التعلم، كانوا يعلمونه كل ما يعرفونه، وعلى مر السنين اكتسب معرفة بكل صنعة استطاع الاقتراب منها، من صيد السمك، إلى تجهيزات السفن، والطلاء، وإعداد الأطر، وحرفة البناء، والسباكة، وإعداد الأسقف، وأعمال البلاط، بل وإصلاح السيارات.

ومن المحتمل أن والد زيتون كان سيشعر بالفخر والدهشة لمسار حياة ابنه، لم يكن يريد لأطفاله أن يعملوا بالبحر، ولكن عددًا كبيرًا منهم عمل في البحر، ومنهم زيتون. كان محمود يريد لأطفاله أن يصبحوا أطباء ومعلمين، ولكن زيتون كان يشبه والده شبهًا كبيرًا، فعمل بحَّارًا أول الأمر، ثم عمل كعامل بناء لتوفير الرزق لأسرته، وليضمن أن يعيش حتى يشهد أطفاله يكبرون.

واتصل زيتون تليفونيًّا بكاثي في الحادية عشرة، وهو في مستودع المعدات واللوازم المنزلية بعد أن أصلح النافذة في المنزل الكائن بشارع برودمور.

وسألها: «هل سمعتِ أي أنباء؟»

وأجابت: «التوقعات سيئة!»

كانت تطَّلِعُ على الإنترنت، فوجدت أن المركز القومي للأعاصير عَدَّل من تصنيف كاترينا معتبرًا أنها إعصار من الدرجة الثانية، كما قال المركز إن المسار المحتمل لكاترينا قد انتقل من اللسان الممتد في البحر في فلوريدا إلى ساحل ولايتي المسيسيبي ولويزيانا، كانت العاصفة الآن تعبر جنوب فلوريدا برياح تبلغ سرعتها نحو تسعين ميلًا في الساعة، وأدت إلى قتل ثلاثة أشخاص على الأقل، وانقطعت الكهرباء عن ١٫٣ مليون منزل.

وقال زيتون: «الناس هنا في قلق.» وأدار بصره في المخزن ثم قال: «كثير منهم يشترون ألواح الخشب الرقائقي.» كانت صفوف الزبائن طويلة، وبدأ مخزون المستودع من الألواح البلاستيكية يتناقص، وكذلك مخزونه من شرائط العزل والحبال، وكل ما من شأنه حماية النوافذ من الرياح.

وقالت كاثي: «سأستمر في المراقبة.»

وفي موقف السيارات نظر زيتون إلى السماء مستطلعًا ما يدل على العاصفة المقبلة، لكنه لم يلحظ شيئًا غير عادي، وعندما أخذ يدفع عربته اليدوية إلى الشاحنة، لا حظ شابًّا يدفع عربة مماثلة حافلة بالمؤن يقترب منه.

وسأله الشاب: «ما حال العمل؟»

وقال زيتون في نفسه إنه كهربائي على الأرجح.

وقال زيتون: «لا بأس، وكيف حال عملك أنت؟»

وأجاب الشاب: «ليس أفضل الأحوال.» ثم عَرَّف زيتون بنفسه وبصنعته قائلًا إنه كهربائي، كما حدس زيتون. وكانت شاحنة الشاب واقفة بجوار شاحنة زيتون، فبدأ يساعد زيتون في نقل ما في عربته إلى شاحنته ثم قال: «إن احتجت يومًا ما إلى كهربائي فسوف أكون جاهزًا، ومواعيدي دقيقة وأُتم كل عمل أبدؤه.» وأعطى بطاقته لزيتون، وتصافحا ثم ركب الكهربائي شاحنته، وكانت في نظر زيتون أفضل حالًا من شاحنته هو.

وسأله زيتون: «لمَ تحتاج إليَّ؟» ثم أردف قائلًا: «شاحنتك أحدث من شاحنتي!»

وضحك الاثنان، ووضع زيتون بطاقة الشاب على لوحة مفاتيح السيارة وبدأ يغادر الموقف، وقال في نفسه إنه سوف يتصل تليفونيًّا بالشاب إن عاجلًا أو آجلًا، فهو دائمًا يحتاج إلى كهربائي، وراقَ له نشاط الشاب.

•••

كان زيتون عندما بدأ العمل في نيو أورلينز منذ أحد عشر عامًا يقوم بالأعمال اليدوية عند جميع مقاولي المدينة تقريبًا، من الطلاء إلى تعليق الألواح البلاستيكية إلى تركيب بلاط الأرضية — أي شيء يطلبه المقاول — حتى استأجره رجل يدعى تشارلي سوسيار، وكانت لدى تشارلي شركته الخاصة، وكان قد بناها من الصفر، وأصبح ثريًّا، وكان يأمل أن يتقاعد قبل أن تعجز ساقاه عن حمله.

وكان لدى تشارلي ولد تقترب سنه من العشرين، ولم يكن لديه شيء أحب إليه من أن يترك الشركة لابنه. كان يحب ابنه، ولكن ابنه لم يكن يؤمن بالعمل، بل كان مخادعًا وناكرًا للجميل. وكان يتغيب عن العمل، فإذا حضر أبدى القلق والتبرم بالعمل، وأظهر التَّرَفُّعَ على موظفي والده.

ولم يكن زيتون يملك سيارة في ذلك الوقت، فكان يركب دراجته إلى مواقع العمل عند تشارلي، وكانت دراجة لها عشر سرعات اشتراها بأربعين دولارًا. وذات يوم كان زيتون يواجه خطر التأخر في الوصول إلى العمل، حين فوجئ أيضًا بانفجار إطار إحدى العجلتين، وبعد سيره بالدراجة بالإطار المنفجر نصف ميل توقف في يأس، كان عليه قطع مسافة أربعة أميال عبر المدينة في عشرين دقيقة، وبدا له أنه سوف يتأخر عن العمل لأول مرة في حياته، لم يكن يستطيع أن يترك الدراجة ويجري؛ إذ كان يحتاج إليها، كما كان من المحال السير بالإطار المنفجر، وهكذا حمل الدراجة على كتفيه وابتدأ يهرول. كان في ذعر وفزع، فلو تأخر عن موعد العمل فما عسى أن يصيب سمعته؟ لسوف يخيب أمل تشارلي فيه، وربما كفَّ عن استخدامه مرة أخرى. وما عسى أن يحدث لو تحدث تشارلي إلى غيره من المقاولين، ورأى أنه لا يستطيع تزكية زيتون؟ قد تكون العواقب واسعة النطاق. كان يدرك أن العمل هَرَمٌ يُبْنى بالعمل الشاق يومًا بعد يوم.

وزاد من سرعة عَدْوِه. كان يدرك أنه سوف يصل متأخرًا، لكنه إن زاد من سرعته فربما لم يزد التأخير على خمس عشرة دقيقة. كان ذلك في شهر أغسطس ورطوبة الجو خانقة، وبعد ميل أو نحو ذلك من الجري، وقد غمر جسده العَرَقُ المتصبب، توقفت شاحنة بجواره.

وجاءه صوت يسأل: «ماذا تفعل؟» والتفت زيتون لينظر من السائل، دون أن يبطئ من معدل عَدْوه، كان يتصور أنه أحد المازحين يريد أن يسخر من رجل يجري حاملًا دراجته فوق كتفيه في الطريق العام، ولكنه وجد المتحدث رئيسه في العمل، تشارلي سوسيار.

وقال زيتون: «ذاهب إلى العمل.» كان لا يزال يجري، وحين يذكر الحادثة يرى أنه كان عليه أن يتوقف في هذه اللحظة، ولكنه كان يَتَّبعُ إيقاعًا منتظمًا فاستمر، والشاحنة تتسكع إلى جواره.

وضحك تشارلي وقال: «ضع دراجتك في حقيبة السيارة.»

وأثناء انطلاقهما بالسيارة، التفت تشارلي إلى زيتون وقال له: «تعرف؟ لقد قضيت ثلاثين عامًا في هذا العمل، وأعتقد أنك أفضل مَن عمل عندي.»

كانا متجهين بالشاحنة الآن إلى موقع العمل، واستطاع أن ينعم بهدوء البال أخيرًا، بعد أن عرف أنه لن يُطرد من العمل في ذلك اليوم.

وواصل تشارلي حديثه قائلًا: «لديَّ عامل يقول إنه لن يستطيع الحضور لأن سيارته لم تستطع القيام، وعندي عامل آخر يقول إنه لن يستطيع الحضور لأنه أوى إلى الفراش متأخرًا، تخيل! تأخر في النوم! وعامل آخر طردته زوجته من المنزل أو شيء من هذا القبيل، ولذلك لم يحضر. عندي عشرون أو ثلاثون موظفًا ولا يحضر منهم للعمل في أي يوم سوى عشرة!»

كانت الشاحنة قد توقفت في إحدى إشارات المرور، فألقى تشارلي نظرة فاحصة على زيتون وقال: «ثم أنت! لديك العذر القهري، فكل ما لديك دراجة وإطار إحدى العجلتين انفجر، ولكنك تحمل دراجتك على ظهرك. لم أعرف من قبلك قط شخصًا يفعل شيئًا كهذا!»

وبعد ذلك اليوم، تحركت الأمور بسرعة إلى الأمام وإلى الأعلى بالنسبة إلى زيتون، ولم يمضِ عام واحد حتى كان زيتون قد ادَّخر ما يكفي من المال لشراء شاحنته الخاصة، وبعد عامين اثنين، كان قد بدأ يعمل لحساب نفسه، ويعمل لديه اثنا عشر رجلًا.

وعند الظهيرة اتجه زيتون إلى المركز الإسلامي في منطقة سانت كلود، وكان مسجدًا متواضع المنظر ومكانًا لاجتماع الناس في وسط البلد. وعلى الرغم من أن أشقاءه كانوا يتفاوتون في أداء صلواتهم، فإن زيتون كان شديد المحافظة عليها، ولم تكن تفوته أي صلاة كل يوم، والقرآن يأمر المسلمين بأداء خمس صلوات في اليوم؛ الأولى ما بين الفجر وطلوع الشمس، والثانية في الظهيرة، ثم في العصر والمغرب والعشاء أي بعد المغرب بساعة ونصف الساعة، فإذا وجد نفسه بالقرب من منزله ساعة صلاة العصر، توقف وأداها فيه، وفيما عدا ذلك كان يقيم الصلاة في أي مكان يكون فيه، مهما يكن العمل الذي يؤديه. وقد أدَّى صلواته في كل مكان بالمدينة، في مواقع العمل، وفي الحدائق، وفي منازل الأصدقاء، أما في يوم الجمعة فكان دائمًا يرتاد هذا المسجد، ليقابل أصدقاءه لأداء صلاة الجمعة، التي تعتبر شعيرة التلاقي بين كل الرجال المسلمين في المجتمع المحلي.

وبعد أن دخل المسجد وبدأ بالوضوء، وهو الاغتسال المنصوص عليه في الشعائر، والمطلوب من جميع المصلين، ثم بدأ صلاته فقرأ الفاتحة.

وبعد ذلك اتصل تليفونيًّا بكاثي.

قالت: «سرعان ما تصبح من الدرجة الثالثة!»

كانت كاثي في المنزل، تتأكد من حالة الجو على الإنترنت.

وسألها: «هل تتجه إلينا؟»

– «هذا ما يقولونه.»

– «متى؟»

– «لست متأكدة. ربما يوم الإثنين.»

وتجاهل زيتون الأمر؛ فيوم الإثنين كان يعني بالنسبة إليه أنها لن تصل أبدًا، كان يذكر أن ذلك حدث من قبل عدة مرات. كانت العواصف دائمًا تهب عبر فلوريدا مدمدمة مدمرة، ثم تخبو حدتها في مكان ما فوق الأرض أو فوق الخليج.

وعاد تليفون كاثي للرنين بالمكالمة التي كانت «محجوزة» فودَّعت زيتون، وبدأت الرد عليها. كان المتحدث روب ستانسلو، وهو عميل وصديق قديم.

وسألها: «هل ترحلون أم أنتم مجانين؟!»

وضحكت كاثي قائلة: «أريد أن أرحل، طبعًا، لكنني لا أستطيع أن أتحدث باسم زوجي.»

وكان روب في ورطة مماثلة؛ إذ إن رفيقه والت طومسون كان مثل زيتون عنيدًا، دائمًا ما يشعر كأنما كانت لديه معلومات أفضل من معلومات أي فرد آخر. وقد ترافق روب ووالت منذ خمسة عشر عامًا، وتوثقت علاقتهما بأسرة زيتون منذ عام ١٩٩٧. كانا قد استأجرا شركة زيتون لتجديد منزل اشترياه، وسرعان ما أصبح الجميع أصدقاء مقربين، وعلى مدى السنوات الماضية أصبحوا يعتمدون بعضهم على بعض.

كانت أسرة والت في مدينة باتون روج، وقال إنه ربما ذهب مع روب إليها في عطلة نهاية الأسبوع، واتفق روب وكاثي على تبادل المعلومات بشأن العاصفة أولًا بأول طول النهار.

كانت كاثي توشك أن تستريح قليلًا من متابعة الإنترنت عندما لفت انتباهها شيء؛ نبأ جديد جاء لتوه يقول: إن أسرة من خمسة أفراد فُقدت في البحر. كانت التفاصيل محدودة، لا تزيد على أن الأسرة تتكون من أبوين، وثلاثة أطفال في الرابعة والرابعة عشرة والسابعة عشرة، كانوا يبحرون في الخليج، وكان من المتوقع أن يعودوا إلى كيب كورال يوم الخميس، ولكن الاتصال انقطع بهم عندما هَبَّت العاصفة، فقام أفراد الأسرة والأصدقاء بإبلاغ حرس السواحل، فانطلقت قوارب الجنود وطائراتهم للبحث عنهم وبذل كل جهد ممكن، وكانت تلك حدود المعلومات المتاحة حتى هذه اللحظة. لم يكن الأمر يبشر بالخير.

وشعرت كاثي بانقباض شديد، كانت مثل هذه الأخبار مدمرة لها.

وطلبت كاثي زوجها بالتليفون، وقالت: «روب ووالت راحلان.»

– «حقًّا؟ هل يريد والت أن يرحل؟»

كان زيتون يثق في حكمة والت في كل شيء تقريبًا.

وخطر لكاثي أن تقنع زوجها بقبول رأيها فقالت: «سمعت أن غزارة المطر بلغت خمس عشرة بوصة.»

والتزم زيتون الصمت.

وأضافت كاثي: «وعلت الأمواج إلى ارتفاع خمس وعشرين قدمًا.»

وغيَّر زيتون الموضوع قائلًا: «هل أقنعت أسرة دي كليرك بالموافقة على العينة التي أرسلناها من ذلك الطلاء؟»

وقالت كاثي: «نعم. فهل سمعت عن فقدان أسرة من خمسة أفراد؟»

ولم يكن زیتون قد سمع، فاندفعت كاثي في عجلة لاهثة تقص عليه ما عرفته عن الأسرة المفقودة في البحر في قاربها الصغير، بعد أن جرفه الإعصار، وهو ما سوف يحدث لأسرة زيتون إذا لم تفر وتتجنب مسار الإعصار.

وقال زيتون: «لسنا في البحر یا كاثي.»

كان زيتون قد قضى ما يقرب من عشر سنوات على متن السفن التي كانت تنقل كل شيء، من الفاكهة إلى البترول، وعمل بحَّارًا، ومهندسًا، وصیادًا، وذهب إلى كل مكان من اليابان إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا. وكان أخوه أحمد يقول له دائمًا: «إذا وجد البحار الميناء المناسب أو المرأة المناسبة فسوف يرسو بالسفينة.» وفي عام ۱۹۸۸، وصل زيتون إلى الولايات المتحدة على ظهر ناقلة بترول من المملكة العربية السعودية إلى هيوستن، وبدأ العمل عند مقاول في باتون روج، وفي تلك المدينة قابل أحمد، وهو أمريكي من أصل لبناني أصبح من أقرب أصدقائه، كما كان القناة التي قابل عروسه من خلالها.

كان أحمد يعمل آنذاك في محطة بنزين، وزيتون يعمل بإلصاق الرقائق البلاستيكية على الفواصل بين الغرف. وتصادقا عندما اكتشفا انحدارهما من أسلاف مشتركة. وذات يوم سأل زیتون أحمد إن كان يعرف امرأة غير متزوجة تناسبه، وكان أحمد متزوجًا من امرأة تدعى يوكو، وهي أمريكية ذات أسلاف يابانية كانت قد اعتنقت الإسلام. كما اتضح أن يوكو كانت لها صديقة، وعندها أحس أحمد بصراع داخلي بسبب حبه لزيتون وثقته به ورغبته في مساعدته، وكان يأمل في تزويج صديقة يوكو من أحد أصدقائه، فقال إنه إذا لم يوفق في مسعاه لإقامة ارتباط بین صديقه وصديقة يوكو فسوف يُعَرِّفها قطعًا بزيتون. وكان زیتون يرید احترام هذا الشرط، ولكن فضوله ازداد في الوقت نفسه إلى حد الاغتياظ، فمن يا ترى کانت تلك المرأة التي يحمل لها أحمد من التقدير ما يدفعه إلى الامتناع حتى عن ذكر اسمها؟

وفي ذلك العام كان تصميم زيتون على العثور على المرأة المناسبة يزداد باطراد، فأخبر أصدقاءه وأقاربه أنه يبحث عن امرأة مسلمة واقعية تريد تكوين أسرة. وكانوا يعرفون أنه رجل جاد مجتهد في عمله، فعرَّفوه بكثيرات، أرسلوه مرة إلى نيويورك ليقابل ابنة أحد المعارف، وذهب إلى أوكلاهوما ليقابل ابنة عم أحد الأصدقاء. وذهب إلى ألاباما ليقابل أخت رفيق لأحد زملائه في العمل.

وفي غضون ذلك كانت صديقة يوكو قد عُرِّفَتْ بصديق أحمد، وتقابلا فعلًا عدة مرات على مدى عدة أشهر، ولكن العلاقة لم تكلل بالنجاح. وهنا وفَّى أحمد بوعده وأخبر زیتون أن صديقة يوكو لم تعد تتوقع الارتباط بشخص معين، وهنا فقط باح باسمها له: كاثي.

وسأله زیتون: «كاثي؟!» لم يكن زیتون يعرف مسلمات کثیرات يحملن هذا الاسم، فعاد يسأله: «كاثي ماذا؟»

وأجابه أحمد: «كاثي دِلْفين».

– «أهي أمريكية؟»

– «إنها من باتون روج، وقد اعتنقت الإسلام.»

وازداد إعجاب زیتون وزادت حيرته، فاتخاذ مثل هذه الخطوة يتطلب من المرأة شجاعة ورباطة جأش.

وقال أحمد: «لكن اسمع، لقد سبق لها الزواج، ولديها ابن في الثانية من عمره.»

ولكن ذلك لم يفت في عضد زيتون.

وسأله: «متى أستطيع أن أراها؟»

قال له أحمد إنها تعمل في معرض للأثاث، وأعطى زیتون العنوان. ووضع زیتون خطة تقضي بأن يوقف سيارته أمام المعرض حتى يراها دون أن تلحظ وجوده، وقال لأحمد إن ذلك هو الأسلوب المتبع في جبلة. لم يكن يريد أن يتخذ أي خطوة، ولا أن يسمح لأحد بأن يفصح نيابة عنه عن نياته قبل أن يراها. كان ذلك هو الأسلوب المتبع في وطنه الأصلي؛ المراقبة عن بُعد، وإجراء التحريات، وجمع المعلومات، ثم المقابلة، لم يكن يريد أي خلط للأمور ولا جرح للمشاعر.

وأوقف سيارته في موقف السيارات الخاص بمعرض الأثاث في نحو الخامسة مساء ذات يوم، وقد اعتزم الانتظار حتى يراها خارجة عند انتهاء عملها، وكان قد استقر لتوه في موقع المراقبة حين اندفعت امرأة في مقتبل العمر خارجة من الباب وهي ترتدي جینز وتغطي شعرها بالحجاب. كانت باهرة وفي شرخ الشباب. وأدخلت بأصابعها عدة شعرات في حجابها وجالت ببصرها في موقف السيارات، ثم عادت تسير في خطوات واسعة بثقة مذهلة وذراعاها تتأرجحان بقوة كأنما كانت تريد تجفيف طلاء أظافرها الجديد! ثم ارتسمت على شفتيها بسمة مفاجئة كأنما تذكرت شيئًا ما دفعها للضحك. وتساءل زيتون في نفسه: «ترى ماذا تذكرت؟» كانت جميلة ذات وجه نضر، وكانت البسمة عريضة، خجولًا، مكهربة! وقال في نفسه: «أريد أن أجعلها تبتسم هذه البسمة. أريد أن أكون الدافع. أريد أن أكون السبب.» وازداد حبه لها في كل خطوة تخطوها نحوه. لقد وقع في غرامها!

ولكن اقترابها منه زاد عما ينبغي، كانت تتجه مباشرة نحوه. هل كانت تعرف أنه أتى ليراها؟ كيف يمكن ذلك؟ هل أخبرها أحد؟ أحمد؟ يوكو؟ كانت قد وصلت تقريبًا إلى سيارته. سيبدو إذن أبله. لماذا كانت تتجه نحوه مباشرة؟ لم يكن على استعداد لمقابلتها.

ولما كان حائرًا لا يدري ما يفعل غطس برأسه، وظل قابعًا تحت لوحة المفاتيح ممسكًا أنفاسه في انتظار ما يكون، وقال في نفسه: «يا رب! یا رب!» ترى هل تمر به وحسب أم تظهر عند نافذته، وتتعجب من ذلك الرجل المختبئ في السيارة؟! أحس بأن وضعه مضحك.

ولكن كاثي لم تكن تدري أنها تمر الآن برجل مختبئ تحت عجلة القيادة. كل ما في الأمر أن سيارتها تصادف وقوفها بجوار سيارته، وهكذا فتحت باب السيارة، وركبتها وانطلقت بها.

واعتدل زیتون في جلسته عندما مضت، وتنفس الصعداء، وحاول تهدئة نبضه المتسارع.

وقال لأحمد: «أريد أن أقابلها.»

واتفقا على أن يكون اللقاء في منزل أحمد ويوكو، على عشاء غیر رسمي، وفي وجود أطفال أحمد ويوكو، وزخاري ابن كاثي. لن يكون الضغط كبيرًا هنا، بل ستكون فرصة وحسب للمحادثة بينهما، وفرصة لكاثي أن تقابل ذلك الرجل الذي سأل عنها، ولم تكن قد حظيت حتى برؤيته إلى الآن.

وعندما رأته أحبت عينيه، وأحبت وجهه الوسيم ذا البشرة الذهبية، ولكنه كان محافظًا أكثر مما ينبغي، كما كان في الرابعة والثلاثين ولم تتجاوز هي الحادية والعشرين، أي إن عمره كان أكبر كثيرًا مما تخيلته في زوج المستقبل، وإلى جانب ذلك لم يكن قد مضى سوى عامين على انفصالها عن زوجها الأول، وكانت تشعر بأنها على غير استعداد للبداية من جديد، لم يخطر ببالها أنها في حاجة إلى شيء من الرجل، ولا شك في أنها تستطيع تربية زخاري بنفسها؛ إذ استطاعت أن تبني علاقة وثيقة معه، ولم تجد ما يدعوها إلى قلب توازن حياتها، ولم تكن تستطيع المخاطرة بالعودة إلى الفوضى التي أحدثها زواجها الأول.

وبعد أن غادر زیتون منزل أصدقائه في ذلك المساء، قالت كاثي ليوكو إنه رجل لطيف ولا شك، ولكنها لا تظن أن الزواج منه سينجح.

ولكنها كانت تقابله في بعض المناسبات في السنتين التاليتين؛ فقد يكون مدعوًّا إلى حفل شواء في الهواء الطلق في منزل أحمد ويوكو، ولكنه كان يغادر المكان عندما تصل احترامًا لها؛ لأنه لم يكن يريدها أن تشعر بالحرج، ولكنه استمر يسأل عنها، وكان في كل عام يسأل يوكو بصورة عابرة عن أحوال كاثي؛ حتى يطمئن إلى أنها لم تغير رأيها.

وفي غضون ذلك كانت نظرة كاثي إلى الأمور تتطور، وإزاء تقدم زخاري في السن بدأ يراودها الشعور بالذنب، كانت تأخذه للعب في المنتزه العام فترى غيره من الغلمان مع آبائهم. وهكذا بدأت تتساءل إن كان موقفها ينطوي على الأنانية، كانت تقول في نفسها: «الغلام يحتاج إلى والد.» هل كانت ظالمة حين استبعدت إمكان وجود صورة للأب في حياة زخاري؟ لم يكن ذلك يعني استعدادها لاتخاذ أي خطوةِ بِنَاءً على هذه الأفكار، ولكن الجليد في داخلها كان قد بدأ ينصهر ببطء. وعلى مر السنين، ووصول زخاري إلى عامه الثالث ثم الرابع، ازدادت تفتُّحًا لقبول شخص جديد.

اتصلت كاثي بزيتون في أولى ساعات العصر.

ورد قائلًا: «فلننتظر حتى تتضح الصورة!»

وقالت: «لم أتصل بك بسبب العاصفة.»

كانت إحدى العميلات في الضفة الغربية تريد إعادة طلاء الحمام.

وقال: «حقًّا؟ ولكننا انتهينا لتونا من ذلك.»

– «لا يعجبها منظره.»

– «قلت لها: إن ذلك اللون غير مناسب. برتقالي.»

– «أصبحت تتفق معك الآن.»

وقال: «سأذهب الآن.»

فقالت: «لا تتعجل.»

– «أرجو أن تستقري على رأي.»

قالت: «كل ما أرجوه ألا تقود السيارة بسرعة!»

كانت كاثي يقلقها أسلوب قيادته للسيارة، خصوصًا إزاء قلق البعض من العاصفة المقبلة. كانت تعرف أن زيتون يعُدُّ نفسه سائقًا ماهرًا، لكنها حين كانت تركب إلى جواره تشعر بأعصابها تتحطم.

شرع يعترض قائلًا: «كاثي! أرجوك …»

قالت: «إنني أخاف وحسب أثناء قيادتك السيارة.»

فقال: «دعيني أسألك» — وكان بذلك يشرع في إحدى تجاربه الفكرية المتكررة — «فلنقل إن الشخص العادي يقود السيارة، في المتوسط، نحو ساعتين في اليوم، وإن ذلك الشخص يحصل في المتوسط على مخالفتين في السنة، وأنا أقود السيارة نحو ست ساعات في كل يوم. كم من المخالفات تتوقعين أن أرتكبها؟ هذا هو سؤالي.»

– «كل ما قلته: إني شخصيًّا أشعر بالخوف.»

– «إني لا أرتكب إلا مخالفتين أو ثلاثًا في السنة یا كاثي! كنت أعرف رجلًا يعمل سائقًا لسيارة أجرة في نيويورك على مدى ثلاثين عامًا من دون رخصة! وهذا الرجل …»

ولم تكن كاثي تريد أن تسمع شيئًا عن ذلك الذي يعمل في نيويورك، فقالت: «كل ما أقوله …»

– «كاثي كاثي! لدينا في سوريا مثل يقول: المجنون يتكلم والعاقل يسمعه.»

– «ولكنك أنت الذي يتكلم.»

واضطر زيتون إلى الضحك. كانت دائمًا تفوز عليه في المناقشة.

وقال: «سأتصل بك فيما بعد.»

اتجه زیتون إلى الضفة الغربية ليلقي نظرة على الحمام البرتقالي. كان يحاول أن يجد بعض التسرية في تغير أذواق عملائه، بحسبان ذلك جزءًا من عمله، فلو أنه غضب كلما غَيَّر أحدهم رأيه ما كُتب له البقاء قط! وكانت محصلة ذلك توافر التسرية في كل يوم. کان عمله يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الأذواق الشخصية للأفراد، والذوق بطبيعته مسألة ذاتية، فإذا أضفت إلى ذلك بعض المتغيرات مثل عامل الضوء والستائر والسجاجيد، كان من المحتوم أن تشهد إعادة التقييم، وأداء العمل مرة أخرى.

ومع ذلك فإن أغرب الطلبات كانت كثيرًا ما تصدر عن أشخاص يبدون أسوياء إلى أقصى حد. كانت من بين العملاء فاتنة من الجنوب في الستينيات، وكانت قد اتصلت بشركة زيتون للطلاء، وكانت سعيدة بمحادثة كاثي، التي تتحدث بأسلوب الدردشة ولهجة مألوفة، ولكن عندما وصل العمال ليبدءُوا طلاء واجهات المنزل، عادت المرأة إلى الاتصال فورًا بكاثي.

قالت: «لا أحب هؤلاء الرجال!»

وسألتها كاثي: «ما عيبهم؟»

وقالت المرأة: «بشرتهم سمراء. لا أريد إلا رجالًا ذوي بشرة بيضاء للعمل في منزلي.» وقالت ذلك بلهجة من يختار نوعًا من التوابل للسَّلَطَة.

وضحكت كاثي: «ذوي بشرة بيضاء؟ آسفة! لقد نفد رصيدنا للتو من هؤلاء!»

وأقنعت المرأة أن الرجال الذين أرسلتهم — وكانوا كلهم من أمريكا اللاتينية في هذه الحال — يجيدون حرفتهم على خير وجه، وأنهم سيقومون بالمهمة خير قيام. ولم تعترض المرأة، لكنها عادت للاتصال بالتليفون: «هذا أقصر من أن يصبح عامل طلاء.» وكانت تشير بذلك إلى عامل يدعی هکتور ويزيد طوله على ۱۸۰سم. ولما أدركت فاتنة الجنوب أنها لن تستطيع مهما اشتكت أن تستبدل بهؤلاء العمال عمالًا أطول من ذوي البشرة البيضاء، قنعت بمراقبتهم، والتأكد من جودة أدائهم بين الحين والآخر.

وبطبيعة الحال، كثيرًا ما كان يحدث أن يتوقف طالبو العمل عند اسم زيتون. كانوا يتصلون لمعرفة التكاليف ثم يسألون كاثي: «زیتون؟! من أين أتى هذا الاسم؟ ما وطنه؟» وكانت كاثي تقول: «إنه سوري.» وبعد ذلك تمر فترة صمت طويلة أو فترة قصيرة قبل أن يقولوا: «هكذا؟ لا بأس! انسي الموضوع!» كان ذلك نادر الحدوث، ولكنه لم يكن نادرًا إلى الحد اللازم.

كانت كاثي تخبر زیتون أحيانًا بمثل هذه الحالات، وأحيانًا تتكتمها، ولكنها لم تكن تذكرها قط حول مائدة العشاء، وكان عادة ما يضحك منها وينساها، ولكنها كانت أحيانًا تثير أعصابه. كان شعوره بالإحباط إزاء بعض الأمريكيين شعور الوالد الذي خاب ظنه، كان بالغ الرضا في هذا البلد، مبهورًا وعاشقًا للفرص التي تتيحها للفرد، ولكن لماذا يخون الأمريكيون أحيانًا ذواتهم الحقة؟ أي إنك إذا جعلته يبدأ الحديث في هذا الموضوع كنت تقول: وداعًا لوجبة هنيئة. فهو يبدأ بالدفاع عن المسلمين في أمريكا، ويتخذ من ذلك منطلقًا للتوسع في عرض القضية. كان يبدأ قائلًا: إن كل جريمة ترتكب منذ الهجمات في نيويورك أصبحت تنسب إلى مسلم، ومِن ثَم يشار إلى دين ذلك الشخص، بغض النظر عن علاقته بالموضوع. وإذا ارتكب مسيحي إحدى الجرائم، فهل يذكرون دينه؟ وإذا استوقف مسيحي في أحد المطارات بسبب محاولة اصطحاب مسدس في الطائرة، فهل يُخْطَرُ العالمُ الغربي بأن مسیحيًّا قُبض عليه اليوم وأنه يخضع للتحقيق معه؟ وماذا عن الأمريكيين من أصول أفريقية؟ حين يرتكب رجلٌ أسودُ جريمةً من الجرائم، فإن ذلك يذكر في مستهل الخبر «قُبض على رجل أمريكي من أصول أفريقية اليوم …» وماذا عن الأمريكيين من أصول ألمانية؟ أو أصول إنجليزية؟ قد يسطو رجل أبيض على دكان صغير فهل نسمع أنه ينحدر من أسلاف اسكتلندية؟ لا تُذكَر السلالة أبدًا في أي من هذه الحالات.

وعندها يقتطف بعض ما يقوله القرآن:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: ١٣٥).

كانت كاثي تدهش لعمق معرفته بالقرآن الكريم وسرعة استشهاده بالآية المناسبة لأي موقف من المواقف. ومع ذلك، فهل تليق هذه المحادثة على مائدة العشاء؟ كان من الصالح للأطفال إدراك وجود أمثال هذا التعصب، ولكن الأمر لم يكن جديرًا باستفزاز زیتون ومشاهدة خيبة أمله بعد أن قضى في العمل يومًا طويلًا، ومع ذلك كان زيتون يستطيع آخر الأمر أن يضحك من أمثال هذه الأحداث وينساها، وأما الذي لم يكن يطيقه قط فهو أن يرفع أحد العملاء صوته على كاثي.

وقد مر بهما عميل من هؤلاء، كانت امرأة في مقتبل العمر متزوجة من طبيب. كانت نحيلة جميلة وذات هيئة لا يعيبها شيء أبدًا، ولم تبدِ أدنی انزعاج عندما عرض زیتون عليها تقديره للتكاليف، وبدأ العمل في طلاء الدرج وغرفة الضيوف. وقالت لزيتون إنها كانت تتوقع، هي وزوجها، وصول ضيوف ينزلون بالمنزل، وأرادت الانتهاء من طلاء الدرج وغرفة الضيوف أيضًا في غضون خمسة أيام فقط. وقال زيتون إن هذه مدة محدودة ولكنها لا تمثل مشكلة لشركته. وغمرتها السعادة الجارفة؛ إذ لم تقبل أي شركة طلاء أخرى الالتزام بمثل هذا الزمن المحدود.

وأرسل زیتون فريقًا من ثلاثة عمال في اليوم التالي، ولما رأت العميلة كفاءة ذلك الفريق في العمل وسرعة إنجازه، سألت زیتون إن كان في إمكان الفريق طلاء مكتب زوجها وغرفة نوم ابنتها، وقال لها إن ذلك ممكن، فأرسل المزيد من عمال الطلاء إلى المنزل، واستمرت هي في إضافة غرف أخرى وأعمال أخرى، بما في ذلك تركيب بلاط جديد في الحمام وطلائه، وواصل رجال زيتون تنفيذ العمل بسرعة.

ولكن تلك السرعة لم تكن كافية، ففي اليوم الثالث اتصلت كاثي بزيتون وقد أشرفت على البكاء، قالت إن المرأة اتصلت بها أربع مرات متوالية في زمن قصير، وهي تشتم وتسب وتلعن، كانت العميلة تصرخ قائلة إن العمل لم يكتمل في المنزل، وضيوفها يصلون بعد أقل من يومين، وقالت لها كاثي إن رجال زیتون انتهوا من العمل الأصلي في أقل من المدة المطلوبة، ولكن ذلك لم يكن مطلب العميلة، كانت تريد كل شيء — كانت تريد الانتهاء من الغرف السبع كلها بمهامها التي لا تحصى — في خمسة أيام، كانت تريد أداء ثلاثة أضعاف العمل في الوقت المحدد للعمل الأصلي.

وحاولت كاثي استخدام المنطق معها، وقالت إنها لم تتعهد قط، وما تعهد زیتون قط بالقدرة على الانتهاء من جميع الأعمال الإضافية في خمسة أيام. فمثل ذلك الجدول الزمني غير منطقي، ولا تستطيع أي شركة، حتى لو كانت شركة زيتون نفسه، الانتهاء من العمل في مثل ذلك الوقت. ولكن العميلة لم تكن تعرف المنطق، بل ظلت تنبح في وجه كاثي وتغلق التليفون ثم تتصل من جديد وتغلق الخط، كان صوتها عاليًا، ونبراتها مترفعة، ولهجتها قاسية.

واتصلت كاثي، والدموع تنساب من عينيها، بزيتون على تليفونه الخلوي أثناء سيره بالشاحنة إلى موقع عمل في الجانب الآخر من المدينة. وحوَّل زیتون وجهة الشاحنة، حتى من قبل انتهاء مكالمة كاثي، وانطلق يقودها بأقصى سرعة يسمح بها القانون إلى منزل تلك العميلة. وعندما وصل إليه دخل بهدوء إلى المنزل وأخبر عماله أنهم سيرحلون، وفي غضون عشر دقائق كانوا قد جمعوا كل معداتهم، من علب الطلاء إلى السلالم، ومن الفراجين إلى المشمعات الواقية، ووضعوها في شاحنة زيتون.

وفي أثناء تراجع زیتون بالشاحنة إلى الخلف استعدادًا للرحيل، جاء زوج العميلة يجري ملهوفًا إلى زيتون. وسأله عما أغضبه، ماذا حدث؟ وكان غضب زیتون قد بلغ حدًّا جعله يعجز عن العثور على الكلمات المناسبة بالإنجليزية. والواقع أن امتناعه عن الكلام كان أفضل، وانتظر ثوانيَ معدودة ثم قال إنه لا يقبل أن يتحدث أحد بذلك الأسلوب إلى زوجته، وإنه قد ترك العمل وانتهى الأمر وتمنَّى له حظًّا حسنًا.

وعندما وصل إلى المنزل الذي طُلي فيه الحمام باللون البرتقالي، طلب كاثي حتى تستعرض أسعار المواد التي قد يحتاجون إليها، وألقى نظرة على الجدران البرتقالية — وما كان أشق النظر إليها — فأدرك وجود البانيو الجديد، الذي كان ضخمًا يقوم على أرجل تشبه مخالب الطائر، ويوحي بالقِدَم والهَرَم.

وسألته كاثي في التليفون: «تقول إنه كبير الحجم لكن أليس جميلًا؟»

ورد مازحًا: «نعم، مثلك!»

فقالت: «حذار! أستطيع إنقاص وزني لكنك لن تستطيع أبدا إعادة الشعر إلى رأسك!»

عندما التقيا، كانت كاثي مشغولة بالحفاظ على رشاقتها لكنها كانت أنحف مما ينبغي. كانت في طفولتها سمينة، في أعين البعض على الأقل، وكان وزنها يتفاوت ارتفاعًا وانخفاضًا بشدة في سني المراهقة. كانت تطلق العنان لشهيتها، ثم تلتزم بنظام غذائي صارم ثم تعود إلى إطلاق العنان، وعندما تزوجا أصر زيتون على أن يجعلها تتجاوز قضية وزن الجسم وأن تأكل مثل الأسوياء. وأصغت لما يقول، فإذا به يتفکَّه الآن بأنها تمادت في العمل برأيه! كانت تقول لأصدقائها: «الحمد لله على العباية.» كانت عندما تريد عدم الانشغال بالملابس أو القلق على هذا الزي أو ذاك، تَوَلَّى الزي الإسلامي الذي ينسدل من الكتف إلى الأرض حل المشكلة — حَلًّا مُهندمًا!

وسمعت طرقة على الباب فذهبت لتفتحه فوجدت ميلفن، وهو عامل طلاء من جواتيمالا، وكان يريد الحصول على أجره الأسبوعي قبل نهاية الأسبوع.

كان زيتون حاسمًا في جهوده لتقديم الأجر المجزي ودون تأخير للعمال، وكان دائمًا ما يستشهد بالحديث الشريف: «أعطِ الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.» وكان يستند هو وكاثي إلى هذا الأساس الصلب في إدارة العمل، ولم يفُتِ العمال إدراك ذلك.

ومع ذلك فقد كان زيتون يفضل أن يدفع الأجور أيام الأحد أو الإثنين؛ لأن الدفع يوم الجمعة يجعل عددًا كبيرًا من العمال يختفي طوال عطلة نهاية الأسبوع، ولكن كاثي كان لها قلب شفيق، وكان اعتزامها تأجيل الدفع ولو ساعة يضعف في وجود هؤلاء العمال الذين يتفصدون عرقًا، وعلى عُقل أصابعهم الدم، ونشارة الخشب تغطي سواعدهم.

قالت له: «لا تخبر زيتون!» وكتبت الشيك له.

وأدارت کاثي جهاز التليفزيون وتنقلت بين القنوات، كانت كل محطة تغطي أنباء العاصفة.

لم يكن قد تغير أي شيء؛ إذ كان إعصار كاترينا يسير في طريقه من دون أن تقل سرعته أو قوته. ولما كان الإعصار في مجمله يتقدَّم ببطء شديد، بسرعة تبلغ ثمانية أميال في الساعة، زادت الأضرار التي تحدثها الريح، بل سوف تستمر في إحداث أضرار فاجعة.

لم تكن التغطية تتجاوز الكلام عن خلفية العاصفة حتى سمعت كاثي تعبير «أسرة من خمسة أفراد». كان المذيع ومن معه يتحدثون عن الأسرة التي فُقدت في البحر، وقالت في نفسها «يا رب! يا رب!» ثم رفعت صوت التليفزيون. كانت الأسرة لا تزال مفقودة وكان رب الأسرة يُدعى «إِد لارسِن». كان يعمل مشرفًا على عمال البناء. وقالت في نفسها: «لست جادًّا.» كان قد أخذ عطلة لمدة أسبوع حتی يخرج مع أسرته في نزهة بحرية في اليخت الخاص به، وكان اسم اليخت «حاشية البحر». كان اليخت قد وصل إلى مرفأ ماراثون ثم انطلق منه إلى كيب كورال حينما انقطع الاتصال معه باللاسلكي. وكان الرجل يصطحب زوجته وأطفاله الثلاثة في طريقهم إلى الساحل لحضور حفل اجتماع شمل الأسرة الكبيرة. وما إن اجتمع أفراد الأسرة الكبيرة حتى أدركوا غياب أسرة «لارسن» وعندها تحول الحفل إلى سهرة حافلة بالقلق والصلوات.

ولم تستطع کاثي الاحتمال.

فاتصلت بزوجها وقالت: «لا بد أن نرحل.»

فقال: «انتظري. انتظري. علينا أن ننتظر حتى تتضح الأمور.»

فقالت: «أرجوك!»

فقال: «حقًّا؟ تستطيعين الرحيل.»

•••

كانت كاثي قد اصطحبت الأطفال من قبل إلى الشمال عدة مرات عندما كانت العواصف تشتد، ولكنها كانت تأمل ألا تُضطَر إلى القيام بهذه الرحلة الآن، فعليها أن تؤدي بعض الأعمال في نهاية الأسبوع، والأطفال وضعوا برامج للعطلة، ودائمًا ما كانت تعود أشد إرهاقًا مما كانت عليه.

وفي كل مرة تقريبًا، سواء للفرار من وجه عاصفة أو لقضاء عطلة، كانت كاثي تُضطَر إلى الرحيل مع الأطفال في غيبة زيتون، كان من العسير على زوجها أن يترك العمل، ويصعب عليه الاسترخاء أيامًا متوالية. وبعد سنوات من هذه الحياة بلا عطلات هدَّدت كاثي بأن تأخذ الأطفال بعد خروجهم من المدرسة عصر يوم من أيام الجمعة للذهاب إلى فلوريدا، ولم يصدقها زيتون أول الأمر. هل كانت كاثي قادرة على أن تغادر المنزل حقًّا معه أو من دونه؟

كانت تستطيع، ثم أقدمت على ذلك فعلًا، ففي عصر يوم من أيام الجمعة كان زيتون يطمئن على سير العمل في موقع قريب وقرر أن يمر على المنزل، كان يريد أن يرى الأطفال ويلبس قميصًا آخر ويأخذ بعض الأوراق الخاصة بالعمل، لكنه عندما أوقف السيارة في مدخل المنزل، وجد كاثي منهمكة في وضع الأمتعة في الشاحنة الصغيرة، والطفلين الصغيرين جالسين داخلها وقد ربطا أحزمة الأمان.

وسألها: «إلى أين تذهبون؟»

– «قلت لك إنني سأذهب معك أو من دونك. وسوف نذهب!»

كانوا سيذهبون إلى «دستين، فلوریدا»، وهي بلدة ساحلية على خليج المكسيك على مبعدة أربع ساعات بالسيارة، وتتمتع بشواطئ طويلة بيضاء ومياه صافية.

وقالت نديمة: «تعالَ معنا يا بابا!» وكانت قد خرجت لتوها من المنزل تجمع عُدَّة الغطس.

كان ذهول زیتون أكبر من أن يسمح له بالكلام، كان ذهنه مشغولًا بمهام لا تحصى، وكانت أنبوبة في أحد العقارات المؤجرة قد انفجرت لتوها، فكيف يستطيع الذهاب؟

وجلست نديمة في الكرسي الأمامي وربطت حزام الأمان.

وقالت كاثي وهي تتراجع بظهر السيارة: «باي باي! نراك يوم الأحد.»

وانطلقت السيارة، والفتيات يُلَوِّحْنَ له أثناء الرحيل.

لم يذهب مع باقي الأسرة في ذلك اليوم، ولكنه لم يعد يتشكك بعد ذلك في عزيمة كاثي، كان يعرف أنها جادة، وأنها سوف تستشيره في المستقبل بشأن خطط التمتع بالعطلات، وإن كان قد عرف كذلك أن كاثي يمكن أن تقوم برحلات إلى فلوريدا، وإلى أماكن أبعد، بل سوف تقوم بها، معه أو من دونه. وهكذا قامت الأسرة برحلات أخرى إلى دستين، بل إنه اصطحب الأسرة في عدد منها.

ولكنه لم يكن يتخذ القرار في جميع الأحوال إلا في آخر لحظة، وذات يوم تأخرت كاثي في الشروع في الرحيل، وتأخر زيتون إلى الحد الذي لم يسمح له بحزم أمتعته. وكانت كاثي قد أدارت السيارة وبدأت تتراجع بها استعدادًا للانطلاق عندما وصل وأوقف سيارته بجوارها.

وقالت كاثي: «اركب الآن أو لن تأتي معنا!» حتى دون أن توقف المحرك.

وهكذا ركب السيارة، وكان لا يزال يرتدي ملابس العمل، وقد علاه التراب والعرق الذي كان يتفصد نتيجة توتره من صعوبة اتخاذ القرار مثلما يتفصد من عمل اليوم. واضطُرَّ عند وصولهم إلى فلوريدا إلى أن يشتري ملابس أخرى للبحر.

كانت كاثي تعتز بأنها تستطيع اصطحابه إلى دستن مرة في العام، ولم يكن زيتون يمانع كثيرًا في الذهاب؛ إذ كان يعرف مدى قرب المكان، ويدرك أنه يستطيع العودة في أي لحظة، بل إنه قطع عطلته وعاد أكثر من مرة بسبب مشكلة ما في أحد مواقع العمل.

ولكن كاثي كانت — بحلول عام ۲۰۰۲ — ترید عطلة تُشعرها بأنها عطلة حقيقية. وكانت تعرف أن عليها في سبيل ذلك أن تجد حلًّا جذريًّا، فعلى مدى الزمن الذي قضياه معًا — وكان آنذاك يبلغ ثماني سنوات — لم يكن قد تمتع بعطلة تزيد على يومين متتاليين. وانتهت آخر الأمر إلى أن عليها أن تختطفه.

بدأت بالتخطيط لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في دستن، واختارت وقتًا تعلم أن العمل سيميل إلى الهدوء فيه؛ إذ كانت عطلة عيد الميلاد قد انقضت لتوها، ونادرًا ما كان العملُ يُستأنَفُ بنشاط قبل حلول السنة الجديدة. وكالعادة، لم يتخذ زیتون قراره إلا في اللحظة الأخيرة، ومِن ثَم احتاطت للأمر وأعدت حقيبة ملابسه بنفسها وخبأتها في الشاحنة الصغرى، ولما كانت قد ضمنت أن تكون نهاية الأسبوع هادئة، قرر اصطحاب الأسرة، وإن كان ذلك، كعادته، في آخر لحظة. وتأكدت من هدوء الأطفال — إذ كانت تطلعهم على كل خطة تضعها — وسرعان ما غلبه النعاس وسال لعابه على حزام الأمان. وفي أثناء نومه، اتجهت كاثي بالسيارة عبر مدينة دستن وتجاوزتها جنوبًا إلى شبه جزيرة فلوريدا، وكلما استيقظ قالت له: «كدنا أن نصل، عد إلى النوم!» وكان والحمد الله يعود إلى النوم؛ إذ كان بالغ الإرهاق، ولم يدرك أنهم ليسوا متجهين إلى دستن إلا قبل الوصول إلى شمال ميامي بساعة واحدة. كانت كاثي قد توجهت مباشرة إلى مدينة ميامي، سبع عشرة ساعة بالسيارة. كانت قد بحثت بالكمبيوتر عن أدفأ مكان في البلاد في ذلك الأسبوع، وكانت ميامي ذلك المكان، كان الوجود في مثل ذلك المكان البعيد السبيل الوحيد لضمان قضائه عطلة حقيقية، مقدار أسبوع كامل من الراحة. كانت كلما تذكرت تلك الحيلة، وكيف نفذتها بنجاح ابتسمت لنفسها. كان الزواج نظامًا مثل غيره من النظم، وكانت تعرف كيف تنجح في إدارته.

وفي نحو الثانية والنصف عاد أحمد إلى الاتصال بزيتون، كان لا يزال يتابع مسار العاصفة من الكمبيوتر الخاص به في إسبانيا.

وقال أحمد: «لا يبدو أنها تبشر بالخير لكم.»

ووعد زیتون بأن يتابع أحوالها.

وقال أحمد: «تخيل الأمواج العالية التي تثيرها العاصفة.»

وقال زيتون إنه منتبه لهذا كل الانتباه.

وقال أحمد: «ولمَ لا ترحل طلبًا للأمان وحسب؟»

قررت كاثي أن تذهب إلى دكان البقالة قبل توصيل البنات من المدرسة إلى المنزل؛ إذ قالت في نفسها إن المرء لا يستطيع أن يعرف متى يتزاحم الناس لشراء الضروريات قبل وصول العاصفة، وأرادت أن تتجنَّب مثل ذلك التزاحم.

ذهبت إلى المرآة لتسوية الحجاب، ونظفت أسنانها بالفرشاة، وتركت المنزل. لم يكن الأمر يشغل بالها كثيرًا؛ ولكن كل مرة تخرج فيها إلى دكان البقالة أو المركز التجاري كانت تجازف بإمكان مواجهة لون ما من ألوان الإساءة. ويبدو أن تواتر هذه الأحداث کان مرتبطًا إلى حد ما بالأحداث الجارية، والصورة العامة التي ترسمها أجهزة الإعلام للمسلمين في ذلك الأسبوع أو ذلك الشهر، وقد ازدادت شحنة التوتر قطعًا بعد أحداث ١١ سبتمبر عما كانت عليه قبلها، ثم ساد الهدوء بضع سنوات، ولكن حادثة محلية وقعت في عام ٢٠٠٤ أضرمت النار من جديد.

ففي مدرسة وست جيفرسون الثانوية، دأب معلم التاريخ على مضايقة طالبة في الصف العاشر باستمرار؛ لأنها كانت ذات أصول عراقية، كان يقول إن العراق من «بلدان العالم الثالث»، ويقول إنه يقلق لأن الطالبة قد «تفجر فينا القنابل» إذا عادت يومًا ما إلى العراق. وفي فبراير من ذلك العام، أثناء أداء الامتحانات، نزع المدرس حجاب الفتاة قائلًا: «أرجو أن يعاقبك الرب. لا! آسف! أرجو أن يعاقبك الله!» ونُشرت أنباء الحادثة على نطاق واسع، ورفعت الطالبة قضية على المعلم، وأوصى رئيس المنطقة التعليمية التي تتبعها المدرسة بإنهاء خدمته، ولكن مجلس إدارة المدرسة ألغى الحكم وحكم بإيقافه عن العمل عدة أسابيع ثم عاد إلى المدرسة.

وبعد صدور ذلك القرار حدث ارتفاع في معدل وقوع المضايقات الطفيفة للمسلمين في تلك المنطقة. وكانت كاثي تدرك أنها تدعو إلى مضايقتها بخروجها بالحجاب، وكانت عادة جديدة قد نشأت في ذلك الوقت، يمارسها المراهقون من الصبية أو من يفكرون مثلهم، ألا وهي التسلل من خلف المرأة التي تلبس الحجاب واختطافه والجري به.

وذات يوم حدث ذلك لكاثي، كانت تتسوق مع أسما، وهي صديقة مسلمة لا تلبس الحجاب، وكانت أسما أصلًا من الجزائر، واستمرت تقيم في الولايات المتحدة عشرين سنة، وكان الناس عادة يتصورون أنها إسبانية، وعندما خرجت كاثي وأسما من المركز التجاري، كانت كاثي تحاول أن تذكر أين أوقفت سيارتها، وكانت أسما على الرصيف، وعين كاثي لا تتحول عن صفوف العربات البراقة، عندما نظرت أسما إليها نظرة غريبة، قائلة: «كاثي! من خلفك فتاة!»

كانت فتاة في نحو الخامسة عشرة تقبع خلف كاثي ويدها مرفوعة توشك أن تختطف الحجاب من فوق رأسها.

وأدارت كاثي رأسها وصرخت فيها: «لديك مشكلة؟»

وانزوت الفتاة وتسللت مبتعدة لتلحق بمجموعة من البنين والبنات من أترابها، وكلهم يرقبون، وعندما لحقت بأصدقائها وجهت بعض الألفاظ المنتقاة إلى كاثي، وضحك أصدقاؤها وحاكوها، فأمطروا كاثي بوابل من الشتائم البالغة التنوع.

من المحال أن يكون الأولاد والبنات قد توقعوا أن ترد کاثي عليهم. ولا شك في أنهم كانوا يتصورون أن المرأة المسلمة التي يُفترض فيها الخضوع والحياء في استخدام اللغة الإنجليزية سوف تسمح بانتزاع حجابها من رأسها دون رد. ولكن كاثي أطلقت عليهم سَيْلًا من قذائف الألفاظ اللاذعة التي أذهلتهم وعقدت ألسنتهم عدة لحظات.

وفي أثناء رحلة العودة إلى المنزل كانت كاثي نفسها جازعة مما قالته، كانت قد نشأت في بيئة يكثر فيها استخدام الشتائم، وكانت تعرف كل كلمة وكل تعبير مسيء، ولكنها لم تستخدم أيًّا من ذلك منذ أن أصبحت أُمًّا، ومنذ اعتناقها الإسلام، إلا مرة أو مرتين، ولكن هؤلاء الأطفال كانوا في حاجة إلى أن يتعلموا درسًا، فلم تبخل به عليهم.

وفي الأسابيع التي تلت الهجمات على البرجين السامقين في نيويورك لم تشاهد كاثي إلا عددًا بالغ القلة من المسلمات في الحياة العامة، وكانت واثقة بأنهن مختبئات ولا يخرجن من المنزل إلا إن دعت الضرورة، وفي أواخر سبتمبر كانت في حي «والجرينز» عندما شاهدت أخيرًا امرأة ترتدي الحجاب، فأهرعت إليها قائلة: «السلام عليكم.» مصافحة مرحبة. كانت طبيبة تدرس في كلية تولين ويخامرها الإحساس نفسه، كأنها منفية في بلدها نفسه، وضحكت كل منهما على السعادة الغامرة التي واتتهما عند التلاقي.

•••

وفي هذا اليوم من شهر أغسطس، قامت بالتسوق عند البقال دون مواجهة، ثم بدأت توصيل البنات إلى المنزل.

وسألتها نديمة: «هل سمعت عن العاصفة؟»

وأضافت صفية: «إنها مقبلة علينا.»

وسألتها نديمة: «هل نرحل؟»

كانت کاثي تعرف أن أطفالها يريدون الرحيل، يريدون الذهاب إلى منازل أقاربهم في مسيسيبي أو باتون روج، فيكون ذلك بمثابة عطلة، أو يومين من الكسل، وربما حصلوا على عطلة عند إغلاق المدرسة يوم الإثنين لتنظيف المدينة، كان ذلك قطعًا ما يفكرون فيه ويأملونه. كانت كاثي تعرف مسار تفكير أطفالها.

وعندما وصل الجميع إلى المنزل في الخامسة كانت نشرات الأخبار تتحدث باستمرار عن إعصار كاترينا، وشاهدت الأسرة في التليفزيون صور الأمواج الهائلة والأشجار المقتلعة والبلدات الكاملة التي اجتاحتها الأمطار الغزيرة فكستها باللون الرمادي، وكان المركز القومي للأعاصير يتنبأ بأن كاترينا ستصبح عما قريب إعصارًا من الدرجة الثالثة، وعقدت بلانكو، حاكمة الولاية، مؤتمرًا صحفيًّا لتعلن فيه حالة الطوارئ في ولاية لويزيانا، وفعل ذلك نفسه باربر حاكم ولاية مسيسيبي معلنًا فيها الطوارئ.

كانت كاثي منزعجة، ظلت تجلس على مسند الأريكة بذهن شارد جعلها تُغفل البدءَ في إعداد العشاء حتى السادسة، وطلبت زيتون بالتليفون.

وسألته: «هل تستطيع إحضار بعض الدجاج المشوي في طريق عودتك للمنزل؟»

وقامت نديمة بترتيب مفرش المائدة وأطباق الطعام لكل فرد في المنزل، بينما أخذت صفية وعائشة تضعان أدوات الطعام والأكواب في أماكنها، وأعدت کاثي طبقًا من السلطة وصبت اللبن للصغار والعصير لها ولزيتون.

وحضر زيتون ومعه دجاجة، فاستحم وجلس مع الأسرة لتناول العشاء.

وقال زيتون لبناته: «أكمِلْنَ الأكل!» بعد أن لاحظ كيف يقتصرن على تناول الفتات تارکات مقادير كبيرة كما هي.

كان قد اعتاد ذلك بعد كل هذه السنين، ومع ذلك كانت تمر به لحظات يشعر فيها بالضيق من إهدار الطعام، بل إمكان إهدار كل شيء تقريبًا. كان إبان نشأته في سوريا كثيرًا ما يسمع التعبير القائل: «ما لا تكسبه يدك لا يأسف عليه قلبك.» وأما في الولايات المتحدة فلم يكن الأمر يقتصر على الرخاء — إذ لم تكن نيو أورلينز قطعًا مدينة يسودها الرخاء بدرجة متساوية — بل كان الإحساس يشيع بأنه يمكن استعراض كل شيء، وبنزوة طارئة. كان يحاول أن يغرس في نفوس أطفاله قيمة العمل، وقيمة كل ما يدخل منزلهم، ولكنه كان يعرف أنه سوف يضيع الكثير في هذا السياق؛ فهو الإهدار والسرف اللذان تتصف بهما هذه الثقافة عمومًا. لقد درج على أن يعرف أن الله لا يحب المسرفين والمبذرين، وقد قيل له إن ذلك من بين الأشياء الثلاثة التي تعتبر أشد ما يكرهه الله، وهي القتل العمد، والطلاق، والتبذير؛ فهي تدمر المجتمع.

وبعد العشاء استأذنت الفتيات في مشاهدة فيلم «الكبرياء والهوى» مرة أخرى. كانت تلك ليلة الجمعة، ولم يكن لدی زیتون سبب منطقي يتعلق بالمدرسة للاعتراض، ولكن ذلك لم يكن يعني أنه كان مضطرًّا للجلوس والمشاهدة مرة أخرى. لقد أعجبه الفيلم أول مرة، ولكنه لم يكن يفهم ضرورة مشاهدته عشر مرات في عشرة أيام. وهكذا كان يذهب مع زخاري في الأسبوع الماضي إلى غرفة أخرى لأداء شيء آخر، أي شيء آخر. ولكن كاثي كانت في صحبة الفتيات، وقد تداخل الجميع بعضهن في بعض فوق الأريكة، وكانت العيون تغرورق بالدمع في المشاهد نفسها التي اعتادت ذلك فيها، وهز زیتون رأسه ودخل المطبخ لإصلاح باب دولاب صغير لا بد من تثبيت مفاصله.

كانوا يوقفون عرض الفيلم على امتداد المساء لمتابعة التقارير الإخبارية عن شدة العاصفة واتجاه مسارها. كانت الأنباء تقول إن الإعصار لا يزال يسير ببطء بحذاء الساحل، وقد زادت سرعة الرياح فيه عن مائة ميل في الساعة، وكلما تباطأت العاصفة فوق منطقة ما، ازداد الدمار الذي تحدثه فيها. كانت جميع الأنباء رهيبة. وعندما شاهدت كاثي صورة الأسرة بأفرادها الخمسة كانت على وشك إغلاق التليفزيون، كانت واثقة بأنهم غرقوا، وكان مصير هذه الأسرة سوف يشغل بالها أسابيع متوالية؛ إذ تتراءى لها صورة الأقارب الذين يتوقعون اجتماع شمل الأسرة، ثم إذا بهم مرغمون على البكاء على فقدان هذا العدد الكبير مرة واحدة، ولكن كاثي تبينت أن الأسرة لم تُفقَد! فرفعت صوت التليفزيون. لقد أُنقذت. كان أفرادها قد أرسوا سفينتهم في جزيرة يغطيها نبات المنغروف بالقرب من المنطقة المعروفة باسم «الجزر العشرة الآلاف» واحتموا من العاصفة في غرفة اليخت، وهم يصلون، ويتناوبون الصعود إلى السطح لطلب الغوث من الطائرات المحلقة فوقهم، وكان حرس السواحل قد لمح سفينتهم قبل ساعات معدودة ورفعهم جميعًا إلى بر السلامة. وهكذا أُنقذت الأسرة بأفرادها الخمسة.

بعد أن قبلت كاثي زخاري قبلة المساء في وقت لاحق رقدت في فراش نديمة ورقدت البنات حولها، فتداخلت الأطراف والوسائد في غير ما نظام.

وسألت كاثي: «من تريد أن تبدأ؟»

وبدأت صفية القصة عن «بوكيمون». كانت القصص التي تتعاون الفتيات في نسجها كثيرًا ما تدور حول بوكيمون. وبعد أن وصفت عائشة البطل، رسمت صفية مكان الأحداث وزمنها والصراع الأساسي فيها، واستأنفت نديمة القص من هذه النقطة، واستمر الجميع في بناء الحبكة بالتناوب حتى نامت عائشة. وبدأت ندیمة وصفية في التثاؤب والتثاقل، فالنعاس. ونظرت كاثي فوجدت زيتون واقفًا لدى الباب، متكئًا على الإفريز، وهو يتطلع إلى الجميع، كان كثيرًا ما يفعل هذا، فينظر وحسب، کیما يستوعب ما يشهد. وكان المشهد أحلى وأجمل من احتماله، كان يكفي لتفجير ينبوع نشوة في قلبه.

السبت ۲۷ من أغسطس

استيقظ زيتون وكاثي متأخرَين، بعد الثامنة. وعندما أدارا التليفزيون، شاهدا مايكل براون، مديرَ الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وهو يخبر جميعَ سكان مدينة نيو أورلينز بأن عليهم أن يرحلوا في أقربِ وقتٍ مُستطاع، والاتجاهَ داخل البلاد بأقصى سرعة مُمكِنة، وكان المركز القومي للأعاصير قد أصدر تحذيرًا للمنطقة وسط ولاية لويزيانا قائلًا إن الإعصار قد يبلغ حد الدرجة الخامسة عندما يصل إلى اليابسة. ولم تهب الأعاصير من الدرجة الخامسة على المنطقة القارية في الولايات المتحدة إلا ثلاث مرات من قبل، ولم تتعرض مدينة نيو أورلينز لها قط.

وقالت كاثي: «أظن أن علينا أن نرحل یا حبيبي.»

وقال زيتون: «ارحلوا أنتم، وسأبقى أنا.»

وسألته: «كيف يمكن أن تبقى؟»

ولكنها كانت تعرف الإجابة، لم يكن العمل الذي يقومان به عملًا بسيطًا يتيح لك أن تغلق المكتب وحسب وترحل، وكان معنی الرحيل من المدينة ترك كل ما يمتلكانه، وكل منازل مستأجريهم، ولم يكن في طوقهم أن يفعلوا هذا إلا في حالة الضرورة القصوى. وكانت لديهما مواقع عمل في شتى أرجاء المدينة، وقد تحدث أشياء كثيرة يجهلانها أثناء غيابهما، وقد تُرفع عليهما قضايا التعويض إذا تسببت معداتهما في إحداث أي ضرر بممتلكات عملائهما. كان ذلك من المخاطر الأخرى للشركة التي بنياها.

كانت كاثي تميل بشدة إلى الهرب، وبدا لها من متابعة الأخبار طول النهار ظهور دلائل كثيرة جديدة على الطابع الفريد لهذه العاصفة، بل بلغ من كثرتها أن كاثي لم تعد تطيق مجرد التفكير في البقاء، كانا قد أوقفا من قبل عمليات الشركة في مطار لويس أرمسترونج الدولي، وكان الحرس الوطني في لويزيانا قد استدعی أربعة آلاف جندي من جنود الاحتياط للخدمة.

كان ذلك وقت الضحی، ودرجة الحرارة لا تقل عن ٣٥° مئوية، والهواء مثقل بالرطوبة، وكان زيتون في الفناء الخلفي يجري ويلعب مع الأطفال والكلبة «ميكاي». وفتحت کاثي الباب الخلفي.

وسألته كاثي: «هل ستبقى حقًّا؟» كانت تتصور لسبب ما أنه ربما يبدي التردد، ولكنها كانت مخطئة.

وقال لها: «ما الذي يقلقكِ؟»

لكنها لم تكن قلقة. لم يكن ما يراودها هو الخوف على سلامة زوجها، في الواقع، بل إحساس قاطع بأن الحياة في المدينة ستكون مضنية إلى أقصى حد خلال العاصفة وبعدها. لا بد من انقطاع الكهرباء، وسوف تكون الشوارع مغطاة بالأنقاض، ويتعذر المرور فيها أيامًا متوالية. فما الذي يدفعها إلى تحمل كل هذا العناء؟

وقال: «لا بد أن أرعى المنزل والمنازل الأخرى. قد ينشأ ثقب صغير في السقف، فإن أصلحته فلا ضرر منه، وإلا تحطم المنزل كله.»

وبحلول أولى ساعات العصر كان ناجين، عمدة المدينة، وبلانكو، حاكمة الولاية، قد بدآ الدعوة إلى إخلاء المدينة طوعًا، وقال ناجين للسكان إن مبنى القبة الكبيرة، وهو الصالة الرياضية المغلقة في المدينة، سيكون مفتوحًا باعتباره «مأوى الملاذ الأخير!» وارتعدت كاثي من تصور ذلك. ففي العام السابق، عندما هب إعصار إيفان، فشلت خطة الإيواء في ذلك المكان فشلًا ذريعًا؛ إذ كانت القبة الكبيرة تفتقر إلى المؤن اللازمة وتعاني من التكدس، مثلما كان الحال في عام ١٩٩٨، في أيام إعصار جورج، ولم تكن تصدق أن المكان سوف يُستخدم من جديد، وقالت في نفسها إنهم ربما تعلموا الدرس من المرة السابقة ووفروا المؤن اللازمة للصالة الرياضية المغلقة. كل شيء ممكن، ولكنها كانت غير واثقة.

كانت كاثي تعتزم أن ترحل بمجرد الإعلان عن تحويل المرور إلى اتجاه واحد، وهو ما كان من المفترض أن يبدأ تنفيذه في نحو الرابعة عصرًا. ومن شأن هذا التحويل أن يجعل الحارات في جميع الطرق الرئيسة مجهزة للسيارات الخارجة من المدينة، ولكن كان على كاثي في هذه الآونة أن تحزم حقائبها وتضعها في سيارتها، واسمها «الأوديسية»، بحيث تكون على استعداد عند مدخل المنزل.

لكن تُرى أين تذهب؟ كانت واثقة بأن كل فندق سيكون كامل العدد في أي مكان خارج المدينة حتى مسافة مائتي ميل. وإذن كان الأمر ينحصر في الاهتداء إلى من تُثْقِلُ عليه بضيافتها من أفراد الأسرة. خطر لها أولًا أن تذهب إلى أختها «آن» في مدينة «بوبلارفيل»، بولاية مسيسيبي، ولكنها عندما اتصلت بها، كانت «آن» أيضًا تفكر في الرحيل؛ إذ إن منزلها كان يقع من الناحية الجغرافية المحضة في المنطقة التي سوف تتضرر من الرياح العاتية، كما كانت تحيط به أشجار عتيقة، ولما كان من المحتمل أن تسقط إحداها فتخرق سقف منزل «آن» لم تكن واثقة أنها ينبغي أن تظل في ذلك المنزل، ناهيك باستضافة كاثي وأطفالها.

كان الخيار التالي هو المقر الرئيس للأسرة في باتون روج، وكان منزلًا ريفيًّا تحيط به مزرعة في إحدى ضواحي تلك المدينة، ويملكه أخوها آندي، وبه ثلاث غرف للنوم، وكان آندي كثير الترحال وكان آنذاك في هونج كونج، يعمل في مشروع إنشائي. وكانت اثنتان من أخوات كاثي، هما باتي وماري آن، قد انتقلتا للعيش فيه أثناء غيابه.

كانت كاثي تعرف أنهما سوف تسمحان لها بالنزول في ذلك المنزل مع أطفالها، ولكن التكدس محتوم في هذه الحالة، بدايةً لم يكن المنزل كبيرًا، وكان لدى باتي أربعة أطفال أيضًا، فإذا أضيفت كاثي بأطفالها الأربعة أصبح في المنزل ثمانية أطفال وثلاث أخوات، وغدا الجميع يعيشون معًا في منزل من المحتمل أن تؤدي الرياح العاتية إلى قطع الكهرباء عنه.

ومع ذلك فإن الأسرتين لم تجتمعا معًا منذ وقت طويل، وربما أدت هذه المناسبة إلى التقارب بين أفرادهما، فقد يستطيعون الخروج معًا لتناول الطعام، أو للتسوق في باتون روج، وكانت كاثي واثقة بأن أطفالها سوف يرحبون بالفكرة. كان أطفال باتي أكبر سنًّا ولكنهم دائمًا ما كانوا يستمتعون بصحبة أطفال زیتون، وعلى أي حال فإن ثمانية أطفال تحت سقف واحد لا بد أن يجدوا شيئًا يفعلونه معًا، وعلى الرغم مما ينتظرها من التكدس والجلبة الصاخبة، فإن كاثي وجدت نفسها تتطلع إلى الذهاب.

وحاولت كاثي طيلة ساعات العصر إقناع زوجها بالذهاب معهم، وسألته متى طلب المسئولون من قبل إخلاء مدينة بأكملها؟ ألم يكن ذلك سببًا كافيًا للرحيل؟

وأقر زیتون بأن ذلك غير معتاد، ولكنه لم يمر بتجربة الجلاء عن مكان ما من قبل، ولم يرَ ما يدعوه إلى أن يفعل ذلك الآن، كان منزلهما يقوم على ربوة ارتفاعها نحو ثلاث أقدام، وكان يتكون من طابقين فوق الطابق الأرضي؛ الأمر الذي ينفي اضطرار أحد إلى اللجوء إلى غرفة السطح أو إلى سقف البيت نفسه، حتى في أسوأ الحالات. وقال زيتون في نفسه إنه يستطيع في جميع الأحوال أن يعتصم بالطابق الثاني، كما إنه ليس قريبًا من أي سدود، ومِن ثَم فإن حدوث فيضان مفاجئ يغرقه، والذي يغرق بعض الأحياء الأخرى أمر مستبعد. والواقع أن منطقة شرقي نيو أوليانز، أو آخر الحي التاسع، بمنازلها ذوات الطابق الواحد والقريبة من السدود هي التي كانت تتعرض لأشد الأخطار.

وبالقطع لم يكن يستطيع أن يرحل قبل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين جميع المواقع التي تجري فيها أشغاله، لم يكن أحد سواه يستطيع ذلك، بل لم يكن يطلب من أحد أن يقوم بذلك. كان قد طلب من عماله ورؤسائهم أن يرحلوا عصر ذلك اليوم؛ حتى يكونوا في صحبة أسرهم، وحتى يتاح لهم التبكير قبل ازدحام الطريق بالسيارات، كما اعتزم المرور على كل موقع من المواقع التسعة التي يتولى العمل فيها حتى يجمع معداته أو يربطها في حزمة واحدة؛ إذ كان قد شاهد ما حدث عندما لم يفعل أحد المقاولين ذلك، فقد انكفأت السلالم المتنقلة التي يستخدمها العمال فكسرت النوافذ وخدشت الجدران، وأصابت الأدواتُ قِطَعَ الأثاث بأضرار، وسال الطلاء على الكلأ وفي مدخل المنزل.

وقال: «الأفضل أن أذهب بنفسي.»

وانطلق لزيارة مواقع العمل، فأخذ يثبت السلالم المتنقلة بأربطة، ويجمع المعدات في حزم ملفوفة، مثل الفراجين ووحدات البلاط والألواح المجصصة، وكان قد انتهى من العمل في نحو نصف المواقع حين اتجه إلى المنزل لوداع کاثي والأطفال.

كانت كاثي تنقل عددًا من الحقائب الصغيرة إلى سيارتها، كانت قد حزمت ما يلبي احتياجهم لمدة يومين من الملابس وأدوات التزين والأغذية. وقالت في نفسها إنهم سوف يعودون في مساء يوم الإثنين بعد أن تأتي العاصفة وتمضي.

وأدارت کاثي الراديو في شاحنتها الصغيرة فسمعت العمدة ناجين وهو يكرر تعليماته لأهل المدينة بمغادرتها، ولكنها لاحظت أنه لم يكن يدعو إلى الإخلاء الإجباري، وكانت واثقة بأن ذلك سوف یزید موقف زوجها صلابة. وحوَّلت مؤشر الراديو إلى محطة أخرى، وكان المذيع هنا يقول محذرًا إن على كل من يعتزم البقاء أثناء العاصفة في نيو أورلينز أن يكون متأهبًا لوقوع فيضان، موضحًا أن السدود قد تحدث بها شروخ ينفذ منها الماء، وقد ينشأ الفيضان من موجات البحر التي تدفعها العاصفة، وقد يصل ارتفاع المياه إلى عشر أقدام أو خمس عشرة، وعلى كل شخص ذي رأي متصلب أن تكون لديه فأس يكسر بها سقف غرفة السطح للوصول إلى السطح العلوي للمنزل.

وأوقف زيتون شاحنته وتركها في الشارع المواجه للمنزل، وشاهدته مقبلًا نحوها، لم تكن كاثي تشك قط في قدرته على رعاية نفسه في أي ظروف، ولكن قلبها كان الآن يخفق بشدة. هل تتركه الآن لتتولى أمورها بنفسها، وتتركه ليحفر ثقبًا في غرفة السطح بفأس في يده؟ كان ذلك جنونًا!

ووقف هو وكاثي في مدخل المنزل، مثلما فعل في المرات العديدة التي رحلت فيها مع الأطفال وتركته وحده.

وقال زيتون: «الأفضل أن تسرعي. كثيرون يرحلون الآن.»

ونظرت كاثي إليه، وساءها كثيرًا أن تشعر بالدموع في مآقيها. وأمسك زیتون بیدیها.

وقال: «هيا هيا! لن يحدث شيء. الناس تثير ضجة بغير مبرر.»

وقالت عائشة بصوت منغوم من المقعد الخلفي: «باي باي يا بابا!»

ولوح الأطفال بأيديهم. لوحوا جميعًا؛ كل أطفاله، وهو واقف في مدخل المنزل. لم يكن في هذا كله جديد، فلقد عاش الجميع هذه اللحظة عشر مرات؛ حينما كانت كاثي والأطفال يسافرون طلبًا للمأوى الآمن أو للراحة، تارکین زیتون لرعاية منزله ومنازل الجيران والعملاء في شتى أرجاء المدينة. كان يحمل مفاتيح عشرات الأبواب؛ إذ كان كل فرد يأتمنه على منزله وكل شيء فيه.

وقال: «إلى اللقاء يوم الإثنين.»

وانطلقت كاثي بالسيارة موقنة أن الجميع مجانين. كان العيش في مدينة كهذه جنونًا، والفرار الآن منها جنون، وترك زوجها وحيدًا في منزل يقع في مسار الإعصار جنون.

ولوَّحت له بيدها، ولوح الأطفال بأيديهم، وظل زیتون واقفًا يلوح في مدخل المنزل حتى ذهبت أسرته.

وانطلق زيتون للانتهاء من باقي مواقع العمل التي يتولاها. كانت النسائم تهب والسحب المنخفضة تغشاها بقع بنية ورمادية، وكانت المدينة في فوضى، وآلاف السيارات على الطرق، والمرور أشد سوءًا مما توقع، كان يلمح أضواء الفرامل، ويسمع أبواق السيارات، ويرى بعضها يسير مضيئًا الأنوار الحمراء، فسار في شوارع لن يسير فيها الخارجون من المدينة.

وفي وسط المدينة كان مئات الأشخاص يسيرون إلى مبنى القبة الكبيرة، حاملين البرادات والبطاطين وحقائب الملابس، ودُهش زيتون من ذلك، فالتجارب السابقة في استخدام الاستاد ملجأً قد فشلت، وباعتباره من رجال المعمار كان قلقًا على سلامة السقف؛ هل يستطيع الصمود حقًّا للرياح العاتية؟ وقال في نفسه إنه لا يقبل الاحتماء في ذلك المكان مهما يدفعوا له من أموال.

وعلى أي حال فلم تكن مثل هذه العاصفة في الماضي تمثل أكثر من عدة ساعات من صراخ الرياح، وسقوط بعض الأشجار، وارتفاع الماء قدمًا أو قدمين، وبعض الأضرار الطفيفة التي يمكن إصلاحها بمجرد هدوء الريح.

كان يشعر من الآن بالاطمئنان؛ إذ سرعان ما تخلو نيو أورلينز من السكان إلى حد كبير، وكان الوجود في المدينة الخالية دائمًا ما يشيع الشعور بهدوء البال على الأقل يومًا أو يومين. واستمر في جولاته، وقام بتأمين المواقع القليلة الباقية، ووصل إلى البيت قبيل السادسة مساءً.

واتصلت به كاثي في السادسة والنصف.

قالت إنها محشورة في زحام المرور على مسافة بضعة أميال خارج المدينة. وكان مما يزيد الأمر سوءًا أنها ضلت الطريق الصحيح بسبب اضطرابها وأعداد السيارات الهائلة بصورة غير مسبوقة، فبدلًا من السير في طريق أ-۱۰ غربًا للوصول مباشرة إلى باتون روج، انحرفت في الطريق أ-۱۰ شرقًا، ولا تجد ما يمكِّنها من تصويب ذلك الخطأ، بل أصبح عليها أن تعبر بحيرة «بونشارتران» ثم تعود القهقرى من جديد خلال مدينة «سليدل» وعبر الولاية. كان معنى هذا إضافة ساعات إلى زمن الرحلة، كانت تشعر بالضيق والإرهاق والرحلة لم تكد تبدأ.

كان زيتون يجلس في المنزل، واضعًا قدميه على المنضدة، ويشاهد التليفزيون، وحرص على إخبارها بذلك.

وقال لها: «قلت لك ذلك.»

كان المتوقع أن تصل كاثي والأطفال إلى منزل باتي لتناول العشاء مع الأسرة، ولكنها بحلول السابعة لم تكن قطعت إلا أقل من عشرين ميلًا، وعندما وصلت إلى مشارف «سليدل» دخلت بالسيارة مطعمًا يقدم الهامبورجر للمسافرين، فتناولت مع الأطفال الهامبورجر بالجبن والبطاطس المقلية في السيارة، وبعد عدة دقائق سادت السيارة رائحة كريهة.

وسألت كاثي الأطفال: «ما هذا؟» فقهقه الجميع، كانت الرائحة رائحة براز منتنة، وسألت من جديد: «ما هذا أقول؟» وفي هذه المرة لم يستطع الأطفال من شدة القهقهة أن يجيبوا، وهز زخاري رأسه.

وتمكنت إحدى الفتيات من أن تقول: «إنها الكلبة ميكاي»، قبل أن تعود للضحك الهستيري من جديد.

كان الأطفال يقدمون إليها سِرًّا قِطَعًا من الهامبورجر بما فيه من جبن، وكان الجبن يسد أمعاءها، فظلت تفسو مسافة أميال.

وصرخت كاثي: «هذا فظيع!» وازدادت قهقهة الأطفال، واستمرت معاناة الكلبة، وكانت تختبئ تحت المقعد.

ومرت بمدينة سلیدل وسرعان ما وجدت الطريق أ-١٩٠ وهو طريق أصغر، وكانت تتصور أن حجم المرور فيه أخف، لكنه كان على الدرجة نفسها من السوء، نهر لا نهاية له من أضواء الفرامل، وحدست كاثي أن أمامها عشر آلاف سيارة، وعشرين ألف ضوء للفرامل، تصطف على طول الطريق إلى باتون روج وتتجاوزها، كانت قد أصبحت جزءًا من هذا «الخروج» دون أن تتبين تمامًا أبعاده الهائلة وغرابته. مائة ألف شخص في الطريق، متجهون جميعًا إلى الشمال والشرق؛ فرارًا من الرياح والماء. لم تَجُلْ بخاطر كاثي إلا صورة الفِراش. أين يمكن لهؤلاء الناس جميعًا أن يناموا؟ في مائة ألف سرير. كانت كلما مرت بمدخل منزل نظرت إلى البيت في شوق، كان التعب قد بلغ بها أقصاه ولم تكن قد قطعت حتى نصف المسافة.

وخطر لها أمر زوجها من جديد، كانت الصور التي شاهدتها في شريط الأنباء عجيبة حقًّا؛ إذ كانت العاصفة تشبه منشارًا دائریًّا أبيض، يتجه مباشرة نحو نيو أورلينز. كانت المدينة في هذه الصور المرسلة بالقمر الصناعي تبدو بالغة الضآلة بالمقارنة بالإعصار، شيء صغير يوشك أن يقطعه نصل المنشار الدائري الهائل ويُفَتِّتَهُ تفتيتًا. ولم يكن زوجها إلا رجلًا وحيدًا في منزل خشبي.

واتصل زیتون بها من جديد في الثامنة، كانت كاثي والأطفال قد قضوا ثلاث ساعات على الطريق ولم تصل السيارة إلا إلى بلدة کوفنجتون، على مبعدة خمسين ميلًا تقريبًا. وفي غضون ذلك كان يشاهد التليفزيون ويتسكع في المنزل، ويستمتع ببرد الليل.

وقال لها: «كان ينبغي أن تبقوا. المكان لطيف فعلًا.»

وردت قائلة: «سنرى أيها الفتى الذكي!»

على الرغم من شعور كاثي بالإرهاق وضيقها الشديد بفساء الكلبة، فإنها كانت تتطلع إلى قضاء عدة أيام في باتون روج، والأقرب للواقع أن نقول إنها تتطلع إلى ذلك في لحظات معينة على الأقل. لم تكن تجد التعامل مع أسرتها يسيرًا، وهذا أمر مؤكد، وكان يمكن لأي زیارة أن تنحرف عن المسار الصحيح بسرعة، وتأتي بأخطاء يصعب إصلاحها. كانت تقول للناس: «إن المسألة معقدة.» كانت نشأتها مع ثمانية أشقاء غاصَّة بالقلاقل، وعندما اعتنقت الإسلام تكاثرت المعارك وحالات سوء الفهم.

كانت المنازعات كثيرًا ما تنشب بصدد حجابها، كانت تعود إلى المنزل، وتضع حقائبها، ثم يقول أحدهم: «الآن تستطيعين نزع هذا الشيء.» كانوا لا يزالون يقولون لها ذلك، بعد انقضاء خمسة عشر عامًا على اعتناقها الإسلام، كأنما كان الحجاب شيئًا تلبسه مكرهة، وفي صحبة زيتون فقط، أو كأنه قناع تنكري يمكن أن تطرحه في غيابه. أو قل كأنما كانت تستطيع في بيت أسرة دلفين، أسرتها، أن تجد ذاتها أخيرًا وأن تستمتع بحياتها. وكان ذلك في الواقع هو الأمر الذي أصدرته والدتها إليها في آخر زيارة قامت بها كاثي؛ إذ قالت أمها: «انزعي هذا الشيء من رأسك، واخرجي لقضاء وقت سعيد!»

•••

لكنه كان يحدث في بعض الأحيان أن يتغلب إخلاص الأم لابنتها على موقف والدة كاثي من الإسلام. فمنذ سنوات ذهبت كاثي مع أمها إلى إدارة المرور لتجديد رخصة القيادة الخاصة بكاثي، وكانت كاثي آنئذٍ تلبس حجابها، وكانت قد تلقت بالفعل عددًا لا بأس به من النظرات المريبة من العملاء والعاملين في إدارة المرور قبل أن تجلس لالتقاط صورتها، ولكن الموظفة القائمة على آلة التصوير لم تُخْفِ احتقارها.

قالت المرأة: «انزعي ذلك الشيء!»

كانت كاثي تعرف أنه كان من حقها أن تلبس الحجاب عند التصوير، لكنها لم تشأ أن يتحول الأمر إلى مشاجرة.

فسألتها كاثي: «هل لديك فرشاة شعر؟» حاولت أن تحيل الأمر إلى فكاهة فقالت: «لا أريد أن يبدو شعري ملبَّدًا في الصورة.» كانت كاثي تبتسم، ولكن المرأة كانت تحدق دون أن يرمش لها جفن. واستمرت كاثي تقول: «حقًّا، لا أبالي إن خلعت الحجاب ولكن بشرط أن تكون لديكِ فرشاة شعر.»

وكانت تلك هي اللحظة التي هبت فيها والدتها لإنقاذها، بأسلوبها الخاص.

وصرخت والدتها: «لها أن تلبسه! تستطيع إذا أرادت!»

وتحوَّل الموقف إلى مشادَّة، وكان كل من في إدارة المرور يتفرج! وحاولت كاثي نزع فتيل النزاع قائلة: «لا بأس يا ماما! حقًّا لا بأس! هل معكِ فرشاة شعر یا ماما؟»

ولم يبدُ أن والدة كاثي استوعبت ما سمعت، بل كانت تركز اهتمامها على الموظفة التي تمسك آلة التصوير، وهتفت صائحة: «لا تستطيعين إرغامها على خلعه! إنه حق من حقوقها الدستورية!»

واختفت المرأة أخيرًا في مؤخرة المكتب، ثم عادت بعد أن حصلت على الإذن من رئيستها بتصوير كاثي بالحجاب، وعندما أومض ضوء التصوير حاولت كاثي الابتسام.

نشأت كاثي وترعرعت في باتون روج، وكان منزل الأسرة مزدحمًا، غاصًّا بالضوضاء وصور التناقض الصارخ، كان تسعة أطفال يشتركون في العيش في منزل من طابق واحد مساحته ۱٥٥ مترًا مربعًا، وكان كل ثلاثة ينامون في غرفة واحدة ويتنازعون على استخدام حمام واحد، ولكنهم كانوا قانعين إلى الحد الذي يمكن توقعه في هذه الأحوال. وكان الحي يتميز بالنظام؛ إذ يحفل بالأطفال الذين أنجبهم العمال القاطنون فيه. وخلف منزل كاثي كانت تقع مدرسة شيروود الإعدادية، وهي مدرسة ضخمة، تلاميذها ينحدرون من سلالات عرقية متعددة، وكانت كاثي تشعر فيها بأنها مغلوبة على أمرها، كانت واحدة من حفنة التلاميذ ذوي البشرة البيضاء، فكان الآخرون يضطهدونها ويستأسدون عليها ويضحكون منها. وهكذا درجت على أن تتشاجر بسرعة، وتجادل بسرعة.

ولا بد أنها هربت من المنزل أكثر من عشر مرات، وربما أكثر كثيرًا. وكانت في كل مرة تقريبًا، ابتداءً من سن السادسة أو نحوها، تهرع إلى منزل صديقتها يوكو. لم يكن ذلك المنزل يبعد إلا بمسافة عدة شوارع، ويقع في الجانب الآخر من المدرسة، ولما كانت هي ويوكو من بين الأقلية غير السوداء في الحي، نمت بينهما رابطة عدم الانتماء، كانت يوکو تعيش مع أمها كاميكو وحدهما في منزلهما بعد وفاة زوج کامیکو؛ إذ قتله سائق مخمور ويوكو لا تزال طفلة صغيرة. وعلى الرغم من أن يوكو كانت أكبر من كاثي بثلاث سنوات، فإن الاثنتين أصبحتا صديقتين لا تنفصلان، وكانت کامیکو شديدة الترحيب بكاثي والحدب على رفاهتها حتى غدت كاثي تدعوها «ماما».

ولم تستطع كاثي أن تعرف على وجه اليقين سبب احتضان کامیکو لها، ولكنها كانت تحرص على ألا تتشكك في ذلك. وكانت يوكو تتفکَّه قائلة إن أمها تريد الاقتراب من كاثي وحسب إلى الحد الذي يسمح لها بأن تُحَمِّيَها، والواقع أن كاثي لم تكن تستحم كثيرًا في طفولتها، ولم يكن الاستحمام يتمتع بأولوية كبيرة في منزلها، ولذلك كلما زارت منزل يوکو، ملأت کامیکو البانيو لها. كانت کامیکو تتفكَّه مع يوكو قائلة: «تبدو بشرتها دهنية.» ولكنها كانت تود لها أن تبدو نظيفة، وكانت كاثي تتطلع بشوق لذلك؛ ليَدَيْ كاميكو وهي تغسل شعرها، وأظافرها الطويلة تدغدغ رقبتها، والدفء الذي تحس به حين تضع کامیکو الفوطة السميكة النظيفة فوق كتفيها.

وبعد المدرسة الثانوية، ازداد اقتراب كاثي ويوكو، وانتقلت كاثي للإقامة في شقة صغيرة تقع في شارع متفرع من طريق «إير لاين» الرئيس في باتون روج، وبدأتا العمل معًا في محل لبيع الفطائر. كان الاستقلال یعني كل شيء لكاثي، وحتى في شقتهما الصغيرة في الشارع المطل على الطريق الرئيس الرابط بين الولايات، وبه ست حارات، كانت قد بدأت تعرف ما لم تعرفه من قبل قط، ألا وهو الإحساس بالنظام والهدوء في حياتها.

وكان من بين من اعتادوا التردد على المحل أختان من ماليزيا، وبدأت يوکو تحادثهما وتسألهما: ماذا يعني غطاء الرأس ذلك؟ ماذا يفعل المرء في الإسلام؟ هل يسمح الإسلام لك بقيادة السيارة؟ وكانت الأختان صريحتين، وتتكلمان بهدوء، ولا تنزعان إلى الدعوة إلى الإسلام أبدًا. ولم تكن كاثي تجهل أنهما أثَّرتا في يوكو تأثيرًا عظيمًا، ولكن يوکو کانت كالمسحورة، فبدأت تقرأ عن الإسلام، وتفحص القرآن، وسرعان ما أحضرت الأختان الماليزيتان بعض الكتب والكتيبات إلى يوكو فاندفعت تتعمق.

وعندما أدركت كاثي كم كانت يوكو جادة في هذا الموضوع، شعرت كاثي بأنها على شفا الخبل، وشعرت بالحرج لموقف يوکو، فلقد نشأتا كلتاهما على الدين المسيحي، ودخلتا مدرسة ابتدائية تلتزم بالمسيحية بصرامة، وكاد صبر كاثي ينفد وهي تشهد صديقتها وهي تتشرب هذا الدين الغريب. وكانت تراعي مبادئ المسيحية ورعًا وتقوی کخیر ما تكون المراعاة، وكانت کامیکو نفسها تتفوق عليها في ذلك.

وسألتها: «ماذا عسى أمُّكِ أن ترى في ذلك؟»

وقالت يوكو: «حافظي على تفتُّحِ ذهنك وحسب. أرجوكِ!»

ومرت عدة سنوات، وبعد بضعة أخطاء في التقدير وجراح في القلب، أمست كاثي مطلقة، تعيش وحدها مع زخاري الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول في هذه الدنيا. كانت تؤجر الشقة نفسها الواقعة في شارع متفرع من طريق إير لاين الرئيس في باتون روج، وتقوم بعملين في الوقت نفسه، كانت في الصباح تعمل في صيدلية تابعة لسلسلة صيدليات شركة «كيه آند بي»، وينحصر عملها في محاسبة العملاء على مشترياتهم وتقاضي ثمنها قبل خروجهم، وكانت الصيدلية تقع في الطريق الرئيس. وذات يوم زار الصيدلية مدير متجر «وبستر» للملابس الذي يقع على الجانب الآخر من الطريق، وهو حانوت متخصص في ملابس الرجال، وشاهد كاثي وأبدی إعجابه بشخصيتها المتَّقدة حماسةً، وسألها إن كانت على استعداد لترك الصيدلية والعمل لديه، أو الجمع — إذا شاءت — بين العملين. وكانت كاثي تحتاج إلى النقود فوافقت على العرض الأخير، وأصبحت تغادر الصيدلية مبكرًا في عصر كل يوم وتعبر الطريق إلى متجر وبستر للملابس وتظل تعمل حتى وقت إغلاقه. وسرعان ما باتت تعمل خمسين ساعة في الأسبوع، وتكسب ما يكفي لتغطية نفقات التأمين الصحي لها ولزخاري.

ولكن حياتها كانت تمثل مجالدة عسيرة، وكانت تبحث عن بعض النظام وبعض الإجابات. وعلى عكسها، كانت يوکو تبدو هادئة واثقة، وكانت دائمًا تتميز بالقدرة على التركيز حتى غدت كاثي تحسدها، ولكن يوكو أصبحت الآن حقًّا، فيما يبدو، کمن استطاع أن يفهم كل شيء.

وبدأت كاثي تستعير كتبًا عن الإسلام، ولم يكن يدفعها سوى حب الاستطلاع، دون أدنى نية لترك الدين المسيحي. كانت في البداية حائرة مفتونة وحسب بالأمور الأساسية التي لم تكن تعرفها، والأشياء الكثيرة التي افترضتها خطأً. لم تكن تعرف مثلًا أن القرآن يزخر بالأشخاص الذين يتحدث عنهم الكتاب المقدس — مثل موسى، ومريم، وإبراهيم، وفرعون، بل وعيسى أيضًا — ولم تكن تعرف أن المسلمين يعتبرون القرآن رابع کتاب من عند الله إلى رسله، بعد العهد القديم (الذي يشار إليه باسم التوراة أو شرع موسى) والمزامير (الزبور)، والعهد الجديد (الإنجيل). وكان اعتراف الإسلام بهذه الكتب السماوية مذهلًا لها. وكان إدراكها أن القرآن يمتد نطاقه ليشمل الأديان الأخرى المتصلة به مفاجأة حاسمة:

قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة: ١٣٦).

وشعرت بالضيق الشديد لأنها لم تكن تعرف ذلك من قبل، ولأنها عميت عن دین یدین به ألف مليون شخص أو نحو ذلك، كيف يمكن أن تجهل هذه الأمور؟

ومحمد، لقد كانت لديها معلومات بالغة الخطأ عنه، كانت تظن أنه الرب الفعلي الذي يعبده المسلمون، ولكنه كان الرسول وحسب الذي نقل كلام الله، كان محمد رجلًا أُميًّا زاره المَلَك جبريل وأنزل عليه كلمات الله، وأصبح محمد قناة توصيل هذه الرسائل، وإذن فإن القرآن ببساطة هو الصورة المكتوبة لكلمات الله، وهكذا فإن كلمة القرآن تعني «القراءة».

واكتشفت أشياء أساسية بالغة الكثرة حطمت ما كانت تفترضه سلفًا؛ إذ كانت تظن أن المسلمين مجموعة متجانسة كالصخرة الواحدة، وأن جميع المسلمين يمتازون بصلابة الورع والاستقامة، ولكنها تعلمت أنه توجد تفاسير شيعية وسنية للقرآن، وأنك يمكن أن تجد في مسجد واحد التنوع نفسه في العقيدة والالتزام الذي تجده في أي كنيسة، وأن بعض المسلمين يتهاونون في التعامل مع دينهم، والبعض يعرف كل كلمة في القرآن وفي السُّنَّة على نحو ما جاء في الحديث النبوي الذي يعتبر مرشدًا للسلوك مرافقًا للقرآن، وأن بعض المسلمين لا يكادون يعرفون شيئًا عن دينهم، ولم يكونوا يُصَلُّون إلا عدة مرات في السنة، والبعض الآخر ممن يطبقون أشد تفسيرات عقيدتهم صرامة. وعرفت أن بعض المسلمات يرتدين اﻟ «تي شيرت» والجینز، ومسلمات يغطين أنفسهن من الرأس إلى القدم. وأن بعض المسلمين من الرجال يتبعون في حياتهم السنة النبوية، وآخرين يضلون ولا يهتدون. عرفت بوجود مسلمين سلبيين، ومسلمين مزعزعي الدين، ومسلمین «لا أدريين» يعبدون الله «على حرف»، ومسلمين أتقياء، ومسلمين يحرفون الكلم عن مواضعه ليشتروا به ثمنًا قليلًا. كان ذلك الحال مألوفًا إلى أقصى حد، بل من الظواهر الثابتة في كل عقيدة.

في ذلك الوقت كانت كاثي ترتاد کنیسة إنجيلية كبيرة لا تبتعد كثيرًا عن وظيفتيها، وعلى الرغم من أنها لم تكن تمتلئ دائمًا، فإن مقاعدها كانت تكفي ألفًا من رعايا الكنيسة. كانت تشعر بالحاجة إلى التواصل مع دينها؛ إذ كانت تحتاج إلى كل ذرة من القوة يمكن أن تجدها.

لكنها شهدت في هذه الكنيسة أمورًا أقلقتها. كانت قد اعتادت أسلوب الوعظ المتقد في الكنيسة، وأقصى المظاهر الاستعراضية والدراما، ولكنها لاحظت ذات يوم أن أولئك قد تخطوا الحدود الفاصلة. كانوا قد انتهوا للتو من المرور بأطباق جمع التبرعات، وبعد أن جمعوا النقود المُتبرَّع بها وعَدُّوها، إذا بالواعظ — وكان رجلًا قصيرًا له وجه وردي وشارب — تبدو عليه خيبة الأمل. كان التعبير على وجهه صورة للألم، وبعدها لم يستطع كتمان ألمه، فانطلق يوبخ جماعة المصلين بهدوء أول الأمر، ثم بنبرات الضيق المتزايدة حدة، وتساءل: ألم يكونوا يحبون هذه الكنيسة؟ ألم يكونوا يقدرون العلاقة التي تخلقها هذه الكنيسة مع سيدهم المسيح؟ واستمر يهدر مؤنبًا الحاضرين على الشح والبخل، واستغرقت محاضرته عشرين دقيقة.

وبُهِتَتْ كاثي. لم تكن قد شهدت من قبل عَدَّ النقود أثناء صلاة الأحد، ثم طلب المزيد! كانت تعرف أن المصلين لم يكونوا أغنياء، فلقد كانت تلك کنیسة لطبقة العمال، کنیسة للطبقة الوسطى، ولقد تبرع كلٌّ بما يستطيع.

وغادرت الكنيسة في ذلك اليوم في قلق واضطراب إزاء ما شاهدته. وعندما عادت إلى البيت، ووضعت زخاري في فراشه لينام، لجأت من جديد إلى المواد التي أرسلتها يوكو إليها، وتصفحت القرآن. لم تكن كاثي واثقة بأن الإسلام هو الطريق الصحيح، ولكنها كانت تعرف أن يوكو لم تضللها قط من قبل، وأن يوکو کانت أكثر من عرفت اتزانًا وعقلًا، وإذا كان الإسلام قد نجح معها، فلمَ لا ينجح مع كاثي؟ كانت يوكو أختها، ومرشدتها.

وظلت كاثي تجالد قضية الإيمان طوال الأسبوع. كانت تعيش مع تساؤلاتها صباحًا ومساءً وطول النهار أثناء العمل. وذات يوم كانت ورديتها قد بدأت في محل وبستر للملابس عندما دخل رجل مألوف لها، ومن فورها، أدركت كاثي أنه أحد الوعاظ في الكنيسة، فأهرعت إليه تساعده في اختيار سترة «سبور» جديدة.

وقال لها: «تعرفين، عليكِ أن تأتي إلى كنيستنا، إنها ليست بعيدة عن هذا المكان.»

وضحكت وقالت: «أعرف كنيستكم. إنني أرتادها دائمًا. في جميع أيام الأحد تقريبًا.»

ودُهِشَ الرجل قائلًا إنه لم يرَها من قبل.

فقالت: «ذاك لأني أجلس في الخلف.»

فابتسم وقال لها إنه سوف يبحث عنها في المرة القادمة، فقد كان يهتم بأن يجعل كل فرد يحس بأنه موضع ترحيب.

وقالت كاثي: «تعرف، لا بد أن هذه آية من عند الله، أقصد مقابلتك هنا.»

وسألها: «ماذا تعنين؟»

وحدثته عن أزمتها، وكيف أصابها الإحباط من بعض جوانب المسيحية التي تعرفها، وبعض الأمور التي شاهدتها، في الواقع، في کنیسته نفسها. وقالت له إنها كانت فعلًا تفكر في اعتناق الإسلام.

كان يصغي بانتباه شديد، لكنه لم يكن، فيما يبدو، قلقًا بسبب فقدان فرد من أفراد جماعة المصلين.

وقال: «لا! إنه الشيطان وحسب يلهو بكِ. من طبعه ذلك، أي محاولة غوايتك لصرفك عن المسيح، ولكن هذا لن يؤدي إلا إلى تقوية إيمانك، وسوف ترين يوم الأحد.»

وعندما ذهب الرجل كان يقين كاثي قد ازداد. كيف يمكن أن تكون هذه الزيارة إلا آية من عند الله؟ ففي اللحظة التي كانت تراودها الشكوك في عقيدتها، جاء رسول أرسله يسوع فدخل مباشرة حياتها.

وفي يوم الأحد التالي ذهبت إلى الكنيسة، وقد عقدت العزم من جديد على الصمود، فإذا كانت يوکو تجد الراحة والهداية في الإسلام، فإن كاثي كانت واثقة بأنها تلقت دعوة شخصية من المسيح. دخلت وجلست بالقرب من الصف الأمامي، مصممة على أن يراها صديقها الجديد ويعرف ما أحدثه من تأثير.

لم يستغرق ذلك مدة طويلة؛ إذ حين نظر إلى جماعة المصلين ووقع بصره عليها اتسعت حدقتاه، وأحست من تعبير وجهه أنها كانت الشخص الذي ظل يبحث عنه طول النهار، وذكرت التعبير نفسه على وجوه الأطفال حين يلمحون التورتة التي أُعدت يوم مولدهم وكُتبت عليها أسماؤهم.

وعند ذلك، فجأة، وسط الصلاة، نودي عليها بالاسم، كان الواعظ، أمام القاعة الزاخرة التي احتشد فيها ما يقرب من ألف شخص، يناديها باسمها كاثي دلفين.

وأمرها الواعظ قائلًا: «تعالي هنا یا كاثي.»

ونهضت كاثي من مقعدها وسارت نحو الأضواء الباهرة التي غمرت المنبر، وحينما صعدت خشبة المسرح وقفت حائرة لا تدري أين تنظر، وكيف تتجنب وهج الأضواء، حجبت عينيها وحولتهما عن الضوء وخفضت بصرها. ركزت نظرها على حذائها وعلى الذين يجلسون في الصف الأمامي. لم يسبق لها أن وقفت أمام هذا الحشد الكبير. كان أقرب ما يشبهه يوم زفافها، ولم يكن عدد الحاضرين يتجاوز خمسين أو نحو ذلك من الأصدقاء وأفراد الأسرة، فماذا كان هذا؟ لماذا استُدعیت؟

قال الواعظ: «كاثي! أخبريهم بما أخبرتني به. أخبرينا جميعًا.»

وجمدت كاثي في مكانها، لم تكن واثقة بأنها تستطيع القيام بذلك. كانت كثيرة الكلام ونادرًا ما تفقد أعصابها، أما أن تعيد ذكر ما قالته للكاهن بصفة شخصية أمام ألف من الغرباء فلم يَبْدُ لعينها صوابًا.

ومع ذلك كانت كاثي واثقة بأنه يعرف ما يفعل، كانت تؤمن بأنها اختيرت للبقاء في هذه الكنيسة، وكانت تريد العبادة وتقديم يد العون، ربما كانت هذه الحادثة، مثل دخول الكاهن تيموثي المتجر في ذلك اليوم، حادثة قدرتها الأقدار، وقصدت بها أن تقربها من المسيح.

وقُدِّمَ لها میکروفون وتكلمت فيه، فقالت لجمهور المصلين ما قالته للكاهن، وإنها كانت تبحث في الإسلام وإن ذلك …

وقاطعها الواعظ، وقال برنة استهزاء: «كانت تتطلع إلى الإسلام!» واستمر قائلًا: «كانت تفكر في …» — ثم توقف لحظة — «أن تعبد الله!» وعند ذلك أصدر صوتًا كالشخير الهازئ الساخر، وهو الصوت الذي يصدره غلام في الثامنة أثناء اللهو في الملعب. كان هذا الكاهن، رئيس هذه الكنيسة الذي يؤم جمع المصلين، يستخدم هذا التعبير في الإشارة إلى الله. ألم يكن يعلم أن إلهه وإله الإسلام واحد؟ كان ذلك من أول الأمور التي تعلمتها من الكتيبات التي أعطتها يوكو لها وأبسطها، ألا وهو أن لفظ الجلالة «الله» كان اللفظ العربي للإله، بل إن المسيحيين الذين يتكلمون العربية يشيرون إليه باسم «الله».

وواصل حديثه فأثنى على كاثي وعلى يسوع، وأعاد تأكيد تفوق إيمانه وإيمانها، ولكنها كانت في تلك اللحظة لا تكاد تسمع ما يقال، كان قد انكسر شيء ما في داخلها، وعندما انتهى جلست في ذهول، حائرة وإن كانت قد تأكدت من أمر ما في تلك البقعة عينها وتلك اللحظة. ورسمت على شفتَيها بسمة تأدب طيلة المدة الباقية من العبادة، وإن كانت موقنة أنها لن تعود إلى هنا أبدًا.

وشغلت هذه الحادثة تفكيرها أثناء قيادة السيارة في رحلة العودة، وفي تلك الليلة واليوم التالي. وتحدثت إلى يوكو بشأنها، وأدركتا أن ذلك الرجل الذي يلقي المواعظ على ألف من رعايا الكنيسة الذين يثقون به ويتأثرون به لم يكن يعرف، أو لم يكن يهتم بأن يعرف أن الإسلام واليهودية والمسيحية فروع لدين التوحيد لإبراهيم الخليل، وأنها ترتبط بصلات وثيقة. هل يستبعد الإسلام کله بصوت لا يصدر إلا في الملعب؟ لم تكن كاثي تقدر على الانتماء إلى ما يدعو ذلك الواعظ إليه.

وهكذا، وبصورة متقطعة، اتبعت كاثي خطى يوكو إلى الإسلام؛ قرأت القرآن وأذهلها ما أحسته فيه من قوة وعذوبة. كان الوعاظ المسيحيون الذين سمعتهم ينفقون وقتًا طويلًا في الحديث عمن سيدخل النار ومن لن يدخلها، وعن شدة حرارتها والزمن الذي يُقضى فيها، ولكن الأئمة المسلمين الذين قابلتهم لم يكونوا يتحدثون عن ذلك، وكلما سألت: «هل أدخل الجنة؟» كان الإمام يقول: «لا يعلم هذا إلا الله.» كانت شتی شكوك الأئمة تبث في نفسها الاطمئنان وتزيد من اجتذابها. كانت تطرح الأسئلة عليهم، مثلما كانت تطرحها على الكهنة، وكان الأئمة يحاولون الإجابة ولكنهم كثيرًا ما يقولون إنهم لا يعرفون، بل يقولون: «فلنرجع إلى القرآن.» كانت تحب في الإسلام قوله بالمسئولية الشخصية، وانحيازه إلى العدالة الاجتماعية، ولكن أحب ما أحبته كانت سمات الكرامة والطُّهْرِ المجسدة فيمن عرفتهنَّ من المسلمات، فكانت ترى فيهن مثالًا لصحة البدن والنفس، وللشرف الغامر، كُنَّ عفيفات، ملتزمات مهذبات، وكانت تنشد تلك القدرة على السيطرة على النفس، وما تأتي السيطرة به من طمأنينة.

وأما اعتناق الإسلام فعليًّا فكان يتحلى ببساطة جميلة؛ ففي حضور يوکو وحفنة من النساء الأخريات بالمسجد، كان كل ما فعلته أن نطقت بالشهادة، وهي العهد الإسلامي بالإيمان بالدين: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.» كان ذلك كل ما طُلِب منها، وأصبحت كاثي دلفين مسلمة.

وعندما كانت كاثي تحاول شرح الأمر لأصدقائها وأفراد أسرتها، كانت تتلعثم، لكنها كانت واثقة بأنها وجدت في الإسلام السكينة، بل إن الشكوك التي بُذرت بُذُورُها في العقيدة كانت تتيح مساحة للتفكير، ومساحة للتساؤل، وكانت الإجابات التي يقدمها القرآن ترسم لها الطريق إلى الأمام، بل إن نظرتها إلى أسرتها قَلَّ تشددها، حين نظرت إليها من خلال عدسة الإسلام، وغدت أقل عدوانية. كانت دائمًا ما تتشاجر مع أمها، ولكن الإسلام علمها أن «الجنة تحت أقدام الأمهات»؛ وهو ما كبح جماحها، وهكذا توقفت تمامًا عن الرد، وتعلمت كيف تزداد صبرًا وقدرة على الصفح. كانت تردد: «لقد أعاد الإسلام الطهر والنقاء إلى نفسي.»

وإذا كان اعتناقها الإسلام يمثل خطوة إلى الأمام في نظرها، فإنه كان في نظر والدتها وأشقائها بمثابة نبذ لأسرتها وكل ما ترمز له. ومع ذلك فقد حاولت كاثي التعايش مع الواقع الجديد، وكذلك حاولت أسرتها، كانت تمر بها أوقات تسير الأمور فيها على خير ما يرام، كما كانت تشهد زيارات ممتعة لا يحدث فيها شيء، ولكن في مقابل كل مرة من هذه المرات، كانت الأمور تتطور وتتصاعد إلى القذف بالألفاظ والاتهامات، وصفق الأبواب والرحيل على وجه السرعة، كما كانت قد فقدت الاتصال تمامًا ببعض أشقائها الثمانية.

ولكنها كانت ترغب في أن تكون لها أسرة مديدة، كانت تريد أن يعرف أطفالها خالاتهم وأخوالهم وأبناءهم، وهكذا شعرت براحة عميقة حين وصلت شاحنتها «الأوديسية» إلى منزل أخيها في باتون روج، في الحادية عشرة والنصف، وأدخلت أطفالها المنزل وسرعان ما غلبهم النعاس، على الأرائك وعلى الأرض، ولمَّا تمضِ دقائق معدودة.

وعندما استقر بها المقام طلبت زيتون بالتليفون.

«هل وصلت الرياح العاصفة؟»

وقال: «لم يصل شيء بعد.»

وقالت كاثي: «سوف يغمى عليَّ! لم يسبق أن شعرت بهذا الإرهاق!»

وقال: «استريحي الآن. عليكِ بالنوم.»

– «وأنت أيضًا.»

وتبادلا تحية المساء، وأطفآ الأنوار.

الأحد ٢٨ من أغسطس

استيقظت كاثي قبل الفجر وفتحت التليفزيون. كانت كاترينا قد أصبحت الآن عاصفة من الدرجة الخامسة، وبلغت سرعة الرياح فيها ١٥٠ ميلًا في الساعة، وكانت تتجه بصورة مباشرة تقريبًا إلى نيو أورلينز، وكان المتوقع أن تبلغ أقصى شدتها في منطقة على بعد ستة عشر ميلًا غربي المدينة. وكان رجال الأرصاد الجوية يتنبَّئُون بمزيد من الرياح، وارتفاع الأمواج إلى عشر أقدام، وإمكان خرقها للسدود، ووقوع الفيضان على امتداد الساحل. وأشارت التقديرات إلى وصول العاصفة إلى نيو أورلينز في تلك الليلة.

ولم تتوقف المكالمات التي تلقتها كاثي وتلقاها زيتون طوال النهار من عملاء يطلبون تأمين شبابيك منازلهم وأبوابها، إزاء ازدياد سوء أنباء الإعصار. وكانت كاثي تجمع هذه الطلبات وتنقلها إلى زيتون. واكتشف زيتون أن أحد النجَّارين الذين يعملون لديه، واسمه جیمس کروسو، كان لا يزال بالمدينة، فاصطحبه وقضى الاثنان النهار في المرور بالشاحنة على المنازل لإجراء الإصلاحات اللازمة. كانت زوجة جيمس تعمل في أحد الفنادق في وسط المدينة، وكان الزوجان قد قررا أن يمكثا في المدينة أثناء العاصفة. وظل زيتون وجيمس يمران بالشاحنة من عمل إلى عمل، وفي صندوقها ربع طن من الخشب الرقائقي؛ ليفعلا ما يستطيعان قبل وصول الرياح. كانت الطرق لا تزال مزدحمة؛ إذ كانت موجة جديدة من السيارات خارجة من المدينة، ولكن زيتون كان يستبعد فكرة الرحيل. قال في نفسه إنه سيكون آمنًا في منزله بشارع «دارْت» البعيد عن السدود، كما كان المنزل يتكوَّن من طابقين، وهو مليء بالأدوات والأغذية.

وفي الضحى أصدر العمدة ناجين أول أمر في تاريخ المدينة بوجوب إخلائها، قائلًا إنه لا بد من رحيل كل من يستطيع ذلك.

وطوال النهار، كان زيتون وجيمس يشاهدان الناس مصطفين عند محطات الأوتوبيس، أولئك الذين كانوا يعتزمون البقاء في مبنى القبة الكبيرة، كانوا عائلات، وأزواجًا مع زوجاتهم، ومسنين، ونساء وحدهن، وكانوا جميعًا قد حزموا أمتعتهم في الحقائب المحمولة على ظهورهم، وأكياس القمامة، وحقائب الملابس. وكانت مشاهدتهم في العراء هكذا والرياح تشتد والسماء تزداد سوادًا يبعث القلق في نفس زيتون. ومر مع جيمس بالمجموعات نفسها، وهي تنتظر في صبر، في طريقهما إلى مواقع عملهما، ثم مرا بهم من جديد في طريق العودة.

وفي باتون روج، كان الجو مكفهرًّا صاخبًا؛ إذ هبت الرياح العاتية واسودَّ لون السماء في الظهيرة، وقضى الأطفال بعض الوقت في الخارج يلعبون، ثم دخلوا المنزل لمشاهدة فيلم مسجل على دي في دي، وكانت كاثي في صحبة باتي وماري آن. وكانت الأشجار في المنطقة تتمايل بشدة.

وقُطعت الكهرباء في الخامسة مساءً، فأخذ الأطفال يلعبون ألعابًا منزلية على ضوء الشموع.

وكانت كاثي تخرج بين حين وآخر إلى السيارة لسماع الأنباء في الراديو. كانت الرياح تحطم النوافذ في نيو أورلينز، وتقتلع الأشجار وخطوط الكهرباء.

وحاولت كاثي الاتصال بزيتون، ولكن كان جهاز البريد الصوتي يرد عليها. وحاولت الاتصال بتليفون المنزل. لا شيء. وقالت في نفسها، إن الأسلاك قد سقطت. لم يكن الإعصار قد أصاب المدينة بعد، ومع ذلك فلا تستطيع الاتصال بزوجها.

وبحلول الساعة السادسة كان زيتون قد أوصل جيمس إلى بيته وعاد هو إلى المنزل جاهزًا للطوارئ، وشاهد الأخبار في التليفزيون، ولم تكن قد تغيَّرت كثيرًا. كان المتوقع أن تصل أطراف الإعصار إلى المدينة في نحو منتصف الليل، وقال في نفسه إن ذلك سوف يعني انهيار شبكة الكهرباء عدة أيام.

وبدأ زيتون يسير في الغرف التي يزداد ظلامها، ويُجري تقديرًا لجميع الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها خلال العاصفة. كان المنزل يتكوَّن من أربع غرف للنوم؛ الغرفة الرئيسة في الطابق الأول، وغرف الأطفال في الطابق العلوي. وتوقع أن تتسرب المياه من بعض الأماكن هنا، فالاحتمال قائم بأن يصاب السقف ببعض الأضرار، وربما انكسرت بعض النوافذ. وكانت غرفة الجلوس في الطابق الأرضي، بنافذتها البارزة المقوسة، معرضة للأخطار، وربما سقطت الشجرة القائمة في الحديقة الخلفية فوق المنزل، ولو أن ذلك احتمال ضئيل، لكنها إن سقطت فسوف يتسبب ذلك في وقوع أضرار كبيرة؛ إذ لن يقوم حاجز يمنع المياه من الدخول.

لكنه كان متفائلًا. وعلى أي حال كان يريد البقاء في المنزل، بعد أن أنفق الآلاف على التحسينات التي أدخلها فيه وعلى حمايته بشتى السبل الممكنة، وتذكَّر أن جدته كانت لا تبرح خلال ما لا يُحصى من العواصف في جزيرة أَرْوَض، وقرَّر مِن ثَم أن يحذو حذوها، فبيت الأسرة جدير بالكفاح في سبيله.

كان الأمر الوحيد الذي يقلقه هو السدود. كانت الأنباء تحذر مرارًا وتكرارًا من اندفاع الموج بسبب العاصفة. وكانت السدود قد بنيت بحيث تستطيع الصمود أمام موج يبلغ ارتفاعه أربع عشرة قدمًا، ولكن الموج العاصف في الخليج كان قد ارتفع بالفعل إلى نحو تسع عشرة، أو عشرين قدمًا، فإذا خَرَقَ الموج السدود، فسوف يكون قد خسر المعركة بلا جدال.

واتصل بكاثي في الثامنة.

وقالت: «ها أنت ذا! كنت مختفيًا.»

ونظر إلى تليفونه فوجد أنه فاتته ثلاث مكالمات منها لم يرد عليها.

وقال: «لا بد أن شبكة التليفونات قد بدأت التقطع فعلًا.» لم يكن تليفونه قد أصدر أي رنين. وقال لها إنه لم يحدث حتى الآن شيء يذكر، باستثناء الرياح العاتية، لم يَجِدَّ جديد.

وقالت: «ابتعد عن النوافذ.»

وقال إنه سيحاول.

وتساءلت كاثي بصوت عالٍ عما إذا لم يكن فيما يفعلانه بعض الحمق، كان زوجها يتعرض لإعصار من الدرجة الخامسة وهما يتحدثان عن الابتعاد عن النوافذ!

وقال: «قولي للأطفال: تصبحون على خير!»

وقالت إنها ستفعل هذا.

وقال: «الأفضل أن نقطع المكالمة، حتى لا تنفد البطارية.»

وتبادلا تحية المساء.

وبعد أن أوي الأطفال إلى الرقاد، جلست كاثي على الأريكة في منزل أخيها آندي، وجعلت تحدق في الشمعة أمامها، كانت الضوء الوحيد الذي بقي في المنزل.

وما إن جاوزت الساعةُ الحادية عشرة حتى كان الطرف الأمامي للعاصفة قد وصل إلى منزل زيتون. واكتست السماء بلون رصاصي أدكن، وكانت الرياح باردة تدور في دوامات، وانهمرت الأمطار مدرارًا. وكان الدمار الذي يحدثه الإعصار خارج المنزل يتصاعد كل نصف ساعة. وفي منتصف الليل انقطعت الكهرباء، وبدأ تسرب الماء إلى المنزل في الثانية أو الثالثة صباحًا. بدأ التسرب في ركن غرفة النوم الخاصة بنديمة، فهبط زيتون إلى الجراج وأحضر صندوق قمامة معدنيًّا يسع أربعين جالونًا ليسقط فيه الماء المتسرب، وانفتح ثقب في السقف بعد ذلك بدقائق، وبدأ الماء يتسرب منه، وكان هذه المرة في الطرقة العلوية، وأحضر زيتون صندوق قمامة معدنيًّا آخر. وانكسر زجاج نافذة في غرفة النوم الرئيسة بعد الثالثة صباحًا بقليل، كأنما أُلقيتْ طوبة اخترقت الشباك، وقام زيتون بجمع الشظايا وسد الفتحة بوسادة. وانفتح ثقب جديد في غرفة صفية وعائشة، فأحضر صندوق قمامة معدنيًّا آخر، أكبر هذه المرة.

وجر الصندوقين الأولين جرًّا إلى الخارج، وأفرغ الماء على الكلأ. وكانت السماء تشبه لوحة رسمها طفل بإصبعه المغموس في الألوان؛ إذ اختلط فيها اللون الأسود باللون الأزرق خلطًا يوحي بالعجلة. وازدادت برودة الرياح، وساد الظلام الدامس الحي كله، وأثناء وقوفه على الكلأ سمع صوت ارتطام شجرة بالأرض، في مكان ما بالمربع السكني، بدأ بصوت انكسار تلاه صوت هسیس عند اندفاع أغصان الشجرة من خلال الأشجار الأخرى قبل أن تستقر على جانب أحد المنازل.

فدخل المنزل.

وجد أن نافذة أخرى قد انكسرت، فدس وسادة أخرى فيها ليسد الفتحة. وكانت أغصان الأشجار تخمش الجدران والسقف. وكان يسمع أصوات الارتطام في كل مكان، وبدا له أن عظام المنزل تئن تحت الضغط المتوالي. كان المنزل يتعرض للهجوم.

وعندما نظر في الساعة، فوجئ بأنها الرابعة صباحًا، كان لم يتوقف عن الحركة والعمل لخمس ساعات متواصلة. إذا استمر الدمار بهذا المعدل، فسيكون الوضع أسوأ مما تنبأ. كل هذا ولم تبدأ العاصفة الحقيقية بعد.

وكان زيتون قد خطر له خاطر في الهزيع الأخير من الليل، لم يكن يتوقع أن يغمر المدينة فيضان ولكنه كان يعرف أن خطر الفيضان غير مستبعد. وهكذا خرج وتنسم الهواء البارد، وسحب من الجراج القارب المستعمل الذي كان قد اشتراه، ووضعه في الوضع الصحيح، كان يريد أن يكون القارب جاهزًا.

وتمنى لو استطاعت كاثي أن تشاهده الآن! كانت عيناها قد دارتا ذهولًا عندما شاهدته يعود إلى المنزل بذلك القارب. كان قد اشتراه منذ عدة سنوات من عميل في بايو سانت جون؛ إذ عندما كان العميل يقوم بالانتقال إلى منزل آخر، شاهد زيتون القارب في حديقة العميل، وكان من طراز معتاد ومصنوع من الألومنيوم، فسأل العميل إن كان يعرضه للبيع، وضحك العميل وقال: «هل تريد هذا؟» في دهشة وعجب. واشتراه زيتون من فوره بخمسة وسبعين دولارًا.

كان قد استرعى انتباهه شيء ما في القارب، كان متقن الصنع، ولیست به أضرار، وفي داخله مقعدان خشبيان. كان طوله نحو ست عشرة قدمًا، ومصنوعًا لشخصين، كان فيما يبدو يوحي بالاستكشاف والفرار! فربطه على ظهر شاحنته واصطحبه إلى المنزل.

وشاهدته كاثي من نافذة غرفة المعيشة وهو يوقف السيارة، فقابلته لدى الباب وهتفت قائلة: «مستحيل!»

وقال زيتون مبتسمًا: «ماذا؟»

وقالت: «أنت مخبول!»

كانت كاثي تحب التظاهر بأن صبرها نفد، ولكن الجانب الرومانسي في زيتون كان عاملًا أساسيًّا من عوامل حبها له. كانت تعرف أن أي نوع من القوارب كان يذكِّره بطفولته، فكيف تحرمه من قارب مستعمل؟ كانت شبه واثقة بأنه لن يستخدمه أبدًا، ولكنها كانت تعرف أن وجود القارب في الجراج لا بد أن يعني شيئًا ما له؛ رابطة بالماضي، وإمكان المغامرة. أيًّا كان ذلك الشيء فلن تحرمه منه.

والواقع أنه حاول مرتين أو ثلاث مرات أن يثير اهتمام بناته بالقارب، فأخذهن إلى بايو سانت جون، وأنزل القارب في الماء، وجلس فيه، وعندما نادى نديمة التي كانت تجلس على الكلأ، رفضت. ولم توافق البنتان الصغيرتان أيضًا. وهكذا، ولمدة نصف ساعة، والفتيات يرقبنه من مجلسهن على الكلأ، ظل يجدف في الماء وحده، محاولًا أن يجعل الأمر يبدو مثيرًا، لا يقاوم. وعندما عاد كن لا يزلن يعارضن الفكرة، فأعاد وضع القارب على ظهر الشاحنة وعاد الجميع إلى المنزل.

وازدادت قوة الريح بعد الخامسة. لم يكن يستطيع أن يتنبأ بوقت وصول الإعصار فعلًا إلى الساحل، ولكن النهار لم تشرق فيه أضواء تذكر ذلك الصباح. كان اللون يتحول من الأسود إلى الرصاصي الفاقع، والمطر يهطل كالحصباء التي تُقذَف على الزجاج. كان يسمع جذوع الأشجار وهي تتصدع بفعل الرياح، وزفرات عظيمة تتردد عند سقوط الجذوع على الشوارع وأسقف المنازل.

ولم يستطع مقاومة النوم آخر الأمر. وعلى الرغم من إدراكه أن منزله يتعرض للهجوم، فإنه رقد، وهو يعرف أن شيئًا ما لا بد أن يوقظه بعد قليل، وهكذا استسلم مؤقتًا، وغلبه نعاس غير عميق.

الإثنين ٢٩ من أغسطس

واستيقظ زيتون متأخرًا، لم يستطع تصديق ساعة معصمه، كانت تشير إلى تجاوز العاشرة صباحًا، لم يكن قد تأخر في النوم إلى ذلك الحد منذ سنوات. كانت جميع ساعات الحائط قد توقفت، فنهض، وحاول إضاءة المصابيح في ثلاث غرف، ولكن الكهرباء كانت لا تزال مقطوعة.

كانت الرياح شديدة في الخارج، والسماء لا تزال مظلمة، والمطر ينهمر. لم يكن يهطل بغزارة ولكن إلى الحد الكفيل بإبقاء زيتون داخل المنزل معظم ساعات اليوم، وتناول طعام إفطاره، وذهب ليتحقق من عدم وقوع أضرار أخرى للمنزل، فوضع دلوين تحت ثقبين جديدين يتسرب منهما الماء، وكان الضرر بصفة عامة على المستوى نفسه الذي كان عليه قبل أن ينام. كان قد نام أثناء أسوأ أوقات الإعصار، وكان يرى من النوافذ الشوارع تغطيها أسلاك الكهرباء التي سقطت، والأشجار التي وقعت، وما يقرب من قدم كاملة من الماء، كانت الحالة سيئة، وإن لم تكن أسوأ كثيرًا من بعض العواصف التي يذكرها.

وفي باتون روج، أخذت كاثي الأطفال إلى السوبر ماركت لشراء المؤن اللازمة وبعض الكشافات التي تعمل بالبطارية. وفي داخل المحل بدا أن عدد الناس أكبر من عدد البضائع، لم يسبق لها أن شاهدت مثل هذا من قبل. كان الناس قد اشتروا كل شيء، والأرفف خاوية تقريبًا. كان المشهد يشبه نهاية العالم. كان الأطفال خائفين، ويتشبثون بها، وبحثت كاثي عن الثلج وقيل لها إنه نفد منذ فترة طويلة. وعلى غير توقع، وجدت كشافين في علبة واحدة، آخر المعروض، فالتقطتهما قبل أن تصل إليهما يد امرأة أخرى بثوانٍ معدودة، وابتسمت ابتسامة اعتذار للمرأة واتجهت إلى مكان دفع الحساب.

•••

وفي العصر هدأت الريح وخف هطول الأمطار، وخرج زيتون لاستكشاف الأحوال. كان الجو دافئًا، ودرجة الحرارة تزيد على ٢٦° مئوية، وكان ارتفاع الماء في تقديره يبلغ ثماني عشرة بوصة، كان من مياه الأمطار، عكرًا، لونه بني ضارب إلى الرمادي، لكنه كان يعرف أنه سرعان ما ينصرف ويختفي، ونظر إلى فناء المنزل الخلفي فشاهد القارب، وكان القارب يناديه؛ إذ كان يطفو على سطح الماء، وكان جاهزًا للاستعمال، وقال في نفسه: إنها فرصة نادرة للانزلاق فوق الطرق. لم يكن أمامه إلا هذا اليوم، فتخلص من الماء الذي نزل من السماء في القارب ودخله وهو يلبس تي-شيرت وشورت وحذاءً رياضيًّا.

كان الخروج من الفناء صعبًا؛ إذ كانت إحدى الأشجار التي اقتُلعت من جذورها تعترض الطريق وتعوق المرور فيه، وكانت فروعها منتشرة تسد مدخل المنزل، فجدف حتى استطاع القارب الالتفاف حولها وأصبح يواجه المنزل. نظر إليه فلم يجد أن ظاهره قد أصابته أضرار خطيرة. كانت بعض البلاطات قد سقطت من السقف، والنوافذ مكسورة، وكانت إحدى البالوعات تحتاج إلى تسليك. لم يكن الأمر بالغ السوء، ولن يتطلب عملًا لما يتجاوز ثلاثة أيام.

وكانت المنازل الأخرى في الحي قد أصيبت بأضرار كثيرة من جراء الحطام المتناثر؛ إذ انفجرت بعض النوافذ، وسقطت فروع الأشجار المبتلة التي اكتست لونًا أسود فغطَّت السيارات والشارع. وكانت الأشجار المبتلة في كل مكان مقتلعة من الأرض وملقاة على جانبها.

كان الصمت عميقًا. وعلى سطح الماء أمواج صغيرة بفعل الريح ولكن كل شيء كان هادئًا. لم تكن أي سيارات تسير ولا أي طائرات تطير. كان بعض الجيران يقفون في مداخل منازل يخوضون في المياه التي غمرت الفناء ويحاولون تقدير حجم الأضرار، لم يكن أحد يدري أين يبدأ أو متى يبدأ، كان يعرف أنه سوف يُستدعى كثيرًا لتحديد الأضرار، ووضع التقديرات للتكاليف المطلوبة في الأسابيع المقبلة.

لم يكن قد سار بالقارب إلا عبر عدة مربعات سكنية حين بدأ يتردد. كان يعرف أن خطوط الكهرباء قد وقعت وتنتشر في كل مكان. ماذا عساه أن يحدث إذا مست هذه الأسلاك قاربه المصنوع من الألومنيوم؟ أضف إلى هذا أن الماء لم يكن عميقًا إلى الحد الذي يسمح بمرور القارب فيه، بل إن بعض مناطق في الحي لم تكن بها مياه تذكر، لم يكن ارتفاعها يزيد على بوصات معدودة، وشحط القارب فهبط منه زيتون وأداره حتى بلغ منطقة عميقة المياه، وعاد للتجديف حتى وصل إلى البيت.

وعلى امتداد ساعات العصر، كانت المياه تنحسر من الشوارع بمعدل عدة بوصات في الساعة. كان جهاز الصرف يعمل. وبحلول المساء كانت المياه قد انحسرت تمامًا، وجفت الشوارع. كانت الأضرار شاسعة، ولكنها لم تكن أكبر في الواقع من حفنة أخرى من العواصف التي يتذكرها، وانتهى الأمر.

وطلب كاثي بالتليفون.

قال لها: «عودوا.»

وشعرت كاثي بإغراء العودة، ولكن الساعة كانت قد بلغت السابعة، وكان الجميع يوشكون أن يتناولوا وجبة العشاء، ولم تكن تتصور أن تقدم على قيادة السيارة ليلًا مع أربعة أطفال وكلبة أمعاؤها منتفخة، أضف إلى ذلك أن الكهرباء كانت مقطوعة في نيو أورلينز، وهذا معناه أن يعودوا إلى الحال نفسها التي عانوها في باتون روج. كان الأطفال لا يزالون يتمتعون بالوقت الذي يقضونه مع بنات خالتيهم، وكانت الضحكات المجلجلة في المنزل تشهد بذلك.

واتفقت مع زيتون على معاودة الحديث في الموضوع في الصباح، وإن كان كلاهما يتوقع أن تقوم كاثي بحزم أمتعة الصغار في وقت ما في اليوم التالي.

ودخلت المنزل واجتمعت العائلات، ثلاثة من الكبار وثمانية أطفال، وتناول الجميع سندويتشات السجق الساخنة على ضوء الشموع، ولم تغفل كاثي عن أن أختيها وضعتا بعض لحم الخنزير على المائدة، ولكنها أقسمت في نفسها ألا تثير هذه القضية، وهمست لنفسها دون صوت: «فوِّتيها! فوِّتيها!» كان عليها الدخول في معارك بالغة الكثرة. كانت واثقة بأن أمامها أن تشتبك في معارك إلى الحد الذي لا يسمح لها ببذل جهدها مع أختيها أثناء تناول السجق الساخن، وإذا أرادتا تقديم لحم الخنزير لأطفالها، فعليهما أن تحاولا.

•••

وبعد ذلك بفترة، عندما ذهبت إلى السيارة لتسترق لحظات معدودة مع الراديو، سمعت العمدة ناجين يردد صدى عزوفها عن الرحيل؛ إذ قال: «لا تعودوا الآن. انتظروا حتى تعرفوا طبيعة الأضرار، وحتى يستقر كل شيء وننتهي من عمليات التنظيف. أمهلونا يومًا أو يومين.»

وفي عصر ذلك اليوم، تلقى زيتون مكالمة من قريب له يدعى عدنان، وكان قريبًا من بعيد من ناحية والدته، وكان قد نجح في حياته منذ هجرته منذ عقد كامل، فكان يمتلك ويدير أربعة محال صب–واي للسندويتشات بمدينة نيو أورلينز. وكانت زوجته عبير حاملًا في طفلهما الأول وفي الشهر السادس.

وسأله عدنان: «هل ما زلت في المدينة؟» إذ كان يفترض أنه لا يزال فيها.

فسأله زيتون: «طبعًا. هل أنت في باتون روج؟»

قال عدنان: «نعم.» كان عدنان قد رحل بالسيارة في البارحة مع عبير ووالديه المسنَّيْن. ثم سأل: «وما الحال هناك؟»

فقال زيتون: «الرياح عاتية حقًّا! إن الجو يثير بعض الخوف.» لم يكن زيتون ليعترف بهذا قط لكاثي، ولكنه كان يثق في کتمان عدنان.

وسأله عدنان: «تظن أنك سوف تبقى؟»

وقال زيتون إنه يعتزم البقاء، وعرض على عدنان أن يرعى حوانيته، وكان عدنان قبل أن يرحل قد أفرغ درج النقود في الآلة المخصصة لتسجيل المبيعات وحسابها، في حانوته الموجود في سيتي بارك أفينيو، واطمأن إلى أن الخبز كان جاهزًا؛ إذ كان يفترض أنه سوف يعود يوم الثلاثاء.

وسأله عدنان: «هل تعرف أي مساجد في باتون روج؟» كانت جميع الموتيلات وهي فنادق الطرق التي ينزل فيها أصحاب السيارات ممتلئة تمامًا، ولم يكن عدنان وعبير يعرفان أحدًا في باتون روج. وتمكنا من إيواء والديْ عدنان في مسجد في الليلة السابقة، ولكنه كان زاخرًا بالمئات الذين كانوا يفترشون الأرض، وكان من المحال إيواء المزيد فيه؛ الأمر الذي اضطر عدنان وعبير إلى قضاء الليلة في سيارتهما.

وقال زيتون: «لا أعرف أحدًا، ولكن اطلب كاثي، إنها مع أسرتها، ولن تمانع الأسرة في استضافتكما، وأنا واثق.» ثم أعطى عدنان رقم تليفون كاثي.

وأفرغ زيتون جميع الدلاء في المنزل من الماء، ووضعها من جديد تحت الثقوب في السقف، وأخذ أهبته للرقاد. كان الجو شديد الدفء في الخارج، خانقًا في داخل المنزل، ورقد في الظلام، وانسرح يفكر في قوة العاصفة، والزمن الذي استغرقته، وكيف كان من الغريب ألا تصيب المنزل إلا بأقل الأضرار، وذهب إلى النافذة الأمامية، لم تكن الساعة قد جاوزت الثامنة مساءً، ولكن الشوارع كانت قد جفت جفافًا كاملًا، وتأمل الجهد الذي بذل في الهرب. ولماذا؟ لقد اندفع مئات الآلاف للسفر إلى الشمال فرارًا من هذا: من ماء لا يزيد ارتفاعه على عدة بوصات، ولم يعد له أدنى أثر.

كان الصمت والهدوء يسودان تلك الليلة، لم يسمع صوتًا للريح، ولا للبشر، ولا لصفارات الإنذار بالسيارات، لم يعد يتردد غير صوت مدينة تتنفس كما يتنفس، مرهقة من الكفاح.

الثلاثاء ٣٠ من أغسطس

واستيقظ زيتون في وقت متأخر، ورفع بصره إلى النافذة من فوقه، وشاهد اللون الرمادي نفسه في السماء، وسمع الهدوء الغريب نفسه، لم يعرف في حياته وقتًا مثل هذا الوقت، لم يكن يستطيع السير بالسيارة إلى أي مكان، ولم يكن يستطيع العمل، ولأول مرة منذ عقود طويلة، لم يكن لديه ما يفعله، سيكون يوم هدوء وراحة. وراوده شعور غريب بالكسل، وإحساسٌ رهيف بالرضا، فعاد لنعاس غير عميق.

كانت جزيرة أرْوَض، موطن أسرته الموروث عن الأجداد، غارقة في الأضواء. كانت الشمس دائمة السطوع هناك، والضوء الأبيض الدافئ يكسو بالبياض المباني الحجرية، والحارات المرصوفة بالحصى، فيظهر بوضوح لا يصدق لون البحر الأزرق الأدكن الذي يحيط بالجزيرة.

كان عندما يحلم زيتون بأرْوَض التي كان يزورها كل صيف، تبرز له صورة أرْوَض في طفولته وصباه، وكان في تلك الأحلام يمارس ما يمارسه الصبيان؛ كالجري حول الجزيرة الصغيرة، وإفزاع طيور النورس فتطير، والبحث في البِرَك التي يخلفها المد والجزر عن سرطانات بحرية أو حلزونات أو أي كائنات غريبة يقذف بها البحر على شاطئ الجزيرة الصخري.

وبحذاء الجدار الغربي، الذي يواجه البحر الشاسع في الغرب، كان يقوم مع أحمد بمطاردة دجاجة منفردة في الأطلال التي تحيط بالمنازل في آخر الجزيرة، وكان الطائر الهزيل يعدو مسرعًا فيصعد تلًّا من القمامة والأنقاض، ثم يختفي في كهف من المرجان والأحجار، وكان يجذب انتباههما صوت فرقاطة «سفينة حربية صغيرة»، ألقت مرساتها، في انتظار الرسو في طرطوس، الميناء الذي يقع على بعد ميل واحد إلى الشرق. كانا دائمًا ما يشاهدان نحو ست سفن، من ناقلات البترول ومن شاحنات البضائع، واقفة تنتظر أن ترسو في المرفأ المزدحم، وكثيرًا ما كانت تلقي مراسيها على مسافة قريبة تجعلها تلقي بظلالها على الجزيرة الصغيرة. وكان عبد الرحمن وأحمد يتطلَّعان إليها، وهياكلها تعلو على سطح البحر بمسافة تتراوح بين عشرين وثلاثين قدمًا. وكان الغلامان يلوحان بأيديهما إلى البحارة، ويحلمان بأن يكونا على متون السفن. كانت حياتهم تبدو لهما حياة رومانسية وحرية لا تتحقق إلا في الخيال.

وحتى في تلك الأيام، عندما كان أحمد غلامًا نحيفًا في الخامسة عشرة لوحته الشمس، كان يعرف أنه سوف يصبح بحارًا. كان يحرص على عدم إخبار والده، لكنه كان واثقًا بأنه يريد أن يقود إحدى هذه السفن. كان يريد أن يرشد السفن الكبرى المبحرة في شتى أرجاء العالم، وأن يتحدث عشر لغات، وأن يتعرف على أبناء كل أمة.

لم يراود الشك عبد الرحمن قط في أن أحمد قادر على تحقيق ذلك؛ إذ كان أحمد، في نظر عبد الرحمن، قادرًا على أي شيء، كان أقرب أصدقائه ومثله الأعلى ومعلمه، وكان أحمد قد علمه كيف يغرس الحربة في السمكة، وكيف يجدف وحده في القارب، وكيف يمارس الغطس في البحر من الصخور الفينيقية العظمى في جدار الجزيرة الجنوبي. وكان يريد أن يتبع أحمد أينما ذهب، وكثيرًا ما كان يفعل ذلك.

كان الغلامان يتجردان من ملابسهما ويكتفيان بالملابس الداخلية، ثم ينطلقان سابحين إلى أرخبيل صخري قريب، وكانا يتناولان الحربة التي يخفيانها دائمًا وسط الصخور، ثم يتناوبان الغطس لصيد الأسماك بها. وكانت السباحة رياضة طبيعية عند البنين في أسرة زيتون وجميع أطفال أرْوَض، فاستطاعوا السباحة بمجرد تعلمهم المشي، وكانوا يحبون البقاء في الماء، سابحين أو منغمسين وحسب ساعات طويلة. وعند خروج أحمد وعبد الرحمن من الماء كانا يستلقيان على جدار حجري منخفض، يحفهما البحر من ناحية، وطريق كورنيش البلدة من الناحية الأخرى.

ولم يكن طريق الكورنيش جذَّاب المنظر، فكان لا يعدو كونه مساحة عريضة مرصوفة، أصابها البِلَى وانتشرت فيها المهملات، شاهدًا على فتور محاولات اجتذاب السياح. وكان معظم سكان أرْوَض لا يكترثون كثيرًا إن جاءهم زوار أو لا؛ إذ كانت الجزيرة موطنًا وحسب، ومكانًا يظهرون فيه الجد والاجتهاد، فكانوا يصيدون الأسماك، وينظفونها، ويحملونها إلى البر الرئيس في سوريا، ويصنعون السفن، وهي سفن شراعية قوية من الخشب قد تكون بها صارية واحدة أو اثنتان أو ثلاث، بأساليب بلغت حد الكمال في الجزيرة على مر القرون.

وكانت أرْوَض تعتبر موقعًا حربيًّا استراتيجيًّا امتلكته سلسلة متتابعة الحلقات التي لا تكاد تنتهي من الدول البحرية: الفينيقيون، والأشوريون، والفرس الأخمينيون، واليونان في عهد الإسكندر، والرومان، والصليبيون، والمغول، والأتراك، والفرنسيون، والبريطانيون. وكانت تنتشر في الجزيرة شتى الجدران وسطوح القلاع، في صورة أطلال كادت تبلى، وكلها ينبئ عن حصون الماضي. وكانت تبرز في وسط الجزيرة قلعتان صغيرتان، لم تكادا تتغيران منذ العصور الوسطى، وربما ارتادهما الصغار المحبون للاستطلاع حتى يستكشفوا ما بهما. وكان عبد الرحمن وأحمد كثيرًا ما يتسلقان الدرج الحجري الأملس في برج المراقبة المجاور لمنزلهما، ويتظاهران بأنهما يترصدان الغزاة، ويدقان أجراس الإنذار، ويرسمان خطط الدفاع عن الموقع.

ولكن ألعابهما كانت تقع عادة في الماء. لم يكونا يبتعدان عن المياه الباردة في البحر المتوسط أكثر من خطوات معدودة، وكان عبد الرحمن يتبع أحمد إلى الشاطئ، صاعدَين الأحجار الفينيقية الضخمة. كانا ينظران أولًا من أعلى الجدار فيشاهدان داخل نوافذ المباني السامقة في البلدة، ثم يُيَمِّمَانِ وجهيهما إلى البحر ويغطسان فيه، وبعد أن يسبحا ساعات متوالية وقد كاد الخدر يصيب سواعدهما يستلقيان على الجدار الحجري، بسطحه الذي صقلته الأمواج المتكسرة عليه وأقدام ما لا يحصى من الأطفال. كانا يستدفئان بحرارة الأحجار والشمس من فوقهما، ويتحدثان عن الأبطال الذين دافعوا عن الجزيرة، وعن الجيوش والقديسين الذين مروا بها. كما كانا يتحدثان عن خططهما للمستقبل، عن فعالهما العظمى ومكتشفاتهما.

وسرعان ما يهدأ كلاهما، ويصبحان على شفا النعاس، يهدهدهما صوت الأمواج المتكسرة على الجدران الخارجية للجزيرة، وهسيس البحر الذي لا يتوقف. ولكن صوت البحر لم يبدُ صحيحًا في ذهن زيتون شبه الحالم، فلقد كان أشد هدوءًا وأقل انتظامًا، فلم يكن صوت مَدٍّ وجَزْرٍ، بل الهمس المنتظم الدائم لنهر من الأنهار.

وأيقظه النشاز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤