الفصل الخامس

خريف عام ٢٠٠٨

فقدت كاثي ذاكرتها، أصبحت الذاكرة مهلهلة لا يُعتمد عليها. كانت الأسلاك في ذهنها قد تقطعت في أماكن حيوية، وحدثت أحداث من أغرب ما يمكن.

كانت في البنك في شهر نوفمبر، لمجرد إيداع الشيكات التي تسلمتها من العملاء وسحب مبلغ نقدي يكفيها أسبوعًا، وكانت لكثرة ترددها على هذا البنك، واسمه بنك كابيتال وَن، معروفة لدى جميع العاملين فيه، وحياها الموظفون في صباح هذا اليوم، مثلما كانوا يحيونها في صباح كل يوم آخر عند دخولها.

وهتف الجميع: «مرحبًا يا مدام زيتون!» ولوحت لهم بيدها وابتسمت.

وسارت إلى أحد الصرافين، وأخرجت دفتر شيكاتها والتقطت قلمًا، كان عليها أن تكتب شيكين، الأول بسحب نقدي، والآخر لتحويل بعض المال إلى حساب رواتب الشركة.

كتبت الشيك الأول وأعطته إلى الصراف، وعندما التفتت من جديد إلى دفتر شيكاتها تمهلت وتوقفت. لم تكن تعرف ما سوف تفعل بعد ذلك. لم تستطع أن تتذكر ما يجب على يدها أن تفعل. لم تكن تعرف كيف تكتب، أو ماذا تكتب، أو أين تكتب ذلك، وظلت تحدق وتحدق في دفتر الشيكات، وكانت غرابته تزداد في عينيها في كل لحظة. لم تستطع تحديد الغرض من دفتر الشيكات على الرف المقابل أو القلم في يدها.

ونظرت حولها، راجية أن ترى أحدًا يمسك بهذه الأدوات في يده، وأن ترى كيف يستعملها. شاهدت بعض الأشخاص، ولكنهم لم يدلوها على شيء، فشعرت بالضياع.

قالت الصرافة شيئًا، لكن كاثي لم تفهم الكلمات، نظرت إلى الصرافة الشابة، ولكن الأصوات الصادرة من فمها كانت مشوشة، كأنما تُنطق معكوسة الحروف.

لم تكن كاثي قادرة على الكلام. كانت تدرك في أعماقها أنها بدأت تُقلق الصرافة، وقالت لنفسها: «ركزي، ركزي، ركزي، ركزي يا كاثي!»

وتكلمت الصرافة من جديد، ولكن الصوت بدا الآن أبعد مما كان، كأنما كان يصدر من تحت الماء أو من مكان بعيد.

واستقرت عيناها على الحاجز الخشبي المنزلق الذي يفصل هذه الصرافة عن الأخريات. وانحصر وعيها في تأمل عروق الخشب الصفراء، منزلقًا في الخطوط شبه الدائرية التي رسمها الزمن على سطح الخشب، ثم أدركت ما كانت تفعله، وهي تحدق في تعريق الخشب، وحثت نفسها على الخروج من ذلك المأزق.

قالت في نفسها: «ركزي! هيا.»

شعرت بالخدر في يديها، وكان بصرها مشوشًا.

«عودي أدراجك! عودي!»

وببطء عادت. كانت الصرافة تتكلم، ونطقت كاثي بألفاظ قليلة. وأحست كاثي بذاتها تعود فتدخل في جسمها مرة أخرى. وفجأة عاد كل شيء إلى مكانه في وعيها.

وسألتها الصرافة من جديد: «هل أنت بخير يا مدام زيتون؟»

وابتسمت كاثي، ولوحت بيدها إشارة إلى استهانتها بما حدث.

قالت: «سرحت لحظة وحسب. يوم عصيب!»

وابتسمت الصرافة وقد هدأ بالها.

وقالت كاثي: «أنا بخير.» ثم كتبت الشيك الثاني.

غدت كاثي تنسى بعض الأرقام والأسماء والتواريخ، كما يصعب اليوم عليها التركيز، وهي تقول لأصدقائها إنها سوف يصيبها الجنون، هازئة بذلك ضاحكة منه، فهي واثقة مثلما هم واثقون بأنها ليست على شفا الجنون، وأنها لا تزال كاثي نفسها طول الوقت تقريبًا، وهي قطعًا كذلك في عيون من يعرفونها، ولكن مرات الذهول — كالتي وقعت لها في البنك — تتراكم، ولم تعد كاثي تتمتع بحدة الذكاء التي كانت تتمتع بها يومًا ما، ولم تعد تثق بقدرتها على أداء بعض ما كانت تؤديه في الماضي، ويومًا ما لن تستطيع أن تتذكر اسم أحد العمال الذين تعرفهم منذ عشر سنوات، وقد يأتي اليوم الذي تجد نفسها ممسكة بالتليفون، والطرف الآخر على الخط يرن، ولن تعرف من المتحدث ولا سبب الاتصال.

كان ذلك في خريف عام ٢٠٠٨ وأسرة زيتون منهمكة في الانتقال إلى منزل جديد، كان المنزل نفسه في الواقع — في شارع دارْت نفسه — ولكنه قد أُخرجت أحشاؤه، واكتمل توسيعه فأصبح ثلاثة أمثال حجمه السابق؛ إذ وضع زيتون تصميمًا لبناء ملحق به يهيئ لكل طفل غرفته الخاصة، وسوف يسمح لكاثي أيضًا أن تدير العمل من المنزل. وأصبح للمنزل الجديد شرفات، وأسقف هرمية، ومطبخ كبير، وأربعة حمامات وغرفتان للجلوس. إنه أقرب ما يكون إلى منزل الأحلام الذي يمكن أن يسكنوه يومًا ما.

أما المكتب في شارع دبلن فكان يمثل خسارة كاملة. زاراه بعد خروج زيتون من السجن بأيام معدودة فلم يجدا غير الطين والحشرات. كان السقف قد سقط، وكل شيء داخل المبنى مغطى بالطين الرمادي نفسه، وقامت كاثي مع زيتون بجمع كل ما استطاعا إنقاذه، وهو قليل، ثم باعا المبنى آخر الأمر. وقررا نقل مكتبهما إلى منزلهما. وأصبح لمنزلهما الآن مدخل من شارع دارْت — عنوان المسكن — ومدخل آخر من طريق إيرهارت.

وكانت أسرة زيتون قد أقامت في سبعة مساكن، ما بين شقق ومنازل، منذ العاصفة. وأما مكتبهما في شارع دبلن فقد هُدم وأُنشئت مكانه ساحة انتظار للسيارات. ولم يكن المنزل في شارع دارْت قد اكتمل إعداده.

وهما يشعران بالإرهاق.

عندما عادا من سجن هَنْت أقاما يومين في شقة عدنان في باتون روج، وكانا يفترشان فيها الأرض، ثم انتقلا إلى الشقة الاستوديو في المبنى الذي يؤجرانه في شارع تيتا على الضفة الغربية من نيو أورلينز. لم يكن في الشقة أثاث ولكنها لم تُصَب بأضرار في العاصفة. وفي الليالي الأولى فيها، كانت كاثي تنام مع زيتون على الأرض، ملتحفين ببطانيات مستعارة، ولا يكادان يتكلمان. لم يكن يريد أن يتحدث عن السجن. لم يكن يريد أن يتحدث عن معسكر كلب السباحة. كان يشعر بالعار؛ العار لأن صَلَفه، إن صَحَّ أن ذلك كان صَلَفًا، هو الذي تسبب في هذا كله، والعار لوضع يديه في القيود، وإرغامه على التعري، وحبسه في قفص ومعاملته معاملة الحيوان. كان يريد لهذا كله أن ينمحي من حياتهما.

وفي تلك الليلة، وفي ليالٍ كثيرة تالية، كانا يفترشان الأرض متعانقين، شاعرين بالمرارة والامتنان والإحباط، دون أن يقولا أي شيء.

•••

كانت كاثي تقدم له أكبر قدر من الطعام تستطيعه كل يوم. وفي اليوم التالي لإطلاق سراح زيتون، اصطحبته كاثي مع عدنان إلى المركز الطبي الإقليمي حيث فحصه الأطباء ولم يجدوا أنه أصيب بأي إصابة خطيرة، ولم يجدوا سببًا للألم الحاد في جنبه، ولكن وزنه كان قد نقص بما يقرب من عشرة كيلوجرامات، وقالوا إنه لن يعود لوزنه الطبيعي قبل مرور عام كامل. كان قد فقد بعض شعر رأسه، وما بقي فيه خطه الشيب. كان خداه ممصوصين وعيناه قد فقدتا البريق، واستعاد سابق عهده ببطء، وزادت قوته، وتلاشى الألم في جنبه، وهو ما أقنع زيتون بأنه لم يكن ناجمًا عن شيء تظهره الأشعة السينية، بل عن اللوعة، عن الحزن.

•••

وبعد الإفراج عن زيتون، أعارهما صديقهما والت سيارة من عند تاجر السيارات الفاخرة الذي يتعامل معه، وكانت من طراز ليكساس، واستقلتها كاثي مع زيتون في طريق العودة إلى المدينة، وإلى المنزل في شارع دارْت.

كانت الرائحة نفاذة: كانت مزيجًا من العفن، ومياه المجاري، والحيوانات الميتة. واضطرت كاثي إلى إنزال جزء من لفاعها إلى فمها لتصد تلك الرائحة، حاول زيتون شد السيفون في أحد المراحيض فإذا بالصرف الصحي يتدفق، كان المزيد من المياه قد وصل إلى الطابق الثاني، وبلَّل رفًا كاملًا من الكتب فأفسدها، وكذلك معظم الأجهزة الإلكترونية.

ولولا أن زيتون كان موجودًا آنئذٍ لسد الفجوات كلما ظهرت إحداها، لكان مصير المنزل الدمار الكامل. وتطلع إلى الثغرات الناشئة في السقف وتنهد.

واستندت كاثي إلى الجدار القائم في البهو، لم تعد تحتمل. كان كل شيء يملكانه تعلوه القذارة، وهالها ما ترى، وقالت في نفسها: «وبعد أن نظفت هذا المنزل ألف مرة!»

وسألها: «أنتِ بخير؟»

وأومأت وقالت: «أريد أن أرحل. شاهدت ما يكفي!»

وأخذا الكمبيوتر وبعض ملابس الأطفال ووضعاها في السيارة، وأدار زيتون المحرك ثم توقف وأهرع عائدًا إلى المنزل، وبحث عن صندوق الصور، وعاد به ووضعه في شنطة السيارة. وتراجع بالسيارة في مدخل السيارات، ثم حوَّل اتجاهه إلى شارع دارْت، ثم تذكر شيئًا آخر.

قال: «انتظري!» وهتف قائلًا: «أوه لا!» ووثب خارجًا من السيارة تاركًا بابها مفتوحًا. «الكلاب». كم مضى من الزمن عليها؟ وجرى عبر الشارع، ثم بحذاء المربع السكني، وصدره يعلو ويهبط. «الكلاب! الكلاب!»

وقرع البابين الأماميين للمنزلين اللذين كان يُطعم الكلاب فيهما، فلم يجبه أحد، ونظر من خلال شبابيك الدور الأول، فلم يجد أحدًا … لم يكن أصحاب المنزلين قد عادوا.

وعاد زيتون إلى الشجرة، كان لوح الخشب لا يزال حيث وضعه، فجعله يستند إلى جذع الشجرة، ومد اللوح إلى داخل المنزل، إلى يمين الشجرة وسار على السطح. كان عادة ما يسمع نباح الكلاب مرحبة به في هذه اللحظة، لكنه اليوم لم يسمع شيئًا.

وقال في نفسه: «يا رب! يا رب! يا رب!»

ورفع النافذة ودخل منها، وداهمت رائحة العفن أنفه فورًا؛ فعرف أن الكلاب قد نفقت قبل أن يراها، وشاهد الكلبين معًا في إحدى غرف النوم.

غادر السطح وعاد إلى الشجرة وعدَّل من وضع لوح الخشب حتى يصل إلى المنزل الثاني. كان الكلبان تحت شرَّاعة النافذة مباشرة، كتلة من الأطراف المختلطة، ورأساهما متوجهان إلى السماء، كأنما ظلا ينتظرانه أسابيع متوالية.

وبعد أسبوعين كان زيتون وكاثي لا يزالان في الشقة الاستوديو، وكان الأطفال قد تجهزوا للعودة إلى نيو أورلينز. كان زيتون متوترًا، وسأل كاثي: «هل أبدو كما كنت؟» كان يخشى أن يخيفهم بعد أن فقد ما فقد من وزنه وشعره. ولم تعرف كاثي ماذا تقول. لم يكن يبدو كما كان، أو لم يعد إلى الآن إلى ما كان عليه، ولكن الأطفال لا بد لهم من مقابلة أبيهم. وهكذا ركب زيتون الطائرة مع كاثي إلى مدينة فينيكس. ووسط موجات البكاء والأحضان المتلاحقة، التأم شمل أسرة زيتون. وعاد الجميع بالسيارة إلى نيو أورلينز، واستقروا في الشقة الاستوديو بشارع تيتا، وعلى مدى شهر كامل كانوا ينامون معًا مفترشين الأرض.

وذات يوم فتحت كاثي خطابًا من الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ التي كانت تعرض على أسرة زيتون مقطورة مجانية، وحدة متنقلة تتكون من غرفتي نوم، على أن تُسَلَّم إليهم إذا رغبوا في ذلك.

وملأت كاثي الاستمارات الصحيحة وأعادتها بالبريد، ولو تكن تتوقع الكثير مما فعلته، ولهذا فوجئت ذات يوم من أيام ديسمبر عام ٢٠٠٥ عندما توقفت أمام شقتهما سيارة ضخمة ذات ثماني عشرة عجلة، ومن ورائها مقطورة ذات لون أبيض ساطع.

كان زيتون يقوم بجولاته فلم يَر العمال وهم يقيمونها، فأصابته الحيرة عندما شاهدها. لم تكن المقطورة ذات وصلات بأنابيب المياه الجارية أو بالكهرباء، كما أنها أقيمت فوق مصطبة مزعزعة من الطوب الأسمنتي لا يقل ارتفاعها عن ١٢٠سم فوق سطح الأرض، ولم تكن أمام الباب درجات يصعد عليها من يريد الدخول، وكان السبيل الوحيد إلى دخولها — بسبب ارتفاعها الشديد — هو الصعود على سُلَّم، بل إنك إن وصلت إلى الباب فلن تستطيع دخول المقطورة؛ لأن الرجال الذين جاءوا بها لم يتركوا مفاتيح لها.

واتصلت كاثي بالوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ وأطلعتهم على هذه المسائل، فقال المسئولون فيها إنهم يفعلون كل ما في طوقهم، وسوف يلتفتون إليها في أقرب وقت ممكن، ومرت أسابيع دون أن تأتي المفاتيح، وكانت أسرة زيتون تترقب في كل يوم ما يدل على حضور أفراد الوكالة، ولكن المقطورة ظلت في مكانها، لا يستعملها أحد، وغير موصولة بالمرافق، ومغلقة.

وبعد شهر وصلت شاحنة صغيرة تابعة للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ وتركت دَرَجًا يبلغ ارتفاعه نحو متر، ولكن رجالها لم يتركوا وسيلة لربط الدَّرَج بالمقطورة، وظلت الفجوة قائمة ما بين الدرج والباب، وتكاد تبلغ قدمًا. وهو ما يعني أن دخولها يقتضي الوثوب داخلها، ولكن الباب لا يمكن فتحه؛ إذ لم تكن الوكالة قد أرسلت أي مفاتيح.

وبعد ستة أسابيع أخرى أو نحوها، حضر مفتش من الوكالة وسَلَّم كاثي مفتاحًا للمقطورة. ولكنه عندما شاهد المقطورة لاحظ أنها مائلة، وأن استعمالها ليس مأمونًا، وانصرف بعد أن قال لكاثي إنه سوف يرسل من يتولى إصلاحها.

•••

وبدأ زيتون وكاثي يشتريان منازل في الحي الذي يقيمان فيه، كانت مالكة المنزل المجاور لمنزلهما قد فرَّت من وجه العاصفة ولم تعد، ثم عرضت المنزل للبيع، وعرض عليها زيتون ثمنًا له، كان الثمن يمثل نصف قيمة المنزل قبل العاصفة ولكنها قبلت. وكانت تلك الصفقة أهنأ صفقة عقداها. وكانا قد اشتريا أيضًا قبل العاصفة المنزل المواجه لمنزلهما. وسرعان ما انتقلت الأسرة إلى الإقامة في هذا المنزل، وكانت في أثناء ذلك تقوم بتجديد منزلها الأصلي في شارع دارْت، وتأجير المنزل الآخر المجاور لمنزلهما.

وفي غضون ذلك كله، كانت المقطورة التابعة للوكالة المذكورة لا تزال قابعة أمام المنزل في شارع تيتا، كان قد مرت عليها ثمانية أشهر دون أن يقوم أحد بتوصيل المياه أو الكهرباء إليها، ولم يستطع أحد قط إيجاد السبيل العملي لدخولها، ولم تعد أسرة زيتون في حاجة إليها الآن. كانت بمثابة قذًى في العين، وكان زيتون قد أصلح جميع الأضرار في منزل شارع تيتا، وكانت الأسرة تحاول أن تبيعه، ولكن المقطورة كانت تحجب مرأى المنزل، ولم يكن أحد على استعداد لشراء منزل تقبع أمامه مقطورة مائلة لا تتحرك.

ولكن الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ لا تريد أن تأخذها. كانت كاثي تتصل بها كل أسبوع، وتقول للمسئولين فيها إن المقطورة لم تستخدم قط، وإنها الآن تتسبب في تخفيض قيمة عقارهما. وكان يقال لها في كل مرة إن المقطورة سوف تنقل في المستقبل القريب، وإن آلاف الأشخاص يتمنون الحصول على مثل تلك المقطورة، فلماذا تحاول أسرة زيتون التخلص منها؟

وفي يونيو عام ٢٠٠٦، جاء مندوب من الوكالة المذكورة ليأخذ المفاتيح، وقال إنه سوف يعود لنقل المقطورة. ومرت شهور، دون أن تلوح بادرة على وصول أحد من الوكالة، وعادت كاثي إلى الاتصال بها، فقالت الوكالة إنها لا سجل عندها لأي شخص أخذ المفاتيح.

وأخيرًا، في إبريل عام ٢٠٠٧، أرسلت كاثي خطابًا إلى صحيفة اﻟ «تايمز — بيكايون» تروي فيه ملحمة المقطورة. وفي تلك الآونة، كانت المقطورة قد قبعت دون استخدام، ودون أن تكون صالحة للاستخدام مدة تزيد على أربعة عشر شهرًا. وفي صباح اليوم الذي نشر فيه الخطاب، اتصل أحد مسئولي الوكالة بكاثي.

وسألها: «ما عنوانكم؟»

وأزال رجال الوكالة المقطورة في اليوم نفسه.

•••

وأدت مشكلات الذاكرة عند كاثي إلى صعوبات أخرى، يصعب تفسيرها هي الأخرى، بدأت تصاب بمشكلات في المعدة، فقد تأكل أي شيء صغير، قطعة من الفطير مثلًا، فإذا بمعدتها تتضخم إلى ضعف حجمها الأصلي، وسرعان ما أصبح من المتعذر عليها ابتلاع أي طعام تحاول تناوله، ولم تكن في بعض الأيام تستطيع هضم الطعام، فإن استطاعت كان عليها أولًا أن تكافح في سبيل ذلك.

وأصبحت تتعثر فيما تفعله، فغدت تكسر الأكواب والأطباق، وكسرت أحد المصابيح، وكان التليفون يقع من يدها باستمرار، وكانت عندما تسير في بعض الأيام تشعر بأنها كالسكارى، فتترنح في مشيتها وتضطر إلى أن تستريح بالاستناد إلى جدار ما، كأنما أصابها الدوار، وفي بعض الأحيان كانت تشعر بالخدر في يديها أو قدميها أثناء قيامها بالأشغال اليومية المعتادة، مثل قيادة السيارة، أو مساعدة الأطفال في واجباتهم المدرسية.

وسألت زوجها: «ماذا يحدث لي يا حبيبي؟»

ودخلت المستشفى لإجراء الاختبارات، وقال أحد الأطباء إنها ربما كانت تعاني من تصلُّب الأنسجة المضاعف، وإن عددًا كبيرًا من أعراضها يوحي بمرض ما من أمراض التدهور، فأُجري لها اختبار بالمنظار، وبالتصوير بالرنين المغناطيسي، وبالباريوم لاختبار القناة الهضمية كلها عندها، وعقد الأطباء لها اختبارات للمهارات المعرفية، وكانت نتائجها ضعيفة في اختبارات الذاكرة والتعرف، وكانت الاختبارات بصفة عامة تشير إلى ما يسمى مجموعة أعراض التوتر الناجمة عن التعرض لصدمة نفسية، وإن لم تكن كاثي قد استقرت على الاستراتيجية اللازمة لمعالجتها.

ولم يكن زيتون وكاثي يعتزمان مقاضاة أحد بسبب القبض عليه، بل كانا يريدان أن يجعلاه نسيًا منسيًّا، ولكن أصدقاءهما وأقاربهما ألهبوا غضبهما وأقنعوهما بضرورة محاسبة المسئولين عما حدث. وهكذا قاما بتوكيل محامٍ يدعي لويس كيرنر لرفع قضية مدنية على المدينة، والولاية، والسجون، والشرطة، وحفنة أخرى من الهيئات والأفراد. وحددا أسماء كل من جال بخاطرهما، ابتداءً من العمدة إلى وكيل النيابة إدي جوردان، وكل من يعمل في الحلقات الوسطى للسلطة بينهما. وقال لهم كل من يعرف أي شيء عن محاكم نيو أورلينز إن عليهما أخذ دورهما؛ إذ كانت قد رُفعت مئات القضايا، وربما آلاف القضايا على المدينة، والحكومة الفيدرالية والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، ورجال الشرطة، وسلاح المهندسين بالجيش. وبعد انقضاء ثلاث سنوات على العاصفة، لم يكن قد تحرك عدد يُذكر من هذه القضايا.

وبعد بضعة أشهر على إطلاق سراح زيتون، عثر المحامي لويس كيرنر على تقرير القبض عليه، وأذهل كاثي أن تعرف بوجود مثل هذا التقرير، أو بوجود أي سجلات أو الاحتفاظ بها، وكان اكتشاف أسماء الذين قبضوا على زوجها مُرْضيًا لها أول الأمر، ولكن ذلك لم يفلح إلا في إذكاء حنقها؛ إذ غدت تنشد الإنصاف. كانت تريد أن تقابل هؤلاء الرجال وأن تواجههم وتعاقبهم. كان الشرطي الذي ألقى القبض على زيتون يدعى دونالد ليما، وكان هذا الاسم، دونالد ليما، يكوي ذهنها كيًّا، وكان الشرطي الآخر الذي ورد ذكره في التقرير هو رالف جونزاليس. وقال التقرير إن ليما كان تابعًا لشرطة نيو أورلينز، وإن جونزاليس من شرطة ألبوكيرك، نيو مكسيكو.

واكتشفت كاثي أن رجال الشرطة من خارج الولاية لا يملكون سلطة القبض على أحد! وهكذا فعند إلقاء القبض لا بد من وجود شرطي محلي إلى جانب رجال الحرس الوطني أو رجال الأمن المتعاقد معهم. وقررت كاثي هي وزيتون ذكر اسم دونالد ليما، الشرطي الذي ورد اسمه في تقرير القبض على زيتون في القضية التي رفعاها. واتصل محامي أسرة زيتون بمقر شرطة نيو أورلينز فاكتشف أن ليما لم يعد يعمل لديهم. كان قد استقال في عام ٢٠٠٥ بعد العاصفة بأشهر معدودة، ولم يكن لدى هيئة الشرطة عنوان يمكن الاتصال به فيه.

وكان من اليسير العثور على جونزاليس، كان تقرير القبض يقول إنه شرطي من ألبوكيرك، وإنه كان لا يزال في الخدمة في خريف عام ٢۰۰٨، وعندما اتُّصل به تليفونيًّا قصَّ القصة من وجهة نظره.

قال جونزاليس إنه كان قد قضى إحدى وعشرين سنة في خدمة الشرطة عندما اقترح رئيسه في أغسطس ٢۰۰٥ إرسال فريق إلى نيو أولينز، وكانت هيئة شرطة نيو أورلينز قد أرسلت إلى جميع الولايات تطلب المساعدة بتوفير رجال تنفيذ القانون، فوافق جونزاليس على أن يذهب مع نحو ثلاثين شرطيًّا آخر من ألبوكيرك.

ووصل فريق نيو مكسيكو بعد هبوب العاصفة ببضعة أيام، وحلف أفراده اليمين اللازمة لتأهيلهم نوابًا للمأمور، وبدءُوا في إجراء عمليات البحث والإنقاذ، وكان جونزاليس ورفاقه قد سمعوا قبل وصولهم إلى نيو أورلينز أنباءً كثيرة عن الأحوال في المدينة، وكانوا متوترين. كانوا قد سمعوا عن أحداث إطلاق النار، والاغتصاب، ووجود عصابات من المدججين بالسلاح الذين لا يعرفون الخوف. ولم يجدوا في المدينة أمثال هذه الجرائم، بل وجدوا كثيرًا من حالات الوفاة، وكان هذا الفريق من بين الوحدات الأولى التي حققت في أحوال أحد المستشفيات. ولم يكن جونزاليس يذكر اسم المستشفى، لكنه يذكر أنهم وجدوا عشرات الجثث، وكانت الرائحة لا توصف.

كانت الأحوال تزداد سوءًا كل يوم، ولم يكن يخرج مع رفاقه ليلًا. وكانوا يسمعون أصوات كسر النوافذ وإطلاق الأعيرة النارية بعد حلول الظلام. كانت رائحة الموت والعفن تفوح من المدينة كلها، وقال عن زملائه من الشرطة: «إن كل واحد كان يأخذ حذره، حتى ظننا أننا في أحد بلدان العالم الثالث.»

وفي يوم ٦ من سبتمبر، كان جونزاليس في ساحة الإعداد عند ملتقى طريقي نابليون وسانت تشارلز، وكان رجال الشرطة والجنود وأفراد الخدمات الطبية يجتمعون هناك كل يوم ليتبادلوا المعلومات ويتلقوا الأوامر بالمهمات الجديدة، وسمع جونزاليس أنهم سوف يقومون بتفتيش منزل في آخر الطريق يشغله عدد لا يقل عن أربعة أشخاص من المشتبه فيهم، والمفترض أنهم كانوا يقومون بالسلب والنهب والتعامل في المخدرات. وقيل له: إن المهمة قد تكون بالغة الخطورة، وإنها تحتاج إلى أكبر عدد من رجال الشرطة والجنود، وكانت تلك أولى مهمات الحفاظ على القانون والنظام التي يشارك فيها منذ وصوله.

وركب القارب وهو يرتدي قميصًا لا يخترقه الرصاص، ويحمل معه مسدسًا وبندقية من طراز إم-١٦، وكان واحدًا من بين ستة من رجال الشرطة وجنود الحرس الوطني والجنود المأجورين في ذلك القارب. وعندما وصلوا، كان جونزاليس من بين أول من دخلوا، وشاهد كومة من مكونات الكمبيوتر ومعدات الاستريو على المنضدة في غرفة الطعام، وشاهد الرجال الأربعة، وقال في نفسه: إن شيئًا ما في موقفهم كان يوحي «بأنهم لا يقصدون فعل الخير».

وقبضوا على الرجال الأربعة، وأحضروهم إلى ساحة الإعداد، وسلموهم إلى السلطات هناك. وكان الفريق قد انتهى من مهمته في خمس عشرة دقيقة، وأكد جونزاليس أن واجباتهم لم تجاوز هذا الحد، قائلًا إنه لم يذهب قط إلى معسكر جراي هاوند، ولم يكن يدري دراية مؤكدة بأن سجنًا قد أقيم في ذلك المكان، وأضاف أنه لم يقم، لا هو ولا أحد أفراد فريق الاعتقال، بتأمين المنزل أو جمع الأدلة. والواقع أنه لم يعد أحد منهم قط، ولو مرة واحدة، إلى المنزل في شارع كليبورن.

وقال إن القبض على زيتون والرجال الثلاثة الآخرين في شارع كليبورن كان أحد حادثي الاعتقال اللذين قام بهما جونزاليس أثناء وجوده في نيو أورلينز، وكانت جميع المهمات الأخرى التي قام بها تتعلق بالبحث والإنقاذ. ولم تمضِ عشر دقائق على إحضاره الرجال الأربعة إلى ساحة الإعداد حتى كان في قارب آخر، يبحث عمَّن يحتاج إلى العون.

وسُئل جونزاليس عما شعر به حين علم أن عبد الرحمن زيتون، وهو رجل أعمال في منتصف العمر ووالد لأربعة أطفال، قد حُبس شهرًا كاملًا في سجن مشدد الحراسة.

وبدا الأسف على جونزاليس قائلًا: «إن كان بريئًا أحسست بالمرارة الشديدة. وخلاصة القول: إنني لا أريد أن يحدث لي شخصيًّا ما حدث له.»

وتحدث جونزاليس عن الأسلوب الذي ينبغي أن يعمل به النظام قائلًا: إن رجال الشرطة يجرون التحقيقات، ويتولون القبض على الأشخاص، ثم يسلمون الأمر إلى النظام القضائي. وقال: إن كان الرجال أبرياء كان ينبغي أن يُسمح لهم في الظروف العادية بإجراء مكالمة تليفونية وإتاحة فرصة الإفراج عنهم بكفالة.

وقال: «كان الواجب يقضي بالسماح لهم بمكالمة تليفونية.»

•••

كان اقتفاء أثر ليما أصعب، ولكنه لم يكن قد ابتعد كثيرًا، كان قد ترك هيئة شرطة نيو أورلينز في عام ٢٠٠٥ ويقيم في شريفبورت، في ولاية لويزيانا.

قال إنه يعرف أن زيتون والآخرين قد حُبسوا مدة ما. وكان قد اطَّلع على قضية زيتون؛ لأنه تسلم المذكرات عندما تولى المحامي المرافعة في القضية، وقال إنه يجهل كم قضى الرجال الآخرون في محبسهم، ولكنه أسرع بالإشارة إلى أنه لم يكن السبب في حبسهم؛ إذ اقتصرت مهمته على القبض عليهم.

قال إنه في الوقت الذي هبَّ فيه إعصار كاترينا كان يقيم في منزل مقام على مساحة تبلغ نحو ٤٠٠م٢ في شارع نابليون، وإنه ظل في المدينة أثناء العاصفة وبعدها مع أفراد أسرته لحماية منزله. كان لديه مولدان للكهرباء، وما يكفي من الطعام والماء لمدة ثلاثة أسابيع، كما كان لديه ما يربو على أربعين مسدسًا وبندقية أوتوماتيكية. وكان أثناء النهار يتجول في المدينة مع غيره من رجال الشرطة وجنود الحرس الوطني لإنقاذ من يحتاج إلى الإنقاذ. وكان في كل يوم يقابل غيره من أفراد تنفيذ القانون لوضع خطط العمل؛ فيتقاسمون المهام والمناطق فيما بينهم.

وقال إن رجال الحرس الوطني في المدينة كانت لديهم مقادير كبيرة من البنزين، ولكن مؤنهم الأخرى كانت محدودة. وهكذا، كان ليما وغيره من رجال شرطة نيو أورلينز يقتحمون الحوانيت الصغيرة ويأخذون منها السجائر وتبغ المضغ حتى يستبدلوا بذلك البنزين، وأضاف ليما أن أغلب رجال الحرس الوطني كانوا يحبون مضغ التبغ وتدخين السجائر من ماركة مارلبورو، وأدى ذلك إلى توفير ما يحتاج إليه الطرفان. وقال ليما إنه كان يعتبر النهب والسلب عنصرًا مهمًّا من المهمة؛ إذ كان البنزين يساعدهم على إنقاذ من أنقذوهم، كما أنه كان يحتاج إليه لتشغيل المولدين الكهربائيين لديه. وأما إن تعذر عليه العثور على رجال الحرس الوطني الذين لديهم بنزين، فإنه كان يحصل على البنزين بالمماص من السيارات والشاحنات. وقال إن حلقه التهب من كثرة استخدامه المماص بعد العاصفة.

وقال: «كانت الفوضى تشيع في المكان كله.»

وقال ليما إنه بينما كان يتجول في زورقه ذي المحرك ذات يوم، لمح أربعة رجال يغادرون أحد فروع محلات «والجرينز» التجارية حاملين بضائع مسروقة. وبعد أن تركوا المحل وضعوا البضائع في زورق ذي محرك يجمع بين اللونين الأزرق والأبيض. وكان مع ليما شخصان أنقذهما في ذلك اليوم فلم يستطع مطاردة اللصوص حينذاك، ولكنه سجل الحادثة في ذاكرته، وواصل جولاته فشاهد كثيرًا من الجثث، وواجه بعض سكان المدينة الغاضبين، وكان عدد كبير منهم يحملون السلاح.

وقال: «كان ذهني مضطربًا.»

وأضاف قائلًا إنه مرَّ بعد يومين بمنزل في شارع كليبورن، وشاهد الزورق ذا اللونين الأزرق والأبيض نفسه مربوطًا في مدخل المنزل، فأهرع عائدًا إلى ساحة الإعداد عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، وجمع طاقمًا من رجال الشرطة وأفراد الجيش. وكانوا «مدججين بالأسلحة»، بالمسدسات والبنادق من طراز إم-١٦، ولم يكن يعرف الرجال الأربعة الآخرين ولا المرأة من أفراد الطاقم، وركبوا جميعًا زورقًا مسطحًا إلى المنزل، وكان ليما الشرطي الرئيس عند القبض على مَن بالمنزل.

وقال ليما إنهم عندما دخلوا المنزل شاهدوا ما تصوروا أنه بضائع مسروقة فوق المنضدة في غرفة الطعام، ووجدوا الرجال الأربعة داخل المنزل، وكان يبدو من منظرهم ومن المشهد كله أن مخالفة ما قد وقعت. وأضاف: إنه كان واثقًا بأن هؤلاء هم الرجال الأربعة أنفسهم الذين شاهدهم يغادرون محل «والجرينز»، فألقوا القبض عليهم وجاءوا بهم إلى ساحة الإعداد.

وقال: «كانت إجراءات القبض عادية إلى حد كبير، وكان الرجال الأربعة جميعًا في منتهى الهدوء.»

وسلموا الرجال إلى أفراد الحرس الوطني الذين وضعوهم في شاحنة بيضاء. وقام ليما بإعداد الأوراق الخاصة بالقبض عليهم وسلمها إلى الحرس الوطني الذي نقلهم بالشاحنة إلى معسكر جراي هاوند. وعاد ليما في وقت لاحق إلى ذلك المعسكر حيث شاهد ممتلكات الأشخاص مرصوصة على المنضدة؛ شاهد خرائط تود، والنقد الذي كان يحمله ناصر، وشرائح الذاكرة، وقال: «كانوا يدبرون أمرًا ما.»

وقال ليما إنه لم يكن واثقًا ما نوع البضائع التي شاهد الرجال الأربعة يسرقونها. ولم يشاهد أيًّا من البضائع التي تُباع عادة في محلات «والجرينز» في منزل شارع كليبورن. ولم يفرض الحراسة على منزل شارع کلیبورن باعتباره مكان الجريمة. ولم يَسْتَعِدْ أي بضائع سُرقت من محل والجرينز، ولكنه كان واثقًا بأن الرجال الذين كانوا في المنزل قد ارتكبوا مخالفة ما، وإن كانت الظروف الاستثنائية في نيو أورلينز في أعقاب العاصفة لم تسمح بتوخي الدقة في التحري إلى الحد الذي كان يرجوه.

وقال: إن الإجراءات التي اتُّخذت بعد الاعتقال لم تكن هي الأخرى معتادة ولا منصفة. وأوضح ليما ما يعنيه قائلًا: لو كانت الظروف عادية لَوَجَّهَت السلطات الاتهام إلى الرجال على الوجه الصحيح، وسمحت لهم بإجراء مكالمة تليفونية وتوكيل أحد المحامين، وأفرجت عنهم بكفالة في غضون أيام معدودة، وأضاف قائلًا: إنه عندما كان يعمل في الشرطة، كان يشعر بالإحباط بسبب طبيعة عمل النظام القضائي الذي يشبه الباب الدوَّار، فقد يقبض على شخص في الصباح فإذا به حر طليق في الشارع في عصر اليوم نفسه. كان ذلك يدفع رجل الشرطة إلى الجنون، ولكنه أقرَّ بأنه لو توافر عنصر الضبط والربط المذكور لكان مفيدًا في هذه الحالة.

وقال: «كان الواجب أن يسمحوا لهم بإجراء مكالمة تليفونية.»

وترك ليما العمل في شرطة نيو أورلينز في نوفمبر عام ٢٠٠٥، وانتقل مع زوجته وابنته إلى مدينة شريفبورت. وظل يعمل في شرطة تلك المدينة بعض الوقت، ولكنه كان يتلقى معاملة «كأنه مواطن من الدرجة الثانية»، قائلًا: إن رجال الشرطة فيها يعتبرون جميع رجال الشرطة من نيو أورلينز فاسدين. وهكذا استقال، وهو يبحث الآن عن عمل جديد، كان يعمل سمسارًا قبل أن يلتحق بالشرطة وغدا ينظر في إمكان استئنافه عمله السابق.

•••

وأحسَّ زيتون وكاثي بتضارب مشاعرهما إزاء ما سمعاه من ليما وجونزاليس. فمن زاوية معينة، وجدا بعض الراحة حين علما أن هذين الشرطيين لم يتعمدا مطاردة رجل والقبض عليه لأنه من الشرق الأوسط، ولكنهما أحسَّا بالقلق عندما أدركا أن محنة زيتون قد نشأت نتيجة الجهل وسوء الأداء داخل النظام نفسه، وربما أيضًا نتيجة لعقدة الشعور بالعظمة من جانب الحرس الوطني وغيره من الهيئات المشاركة في هذا، مهما تكن. كان ذلك يعني، بوضوح وجلاء، أنها لم تكن قضية وجود تفاحة فاسدة أو تفاحتين فاسدتين في البرميل، بل إن البرميل نفسه فاسد.

وبعد قليل تلقت كاثي رسالة بالبريد الإلكتروني تتضمن وثيقة تلقي الضوء، فيما يبدو، على الحالة النفسية للجنود، وهيئات تنفيذ القانون التي كانت تعمل في نيو أورلينز آنذاك.

كانت الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ هيئة مستقلة على امتداد عقود طويلة، ولكنها ضُمَّت إلى وزارة الأمن الداخلي بعد أحداث ١١ من سبتمبر عام ٢٠٠١. وكانت تلك الوكالة على مر التاريخ تُمنَح سلطات واسعة في أعقاب كل حالة طوارئ فيدرالية؛ إذ كانت تتولى قيادة جميع عمليات الشرطة، وإطفاء الحرائق وإنقاذ الأشخاص، وكان ذلك ما حدث بعد إعصار كاترينا، إذ كان لا بد لهذه الوكالة من أن تتولى المسئولية عن جميع السجناء الذين يجري إجلاؤهم من نيو أورلينز، وهكذا كانت وزارة الأمن الداخلي هي التي تشرف على جميع السجناء، ومن بينهم زيتون.

وعندما اتجه كاترينا إلى ساحل الخليج، أُرسلت بالفاكس، وبالبريد الإلكتروني أيضًا، فيما يبدو، وثيقة من أربع صفحات إلى هيئات تنفيذ القانون في المنطقة، وإلى وحدات الحرس الوطني المتوجهة إلى منطقة الخليج، وكانت الوثيقة التي أصدرتها وزارة الأمن الداخلي في عام ٢٠٠٣ قد كتبها فريق «الخلية الحمراء» الذي يضم ممثلين من وزارة الأمن الداخلي، ووكالة الاستخبارات المركزية، وجنود البحرية الأمريكية، وشركات الأمن الخاصة، ومعامل «سانديا» الوطنية.

وكان قد طُلب من اللجنة التي كتبت الوثيقة أن «تنظر في إمكان استغلال الإرهابيين لإعصار مرتفع الدرجة». وعلى الرغم من أن مؤلفي الوثيقة قد أقروا بأنه لم يكن من المحتمل أن ينشط الإرهابيون للعمل خلال الإعصار أو بعده، فقد عددوا السبل التي قد يقومون فيها بالعمل، قالوا: «من الممكن أن تقع عدة أنماط من الاستغلال للإعصار أو العدوان في أي مرحلة من مراحل دورته، مثل احتجاز الرهائن، أو الهجوم على الملاجئ، أو الهجمات بالكمبيوتر، أو التنكر في أزياء المسئولين عن التصدي للطوارئ واستخدام معداتهم في الدخول حيث يريدون.» كما قالوا إن هؤلاء الإرهابيين «قد يراودهم الأمل أيضًا في أن تكون وحدات الحرس الوطني وغيرها من الوحدات أقل كفاءة وغير مزودة بالعتاد اللازم للرد عليهم لوجود الكثير منهم في مهمات خارج أمريكا.»

وبعد ذلك أوردوا تصنيفًا للنتائج التي توصلوا إليها، يحدد لها ثلاث فئات: الفئة الأولى هي ما قبل الحدث، والثانية أثناءه، والثالثة ما يعقبه، وكتب أعضاء اللجنة يقولون: على الأرجح سوف يلجأ الإرهابيون قبل العاصفة إلى استغلال الفرصة «لاتخاذ تدابير احتياطية لقياس مدى كفاءة استجابة الموارد المتاحة لحالة الطوارئ، ومدى إمكان استمرار تنفيذ خطط العمل في هياكل البنية الأساسية الحساسة.» وأدرج مؤلفو الوثيقة تحذيرًا يقول إن الإرهابيين قد ينقضُّون على طرق جلاء المواطنين، فيثيرون «الذعر الجماعي» و«فقدان ثقة الجماهير بالحكومة». وقالت اللجنة إن نشاط الإرهابيين في أثناء العاصفة «أقل احتمالًا؛ بسبب سوء حالة الجو، واستحالة التنبؤ بمسار العاصفة، وصعوبة حشد الموارد». وأما بعد العاصفة فكانت خيارات الإرهابيين محدودة، وإن كانت فعالة؛ إذ قد يلجئُون إلى «الاستناد إلى ذعر الجماهير في زيادة قلقلة النظام وزعزعته بنشر الشائعات»، ومِن ثَم «يزيدون من التغطية الإعلامية» وبذلك «يرهقون نظام الصحة العامة».

وقدمت اللجنة عدة توصيات لتقليل الخطر الذي يمثله أمثال هؤلاء الإرهابيين، وكان من بينها «اتخاذ المزيد من إجراءات الأمن (مثل التفتيش على الهوية) في مراكز الإجلاء والملاجئ»، و«التنبيه على الصف الأول من أفراد أجهزة التصدي للإعصار، والعاملين بالمواصلات السلكية واللاسلكية، والمسئولين عن إعادة الطاقة الكهربائية عند انقطاعها، بأن يشددوا من التحقق من الهويات حتى يمنعوا المحتالين من الدخول دون وجه حق إلى الهدف الذي يقصدونه»، و«زيادة الورديات، ورفع مستوى يقظة العاملين في المحطات الرئيسة لنقل السكان وإجلائهم (مثل الجسور والأنفاق) بما في ذلك مراقبة أي مركبة مهجورة في هذه المواقع وتصيدها.»

وانتهى رأي لجنة «الخلية الحمراء» إلى استبعاد قيام جماعة إرهابية ثابتة بالعمل في الولايات المتحدة أثناء هبوب أحد الأعاصير. وإن اتجه رأي أعضائها إلى «ترجيح قيام خلية إرهابية من فصائل تلك الجماعة، أو إرهابي فرد، باستغلال الإعصار في موقع هبوبه، وتضم هذه الفئة من لهم برامج سياسية محددة، أو المتطرفين الدينيين، أو غيرهم من الأفراد المتذمرين.»

ليست كاثي واثقة إن كان سماع أمور مثل هذه مفيدًا أو لا. لقد ابتعدت عن إعصار كاترينا ابتعادًا ذا وجوه عديدة، ولكن الآثار المترسبة منه تصل إليها في أوقات غير متوقعة. قد تمر بها أيام عادية كثيرة، فهي تأخذ الأطفال بالسيارة إلى المدرسة وتعود بهم، وتقوم في أثناء وجودهم في المدرسة بإدارة شئون شركة المقاولات والطلاء. وعندما يعود الأطفال من المدرسة تقوم بإعداد وجبات خفيفة، ويشاهدون التليفزيون، ويؤدون واجباتهم المدرسية.

ولكن حدث منذ يومين أن طلبت كاثي من نديمة أن تساعدها. كانت تحاول دخول الإنترنت، ولكنها لم تستطع تشغيل الجهاز. نظرت خلف الكمبيوتر فوجدت الأسلاك متشابكة بصورة استعصت على إدراكها.

قالت لابنتها: «هل تساعدينني على الاتصال يا نديمة؟»

وهبَّت نديمة لمساعدتها، كانت كاثي هي التي جهزت كل كمبيوتر في المنزل، كما ذكَّرتها نديمة الآن بذلك، وكانت كاثي هي التي علَّمت نديمة كيف تستخدم هذه الأجهزة. كانت كاثي تعرف ذلك، ولكنها الآن لم تستطع أن تتذكر مواضع الأسلاك ووظائف الأزرار وأساليب توصيل كل شيء.

•••

وأصبح معسكر جراي هاوند موضوعًا للتحقيقات الصحفية، ومنبع إثارة لدهشة المدينة كلها، بل إن موظفي المحطة المشتركة للأوتوبيس والقطارات ما زالوا يعجبون مما حدث للمحطة بعد العاصفة، ويُسعد شاغلي الوظائف الكتابية في محطة القطارات أن يُطلعوا الزوار اليوم على المكان الذي كانت تسجَّل فيه بصمات أصابع السجناء وتُقاس أطوالهم. ولا يزال مقياس الأطوال قائمًا، ولا تزال العلامات المرقومة بخط اليد واضحة تحت إحدى اللوحات الجدارية المجاورة لمكان قطع التذاكر، وكل ما عليك أن تزيح اللوحة، فتراها كما كانت في أيام معسكر جراي هاوند.

وكما حدس زيتون، كان السجن قد بُنِي بالجهود اليدوية إلى حد كبير، وأثناء حبسه فيه لم يكن يستطيع أن يتخيل مَن مِن العمال كان متاحًا ومستعدًّا للعمل ساعات طويلة كل يوم بعد الإعصار، ولكن الإجابة التي تلقاها معقولة إلى درجة ما؛ إذ قيل له إن العمل قد قام به سجناء من سجن ديكسون لويزيانا، ومن سجن ولاية لويزيانا، أنجولا.

كان سجن أنجولا أكبر سجن في البلد، وكان قد بُنِي على مساحة ثمانية عشر ألف فدان، كانت فيما مضى مزرعة تستخدم لتربية العبيد، وكان المقصود من بنائه أن يضم المدانين بارتكاب أخطر الجرائم، وكان يعتبر منذ عهد بعيد أخطر سجن في الولايات المتحدة، ولم يكن من يدخله يأمل في الخروج منه، وكان عدد سجنائه يبلغ خمسة آلاف، ومتوسط المدة المحكوم بها على كل منهم يبلغ ٨٩٫٩ سنة. وعلى مر التاريخ كان يفرض على النزلاء القيام بأعمال تقصم الظهور، وكان من بينها جني محصول القطن بأجر لا يزيد على أربعة سنتات في الساعة. ونظَّم النزلاء مظاهرة احتجاج جماعية منذ عدة عقود، قام فيها واحد وثلاثون سجينًا بقطع أوتار عراقيبهم كيلا يفرض عليهم العمل من جديد.

وفي وقت الإعصار، كان مارلين جوسمان، مأمور أبرشية أورليانز، يعرف أن سجن أبرشية جوسمان الذي كان ينزل فيه معظم المتهمين الذين ينتظرون المحاكمة، من المحتمل أن تغمره مياه الفيضان، فاتصل بمحافظ سجن أنجولا بيرل كاين، واتفق معه على بناء سجن مرتجل فوق ربوة في نيو أورلينز، فقام المحافظ كاين بتجميع الأسوار والمراحيض المحمولة التي كانت متوافرة في سجن أنجولا، وأرسلها مع غيرها من المواد في الشاحنات إلى نيو أورلينز، فوصلت بعد هبوب الإعصار على المدينة بيومين.

كما أرسل كاين أيضًا عشرات السجناء، وكثير منهم مدان بارتكاب القتل العمد والاغتصاب، وكلفهم ببناء أقفاص للسجناء الجدد وللسجناء الذين اضطروا إلى مغادرة سجن أبرشية أورليانز، وتمكن سجناء أنجولا من إتمام إقامة شبكة السجون الخارجية في يومين، وكانوا ينامون ليلًا في المبنى المجاور لمحطة جراي هاوند. وأرسل كاين أيضًا بعض الحراس، وعندما اكتملت الأقفاص أُرسل سجناء أنجولا مرة أخرى إلى الشمال، وبقي الحراس. وكان هؤلاء هم الرجال الذين تولَّوا حراسة قفص زيتون.

وعندما اكتمل السجن قال كاين إنه كان «بداية حقيقية لإعادة بناء» نيو أورلينز. وفي الأسابيع التالية كان عدد الرجال والنساء السجناء في معسكر جراي هاوند يزيد على ۱۲۰۰.

وقد اكتمل هذا المجمع، واكتملت هذه العملية الحكومية ذات الكفاءة الفائقة، أثناء انحصار سكان نيو أورلينز في غرف السقف يتسولون الإنقاذ من فوق أسطح المنازل وكباري الطرق العلوية، وكانت المراحيض المحمولة متاحة وتعمل في معسكر جراي هاوند، بينما كانت حمامات قاعة المؤتمرات والصالة الرياضية المغطاة عاطلة على بُعد شوارع معدودة، وكانت مئات صناديق المياه المعبأة في الزجاجات والوجبات الجاهزة متاحة لمن يطلبها من الحراس والسجناء، بينما كان المشردون بالقرب منهم يكافحون للحصول على الطعام والماء.

•••

كان يحدث أحيانًا أن يكلم شخص ما كاثي بالإنجليزية فلا تفهم ما يقوله. حدث ذلك منذ يومين مع أمباتا، وهي امرأة استأجرتها أسرة زيتون للمساعدة في أعمال المكتب. كان الأطفال قد عادوا لتوهم من المدرسة، والتليفزيون مفتوحًا، والموسيقى تصدر من جهاز الاستريو، والضجيج يملأ المنزل. وكانت كاثي وأمباتا ترسلان الفواتير، عندما قالت أمباتا شيئًا لم تستطع كاثي أن تفهمه، شاهدت فم أمباتا يتحرك لكن الكلمات لم تحمل أي معنًى إليها.

سألتها: «هل يمكنك تكرار ذلك؟»

فكررت أمباتا ما قالته.

لم يكن للكلمات معنًى.

فقالت كاثي: «آسفة. لا أفهم ما تقولينه.» وداهمها الخوف، فهبت من مجلسها في شبه لوثة وأغلقت التليفزيون، وجهاز الاستريو والكمبيوتر، كانت تريد استبعاد كل المتغيرات. وجلست مرة أخرى مع أمباتا وطلبت منها تكرار ما قالته.

وكررت أمباتا ما قالته، ولكن كاثي لم تستطع فهم الكلمات.

•••

وفي يوم من أيام ٢٠٠٦، كان زيتون يزور قريبه عدنان في المطعم الذي يملكه في محطة المترو بوسط المدينة. وكان زيتون أحيانًا ما يتوقف هناك لتناول الغداء، وكان في ذلك اليوم يتناول وجبته حين دخلت المطعم أمريكية من أصل أفريقي فارعة الطول. كانت تلبس الزي العسكري ذا اللونين البني والأخضر، وكان من الواضح أنها من جنود الحرس الوطني. كان وجهها مألوفًا إلى حد بعيد.

وأدرك زيتون سبب تعرُّفه عليها، كان شبه واثق بأنها كانت من بين الأشخاص الذين ألقوا القبض عليه، كانت عيناها هما اللتان شاهدهما، وشعرها القصير كما شاهده، وحدق فيها بضع لحظات طويلة، وحاول استجماع أعصابه ليقول لها شيئًا، ولكنه لم يستطع أن يعثر على ما ينبغي له أن يقوله، وسرعان ما انصرفت.

وسأل عدنان فيما بعد عنها: «هل سبق لك أن شاهدتها؟»

– «لست واثقًا. لا أظن ذلك.»

– «لو جاءت مرة أخرى، فعليك أن تسألها بعض الأسئلة. سَلْها إن كانت موجودة في نيو أورلينز بعد العاصفة.»

وقضى زيتون يومه في محاولة استرجاع حادثة القبض عليه والأسابيع التي تلته. ولم يكن يتذكر الحادثة في كل يوم، ولكنه كان أحيانًا ما يصعب عليه إقصاء غضبه في أوقات متأخرة من الليل.

وكان يعرف أنه لن يستطيع العيش في المدينة إذا أحسَّ أنه سوف يواصل مقابلة أشخاص مثل هذه الجندية. كان يكفيه ما يشعر به من ألم حين يمر بمحطة جراي هاوند. وإن كان ذلك محتومًا بسبب موقعها المركزي في المدينة، بل إنها كانت على مرأًى من مستودع الأدوات واللوازم المنزلية. كان قد عَدَّل عاداته بصور محدودة كثيرة؛ إذ كان حريصًا حرصًا خاصًّا على عدم ارتكاب أي مخالفة مرورية طفيفة. كان يخشى ذلك لأن من شأن القضية أن تجعل منه هدفًا للشرطة؛ فقد يلفقون تهمًا ضده، أو يحاولون تبرير القبض عليه. ولكن هذه لم تكن سوى خواطر عابرة، وكان يكافحها في كل يوم.

ولكن المواجهة كانت محتومة.

فبعد أربعة أيام من إطلاق سراحه، تسنَّى لزيتون الوقت اللازم للنوم ولتناول بعض الطعام، وشعر بأنه أصبح أقوى. ولم يكن يريد أن يعود إلى معسكر جراي هاوند، ولكن كاثي أصرت، وكان يعرف أنها على حق؛ إذ كان لا بد له أن يسترجع حافظته، لأنها كانت تضم رخصة قيادته، وإن لم يحملها كانت البطاقة الشخصية الوحيدة التي يحملها هي بطاقة الهوية الخاصة بالسجن، وهي التي أُعطيت له في سجن هَنْت. وكان عليه أن يصطحب كاثي بالطائرة إلى فينيكس لإحضار الأطفال وإعادتهم بالسيارة إلى المنزل، ولم يكن أمامه إلا أن يستعيد رخصة قيادته حتى يتمكن من ذلك. وناقشا الأمر من جميع الزوايا ولم يجدا خيرًا من ذلك. كان عليهما أن يعودا إلى محطة جراي هاوند ويستعيدا الحافظة.

وتوقفت سيارتهما في مدخل السيارات الذي رصف على شكل هلال، ولم يكن حولهما غير سيارات الشرطة، والمركبات وعربات الجيب العسكرية، وغيرها من سيارات الجيش.

وسألته كاثي: «بمَ تشعر؟»

وقال زيتون: «لست على ما يرام!»

وأوقفا السيارة في مكان الانتظار، ومكثا فيها برهة.

وقالت كاثي: «جاهز؟» كانت قد تهيأت للكفاح.

وفتح زيتون بابه، وسارا نحو المحطة، وكان خارج المدخل جندیان.

وقال زيتون لكاثي: «أرجوكِ لا تقولي أي شيء.»

وقالت كاثي: «لن أنطق.» وإن كانت لا تكاد تعرف كيف تتحكم في حنقها.

وكرر طلبه: «أرجوكِ لا تتكلمي.» وكان قد حذرها عدة مرات من أنهما قد يُلقى بهما معًا في السجن، أو يُعاد به إلى السجن، وقد يحدث شيء ما. كان «شيء ما» قد حدث معه فعلًا.

وأثناء اقترابهما من محطة الأوتوبيس، شعر زيتون بأنه كان يرتعد.

قال لها: «اهدئي أرجوكِ. لا تزيدي الأمر سوءًا.»

وقالت كاثي: «وهو كذلك. وهو كذلك.»

ومرا في طريقهما بأكثر من عشرة أفراد عسكريين ثم دخلا المبنى. لم يكن منظره يختلف عما كان زيتون يذكره عنه. ولأول مرة في حياته حاول أن ينكمش. حاول أن يخفي وجهه، فقد يكون الأشخاص الذين وضعوه في القفص أنفسهم في ذلك المكان، واقتفى خطوات كاثي عبر الأبواب المتوالية.

واستوقفهما جندیان، مر أحدهما بيديه على ملابس زيتون للتثبت من عدم حمله سلاحًا وفتش الآخر حقيبة كاثي. وطلبا منهما المرور من بوابة الكشف عن المعادن، وعينا زيتون تجوبان المبنى بحثًا عن أي وجه رآه قبل ذلك.

وطُلب من زيتون وكاثي الجلوس في صف من الكراسي، وكانت الكراسي نفسها التي كان يجلس عليها زيتون أثناء التحقيق معه، وقيل لهما أن ينتظرا فرصة مقابلة وكيل النيابة المساعد. وكان زيتون في حاجة ماسة إلى الخروج بأقصى سرعة؛ فقد كان الموقف مألوفًا إلى حد أبعد مما ينبغي، ولم يكن واثقًا بأنه سوف يخرج مرة أخرى.

وأثناء انتظارهما اقترب منهما رجل يحمل جهاز تسجيل صوتي. قال إنه صحفي من هولندا وإن له صديقًا كان قد احتُجِز ليلة في أحد الأقفاص، وأُفرج عنه منذ قليل.

وبدأ بسؤال زيتون وكاثي عن سبب وجودهما في ذلك المكان، فلم تتردد كاثي وقالت له إن زوجها قُبِض عليه ظلمًا وأُدخِل سجنًا مشدد الحراسة، وحُبس فيه ثلاثة وعشرين يومًا، وإنهما الآن يحاولان استرجاع ممتلكاته.

«ابتعد عنهما!»

رفعت كاثي بصرها فشاهدت شرطية في الخمسينيات من عمرها تلبس ملابس التخفي العسكرية كاملة، تنظر إليهما في غضب وتصرخ في الصحفي الهولندي، صاحت قائلة له: «اخرج من هنا! انتهت المقابلة.» ثم التفتت إلى اثنين من رجال الحرس الوطني وقالت لهما: «إذا شوهد هذا الرجل مرة أخرى، فاقبضا عليه وضعاه في قفص.» فاقترب الرجلان من الصحفي.

ونهضت كاثي واتجهت نحو المرأة وقالت لها: «هل تحرمينني الآن من حرية الكلام؟ أخذتم زوجي ولم تسمحوا لي بأن أكلمه أو أراه، ثم تحرمونني الآن من قدرتي على الكلام بحرية؟ لا أظن هذا! هل تعرفين شيئًا عن حرية الكلام؟»

واستدارت الشرطية مبتعدة عن كاثي وأمرت بإخراج الصحفي، فاصطحبه جنديان إلى الباب الأمامي، وقاما بإخراجه.

واقترب منهما وكيل النيابة المساعد، وكان رجلًا أبيض ممتلئ الجسم، وسألهما عما يريدان. وقالت كاثي من جديد إنهما في حاجة إلى حافظة زوجها، فسار معهما الرجل إلى محل بيع الهدايا الذي تحول إلى مكتب، كان صندوقًا زجاجيًّا في منتصف المحطة حافلًا بهدايا ثلاثاء المرفع من تي شيرتات ومثقلات الأوراق. وشرح زيتون وكاثي موقفهما.

وقال وكيل النيابة المساعد إنه يأسف لعدم تلبية طلبهما؛ لأن الحافظة لا تزال تستخدم ضمن الأدلة، وانفجرت كاثي: «أدلة؟ كيف يمكن استخدام بطاقة الهوية دليلًا؟ فأنتم تعرفون اسمه، ولماذا تحتاجون إلى البطاقة؟ إنه لم يرتكب جريمة بحافظته!»

وتأوَّه الرجل وقال: «أنا متعاطف معكما، لكنكما لا تستطيعان استرداد البطاقة إلا بإذن وكيل النيابة.»

فسألته كاثي: «هل تعني إيدي جوردان؟ أين هو؟»

قال: «ليس هنا.»

فسألت كاثي: «ومتى يعود؟»

قال وكيل النيابة المساعد إنه لا يعرف.

وسارت كاثي مع زيتون فدخلا بهو المحطة، غير متأكدين من خطوتهما التالية. ولكن سرعان ما لمحت من خلال النافذة الأمامية للمحطة إيدي جوردان، كان واقفًا في المقدمة، محاطًا بكتيبة من الصحفيين.

وانطلقت كاثي من الباب لمواجهة جورادن، وكان يرتدي حُلَّة من ثلاث قطع.

سألته: «لماذا لا نستطيع الحصول على حافظته؟»

فقال جوردان: «أفندم؟»

وأوضحت كاثي له بإيجاز موقف زيتون، وكررت طلبها إعادة حافظته.

وقال جوردان إنه لا يملك أن يفعل شيئًا في هذا الصدد، واستدار عنها، واستأنف حديثه مع الصحفيين!

ولمحت كاثي الصحفي الهولندي بالقرب منهم، وكانت تريد أن يعرف، هو وغيره من الصحفيين ما يجري، فتكلمت بأعلى صوت ممکن: «ألقيتم القبض على زوجي في منزله، والآن لا تريدون إعادة حافظته؟ ما الذي يجري هنا؟ أي بلاء أصاب هذه المدينة؟!»

وهز جوردان كتفيه وانصرف.

وقالت كاثي لزيتون: «سنعود للدخول.»

لم يكن زيتون يدرك السبب، ولكن اللهيب في عيني كاثي لم يكن يشجع على المناقشة. فعادا للدخول وذهبا مباشرة إلى وكيل النيابة المساعد، كانت كاثي مصممة على ألا تجعل بطاقة هوية السجن اللعينة هي التي تحدد شخصية زوجها، أي أن تصبح المستند الحكومي الوحيد في يده للدلالة على هويته.

وقالت لوكيل النيابة المساعد: «لا بد أن تفعل شيئًا!» كانت قد غدت على وشك البكاء، وقد هدها الإحباط والغضب.

وأغلق وكيل النيابة المساعد عينيه، ثم قال: «دعيني أرى ما يمكن أن أتوصل إليه.» وغادر المكتب، وبعد عشر دقائق عاد ممسكًا بالحافظة وسلمها إلى زيتون!

كانت فيها رخصة القيادة، وبطاقة الإقامة الدائمة، ولكن الحافظة لم يكن بها أي نقود، أو بطاقات عمل أو بطاقات ائتمان.

وسأل زيتون: «أين الأشياء الأخرى؟»

وقال الرجل إنه لا يعرف، مضيفًا: «لم يكن فيها غير ذلك.»

لم تكترث كاثي لذلك، لم تكن تريد في هذه اللحظة غير ما يثبت اعتراف بلدها بأن زيتون من مواطنيه.

قالت: «شكرًا يا سيدي، شكرًا لك!» وأحست بأنها تريد أن تحتضنه. كان أول شخص يمثل حكومة المدينة أو حكومة الولاية يبدي أدنى بادرة إنسانية. بل إن هذه المهمة التي نفذها بيسر — أي استعادة حافظة رجل حُبس في قفص لا يبعد إلا أمتارًا قليلة — بدت في هذا السياق عملًا يدل على شجاعة كبرى وتعاطف عميق.

ورحلا وهما يشعران بأنهما حصلا على أهم شيء، رخصة القيادة. وإزاء طابع النظام القضائي للمدينة، كان مجرد بقاء الحافظة من قبيل المعجزات. كانت كاثي قد سبق لها إلغاء بطاقات الائتمان، وأما ما عدا ذلك فيستطيعان تعويضه.

•••

كانت هذه آخر مرة تشعر فيها كاثي بالقدرة على التركيز والغضب إلى هذا الحد، وأما الآن فقد تلاشى التركيز، وإذا كانت لا تزال تغضب فإن حالات الغضب قد قلت، ولم تعد تستطيع الغضب كما كان العهد بها ذات يوم. وحيثما كانت تبدو جاهزة وراغبة في خوض أي معركة، أصبحت الآن تفضل التراجع، وتدعيم وسائل دفاعها، ومضاعفة الأقفال على الأبواب. ودائمًا ما تجد أنها توجس خيفة من أن يحدث لأسرتها شيء ما، فهي لا تحب أن يلعب أطفالها في الحي، بل تريدهم أن يكونوا حيث تراهم، حتى نديمة نفسها، التي بلغت الثالثة عشرة الآن وكادت تصبح طول كاثي نفسها. وهي ترعاهم حين ينامون ولم يسبق لها قط أن فعلت ذلك. وهي تطمئن عليهم عدة مرات أثناء الليل، وتستيقظ ثم يصعب عليها العودة إلى النوم.

وغدت نديمة التي تتميز على الدوام بتحمل المسئولية وباللماحية الفائقة تشارك في السهر على أخواتها. وأما زخاري الذي بلغ الثامنة عشرة فيقيم مع بعض أصدقائه في نيو أورلينز، ويعمل في أحد مطاعم عدنان في محطات المترو. وأما صفية وعائشة فهما كالعهد بهما دائمًا، مرحتان، حافلتان بالبهجة، تفاجئان من حولهما بالغناء. وجميع الأطفال ييسرون الحياة إلى حد بعيد لأحمد الصغير، المولود في ١٠ من نوفمبر عام ٢٠٠٦، في مستشفى شرق جیفرسون.

وتُجمِع الآراء على أن أحمد طفل سعيد إلى درجة خارقة، فهو لا يُحرم أبدًا من الاهتمام والرعاية؛ إذ تتناوب أخواته في حمله، وإخراج كل ما هو خطر عليه من فمه، والقراءة له، وإلباسه ملابسهن القديمة.

وقد أسعد زيتون كثيرًا أن رُزِق بغلام، ولم يكن اختيار اسم له موضع نقاش قط؛ إذ كان «أحمد» الاسم الأول والأوحد.

وأما أحمد، أخو زيتون، فلا يزال يقيم في إسبانيا، ويعمل الآن مفتشًا للسفن، وهو ينتظر من أخيه أن يأتي بالطفل الجديد إلى مالقة؛ إذ حان وقت رؤية ابن أخيه المسمى على اسمه.

لم تعد كاثي تعمل كثيرًا هذه الأيام، فعليها أن ترعى الطفل، ولم يعد ذهنها يتسم بالذكاء اللازم — في الفترة الأخيرة — للقيام بالأعمال المكتبية كلها بنفسها. والشركة تستعين الآن بمن يساعد كاثي، مثل أمباتا وغيرها، وهو ما يتيح لكاثي الوقت الكافي للراحة، وللقيام بواجبات الأمومة، ولمحاولة فهم ما جرى من أحداث في الثلاث السنوات الأخيرة.

أضف إلى ذلك مواعيد الأطباء، فالأطباء يحاولون أن يعرفوا أسباب الخدر الذي يصيب يديها فجأة، وغيرهم من الأطباء يدرسون مشكلات الهضم عندها، ومشكلات الذاكرة.

طلب الأطباء من كاثي أن تحدد لهم أقسى صدمة نفسية تعرضت لها في كل ما وقع بعد إعصار كاترينا. وكانت دهشتها الشخصية ودهشة الأطباء كبيرة عندما تبينت أن ذلك كان بعد أن عرفت أن زيتون حي يرزق، وبعد أن قيل لها إنه في سجن هَنْت، من دون أن يُسمح لها برؤيته أو حتى بمعرفة مكان انعقاد جلسة المحاكمة. كانت أقسى الصدمات وأشدها إيلامًا صدمتها عندما قالت المرأة لها بالتليفون إن مكان الجلسة: «معلومات خاصة.»

وتقول كاثي: «أحسست بأنني شُطِرتُ شطرين.»

كيف يتأتَّى لهذه المرأة، وهي غريبة، أن تنكر حق كاثي بهذه البساطة بعد أن عرفت مدى يأسها واستماتتها؟ كيف يمكن إجراء محاكمات بلا شهود، وأن تجعل حكومة بلدها بعض الأشخاص يختفون؟

قالت: «لقد حطمني ذلك!»

والآن، وفي ساعات الصباح الأولى أو الهزيع الأخير من الليل، بل أحيانًا وكاثي جالسة وأحمد الصغير ينام في حجرها، تجد أنها تتساءل قائلة: «هل حدث ذلك كله حقًّا؟ هل حدث في الولايات المتحدة؟ هل حدث لنا نحن؟» وتعتقد أنه كان يمكن تجنبه، كان من الممكن اتخاذ إجراءات صغيرة كثيرة جدًّا. لقد شارك عدد بالغ الكثرة في حدوث ما حدث. وما أكثر من غَضُّوا الطرف عما يحدث. ولم يكن يتطلب الأمر إلا أن ينبري للعمل شخص واحد، وأن تُتخذ خطوة واحدة للخروج من الظلام إلى النور.

كانت تريد أن تعرف هوية رجل التبشير، ذلك الرجل الذي قابل زوجها في السجن وأخذ منه رقم تليفونها — الرسول — الرجل الذي خاطر بشيء ما باسم الرحمة.

ولكن ترى هل خاطر بالكثير؟ لم يخاطر بالكثير حقًّا، فالمعتاد ألا تحتاج إلى المخاطرة بالكثير لتصحيح أحد الأخطاء. وليس الأمر على هذه الدرجة من التعقيد، بل إنه نقيض التعقيد. أن تتصل برقم أعطاه لك رجل في قفص، وأن تقول للصوت في الطرف الآخر: «شاهدته.» هل هذا معقد؟ هل أصبح ذلك عملًا يتسم ببطولة عظمى في الولايات المتحدة الأمريكية؟

الواجب ألَّا يكون كذلك.

•••

ومن دواعي قلق كاثي أن زوجها يجهد نفسه في العمل، الآن، إلى حد الإنهاك؛ إذ يعمل كل يوم، حتى في أيام الأحد. وهو يعود إلى المنزل لتناول الطعام والرقاد، ولكنه يعمل كلما استطاع، وهي لا تستطيع أن تفهم كيف يتأتى له ذلك وهو يصوم يومي الإثنين والجمعة — إذ ازداد تدينه — كما يبدو أنه يأكل أقل مما كان يأكل، ويعمل بجد أكبر مما عُرف عنه في يوم من الأيام.

والأصدقاء الذين يعرفون ما حدث لزيتون بعد العاصفة يتساءلون: لماذا لَمْ يرحل؟! لمَ لَمْ يذهب إلى مدينة أخرى، إلى بلد آخر — حتى إلى سوريا — أو إلى أي مكان بعيد عن الذكريات المخطوطة في ثنايا نيو أورلينز. ولا شك في أنه يتعرض لمشاعر مدلهمة عندما يمر بمحطة جراي هاوند، وعندما يمر بالسيارة على المنزل في شارع كليبورن حيث اعتُقل مع صديقين وأحد الأغراب، وعندما يمر بسيارته على منزل ألفين ويليامز وزوجته بيولا، وهما راعي الكنيسة وقرينته، يدعو لهما بالرحمة؛ إذ توفيت بيولا ويليامز في عام ٢٠٠٧ ومات القس ألفين ويليامز في عام ٢٠٠٨.

وعندما يمر بمنزل تشارلي راي، جاره في شارع كليبورن، يلوِّح بيده محييًا إن كان تشارلي جالسًا في شرفة المدخل، وهو كثيرًا ما يكون جالسًا فيها. وقد حدث في اليوم التالي للعاصفة، أن زار الحرس الوطني تشارلي، وقالوا له إن عليه مغادرة المدينة، وإنهم سوف يساعدونه على ذلك. وانتظروه حتى حزم حقائبه، ثم نقلوا حقائبه إلى قاربهم، ونقلوه إلى إحدى نقاط الإخلاء؛ حيث حملته طائرة عمودية إلى المطار، وأُعطِي تذكرة مجانية على الطائرة المسافرة إلى نيويورك.

وكان إنقاذ تشارلي في يوم القبض على زيتون. وبعد مضي عدة أشهر على العاصفة عاد تشارلي إلى نيو أورلينز، ولا يزال يقيم في شارع كليبورن.

وأما تود جامبينو فيقيم الآن في مسيسيبي، وكان قد قضى أكثر من خمسة أشهر في سجن هَنْت، وأُطلق سراحه يوم ١٤ من فبراير عام ٢٠٠٦، بعد إسقاط جميع التهم الموجهة إليه. وكان المبلغ الذي يحمله عند القبض عليه يزيد على ٢٤٠٠ دولار، وصُودر هذا المبلغ أثناء التحقيق معه في معسكر جراي هاوند، وحاول مرارًا بعد الإفراج عنه أن يستعيده فلم يُوفَّق، ولم يحصل على أي تعويض عن الأشهر الخمسة التي قضاها في سجن مشدد الحراسة.

وبعد الإفراج عنه ذهب للعمل في منصة لاستخراج البترول في خليج المكسيك، ولكنه فقد عمله في خريف عام ٢٠٠٨.

وقضى ناصر ديوب ستة أشهر في سجن هَنْت، وأُسقطت آخر الأمر جميع التهم التي وجهت إليه، وعندما أُطلق سراحه حاول أن يستعيد مبلغ عشرة الآلاف دولار الذي كان معه عند القبض عليه، لكن السلطات أنكرت معرفتها به، ولم يكن المبلغ مسجلًّا لدى إحداها، ولم يستطع استعادة نقوده — (تحويشة عمره) — قط. وفي عام ٢٠٠٨ عاد إلى سوريا.

وأما روني فقضى ثمانية أشهر في سجن هنت، ولم يبلغ أسرة زيتون أي نبأ عنه منذ الإفراج عنه في ربيع عام ٢٠٠٦.

وانتقل فرانك نولاند وزوجته للإقامة في مكان آخر. كان جميع جيران زيتون تقريبًا في هذا الحي قد انتقلوا لأماكن أخرى، كما اختفت أيضًا المرأة التي وجدها زيتون في بهو منزلها — المرأة التي سمع صوتها لأنه كان يجدف دون صوت — ولم يكن الساكن الجديد في منزلها يعرف أين ذهبت، ولكنه كان قد سمع قصة إنقاذ زيتون لها.

وتلوح لذهن زيتون عظمة قاربه البسيط، ومزايا السير بهدوء والإصغاء بدقة. وعندما أُطلق سراحه أخذ مع كاثي يبحث عن القارب حيث شاهده آخر مرة، في منزل شارع كليبورن، ولكنه كان قد اختفى. كما كان المنزل قد سطا عليه اللصوص أيضًا، وسرقوا كل شيء؛ لأن الجنود ورجال الشرطة الذين قبضوا على زيتون تركوا المنزل دون إغلاق ومن دون حراسة. وهكذا استطاع اللصوص أن يدخلوه دون عائق، ويفروا حاملين جميع أمتعة السكان، بل كل ما كان تود قد أتى به إلى الغرف الأمامية كي لا تصيبه المياه.

وقد استعاض عن كل ما ضاع، لكنه يفتقد القارب، وهو يفتش بعينيه في كل مكان عنه، آملًا أن يراه في واحد من مبيعات «الكراكيب» في فناء أحد المنازل، وهو على استعداد لشرائه من جديد، وخطر له أنه ربما احتاج إلى شراء قارب جديد. وربما ازداد حب بناته للقارب اليوم، وربما أحس أحمد الصغير بجاذبية البحر مثل عمه وأبيه وجده وما لا يحصى من أفراد أسرة زيتون من قبلهم.

في بعض الليالي يكافح زيتون حتى ينام، وفي ليالٍ أخرى تطوف بخياله الوجوه، وجوه الذين قبضوا عليه، والذين سجنوه، والذين كانوا ينقلونه ما بين الأقفاص كالحيوان، والذين نقلوه نقل المتاع. ويخطر بباله أولئك الذين عجزوا عن اعتباره جارًا لهم، مواطنًا من مواطنيهم، وإنسانًا مثلهم.

وأخيرًا يأتيه النوم، ويصحو في الصباح على أصوات أطفاله — أربعة صغار في المنزل الآن — وأصوات بالغة الكثرة في المنزل الذي كبر حجمه الآن، ورائحة الطلاء الحديث تملأ البيت بالإمكانات. إن الأطفال يخافون الماء ولا شك، وعندما انفجرت إحدى الأنابيب في العام الماضي امتلأ البيت بصراخهم وكوابيسهم، ولكنهم يكتسبون القوة تدريجيًّا وببطء. ومن أجلهم يجب أن يتحلى بالقوة. وعليه أن ينظر إلى المستقبل، عليه أن يوفر لهم الطعام، وأن يحتضنهم، وأن يبين لهم أن لله غاية فيما مروا به من محن، وهو يقول لهم ربما كان الله عندما سمح بدخوله السجن قد أنقذه مما هو أسوأ.

وهو يقول لهم: «كل حادث له سبب؛ وعليك أن تقوم بواجبك، وأن تفعل ما هو صواب، والباقي في يد الله.»

•••

وتابع زيتون مسار إعادة بناء المدينة، كانت السنوات الأولى غاصَّة بالإحباط؛ إذ ظل رجال التشريع والتخطيط يتشاجرون حول التمويل وحول البرامج. إن موطنه نيو أورلينز لا يحتاج إلى خطب، ولا مهاترات، ولا مناورات سياسية، بل يحتاج إلى أرضيات جديدة، وأسقف جديدة، ونوافذ وأبواب وسلالم جديدة.

وقضى عدد كبير من عملائه وقتًا طويلًا في انتظار تلقِّي أموال التأمين، أو أي أموال من الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ؛ بسبب ضرورة التغلُّب على عدد يصعب حصره من التعقيدات. ولكن العجلة بدأت تدور اليوم، وبدأت المدينة تنهض على قدميها، وتمكنت شركة زيتون للمقاولات والطلاء، منذ إعصار كاترينا، من إعادة ١١٤ منزلًا إلى ما كانت عليها جميعًا، أو حتى تحسين أحوال بعض هذه المنازل.

واشتری زیتون شاحنة جديدة، ويسير بها اليوم في المدينة، في الضواحي، وحي الحدائق، والحي الفرنسي، وحي ليكفيو، والضفة الغربية، وشوارع برودمور، وميتاري، وجنتيلي، والحي التاسع، وحدائق ميرابو، وكلما شاهد منزلًا يُبنى، بغض النظر عمن يقوم بالإنشاء، ابتسم وجالت بخاطره كلمة واحدة هي: «البناء! إلى البناء! البناء! البناء!»

وهكذا يقوم بجولاته، للاطمئنان على ما يقوم به عماله، فهم منهمكون في تنفيذ بعض المشروعات الرائعة المهمة، وعلى الرغم من تباطؤ النشاط الاقتصادي، فإن العمل كثير.

فهم يعملون مثلًا في ترميم المبنى رقم ٢٨ في شارع مكدونوه، وهو مبنى مدرسة عليا للصغار في حي إسبلاناد. وكانت المدرسة قد أُغلقت منذ العاصفة، ولكنها يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه؛ إذ يتولى زيتون إصلاح الهيكل الخشبي وسد الفجوات بالتيل والمعجون، وطلاء الجدران الداخلية بألوان رمادية وخضراء وبيضاء، ولن يستغرق ذلك زمنًا طويلًا، وما أجمل أن نشهد افتتاح المدرسة مرة أخرى!

وهو يعلم أنه الأيسر له، سواء فيما يتعلق بهذا المبنى أو بكثير غيره، أن يهدم المبنى ويبدأ من جديد، فالأسهل قطعًا، من وجهة نظر المهندس الإنشائي، أن تبدأ بقطعة أرض مسطحة خالية. ولكنك في هذه الحالة سوف تفقد الكثير. وهكذا، فعلى امتداد السنوات الثلاث التي عمل فيها بإعادة البناء، لم يتوقف عن طرح هذا السؤال في البداية: «ما الذي يمكن إنقاذه؟»

خذ مثلًا مبنى مخبز «لايدنهايمر» في شارع سيمون بوليفار: إنه بناء رائع من الطوب الأحمر، يزيد عمره على مائة عام، ولا يزال يدير المخبز أحفاد جورج لايدنهايمر، المهاجر الألماني. وكان زيتون يعتز بإسناد العمل إليه، كشأنه بالنسبة إلى كل مبنًى يتمتع بأهمية خاصة؛ إذ كان يكره هدم تلك المباني. ولقد تحمل الهيكل الحجري العاصفة ونجا تمامًا، ولكن النوافذ وكل ما صُنع من الخشب في حاجة إلى إعادة الصقل أو استبدال غيرها بها. وهذا ما يتولاه زيتون الآن مع عماله، إلى جانب إعادة تصميم ديكور المكتب الداخلي، بإنشاء بعض الخزانات فيه وطلاء الفتحات.

وخذ أيضًا كنيسة الأبرشية، واسمها كنيسة سانت كليمنت في روما، في تقاطع حي إسبلاناد الغربي مع حي ريتشلاند؛ فالأبنية الخشبية في داخلها تحتاج إلى التشذيب وإعادة الصقل، وأصيب ظاهر المبنى ببعض الأضرار، ولا بد لهم أن ينظفوه بالماء المندفع بضغط عالٍ، ثم يصنفروه ويسدوا فجواته بالمعجون، ثم يعيدوا طلاء كل جدار ونافذة. وزيتون يعتزم الإشراف على ذلك المشروع بأكبر قدر من الحرص والرعاية، فهكذا شأنه دائمًا عندما يُطلب لترميم أي بيت من بيوت العبادة، واثقًا بأن الله يشهد العمل الذي يؤديه هو وكاثي ورجاله، وهكذا فلا بد من أدائه بأكبر قدر من العناية والدقة، بل — كما يقول لعماله — بروحه وقلبه.

ولا يسعد «زيتون» شيء أكثر مما يسعده مجرد إحساسه بالحرية، وبأنه في مدينته. فهي مدينة أحلامه، المكان الذي تزوج فيه، ووُلد فيه أطفاله، وحيث منحه الجيران ثقتهم. وهكذا فإنه يركب كل يوم شاحنته البيضاء، التي ما زالت تحمل شعار قوس قزح، وينطلق شاقًّا طريقه في المدينة، ويشهدها وهي تنهض من جديد.

ويقول زيتون في نفسه: إن ذلك كان ابتلاءً لنا. من ذا الذي ينكر أننا ابتُلينا أو اختُبرنا؟ ويقول: ولكن انظر إلينا الآن؛ لقد غدا كل شخص أقوى مما كان، وعلا صوت كل من ظن أن الله نسيه أو أن وطنه نسيه، وازداد قدرة على التحدي، وازداد عزمًا وتصميمًا، كان هؤلاء يعيشون من قبل، وهم يعيشون الآن من جديد، في مدينة نيو أورلينز، وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وكان عبد الرحمن زيتون موجودًا من قبل، ويوجد الآن من جديد في مدينة نيو أورلينز، وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وليس أمامه الآن إلا أن يؤمن بأنه لن يتعرض أبدًا بعد الآن للنسيان، أو لإنكار وجوده، أو لمن يدعوه بأي اسم آخر غير اسمه. عليه أن يتسلح بالثقة وبالإيمان. وهكذا، فهو يمارس مهنة البناء؛ لأن البناء وإعادة البناء، ثم إعادته من جديد، عمل يقوم على الإيمان، وهل هو غير ذلك؟ لا يوجد إيمان مثل إيمان من يبني المساكن في ساحل لويزيانا، ولا توجد طريقة أفضل من البناء تكفل لك أن تثبت لله وللجيران أنك كنت موجودًا في ذلك المكان، وأنك موجود فيه، وأنك إنسان. من ذا الذي يمكنه أن ينكر مرة أخرى أنه ينتمي إلى ذلك المكان؟ ولو احتاج الأمر إلى ترميم كل بيت في هذه المدينة، فسوف يقوم بذلك، حتى يثبت أنه جزء من ذلك المكان.

وأثناء قيادته للسيارة في المدينة أثناء النهار، وأثناء أحلامه بها في الليل، يُحَلِّقُ ذهنه في أحلام يقظة رائعة؛ إذ يرسم لهذه المدينة صورة لا تقف عند حدود ما كانت عليه، بل صورة أفضل، وأفضل بمراحل. وذلك يمكن تحقيقه. نعم، لقد مرَّ زمن حالك بهذا البلد، وأما الآن فنشهد شيئًا يشبه النور. فالتقدم يتحقق، لقد أزلنا العفن، وندعم الآن الأساسات، وما زال أمامنا عمل كثير، وكلنا يعرف ما لا بد من عمله، وهو يقول لكاثي، ولأطفاله، ولعماله، ولأصدقائه، ولكل من يقابله: ليس علينا إلا أن نقوم بالعمل. وإذن فعلينا أن ننهض مبكرًا ولا نأوي إلى الفراش إلا في وقت متأخر، وعلينا أن ننجز العمل، طوبة طوبة، ومبنًى من بعد مبنًى. وما دام يستطيع تصور ذلك فهو ممكن التحقيق. لقد كان هذا نسق حياته كلها؛ أحلام مضحكة تعقبها ساعات وأيام وسنوات من العمل، وبعدها تبرز حقيقة تتجاوز أقصى شطحات آماله وتوقعاته.

وإذن لماذا تختلف الحال الآن هنا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤