قصة الأيام القادمة

(١) دواء الحب

كان السيد موريس رجلًا إنجليزيًّا رائعًا وعاش في عصر الملكة فيكتوريا الفاضلة. كان رجلًا ثريًّا ورشيدًا للغاية. اعتاد السيد موريس قراءة جريدة «ذا تايمز» والذهاب إلى الكنيسة. وفي الوقت الذي بلغ فيه منتصف العمر، ارتسم على وجهه تعبير هادئ بالازدراء عن قناعة تجاه من هم ليسوا مثله. كان أحد هؤلاء الأشخاص الذين يفعلون كل ما هو صحيح وملائم ومعقول على نحو روتيني لا يمكن الحيد عنه. كان دائمًا ما يرتدي الملابس المناسبة اللائقة، بأسلوب يتوسط المسافة بين ما هو أنيق وما هو دنيء، ودائمًا ما يشارك في الجمعيات الخيرية المناسبة، ويمتلك الحصافة ليوازن بين التباهي والدناءة، كما أنه كان يقص شعره دائمًا بنفس الطول.

كان السيد موريس يحرص على أن يحوز كل شيء يناسب رجلًا في مثل مكانته ويليق به، وكان يتحاشى أي شيء يرى أنه لا يناسبه ولا يليق بمكانته.

من بين الأشياء التي كان يملكها وتليق به زوجته وأطفاله. كانت زوجته تلائمه تمامًا، كما كان أطفاله يناسبونه تمامًا كيفًا وعددًا. لم يكن هناك شيء غير تقليدي أو غير معتاد بشأنهم على حد اعتقاد السيد موريس؛ فقد كانوا يرتدون الملابس المناسبة، لم تكن أنيقة على نحو لافت أو واقية أو معاصرة للموضة، كانت مناسبة وحسب. علاوة على ذلك، كانوا يعيشون في منزل مناسب على طراز الملكة آن المعماري الذي ميَّز أواخر العصر الفيكتوري؛ حيث كانت أسقف المنزل المُثلَّثة مصنوعةً من الجِصِّ المُلوَّن باللون البني بينما كانت الأطُر مصنوعةً من الخشب، كما كان يحوي ألواحًا من خشب البَلُّوط مُغطَّاةً بزخارف بارزة على طراز لينكراستا والتون، كانت الشرفة مصنوعة من الطين الناضج لتحاكي الصخر، أما الباب الأمامي للمنزل فكان مُغطًّى بزجاج كالذي يُستخدم في الكاتدرائيات. كان أولاد السيد موريس يرتادون مدارس جيدة، وعملوا في وظائف مرموقة، أما البنات، فرغم اعتراضهن الشديد، فإنهن تزوَّجن جميعًا من شباب صالحين تقليديِّين هادئين، لهم مستقبل جيد. وعندما صار الموت أمرًا مناسبًا ويليق به أن يفعله، مات السيد موريس. كانت مقبرته من الرخام وكانت تتسم بالهيبة الهادئة من غير نقوش أو عبارات إطرائية فارغة، حيث كان ذلك هو الطراز السائد في زمانه.

مر السيد موريس بتغييرات عديدة طبقًا لما هو معتاد في هذه الحالات، وقبل أن تبدأ القصة، كانت عظامه قد تحلَّلت ونُثِرت في أرجاء السماء الأربعة. أما أولاده وأحفاده وأولاد أحفاده وأولاد أولاد أحفاده فقد تحللوا كذلك إلى رماد نُثِر أيضًا. كان أمرًا لم يكن ليتصوره؛ أنه سيأتي يوم وسيُنثَر فيه رماد ابن ابن حفيده. لو كان أحد أخبره بأن هذا سيحدث لرفضه بشدة. كان السيد موريس من الأشخاص البارزين الذين لم يكن لهم أي اهتمام بمستقبل البشرية مُطلقًا؛ بل كان لديه شكوكه الكبرى بشأن ما إذا كان سيظل للبشرية مستقبلٌ بعد موته من الأساس.

بدا من المستحيل وغير المُثير للسيد موريس تخيُّل حدوث شيء بعد موته، لكن كان هناك مستقبل بالفعل، فبعد موت حفيده الأكبر وتحلُّله ونسيانه وبعد زوال المنزل المُؤطَّر بالخشب كزوال كل الأساليب والطرازات المعمارية واختفاء جريدة «ذا تايمز»، وبعد أن أصبحت القبعة الحريرية أثرًا سخيفًا من الماضي وحُرِق حجر الرخام الذي صُنعت منه مقبرة السيد موريس ليُستخدم كجير في مِلاط البناء، وزوال وفناء كل ما كان يعتبره حقيقيًّا ومهمًّا، فإن العالم لم يتوقَّف وما زال الناس مُستمرِّين في عيش حياتهم غافلِين وغير مُنتبهِين للمستقبل أو أي شيء آخر بخلاف أنفسهم وممتلكاتهم؛ كما كان يفعل السيد موريس.

ومن الغريب كذلك، ومما كان سيغضب السيد موريس لو أنذره به أحد، أن هناك الكثير من البشر المنتشرين في جميع أنحاء العالم تتردَّد فيهم نفس الحياة وتتدفَّق في عروقهم دماء ذلك الرجل الإنجليزي. ومثلما يمكن أن يحدث في يوم من الأيام، يمكن للحياة التي ينبض بها الآن قارئ هذه القصة أن تتبعثر وتُنثر في العالم من حولنا لتختلط بآلاف السلالات الغريبة التي لا يمكن الإحاطة بها علمًا أو تتبُّعها.

من بين أحفاد السيد موريس كان يوجد شخص عاقل وذكي مثله تقريبًا. كان ذلك الرجل يمتلك نفس الجسد القصير المتين الذي كان يُميِّز جده الذي عاش في القرن التاسع عشر والذي سمي تيمنًا باسمه — وكان ينطقه ويكتبه مورس — كما كانت تعلو وجهه نفس النظرة التي بها قدْرٌ من الازدراء، وكان شخصًا مُوسِرًا كسَلَفه. بمرور الوقت بدأ مورس يكره كل ما هو مُستحدَث، وكان المستقبل والطبقات الدنيا في المجتمع يشغلان تفكيره. لم يكن يقرأ جريدة «ذا تايمز» ولم يكن يعلم من الأساس بوجود مثل هذه الجريدة التي انهارت خلال الفجوة الزمنية الفاصلة من السنوات بينه وبين سلَفه، لكن ربما كانت آلة الفونوغراف — التي كان يستمع لها أثناء ارتدائه للملابس في الصباح — هي إعادة تجسيد للصحفي البوهيمي هنري بلوويتز عندما كان يناقش أمور العالم. كانت هذه الآلة في حجم ساعة الحائط الهولندية، وفي مقدمتها كانت هناك مُؤشِّرات بارومترية كهربائية وساعة وروزنامة إلكترونية ومُذكِّرات أوتوماتيكية. أما الساعة فكانت تقع في فُوَّهة البُوق. عندما كانت هناك أخبار، كان البوق يُصدِر صوتًا كصوت الديك الرومي «جالوب! جالوب!» ثم يتلو ما لديه بصوت يُشبِه صوت أي بوق. كان يُخبِر البوق مورس بصوتٍ أجشَّ وغني وواضح عن الحوادث التي وقعت خلال الليل للحافلات العمومية الطائرة التي تذرع سماء العالم ذهابًا وإيابًا، كما يُخبِره كذلك بأحدث المنتجات في المُنتجَعات العصرية في التبت، وبالاجتماعات الكبرى المُؤيِّدة للاحتكار التي حدثت في الشركة في اليوم السابق وكل هذا أثناء ارتدائه للملابس. وإذا لم تحُز الأخبار على إعجاب مورس، لم يكن عليه سوى لمس زر ليُغيِّر ما يُلقى على أسماعه.

كانت ملابس وزينة مورس مختلفة بالطبع عن سلَفه. من غير المُؤكَّد أيهما كان سيُصدَم أكثر عندما يرى نفسه في ملابس الآخر، لكن بالتأكيد كان مورس الابن سيُسرِع بالخروج إلى الشارع عاريًا تمامًا؛ إذ سيرى أن ذلك أفضل له من أن يرتدي القبعة الحريرية والمِعطف الطويل الذي يصل للركبتَين والبنطال الرمادي والساعة المُتدلية من السلسلة؛ تلك الأشياء التي كانت تُكسِب السيد مورس احترامًا للذات لدرجة تصل إلى حد التجهُّم في الماضي. لم يكن مورس الابن يحتاج للحلاقة؛ فقد أزال جرَّاح ماهر منذ وقت طويل أي جذور للشعر من وجهه، كما أن ساقَيْه كانتا مكسوَّتَين في ملابس جميلة المنظر بلون الورود والكهرمان ومصنوعة من مادة لا تُنفِذ الهواء، ملأها مورس بالهواء بمساعدة مضخة ليبدو كما لو كان يمتلك عضلات ضخمة. فوق تلك الملابس، كان يرتدي ملابس مليئة بالهواء المضغوط تحت رداء من الحرير الأصفر حتى يكون مُحاطًا بالهواء ليحميَه هذا من الحر الشديد أو البرد القارس. وفوق هذه الملابس كان يرتدي عباءة قرمزية اللون وقد صُمِّم طرفها بشكل مُقوَّس في منظر رائع. كانت تعلو رأسَه، الذي أُزيل منه بمهارة أي أثر للشعر، قبعةٌ صغيرة جميلة المنظر ذات لون قرمزي فاتح وكانت منتفخة ومليئة بالهيدروجين وتبدو مثل عرف الديك في منظر غريب. انتهى طقس ارتداء الملابس لمورس الذي استعد لمواجهة البشر بثقة، بعد أن أدرك أنه أصبح أنيقًا على نحو لائق ومناسب.

كان مورس — الذي اختفى من عالمه لفظ «سيد» الدالُّ على التحضر منذ زمن بعيد — أحد الموظفين العاملين في شركة «ويند فين آند ووترفول تراست» وهو اتحاد شركات احتكاري عملاق كان يمتلك كل دوارة رياح وشلال مياه في العالم؛ حيث كان يمد الناس بالطاقة الكهربائية والمياه التي كانوا يحتاجونها في ذلك العصر الحديث. كان مورس يعيش في فندق ضخم في جزء من مدينة لندن يُسمَّى «سيفنث واي»، وكان بالفندق شقق سكنية واسعة للغاية ومُريحة في الطابق السابع عشر. في ذلك الوقت، كانت فكرة الحياة الأسرية قد اختفت منذ وقت طويل مع زيادة تهذيب العادات والسلوكيات؛ وبالتأكيد بسبب الارتفاع المُتزايد في أسعار الإيجارات والأراضي واختفاء الخدم وتزايُد تعقيد الطبخ؛ مما أدَّى لاستحالة وجود منازل مُنفصِلة بعضها عن بعض، كما كان عليه الحال في العصر الفيكتوري، حتى لو كان هناك من يرغب في هذا الانعزال القاسي. عندما انتهى مورس من تأنُّقه، اتجه إلى أحد بابَين لشقته، كان كل منهما يقع في جانب منها ويحمل سهمًا يُشير في اتجاه مُعاكِس للآخر، ولمس زرًّا فيه ليفتحه خارجًا لمساحة واسعة كان مركزها يحوي مقاعد ويتحرك بإيقاع ثابت إلى اليسار، وكان يجلس في بعض المقاعد رجال ونساء في ملابس مُبهِجة المنظر. أومأ مورس برأسه لأحد معارفه — فلم يكن من قواعد الإتيكيت في ذلك الوقت أن يتحدث مع شخص قبل أن يتناول الإفطار — وجلس في أحد المقاعد. وفي غضون ثوانٍ، تحرَّك المقعد إلى باب مصعدٍ هبط به لقاعة كبيرة ومُبهِرة سيُقدَّم فيها الإفطار آليًّا.

كانت وجبة الإفطار مختلفة تمامًا عن نظيرتها في العصر الفيكتوري. كانت قِطع الخبز العديمةُ الشكل التي يجب غمسها أولًا في دهن الحيوان حتى تكون مستساغة، وقِطع الحيوانات التي ذُبِحت منذ فترة قصيرة وقُطِّعت وتفحَّمت على نحو جعلها بشعة المنظر، والبيض الذي انتُزع بقسوة من تحت دجاجة ساخطة؛ تُمثِّل النمط العام في العصر الفيكتوري، لكن في ذلك العصر الحديث لم يكن هذا ليُثير رعب أحد سوى أصحاب العقول المُثقَّفة. وبدلًا من ذلك، كانت هناك مُعجَّنات وكعك ذات تصميمات مُتنوِّعة وجذابة من غير أن تدل على الحيوانات السيئة الحظ التي اشتُقت مكوناتها منها. أتى الطعام في أطباق صغيرة تنزلق على قضيب يُشبِه قضبان القطارات من صندوق صغير يقع في جانب من جوانب الطاولة. كان سطح الطاولة مُغطًّى بطبقة من المعدن المؤكسد تبدو في ملمسها ومظهرها لمن عاشوا في العصر الفيكتوري مثل الحرير الدمشقي الأبيض، ويمكن تنظيفها فورًا بعد أن يفرُغ المرء من تناوُل الطعام. كان هناك المئات من هذه الطاولات في القاعة وكان يجلس إلى كل منها شخص بمفرده أو ضمن مجموعة. وبينما جلس مورس ليتناول وجبته، استأنفت الأوركسترا الخفيَّة التي كانت في استراحة عزْفَها لتملأ الأجواء بالموسيقى.

لكن مورس لم يُبدِ أي اهتمام بالموسيقى أو الطعام بل جالت عيناه باستمرار في أرجاء القاعة، كما لو كان يتوقَّع وصول ضيف متأخر. وأخيرًا، نهض من مقعده بحماس ولوَّح بيدَيه في نفس الوقت الذي ظهر فيه شخص طويل أسمر اللون يرتدي زيًّا يجمع بين اللونَين الأصفر والأخضر الزيتوني. وبينما كان يقترب ذلك الشخص شاقًّا طريقه بين الطاولات بخطوات محسوبة، تجلَّى أكثرَ شحوبُ وجهه الجاد وحِدَّة نظراته الغريبة. جلس مورس مرة أخرى وأشار إلى مقعد آخر بجانبه ليجلس الرجل.

تحدَّث مورس: «كنت أخشى ألا تأتي.» رغم الفجوة الزمنية الكبيرة، كانت اللغة الإنجليزية ما زالت على حالها تقريبًا منذ عصر الملكة فيكتوريا. لم يُؤدِّ اختراع الفونوغراف وآلات تسجيل الصوت والاستعاضة التدريجية عن الكتب بهذه الآلات؛ إلى الحفاظ على الرؤية البشرية من التلف فحسب، بل أدَّى كذلك إلى إمكانية رصد عملية تغيُّر اللهجات التي كانت حتمية الحدوث عن طريق وضع معيار موثوق به.

أجابه الرجل المُكتسي بالأصفر والأخضر: «لقد أخَّرتْني قضية مُثيرة للاهتمام.» وأضاف مُتنحنِحًا: «كان هناك سياسي شهير يعاني من الإرهاق بسبب ضغط العمل.» ثم نظر الرجل إلى طعام الإفطار وجلس ثم قال: «لم أنَم منذ أربعين ساعة.»

ردَّ مورس: «أوه! لا يمكنني تخيُّل هذا! أنتم معشر المُعالِجِين بالتنويم تبذلون مجهودًا شاقًّا.»

مدَّ المُعالِج يده مُتناوِلًا بعضًا من الهُلام الأصفر الجذَّاب المنظر قائلًا بتواضُع: «هناك الكثير من الطلب على خدماتي.»

ردَّ مورس: «الله وحده يعلم كيف كان سيُصبِح حالنا بدونكم.»

قال المعالج وهو يجترُّ طَعْم الهلام: «لسنا ضروريِّين إلى هذا الحد. لقد كان العالم يسير على ما يُرام بدوننا لآلاف السنين. منذ مائتَي عام تقريبًا لم يكن هناك أي مُمارِس للتنويم المغناطيسي. أما الأطباء فقد كانوا بالآلاف؛ بالطبع كان معظمهم خشِنِين أفظاظًا وخَرقى على نحو مروِّع ويتبعون بعضهم بعضًا مثل الخِراف. أما أطباء العقل، فلم يكن هناك أي منهم، فيما عدا بعض من كانوا يمارسون عملهم، على نحو تجريبي مُتخبِّط.»

ثم انصبَّ تركيزه على الهلام الذي يأكله.

بدأ مورس بالسؤال: «لكن هل كان الناس على درجة كبيرة من الحكمة والتعقُّل؟»

هزَّ المعالج رأسه قائلًا: «لم يكن مهمًّا آنذاك ما إذا كانوا على قدرٍ بسيطٍ من الغباء أو السفَه. كانت الحياة سهلة. لم يكن هناك أي تنافُس أو ضغط يستحق ذكره. كان يتعيَّن أن يكون الإنسان فاقدًا لأي نوع من الاتزان قبل حدوث أي شيء. بعد ذلك، كانوا يُودِعونه كما تعلم فيما يُسمَّى مَصحَّة الأمراض النفسية.»

ردَّ مورس: «أعلم هذا. في قصص المغامرات القديمة، تلك التي يستمع إليها الجميع، دائمًا ما يُنقِذون فتاة جميلة من مصحة أو ما شابه. لا أعلم ما إذا كنتَ تهتم بهذا الهراء.»

قال المعالج: «عليَّ أن أعترف بأنني مهتم بذلك؛ فسماع شيء كهذا يُخرِج المرء من عالمه الخاص ليدخل عالم القرن التاسع عشر الغريب نصف المُتحضِّر والمليء بالمغامرات، عندما كان الرجال أقوياء البِنية والنساء ساذجات. دائمًا ما أحب قصص التفاخُر بالماضي هذه أكثر من أي شيء. كانت تلك الأيام مُثيرة للفضول بكل السكك الحديدية المُتسِخة والقطارات القديمة التي تنفث الدخان والبيوت الصغيرة العجيبة المنظر والعربات التي تجرُّها الخيول. ألَا تقرأ كتب التاريخ؟»

أجاب مورس قائلًا: «بلى! لقد ارتَدتُ مدرسة حديثة ولم ندرس أيًّا من هذا الهراء القديم. تكفيني الصور.»

ردَّ المعالج قائلًا: «بالطبع.» ثم جال بنظره في الطاولة مُفكِّرًا في اختياره الثاني ليستقر على حلوى زرقاء داكنة تشي بوجبة لذيذة، ثم أردف قائلًا: «في تلك الأيام كانت وظيفتنا نادرًا ما يتم التفكير فيها، بل يمكنني القول إنه إذا كان أي شخص قد أخبرهم أنه خلال مائتَي عام سيكون هناك مجموعات من الرجال تُكرِّس وقتها بالكامل لغرس أشياء في الذاكرة والتخلص من الأفكار البغيضة والتحكم في الدوافع الغريزية غير المرغوب فيها وما إلى ذلك بواسطة التنويم المغناطيسي؛ كانوا سيرفضون تصديق إمكانية حدوث هذا. لم يكن يعرف سوى قلة قليلة من الناس أنه إذا أُعطي أمرٌ خلال حالة التنويم حتى لو كان أمرًا بالنسيان أو بالرغبة في شيء ما، فإنه يمكنهم تنفيذ ذلك الأمر بعد إفاقتهم من غَشْيتهم. لكن مع ذلك، كان هناك من هم على قيد الحياة ممن يمكنهم التأكيد على حتمية حدوث هذا كحتمية عبور كوكب الزُّهَرة بين الشمس والأرض.»

سأل مورس: «هل كانوا يعرفون ما هو التنويم المغناطيسي إذن؟»

ردَّ الرجل: «بالطبع! لقد استخدموه لتخفيف آلام خلع الأسنان وما شابه! هذا الطعام الأزرق رائع للغاية. ممَّ يتكون؟»

قال مورس: «ليس لديَّ أي فكرة، لكني أعترف بأنه جيد جدًّا. خُذ المزيد.» كرَّر المعالج إشادته بالطعام، ثم توقَّف عن الكلام تعبيرًا عن تقديره له.

قال مورس محاولًا أن يبدو تلقائيًّا وغير مُرتبِك: «بمناسبة الحديث عن هذه الحكايات الرومانسية التاريخية، يُذكِّرني هذا بأمرٍ كنت أريد أن أسألك عنه عندما أخبرتك بأني أريد لقاءك.» ثم توقَّف عن الكلام ليأخذ نفسًا عميقًا.

رفع المعالج بصره بانتباه إلى مورس مُستمرًّا في تناوُل الطعام.

قال مورس: «في الحقيقة، لديَّ ابنة. أنت تعلم أني وفَّرت لها كل مزايا التعليم الراقي. تلقَّت محاضرات على يد كل مُحاضِر بارع في العالم، ولم تكتفِ بذلك، بل تعلَّمت عن بعدٍ الرقص، وآداب السلوك، وفن الحديث، والفلسفة، والنقد الفني.» وصنع إشارة بيده تشير إلى تعلُّمها الثقافة الكاثوليكية كذلك، مُضيفًا: «كنتُ أنوي تزويجها من أحد أفضل أصدقائي ويُدعى السيد بيندون من لجنة الإنارة. إنه رجل ذو جسد ضئيل ومظهر لا يُميِّزه شيء كما أن بعض تصرُّفاته مُثيرة للضيق، لكنه في الواقع رفيق ممتاز.»

قال المعالج: «نعم، استمِر. كم عمرها؟»

أجاب مورس: «ثمانية عشر عامًا.»

قال المعالج: «سنٌّ حرِجة، أليس كذلك؟»

قال مورس: «حسنًا، يبدو أنها مُنغمِسة في مشاهدة هذه الحكايات التاريخية الرومانسية على نحو مفرط لدرجة أنها أهملت دروسها في الفلسفة. لقد ملأت عقلها بهُراء لا يُوصَف عن جنود يُحارِبون. أتُراهم الإتروسكانيِّين؟»

ردَّ المعالج: «المصريون.»

استكمل مورس كلامه قائلًا: «المصريون. هذا احتمال مُرجَّح إلى حد كبير. هم يُلوِّحون بسيوف ومسدسات وأسلحة أخرى، ويُريقون الدماء بغزارة! أمرٌ فظيع! ملأت عقلها كذلك بشباب على متن سفن مُدمِّرة للطوربيدات ينسفون الإسبان — حسبما يُخيَّل لي — والمُغامِرِين الجامحِين من كل نوع، كما أصبحت مُقتنِعة بأنها يجب أن تتزوج عن حب، بينما ذلك المسكين بيندون …»

قال المعالج: «قابلتُ حالات مُشابِهة. من هو الشاب الآخر؟»

حافظ مورس على مظهره الهادئ قائلًا: «يمكنك أن تسأل عنه.» وانخفض صوته شاعرًا بالخزي: «إنه مُجرَّد عامل في المنصة التي تهبط فوقها الطائرات القادمة من باريس. وكما يقولون في الحكايات الرومانسية، فإنه شابٌّ وسيم وغريب الأطوار ويُؤثِّر فيه كل ما هو قديم. كما أنه يُجيد القراءة والكتابة، وهي كذلك تفعل. وبدلًا من التواصُل عبر الهاتف، مثل العقلاء من الناس، فإنهما يتراسلان فيما بينهما. ماذا تُسمِّي هذا؟»

قال المعالج: «رسائل؟»

قال مورس: «لا ليست رسائل، بل قصائد.»

رفع المعالج حاجبَيه في اندهاش قائلًا: «كيف التقَيا؟»

ردَّ مورس: «تعثَّرت وهي تنزل من طائرة قادمة من باريس لتقع بين ذراعَيه! لقد حدث الأمر المُؤسِف في لحظة!»

قال المعالج: «ثم؟» ردَّ مورس: «حسنًا. هذا كل ما في الأمر. يجب وضع حد لذلك. هذا ما أردت الحصول على مشورتك بشأنه. ما الذي يجب فعله؟ ما الذي يمكن فعله؟ أنا لست مُنوِّمًا مغناطيسيًّا بالطبع، ومعرفتي محدودة بهذا المجال، إنما أنت …»

قال الرجل ذو الزي الأخضر واضعًا كلتا ذراعَيه على الطاولة: «التنويم المغناطيسي ليس ضربًا من السحر.»

ردَّ مورس: «صحيح! لكن …»

استطرد المعالج: «لا يمكن تنويم الناس مغناطيسيًّا بدون موافقتهم. إذا كانت ترفض زواجها من بيندون، فسترفض الخضوع للتنويم المغناطيسي، لكن إذا أمكن تنويمها مغناطيسيًّا في إحدى المرات، حتى لو كان هذا بواسطة شخص آخر، فيمكن فعل ما تُريده.»

سأل مورس: «أيُمكِنك؟»

ردَّ المعالج: «بالطبع! بمُجرَّد أن تصبح سهلة الانقياد، يمكننا أن نقترح عليها ضرورة أن تتزوج من بيندون وأن هذا هو قدرها أو أن الشاب مُثير للاشمئزاز، وعندما ستراه، ستصاب بالدُّوار والإغماء أو أي شيء بسيط من هذا القبيل، أو إذا أمكننا إدخالها في حالة عميقة من الغشية، فنستطيع أن نقترح عليها نسيانه تمامًا.»

قال مورس: «بالضبط.»

أكمل المعالج: «لكن المشكلة هي إخضاعها للتنويم المغناطيسي. بالطبع لا يجب أن تقترح عليها الأمر لأنها لا تثق بك بدون شك فيما يتعلق بهذه المسألة.» ثم أسند رأسه على ذراعه وبدأ في التفكير.

قال مورس على نحو لا يُناسِب السياق: «من القسوة أن يُكرَه الأب على احتمال ابنته.»

قال المعالج: «يجب أن تُعطيني اسم وعنوان ابنتك وأي معلومات تتعلق بالموضوع. بالمناسبة، هل للمال أي دور في الأمر؟»

تردَّد مورس، ثم قال: «هناك مبلغ ما. في الحقيقة، هو مبلغ كبير استُثمِر في شركة «باتنت رود» بواسطة والدتها. هذا ما يجعل الأمر مُثيرًا للحنق.»

قال المعالج: «بالضبط.» وشرع في استجواب مورس في الموضوع بأكمله.

كانت مُقابَلة طويلة.

في نفس الوقت، كانت إليزابيث مورس — وتلك هي الطريقة التي كانت تنطق بها اسمها — أو «إليزابيث موريس» — بنطق القرن التاسع عشر — تجلس في صالة انتظار هادئة تحت المنصة العملاقة التي كانت تهبط عليها الطائرات القادمة من باريس، وبجانبها جلس حبيبها الرشيق الوسيم يلقي على مسامعها قصيدة كتبها في الصباح أثناء العمل. وعندما انتهى من إلقاء القصيدة، جلسا لبُرهة في صمت، لتهبط طائرة عظيمة قادمة من أمريكا ذلك الصباح كأنها جاءت خصِّيصَى من أجلهما.

كانت في البداية تبدو مُستطيلة الشكل وزرقاء باهتة وسط السُّحب البعيدة التي تبدو كأنها غُزِلت من الصوف، ثم ازداد حجمها بسرعة وأصبحت بيضاء؛ لتُصبِح أكبر حجمًا وأكثر بياضًا بمرور الوقت حتى أمكنهما رؤية صفوف الأشرِعة المُتفرِّقة التي يبلغ عرض كل منها مئات الأقدام والجسد النحيل الذي تحمله، وفي النهاية أصبحا قادرَين على رؤية مقاعد المُسافِرين المُتأرجِحة على هيئة صف من النقاط. ورغم أن الطائرة كانت تهبط، فقد بدت كما لو كانت ترتفع بسرعة، كما غطَّى ظلها أسطح المنازل التي تمر فوقها في المدينة. سمعت إليزابيث وحبيبها صفير الهواء المُندفِع وصافرة إنذارها بصوتها الذي يُشبِه الصراخ الحاد والمُتزايِد في الارتفاع، تُحذِّر من هم واقفون على منصة الهبوط المُعدَّة لوصولها. وفجأة انخفض الصوت انخفاضًا حادًّا حتى اختفى وأصبحت السماء صافية وخالية، لتلتفت إليزابيث مرة أخرى إلى حبيبها دينتون الجالس بجوارها، ناظرة إليه بعينَيها الجميلتَين.

زالت حالة الصمت الذي كان يُخيِّم عليهما وتحدَّث دينتون بلغة إنجليزية ركيكة، كانا يعتقدان أنها لغتهما الخاصة، رغم أن العشاق كانوا يستخدمون مثل هذه اللغات منذ فجر التاريخ، وأخبرها كيف أنهما أيضًا سيقفزان في الهواء صباح يومٍ ما ليتخطَّيا كل العقبات والصعوبات التي تُحيط بهما، ليطيرا إلى مدينة مُشمِسة مليئة بالمُتع في الجانب الآخر من العالم وتحديدًا في اليابان.

عشقتْ هذا الحُلم لكنها كانت تخاف من القفزة وكانت تُسكِته قائلة: «يومًا ما يا حبيبي. يومًا ما.» ردًّا على التماساته المتكررة بأن يفعلا هذا في أقرب وقت. وفي النهاية، سمع صوت صافرة مما يعني أنه يجب عليه العودة إلى عمله على المنصة. افترق الحبيبان كما اعتاد الأحِبة أن يفترقوا منذ آلاف السنين، ومشَت إليزابيث في ممرٍّ لتصل إلى مصعد يُؤدِّي إلى أحد شوارع لندن الحديثة المُغطَّاة بالزجاج بسبب الطقس وتحتوي على منصات مُتحرِّكة باستمرار تجوب كل أنحاء المدينة. ركبت إليزابيث إحدى هذه المنصات ذاهبة إلى منزلها في فندق «هوتيل فور ويمين» حيث كانت تعيش في الشقق السكنية التي تتصل من خلال الهاتف بأفضل المُحاضِرين حول العالم. لكن قلبها كان مُمتلئًا بضوء المنصة الطائرة، وبدا علم وحكمة كل المُحاضِرين في العالم أمرًا تافهًا بجانب هذا الضوء.

قضَت إليزابيث الجزء الأوسط من يومها في صالة الألعاب، وتناولت وجبة منتصف اليوم بصحبة فتاتَين أخريَين ووصيفة، حيث كانت عادة امتلاك فتيات الطبقات المُوسِرة اللاتي تُوفِّيت أمهاتهن وصيفةً لا تزال قائمة. استقبلت الوصيفة زائرًا ذلك اليوم، وكان مُكتسيًا زيًّا يجمع بين اللونَين الأصفر والأخضر وكان ذا وجه شاحب وعينَين ثاقبتَين ويتحدث بطريقة ساحرة. من بين ما تحدَّث فيه، شرع في الإشادة بحكاية رومانسية تاريخية جديدة كان قد قصَّها للتَّو أحد أشهر القصَّاصين. كانت الحكاية الرومانسية بالطبع تتحدث عن عصر الملكة فيكتوريا الذي اتسم برغد العيش. ومن بين الأمور الجديدة المُسلِّية، أن المُؤلِّف كان يُجري نقاشًا قبل البدء في كل فصل من القصة، فيما يُشبِه عناوين الفصول التي كانت في الكتب القديمة. على سبيل المثال: «كيف أوقَف سائقو سيارات الأجرة في حي بيملكو الحافلات العمومية الفيكتورية والشجار الكبير في ساحة القصر؟» و«كيف قُتِل شُرطي ميدان بيكاديلي أثناء عمله؟» أشاد ضيف الوصيفة المُكتسي باللونَين الأخضر والأصفر بهذا الإبداع الجديد قائلًا: «هذه الجمل البليغة تُثير الإعجاب؛ فهي تعرض لمحة من تلك الأيام المليئة بالاضطرابات عندما كان البشر والحيوانات يتدافعون في الشوارع القذرة، وكان الموت يتربص بالجميع عند كل زاوية. كانت الحياة حقيقية آنذاك بالفعل! لا بد أن العالم كان رائعًا حينها! يا لَلعظمة! كانت هناك أجزاء من العالم لم تكن قد استُكشِفت بعد. أما الآن، فقد زال جُل استغرابنا، ونعيش حياة على درجة بالغة من النظام والصرامة حتى إن الشجاعة والتحمُّل والوفاء وغير ذلك من القِيم النبيلة أخذت تتلاشى، على ما يبدو، من حياة البشر.»

واستمر الضيف على هذا المنوال مُستحوِذًا على انتباه الفتيات، حتى إن الحياة التي عِشْنها في لندن الواسعة والمُعقَّدة في القرن الثاني والعشرين والتي تتخللها رحلات طيران إلى كل جزء من أجزاء العالم، بدَت مُمِلة لدرجة يُرثى لها مقارنةً بالماضي المُثير والمليء بالمغامرات.

في البداية، لم تنضم إليزابيث للحديث لكن بعد فترة أصبح الموضوع مُثيرًا حتى إنها شارَكت في النقاش على استحياء، لكن الرجل، نادرًا ما كان يُلاحِظ وجودها أثناء حديثه، واستمر في وصف طريقةٍ جديدة للترفيه عن الناس وتسليتهم. كنَّ يستمعْن له كالمنومات مغناطيسيًّا، ثم أوحى لهن ببعض الأمور بمهارة شديدة حتى بدا لهن أنهن عُدن يعشن في الماضي مرة أخرى. لقد جسَّدن حكاية رومانسية قصيرة من الماضي على نحو مُفعَم بالحيوية يُحاكي الواقع، وعندما استيقظن في النهاية تذكَّرن كل شيء كما لو كنَّ قُمن بالمغامرة بالفعل.

قال المعالج بالتنويم المغناطيسي: «إنه أمرٌ سعَينا للقيام به لسنوات طويلة. يمكنكن أن تقُلن إن هذا كان أشبه بحلم صناعي، وقد أصبحنا أخيرًا قادرين على تحقيقه. أُريدُكن أن تتخيَّلن ما سيحدث إذا أُتيحَ لنا هذا بكل احتمالاته الكامنة؛ التجربة الثرية والمغامرة والهروب من هذه الحياة البائسة المليئة بالتناحر التي نعيشها! تخيَّلن!»

ردَّت الوصيفة بلهفة: «وأنت يمكنك فعل هذا!»

قال المعالج: «أخيرًا أصبح هذا مُمكِنًا. يمكنكن طلب الحلم الذي ترغبن فيه.»

كانت الوصيفة هي أول من خضع للتنويم، وكان الحلم جميلًا حسبما قالت عندما استيقظت.

تشجَّعت الفتاتان الأخريان بسبب حماس الوصيفة واستسلما للمعالج، وغرقتا في الماضي الرومانسي. لم يقترح أحد على إليزابيث أن تُجرِّب هذا النوع من التسلية؛ فقد ذهبت لأرض الأحلام بناءً على رغبتها أخيرًا حيث لا يُوجَد هناك حرية اختيار أو إرادة.

وحدث ما كان يُريده والدها.

في أحد الأيام، ذهب دينتون للمكان الهادئ الذي اعتاد الجلوس فيه مع إليزابيث، لكنه لم يجدها مما أصابه بالإحباط وانتابَه شيء من الغضب. وفي اليوم التالي، لم تحضر إليزابيث، وكذلك اليوم الذي يليه. أُصيبَ دينتون بالخوف، وحتى يُواري هذه المخاوف، بدأ في كتابة القصائد الشعرية لها لتقرأها عندما تعود.

لمدة ثلاثة أيام، قاوَم دينتون خوفه، ثم اتضحت له الحقيقة وضوح الشمس. ربما تكون إليزابيث مريضة أو ميتة، لكنه لم يكن ليُصدِّق أنها خانَته. قضى أسبوعه تعيسًا، ثم أدرك أنها هي الشيء الوحيد الذي يستحق امتلاكه في هذا العالم وأنه يجب عليه البحث عنها مهما كان البحث يائسًا حتى يعثر عليها مرة أخرى.

كان لدينتون موارده المالية الخاصة الضئيلة مما جعله يترك عمله في منصة الطائرات ليبحث عن الفتاة التي أصبحت كل شيء بالنسبة له. لم يكن يعرف أين تعيش أو الكثير عن حياتها، حيث كان جزءًا من سر لذة الرومانسية بالنسبة له ألَّا يعلمَ عنها شيئًا أو عن الفارق الاجتماعي بينهما. كانت طرق لندن مفتوحة أمام دينتون في الاتجاهات الأربعة. حتى عندما كانت لندن في العصر الفيكتوري يعيش فيها أربعة ملايين فقط من الفقراء، كانت المدينة عبارةً عن متاهة؛ أما لندن التي يعرفها في القرن الثاني والعشرين فيعيش فيها ثلاثون مليون شخص. في البداية، كان دينتون مُتحمِّسًا ومِقدامًا، ولم يكن لديه أي وقت للنوم أو تناوُل الطعام، حيث بحث عن إليزابيث لأسابيع وشهور، ومر بكل مراحل الإرهاق واليأس والغضب والحماس الزائد. وحتى بعد انطفاء شعلة الأمل بداخله، استمر في البحث مدفوعًا بالقصور الذاتي لرغبته في العثور على حبيبته ناظرًا في وجوه الناس في الشارع وباحثًا هنا وهناك؛ في الطرق والمصاعد والممرات التي لا تنتهي والتي تملأ خلية البشر اللامتناهية المُسمَّاة لندن.

وأخيرًا، حالَفه الحظ ورآها.

كان هذا خلال أحد المهرجانات. كان دينتون جائعًا وقد دفع المبلغ المطلوب ليدخل إلى إحدى قاعات تناوُل الطعام العملاقة في المدينة. كان يندفع بين الطاولات مُدقِّقًا النظر بحكم العادة في كل مجموعة من البشر يمر بها.

توقَّف دينتون فجأة كما لو كان قد شُل عن الحركة واتسعت عيناه وانفرجت شفتاه؛ فقد كانت إليزابيث تجلس على بُعد عشرين ياردة فقط منه وتنظر له مباشرة. كانت عيناها فاترتَين خاليتَين من أي تعبير مثل عينَي تمثال وكأنها لم تعرفه يومًا ما.

نظرت له للحظات ثم أدارت عينَيها.

لولا عيناها التي استند إليها في حكمه، لم يكن دينتون ليُصدِّق أنها إليزابيث. عرفها كذلك بسبب إيماءة من يدها وتلك الخصلة المُتموِّجة الجميلة التي كانت تُغطِّي أذنها عندما تُحرِّك رأسها. أخبرها رجل بجوارها بشيءٍ ما جعلها تلتفت مُبتسِمة له في تساهُل. كان الرجل صغير الجسد يرتدي ملابس سخيفة المنظر مُزخرَفة ذات بروز حتى بدا كسحلية غريبة المنظر لها قرون مليئة بالهواء. كان ذلك الرجل هو بيندون الذي اختاره والدها زوجًا لها.

للحظات، تسمَّر دينتون مشدوهًا ومذعورًا، ثم كان على وشك أن يفقد وعيه؛ ما دفعه للجلوس إلى إحدى الطاولات الصغيرة. جلس بحيث أصبح ظهره مُواجِهًا لها، ولبُرهة لم يجرؤ على النظر إليها مُجدَّدًا. وعندما استجمع شجاعته أخيرًا ليفعل هذا، كانت إليزابيث وبيندون وشخصان آخران يستعدُّون للرحيل. كان الشخصان الآخران هما والدها ووصيفتها.

جلس دينتون عاجزًا عن فعل أي شيء حتى ابتعد الأربعة ليقف وقد سيطرت عليه فكرة اللحاق بها. لفترة من الوقت، ظن أنه فقد أثرهم، ثم رأى إليزابيث ووصيفتها مرة أخرى في أحد الشوارع التي تملؤها المنصات المُتحرِّكة التي تتقاطع في سماء المدينة، لكن مورس وبيندون لم يكونا بصحبتهما.

لم يستطع دينتون السيطرة على نفسه، وشعر أنه يجب عليه التحدُّث معها فورًا أو الموت. اندفع إلى حيث جلستا وجلس بجانبهما، وكان وجهه الشاحب للغاية يرتعش بسبب الإثارة التي أوشكت أن تكون نوبة هستيرية.

وضع دينتون يده على مِعصمها قائلًا: «إليزابيث؟»

التفتت الفتاة إليه في دهشة صادقة ولم يظهر في عينَيها إلا الخوف من شخص غريب.

قال بصوت يُشبِه البكاء بدا غريبًا حتى بالنسبة له: «إليزابيث يا عزيزتي، هل تعرفين من أنا؟» لكن وجه إليزابيث لم يُظهِر إلا الحيرة والخوف وابتعدت عنه. مالت وصيفتها، وكانت سيدة صغيرة الحجم رمادية الشعر ذات ملامح سريعة التغيُّر، لتتدخل في الحديث وفحصت الشاب بعينَين فاتحتَي اللون تملؤهما الصرامة سائلة إياه: «ماذا تقول؟»

ردَّ دينتون قائلًا: «هذه السيدة الشابة تعرفني.»

وجَّهت الوصيفة كلامها إلى إليزابيث: «هل تعرفينه يا عزيزتي؟» لِترد الأخيرة بأنها لا تعرفه واضعة يدها على جبهتها كما لو كانت تُردِّد شيئًا ما لُقِّنت إياه: «لا، لا أعرف من هو. لا أعرفه.»

ردَّ دينتون: «لكن … لكن … إنه أنا. دينتون. دينتون الذي اعتدْتِ الحديث معه. ألا تذكُرين المنصات الطائرة؟ المقعد الصغير في الهواء الطلق؟ القصائد؟»

صرخت إليزابيث وظهر على وجهها ملامح الألم الشديد: «لا! لا أعرفه! لا أعرفه! هناك شيء ما. لا أدري! كل ما أعرفه هو أنني لا أعرفه!»

تنقَّلتْ عينا الوصيفة الثاقبتان بينهما قائلة وقد ظهر على شفتَيها ابتسامة تكاد لا تُلحَظ: «أترى؟ إنها لا تعرف من أنت.»

«لا أعرف من أنت! أنا متأكدة من هذا!»

«لكن يا عزيزتي … الأغاني … القصائد …»

قالت وصيفتها: «إنها لا تعرفك. توقَّف عن هذا. لقد ارتكبتَ خطأ، ويجب عليك ألَّا تُوجِّه حديثك إلينا أو تُضايِقنا في الطريق العام.»

قال دينتون وقد بدا وجهه المُنهَك على نحو بائس كما لو كان يستجدي القدر: «لكن …» لكن الوصيفة احتجَّت قائلة: «كُفَّ عن هذا أيها الشاب!»

صرخ دينتون: «إليزابيث!»

بدا وجه إليزابيث كما لو كانت تتعذب وصرخت: «لا أعرفك! أوَّاه! لا أعرفك!»

جلس دينتون للحظة مصعوقًا، ثم وقف وأصدر أنينًا عاليًا.

صنع دينتون حركة غريبة بيدَيه تجاه السقف الزجاجي المرتفع للطريق العام كأنه يُناشِد السماء، ثم استدار وبدأ في القفز بتهوُّر من منصة إلى أخرى واختفى وسط جموع الناس بينما تتبَّعته عينا الوصيفة، ثم نظرت في الوجوه التي كانت تنظر إليهم في فضول.

سألتها إليزابيث وهي تُشبك يدَيها وقد أثَّر فيها ما حدث لدرجة أنها لم تلحظ الناس من حولها: «عزيزتي، من هذا الرجل؟ من هذا الرجل؟»

رفعت الوصيفة حاجبَيها مُتحدِّثة بصوت واضح ومسموع: «شخصٌ أبله. لم أرَه من قبل.»

«مُطلَقًا؟»

«مُطلَقًا يا عزيزتي! لا تشغلي بالك بهذا الأمر.»

وبعد مرور وقت قصير على ما حدث، ذهب الشاب إلى المعالج الشهير بالتنويم المغناطيسي الذي كان مُكتسيًا باللونَين الأصفر والأخضر حيث دخل غرفة الفحص شاحبًا ومُشوِّشًا وصاح قائلًا: «أريد أن أنسى! يجب أن أنسى!»

طالَعه المعالج بعينَين هادئتَين وتفحَّص وجهه وملابسه وجِلسته قائلًا: «أن تنسى أي شيء سواء كان مُفرِحًا أو مُحزِنًا معناه أن تفقد جزءًا من ذاتك. على الرغم من ذلك، أنت أعلم بما يُصلِح حالك. كما أن أجري باهظ.»

ردَّ دينتون: «آهٍ، ليتني أستطيع النسيان!»

قال الرجل: «هذا سهلٌ جدًّا في حالتك، فأنت تُريده. لقد فعلت ما هو أصعب من هذا مُؤخَّرًا. لم أكن أتوقع فعله، كان هذا على غير رغبة الشخص الخاضع للتنويم. كانت فتاة في علاقة غرامية مثلك. لذا، اطمئن.»

جلس الشاب بجانب المعالج بالتنويم وكان في حالة هدوء اضطراري ونظر في عينَي الرجل: «سأخبرك. تُريد بالطبع أن تعرف ما الأمر. كان هناك فتاة تُدعى إليزابيث مورس …»

ثم توقَّف، وقد رأى المفاجأة على وجه الفتى. أدرك دينتون لحظتها ما حدث. ونهض دينتون وبدا في وضع سيطرة بالنسبة للرجل الجالس جانبه ثم أمسك بكتفَيه ولبُرهة من الزمن، لم يجد ما يقول.

ولما نجح أخيرًا في الكلام قال: «أعِدها لي! أعدها!»

«ماذا تعني؟»

«أعدها لي!»

«أعيد من؟»

«الفتاة، إليزابيث مورس!»

حاوَل المعالج تحرير نفسه من قبضة دينتون ووقف على قدمَيه لكن القبضة ازدادت إحكامًا.

صاح قائلًا: «اتركني!» دافعًا صدر الشاب بذراعه.

تحوَّل الأمر في لحظات إلى صراع أخرق بين الرجلَين. لم يحصل أي منهما على أدنى قدر من التدريب الرياضي، ويرجع هذا إلى أن الاهتمام الرياضي قد اختفى إلا لو كان لغرض المُراهَنات أو الاستعراضات، لكن دينتون لم يكن الأصغر سنًّا فحسب بل كان الأقوى. تدافَع كلا الرجلَين في أرجاء الغرفة ليسقط المعالج أرضًا تحت غريمه. لقد سقطا معًا.

قفز دينتون واقفًا على قدمَيه مرة أخرى، وقد بلغ الغضب به مبلغه، فيما ظل المعالج مطروحًا أرضًا وتدفَّق الدم على نحو مُفاجئ وسريع من خدش ضئيل في جبهته التي اصطدمت بأحد المقاعد، بينما وقف دينتون يرتجف ولا يدري ماذا عليه أن يفعل.

نما شعور بالخوف من عواقب ما حدث في عقل دينتون الذي تربَّى تربية دمِثة. استدار الشاب ناحية الباب ثم قال لنفسه بصوت عالٍ: «لا!» عائدًا إلى وسط الغرفة. بعد تغلُّبه على النفور الغريزي الذي يُصيب من لم يرَ أي عمل عنيف في حياته قط، جثا دينتون على ركبتَيه بجانب المعالج وتحسَّس قلبه ثم نظر إلى الجرح؛ ثم نهض بسرعة وتلفَّت حوله؛ وبدأ الموقف له يتضح أكثر.

وعندما استرد المعالج وعيه بعد قليل من الوقت، كان رأسه يُؤلِمه بشدة وكان ظهره مُستنِدًا إلى ركبتَي دينتون الذي كان يمسح وجه الرجل بإسفنجة.

لم يتحدث المعالج لكنه أشار بيده إلى الشاب ليكفَّ عن مسح وجهه ثم قال: «ساعِدني في النهوض.»

«ليس بعد!»

«لقد هاجمتَني أيها الوغد!»

«نحن بمفردنا والباب مُغلَق بإحكام.»

مرَّت فترة صمت.

استأنف دينتون حديثه قائلًا: «إذا لم أمسح جبهتك بالإسفنجة، فستظهر بها كدمة هائلة.»

«يمكنك الاستمرار في مسحها.»

ثم مرَّت فترة صمت أخرى.

ثم قال المعالج: «عنف! تطاحُن! نبدو كما لو كنا في العصر الحجري.»

«في العصر الحجري لم يكن هناك من يجرؤ على أن يحول بين رجل وامرأة.»

فكَّر المعالج مرة أخرى، ثم سأله: «ماذا تنوي أن تفعل؟»

«لقد وجدت عنوان الفتاة على ألواح الكتابة عندما كنتَ فاقدًا الوعي. لقد اتصلت بها هاتفيًّا وستأتي هنا عما قريب، وحينها …»

«ستجلب وصيفتها معها.»

«لا بأس.»

«لكن ما الذي …؟ لا أفهم. ما الذي تنوي فعله؟»

«لقد بحثت كذلك عن سلاح. من المدهش قلة الأسلحة هذه الأيام. إذا فكَّرت في العصر الحجري فستُدرِك أن البشر لم يمتلكوا آنذاك إلا الأسلحة. لقد عثرت أخيرًا على هذا المصباح ونزعت منه الأسلاك وغيرها وها أنا أُمسِك به.» ثم مدَّه على استقامة كتف المعالج مُضيفًا: «يمكنني تحطيم جمجمتك به بكل سهولة. وسأفعل هذا ما لم تفعل ما آمرك به.»

ردَّ المعالج: «العنف ليس حلًّا.» مُقتبِسًا ما قاله من كتاب «الأقوال المأثورة لإنسان العصر الحديث».

«إنه مرض لا يرغب فيه أحد.»

«حسنًا؟»

«ستُخبِر الوصيفة بأنك ستأمر الفتاة بأن تتزوج ذلك الرجل الفظ الضئيل الجسم ذا الشعر الأحمر والعينَين الضيقتَين. أعتقد أن هذا هو الموقف الصحيح، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«وأثناء تظاهُرك بهذا، ستُعيد ذاكرة الفتاة إليها لتتذكَّرني.»

«لكن هذا مُنافٍ لأخلاقيات المهنة!»

«انظر! أنا أُفضِّل الموت على عدم الحصول على تلك الفتاة. لا أنوي احترام أوهامك الحقيرة. إذا لم يمر الأمر على ما يُرام، فلن تعيش خمس دقائق. هذا سلاح مُرتجَل وبسيط، لكنه ربما يُسبِّب لك الكثير من الألم قبل أن يقتلك. لكني سأفعل هذا. أعلم أنه من غير المعتاد فعل ذلك هذه الأيام؛ وهذا يرجع في الأساس إلى أنه لا يُوجَد الكثير في الحياة مما يستحق ارتكاب العنف من أجله.»

«ستراك الوصيفة فور مجيئها.»

«سأقف في الفجوة التي تقع خلفك.»

فكَّر المعالج قائلًا: «أنت شابٌّ ذو عزيمة وهمجيٌّ إلى حدٍّ ما. لقد حاوَلت القيام بواجبي تجاه أحد عملائي، لكن هذه المرة يبدو أن الأمور ستسير كما تُريد أنت.»

«تقصد أنك ستتعامل مع الأمر بلا خداع.»

«لن أُخاطِر بحياتي بسبب أمر تافه كهذا.»

«وبعد ذلك؟»

«لا يُوجَد ما يكرهه الطبيب أو المعالج بالتنويم المغناطيسي بقدر كُرهه للفضيحة. في النهاية، أنا لستُ همجيًّا. أشعر بالضيق فعلًا، لكن في خلال يوم أو يومَين سأنسى كل شيء.»

«شكرًا لك. أمَا وقد وصلنا إلى تفاهُم، فليس ثمة داعٍ لأن تظل جاثيًا على الأرض.»

(٢) الريف المهجور

يقولون إن العالم تغيَّر في الفترة بين عامَي ١٨٠٠ و١٩٠٠ أكثر مما تغيَّر خلال الخمسمائة عام التي سبقتها. كان القرن التاسع عشر فجر عهد جديد في تاريخ البشرية؛ حقبة المدن الكبرى ونهاية النظام القديم للحياة في الريف.

في بداية ذلك القرن، كان أغلبية البشر ما زالت تعيش في الريف كما اعتاد من قبلهم آلاف الأجيال. عاش البشر في العالم بأجمعه حينذاك في مدن وقرًى صغيرة، وعملوا إما بشكل مباشر في الزراعة وإما في مهن ذات صلة بها. كانوا نادرًا ما يسافرون، وكانوا يعيشون بالقرب من مكان العمل؛ لأنه لم تكن ثمة وسائل مواصلات سريعة قد ظهرت بعد. والقلة القليلة من الناس الذين كانوا يسافرون كانوا يفعلون ذلك سيرًا على الأقدام أو على متن السفن البطيئة أو الخيول التي لا تقوى على السفر أكثر من ستين ميلًا في اليوم! تخيَّلوا، ستين ميلًا فقط في اليوم! في تلك الأيام التي تتسم بالبطء في كل شيء، كانت ثَمة مدن في أماكن مُتفرِّقة تتزايد مساحتها على نحو يفوق جاراتها باعتبارها موانئ أو مراكز للحكم، لكن جميع المدن حول العالم التي كان يقطنها أكثر من مائة ألف شخص كانت تُعَد على الأصابع. هكذا كان الحال في بداية القرن التاسع عشر. أما في نهايته، فقد أدَّى اختراع السكك الحديدية والتلغراف والسفن البخارية والآلات الزراعية مُعقَّدة التركيب إلى تغيير كل هذا تغييرًا لا رجعة فيه. ففجأة أصبحت المَتاجر الكبرى والملذات المُتنوِّعة ووسائل الراحة التي لا حصر لها متاحةً في المدن الكبرى، ولم يمرَّ وقت طويل على ظهورها حتى أصبحت تُنافِس الموارد المنزلية في المراكز القروية. انجذب البشر إلى المدن أكثر وانخفض الطلب على العمالة بسبب الآلات واختفت الأسواق المحلية تمامًا، وحدث نمو سريع في المراكز الكبرى على حساب الريف.

كان تدفُّق الناس إلى المدن هو دائمًا ما يشغل كُتاب العصر الفيكتوري باستمرار. لُوحِظ هذا الأمر في بريطانيا العظمى ونيو إنجلاند، وفي الهند والصين كذلك. في كل مكان، كان هناك عدد من المدن الآخذة في النمو تحل محل النظام القديم في العيش، وأصبح ذلك شيئًا ملحوظًا. وكونُ هذا نتيجة حتمية لتحسُّن وسائل السفر والانتقال وظهور وسائل انتقال أكثر سرعة شيءٌ لم يُدرِكه سوى القلة القليلة؛ وصُنِعت خُطط لا طائل من ورائها للتغلُّب على الجاذبية الغامضة للمراكز الحضرية ومحاولة إبقاء الناس في الريف.

مع ذلك، فإن تطوُّرات القرن التاسع عشر كانت مُجرَّد بداية نظام جديد. كان الجيل الأول من المدن الكبرى غير مُريح على الإطلاق وكانت سماء تلك المدن مُعتِمة بسبب الدخان والضباب ومليئة بالضوضاء وتفتقر إلى الجو الصحي، لكن كل هذا تغيَّر مع اكتشاف طرق جديدة للبناء والتدفئة. بين عامَي ١٩٠٠ و٢٠٠٠، كان إيقاع التغيُّر أسرع وتيرة من ذي قبل؛ وأما بين عامَي ٢٠٠٠ و٢١٠٠ فقد جعل التطوُّر البشري المُتسارِع عهد الملكة فيكتوريا الفاضلة في النهاية كما لو كان مُجرَّد خيال صعب التصوُّر عن أيام شاعرية هادئة.

كان ظهور السكك الحديدية أول خطوة في تطوُّر وسائل المواصلات التي أدَّت أخيرًا إلى إحداث ثورة في حياة الإنسان. وبحلول عام ٢٠٠٠، اختفت السكك الحديدية والطرق تمامًا. أصبحت السكك الحديدية بعد نزع القضبان منها مُجرَّد نتوءات وحُفَر مليئة بالحشائش تُشوِّه وجه العالم. واستُعيض عن الطرق القديمة — تلك المساراتُ الغريبة البدائية التي كانت تُصنَع من التراب وصخر الصوَّان والتي طُرِقت يدويًّا أو سُوِّيت بأسطوانات حديدية خشنة السطح وغطَّتها القذارات المختلفة، وحوَّلتها الحوافر الحديدية للحيوانات إلى حُفَر وآثار في الأرض يبلغ عمقها بضع بوصات — بمسارات حديثة مصنوعة من مادة تُسمَّى «إيدهامايت» نسبة لاسم مُخترِعها، إيدهام، والتي تُعتبَر، بالإضافة إلى اختراع الطباعة والمُحرِّك البخاري، أحد الاكتشافات التي شكَّلت تلك الحقبة الجديدة من تاريخ البشرية.

عندما اكتشف إيدهام هذه المادة، كان على الأرجح يظن أنها مُجرَّد بديل رخيص للمطاط حيث كانت تبلغ تكلفة الطن بضعة شلنات فقط. لكن لا يمكن التكهُّن بمزايا أي اكتشاف. كان الفضل في اكتشاف إمكانية استخدام تلك المادة يرجع لرجل عبقري يُسمَّى وورمينج ليس فقط من أجل إطارات السيارات بل كمادة لصنع الطرق؛ وهو الشخص الذي وضع نظامًا للشبكة العملاقة من الطرق العامة التي سرعان ما غطَّت العالم.

كانت تلك الطرق العامة مُقسَّمة طوليًّا لعدة مسارات؛ كان أبعدها للخارج مُخصَّصًا للسائرين على أقدامهم ووسائل النقل التي تسير بسرعة تقل عن ٢٥ ميلًا في الساعة، أما الوسطى فكانت مُخصَّصة للسيارات التي يمكن أن تصل سرعتها إلى مائة ميل، وأما المسارات الداخلية فخصَّصها وورمينج للمركبات التي تسير بسرعات تصل إلى مائة ميل في الساعة أو تزيد عن ذلك (معرِّضًا نفسه بذلك لقَدرٍ هائل من السخرية والتهكُّم).

لمدة عشر سنوات، كانت المسارات الداخلية التي صنعها وورمينج شاغرة، لكن قبل موته، أصبحت أكثر المسارات ازدحامًا، وكانت تسير فيها السيارات ذات الهياكل الكبيرة الخفيفة والإطارات التي يصل قطرها إلى عشرين أو ثلاثين قدمًا بسرعات زادت تدريجيًّا كل عام لتصل إلى مائتَي ميل في الساعة، وبانتهاء هذه الثورة، حدثت ثورة مُوازية غيَّرت وجه المدن التي لم يتوقف اتساعها. قبل تطوُّر العلوم التطبيقية، كان الضباب والقذارة المُميِّزان للعصر الفيكتوري قد اختفيا. حلَّت التدفئة بالكهرباء محل النار (كان إشعال نار عام ٢٠١٣ تبعث دخانًا تهمة يُعاقِب عليها القانون)، كما كانت كل طرق المدينة والميادين والساحات العامة مُغطَّاةً بمادة اختُرعت حديثًا تُشبِه الزجاج. ازداد ارتفاع أسطح المنازل في لندن على نحو مُستمِرٍّ وأُلغِيت قوانين حمقاء وضيقة الأفق كانت تمنع بناء الأبنية المرتفعة، وامتلأتْ سماء المدينة بالأبنية المرتفعة بعد أن كانت مليئة بالبيوت القصيرة الصغيرة ذات التصميمات غير المُميَّزة التي عفا عليها الزمن. وأُضيفَ مرفق آخر لمرافق الماء والإنارة والصرف الصحي وهو مرفق التهوية.

لكن سرد كل التغيُّرات التي حدثت في وسائل الراحة للبشر خلال هذَين القرنَين، واختراع الطائرات الذي كان مُتوقَّعًا منذ زمن طويل، ووصف الكيفية التي حلَّت بها الحياة في الفنادق التي لا حصر لها محل الحياة في المنازل، وكيف أن أولئك الذين كانوا لا يزالون مُهتمِّين بالعمل في الزراعة انتقلوا للعيش في المدن وكانوا يذهبون ويعودون يوميًّا من عملهم إلى مكان سكنهم، وكيف أنه لم يتبق في إنجلترا كلها سوى أربع مدن فقط تحوي ملايين البشر، وكيف أنه لم تعد هناك بيوت مأهولة في الريف؛ كل هذا من شأنه أن يُبعِدنا عن قصتنا الرئيسية المُتعلِّقة بدينتون وإليزابيث. لقد تفرَّقا ثم التقَيا مرة أخرى، لكنهما لم يقدِرا على الزواج لأن دينتون لم يكن يملك المال الكافي؛ وكذلك فإن إليزابيث التي كانت في الثامنة عشرة لم تكن لتملك المال إلا حينما تبلغ سن الحادية والعشرين عندما ترث جميع ممتلكات والدتها كعادة ذلك الزمن. لم تكن إليزابيث تعلم أن هذا ممكن، وكان دينتون خجولًا لدرجة لا يستطيع معها ذكر أمر كهذا؛ لذا أصبحت العلاقة بينهما يائسة. صرَّحت إليزابيث بأنها غير سعيدة وأن دينتون هو الوحيد الذي يفهمها، وأنها عندما كانت بعيدة عنه كانت حياتها بائسة، بينما قال دينتون إنه كان يشتاق إليها ليلَ نهار. وكان دينتون وإليزابيث يلتقيان كلما استطاعا ليستمتعا بنقاش آلامهما معًا.

التقى دينتون وإليزابيث ذات يوم في المقعد الصغير الذي اعتادا الجلوس فيه في منصة الطيران. كان مكان لقائهما المعتاد في العصر الفيكتوري هو بالتحديد نقطة اتجاه شارع ويمبلدون إلى الحديقة العامة، لكنهما كانا يجلسان فوق سطح الأرض بنحو خمسمائة قدم وكان مقعدهما يُطِل على لندن. من الصعب أن تصف هذا المنظر لقارئ ينتمي إلى القرن التاسع عشر، حيث سيتعيَّن عليك أن تطلب منه أن يتخيل قصر الكريستال أو الفنادق الهائلة التي بُنِيت مُؤخَّرًا أو محطات السكك الحديدية الكبرى وقد تضخَّمت هذه الأبنية بنسب هائلة وأن تطوفا معًا على نحو مُستمِر فوق المنطقة الحضرية في لندن. فإذا سمع أحد مُواطِنِي لندن في القرن التاسع عشر أن أسطح تلك البنايات تحمل غابة ضخمة من دوَّارات الرياح، كان بالكاد سيبدأ في إدراك شيء مما كان يُمثِّل لدينتون وإليزابيث منظرًا مألوفًا في حياتهما.

بالنسبة للعاشقَين، كان المنظر يُمثِّل سجنًا بطريقة ما أو بأخرى، وكانا يتحدثان كما تحدَّثا من قبلُ مئاتِ المرات، وكيف أنهما ربما يهربان من هذا السجن ليعيشا معًا في سعادة قبل أن تنتهي السنوات الثلاث المُتبقِّية لإليزابيث لترث ممتلكات والدتها. كانا مُتفِقين على أن الانتظار مدة ثلاث سنوات ليس أمرًا مُستحيلًا فحسب بل أمر فظيع أيضًا. قال دينتون بصوت يُوشي بالصحة والفتوة: «ربما لا نعيش حتى تنتهي تلك السنوات الثلاث!»

تشبَّثت يدا كل من العاشقَين الشابَّين بيدَي الآخر، ثم تدفَّقت الدموع من عينَي إليزابيث الواسعتَين على خدَّيها المُشعين بالحيوية عندما فكَّرت في أمر أكثر إثارة للمشاعر، وقالت: «أحدنا. ربما يكون أحدنا …» ثم اختنق صوتها ولم تقدر على قول الكلمة الفظيعة للغاية بالنسبة لعاشقَين شابَّين.

لكن في ذلك الوقت كان الزواج والفقر في آن واحد — بالنسبة لأي شخص اعتاد العيش المُترَف — أمرًا مُروِّعًا للغاية. في الأزمنة الغابرة التي كان يعمل فيها البشر في الزراعة بنهاية القرن الثامن عشر، كان ثَمة مَثل معروف عن الحب في الكوخ، وبالفعل، فإن فقراء ذلك العصر ممن كانوا في الريف كانوا يعيشون في أكواخ مُغطَّاة بالزهور ونوافذها مُعيَّنة الشكل ومصنوعة من الجِصِّ والقش وكان يُحيط بهم النسيم العليل والأرض تمتد من حولهم في كل اتجاه تتوسَّطها الشُّجَيرات المُتشابِكة حيث يستمعون إلى زقزقة العصافير وتعلوهم السماء المُتغيِّرة دائمًا، لكن كل هذا تغيَّر (كان التغيير قد بدأ بالفعل في القرن التاسع عشر)، وظهر نوع جديد من الحياة بالنسبة للفقراء في الأحياء الوضيعة في المدينة.

في القرن التاسع عشر، كانت الأحياء الفقيرة لا تزال في العراء، وكانت عبارة عن مساكن بسيطة بُنِيت على طين أو أي نوع آخر من التربة غير المناسبة؛ لتكون بذلك عرضة للانهيار بفعل الفيضانات أو عرضة للدخان من الأحياء الأوفر حظًّا، كما كانت لا تمتلك ما يكفي من المياه، وكانت معايير النظافة تتوافر فيها بقدر ما يسمح به خوف الأغنياء من الأمراض المُعدِية فقط. رغم ذلك، في القرن الثاني والعشرين، أدَّى ازدياد عدد طوابق الأبنية في المدينة ومُتاخَمة تلك الأبنية بعضها بعضًا إلى ترتيبات مختلفة. أصبح الأغنياء المُترَفون يعيشون في سلسلة مُترامِية الأطراف من الفنادق الفخمة في الأدوار العليا والقاعات المرتفعة التي تُكوِّن المدينة، بينما عاش عمال المصانع في الطابق الأرضي وما تحت الأرضي، أو في قبو المدينة إن جاز التعبير.

في ظل هذا التحسُّن في أسلوب الحياة والسلوكيات، لم يختلف أفراد الطبقات الدنيا تلك اختلافًا كبيرًا عن أسلافهم من سكان الطرق الشرقية في لندن في عصر الملكة فيكتوريا، لكن أصبح لهم لهجتهم الخاصة بهم. عاش ومات من ينتمون لتلك الطبقات الدنيا تحت الأرض ولم يصعدوا إلى سطح المدينة إلا نادرًا عندما كان يقتضي العمل ذلك. وبما أن معظمهم وُلِد في هذه الظروف، لم يجدوا مشكلة في عيش هذه الحياة لكن بالنسبة لدينتون وإليزابيث، فإن هذا الانحدار بدا أسوأ من الموت ذاته.

سألت إليزابيث: «هل ثمة سبيل آخر؟»

اعترف دينتون بأنه لا يدري. فبغضِّ النظر عن كياسته، فإنه لم يكن مُتأكِّدًا كيف ستنظر إليزابيث لفكرة الاقتراض بضمان الميراث الذي سيئول إليها.

قالت إليزابيث إن السفر من لندن وحتى باريس يفوق إمكانياتهما؛ كما أنه في باريس، مثل أي مدينة أخرى في العالم، ستكون الحياة مُكلِّفة ومُستحيلة مثل لندن.

أوشك دينتون على الصراخ بأعلى صوته قائلًا: «ليتنا كنا نعيش في تلك الأيام يا عزيزتي! ليتنا كنا نعيش في الماضي!» حتى إنهما كانا ينظران إلى حي «وايت تشابل» في شرق لندن في القرن التاسع عشر بمنظور رومانسي.

صرخت إليزابيث فجأة ثم بدأت تنتحب: «أليس هناك من حل؟ هل يجب علينا حقًّا الانتظار لثلاثة أعوام؟ تخيَّل الانتظار ستة وثلاثين شهرًا!» لم يزِد صبر البشر بتقدُّم الزمن!

كان دينتون على وشك الإفصاح عن أمرٍ كان يجول في ذهنه. كان ما يُفكِّر فيه قد خطر بباله؛ وبدا له اقتراحًا جامحًا لدرجة أنه لم يُعِره انتباهه الكامل، لكن التفوُّه بفكرة دائمًا ما يجعلها أكثر واقعية ومُحتمَلة الحدوث أكثر مما كانت تبدو عليه من قبل. وهو ما حدث مع دينتون.

قال دينتون: «ماذا لو انتقلنا للعيش في الريف؟»

نظرت له لتتأكَّد مما إذا كان جادًّا في هذا الاقتراح.

«الريف؟»

«نعم. بعيدًا في الريف خلف التلال.»

«كيف يمكننا العيش؟ وأين سنعيش؟»

«الأمر ليس مُستحيلًا. اعتاد البشر العيش هناك.»

«لكن كانت هناك بيوت.»

«يُوجَد الآن أطلال القرى والبلدات القديمة. لقد اختفت في الأراضي الطينية بالطبع. لكنها ما زالت موجودة على الأراضي العشبية؛ إذ إنه من غير المُفيد لشركة الأغذية إزالتها. أنا مُتأكِّد من هذا، ناهيك عن أنه يمكن رؤيتها من نوافذ الطائرات كما تعرفين. يمكننا اتخاذ مأوًى في أي من تلك الأطلال وترميمه بأنفسنا. الأمر ليس غريبًا كما يبدو. يمكن دفع المال لبعض من يخرجون كل يوم من أجل الاعتناء بالمحاصيل وقطعان الماشية كي يجلبوا لنا الطعام.»

وقفت إليزابيث أمام حبيبها: «سيكون أمرًا غريبًا بحق إذا أمكننا فعل هذا!»

«ولمَ لا؟»

«لا أحد يجرؤ على فعله.»

«هذا ليس سببًا كافيًا.»

«كم سيكون هذا رومانسيًّا للغاية وغريبًا. ليته كان ممكنًا!»

«ولمَ لا يكون كذلك؟»

«هناك العديد من الأسباب. فكِّر في كل ما لدينا حاليًّا، وما سنفتقده.»

ردَّ دينتون مُستنكِرًا: «ما الذي سنفتقده؟ رغم كل شيء، حياتنا الحالية غير حقيقية؛ حياة زائفة للغاية.» ثم بدأ في تفسير فكرته أكثر. ومع ازدياد حماسه في شرح ما لديه، زالت الغرابة المبدئية عن اقتراحه.

فكَّرت إليزابيث قائلة: «لكني سمعت أن الريف مليء باللصوص والمُجرِمين الهاربين.»

أومأ دينتون برأسه، ثم تردَّد قبل أن يُجيب حتى لا يبدو ما سيقوله صبيانيًّا؛ ثم قال وقد احمَّرت وجنتاه: «يمكنني أن أطلب من شخص أعرفه أن يصنع لي سيفًا.»

نظرت إليزابيث له بنظرات ازداد فيها الحماس. لقد سمعت بالسيوف ورأت أحدها في متحف، فكَّرت في تلك الأيام الغابرة عندما كان من المعتاد للرجال حمل السيوف. بدا اقتراح دينتون حلمًا مُستحيلًا بالنسبة لها وربما هذا ما جعلها مُتشوِّقة لمعرفة المزيد من التفاصيل. وباختلاق دينتون لمعظم التفاصيل أثناء شرحه لاقتراحه، أخبرها بأنه يمكنهما العيش في الريف كما كان يعيش الناس قديمًا. نما حماس حبيبته مع كل تفصيلة يذكُرها حيث إنها كانت من تلك الفتيات التي كانت المغامرة والرومانسية تُثير خيالهن.

يمكنني القول إن اقتراح دينتون بدا كحُلم مُستحيل الحدوث ذلك اليوم، لكن في اليوم التالي تحدَّثا بشأنه مرة أخرى وبشكل غريبٍ بدا الاقتراح أقل استحالة.

قال دينتون: «في البداية، يمكننا اصطحاب كمية من الغذاء تكفينا لعشرة أيام أو اثنَي عشر يومًا.» في ذلك العصر، انتشر الطعام الصناعي المُعلَّب وكان هذا أمرًا ممكنًا على عكس ما كان سيُصبِح عليه الحال لو كان دينتون اقترح شيئًا كهذا في القرن التاسع عشر.

تساءلت إليزابيث: «لكن أين سننام حتى يكون بيتنا جاهزًا؟»

«إنه فصل الصيف.»

«ماذا تعني؟»

«مرَّ وقت لم يكن فيه أي بيوت وكان البشر ينامون في العراء.»

«لكن بالنسبة لنا … العراء! لا جدران أو أسقف!»

«عزيزتي، لندن بها العديد من الأسقف الجميلة زخرفها فنانون ورصَّعوها بالأضواء، لكني رأيت سقفًا أجمل من أي سقف في لندن.»

«أين؟»

«السقف الذي يمكن أن يكون تحته شخصان بمفردهما.»

«أتعني …؟»

«إنه أمرٌ نسيه العالم يا عزيزتي. هذا السقف هو السماء والنجوم التي تحويها.»

كانا عندما يتحدثان كل مرة يبدو الأمر أكثر احتمالية وجاذبية بالنسبة إلى العاشقَين. وفي خلال أسبوع أو ما يُقارِبه، أصبح الأمر ممكنًا إلى حد كبير. بعد مرور أسبوع آخر، أصبح انتقالهما إلى الريف أمرًا حتميًّا يجب القيام به. استحوذ عليهما حماس شديد للانتقال إلى الريف، قائلين بأن ضوضاء وقذارة المدينة أصبحتا فوق احتمالهما. وتعجَّب دينتون وإليزابيث بأن هذه الطريقة البسيطة لحل مشكلاتهما لم تخطر على بالهما من قبل.

في صباح أحد أيام منتصف الصيف، ترك دينتون العمل في منصة الطائرات وحلَّ موظف جديد صغير الرتبة مكانه.

تزوَّج بطلانا الشابَّان سرًّا، ومضيا قدمًا في شجاعة في تنفيذ خطتهما بترك المدينة التي عاشا فيها وعاش فيها أسلافهما من قبلهما. ارتدَت إليزابيث فستانًا جديدًا بتصميم قديم، بينما كان دينتون يحمل مجموعة من علب الأطعمة على ظهره ويُخفي تحت عباءته القرمزية في خجل سلاحًا قديم الشكل مقبضه على شكل صليب ومصنوع من الفولاذ.

تخيَّلوا هذا! ضواحي لندن في العصر الفيكتوري المُمتدة بشكل عشوائي بطرقها المُتَّسِخة، والبيوت الصغيرة، والحدائق المُهمَلة المليئة بالشجيرات، ونباتات إبرة الراعي، والخصوصيات التافهة الزائفة لمن فيها قد اختفت؛ أما الأبنية الشاهقة الحديثة والطرق الآلية ومرافق المياه والكهرباء فقد انهارت فجأة كانهيار جدار أو مُنحدَر يبلغ ارتفاعه أربعمائة قدم. كانت تنتشر حول المدينة حقول الجَزر واللفت السويدي واللفت التقليدي التابعة لشركة الأغذية حيث كانت الخضراوات أساسًا للآلاف من أنواع الأغذية كما استُؤصِلت الحشائش النباتية تمامًا. قضَت شركة الأغذية على التكلفة التي لا تتوقَّف عامًا بعد عام جرَّاء إزالة الحشائش الضارة في أيام الزراعة القديمة التي كانت تتَّسم بالفوضى والهدر والبُدائية عن طريق حملات الإبادة. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك صفوف مُرتَّبة من شجيرات العليق وأشجار التفاح بسيقان مُورِقة تقطع الحقول، كما كانت هناك مجموعة هائلة من نباتات الممشقة بأشواكها المُميَّزة. كان هناك أيضًا آلات زراعية ضخمة تقبع تحت أغطية مُضادَّة للمياه. وكانت المياه المُمتزِجة لأنهار «واي» و«مول» و«واندل» تجري في قنوات مُستطيلة الشكل؛ وحيثما كان يسمح ارتفاع بسيط في الأرض كانت نافورة من مياه الصرف التي أُزيلت رائحتها الكريهة تروي مختلف أجزاء الأرض الزراعية وتصنع قوس قزح عند التقائها بضوء الشمس.

بجوار أحد الطرق المُقنطَرة الكبيرة في الحائط العظيم للمدينة، بزغ طريق مصنوع من الإيدهامايت يُؤدِّي إلى بورتسموث. كان هذا الطريق يعجُّ في الصباح بأعداد كبيرة من عمال شركة الأغذية ذوي الملابس الزرقاء المُتجِهين إلى عملهم. كانت حركة المرور سريعة حتى بدا بطلانا بجانبها كنقطتَين تتحرَّكان بالكاد. وفي المسارات الخارجية من الطريق، كانت تسير السيارات العتيقة البطيئة تطنُّ وتقعقع بينما هي مُتجِهة لمهمات ضمن نطاق عشرين ميلًا أو ما يُقارِبها من حدود المدينة؛ وأما المسارات الداخلية فكانت مليئةً بآلات سير أضخم عبارة عن دراجات سريعة أحادية العجلات تحمل مجموعات من الرجال، ودراجات رفيعة مُتعدِّدة العجلات، ودراجات رباعية العجلات تنوء بأحمال ثقيلة، وعربات محاصيل ضخمة فارغة تعود ملآنة قبل غروب الشمس؛ وكان جمعيها يسير بمُحرِّكات تخفق بقوة وعجلات صامتة لا تُحدِث ضجيجًا وسط ضجيج مسعور سرمدي من أصوات الأبواق والنواقيس.

كان بطلانا الشابان المُتزوِّجان حديثًا يمشيان في صمت على حافة الطريق الخارجي، خَجِلين من صحبة بعضهما بعضًا على نحو يُثير الاستغراب. كان مظهرهما وهما يسيران على قدمَيهما في طريق إنجليزي شيئًا غير مألوف بالنسبة لمن يعيشون في عام ٢١٠٠ مثلما كانت ستُثير السيارة استغرابًا لدى من كانوا يعيشون في عام ١٨٠٠، مما جعل الناس يصيحون فيهما بأشياء كثيرة، لكنهما مضَيا بنظرات مُصمِّمة تجاه الريف غير عابئَين بما يُقال.

وبينما هما يتجهان جنوبًا، ظهرت المنحدرات أمام دينتون وإليزابيث حيث كانت زرقاء في البداية ثم تحوَّلت إلى اللون الأخضر كلما اقتربا منها، يعلوها صفٌّ من دوَّارات الرياح العملاقة مُكمِّلة لدوَّارات الرياح التي تعلو أسقف بنايات المدينة، وبدَتْ تلك المنحدرات كما لو كانت ضجِرةً ومُتملمِلةً من الظلال الطويلة التي ترميها تلك الدوَّارات في الصباح. وبانتصاف اليوم، كانا قد اقتربا، حتى إنه كان يمكنهما رؤية رُقَع صغيرة من النقاط الشاحبة هنا وهناك؛ وهي الخِراف التي كان يمتلكها قسم اللحوم في شركة الأغذية. مرَّت ساعة أخرى تجاوَزا فيها الأرض الطينية والخضراوات الجذرية والسياج الوحيد الذي كان يُطوِّقها، كما لم تعد علامة التحذير من المشي على الأرض الزراعية موجودة، وكان الطريق المُمهَّد بكل ما يحتويه من سيارات ينتهي عند مرج، بدآ المشي فوقه إلى منحدر التل المُمتد أمامهما.

لم يحدث من قبل أن أصبح فتًى وفتاة من تلك العصور الحديثة بمفردهما في مثل هذا المكان المهجور.

كان كلاهما جائعًا ومُتقرِّحَ القَدم من المشي — حيث كان المشي تمرينًا قلَّما يُمارِسه أحد — وجلس كلاهما على أرض قُصَّت الأعشاب فيها حتى أصبحت قصيرة جدًّا وأُزيلت منها الحشائش الضارة، ونظرا إلى الوراء ناحيةَ المدينة لأول مرة منذ أن تركاها حيث بدَت شاسعةً ولامعةً على نحو رائع وسط الضباب الأزرق لوادي التيمز.

كانت إليزابيث خائفة نوعًا ما من الخِراف التي ترعى بحريتها على المنحدر — إذ لم تقترب قبلًا من حيوانات طليقة كبيرة الحجم — لكن دينتون طمأنها. وفوق رأسَيهما رفرف طائر أبيض الجناحَين في السماء الزرقاء.

لم يتحدث العاشقان معًا إلا قليلًا حتى تناوَلا الطعام، لتنفكَّ عقدة لسانهما. تحدَّث دينتون عن السعادة التي كانا يشعران بها بكل تأكيد وعن مَدى حمقهما لعدم هروبهما سريعًا من سجن الحياة الحديثة وعن الأوقات الرومانسية التي اختفت من العالم للأبد، ثم انتابت دينتون نوبة من التباهي وأخرج سيفه ووضعه جانبه أرضًا لتأخذه إليزابيث وتُمرِّر إصبعًا مُرتعِشًا على امتداد نصله.

«أيمكنكَ رفع هذا وضرب أحدهم به؟»

«ولمَ لا؟ إذا دعَت الحاجة إلى هذا.»

قالت وقد انخفض صوتها: «لكن يبدو هذا مُروِّعًا. سيقطع، ستسيل الدماء.»

«في الحكايات الرومانسية القديمة التي قرأت منها الكثير …»

قاطَعته: «نعم أعرف. في تلك الحكايات، نعم. لكن هذا أمرٌ مختلف فالكل يعرف أنه ليس دمًا بل نوعًا من الحبر الأحمر. أما أنت فستقوم بالقتل!»

ثم نظرت له بارتياب، وأعادت له السيف.

بعد أن تناوَلا الطعام وحصلا على قسط من الراحة، نهضا ليستكملا طريقهما ناحية التلال، مارَّيْن بالقرب من قطيع من الخراف التي نظرت لهما، ثم أصدرت ثُغاءها بسبب عدم اعتيادها على رؤية أشخاص غير مألوفين مثل هذَين؛ كما لم تكن إليزابيث قد رأتْ خرافًا من قبل وارتجفت لما فكَّرت أن هذه المخلوقات الرقيقة تُذبَح من أجل الغذاء. نبح كلب يحرس الغنم من بعيد ثم ظهر راعٍ من بين دعامات دوَّارات الرياح نازلًا نحوهما.

عندما اقترب الراعي من بطلَينا صاح سائلًا إلى أين يتجهان.

تردَّد دينتون وأخبره بكلمات مُقتضبة أنهما يبحثان عن بيت مُتهدِّم في المنحدرات يمكن أن يعيشا فيه معًا. حاوَل دينتون أن يبدو غير مُتوتِّر كما لو كان ما يفعلانه أمرًا معتادًا. حدَّق الرجل فيهما في رِيبة.

ثم سألهما: «هل ارتكبتما شيئًا؟»

ردَّ دينتون: «لا شيء. فقط لم نعُد نُريد العيش في المدينة. لماذا يجب علينا العيش فيها؟»

ازداد الارتياب في نظرات الراعي وقال: «لا يمكنكما العيش هنا.»

«سنُحاوِل.»

تنقَّلت نظرات الراعي بينهما قائلًا: «ستعودان غدًا؛ فالمنظر هنا جميل في الصباح فقط. أأنتما مُتأكِّدان أنكما لم ترتكبا أي جريمة؟ نحن — معشرَ الرعاة — لسنا على وفاق مع الشرطة.»

نظر إليه دينتون بثبات قائلًا: «لا. لكننا فقيران ولا نقدر على العيش في المدينة ولا نقدر على ارتداء الملابس الزرقاء والعمل الشاق. نريد أن نحيا حياة بسيطة هنا مثل القدماء.»

ألقى الراعي الملتحي ذو الوجه المُستغرِق في التفكير نظرةً سريعةً على إليزابيث ذات الجمال الهش، وقال: «لقد كان القدماء بسطاء.»

«ونحن كذلك.»

ابتسم الراعي قائلًا: «إذا مشَيتما بمُحاذاة القمة التي تقع تحت دوَّارات الرياح، فسترَيان مجموعةً من الروابي والأطلال على يمينكما. كانت هذه يومًا ما مدينة تُسمَّى «إبسوم». لا يُوجَد أي منازل هنا كما استُخدمت قِطع الحجارة في بناء حظائر الأغنام. استمِرَّا في المشي؛ وستجدان كومة أخرى على طرف حقل الخضراوات الجذرية وهي مدينة تُسمَّى ليذرهيد، بعد ذلك ينعطف التل بمحاذاة حد الوادي حيث أشجار الزان. ابقيا بمحاذاة القمة وستمرَّان بأماكن مُقفِرة. في بعض الأماكن، ورغم إزالة الحشائش الضارة، ما زالت هناك نباتات تنمو مثل السرخس والجُرَيس وغيرها من النباتات عديمة الجدوى. وخلال كل هذا، وتحت دوَّارات الرياح، ثَمة طريق مستقيم مرصوف بناه الرومان منذ ألفَي عام. اتجِها يمينًا أسفل الوادي وتتبَّعاه بمحاذاة ضفة النهر. ستصِلان بعد قليل إلى شارع به منازل ما زال معظمها له أسقف. ربما تجدان ملاذًا لكما هناك.»

قدَّما إليه الشكر.

قال: «لكنه مكان هادئ ولا يوجد به ضوء بعد الغروب. كما سمعتُ بوجود لصوص. إنه مكان مُوحِش وخامل. لا يوجد به آلات الفونوغراف التي تروي الحكايات، ولا مُشغِّلات الصور المتحرِّكة والآلات الحديثة، كما أنه لا يوجد به غذاء أو دواء.» ثم توقف.

قال دينتون وهو يبدأ في التحرُّك: «سنُجرِّب.» ثم طرأ له خاطرٌ ما واتفق مع الراعي على معرفة مكانه لشراء وإحضار أي شيء يحتاجانه من المدينة.

في المساء، وصل دينتون وإليزابيث إلى القرية المهجورة وبدت بيوتها صغيرة وغريبة الشكل بالنسبة لهما ووجداها تلمع بلون ذهبي في غروب الشمس لكنها كانت ساكنة ومُقفِرة. تنقَّل العاشقان اليافعان من بيت مهجور لآخر وهما مُندهِشان من البساطة الغريبة ويتجادلان حول أي بيت يجب عليهما اختياره. وفي النهاية، وفي إحدى الزوايا المُضيئة في غرفةٍ انهار جدارها الخارجي في أحد المنازل، رأيا زهرة برية زرقاء صغيرة أغفلها من يقتلعون الحشائش الضارة لصالح شركة الأغذية.

قرَّر دينتون وإليزابيث البقاء في ذلك المنزل لكنهما لم يبقيا فيه كثيرًا تلك الليلة؛ لأنهما كانا عازمَين على الاستمتاع بالطبيعة، علاوة على ذلك، فإن المنازل أصبحت كئيبة ومُوحِشة بعد اختفاء ضوء الشمس من السماء؛ لذا وبعد أن حصلا على قسط من الراحة، ذهب العاشقان إلى قمة التل مرة أخرى ليشهدا بنفسَيهما السماء الهادئة المُرصَّعة بالنجوم والتي حكى عنها قدماء الشعراء الكثير والكثير. كان منظرًا رائعًا وتحدَّث دينتون بحماس. وأخيرًا، عندما نزلا من المنحدر، كانت السماء قد بدأت في الاكتساء بضوء الفجر الشاحب. ناما قليلًا، وفي الصباح، عندما استيقظا، كان أحد طيور السُّمنة يُغرِّد داخل شجرة.

وهكذا بدأ هذان الشابان المُنتمِيان إلى القرن الثاني والعشرين الحياة في مَنفاهما الاختياري. كانا ذلك الصباح مشغولَين باستكشاف موارد المنزل الجديد الذي سيعيشان فيه حياتهما البسيطة. لم يقوما بالاستكشاف السريع ولم يتوغَّلا في استكشافهما لأنهما ذهبا إلى كل مكان يدًا بيد، لكنهما عثرا على بعض ما يمكن أن يُعتبَر أثاثًا. فوراء القرية المهجورة، كان هناك مخزن لأعلاف الشتاء مُخصَّصًا لماشية شركة الأغذية سحب منه دينتون الكثير مما استطاع حمله ليصنع سريرًا من القش، كما كان هناك في العديد من المنازل طاولات وكراسي قديمة تآكلت بفعل الفطريات. بدا لهما الأثاث الخشبي بُدائيًّا وخشنًا وغير مُتقَن الصنع. كرَّرا العديد من الأمور التي تناقشا بشأنها اليوم السابق، وبحلول المساء وجدا زهرة أخرى من الجريس مُستديرة الأوراق. وفي وقت مُتأخِّر بعد الزوال، نزل بعض الرعاة العاملون لدى شركة الأغذية من وادي النهر راكبِين درَّاجة كبيرة مُتعدِّدة العجلات. اختبأ الشاب والفتاة منهما لأن وجودهم يُفسِد الرومانسية التي تملأ هذا العالم القديم بالكامل كما قالت إليزابيث.

عاش بطلانا أسبوعًا بهذه الطريقة حيث كانت السماء خالية من الغيوم نهارًا، وكانت مُضاءة بالنجوم ليلًا التي كان يحجب تألُّقَها قليلًا هلالٌ بدأ يظهر رويدًا رويدًا.

لكن اختفى جزء من الروعة الأولية لقدومهما للعيش في الريف يومًا بعد يوم، وأصبح حديث دينتون مُتقطِّعًا ومُفتقِدًا لموضوعات مُلهمة جديدة. وظهر الإرهاق والتعب بسبب رحلتهما الطويلة من لندن في شكل تيبُّس في الأطراف، كما عانى كلاهما من زكام طفيف دون سبب واضح. علاوة على ذلك، أصبح لدى دينتون الكثير من وقت الفراغ. وذات يوم، عثر على مِجرفة صدِئة وسط كومة قديمة من الخشب المُهمَل، وحملها ليستعملها من آن لآخر في حديقة مُتهدِّمة نمت فيها الحشائش رغم أنه لم يكن لديه ما يبذره أو يغرسه؛ ثم عاد إلى إليزابيث بوجه يسيل منه العرَق بعد نصف ساعة من هذا المجهود.

قال دينتون: «كان هناك عمالقة في تلك الأيام.» وهو لا يُدرِك ما يمكن أن يُحقِّقه التدريب والتعوُّد. قادَهما السير عبر التلال لرؤية المدينة وهي تلمع من بعيد في الوادي؛ ليتساءل قائلًا: «تُرى كيف تسير الأمور الآن هناك؟»

تغيَّر الطقس وصاحت إليزابيث قائلة: «تعالَ وشاهِد الغيوم.» حيث كانت تلك الغيوم القرمزية الداكنة في الشمال والشرق تنساب نحو أعلى نقطة في السماء حاجبةً ضوء غروب الشمس أثناء اتجاهها نحو قِمَم التلال. وفجأةً هبَّت الرياح عاصفة بأشجار الزان يمنةً ويسرة بينما بدأت إليزابيث ترتجف، ثم لمع البرق بعيدًا كسيفٍ قد سُحِب فجأة، وتلاه الرعد، وبينما هما واقفان مشدوهان، بدأت أولى قطرات المطر في الهطول فوق رأسَيهما. وفي لحظات، اختفى آخر شعاع لغروب الشمس وراء ستار من المطر المُتساقِط، ولمع البرق مرة أخرى، وتصاعَد زئير الرعد وأصبح العالم من حولهما مُظلِمًا وكئيب المنظر.

وبينما أمسك كلٌّ منهما بيد الآخر، بدآ في هبوط المنحدر بسرعة تجاه منزلهما وهما في دهشة لا حدود لها، وقبل أن يصلا إلى المنزل، كانت إليزابيث تبكي في فزع، بينما كانت الأرض السوداء حولهما تلمع بلون أبيض وتتفتَّت تحت أقدامهما بينما يتساقط المطر بشدة.

بدت ليلة غريبة ومُروِّعة بالنسبة لهما؛ فلِأول مرة في حياتهما المُتمدِّنة يُجرِّبان الظلام الدامس. كانا مُبتلَّين ويشعران بالبرد ويرتعدان؛ بينما كانا يسمعان صوت هطول المطر حولهما. أما مياه الأمطار فقد تساقطت من خلال الأسقف المرتفعة المهملة للبيت القديم مُصدِرة صوتًا عاليًا ومُكوِّنة بِركًا وجداول صغيرة في الأرضية التي تُصدِر صريرًا بسبب هطول الأمطار. وضربت العاصفة البيت البالي مما جعله يهتز ويئن ثم انزلقت كتلة جص من الجدار لتتحطم على الأرض؛ كما ارتجَّت بعض قِطع القرميد غير المُثبَّتة جيدًا لتسقط وتتحطم في الدفيئة الفارغة في الأسفل. استمرَّت إليزابيث في الارتجاف بينما لف دينتون عباءته الرقيقة الزاهية التي كان يرتديها في المدينة حولها، ثم جثم كلاهما في الظلام. استمر صوت الرعد في التصاعُد والاقتراب بينما ظل البرق يلمع على نحو أكثر توهُّجًا فيُضيء الغرفة المليئة بالماء والرياح والتي كانا يحتميان بها من المطر في لمحات خاطفة.

لم يكن دينتون وإليزابيث قد خرجا إلى العَراء من قبل إلا في الأوقات التي كانت الشمس فيها ساطعة، وكانا يقضيان كلَّ وقتهما في الطُّرق والغُرف والقاعات الدافئة جيِّدة التهوية في المدينة الحديثة. كانت تلك الليلة المَطيرة العاصفة التي قضياها في البيت المُتهدِّم كما لو كانا في عالم آخر من الفوضى والاضطراب والتوتُّر، كما كادا يفقدان الأمل في رؤية المدينة مرة أخرى.

بدا أن العاصفة ستستمر للأبد لكن النوم كان يغلبهما بين مرات هزيم الرعد الذي بدأ في الخفوت ثم انقطع بسرعة؛ وبتوقُّف آخر الأمطار عن الهطول، سمعا صوتًا غير مألوف.

صاحت إليزابيث: «ما هذا؟»

سمعا الصوت مرة أخرى وكان صوت نباح كلاب تمرُّ؛ بينما سطع ضوء القمر الذي أخذ في النمو مُضيئًا الحائط أمامهما ومُلقيًا عليها الظل الأسود لإطار نافذة وشجرة.

وبينما بدأ ضوء الفجر الشاحب في إضاءة العالم من حولهما، سمعا نباح الكلاب المُتقطِّع مرة أخرى ثم توقَّف النباح فجأة. أرهفا السمع. وبعد فترة من التوقُّف، سمعا صوت خطوات سريعة تدور حول المنزل ونباح قصير شبه مكتوم، ثم عاوَد كل شيء السكون.

«صَه!» همست إليزابيث مُشيرة إلى باب الغرفة التي يُقيمان بها.

قطع دينتون نصف المسافة إلى باب الغرفة ثم وقف مُنصِتًا؛ ثم عاد بوجه حاوَل أن يظهر مُطمئِنًا وقال: «لا بد أن هذه هي الكلاب التي تحرس الماشية التي تمتلكها شركة الأغذية. لن تُلحِق بنا أذًى.»

ثم جلس بجانبها مرة أخرى مُضيفًا: «يا لها من ليلة!» ليُخفي كم كان يُرهِف السمع.

قالت إليزابيث بعد صمت طويل: «أكره الكلاب.»

«الكلاب لا تُؤذي أحدًا. في القرن التاسع عشر، كان الجميع يمتلكون كلابًا.»

«في إحدى قصص المغامرات التي سمعتها ذات مرة، قتل كلب رجلًا.»

«ليس هذا النوع من الكلاب؛ كما أن بعض هذه الحكايات تنطوي على شيء من المبالغة.»

فجأة سمعا صوت نباح مُقتضَب وصوت خطوات تصعد السُّلم ثم صوت لُهاث. وقف دينتون على قدمَيه بسرعة وسحب سيفه من فراش القش الذي كانا ينامان عليه، ثم ظهر في الباب كلب هزيل من الكلاب التي تحرس الأغنام وظل ساكنًا. كان هناك كلب آخر خلف الأول. حدَّق الكلب ودينتون بعضهما في بعض للحظات وبدا مُتردِّدَين.

ثم خطا دينتون، الذي يجهل كل شيء عن الكلاب، للأمام على نحو مُفاجئ وحرَّك سيفه حركة خرقاء مُخاطِبًا الكلب: «ابتعد!»

تحرَّك الكلب مُدمدِمًا مما جعل دينتون يتوقف فجأة قائلًا: «كلب جيد!»

لكن الزمجرة تحوَّلت إلى نباح.

أعاد دينتون ما قاله، لكن الكلب الثاني بدأ في الزمجرة والنباح أيضًا، كما ظهر كلب ثالث فجأة عند بيت السُّلم وبدأ في النباح كذلك، ونبحت كلاب أخرى في الخارج وبدا لدينتون أن عددها كبير.

قال بدون أن يُحوِّل عينَيه عن الحيوانات الشرسة التي تُواجِهه: «هذا مُثير للضيق. بالطبع لن يأتي الرعاة من المدينة لساعات قادمة. هذه الكلاب لن تجعلنا نخرج من المنزل.»

صاحت إليزابيث مُقترِبة منه: «لا أستطيع سماعك!»

كرَّر دينتون كلامه لكن النباح غطَّى على صوته وكان له أثر غريب عليه؛ حيث بدأت تُثار لديه مشاعر عديدة غير مُتجانِسة لم يشعر بها منذ فترة طويلة وتغيَّر صوته بينما كان يصيح. حاوَل مرة أخرى لكن النباح كان يبدو كما لو كان يسخر منه، كما خطا كلب للأمام مُنتفِشًا في شكل عدواني. وفجأة، استدار دينتون ونطق كلمات بلهجة من يسكنون تحت سطح الأرض في المدينة الحديثة. لم تفهم إليزابيث ما قاله لكنه كان قد تفوَّه بتلك الكلمات إلى الكلاب كي تتوقف عن النباح، ثم سمعتْ زمجرة ورأت الكلب يهجم. شاهدت إليزابيث رأس الكلب المُزمجِر وأنيابه البيضاء وأذناه المشدودتان للخلف ولمعان نصل السيف. قفز الكلب في الهواء لكن دينتون دفعه بالسيف للخلف.

ثم كان دينتون يدفع الكلاب أمامه وهو يصيح، ولمع السيف فوق رأسه مُلوِّحًا به في كل مكان بحُرِّية، ثم اختفى في بيت السُّلم. نزلت إليزابيث ست درجات تابعة إياه، لتجد دمًا يُغطِّي الأرضية. توقَّفت وعندما سمعت ضجيج الكلاب وصيحات دينتون تتردد في المنزل، هرعت إلى النافذة. كان هناك تسعة كلاب مُفترِسة من تلك التي تحرس الأغنام تتفرق هاربة وكلب يتلوَّى ألمًا أمام مدخل المنزل وكان دينتون، الذي ذاق اللذة الغريبة للقتال الكامنة حتى في دم أكثر الرجال تحضُّرًا، يصيح ويركض في أرجاء الحديقة، ثم لاحَظت إليزابيث أمرًا لم يلاحظه دينتون، أخذت الكلاب تتحرَّك في دوائر في اتجاهات مختلفة ثم عادت من جديد. لقد أحاطت بدينتون في العراء.

للحظة، فكَّرت إليزابيث في الأمر حيث كان من الممكن أن تُناديه. وللحظة، شعرت بالغثيان والعجز، ثم، وبدافع غريب، رفعت أطراف تنُّورتها البيضاء وهرعت نازلة السلم. كانت المجرفة الصدئة تقبع في رَدهة المنزل، فحملتها وخرجت من المنزل.

وصلت إليزابيث إلى دينتون في الوقت المناسب تمامًا حيث كان هناك كلب يتلوَّى أمامه وقد شُطِر إلى نصفَين تقريبًا، بينما كان هناك كلب ثانٍ أنشب أنيابه في فخذه وثالث يشدُّه من ياقته للخلف ورابع يعضُّ على نصل السيف بأنيابه مُتذوِّقًا دمه، بينما تفادى دينتون قفزة خامس بذراعه.

كان الأمر يبدو بالنسبة لها كما لو كانا يعيشان في القرن الأول وليس القرن الثاني والعشرين؛ فقد تلاشت رقة السنوات الثماني عشرة التي قضَتها إليزابيث في المدينة أمام هذه الحاجة البدائية. اندفعت المجرفة الصدئة بقوة وعزم تجاه الكلاب المُتوحِّشة لتشقَّ جمجمة أحدها؛ بينما عوى آخر كان يستعد للانقضاض مرة أخرى، في رعب أمام الخصم غير المُتوقَّع الذي ظهر فجأة. أُهدرت لحظتان ثمينتان في ربط التنورة.

انقطعت ياقة عباءة دينتون وسقطت بينما كان يقف مُترنِّحًا، في الوقت الذي انشغل فيه الكلب الذي كان يجرُّه منها بالمجرفة التي أصابته، وتوقَّف عن مضايقة دينتون. أغمد دينتون سيفه في فخذ الكلب.

وبينما صاحت إليزابيث: «إلى الحائط!» وانتهى القتال في غضون ثلاث ثوانٍ حيث كان يقف بطلانا جنبًا إلى جنب بينما فرَّت الكلاب الخمسة المُتبقِّية من موقع القتال يجرون أذيال الهزيمة والخزي.

وقف بطلانا للحظة وهما يلهثان شاعرَين بالانتصار؛ ثم تركت إليزابيث المجرفة لتسقط من يدها وانهارت على الأرض في نوبة بكاء. نظر دينتون حوله ثم غرس طرف سيفه في الأرض حتى أصبح في مستوى اليد وانحنى ليُواسيها.

وفي النهاية، خفتت عواطفهما الأكثر حِدَّة، وجلسا يتحدثان مرة أخرى. استندت إليزابيث إلى الجدار بينما اعتلاه دينتون ليُراقِب أي كلاب عائدة؛ فيما ظل كلبان ينبحان على جانب المنحدر على نحو مُزعِج.

كانت آثار الدموع ظاهرة على وجه إليزابيث لكنها كانت أكثر هدوءًا لأن دينتون ظل لنصف ساعة يُكرِّر كم كانت شُجاعة وأنها أنقذت حياته. لكن خوفًا من نوعٍ آخر كان ينمو في ذهنها.

«إنها كلاب شركة الأغذية. ما حدث سيتسبَّب في مشكلات.»

«أخشى أن يحدث ذلك. هناك احتمال كبير أن يُلاحِقونا قضائيًّا بسبب تعدِّينا على ممتلكات الشركة.»

مرَّت فترة من الصمت.

ثم قال: «في العصور القديمة، كان هذا النوع من الأمور يحدث يوميًّا.»

ردَّت إليزابيث: «ليلة أمس! لا يمكنني عيش ليلة مثل هذه مرة أخرى.»

نظر إليها ليجد وجهها شاحبًا بسبب الحاجة للنوم كما بدا عليها الإنهاك والإجهاد، ثم قرَّر أمرًا مُفاجئًا: «يجب علينا العودة!»

نظرت إليزابيث إلى الكلاب الميتة شاعرة برجفة: «لا يمكننا البقاء هنا!»

كرَّر دينتون كلامه وهو ينظر من فوق كتفه ليرى ما إذا كانت الكلاب اقتربت أم لا: «يجب علينا العودة. لقد استمتعنا بجزء من وقتنا هنا لكن العالم مُتحضِّر أكثر من اللازم. زمننا هو زمن المدن الكبرى. لو واصلنا العيش هكذا سنموت.»

«لكن ماذا سنفعل؟ كيف يمكننا العيش في المدينة؟»

تردَّد دينتون ثم ضرب بكعبه الحائط الذي كان يستند إليه: «ثَمة أمر لم أذكُره من قبل، لكن …»

«ما هو؟»

«يمكنكِ الحصول على مال بضمان ما تتوقَّعين أن ترثيه.»

قالت بلهفة: «حقًّا؟»

«بالطبع يمكنكِ. يا لكِ من طفلة!»

وقفت وقد انفرجت أساريرها وسألته: «لماذا لم تقُل هذا من قبلُ خلال كل هذا الوقت الذي قضيناه هنا؟»

نظر إليها مُبتسمًا للحظة، ثم اختفت ابتسامته قائلًا: «ظننت أنه يجب أن يكون أنتِ من يقول هذا؛ ولم أشَأ أن أطلب مالكِ. بجانب ذلك، ظننت في البداية أننا سنكون على ما يُرام هنا.»

ثم مرَّت فترة صمت أخرى.

استطرد دينتون مُلقيًا نظرة من فوق كتفه: «لقد كانت الأمور على ما يُرام حتى حدث ما حدث.»

«نعم، تلك الأيام الثلاثة الأولى.»

قضيا برهة من الزمن يُحدِّق بعضهما في وجه بعض ثم ابتعد دينتون عن الحائط وأمسك بيدها؛ قائلًا: «هناك حياة مناسبة لكل جيل. يمكنني إدراك هذا الآن بوضوح. لقد وُلِدنا للعيش في المدينة. العيش بأي طريقة أخرى … مَجيئنا إلى هنا كان حلمًا وقد استيقظنا منه.»

قالت إليزابيث: «لقد كان حلمًا جميلًا في البداية.»

صمت كلاهما لفترة طويلة.

ثم قال دينتون: «يجب أن نتحرك الآن إذا أردنا الوصول إلى المدينة قبل وصول الرُّعاة. يجب علينا جمع الطعام وتناوُله أثناء القيام برحلتنا.»

تلفَّت دينتون حوله مُجدَّدًا ثم مشيا عبر البستان مُحافِظَين على مسافة كبيرة بينهما وبين جُثَث الكلاب ودخلا المنزل. وجدا حقيبة الطعام خاصتهما ونزلا السُّلم المُلطَّخ بالدماء. ولما وصلا الردهة، توقَّفت إليزابيث قائلة: «مهلًا. ثَمة شيء ما هنا.» ثم تقدَّمت إلى الغرفة حيث كانت هناك الزهرة الزرقاء الصغيرة المُتفتِّحة. انحنت إليزالبيث لتلمسها بيدها ثم قالت: «أريدها.» واستدركت: «لكني لا أستطيع الحصول عليها!»

ثم انحنت إليزابيث بسرعة وقبَّلت بتلات الزهرة.

سار العاشقان جنبًا إلى جنب في صمت عبر البستان الفارغ ليصلا إلى الطريق العام القديم، ويمَّما وجهَيهما بعزم تجاه المدينة البعيدة؛ المدينة المُعقَّدة الآلية التي تنتمي للعصور الحديثة، المدينة التي ابتلعت البشر.

(٣) الحياة في المدينة

تُمثِّل مجموعة المُخترَعات التي ابتكرها الإنسان وغيَّرت وجه الحياة في عالم التنقُّل والسفر؛ إنجازاتٍ بارزةً إن لم تكن ذات أهمية عظمى في تاريخ البشر. بدأت تلك المُخترَعات بالسكك الحديدية وانتهت بعد قرن أو أكثر بالطرق السريعة والطرق المُعبَّدة. هذه المخترعات، بالإضافة إلى ابتكار الشركات المُساهِمة ذات المسئولية المحدودة وإحلال عمال مهَرة وآلات مُبتكَرة محل المُزارِعين، أدَّت لتركُّز البشر في مدن بمساحات هائلة غير مسبوقة وأحدثت ثورة مُتكامِلة في حياتهم، وأصبح مُستغرَبًا، بعد تحقُّق كل هذا، أن أحدًا لم يتنبأ بحدوثه على نحو أكثر وضوحًا. لكن يبدو أنه لم يتم حتى اقتراح أي خطوات لتوقُّع ما ستجلبه هذه الثورة من شقاء وألم، كما يبدو أن فكرة المُحرَّمات الأخلاقية، والعقوبات، والامتيازات، والحقوق، ومفهوم التملُّك، والمسئولية، والراحة، والجمال، التي جعلت دول الماضي الزراعية بالأساس سعيدة ومُزدهِرة؛ ستفشل في مُواجَهة السيل الجديد من الفرص وعوامل الجذب التي لم تكن تطرأ على ذهن من عاشوا في القرن التاسع عشر. لم يطرأ على ذهن أحد أنه من الممكن أن يُصبِح أي مُواطِن، كان يعيش حياة تقليدية بعدل وكرم، جشِعًا غادرًا إذا ما أصبح أحد حملة الأسهم في الشركات؛ أو أن تُصبِح أساليب التجارة التي كانت تتسم بالشرف والعقلانية في الريف القديم مُميتة وساحقة على نطاق واسع؛ أو أن الإحسان والصدقة أصبحا طُرقًا حديثة لإفقار الناس وأن التوظيف أصبح استعبادًا للناس في ظروف غير صحية وبأجور زهيدة — وهو ما أدَّى إلى جعل مُراجَعة وتوسيع نطاق حقوق وواجبات البشر أمرًا حتميًّا. هذه الأمور لم يمكن لعقلية القرن التاسع عشر الرجعية أن تتخيلها أو تقوى على تطبيقها؛ إذ نشأت وترعرعت على نظام تعليم بالٍ تحكُمه القواعد السائدة في كل مناحي التفكير. كان معلومًا أن تكدُّس البشر في المدن يُؤدِّي إلى ظهور أوبئة جديدة لم يسبق ظهور مثلها. كان ثَمة تطوُّر سريع في الصحة العامة، لكن أمراضًا مثل المُقامَرة، والربا، والتبذير، والاستبداد، تفشَّت ونجم عنها تبعات مُروِّعة تفوق استيعاب عقلية القرن التاسع عشر؛ لذا فإن نمو المدن المُزدحِمة التعيسة التي ميَّزت القرن الحادي والعشرين قد حدث كما لو كان عملية جامدة تمَّت بدون أن تُعيقها إرادة البشر الإبداعية.

كان المجتمع الحديث مُقسَّمًا إلى ثلاث طبقات رئيسية. كان على القمة يقبع أصحاب الأملاك الفاحشو الثراء، لكن بالصدفة وليس عن تخطيط؛ كما كانوا يمتلكون السلطة ولكن كان ينقصهم الهدف والإرادة، وكانوا يبدون كأحدث تجسيد لهاملت في العالم. أما في القاع فكان يقبع حشد ضخم من العمال الذين يعملون لدى شركات عملاقة احتكارية. وبين هؤلاء وأولئك كانت توجد طبقة مُتوسِّطة آخِذة في التآكُل تضم موظفين من جميع المجالات مثل رؤساء العمال، والمُديرين، والأطباء، والمُحامين، والفنانين، والباحثين؛ كما كان بينهم كذلك طبقة الأغنياء ذوي الثروة المحدودة وهم من أبناء الطبقة المُتوسِّطة الذين يعيشون حالة غير آمنة من الترف وتكهُّنات مضطربة في خِضَم قرارات وتحرُّكات كبار المُديرين.

روَينا بالفعل قصة حب وزواج شخصَين من الطبقة المُتوسِّطة؛ وكيف استطاعا تجاوُز العقبات فيما بينهما وكيف حاوَلا عيش الحياة على الطراز القديم البسيط في الريف ثم عادا بسرعة إلى مدينة لندن. لم يكن دينتون يمتلك ما يُساعِدهما على الحياة؛ لذا اقترضت إليزابيث المال بضمان السندات المالية التي كان والدها، مورس، يحتفظ بها وديعة حتى تتم الحادية والعشرين من عمرها.

كان مُعدَّل الفائدة الذي دفعته إليزابيث مرتفعًا بالطبع، بسبب غموض موقف السندات، كما أن حسابات العشاق غالبًا ما تكون سطحية ومُتفائلة، لكن العاشقَين مرَّا بأوقات رائعة بعد عودتهما. كانا مُصمِّمَين على ألَّا يدخلا لأماكن المتع واللهو أو يُضيِّعا أيامهما في رحلات الطيران من مكان لآخر حول العالم؛ إذ على الرغم من خيبة أملهما مما اكتشفاه، كانا لا يزالان يمتلكان ذوقًا تقليديًّا قديمًا. اقتنيا أثاثًا قديمًا يرجع للعصر الفيكتوري لغرفة صغيرة كانا يُقيمان فيها، كما وجدا مَتجرًا في الدور الثاني والأربعين في مبنًى بشارع «سيفنث واي» حيث كانت الكتب القديمة لا تزال تُباع هناك. كان دينتون وإليزابيث شغوفَين بقراءة المطبوعات بدلًا من سماع الأخبار عبر الفونوغراف. وعندما رُزِقا بطفلة جميلة صغيرة، لتجمع بين قلبَيهما أكثر، رفضت إليزابيث إرسالها إلى دار حضانة كما جرت العادة آنذاك، بل أصرَّت على تربيتها في المنزل. كان إيجار الشقق قد ارتفع بسبب هذا الإجراء لكنهما لم يهتمَّا بهذا، فقد كان يعني اقتراض المزيد من المال فحسب.

بلغت إليزابيث سن الرشد، والتقى دينتون والدها من أجل مُقابَلة عمل لم تمر على النحو المرجُو، تلاها مُقابَلة أسوأ مع من يقرضهما المال والتي عاد منها للمنزل شاحب الوجه. وفور عودته، أخبرتْه إليزابيث بتنغيم جديد ورائع ابتكرتْه ابنتهما عند نطق بعض كلمات اللغة الإنجليزية، لكنه كان شارد الذهن. قاطَعها بينما كانت في ذروة حكايتها قائلًا: «هل يمكنكِ تخمين ما تبقَّى لنا من المال بعد أن سدَّدنا كل شيء؟»

توقَّفت عن سرد عبقرية ابنتها في النطق بالكلام والحركة التي صاحَبت كلامها قائلة: «تعني أن …؟»

أجاب: «نعم. ليس الكثير، فقد أسرفنا في إنفاق المال. إنها الفائدة. كما أن الأسهم التي تمتلكينها هبطت قيمتها. لم يهتم والدكِ بهذا وقال إن هذا ليس شأنه، كما أنه سيتزوج ثانية. حسنًا، تبقَّى لنا ألف جنيه بالكاد!»

«ألف فقط؟»

«ألف فقط.»

جلست إليزابيث رامقة إياه للحظات بوجه شاحب ثم جالت عيناها في أرجاء الغرفة القديمة المليئة بالأثاث من العصر الفيكتوري الأوسط واللوحات الزيتية الأصلية التي تملؤها، واستقرَّت في النهاية على الطفلة التي تتوسد ذراعَيها.

نظر دينتون إليها وظل واقفًا مُكتئبًا. ثم دار على كعبَيه وسار ذَهابًا وعودة بخطًى سريعة.

قال بعدها: «يجب أن أفعل شيئًا. أنا أعيش كالوغد الخامل. كان يجب أن أُفكِّر في هذا من قبل. لقد كنتُ أنانيًّا أحمق. أردت أن أكون بصحبتك ليلَ نهار!»

ثم توقَّف عن الكلام ناظرًا لوجهها الشاحب؛ ثم قبَّلها وقبَّل وجه طفلتهما الصغيرة التي سكنت حضن زوجته.

قال دينتون وهو يقف بالقرب منها: «لا تقلقي يا عزيزتي. لن تكوني بمفردك بعد الآن. ها قد بدأت دينجز في التحدُّث معكِ. ويمكنني الحصول عما قريب على وظيفة بسهولة كما تعرفين. الأمر صادم في البداية، لكن كل شيء سيُصبِح على ما يُرام. لا بد أن يُصبِح على ما يُرام. سأخرج مُجدَّدًا بعد الحصول على قسط من الراحة وسأُفكِّر فيما يجب فعله. أما الآن فمن الصعب التفكير في أي شيء.»

ردَّت إليزابيث: «سيكون من الصعب مُغادَرة هذا المسكن، لكن …»

«لن نضطر لهذا. ثقي بي.»

«الشقق باهظة الإيجارات.»

لكن دينتون تجاهَل هذا وبدأ في الحديث عن العمل الذي يمكنه أن يُؤدِّيه. لم يكن حديثه واضحًا بشأن هذا، لكنه كان مُتأكِّدًا بدرجة كبيرة أن ثَمة أمرًا سيُبقيهما على العيش في سعادة ضمن الطبقة الوسطى التي كانت طريقتها في الحياة هي الأسلوب الوحيد الذي يعرفانه.

قال دينتون: «يوجد ثلاثة وثلاثون مليون شخص في لندن. لا بد أن هناك من يحتاج لأن أعمل لديه.»

«لا بد.»

«المشكلة في بيندون؛ ذلك العجوز الضئيل الجسم ذي البشرة البُنية الذي أراد والدك أن تتزوجي منه. إنه شخص مُهِم. لا يمكنني العودة للعمل في منصة الطائرات لأنه أصبح المسئول عن مُوظَّفِي المنصة.»

قالت إليزابيث: «لم أكن أعلم هذا.»

«لقد تولَّى هذا المنصب في الأسابيع الماضية. لولا ذلك، لكانت الأمور أصبحت أكثر سهولة بالنسبة لي إذ كنت أروق لهم كثيرًا في المنصة، لكن توجد العشرات من الوظائف الأخرى التي يمكن القيام بها. لا تقلقلي يا عزيزتي. سآخذ قسطًا من الراحة وأتناول العشاء، ثم أبدأ في البحث عن عمل. لديَّ معارف كُثُر.»

نال دينتون وإليزابيث قسطًا من الراحة ثم ذهبا لتناوُل العشاء في قاعة الطعام المشتركة، ليبدأ بعدها دينتون في البحث عن العمل. لم يمر وقت طويل قبل أن يُدرِكا أن العالم ما زال سيئًا كما كان فيما يتعلق بالحصول على وظيفة مُناسِبة، وآمِنة، وشريفة، ومُجزية، تترك مساحة كبيرة للاستمتاع بالحياة الخاصة ولا تتطلب مهارة خاصة أو تنطوي على مُخاطَرة أو جهد شديد أو تضحية من أي نوع في الحصول عليها. فكَّر دينتون في عدد من المشروعات الرائعة، وقضى العديد من الأيام ينتقل من مكان إلى مكان في المدينة العملاقة بحثًا عن أصدقاء ذوي نفوذ حيث كانوا جميعًا سعداء لرؤيته وكانوا وَدودِين معه حتى أتى الحديث عن الوظائف بالتحديد ليتبدَّل حالهم ويُصبِحوا حذِرِين وغامضِين. كان يُودِّعهم في فتور ويُفكِّر في سلوكهم أثناء عودته إلى المنزل ليُصاب بالضيق مما يدفعه للتوقُّف عند مكتب الهاتف وإنفاق بعض المال في جدل عبر الهاتف لا طائل من ورائه. وبمرور الأيام، أُصيبَ بالقلق والحنق حتى إنه كان يُجاهِد ليبدو أمام إليزابيث حنونًا ورائق البال وهو ما لاحَظته بوضوحٍ كونها امرأة تُحِب رجلها.

وفي أحد الأيام وبعد تمهيد مُعقَّد للغاية، اقترحت إليزابيث على دينتون اقتراحًا مُوجِعًا. كان يتوقع دينتون أن تبكي إليزابيث وتُصاب باليأس إذا ما اقترح عليها بيع الكنوز الفيكتورية القديمة التي يمتلكانها والتي اشترياها ببهجة وسرور والتي تتضمن الأعمال الفنية العتيقة، وأغطية ظهور المقاعد، والحُصر المصنوعة من الخرز، والستائر المُضلَّعة، والأثاث المُزخرَف، واللوحات المنقوشة من الصلب المُؤطَّرة بالذهب، والرسومات المُبتكَرة بالقلم الرصاص، وزهور الشمع المحمية من ضوء الشمس المباشر، والطيور المُحنَّطة، وغير ذلك من الممتلكات الأثرية القديمة. لكن إليزابيث كانت هي من اقترحت الأمر. بدَت التضحية بهذه الممتلكات كما لو كانت تملؤها بالسعادة وكذلك فكرة الانتقال إلى شقة أخرى تقع تحت مستوى الشقة التي يسكنانها حاليًّا بعشرة أو اثنَي عشر طابقًا في فندق آخر. قالت إليزابيث: «ما دامت دينجز معنا، فلا شيء آخر يهُم. لنخُض التجربة.» قبَّلها دينتون وأخبرها بأنها أكثر شجاعة من الوقت الذي واجهت فيه الكلاب المُتوحِّشة في الريف وأطلق عليها لقب «بوديكا»، وامتنع عن تذكيرها بأنهما يجب عليهما دفع إيجار أعلى بسبب قدوم ابنتهما للعالم.

كان دينتون يُريد أن يصرف نظر إليزابيث عن مسألة بيع الأثاث القديم الذي نما حوله حبهما وعواطفهما وتعلَّقا به؛ لكن فيما يتعلق بالبيع، كانت إليزابيث هي من يُساوِم التاجر بينما كان دينتون يذرع طرقات المدينة شاحب الوجه يملؤه الأسى والخوف مما هو قادم. وعندما انتقلا للمسكن الجديد المُؤثَّث المُجهَّز بالقليل من قِطع الأثاث ضمن الشقق المُلوَّنة باللونَين الأبيض والوردي في أحد الفنادق الرخيصة؛ أُصيبَ بنوبة من النشاط الممزوج بالغضب الشديد تلاها أسبوع من الخمول قضاه في المنزل عابسًا؛ وذلك على عكس إليزابيث التي مرَّت بها تلك الأيام وهي مُشرِقة كالنجم المُتألِّق، وفي النهاية لم يجد دينتون إلا البكاء للتنفيس عما بداخله؛ ثم ترك المنزل مُتجوِّلًا في طرقات المدينة مرة أخرى، لكنه أُصيبَ بالدهشة الشديدة هذه المرة عندما وجد عملًا.

كان معيار التوظيف لدى دينتون قد انحدر تدريجيًّا حتى وصل لأدنى درجات العمالة المُستقِلة. في البداية، كان يطمح لشَغل مَنصب رفيع في شركات الطيران أو دوَّارات الرياح أو المياه؛ أو العمل في إحدى مُنظَّمات الأخبار العامة التي حلَّت محل الصحف؛ أو تأسيس شراكة مِهنية؛ لكن كل هذه كانت أضغاث أحلام. بعد ذلك لجأ دينتون إلى المُضارَبة في البورصة وخسر ثلاثمائة جنيه ذهبي من الألف التي كانت تملكها إليزابيث في سوق الأسهم. كان دينتون سعيدًا أن مظهره الوسيم قد ساعَده في الحصول على مُقابَلة عمل لوظيفة رجل مبيعات في «سوزانا هات» وهي شركة تُتاجِر في قلانيس السيدات وزينة الشعر والقبعات؛ لأنه على الرغم من أن المدينة كانت مُغطَّاة بقُبَب زجاجية، كانت النساء ما زِلنَ يرتدين قبعات جميلة المنظر مُنمَّقة التصميم في المسارح ودور العبادة العامة.

كان الأمر سيُصبِح مُثيرًا للضحك لو كان من الممكن إطلاع صاحب مَتجر في شارع ريجينت من القرن التاسع عشر بالتطوُّرات التي حلَّت بمُنشأته التي يعمل فيها دينتون. كان ما زال يُطلَق على الطريق التاسع عشر في بعض الأحيان اسم شارع ريجينت، لكنه الآن أصبح طريقًا للمنصات المُتحرِّكة ويبلغ عرضه نحو ثمانمائة قدم. كان الحيِّز الأوسط في الطريق ثابتًا لا يتحرك، وكان يُوصِل إلى المنازل التي تقع على كلا الجانبَين بواسطة مجموعة من السلالم تصل نزولًا إلى طرق تقع تحت الأرض. أما على يمينه ويساره فكانت توجد سلسلة صاعدة من المنصات المُتصِلة التي كانت تتحرك كل منها بسرعة تزيد عن التي تسبقها بخمسة أميال في الساعة حيث يمكن للمرء الانتقال من منصة إلى أخرى حتى يصل لأسرع طريق للخروج والتجوُّل في المدينة. كان المبنى الذي يضم شركة «سوزانا هات» له واجهة كبرى تُطِل على الخارج ويخرج من جانبَيها سلسلة علوية مُتداخِلة من الشاشات الزجاجية البيضاء الضخمة التي تعرض صورًا عملاقة مُتحرِّكة لوجوه نساء شهيرات جميلات على قيد الحياة يرتدين أحدث القبعات؛ وكان دائمًا ما يحتشد الناس في الطريق الأوسط الثابت ليُشاهِدوا آلة عرض عملاقة تعرض الصور المُتحرِّكة لأحدث الصيحات. كانت واجهة المبنى بالكامل في حالة دائمة من تغيُّر الألوان، كما كانت تلك الواجهة التي يبلغ طولها أربعمائة قدم، والطرق المُتحرِّكة التي تُطِل عليها، تتلألأ وتلمع بآلاف الألوان والحروف التي تعرض عبارة «قبعات سوزانا».

علاوةً على ذلك، كان يوجد صف عريض من الفونوغرافات العملاقة التي تُصدِر صوتًا غطَّى على صوت المارَّة صائحة «قبعات!» بينما كان هناك في بداية ونهاية كل شارع آلات أخرى تنصح المارَّة بأن «اذهبوا إلى سوزانا» مُتسائلة: «لماذا لا تشتري قبعة لفتاتك؟»

أما بالنسبة إلى الذين كانوا يعانون الصمم — ولم يكن الصمم أمرًا غير شائع في لندن ذلك العصر — فقد كانت تُلقى منشورات من مُختلِف الأحجام من فوق الأسطح لتهبط على المنصات المُتحرِّكة أو في أيدي المارَّة أو أمامهم أو على رءوسهم وأكتافهم، كما كان هناك وميض مُفاجئ من الضوء يظهر عند أقدام السائرين للفتِ الأنظار إلى لافتات من قبيل «القبعات رخيصة اليوم» أو «عرض رائع لشراء القبعات». ورغم كل هذه الجهود في الدعاية، كانت المدينة غارقة في ضوضاء شديدة، وأصبحت أعيُن وآذان المارة مُدرَّبة على تجاهُل كل هذه الدعاية حتى إن العديد من المُواطِنين كانوا يمرون بذلك المكان آلاف المرات غير مُدرِكين لوجود شركة «سوزانا هات».

لدخول المكان، كان يجب نزول السُّلم في الطريق الأوسط والمشي في ممر عام تسير فيه فتيات جميلات يرتدين قبعات عليها إشارة السعر مُقابِل أجر زهيد. كانت غرفة الدخول عبارة عن قاعة كبيرة مليئة بالرءوس الشمعية المُزيَّنة على أحدث صيحة وكانت تدور على نحو جذَّاب على قواعد للتماثيل، ويعبُر الزائر هذه الغرفة ليجد نفسه في مكتب الخزينة الذي يتكوَّن من مجموعة لا متناهية من الغرف الصغيرة يمكث في كل غرفة منها رجل مبيعات وفيها ثلاث أو أربع قبعات ودبابيس، ومرايا وآلات عرض الصور المُتحرِّكة الخاصة بها وهواتف ومُنزَلقات القبعات المُتصِلة بالمُستودَع الرئيسي كما كانت تضم أريكة مُريحة ومُرطِّبات جذابة. أصبح دينتون الآن رجل مبيعات في إحدى هذه الغرف وكان من واجبه أن يُساعِد هذا السيل المُتدفِّق باستمرار من السيدات اللاتي يخترن التعامُل معه، وأن يتصرف على نحو جذاب بقدر الإمكان، وأن يُقدِّم لهن المُرطِّبات ويتحدث إليهن في أي موضوع يخترنه وأن يُوجِّه دفة المُحادَثة بذكاء إلى الحديث عن القبعات دون أن يُظهِر أي نوع من الإلحاح أو الضغط عليهن. كان يجب عليه اقتراح تجربة أنواع عديدة من القبعات على أي عميلة وأن يُوضِّح بأسلوبه وحركاته — وبدون أي تملُّق فج — المظهر الجميل الذي تُكسِبه القبعات التي يُريد بيعها لمن ترتديها. كان يوجد في الغرفة العديد من المرايا الموضوعة بزوايا وانحناءات ذكية وحساسة لأي شكل من أشكال الأوجه وألوان البشرة، وكان يعتمد اعتمادًا كبيرًا على استخدامها على النحو المناسب.

انهمك دينتون في إنجاز هذه المَهام الغريبة عليه التي لم تكن تُلائمه كثيرًا بقدر من الرضا والحماس الذي لم يكن يتوقعه قبل عام؛ لكن كل هذا كان لا طائل من ورائه. فقد غيَّرت كبيرة المُديرين — التي انتقتْه للوظيفة بل وأثنت عليه — رأيها فجأة وأعلنت بدون سبب واضح أنه أحمق وفصلته بعد ستة أسابيع من عمله كرجل مبيعات؛ ولذا كان على دينتون استئناف بحثه العقيم عن عمل.

لم يستمر بحثه التالي عن العمل كثيرًا؛ وكان المال الذي بحوزته قد أوشك على النفاد ولم يجد حلًّا إلا إرسال ابنته الصغيرة إلى إحدى دور الحضانة العامة التي ملأت المدينة. كان هذا هو الشائع آنذاك بعد أن أدَّى تحرير المرأة بسبب الخروج للعمل والتفكيك الذي نتج عنه للبيوت بمعناها التقليدي إلى أن تُصبِح دور الحضانة ضرورة للجميع فيما عدا فاحشِي الثراء وذوي العقول الاستثنائية. ففي تلك الدور كان يتوفر للأطفال ميزات صحية وتعليمية لا يمكن أن يحصلوا عليها في غيرها، كما كانت دور الحضانة العامة تتوافر لكل الطبقات الاجتماعية وتتنوَّع مستويات رفاهيتها وصولًا إلى طبقة العمال الذين كان يلتحق أبناؤهم بدور الحضانة التابعة للشركة حيث تتكفَّل الشركة بسداد مصروفاتهم بنظام الأجل ليُسدِّدوا هم مصروفات الحضانة عندما يكبرون بعملهم لدى تلك الشركة.

لكن، كما قلنا من قبل، فإن إليزابيث ودينتون كانا شابَّين عتيقَي الطراز غريبَي التصرُّفات مُتشبِّعَين بأفكار القرن التاسع عشر وهو ما جعلهما كارهَين لفكرة دور حضانة الأطفال العامة هذه كراهيةً شديدة، ووافَقا على مضض في النهاية أن يُرسِلا دينجز الصغيرة إلى إحداها. قابَلتهما فور وصولهما إلى دار الحضانة موظفة حنون ترتدي زيًّا رسميًّا. كانت سِمَتها الجدية والنشاط إلى أن انخرطت إليزابيث في البكاء عندما أتى ذِكر تركها لطفلتها الصغيرة، وحينها تحوَّلت المرأة، التي اندهشت لوهلة من هذه العاطفة غير المعتادة، إلى كائن مُفعَم بالأمل والمُواساة مما أكسبها امتنان إليزابيث إلى الأبد. اقتِيد الوالدان إلى غرفة واسعة يُشرِف عليها العديد من الحاضنات ويفترش أرضيتَها المُغطَّاة بالألعاب مئاتُ البنات الصغيرات في الثانية من عمرهن حيث كانت هذه هي غرفة الأطفال الذين تبلغ أعمارهم عامَين. تقدَّمت حاضنتان وراقبت إليزابيث في غيرة تعامُلهما مع دينجز. كانتا عطوفتَين وكان هذا واضحًا، ولكن …

حان وقت انصرافهما بسرعة؛ وكانت دينجز حينها قد جلست في أحد الأركان في سعادة وقد امتلأ ذراعاها واختفى جزء كبير من جسدها تحت كمية كبيرة غير معتادة من اللُّعب. وبينما ابتعد أبواها، بدَت غير مُكترِثة بأي علاقات بشرية.

مُنِع الأبوان من وداعها كي لا يُعكِّرا صفوها.

وعندما وصلت إليزابيث للباب نظرت خلفها للمرة الأخيرة لتُشاهِد ابنتها الصغيرة وقد أوقعت الألعاب أرضًا وأخذت تُراقِبها بوجه مُتردِّد. وشهقت إليزابيث فجأة بينما دفعتها الحاضنة الحنونة للأمام وأوصدت الباب وراءها.

قالت الحاضنة وقد ملأ عينَيها حنان مُفاجئ: «يمكنكِ المجيء مرة أخرى قريبًا يا عزيزتي.» حدَّقت فيها إليزابيث للحظات بوجه خالٍ من أي تعبير، بينما كرَّرت الحاضنة كلامها. فجأةً ارتمَت إليزابيث في حضن المرأة مُنتحِبة وهو ما جعل الأخيرة تكسب امتنان دينتون أيضًا.

وبعد مرور ثلاثة أسابيع، أفلس بطلانا الشابَّان تمامًا ولم يعد أمامهما سوى حل واحد وهو الذهاب إلى شركة العمالة. وبمُجرَّد أن تأخَّرا عن دفع الإيجار أسبوعًا واحدًا، صُودِر ما تبقَّى من ممتلكاتهما، وبأقل القليل من اللياقة أُخرِجا من الفندق. مشَت إليزابيث في الممر المُتجِه صوب السلالم الصاعدة إلى الطريق الأوسط الثابت، وقد سيطرت التعاسة عليها لدرجةٍ جعلتها لا تستطيع التفكير. كان دينتون قد تخلَّف عن اللحاق بإليزابيث ليُنهي جدالًا حادًّا وعقيمًا مع حامل الحقائب ثم اندفع مُسرِعًا للحاق بها وقد احمرَّ وجهه بسبب انفعاله الشديد. أبطأ دينتون من خطاه بعد أن لحق بها وصعدا السلالم المُوصِّلة للطريق الأوسط في صمت؛ ثم وجدا مقعدَين شاغرَين ليجلسا فيهما.

قالت إليزابيث: «ألسنا بحاجة للذهاب إلى هناك بعد؟»

«كلا، حتى نشعر بالجوع.»

ثم جلسا صامتَين.

كانت عينا إليزابيث شاردتَين في كل الاتجاهات. إلى اليمين، كانت الطرق المُتجِهة صوب الشرق تزأر صخبًا وكذلك تلك المُتجِهة في الاتجاه المُضاد. كانت جميعها تعجُّ بالناس. أما للأمام والخلف فكان هناك رجال مُتعلِّقون بأحد الأسلاك يرتدون ملابس المُهرِّجين ويُصدِرون إشارات وإيماءات ويحمل ظهر وصدر كل منهم حرفًا ضخمًا ليُكوِّنوا جميعًا عبارة: «حبوب بركنجيز للهضم.»

قامت سيدة ضئيلة الجسم ومُصابة بفقر الدم ترتدي ثوبًا من الخيش الأزرق الخشن كريه المظهر بتوجيه بصر ابنتها الصغيرة تجاه أحد تلك الإعلانات التي تتحرك بسرعة؛ قائلةً: «انظري! ها هو والدك.»

ردَّت الطفلة الصغيرة: «أيهم؟»

«ذو الأنف المَطلي بالأحمر.»

بدأت الطفلة في البكاء، مما جعل إليزابيث على وشك البكاء كذلك.

قالت المرأة المُصابة بفقر الدم مُحاوِلة إبهاج الطفلة: «انظري كيف يُحرِّك ساقَيه. انظري!»

على الجانب الأيمن من الواجهة كان هناك قرص ضخم وزاهي الألوان بشدة يلفُّ بدون توقُّف لتنبعث حروف من نار مُكوِّنة جملة: «هل يُصيبك هذا بالدُّوار؟»

ثم تتوقَّف لوهلة، لتستمر كاتبة: «تناوَل حبة من حبوب بركنجيز للهضم.»

ثم صدر صوت نداء مُزعِج وكئيب: «إذا كنتَ تحب أدب التفاخُر، اتصل ببراجلز، أعظم أدباء ومُفكِّري التاريخ. ارفع من معنوياتك! إنه يُشبِه سقراط تمامًا فيما عدا مُؤخِّرة رأسه فهي تُشبِه مُؤخِّرة رأس شكسبير. إنه يمتلك ستة أصابع في كل قدم ويرتدي الملابس الحمراء ولا ينظف أسنانه أبدًا. استمعوا له!»

أصبح صوت دينتون مسموعًا خلال فترة توقُّف للنداء: «لم أتخيَّل الزواج منكِ. لقد أضَعتُ مالكِ ودمَّرت حياتكِ ولم أجلب لكِ إلا التعاسة. يا لي من نذل! يا لَهذا العالم الملعون!»

حاوَلت إليزابيث الرد، لكنها ظلَّت للحظات غير قادرة على النطق؛ ثم جذبت يده قائلة: «لا.» ثم تحوَّلت رغبة لم تكتمل داخلها إلى عزم، مُضيفة: «هلَّا أتيت؟»

ردَّ بعد أن نهض: «لا يجب علينا الذهاب إلى هناك بعد!»

«لا أقصد هذا، بل أريدك أن تأتي بصحبتي إلى المنصات الطائرة حيث التقينا لأول مرة. أتدري؟ ذلك المقعد الصغير.»

تردَّد ثم قال مُتشكِّكًا: «هل يمكنكِ فعل هذا؟»

«لا بد!»

تردَّد للحظة ثم أطاعها مُتحرِّكًا.

وهكذا قضَيا ما تبقَّى لهما من نصف يوم من الحرية في الهواء الطلق على المقعد الصغير تحت منصات هبوط الطائرات في المكان الذي اعتادا اللقاء فيه منذ خمس سنوات. أخبرته إليزابيث بما لم تستطع أن تُخبِره به بسبب ضوضاء الطرق العامة وهو أنها غير نادمة أبدًا على زواجها منه، وأنه مهما كانت الحياة تُخبِّئ لهما من تعاسة وشقاء، فإنها راضية بما ستمر به. كان الطقس لطيفًا وكان المقعد يغمره ضوء الشمس الدافئ وفوق رأسَيهما كانت الطائرات اللامعة تروح وتجيء.

حان وقت الغروب ومعه حانت نهاية الوقت الذي قضَياه معًا. عاهَد بعضهما بعضًا وتعانَق كفَّاهما ثم نهضا وعادا إلى طرق المدينة رثَّي المظهر تُثقِل الهموم قلبَيهما ويغلبهما الإرهاق والجوع. وبعد قليل، وصلا إلى لافتة زرقاء باهتة تُشير إلى مكتب لشركة العمالة. توقَّفا برهة في الطريق الأوسط يُشاهِدان اللافتة ثم في النهاية نزلا السلالم وجلسا في غرفة الانتظار.

كانت شركة العمالة في الأساس مُنظَّمة خيرية تهدف إلى توفير الغذاء والمأوى والعمل لكل الوافدين إليها، وهذا ما كان منصوصًا عليه عند تأسيسها. كما كانت الشركة مُلزَمة كذلك بتوفير الغذاء والمأوى والرعاية الطبية للعاجزين عن العمل الذين يطلبون المُساعَدة من الشركة، وفي المُقابِل كانوا يدفعون التعويضات للشركة عن طريق ما يُسمَّى «كمبيالات العمالة» التي كان يجب عليهم سداد قيمتها فور تعافيهم. كان أولئك العاجزون يُوقِّعون هذه الأوراق ببصمة الإبهام التي كانت تُصوَّر وتُفهرَس بطريقة تجعل البحث عن شخص يعمل لدى الشركة التي تضمُّ مائتَي أو ثلاثمائة مليون شخص حول العالم لا يستغرق إلا ساعة واحدة فقط. كان العمل اليومي في ذلك الوقت هو أن يقضي العامل نوبتَي عمل على آلة ميكانيكية تُستخدَم لتوليد الكهرباء، وكان بالإمكان فرض أداء هذا العمل بقوة القانون. عمليًّا، وجدت الشركة أنه من الأفضل أن تُضيف لتعهُّداتها اليومية التي تُقدِّمها للموظفين من غذاء ومأوًى بضعة بنسات كحافز على العمل. لم يُؤدِّ هذا الالتزام فقط إلى القضاء على الفقر بل وفَّر الغالبية العظمى من العمالة الأكثر إحساسًا بالمسئولية. كان ثلث سكان العالم يعملون لدى الشركة أو مَدينِين لها منذ مولدهم وحتى مماتهم.

بهذه الطريقة العملية الخالية من العواطف، حُلَّت مشكلة البطالة وجرى التغلُّب عليها بنتائج مُرضية. أصبح لا يُرى من يتضوَّرون جوعًا في الطرقات العامة أو من يرتدون أسمالًا أو من يرتدون ملابس أقل نظافة وأمانًا من القماش الأزرق الخشن الصحي وغير الأنيق الذي يرتديه عمال الشركة حول العالم. كانت الفكرة السائدة في الصحف التي تُذاع عبر الفونوغرافات هي أنه كم تطوَّر العالم منذ القرن التاسع عشر عندما كانت جُثَث من يموتون بسبب الحوادث المرورية أو بسبب الجوع أمرًا اعتِيد رؤيته في الشوارع المُزدحِمة كما كان يُزعَم.

جلس دينتون وإليزابيث بعيدَين بعضهما عن بعض في قاعة الانتظار حتى يحين موعدهما. بدا معظم الجالسين في الغرفة ضعفاء وقليلي الكلام، لكن كان ثَمة ثلاثة أو أربعة شباب في أزياء مُبهرَجة يُشيعون الضوضاء التي بدَّدت صمت رفاقهم. كان هؤلاء الشباب مُوظَّفِين مُستدامِين لدى الشركة فقد تربَّوا في دور حضانتها في صغرهم ومُقدَّر لهم الموت في المستشفيات التابعة لها. كانوا قد عادوا من تسكُّعهم ولهوهم بعدما أنفقوا تلك الشلنات الإضافية التي كانت تدفعها الشركة لهم حافزًا. كانوا يتحدثون في صخب بلهجة الكوكني التي أصبحت أكثر تطوُّرًا عن السابق وبدوا فخورِين بأنفسهم للغاية.

انتقلت عينا إليزابيث من مُراقَبة الشباب إلى أناس أقل ثقة وقوة؛ إذ شاهدت امرأة أثارت الكثير من مشاعر الشفقة لديها، كانت امرأة في الخامسة والأربعين من عمرها لها شعر ذهبي ووجه مُلطَّخ بالمساحيق سالت عليه الدموع الغزيرة؛ كما كان لها أنف رفيع ومُدبَّب وعينَان يملؤهما العوز ويدَان وكتفَان هزيلان، كما كانت ملابسها القديمة المُتربة تُعطي لمحة عن حياتها. كان من بين من لفتوا نظرها كذلك رجل عجوز رمادي اللحية يرتدي ملابس أحد أساقفة الطوائف الأسقفية العليا؛ إذ تحوَّل الدين في ذلك العصر إلى تجارة لها تقلُّباتها. كان يجلس بجانبه هناك فتًى سقيم خليع المظهر يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا تقريبًا ويُحدِّق في التليفزيون.

بعد ذلك أجرَت المُديرة — حيث كانت الشركة تُفضِّل تعيين النساء في هذا المنصب — مُقابَلة مع إليزابيث ومن بعدها دينتون. وجدت إليزابيث أن المُديرة تمتلك وجهًا مُفعَمًا بالحيوية وأسلوبًا ازدرائيًّا وصوتًا بغيضًا للغاية. استلم دينتون وإليزابيث شهادات عديدة من بينها واحدة تُفيد بأنهما ليسا بحاجة إلى تقصير شعرهما. وبعد حصولهما على بصمات التعريف ومعرفة الرقم المُسجَّل على كل منها، استعاضا عن ثيابهما الرثَّة الخاصة بالطبقة الوسطى بملابس العمال المصنوعة من الخيش الأزرق الخشن والمُرقَّمة تسلسليًّا؛ ثم ذهبا إلى قاعة تناوُل الطعام الضخمة الخالية من أي معالم مُميَّزة لتناوُل أول وجبة في الظروف الجديدة. بعد ذلك عادا إلى المُديرة للحصول على تعليمات العمل.

بعد تغيير ملابسهما، لم تقدر إليزابيث على النظر إلى دينتون في البداية، لكنه نظر إليها ولدهشته كانت ما زالت تبدو جميلة حتى وهي مُرتدية الخيش الأزرق؛ وفي نفس الوقت أتتْ أطباق الحَساء وقِطع الخبز مُنزلِقة في مساراتها الصغيرة على سطح الطاولة الطويلة لتتوقف مُحدِثة هِزة مُفاجئة لينسى دينتون ما كان يُفكِّر به؛ إذ لم يكونا قد تناوَلا وجبة مناسبة منذ ثلاثة أيام.

وبعد تناوُل العشاء، استراحا قليلًا، ولم يتحدَّثا فلم يكن هناك ما يُقال؛ ثم نهضا بعد قليل وعادا إلى المُديرة لمعرفة ما يجب عليهما فعله.

تفحَّصت المديرة لوحًا من ألواح الكتابة ثم قالت: «لن تكون غرفتكما هنا بل ستكون في دائرة هايبري في الطريق السابع والتسعين، رقم ألفَين وسبعة عشر. من الأفضل أن تُدوِّنا هذا في بطاقتَيكما. أما أنتِ، فرقمك صفر صفر صفر، الفئة سبعة، أربعة وستون، بي سي دي، جاما واحد وأربعون، أنثى؛ ستذهبين للعمل في شركة تشكيل المعادن لتجربة العمل لمدة يوم واحد بمكافأة أربعة بنسات إذا نلتِ إعجابهم هناك. أما أنتَ فرقمك صفر سبعة واحد الفئة أربعة، سبعمائة وتسعة، جي إف بي، باي خمسة وتسعون، ذكر؛ ستذهب للعمل في شركة التصوير الفوتوغرافي الكائنة في الطريق الحادي والثمانين وستتعلَّم أمرًا أو أمرَين، لا أدري، مُقابِل ثلاثة بنسات. إليكما بطاقتكما. هذا كل شيء. التالي! ماذا؟ لم تُدرِكا كل ما قلت؟ يا إلهي! سوف أُكرِّر ما أبلغتكما به ثانية. لماذا لا تُنصِتان جيدًا؟ يا لَكما من شخصَين مُهمِلَين غير مُباليَين. هذه أمور بسيطة على ما أظن.»

كانا يتشاركان طريق الذهاب إلى العمل لفترة من الوقت مما أتاح لهما فرصة للحديث معًا. وللغرابة كان يبدو أن معظم ما أصابهم من اكتئاب قد زال الآن بمجرد أن ارتديا الخيش الأزرق. كان دينتون يتحدَّث بحماسٍ حتى عن العمل الذي سيُؤدِّيانه قائلًا: «مهما كان العمل، فلا يمكن أن يكون أسوأ من العمل في شركة القبعات. وحتى بعد أن ندفع تكاليف حضانة دينجز، سيتبقَّى لنا بنس في اليوم نقتسمه بيننا. بعد ذلك — بعد أن يتحسَّن أداؤنا في العمل — ربما نحصل على المزيد من المال.»

كانت إليزابيث أقلَّ حماسًا منه في الحديث قائلة: «أتساءَل لماذا يجب أن يكون العمل كريهًا هكذا.»

«إنه أمر غريب. أظن أنه لم يكن ليكون هكذا إذا لم يكن هناك من يُعطي الأوامر. أتمنَّى أن يكون مُديرونا أشخاصًا دمِثِي الخُلق.»

لم ترُد إليزابيث؛ إذ لم تكن تُفكِّر في هذا بل كانت مُستغرِقة في أفكارها الخاصة.

ثم قالت بعد قليل: «بالطبع. لم نعمل من قبل في حياتنا ومن العدل أن …» ثم توقَّفت عن الكلام.

كان الأمر شديد التعقيد.

قال دينتون، الذي لم يكن قد فكَّر من قبل في هذه الأمور المُعقَّدة: «لقد دفعنا الثمن. لم نفعل شيئًا، لكننا دفعنا الثمن. هذا ما لا أفهمه.»

ردَّت إليزابيث التي كانت فلسفتها في الحياة بسيطة وتقليدية للغاية: «ربما ندفع الثمن الآن.»

حان وقت افتراقهما حيث اتجه كل منهما إلى عمله المُكلَّف به حيث كان يجب عليه الاهتمام بمكبس هيدروليكي مُعقَّد يبدو كما لو كان كائنًا يعقل. كان ذلك المكبس يعمل بماء البحر وكان مُصمَّمًا لتفريغ مصارف المدينة؛ وهذا لأن العالم أقلع منذ زمن طويل عن حماقة صب مياه الشرب في البواليع. كانت تلك المياه تُنقَل إلى الطرف الشرقي من المدينة عن طريق قناة ضخمة، ثم تُرفَع بواسطة مجموعة مضخات هائلة إلى خزانات ترتفع إلى مستوى أربعمائة قدم فوق سطح البحر لتنتشر في جميع أنحاء المدينة بواسطة ملايين الروافد الرئيسية؛ من ثَم تُصَب مياه التنظيف والري وتُشغَّل مختلف أنواع الآلات من خلال مجموعة غير مُتناهية من القنوات الدقيقة داخل المصارف الضخمة أو أنظمة البواليع التي تحمل مياه الصرف إلى المناطق الزراعية المحيطة بلندن من جميع الجهات.

كان المكبس يُستعمَل في إحدى عمليات التصنيع الفوتوغرافي، لكن طبيعة العملية بالضبط لم تكن تشغل بال دينتون. كانت أهم الحقائق في العالم بالنسبة له تتمثَّل في أنه يجب أن تكون الإضاءة باللون الأحمر الداكن عندما تعمل؛ ومن ثَم كانت الغرفة التي يعمل بها تُضاء بكُرة مُلوَّنة مغمورة بضوء ساطع لدرجة لا يشعر معها بارتياح. في أكثر زوايا الغرفة ظلامًا، كان يقبع المكبس الذي أصبح دينتون المسئول عن تشغيله الآن. كان للمكبس جسم ضخم مُعتِم مُتلألئ له غطاء بارز يُشبِه رأسًا مُنحنيًا؛ كما كان يحتل مكانًا في الأرض كما لو أن تمثالًا معدنيًّا لبوذا جالسًا في هذا الضوء الغريب يُلبِّي احتياجاته. لقد بدا لدينتون في بعض الأحيان كما لو كان إلهًا غامضًا قدَّمت البشرية له — في ضلال وانحراف — دينتون قربانًا من أجله. كانت مهامُّ دينتون مُتنوِّعة لكنها رتيبة ومُمِلة، وهذه المهامُّ التي سنصفها تُعطي فكرةً عن تشغيل المكبس. كان المكبس يُصدِر صوت قرقعة مُستمِرة ما دام يعمل على ما يُرام، لكن إذا تغيَّر تركيب الخليط القادم من إحدى المُلقِّمات القادمة من غرفة أخرى والذي يُكبَس على هيئة ألواح رقيقة، فإن إيقاع الصوت يتغير ويتوجَّب على دينتون الإسراع بإجراء بعض التعديلات. كان أقل تأخير يتسبب في إهدار المعجون وخسارة دينتون لبنس أو أكثر من أجره اليومي. إذا قلَّ إمداد المعجون — حيث كانت هناك عمليات يدوية من نوع غريب مُتضمَّنة في تحضيره، وأحيانًا كان العاملون تنتابهم تشنُّجات تُؤدِّي لتشويه ما يُنتَج — كان على دينتون إيقاف المكبس عن العمل. كل هذا فرض على دينتون قضاء ثُلث أيام العمل في هذه المهام التي تحتاج منه إلى تركيز شديد؛ إذ كان يتعيَّن عليه الانتباه لأدق التفاصيل. كان الجهد الذي يبذله مُضنيًا؛ نظرًا لغياب اهتمامه الطبيعي بهذا العمل. وفيما عدا زيارة عارضة بين الفَينة والأخرى من مُديره الذي كان رجلًا طيبًا لكنه بذيء اللسان، كان دينتون يقضي ساعات عمله وحيدًا.

أما عمل إليزابيث فقد كان ذا طبيعة اجتماعية. كان في ذلك الوقت ثَمة تقليد يتضمَّن تغطية الشقق السكنية التي يمتلكها أشخاص فاحشو الثراء بصفائح حديدية مُزيَّنة بنقوش بارزة مُتعدِّدة ذات مظهر جميل، لكن ذوق ذلك العصر كان يتطلَّب ألَّا تتكرَّر نفس النقوش بنفس النمط بالضبط بحيث يبدو الأمر طبيعيًّا وليس آليًّا؛ ووُجِد أن الجزء الأكثر جمالًا من التنسيق غير المُنتظِم للنقوش كان يُصنَع بواسطة نساء ذوات ذوق رفيع وفطري في صنع هذه النقوش بآلات صغيرة. كان يجب على إليزابيث إنتاج عدد مُحدَّد من الأقدام المُربَّعة من الصفائح المعدنية كحدٍّ أدنى؛ وكانت تحصل مُقابِل كل قدم مُربَّع زائد على قدر إضافي ضئيل من المال. كانت الغرفة التي تعمل فيها، مثل معظم الغرف التي تعمل بها العاملات، تحت إشراف مديرة، وكان هذا لأن الشركة وجدت أن الرجال ليسوا فقط أقل قسوة مما هو مطلوب بل أكثر ميلًا إلى إعفاء سيدات بعينهن مُفضَّلات لديهم من نصيبهن من المهام اليومية. كانت المديرة شخصية طيبة لكنها كانت مُتحفِّظة في كلامها ويتسم وجهها ببقايا جمال صارم يُميِّز ذوات البشرة السمراء. كانت العاملات يكرهنها بالطبع وربطن بينها وبين أحد مُديرِي عمال المعادن من منظور فضائحي ليُفسِّرن حصولها على هذا المنصب.

كانت اثنتان أو ثلاثة فقط من زميلات إليزابيث قد وُلِدن في أحد المستشفيات التابع لشركة العمالة وكنَّ فتيات لا يتسمن بأي ملامح مُميِّزة وذوات وجوه مُتجهِّمة وكئيبة؛ لكن معظمهن كان ينطبق عليهن أوصاف القرن التاسع عشر للسيدات كريمات المَحْتِد اللاتي واجَهن ظروفًا قاسية، لكن ما كان يُميِّز السيدات الكريمات المَحتد قد تغيَّر واختفت صفات مثل الخجل والتعفُّف المشوب بالسلبية والتردُّد. كان معظم زميلات إليزابيث يمتلكن شعرًا وبشرة تلاشى لونهما وكانت تدور مُحادَثاتهن الحافلة بالذكريات عن أمجاد شبابهن الضائع. وكانت كل هؤلاء النساء اللائي يعملن في إنتاج الزخارف الفنية أكبر سنًّا بكثير من إليزابيث؛ بل وعبَّرت اثنتان بوضوح عن دهشتهما أن تأتي فتاة صغيرة وجميلة مثلها لتُشارِكهن الكَدْح، لكن إليزابيث لم تشَأ إزعاجهن بقناعاتها الأخلاقية التي عفا عليها الزمن.

كان يُسمَح للعاملات، بل قد اعتِيد تشجيعهن، على إجراء المحادثات بعضهن مع بعض حيث وُجد المُديرون، وكانوا على صواب في هذا، إن أي أمر يُؤدِّي لحدوث تقلُّبات مزاجية لدى العاملات كان يُنتِج تغيُّرات جميلة في أنماط الزخرفة، وكانت إليزابيث شبه مُضطَرة للاستماع لقصص حياتهن التي تداخَلت فيها قصة حياتها؛ وكانت تلك القصص مُشوَّهةً ومُحرَّفةً بسبب الخُيلاء والغرور لكنها كانت مفهومة بما يكفي. ولم يمر وقت طويل قبل أن تبدأ في تقدير الضغائن البسيطة وسوء الفهم الطفيف والتحالفات والتآمُرات التي تُحيط بها. كانت هناك امرأة ثرثارة على نحو مُفرِط حيث كانت تصف ابنًا جميلًا لها؛ بينما كانت هناك أخرى أصبح لديها صوت خشن مُثير للسخرية بدا أنها تعتبره أفضل تعبير ممكن عن الأصالة؛ وثالثة دائمة التفكير في الملابس هامسة إلى إليزابيث كيف أنها ادَّخرت كل بنس يومًا بعد يوم وستحظى عما قريب بالحرية، وتقضي ساعات في وصف ما سترتديه. كانت هناك عاملتان أخريان دائمًا ما تجلسان معًا وتُناديان بعضهما بعضًا بأسماء حيوانات أليفة حتى حدث أمرٌ تافهٌ ما في أحد الأيام أدَّى لافتراقهما، وأصبحت كل واحدة منهما كما لو كانت لا ترى ولا تسمع الأخرى. ودائمًا ما كان يصدر من العاملات صوت نقر مُستمِر أثناء العمل — تاب، تاب، تاب — ودائمًا ما كانت المُديرة تُصغي جيدًا لهذا الإيقاع لتعرف ما إذا كانت إحداهن قد توقفت عن العمل. تاب، تاب، تاب؛ هكذا كانت تمضي الأيام، وهكذا كان يجب أن تمضي. كانت إليزابيث تجلس وسطهن، ساكنة ولطيفة المَعشر. كانت مُنكسِرة الفؤاد تتأمل القدر مُتعجِّبة؛ تاب، تاب، تاب، تاب.

توالت أيام العمل طويلة وشاقة على دينتون وإليزابيث مما أدَّى إلى خشونة أكُفهما، وامتزج جمال حياتهما الناعمة ببعض الأمور الغريبة القاسية والجديدة عليهما وهو ما أدَّى إلى ظهور خطوط وظلال في وجهَيهما، كما اختفَت حياتهما السابقة المُريحة والمُبهِجة بلا رجعة. وأدركا تدريجيًّا وببطءٍ حقيقةَ الطبقات الكادحة؛ إنه عالمٌ فسيح وشاقٌّ وكئيب وحافل. كان هناك العديد من الأمور الأخرى التي لم تكن ذات أهمية كبيرة؛ أمورٌ روايتها تُصيب المرء بالأسى والملل؛ أمور مريرة وثقيلة الوطأة على النفس؛ إهانات واستبداد ومثل تلك الأمور التي يعهدها الفقراء في المدن، لكن أحدها لم يكن هينًا بل جعل الحياة تسودُّ تمامًا في عينَيهما وهو مرض وموت طفلتهما، لكن تلك القصة القديمة التي تتكرَّر منذ الأزل حُكِيت كثيرًا وبطريقة بليغة حتى إنه لم تعُد ثَمة حاجة لسردها مرة أخرى. كان هناك نفس الخوف الشديد ونفس التوتُّر والصدمة الحتمية المُؤجَّلة التي لا سبيل لتفاديها والصمت الكئيب. لقد كان الأمر كذلك دائمًا، وسيظل كذلك دائمًا. إنها سنة الحياة.

كانت إليزابيث من تحدَّث أولًا بعد صمت مُؤلِم وثقيل دام لأيام، ليس عن الطفلة الصغيرة التي غادرت العالم بالطبع، ولكن عن الظلام الذي عشَّش في روحها. واجَها معًا الحياة المُضطرِبة الصاخبة للمدينة. لم يُعيرا اهتمامًا لصيحات الباعة وصراخ مُمثِّلي الأديان المُتنافِسة والسياسيِّين، بينما لم يكن لوهج الأضواء المُركَّزة والحروف المُتراقِصة والإعلانات النارية وقعٌ على تلك الوجوه الجامدة البائسة. ذهبا لتناوُل العشاء في قاعة الطعام وقد جلسا في مكان مُنعزِل. قالت إليزابيث بطريقة خرقاء: «أريد أن أذهب إلى منصة الطائرات لأجلس على المقعد. هناك يمكن أن أجلس في صمت.»

نظر دينتون إليها قائلًا: «سيكون الليل قد حلَّ.»

«أرغب في هذا. إنها ليلة جميلة.»

كان يعتقد أنها ليست قادرة على تفسير ما بداخلها ثم أدرك فجأة أنها تُريد رؤية النجوم مرة أخرى؛ النجوم التي شاهَداها معًا في الأرض المُنخفِضة المفتوحة خلال شهر العسل الجامح الذي حظِيا به منذ خمس سنوات. شعر بغُصة في حلْقِه وأشاح بنظره عنها.

قال بلهجة تقريرية: «سيكون أمامنا فسحةٌ من الوقت لنذهب.»

في النهاية، ذهبا إلى المقعد الصغير المُفضَّل لديهما على منصة الطيران وجلسا لوقت طويل في صمت. كان المقعد الصغير يقع في الظل لكن أعلاهما كان مُكتسيًا بلون أزرق باهت؛ بسبب تألُّق المنصة بينما امتدَّت المدينة أسفلهما على هيئة مُربَّعات ودوائر ورُقَع رائعة المنظر تغمرها شبكة من الأضواء. بدَت النجوم الصغيرة خافتة الأضواء وبعيدة بعدًا لا مُتناهيًا، لكن ظلَّت مرئية بالنسبة إليهما في المناطق المُظلِمة وسط وهج الأضواء وخاصة في جهة الشمال من السماء، حيث تتحرَّك مجموعات النجوم العتيقة بثبات وتُؤدة.

جلس بطلانا في صمت لفترة طويلة ثم تنهَّدت إليزابيث في النهاية قائلة: «إذن فهمتُ، إذن أمكنني أن أفهم؛ عندما أكون في المدينة فهي تبدو عالمًا كاملًا — بضوضائها وسرعة إيقاع الحياة والأصوات — يجب عليك الاجتهاد والتدافُع لتظل حيًّا. أما هنا فلا شيء يحدث. يمكن للمرء هنا أن يُفكِّر في سلام.»

قال دينتون: «نعم. كم يبدو الأمر كله واهيًا! من هنا يبدو نصف المدينة غارقًا في الظلام. سوف تندثر يومًا ما.»

«سوف نموت نحن أولًا.»

«أعلم هذا. لو كانت الحياة لحظة فالتاريخ كله سيبدو كيوم واحد. نعم، سنموت. وستندثر المدينة كذلك وكل ما هو آتٍ. الإنسان والمخلوقات الخارقة وعجائب أخرى لا تُوصَف؛ ومع ذلك …»

توقَّف عن الكلام للحظات ثم بدأ من جديد: «أُدرِك ما تشعرين، أو أتخيَّل هذا على الأقل. في المدينة يُفكِّر المرء في العمل، يُفكِّر في مَلذاته ومُنغِّصاته التافهة، ما يأكل وما يشرب، ما يُريحه وما يُؤلِمه. الموت حتمي كالحياة. في المدينة، يبدو ألمُنا كما لو كان نهاية الحياة. أما هنا فالأمر مُختلِف. على سبيل المثال، من المُستحيل العيش في المدينة إذا كان الشخص مُشوَّهًا بشكل مُروِّع أو مشلولًا أو موصومًا بالعار. أما هنا، تحت هذه النجوم، فلا يهم أي من هذه الأمور. لا يهم أي منها مُطلَقًا. إنها جزء من شيءٍ ما ويبدو المرء كما لو كان يستطيع الإمساك بهذا الشيء تحت النجوم.»

توقَّف دينتون عن الكلام فقد تلاشَت من عقله الأمور الغامضة غير المحسوسة؛ العواطف الغامضة التي لم يكتمل تحوُّلها إلى أفكار قبل أن يُعبِّر عنها بالكلمات مما جعله يقول على نحو أخرق: «الأمر يصعب تفسيره.»

ثم جلسا في صمت طويل.

قال في النهاية: «من الجيِّد القدوم إلى هنا. هذا هو خط النهاية بالنسبة لنا، فعقولنا محدودة للغاية. في النهاية، نحن مُجرَّد حيوانات ضعيفة نشأت من الوحوش؛ لكل منها عقل لكنه عقل بدائي للغاية. نحن كائنات غبية. الكثير من الأشياء يُؤلِمنا، لكننا نعلم أنه سيحدث يومًا ما أن يتحول كل هذا الضغط الرهيب وكل هذا الشقاق والخلاف إلى انسجام وتناسُق وسنشهد هذا. لا شيء في تناسُق الآن، لكن حتى هذا يُسهِم في حدوث هذا التناغُم. لا شيء. كل هذا الفشل وكل أمر ضئيل يُسهِم في حدوث هذا التناسُق والانسجام. كل ما يحدث ضروري في حدوث هذا. وسنُدرِك هذا. لا يمكن استثناء أي شيء، ولا حتى أكثر الأمور ترويعًا أو أكثرها تفاهة وابتذالًا. كل طَرْقة من طَرَقات مِطرقتك على النحاس في عملك وكل دقيقة من عملي؛ أو حتى تَعطُّلي، يا عزيزتي! كل حركة من حركات ابنتنا المسكينة، كل هذه الأمور تستمر للأبد، وكذلك أكثر الأمور غموضًا وصعوبة على الإدراك. حتى جلوسنا هنا معًا. كل شيء.»

واستمر دينتون: «العاطفة التي جمعت بيننا وما أصبحت عليه، لم تعد عاطفة بقدر ما أصبحت حزنًا وأسفًا! عزيزتي!»

لم يستطع قول المزيد أو الاستسلام لأفكاره أكثر من ذلك؛ بينما لم تُجِب إليزابيث فقد كانت ساكنة للغاية لكن يدها كانت تبحث عن يده حتى عثرت عليها.

(٤) تحت الأرض

تحت النجوم، وبعيدًا عن مُعترَك الحياة، ربما يمكنك قبول أي شيء حتى لو كان شرًّا؛ لكن عندما نعود إلى مَعمعان وضغوط العمل نعود أدراجَنا إلى السخط والاشمئزاز والحالات المزاجية التي لا تُحتمَل. كم هي ضئيلة كل شهامتنا! مُجرَّد شيء طارئ! مرحلة عابرة! حتى قِدِّيسو العالم القديم كان عليهم أولًا الهروب من عالمهم، لكن دينتون وإليزابيث لم يستطيعا الهروب، ولم يعُد مُتاحًا أمامهما طرق مفتوحة إلى أراضٍ لا مالك لها حيث يمكن للبشر العيش في حرية — حتى لو كانت عيشة قاسية — والشعور بالسلام في صميم أرواحهم. لقد ابتلعت المدينة جنس البشر.

لفترة من الزمان، ظل دينتون وإليزابيث في وظيفتَيهما الأساسيتَين؛ فقد ظلَّت هي تطرق النحاس بينما ظل هو يهتم بالمكبس؛ ثم حدثت نقلة لدينتون جلبت معها خبرات وتجارب جديدة — ومريرة في ذات الوقت — في الحياة في عالم ما تحت الأرض في المدينة الكبيرة. نُقِل دينتون إلى المصنع المركزي في شركة لندن للقرميد ليُصبِح مسئولًا عن مكبس أكثر تعقيدًا.

في وظيفته الجديدة، كان يجب على دينتون العمل في غرفة طويلة تقع تحت الأرض مع عدد آخر من الرجال كان معظمهم قد وُلِدوا ليعملوا لدى الشركة. تقبَّل دينتون هذا الوضع على مضض؛ فقد نشأ نشأة كريمة، وقبل أن يقوده حظه العاثر إلى ارتداء الخيش الأزرق، لم يكن قد تكلَّم مع فرد من العمال بيض الوجوه، إلا بالأمر أو لضرورةٍ ما. أما الآن وأخيرًا، حدث التواصُل بينهم فقد كان يجب عليه الآن العمل بجانبهم واستخدام أدواتهم وتناوُل الطعام بصحبتهم. بدا هذا بالنسبة له ولإليزابيث كمزيد من الحط من قدرهما.

كان هذا يبدو مُتطرِّفًا بالنسبة إلى رجل من القرن التاسع عشر، لكن في السنوات الفاصلة بين الزمنَين، وببطء وبشكل حتمي، نمَت فجوة هائلة بين طبقة العمال وبين الطبقات الاجتماعية الأخرى وهو فرق اجتماعي لم يُسهِم في حدوثه فقط ظروف وعادات الحياة، بل الفكر كذلك؛ وحتى اللغة. فقد تطوَّرت في المناطق التي يسكنها العمال تحت سطح الأرض لهجة خاصة بهم وكذلك فوق الأرض، تطوَّرت لهجة وطريقة تفكير ولغة ثقافية كانت تسعى — عن طريق الكد في قبول أحدث الاختلافات — إلى أن تُبعِد نفسها باستمرار عن «السُّوقية». لم تعُد رابطة الدين تربط الناس بعضهم بعضًا. اتسمت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بالتنامي السريع في التحريفات الحاصلة فيما يتعلق بالديانة الشائعة آنذاك؛ ما أدَّى إلى اختزال التعاليم الفضفاضة التي نشرها القديس نجَّار الناصرة لتخدم فحسْب حياة الترف ذات المنظور المحدود. وعلى الرغم من نزوعهما للطريقة القديمة في العيش، لم يكن أي من بطلَينا قادرًا على الهروب مما تفرضه عليه بيئته. فيما يخص السلوك العام، كان دينتون وإليزابيث يتَّبعان الطرق الخاصة بطبقتهما الاجتماعية؛ لذا عندما تدهور حالهما حتى أصبحا عاملَين، بدا الأمر لهما وكأنهما سقطا وسط مجموعة من الحيوانات المُتوحِّشة الوضيعة؛ ولا بد أنهما أحسَّا بإحساس دوق ودوقةٍ ما من القرن التاسع عشر كانا مُجبَرَين على المبيت في حي للفقراء.

كان تصرُّفهما الطبيعي هو إبقاء مسافة بينهما وبين العمال، لكن أول فكرة خطرت ببال دينتون للانعزال بشيء من الكرامة عما يُحيطهما سرعان ما تبدَّدت بطريقة وقحة. كان يتخيل أن تدهورهما اجتماعيًّا حتى وصلا إلى طبقة العمال كان نهاية درسه المُستفاد من الحياة، وعندما ماتت ابنتهما الصغيرة، خُيِّل إليه أنهما اختبرا أعمق أعماق الحياة، لكن في الحقيقة فإن كل هذا كان مُجرَّد البداية. دائمًا ما تطلب الحياة منا أكثر من مُجرَّد الإذعان، والآن وفي غرفة مليئة بالمُشرِفين على الآلات، سيتعلم دينتون درسًا أكبر وهو إدراك عامل آخر في الحياة؛ عامل رئيسي كفقدان ما نُحِب وأكثر جوهرية من مُجرَّد الكدح في العمل.

كان رفضه الصامت للحديث مع الآخرين سببًا فوريًّا في حدوث الاستياء، وفُسِّر على أنه احتقار، وهو ما أخشى أن يكون تفسيرًا صائبًا. فجأةً اتخذ جهله باللهجة السوقية — وهو أمر كان لا يزال يفتخر به — مَنحًى جديدًا؛ فقد فشل دينتون فورًا في فهم الكلمات الترحيبية التي استقبلوه بها والتي كانت فظة وغبية لكنها تُعبِّر عن حرارة الاستقبال وهو الأمر الذي لا بد وأن بدا لقائلِيها كضربات مُوجَّهة لهم؛ فقد ردَّ عليهم بكل برود: «لا أفهمكم.» أو يقول مُصادَفة: «لا، شكرًا لك.»

أدَّى هذا إلى أن حدق فيه رجل كان يُخاطِبه ثم عَبَس وأشاح بوجهه مُنصرِفًا عنه.

رجل آخر تحمَّل مشقة إعادة كلامه على مسامع دينتون التي لم تعتد هذا الكلام ليكتشف الأخير أن الأول يعرض عليه صفيحة من الزيت. عبَّر عن شكره بأدب، بينما بدأ الرجل الآخر مُحادَثة معه بغرض معرفة المزيد عنه. أشار الرجل إلى أن دينتون مُتكبِّر ومغرور وأراد أن يعرف كيف انتهى به الحال بأن يرتدي لبس العمال. توقَّع الرجل أن يسمع من دينتون سردًا لحكاية مليئة بالرذيلة والتبذير. هل ذهب العامل الجديد إلى مدينة المتعة من قبل؟ اكتشف دينتون بسرعة كيف أن وجود مثل هذه الأماكن المُدهِشة للمتعة يتخلَّل ويُدنِّس أفكار وشرف مثل هؤلاء العمال اليائسِين المُكرَهين في عالم لندن السفلي.

أثارت هذه الأسئلة استياء دينتون ذي الطابع الأرستقراطي وأجاب باقتضاب: «لا.» لكن الرجل أصرَّ على طرح الأسئلة الشخصية وكان دينتون هذه المرة هو من أشاح بوجهه عنه.

قال الرجل مُندهِشًا بدرجة كبيرة: «يا لَلوقاحة!»

لم يلبث دينتون أن أدرك أن هذا النقاش اللافت للانتباه الذي دار بينه وبين الرجل كان سيتكرر على مسامع من سيتعاطفون معه مما سيُؤدِّي إلى أن يشعروا بالدهشة ويطلقوا ضحكات ساخرة منه. كان العمال ينظرون إلى دينتون باهتمام كبير على ما يبدو، وبدأ يشعر بعزلة غريبة. حاوَل أن يُركِّز تفكيره في المكبس وخصائصه التي لم يألفها بعد.

أبقَت الآلات الجميع مشغولِين بشدة في النَّوبة الأولى ثم حانت فترة الاستراحة التي كانت مُجرَّد فاصل قصير لا يكفي لأن يذهب أي موظف لقاعة الطعام الخاصة بالشركة. تبع دينتون زملاءه حيث ذهبوا إلى رواق قصير كان به عدد من الصناديق بالإضافة إلى نفايات المكابس.

أخرج كل رجل علبة بها طعام عكس دينتون. يرجع هذا إلى أن المُدير، ذلك الشاب المُهم الذي كان يشغل منصبه من خلال استخدام نفوذه، نسي أن يُخبِر دينتون أنه يجب عليه التقدُّم بطلب للحصول على نصيبه من الطعام. وقف دينتون بمعزل عن الآخرين شاعرًا بالجوع، بينما تجمَّع الآخرون في مجموعة وكانوا يتحدثون بصوت خفيض مُسترِقِين النظر إليه بين الحين والآخر. انتاب دينتون شعور بعدم الارتياح، واحتاج لجهد مُتزايد للاحتفاظ بمظهر من عدم الاكتراث وحاوَل أن يُركِّز تفكيره في روافع مكبسه الجديد.

وما لبث أن اقترب من دينتون رجل أقصر قامة وأكثر عرضًا وسمنة منه. التفت دينتون إليه بأكبر قدر من اللامبالاة. قال الرجل: «خُذ!» مُناوِلًا إياه مُكعَّبًا من الخبز بيد شديدة الاتساخ. كان الرجل ذا بشرة سوداء أفطس الأنف وفم تدلَّى أحد جانبَيه.

ساور دينتون الشك للحظة عما إذا كان الرجل يسعى لإهانته أم معاملته معاملة حسنة، رفض دينتون بأدب قائلًا: «لا، شكرًا.» وأضاف وقد تغيَّر وجه الرجل: «لستُ جائعًا.»

سمع ضحكة من مجموعة من العمال خلفه وقال الرجل الذي عرض على دينتون صفيحة الزيت: «ألمْ أُخبِرك! إنه من عِلية القوم. أنت لا تستحق الحديث معه.»

ازداد وجه الرجل اسودادًا؛ لكنه ظل باسطًا يده بالخبز إلى دينتون قائلًا بصوت خفيض: «خُذ! يجب عليك تناوُل هذا. أتفهمني؟»

نظر دينتون للوجه المُتوعِّد الذي ينظر إليه وبدأت موجات ضئيلة غريبة من الطاقة تسري في أطرافه وجسده.

ردَّ دينتون مُحاوِلًا أن يصطنع ابتسامة جميلة على وجهه لكنه فشل: «لا أريده.»

لكن الرجل الضخم قرَّب وجهه من دينتون وأصبح الخبز في يده يعمل عمل السلاح؛ بينما سارَع عقل دينتون يُفكِّر فيما يبدو في عينَي الرجل الأسود الذي ما زال يُردِّد كلامه: «تناوَله!»

بعد فترة صمت، تحرَّك كلاهما سريعًا مما جعل مُكعَّب الخبز يسلك مَسارًا مُعقَّدًا عبارة عن خط مُنحنٍ كان سينتهي به الحال في وجه دينتون لولا أن ضرب بقبضته مِعصم الرجل ليطير الخبز عاليًا ليخرج من النزاع وينتهي دوره.

رجع دينتون للوراء بسرعة ضامًّا قبضتَيه وقد توتَّر ساعداه. وتراجَع الرجل الأسود ليتخذ وضع تأهُّب عدائي مُنتظِرًا فرصة الانقضاض، لكن دينتون شعر بالثقة للحظة وانتابَه شعور غريب بالهدوء والنشاط بينما كان ينبض قلبه بسرعة. شعر بالحيوية والحماس يسريان في جسده حتى أطراف أنامله وأخمص قدمَيه.

أتت صرخة من مكان ما: «معركة يا رفاق!» لكن الرجل الأسمر قفز للأمام ثم خفض رأسه مُتجِهًا إلى الخلف ثم إلى الجانبَين ومُندفِعًا إلى الأمام من جديد. ضربه دينتون لكن الرجل قابله بلكمة. بدا لدينتون كما لو كانت إحدى عينَيه قد فُقِئت وشعر بشفة الرجل اللينة ترتطم بقبضته قبل أن يضربه الرجل مرة أخرى هذه المرة أسفل ذقنه؛ ليشعر كما لو كانت ارتطمت به مجموعة كبيرة من إبر النار وكما لو أن رأسه تهشَّم لأجزاء صغيرة؛ ثم ارتطم شيء برأسه وظهره من الخلف ليُصبِح الشجار مُنهِكًا ووحشيًّا.

أدرك دينتون أن وقتًا قصيرًا — ثواني أو دقائق معدودة — مرَّ خاليًا من الأحداث حيث كان يرقد ورأسه في كومة من الرماد وتدفَّق سائل دافئ ورطب بسرعة في رقبته. تحوَّلت صدمته الأولى إلى أحاسيس عِدة غير مُترابِطة. كان رأسه يخفق في ألم وعلى الأخص عينه وذقنه اللذان كانا يخفقان بألم مُتزايد وشعر بمذاق الدم في فمه.

سمع صوتًا يقول: «إنه بخير. لقد فتح عينَيه.»

ليقول ثانٍ: «يستحق بكل تأكيد!»

كان الآخرون يتجمَّعون حوله بينما جاهَد دينتون ليقف وأمسك مُؤخِّرة رأسه بيده ليجد شعره مُبتلًّا ومُلوَّثًا بفُتات الرماد بينما سمع من يسخر منه. كانت عيناه مُغمَضتَين جزئيًّا وأدرك ما حدث. لقد تلاشى النصر الأخير الذي كان يتوقع للحظة أن يُحقِّقه.

سمع من يُخاطِبه: «تبدو مُتفاجِئًا.»

ثم قال شخص آخر ساخرًا: «هل تُريد المزيد؟» ثم بدأ يُقلِّد لهجة دينتون الرفيعة: «لا، شكرًا!»

رأى دينتون الرجل الذي تشاجَر معه يمسح وجهه بمنديل مُلوَّث بالدماء ويقف في الخلفية.

قال شخص ضئيل الحجم بوجه يُشبِه ابن مِقرض: «أين قطعة الخبز التي كان سيتناولها؟» وبحث بقدمه في الرماد الذي يملأ الصندوق المُجاوِر.

كان صراع داخلي قد بدأ يعتمل داخل دينتون؛ فقد كان يُدرِك أن ميثاق الشرف يتطلب منه أن يُنهي الرجل شجارًا قد بدأه حتى النهاية مهما كانت النتيجة، لكن ما حدث كان أول إحساس بالمرارة ينتابه. كان عازمًا على النهوض مُجدَّدًا لكنه لم يجد لديه الدافع القوي لذلك. خطر له — ولم يكن ما خطر له بالدافع القوي — أنه رغم كل شيء ربما يكون شخصًا جبانًا. للحظة، شعر بتثاقُل إرادته ككتلة من الرصاص.

قال الرجل الذي يُشبِه ابن مِقرض: «ها هي.» وانحنى ليلتقط مُكعَّب الخبز المُلوَّث بالرماد، ناظرًا إلى دينتون ثم إلى الآخرين.

نهض دينتون ببطء وعلى مضض.

مدَّ رجل أمهق مُتسِخ الوجه يده إلى الرجل الذي يُشبِه ابن مِقرض قائلًا: «أعطِني هذا.» ثم تقدَّم مُهدِّدًا نحو دينتون والخبز في يده قائلًا: «لم تحصل على ما يسدُّ رَمقك بعد، أليس كذلك؟»

حان وقت المواجهة لدينتون حيث رد قائلًا: «بلى.» مُلتقِطًا أنفاسه، وقد عزم أن يُسدِّد لهذا الهمجي لكمة وراء الأذن قبل أن يجد نفسه وقد أفقده الرجل وعيه. كان يعلم أن الرجل سيُفقِده وعيه مرة أخرى. كان دينتون مُندهِشًا كيف كان حكمه على ذاته غير صحيح فيما مضى. بعض اللكمات البسيطة، وسيسقط مهزومًا مرة أخرى. أخذ يُراقِب عينَي الرجل الأمهق الذي كان يبتسم كاشفًا عن أسنانه في ثقة مثل رجل خطَّط لتنفيذ خدعة مُتقَنة؛ وانتابه شعور مُفاجئ بإهانات وشيكة الحدوث.

لكن الرجل الأسود قال فجأة من وراء المنديل القماشي المُلطَّخ بالدم: «دَعه وشأنه يا جيم. إنه لم يُؤذِك في شيء.»

اختفَت ابتسامة الأمهق وتوقَّف ليتنقل بناظرَيه بين الرجلَين. بدا الأمر إلى دينتون كما لو كان الرجل الأسود يُريد الاحتفاظ لنفسه بشرف القضاء على دينتون؛ وحينها بدا الأمهق لدينتون اختيارًا أفضل.

أعاد الرجل الأسود كلامه: «دَعه وشأنه. لقد نال كفايته.»

تعالى صوت جرس يدقُّ ليهرب دينتون من هذا المأزق. تردَّد الأمهق قائلًا: «يا لَك من محظوظ» مُتفوِّهًا بشتيمة بذيئة، ثم استدار عائدًا بصحبة الآخرين إلى غرفة المكبس مرة أخرى. استدرك الأمهق قائلًا: «انتظر حتى نهاية نوبة العمل يا رفيق.» انتظر الرجل الأسود حتى يسبقه الأمهق، وأدرك دينتون أن حكم الإعدام عليه قد أُرجئ.

تقدَّم الرجال نحو باب مفتوح. أصبح دينتون مُدرِكًا لمهام عمله وهرع ليلحق بذيل طابور العمال. كان هناك شُرطي يتبع شركة العمالة يرتدي زيًّا أصفر اللون يقف على غرفة ذات مدخل مُقوَّس تضم المكابس ويحمل بطاقة يُسجِّل عليها الملاحظات، وقد تجاهَل نزيف الرجل الأسود.

قال الشُّرطي مُخاطِبًا دينتون: «أسرع!» ثم قال فور مُشاهَدته لوجهه: «من الذي ضربك؟»

ردَّ دينتون: «هذا شأني.»

«ليس كذلك إذا كان يُفسِد عملك. تذكَّر هذا جيدًا.»

لم يرُد دينتون. كان عاملًا فظًّا. كان يرتدي الخيش الأزرق، وكان يعرف أن قوانين عقاب الاعتداء والضرب لا تسري على من يرتدونه. أكمل دينتون طريقه إلى المكبس.

تحسَّس دينتون الكدمات الشديدة التي أصابت أحد حاجبَيه وذقنه ورأسه وشعر بالخفقان والألم في كل كدمة منها. سيطر الخمول واللامبالاة على أعصابه، وبدا كما لو كانت كل حركة يقوم بها على المكبس تتطلب مجهودًا مُضنيًا. وبالنسبة لكرامته، فقد كانت تخفق بالألم كالكدمات تمامًا. كيف استطاع الوقوف على قدمَيه؟ وماذا حدث بالضبط في العشر دقائق التي مضت؟ وما الذي سيحدث بعد ذلك؟ كان يعرف أن الأمر يحتاج لتفكير عميق لكنه كان في حالة من التشوُّش تمنعه من التفكير بصفاء.

كانت حالة دينتون المزاجية مزيجًا من الذهول والجمود. كانت كل القناعات التي يُؤمِن بها قد أُطيح بها، فقد كان يعتبر سلامته من الاعتداء البدني أمرًا مُتأصِّلًا فيه كأحد شروط الحياة بالنسبة له. وبالفعل كان هذا حقيقيًّا، فانتماؤه للطبقة المُتوسِّطة كان يُمثِّل حماية له. لكن من الذي سيتدخَّل بين عمال أفظاظ يتشاجرون معًا؟ وبالفعل، في ذلك الزمن لم يكن أحد ليفعل هذا. في العالم السفلي، لم تكن هناك قوانين تفصل بين البشر؛ وأصبحت تلك القوانين بالإضافة إلى سياسات الدولة في إدارة شئون البلاد بالنسبة لهم أمرًا يُكبِّل الناس ويمنعهم من امتلاك ما هو مرغوب ومُمتِع، لا أكثر ولا أقل. أما العنف الذي كان يعيش فيه هؤلاء الهمج للأبد، والذي يحوي آلاف الحيل والوسائل التي تُعرِّض حياتنا الحديثة للخطر، فقد تدفَّق مرة أخرى في طرق ودهاليز العالم السفلي ليغمرها. كان القانون السائد هو البقاء للأقوى. لقد فهم دينتون أخيرًا ما هو جوهري رغم أنه كان لا يزال في بداية حياته في العالم السفلي؛ القانون السائد هو قانون الغاب والمكر والثبات عند المُواجَهة والبقاء في جماعة وعدم الانعزال.

توقَّف تدفُّق أفكار دينتون عندما تغيَّر صوت إيقاع المكبس.

لكن بعد قليل استطاع أن يُفكِّر مرة أخرى. من المُثير للاستغراب السرعة التي سارت بها الأحداث! لم يكن دينتون يحمل أي ضغينة من أي نوع تجاه الرجال الذين ضربوه. كانت كدمات دينتون تنويرية؛ فقد أدَّت لأن يُدرِك ما أدركه. لقد أصبح يُدرِك بكل وضوح وإنصاف منطقية كراهية الآخرين له. لقد كان يتصرَّف ببلاهة. الازدراء والعزلة يُصبِحان فقط ميزتَين لدى من يمتلك القوة. أما النبيل الأرستقراطي الذي تدهور به الحال وما زال يتعلَّق بتميُّز اجتماعي لا طائل من ورائه فهو أكثر الأشخاص المُدعين إثارة للشفقة في هذا الكون الصاخب الذي لا يهدأ. يا لَلسماء! ما الذي دفعه لازدراء واحتقار هؤلاء الرجال؟

للأسف لم يكن يُدرِك هذا منذ بضع ساعات فقط!

ما الذي سيحدث في نهاية نوبة عمله؟ لم يستطع أن يتخيَّل. لم يكن يقدر على تخيُّل ما يُفكِّر فيه هؤلاء الرجال. لقد كان يُدرِك عداوتهم له واحتياجهم الشديد للتعاطف فقط. تسارَعت في عقل دينتون احتمالات العنف والعار اللذَين سيتعرَّض لهما. هل يمكنه اختراع سلاحٍ ما؟ تذكَّر هجومه على المعالج بالتنويم المغناطيسي وكيف أنه لا يوجد أي مصابيح قابلة للنزع في العمل، كما لم تقع عيناه على أي شيء يمكنه استخدامه في الدفاع عن نفسه.

ظل يُفكِّر لفترة من الوقت في الانطلاق مُباشَرة فور انتهاء نوبة العمل إلى أمن الطرق العامة. وبغضِّ النظر عن الاعتبارات التافهة المُتعلِّقة باحترامه لذاته، أدرك دينتون أن هذه حماقة لن تُؤدِّي إلا إلى إرجاء المُواجَهة كما ستزيد من مشكلاته. لمح دينتون الرجل الأمهق يتحدث مع الرجل الذي يُشبِه القوارض بينما يُحدِّقان فيه؛ ثم لم يلبثا أن بدآ التحدُّث إلى الرجل الأسود الذي كان يقف وظهره العريض يُواجِه دينتون عن عمد.

حانت أخيرًا نهاية نوبة العمل الثانية. أوقف الرجل الذي أقرضه صفيحة الزيت المكبس عن العمل على نحو مُفاجئ واستدار ماسحًا فمه بظهر يده. كانت عيناه تحملان تعبيرات هادئة كتلك التي نجدها في عينَي شخص يجلس في المسرح.

وحان وقت المواجهة. بدأت كل أعصاب دينتون في التقافُز والتواثُب من فرط الانفعال. قرَّر أن يردَّ بالعنف على أي إهانة جديدة تحلُّ به. أوقف المكبس عن العمل واستدار ومشى مُتظاهِرًا باللامبالاة خارجًا من الغرفة ذات المدخل المُقوَّس ليدخل الممر المليء بصفائح الرماد، ثم أدرك فجأةً أنه نسي معطفه الذي كان قد خلعه بسبب حرارة الغرفة بجانب المكبس. والتقى بالرجل الأمهق وجهًا لوجه.

سمع دينتون الرجل الذي يمتلك وجهًا أشبه بوجه ابن مقرض يُعاتِبه: «كان حريًّا بك أكل الخبز. كان يجب عليك هذا!»

لكن الرجل الأسود قال: «دَعه وشأنه.»

كان واضحًا أنه لم يكن سيحدث له أكثر مما حدث في ذلك اليوم. وخرج من الممر إلى السلم الذي صعد من خلاله إلى المنصات المُتحرِّكة في المدينة.

خرج دينتون ليُواجِه الحركة المُتدفِّقة والأضواء الشاحبة التي اتَّسمت بها الشوارع العامة في المدينة. أصبح مدركًا تمامًا ما أصاب وجهه من تشوهات وتحسَّس كدمات وجهه البارزة بيد فاحصة وتمهَّل. صعد إلى أسرع منصة وجلس في أحد مقاعد شركة العمالة.

استغرق دينتون في التفكير المُتأمِّل وأدرك بوضوح لا شك فيه الأخطار والتهديدات الوشيكة التي سيتعرَّض لها في عمله؟ ما الذي سيفعلونه غدًا؟ لم يستطع التخمين قط. ماذا ستقول إليزابيث عن الكدمات التي في وجهه؟ لم يستطع تخمين هذا أيضًا. كان مُنهَكًا. وما لبث أن انتبه بفعل يد أمسكت بذراعه.

تطلَّع دينتون ببصره فرأى الرجل الأسود يجلس بجانبه. لا بد أنه سلِم من العنف في الطريق العام!

لم يظهر على وجه الرجل أي آثار للشجار، وكان وجهه يخلو من أي تعبير عن العداء، بل بدا كما لو كان به مسحة من الاهتمام والمُراعاة لشعور الآخرين. قال الرجل وقد غابت الوحشية من وجهه تمامًا: «اعذرني.» ليُدرِك دينتون أنه لا ينوي بدء شجار جديد. ظل الأخير يُحدِّق في الرجل مُنتظِرًا ما سيحدث.

كان واضحًا أن الرجل قد أعدَّ ما سيقوله مُسبَقًا. «ما كنتُ … سأقوله … هو …» ثم سكت باحثًا عمَّا سيقوله.

كرَّر الرجل: «ما كنتُ … سأقوله … هو …»

في النهاية، كفَّ الرجل عن التردُّد وصاح قائلًا: «أنت على صواب.» ووضع يده القذرة على كم دينتون المُتسِخ، ليُكمِل قائلًا: «أنت على صواب. أنت رجل مُهذَّب. أنا مُتأسِّف. مُتأسِّف للغاية. هذا ما أردت قوله.»

أدرك دينتون أنه لا بد أن تكون هناك دوافع أخرى داخل الرجل بخلاف إهانته. فكَّر قليلًا وابتلع ريقه في كبرياء غير مُستحَق.

«لم أقصد أن أُسيء لك برفض الخبز.»

قال الرجل الأسود مُسترجِعًا ما حدث: «أُدرِك أنك لم تكن تعني هذا، لكن بسبب ذلك الأمهق اللعين وقهقهته، تعيَّن عليَّ أن أتشاجر.»

قال دينتون وقد انتابه حماس مُفاجئ: «نعم، لقد كنتُ مُغفَّلًا.»

«نعم. هذا صحيح.» قالها الرجل برضا شديد. ثم أضاف: «لنتصافح!»

صافَحه دينتون.

كانت المنصة المُتحرِّكة تمر سريعًا بالقرب من شركة لتصنيع مُستحضَرات التجميل، وكان الجزء الأسفل من واجهتها مُكوَّنًا من مرايا كبيرة مُصمَّمة لتحفيز الناس للسعي وراء الحصول على ملامح وجه أكثر تناسُقًا. رأى دينتون انعكاس صورته وصورة الرجل في المرآة وقد تشوَّها وانبعجا بدرجة كبيرة. كان وجهه مُنتفِخًا ومُلطَّخًا بالدماء ويظهر من جانب واحد، كما شوَّهته ابتسامة عريضة بلهاء مُفتعَلة. غطَّت خصلة من الشعر إحدى عينَيه. أما الرجل الأسود فقد بدا في المرآة الخادعة كشفةٍ وفتحة أنف كبيريتَين مُتضخِّمتَين للغاية. وكانت الصورتان المُنعكِستان مُتصِلتَين بيدَين تتصافحان. ثم اختفى هذا المشهد فجأةً ليُصبِح ذكرى في ظل تأمُّلات واهية لفجر يبزغ نوره.

بينما كانا يتصافحان، تفوَّه الرجل بتعليق مُضطرِب غير واضح لكن دينتون فطن إلى أنه يقول إنه دائمًا ما كان يُدرِك أنه ستربطه علاقة طيبة بأي رجل نبيل يلتقيه يومًا ما. أطال الرجل التصافُح حتى سحب دينتون يده تحت أثر ما رآه في المرآة. فجأةً بدَت الجدية على وجه الرجل وبصق على المنصة على نحو لافت للنظر ثم استمر في الكلام.

قال: «كان ما أُريد قوله هو …» ثم بدا على وجهه الاهتمام وهزَّ رأسه ناظرًا صوب قدمه.

انتاب الفضول دينتون وقال بانتباه: «تابِع الحديث.»

تقدَّم الرجل وأمسك بذراع دينتون وأصبح أكثر حميمية تجاهه قائلًا: «عذرًا، لكنك لا تعرف كيف تتشاجر. لا تعرف. لا تعرف كيف تبدأ الشجار. ستلقى حتفك يومًا ما إذا لم تنتبه لنفسك. ارفع ذراعَيك! هاك!»

ثم دعَّم كلامه بالتوبيخ مُراقِبًا أثر ما يقول على دينتون بعين يقظة.

«على سبيل المثال، أنت فارع الطول وذراعاك طويلتان. يمكنك الوصول لأبعد مما يمكن أن يصل إليه أي شخص في قبو العمل. بحق السماء، لقد ظننت أنني سأُواجِه شخصًا صلبًا، لكن بدلًا من ذلك، أستميحك عذرًا، لو كنت أعلم أنني سأتشاجر مع شخص مثلك لما تشاجَرت. هذا ليس صوابًا. تبدو ذراعاك كما لو كانتا مُتدلِّيتَين من خطافَين. بالفعل، هما مُتدلِّيتان من خطافَين.»

حدَّق دينتون ثم انتابه شعور بالدهشة ثم أطلق ضحكة على نحو مُفاجئ آلَم ذقنه المُصابة وتدفَّقت دموع مريرة من عينَيه، وقال: «استمِر.»

عاد الرجل الأسود إلى وصفته، وكان لطيفًا بما يكفي لأن يقول إن مظهر دينتون قد راق له، وظن أنه يبدو شجاعًا لكن «الشجاعة ليست كافية إذا لم ترفع قبضتَيك».

وأكمل: «ما كنتُ أريد قوله هو دَعني أُريك كيف تتشاجر. أعطِني الفرصة. إنك تجهل هذا الأمر، ولا تمتلك أي رُقِي، لكن من الممكن أن تُصبِح مُقاتِلًا جيدًا. جيدًا جدًّا. مُقاتِل يتطلع الناس إلى مُشاهَدته. هذا ما أردت قوله.»

تردَّد دينتون: «لكن … لا أملك ما أعطيه إياك.»

ردَّ الآخر: «ها هو يعود مرة أخرى! من طلب منك هذا؟»

«ومُقابِل وقتك؟»

«إذا لم تتعلم القتال جيدًا، ستلقى حتفك. أنا أتحدَّث بصراحة.»

فكَّر دينتون: «لا أدري.»

نظر لوجه الرجل الذي كان يجلس بجواره ليرى فظاظة صارخة تُطِل في وجهه. شعر دينتون بتغيُّر مُفاجئ في لطفه العابر؛ وبدا له من غير المعقول أن يضطر لأن يكون مَدينًا لمخلوق كهذا.

استمر الرجل في الحديث قائلًا: «دائمًا ما يتشاجر الرفاق في العمل. دائمًا. وبالطبع إذا ما انهزم شخصٌ ما سيحين دورك.»

صرخ دينتون: «يا إلهي! كم أودُّ هذا!»

«بالطبع، هذا إن أردت.»

«أنت لا تفهم.»

«ربما لا أفهم بالفعل.» ردَّ الرجل الأسود وكان يستشيط غضبًا لكنه صمت.

وعندما تحدَّث مرة أخرى كان صوته أقل ودًّا، ونخس دينتون مُوجِّهًا كلامه إليه: «اسمع! هل ستدعني أُعلِّمك القتال أم لا؟»

ردَّ دينتون: «هذا لطف كبير منك، ولكن …»

مضَت فترة صمت وجيزة، بعدها نهض الرجل الأسود وانحنى باتجاه دينتون.

«ما زلت مُعتدًّا بذاتك للغاية، أليس كذلك؟ لقد أحرجتني. يا إلهي! أنت مُغفَّل كبير!» ثم استدار ومشى، بينما أدرك دينتون في الحال حقيقة ما قال.

نزل الرجل الأسود بكرامة وكبرياء من المنصة إلى تقاطُع، وانتاب دينتون دافع لحظي لأن يلحق به لكنه ظلَّ في مكانه على المنصة. لفترة من الوقت أخذ عقله يُفكِّر فيما حدث. في يومٍ ما، انهار استسلامه بلا أمل، وأقحمت القوة الغاشمة الأساسية النهائية نفسها في كل تفسيرات تساؤلاته وحديثه وتعازيه على نحو غامض. ورغم أنه كان جائعًا ومُرهَقًا، لم يذهب مباشرة للفندق حيث سيلتقي بإليزابيث. وجد دينتون نفسه قد بدأ يُفكِّر في الأمر؛ لذا فقد دار، وهو غارق في التفكير، حول المدينة دورتَين على متن المنصة المُتحرِّكة. كان يتحرك بسرعة خمسين ميلًا في الساعة في المدينة المليئة بالأضواء المُتألِّقة والضوضاء الهادرة، تلك المدينة التي تقع على سطح كوكب يدور في مسار غير مُحدَّد المعالم في الفضاء بسرعة آلاف الأميال في الساعة؛ شاعرًا بالخوف الشديد ومُحاوِلًا فهم لماذا يجب على قلبه وإرادته مُواجَهة العناء بينما هو حي.

وعندما عاد إلى إليزابيث في النهاية، كانت شاحبة وقلِقة. ولولا ما كان يستحوذ على تفكيره، لربما لاحَظ أنها تُواجِه مشكلة ما. كان أخوف ما يخافه أنها قد ترغب في معرفة جميع تفاصيل ما تعرَّض له من إهانة وأنها قد تُصبِح مُتعاطِفة وساخطة مما حدث. رأى حاجبَيها وقد ارتفعا دهشة فور رؤيتها له.

قال دينتون لاهثًا: «لقد تشاجَرت. هذه الرضوض ما زالت جديدة ومُؤلِمة. لا أريد التحدُّث بشأن الأمر.» ثم جلس عابسًا.

حدَّقت زوجته فيه بدهشة بالغة، وابيضَّت شفتاها بينما هي تستشفُّ ما حدث له من خلال النظر إلى وجهه المُتورِّم. تكوَّرت قبضتها وقد تشنَّجت؛ وكان كفها قد هزل عما كان عليه عندما كانا يعيشان في رخاء وتغيَّر شكل إصبعها الأول قليلًا بسبب طرق المعادن، ثم قالت: «يا له من عالم فظيع!» ثم صمتت ولم تقل شيئًا.

في تلك الأيام، أصبح الصمت يُخيِّم على علاقتهما بشدة ولم يتحدث أحدهما إلى الآخر تلك الليلة إلا فيما ندر، لكن كان كل منهما غارقًا في أفكاره. وفي ساعات الصباح الأولى، نهض دينتون فجأة من سُباته العميق ليجد إليزابيث بجانبه ما زالت مُستيقِظة.

صرخ قائلًا: «لا أستطيع التحمُّل! لن أتحمَّل!»

نظرت إليه في الضوء الخافت حيث كان قد نهض ليجلس واندفعت ذراعه للأمام كما لو كان يُسدِّد لكمة غاضبة في هذا الليل البهيم. ثم ظل ساكنًا لفترة من الزمن وقال: «هذا أمر لا يُطاق! هذا يفوق قدرة المرء على الاحتمال!»

لم تستطع أن تقول شيئًا، فبالنسبة لها هي الأخرى، كان هذا أقصى ما يمكن أن يُواجِهه المرء. ظلَّت مُنتظِرة وصامتة لفترة طويلة. رأت دينتون وقد جلس مُحيطًا ركبتَيه بذراعَيه وأنزل رأسه للأسفل حتى كادت ذقنه تُلامِسهما.

ثم بدأ في الضحك.

وقال في النهاية: «لا، بل سأتحمَّل. هذا هو الغريب في الأمر. كلانا لا يشعر بالرغبة في الانتحار. أعتقد أن كل من يتغير حاله على هذا النحو قد فارق الحياة. أما نحن فسنتحمَّل؛ حتى النهاية.»

فكَّرت إليزابيث على نحو مُتشائم ومُوحِش، وأدركت أن هذا صحيح أيضًا.

«سنتحمَّل الأمر حتى النهاية. فكِّري في كل من مرُّوا بهذا الأمر؛ كل الأجيال — عدد لا نهائي — وحوش صغيرة تزأر وتهجم. تهجم وتزأر. جيلًا وراء جيل.»

أنهى كلامه الرتيب فجأة، ثم استطرد بعد توقُّف طويل: «لقد استمر العصر الحجري تسعين ألف سنة. لا بد وأنه كان هناك دينتون ما عبر كل هذه السنوات. تتابُع مُستمِر ومُنتظِم. شرف وفضل المُضِي قدمًا. لنرَ. تسعون. تسعمائة، تسعمائة وتسعة وتسعون، سبعة وعشرون، ثلاثة آلاف جيل من الرجال! رجالٌ تشاجَروا، وأُصيبوا، وشعروا بالخزي، وثبتوا وقت المواجهة، وتحمَّلوا، وورَّثوا الأمر لمن بعدهم! وربما الآلاف ممن سيُولَدون! الآلاف! سيُورِّثون مَنْ بعدهم. أتساءل إذا ما كانوا سيشكروننا.»

ثم اتخذ صوته نغمة جدلية قائلًا: «آهٍ لو أمكنني العثور على شيء واضح لا لَبس فيه. لو أمكنني فقط أن أقول: هذا هو السبب الذي يجعل الحياة تمضي قدمًا.»

ثم هدأ وأصبح ساكنًا، وبدأتْ تتضح معالم جسده في الظلام لناظرَي إليزابيث حتى استطاعت رؤيته وهو يُريح رأسه على كفِّه. انتابها شعور بالتباعُد الشديد بين عقل وفكر كل منهما؛ وبدا لها ذلك التلميح الغامض إلى كينونة أخرى خير تجسيد للتفاهُم بينهما. ما الذي يمكن أن يكون ما يُفكِّر فيه الآن؟ ما الذي قد لا يتفوَّه به؟ بدا كما لو أنه قد مرَّ زمن طويل قبل أن يتنهَّد ويهمس قائلًا: «لا، أنا لا أفهم. لا.» ثم صمت لفترة طويلة، ليُكرِّر ما قاله، لكن هذه المرة بدا صوته كما لو كان قد توصَّل إلى حل مُعيَّن.

أدركت أنه يستعدُّ للخلود إلى النوم. لاحَظت حركاته، وشاهَدت بدهشة كيف كان يُهيِّئ وسادته باهتمام شديد لتُوفِّر له الراحة. رقد دينتون وقد تنفَّس الصعداء بشكل كبير. لقد زالت حماسته ورقد في سكون وبعد قليل انتظمت أنفاسه وغطَّ في نوم عميق.

لكن إليزابيث ظلَّت مفتوحة العينَين تُحملِق في الظلام حتى انطلق صوت الجرس وأُنير المصباح الكهربائي مُعلِنَين بدء يوم عمل جديد.

في ذلك اليوم، حدث شجار بين دينتون وبين الأمهق؛ وايتي، والرجل الذي يُشبِه ابن مقرض. ترك بلانت، المُدرِّب الأسود لفنون القتال، دينتون يستوعب الدرس أولًا، ثم تدخَّل وقد أظهر القليل من الرعاية والحماية لدينتون وقال بصوت أجَش وسط وابل من الشتائم: «اترك شعره يا وايتي ودَعه وشأنه. ألا ترى أنه لا يمكنه القتال؟» بينما كان دينتون يربض في الرمال بكل خزي وقد أدرك أنه يجب عليه قبول تعليمات الرجل في تعلُّم القتال.

اعتذر دينتون للرجل، واستجمع نفسه وسار نحو بلانت قائلًا: «لقد كنتُ مُغفَّلًا. أنت على حق. أتمنى ألَّا أكون قد جئتك مُتأخِّرًا.»

تلك الليلة، وبعد انتهاء نوبة العمل الثانية، ذهب دينتون بصحبة بلانت إلى سرداب قذِر ومليء بالقمامة تحت ميناء لندن ليتعلم أساسيات فن القتال الرفيع حيث كانت أساليب القتال قد صُقِلت بشدة في العالم السفلي الكبير للندن؛ ومنها كيف تضرب أو تركل رجلًا على نحو مُؤلِم جدًّا أو تُصيبه بإعياء شديد؛ وكيف تضرب أو تركل بشكل فعَّال وكيف تستخدم الزجاج داخل الملابس كنوع من المَضارب، وكيف تسفك دماء خصمك بأدوات منزلية، وكيف تكتشف نوايا خصمك وتدفعها في اتجاهات أخرى؛ في الواقع، كل الأدوات والآلات المُناسِبة التي انتشرت بين المحرومين في المدن الكبرى في القرنَين العشرين والحادي والعشرين استخدمها المُدرِّب الموهوب لدينتون. تلاشى خجل بلانت في التعامل مع دينتون بمرور الوقت واكتسب وقارًا يليق بخبير، أو لنقُل اهتمامًا أبويًّا، فقد كان يُعامِل دينتون بأقصى اهتمام مُمكِن، صافعًا إياه من حين لآخر فقط ليُبقيَه مُتحمِّسًا، وكان يضحك بصوت عالٍ عندما تُتاح له فرصة تسديد لكمة لدينتون وقد غطَّى الدم فمه.

قال بلانت: «دائمًا ما أُهمِل فمي.» مُعترِفًا بعيبه ومُضيفًا: «دائمًا. الأمر لا يبدو بهذه الأهمية كأن تُضرَب في فمك؛ هذا إن كان ذقنك على ما يُرام. أُحِب تذوُّق الدم دائمًا، لكن يجب ألا أضربك ثانية.»

عاد دينتون إلى المنزل وغلبه النوم بسبب الإرهاق ثم استيقظ في بواكير الصباح وكانت أطرافه تُؤلِمه ويشعر بالوخز الخفيف بسبب الرُّضوض. هل حياته جديرة بأن يستكملها؟ لقد أصغى لأنفاس إليزابيث وتذكَّر أنه، لا بد، أبقاها مُتيقِّظة ليلة أمس، ورقد في سكون. كان يمقُت ظروف حياته الجديدة بشدة. كان يكره كل شيء، بل إنه كان يكره الرجل الهمجي اللطيف الذي حماه بشهامة. أدرك كم الزيف الرهيب للحضارة ونظر له كورمٍ ضخم غريب الأطوار يُنتِج سيلًا عميقًا من الوحشية والهمجية تحت الأرض، بينما هناك الدماثة واللطف الزائف والتبذير الأحمق فوق الأرض. لم يستطع أن يرى أي سبب للخلاص أو أي مسحة من الشرف، سواء في حياته السابقة أو الحالية. قدَّمت الحضارة نفسها كمشروع مأساوي لا يعبأ بالإنسان كثيرًا — فيما عدا لو كان ضحية — كالإعصار أو اصطدام كوني بين الكواكب؛ لذا بدا لدينتون أنه — والبشرية جمعاء — يعيشون عبثًا. أخذ عقله يُفكِّر في وسائل غريبة للهرب، إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجل إليزابيث على الأقل. ماذا لو ذهب وقابَل مورس وأخبره بمأساتهما؟ دُهِش بشدة كيف أن كلًّا من مورس وبيندون قد خرجا من نطاق تفكيره وحياته تمامًا. أين كانا؟ وماذا كانا يفعلان؟ ثم بدأ يُفكِّر في أفكار مُخزية تمامًا. وأخيرًا، ودونما إفاقة من أفكاره المُضطرِبة، بل مثلما يُنهي الفجر الليل، انتهى تفكيره بأن توصَّل إلى قرار واضح بشأن الليلة التي مضَت؛ الاقتناع الراسخ بأنه يجب عليه المُضِي قدمًا؛ وأنه بمنأى عن أي رؤية أبعد وعلى نحو يُناسِب طاقته وفكره، يجب عليه التحلي بالشجاعة والقتال بين رفاقه وإظهار نفسه بمظهر الرجال.

ربما كان درس الليلة الثانية أقل قسوة من الذي سبقه، بل وكان الدرس الثالث أكثر احتمالًا، وهذا يرجع إلى أن بلانت كان يُوزِّع بعض الثناء من آن لآخر. وفي اليوم الرابع لتعلُّم القتال، أدرك دينتون بالصدفة أن الرجل الذي يُشبِه ابن مقرض كان جبانًا. مرَّ أسبوعان من الأيام الشاقة والتدريب الليلي المحموم، وشهد بلانت، بعد كثير من الشتائم والإهانات، أنه لم يسبق له أن قابَل تلميذًا ذكيًّا مثل دينتون الذي ظل طيلة الليل يحلم بالركلات والمُواجَهات والأعين التي ستُفقأ والحِيَل الماكرة التي ستُمارَس. خلال كل هذه المدة لم يُحاوِل الاعتداء على أي شخص بسبب خوفه من بلانت. ثم حانت الأزمة الثانية. لم يأتِ بلانت إلى العمل في أحد الأيام — وقد اعترف لدينتون لاحقًا أنه فعل هذا مُتعمِّدًا — وخلال وقت الصباح المُمِل، كان وايتي ينتظر بنفاد صبر مُبالَغ فيه حلول وقت الاستراحة بين النوبتَين. لم يكن يدري أن دينتون كان يتلقى دروسًا في القتال وقضى الوقت في إخبار دينتون ومن في القبو عمومًا عن أفعال بغيضة ينوي الإتيان بها.

لم يكن وايتي ذا شعبية بين العمال واجتمع كل من في القبو ليُشاهِدوا استهزاءه بالعامل الجديد باهتمام فاتر، لكن الأمور تغيَّرت عندما واجَه دينتون مُحاوَلة وايتي لركله في وجهه بخفض رأسه ببراعة فائقة ثم أمسك به ورماه، وأكملت قدم وايتي بذلك دورتها ليسقط على رأسه في كومة الرماد التي سبق وأن سقط دينتون فيها. نهض وايتي وقد اكتسب درجة زائدة من البياض وأصبح ينتوي بالفعل إحداث إصابات بالغة لدى دينتون. كانت هناك مُحاوَلات مُتردِّدة وغير ناجحة لوايتي زادت من حيرته المُتنامية والواضحة ثم تطوَّرت الأمور ليستجمع دينتون نصفه العلوي ويُمسِك بحنجرة وايتي ويدفن ركبته في صدره بينما وايتي الذي اسودَّ وجهه وبرز لسانه وانكسر إصبعه، حاوَل بصوت مُتحشرِج أن يُفسِّر أن ما حدث ما هو إلا سوء تفاهُم. وعلاوةً على ذلك، كان واضحًا أنه لم يكن بين الحاضرين من هو أكثر شهرة من دينتون.

أطلق دينتون بحذر سراح خصمه ونهض واقفًا. بدا كما لو كان دمه قد تحوَّل إلى نار مُتدفِّقة وشعر بأن أطرافه خفيفة وقوية على نحو استثنائي، وتلاشت من ذهنه فكرة أنه شهيد من شهداء آلة الحضارة. لقد كان رجلًا في عالم الرجال.

كان الرجل الذي يُشبِه ابن مقرض أول من ربَّت على كتفه مُهنِّئًا، كما هنَّأه الرجل صاحب صفائح الزيت وقد انفرجت أساريره. لم يتصوَّر دينتون أنه سبق له أن فكَّر في القنوط أو اليأس.

كان دينتون مُقتنِعًا أنه لم يكن يتعيَّن عليه إنجاز ما يريد فحسب، بل كان يُدرِك أنه قادرٌ على ذلك أيضًا. جلس على الحشية الخشنة يشرح لإليزابيث هذا الجانب الجديد من حياته. كان أحد جانبَي وجهه مليئًا بالرضوض. لم تكن قد قاتلت مُؤخَّرًا ولم يُربِّت شخص على كتفها ولم تكن هناك أي رضوض على وجهها، فقط شحوب وخط أو اثنان من التجاعيد ظهرا حول فمها. كانت تُواجِه ما تُواجِهه كل النساء. نظرت إلى دينتون بثبات في حالته الجديدة. قال: «أشعر بأن ثَمة شيئًا ما، شيئًا يمضي قدمًا. كينونة للحياة التي نعيش فيها ونمضي لنصير ما نحن عليه، شيئًا نشأ لربما منذ خمسين، أو مائة مليون عام مضَت، شيئًا يستمر وينمو ويمتد إلى أشياء خارج نطاق إدراكنا. أشياء ستُبرِّر وجودنا جميعًا. ستُفسِّر وتُبرِّر قتالي ورضوضي وكل آلامي. إنه إزميل الخالق. لو أمكنني فقط أن أُشعِركِ بما أشعر به! ستشعرين يا عزيزتي. أنا واثق من ذلك.»

ردَّت إليزابيث: «لا، لن أشعر بما تشعر به.»

«لقد ظننتُ أن …»

هزَّت رأسها: «لا، لقد فكَّرت في الأمر أيضًا. ما تقوله لا يُقنِعني.»

ثم نظرت له بحزم: «أكره هذا.» ثم التقطت أنفاسها وأكملت: «أنت لا تفهم ولا تُفكِّر. مرَّ وقت كنتُ أُصدِّق فيه ما تقول. لكني ازددت حكمة. أنت رجل ويمكنك القتال وفعل ما تريد. لا تُبالي بالإصابة أو الرضوض، يمكن أن تكون فظًّا وقبيحًا لكنك ستظل رجلًا. نعم. هذا ما يجعلك ما أنت عليه. أنت على صواب. لكن النساء لسن هكذا. نحن مُختلِفات. نحن نُصبِح أكثر تحضُّرًا ورقيًّا ولطفًا بسرعة. العالم السفلي لا يُناسِبنا.»

توقَّفت هُنَيهة ثم أكملت: «أكره كل شيء! أكره هذا الخيش الفظيع! أكرهه أكثر من أي شيء مُروِّع حدث. أصابعي تُؤلِمني عندما ألمسه. إنه يُؤذي البشرة. أكره النسوة اللاتي أعمل معهن يومًا بعد يوم! أرقد مُستيقِظةً في الليل وأُفكِّر كيف سينتهي بي الحال أن أُصبِح عجوزًا مثلهن.»

ثم توقَّفت وأكملت باكيةً بحرقة: «ربما أصير إلى ما صِرن إليه!»

حدَّق دينتون في مأساتها وقال: «لكن …» ثم سكت.

«أنت لا تفهم. ما الذي أمتلكه؟ ماذا لديَّ ليُنقِذني؟ يمكنك القتال. القتال للرجال. أما النساء … النساء مُختلِفات. لقد فكُّرتُ في كل شيء. لم أفعل شيئًا إلا التفكير ليلَ نهار. انظر إلى لون وجهي! لا يمكنني الاستمرار! لم أعُد أستطيع الاستمرار! لا أستطيع تحمُّل هذه الحياة. لا أستطيع!»

وتوقَّفت مُتردِّدة.

ثم قالت فجأة: «أنت لا تعلم أي شيء.» ثم علَت شفتَيها ابتسامة مريرة للحظات وقالت: «لقد طُلِب مني أن أهجرك.»

«تهجرينني!»

لم تُعطِ جوابًا سوى أن أومأت برأسها إيجابًا.

نهض دينتون وانتصبت قامته تمامًا وأخذ كل منهما يُحدِّق في الآخر بعد صمت طويل.

وفجأة، استدارت وسقطت بوجهها على سرير الخيش الخاص بهما. لم تنتحب. لم تُصدِر أي صوت، بل بقيت مُستلقِية على وجهها. وبعد مرور صمت طويل كئيب، اهتزَّ كتفاها وبدأت تبكي في صمت.

همس: «إليزابيث! إليزابيث!»

جلس إلى جوارها برفقٍ وهدوءٍ وانحنى واضعًا ذراعه عليها وأخذ يُربِّت على كتفها في شك، باحثًا عبثًا عن حل لهذا الموقف الذي لا يُحتمل.

كرَّر همسه في أذنها: «إليزابيث.»

أبعدتْه عنها بيدَيها قائلة: «لا يمكنني ولادة طفل ليُصبِح عبدًا!» ثم انفجرت في نحيب عالٍ مرير.

تغيَّر وجه دينتون وبدَت عليه الحيرة. وبعد قليل تسلَّل من الفراش ووقف على قدمَيه. اختفى من وجهه كل رضًا ذاتي كان يشعر به وحلَّ محله غضبٌ عاجز. بدأ يهذي ويلعن القوى التي لا تُطاق والحوادث والرغبات الشديدة والطيش الذي يسخر من حياة البشر. ارتفع صوته الخفيض في الغرفة الضيقة وهزَّ قبضته لاعنًا كل ما يُحيط به من أشياء، وملايين البشر، والماضي والمستقبل، والمدينة بأكملها على اتساعها المُذهِل.

(٥) بيندون يتدخل

في شبابه، كان بيندون يُضارِب بأمواله في البورصة وحالفه الحظ ثلاث مرات، لكن لما تبقَّى من حياته ظلَّ مُبتعِدًا عن القمار وتخلَّى عن الوهم القائل بأنه رجل ذكي جدًّا. كانت لديه رغبة في أن ينال النفوذ، والشهرة أثارت اهتمامه بالتجارة في المدينة العملاقة التي حالفه الحظ فيها. وفي النهاية أصبح أحد أكثر المُساهِمين تأثيرًا في الشركة التي كانت تمتلك منصات الطيران في لندن والتي تهبط فيها الطائرات من كل أنحاء العالم. كان هذا ما يخص حياته العامة. أما حياته الخاصة، فقد كان رجلًا يسعى وراء المتعة. وفيما يلي قصة قلبه.

لكن قبل المُضِي قدمًا لسرد مثل هذه الجوانب العميقة، يجب تخصيص القليل من الوقت لوصفه من الخارج. كان في الأساس نحيل الجسم، قصير القامة، أسمر البشرة؛ وتنوَّعت تعبيرات وجهه الذي كان دقيق الملامح وتعلوه المساحيق، ما بين الرضا المُتزعزِع عن الذات والتململ المشوب بالذكاء. كان قد أزال شعر رأسه ووجهه وفقًا لاتجاهات الموضة والنظافة الشخصية في ذلك العصر، لذا كان اللون والإطار الخارجي لشعره مُختلِفَين عن زيِّه الذي كان دائمًا ما يُغيِّره.

في بعض الأحيان، كان يرتدي ملابس منفوخة بالهواء على نحو مُبهرَج يُذكِّر بطراز الروكوكو الفني ليبدو ضخم الهيئة. ومن بين التطوُّرات المُتلاحِقة لهذا الطراز، وأسفل غطاء للرأس نصف شفاف ومُزخرَف بالألوان، كانت عيناه تبحثان في غيرة عن احترامِ مَن هم أقل عصرية في الملابس. وفي أوقات أخرى، كان يُظهِر نحافته بوضوح عن طريق ارتداء ملابس ضيقة من الساتان الأسود. ولاكتساب مظهر النبالة والشرف، كان يرتدي كتَّافات عريضة منفوخة بالهواء يتدلَّى منها فستان ذو طيَّات مُرتَّبة بعناية ومصنوع من الحرير الصيني؛ كما كان بيندون الكلاسيكي يرتدي أحيانًا رداءً ورديًّا ضيقًا لإحدى الظواهر العابرة في المهرجان الأبدي للقدر. في الأيام التي كان يودُّ فيها الزواج من إليزابيث، كان يسعى لإثارة إعجابها وإبهارها، وفي نفس الوقت كان يُحاوِل أن يُخفِّف عن نفسه شيئًا من عبء الأربعين عامًا الذي أثقل كاهله؛ وذلك بارتداء أحدث الصيحات الشبابية المُتمثِّلة في زيٍّ من مادة مرنة تبرز منه قرون ونتوءات قابلة للانتفاخ، وتتغير ألوانها أثناء المشي بواسطة خلايا مُتقلِّبة تحوي أصباغًا ومُرتَّبة ببراعة. وبلا شك، فإنه لو لم تكن إليزابيث تُحِب دينتون العديم الجدوى، ولو لم يكن ذوقها يميل بالفعل إلى الطرق التقليدية في الحياة، فإن هذا الأسلوب الأنيق للغاية في اختيار الملابس كان سيفتنها بكل تأكيد. استشار بيندون والد إليزابيث قبل أن يُقدِّم نفسه لها في هذه الملابس — فقد كان دائمًا ممن تجلب ملابسهم الانتقاد — وأخبره مورس بكل ما يتمناه قلب المرأة، لكن ما حدث مع المعالج بالتنويم المغناطيسي أثبت أن معرفته بقلب المرأة منقوصة.

تبلوَرت فكرة بيندون عن الزواج قبل أن يضع مورس إليزابيث، التي كانت أصبحت امرأة لتوِّها، في طريقه. كان أحد الأسرار التي يعتز بها كثيرًا امتلاكه قدرة كبيرة على عيش حياة بسيطة وخالصة ومُفعَمة بالعاطفة. أضفى هذا التفكير نوعًا من الجدية المُثيرة للشفقة على السلوك التبذيري المَقيت وغير المنطقي الذي لا معنًى له والذي كان يسرُّه أن ينظر له كنوعٍ من الانغماس في الملذات المُثير للإعجاب؛ إذ كان عدد كبير من الناس الذين يفتقرون إلى الحكمة يعتبرونه طريقة عيش مُحبَّبة للنفس. ونتيجةً للتبذير، وربما بسببِ ميلٍ مَوْروثٍ للانغماس المُبكِّر في الملذات، فإن كبده تأثَّر تأثُّرًا خطيرًا كما عانى مُشكِلاتٍ مُتفاقِمة عند السفر جوًّا. في إحدى المرات، خلال تماثُله للشفاء من وعكة صحية طويلة بسبب اختلال وظائف الكبد، خطر له رغم كل الفتن المُؤدِّية إلى الوقوع في الرذيلة؛ أنه إذا عثر على امرأة شابة طيبة وجميلة ونبيلة المَحتد وليست من النوع المُثقَّف المُفرِط في عقلانيته والتي يمكنها أن تُكرِّس حياتها من أجله، وتُؤسِّس عائلة مُفعَمة بالحيوية والنشاط على صورته حتى تُخفِّف عنه وطأة السنين الأخيرة من حياته، فربما ينقله هذا إلى جانب الصلاح، لكن مثل العديد من الرجال أصحاب التجارب في الحياة، كان يشك في وجود أي نساء طيبات المَعشر على ظهر البسيطة. بالطبع كان هذا بسبب القصص التي سمعها حتى جعلته يشك ظاهريًّا وينتابه الخوف سرًّا إلى حد بعيد.

بدا لمورس الطَّموح عندما أنهى تقديم بيندون لإليزابيث أن حظه السعيد في أكمل حالاته، فقد أُغرِم بها بيندون في الحال. ولمَ لا؟ فقد كان دائمًا ما يقع في الحب منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره، وفقًا للوصفات المُتنوِّعة للغاية التي يمكن العثور عليها في الأدبيات المُتراكِمة لعدة قرون، لكن هذه المرة كان الأمر مُختلِفًا؛ لقد كان هذا حبًّا حقيقيًّا، فبدا له أن يستجمع كل الخير الكامن في طبيعته. لقد شعر أنه، من أجلها، يمكنه التخلي عن طريقة حياته التي تسبَّبت له بالفعل في إصابته بأخطر الآفات في كبده وجهازه العصبي، وعرض له خياله صورة مثالية لحياة مُستقيمة لشخصٍ تاب من حياة المُجون والخلاعة! لن يكون عاطفيًّا أبدًا معها أو سخيفًا؛ بل سيكون دائمًا ساخرًا ولاذعًا بعض الشيء، كما كان في الماضي، ولكنه مع ذلك كان على يقين من أنه سيكون لديها حَدس يخبرها بعظمته الحقيقية وطيبته. وفي الوقت المُناسِب سيعترف لها بأشياء، وسيروي لها عمَّا يعتقد أنه جانبه المُظلِم — ذاك المزيج الذي اجتمع فيه، بحيث أصبح يجمع ما بين جوته، وبينفنوتو شيليني، وشيلي، وجميع الرفاق الآخرين — سيصبُّ كل ذلك في هاتين الأذنَين المصدومتَين الرائعتَين والعاطفيتَين دون رَيب! وتمهيدًا لهذه الأشياء فقد استمالها إليه ببراعة واحترام مُتناهِيَين. غير أن التحفُّظ الذي قابَلتْه به إليزابيث بدا كما لو أنه لا يربو عن كونه احتشامًا مُتقَنًا يُعزِّزه شعور بالافتقار إلى الأفكار السوية المُشترَكة.

لم يكن بيندون يعلم شيئًا عن عواطفها غير المُعلَنة أو عن مُحاوَلة مورس استخدام التنويم المغناطيسي لتصحيح ميلها القلبي؛ كان يُؤمِن بأنه وإليزابيث مُتفاهِمان تمامًا، وقدَّم لها الكثير من الهدايا المُتنوِّعة والمُميَّزة من المجوهرات والكثير من مساحيق التجميل الفاخرة، لكن هروبها مع دينتون للزواج قلب عالمه رأسًا على عقب. كان أول ما شعر به هو الغضب بسبب جرح كبريائه، ونظرًا لأن مورس كان الشخص الأكثر قربًا منه، فقد كان أول من صبَّ جام غضبه عليه.

ذهب بيندون على الفور ووجَّه إهانات فظيعة إلى الوالد البائس ثم قضى يومًا كاملًا عازمًا على التجوُّل في أرجاء المدينة حيث يلتقي الناس في مُحاوَلة دائمة وناجحة بدرجةٍ ما لإفشال زواجها. أمده ما فعله بابتهاج مُؤقَّت وذهب للمكان الذي كان يتناول فيه عشاءه باستمرار أيام طيشه وفساده حيث كان خليَّ البال، وتناوَل العشاء بكل سعادة وبكميات كبيرة مع رجلَين أربعينيَّين طائشَين. لقد قرَّر التخلي عن فكرة الزواج؛ حيث لم تكن هناك أي امرأة تستحق أن يكون صالحًا من أجلها، واندهش كم نما لديه أسلوب السخرية المشوبة بالتشاؤم. أحد رفيقَيْه الطائشَيْن اللذين أسكرهما الخمر لمَّح لخيبة أمل بيندون في سخرية، لكن لم يبدُ هذا أمرًا مُزعِجًا حينذاك.

في صبيحة اليوم التالي، وجد أن مزاجه كان سيئًا للغاية وحالة كبده كذلك. ركل فونوغراف الأخبار مُحطِّمًا إياه وصرف خادمه الخصوصي، وعقد العزم أنه سينتقم من إليزابيث، أو دينتون، أو شخصٍ ما، أشدَّ انتقام. في كل الأحوال، سيكون انتقامًا رهيبًا، وأما صديقه الذي سخر منه فلا بد أن يتوقَّف عن النظر إليه بوصفه ضحية لفتاة خرقاء. كان يعرف القليل عن ميراثها الصغير الذي سيئول إليها وأن هذا سيكون الدعم الوحيد الذي ستحصل إليزابيث ودينتون عليه إلى أن يرقَّ مورس لحالهما، لكن إذا لم يرق، وإذا حدثت أمور لا تُبشِّر بالخير في العلاقة التي تتوقع إليزابيث حدوثها، فستمرُّ عليهما أوقات عصيبة وربما يُصبِحان ضعيفَين بما يكفي أمام الإغواء. كان خيال بيندون، الذي تخلَّى تمامًا عن أي مثالية، قد ضاعَف من فكرة الإغواء ونظر لنفسه كرجل غني ذي قوة ونفوذ عديم الصفح يُطارِد هذه الفتاة العذراء التي احتقرته، وفجأةً سيطرت على خياله صورة واضحة لإليزابيث ولأول مرة في حياته أدرك بيندون القوة الحقيقية للعاطفة.

تنحَّى خياله جانبًا كما لو كان جنديًّا أو خادمًا محترمًا أنهى عمله في تفجير العاطفة.

صرخ: «يا إلهي! سأحصل عليها! حتى لو مت في سبيل هذا! وذلك الآخر …»

وبعد مُقابَلة مع طبيبه وتكفيره عن إسرافه الليلي بتناوُل أدوية مُرة الطعم، سعى بيندون بعزم شديد إلى مُقابَلة مورس ليجده مُحطَّمًا ومُحتاجًا وذليلًا ويُحاوِل باهتياجٍ شديدِ الحفاظ على ذاته حتى لو كان هذا ببيع جسده وروحه، ونسيان أي شيء يتعلق بابنته العاصية لأمره ليستعيد مكانته في العالم. خلال النقاش العقلاني الذي بدأ بينهما، اتُّفق على ترك هذَين الشابَّين المُضلَّلَين ليغرقا في الأزمات أو ربما المساعدة في تأديبهما باستغلال نفوذ بيندون المالي.

قال مورس: «ثم ماذا؟»

«سيأتيان إلى شركة العمالة وسيرتديان الخيش الأزرق.»

«ثم ماذا؟»

«ستطلب منه الطلاق.» ثم جلس للحظة يُفكِّر في ذلك الاحتمال؛ وهذا لأنه في تلك الأيام كانت القيود الشديدة على الطلاق في العصر الفيكتوري قد أُرخِيت كثيرًا ويمكن لأي زوجَين أن يفترقا لمئات الأسباب المختلفة.

ثم قفز بيندون واقفًا على قدمَيه فجأةً على نحوٍ أثار دهشة مورس، ودهشته هو شخصيًّا، صائحًا: «ستطلب منه الطلاق! سأحرص على حدوث هذا! سأعمل على حدوث هذا! بحق الرب! سيحدث هذا! سيُوصَم بالخزي! وهي كذلك! سيُدمَّر ويُسحَق تمامًا!»

أثارت فكرة السحق والتدمير بيندون بشدة. وبدأ يذرع المكتب الصغير ذهابًا وعودة صائحًا: «ستكون من نصيبي! سأمتلكها! لن يقدر أي كائن على أن يحول بيني وبينها!» تلاشى غضبه بعد التنفيس عما بداخله وتركه هذا في النهاية ببساطة وقد بدا كمن كان يُمثِّل دورًا ما. اتخذ جسده وضعًا مُعيَّنًا وحاوَل بكل عزم بطولي تجاهُل ألم شديد في بطنه، وجلس مورس وقد انكمشت قبعته وظهر عليه التأثُّر الشديد.

وهكذا، وبقدرٍ مُناسِب من المُثابَرة والتصميم، بدأ بيندون ببراعةٍ ومهارةٍ العملَ على تدبير الأمور السيئة لإليزابيث باستخدام كل ما يمتلك من أفضلية وميزات حبَتْه بها ثروته في تلك الأيام عن بقية الناس. ولم تُعِقه سَلواه التي يجدها في الدين عن مُضِيه قدمًا في فعل ذلك. كان يذهب للتحدُّث مع كاهن مُثير للاهتمام وخبير ومُتعاطِف من طائفة الهوسمانيين المُتبِعين لعقيدة إيزيس بشأن كل الأمور غير العقلانية الصغيرة التي كان يستمتع بالنظر إليها باعتبارها خطايا تُثير غضب السماء. هذا الكاهن المُثير للاهتمام والخبير والمُتعاطِف، الذي كان يُمثِّل السماء، والذي كان يعلو وجهه تظاهُر بالرعب يبعث على السرور، يقترح عليه الامتناع عن الأمور السهلة والبسيطة ويُوصيه بالذهاب إلى مُؤسَّسة تابعة للرهبان كانت تتميز بهوائها المُعتدِل ونظافتها ولا يرتادها عامة الناس بل كانت للمُذنِبين التائبين المُضطرِبين من الأغنياء الرفيعِي الشأن. وبعد تلك الرحلات، كان بيندون يعود إلى لندن مُفعَمًا بالنشاط ومُتقِد العاطفة. كان يتصرف بحيوية كبيرة وكان يذهب إلى إحدى صالات العرض الواقعة في مبنًى يُطِل على أحد مُفترَقات الطرق؛ حيث يمكنه من هناك أن يرى مدخل بناية شركة العمالة والجناح الذي يقبع فيه دينتون وإليزابيث. وفي أحد الأيام، رأى إليزابيث وهي تدخل الشركة مما جدَّد عاطفته نحوها من جديد.

اكتملت الخُطط المُعقَّدة التي أعدَّها بيندون في الوقت المناسب، مما جعله يذهب إلى مورس ليُخبِره بأن الشاب والفتاة أشرفا على الوقوع في حالة من اليأس.

قال لمورس: «حان الوقت لتستغل عاطفة الأبوة لديك. إنها ترتدي الخيش الأزرق الخشن منذ شهور ويعيشان معًا في واحدة من الغرف الضيقة التي تُوفِّرها شركة العمالة كما ماتت طفلتهما الصغيرة. إنها تُدرِك الآن أن رجولة دينتون بالنسبة لها لا تعني إلا حمايته لها وهي فتاة مسكينة. سترى الأمور الآن بصورة أوضح. اذهب إليها، فأنا لا أريد أن أتدخَّل في الأمر بعد، وأوضِح لها ضرورة طلب الطلاق من دينتون.»

لكن مورس ردَّ مُتشكِّكًا: «إنها عنيدة.»

«يا لروحها! إنها فتاة عظيمة! فتاة عظيمة!»

«سترفض!»

«بالطبع سترفض! لكن دع باب الاختيار مفتوحًا أمامها! ويومًا ما، وهما يمكثان في تلك الغرفة الخانقة التي يعيشان فيها تلك الحياة القذرة المُزعِجة سيُصبِحان غير قادرَين على التحمُّل أكثر من ذلك وحينها سيتشاجران.»

ظل مورس يُفكِّر في الأمر مليًّا وفعل ما أمره به بيندون.

ثم رجع بيندون حسبما اتفق مع مستشاره الروحي إلى مُعتزَل ديني. كان المُعتزَل الخاص بالهوسمانيين مكانًا جميلًا ويهبُّ فيه ألطف هواء في لندن، ومُضاءً بضوء الشمس الطبيعي، كما كان العشب به قد قُص على هيئة أفنية مُربَّعة الأضلاع في الهواء الطلق، بينما يستمتع التائبون عن الملذَّات الدنيوية بالتسكُّع فيها وهم في حالة من الرضا التام الذي يبعثه في نفوسهم حالة التقشُّف الشديد، وفيما عدا مُشارَكة الجميع تناوُل الطعام والذي كان عبارة عن حمية غذائية بسيطة وصحية وإنشاد بعض الترانيم الجميلة، كان بيندون يقضي كل وقته في التأمُّل والتفكير في إليزابيث وحالة الصفاء الروحي الشديد الذي شعر به منذ أن رآها لأول مرة، كما كان يُفكِّر فيما إذا كان سيُصبِح قادرًا على نيل تصريح من الكاهن الخبير العطوف كي يتزوج منها رغم «الخطيئة» الوشيكة المتمثِّلة في طلاقها. أسند بيندون ظهره إلى عمود إحدى الباحات المُربَّعة ليغرق في أحلام يقظة عن سُمو الحب العفيف على أي متعة أخرى. بدأ ينتابه إحساس غريب في صدره وظهره أخذ يُشتِّت انتباهه، كان إحساسًا بالحرارة أو البرودة، إحساسًا عامًّا بالسقم وعدم ارتياح جلدي. بذل أقصى جهده ليتجاهله. كل هذا كان بالطبع بسبب الحياة القديمة التي كان يُحاوِل التخلُّص منها.

وعندما ترك المُعتزَل، ذهب من فوره إلى مورس مُستفسِرًا عن أخبار إليزابيث. كان مورس يظن أنه أب مثالي وكان مُتأثِّرًا للغاية بتعاسة ابنته وقال له وقد تحرَّكت مشاعره: «كانت شاحبة اللون. عندما طلبت منها الرحيل والمجيء معي لتُصبِح سعيدة، أراحت رأسها على الطاولة.» ثم تنهد وأكمل: «ثم أخذت تبكي.»

كان حزنه شديدًا حتى إنه لم يستطع التفوُّه بالمزيد.

احترم بيندون حزن مورس ثم وضع يده على جنبه وبدأ يتأوَّه: «آه!»

نظر مورس له وأجفل وقد نسي أحزانه: «ما خطبك؟» وبدا عليه القلق.

«اعذرني! أشعر بألم شديد للغاية! كنتَ تتحدَّث عن إليزابيث.»

استمر مورس في الكلام بعد أن أبدى تعاطُفه حيال الألم الذي يشعر به الرجل. كان الأمر مُبشِّرًا على نحو غير مُتوقَّع. عندما اكتشفت إليزابيث أن والدها لم يهجرها بالكامل صارحتْه بوضوح بكل أحزانها.

قال بيندون وقد بدا عليه العظمة: «نعم. ستكون من نصيبي.» لكن الألم في جنبه اشتد مرةً أخرى.

كان اللجوء للكاهن بسبب هذه الآلام غير مُجدٍ نسبيًّا؛ حيث كان يميل الكاهن إلى اعتبار آلام الجسد أوهامًا عقلية يمكن التغلُّب عليها بالتأمُّل؛ لذا لجأ بيندون لرجل من طبقة يكرهها؛ طبيب فظ لكنه ذو صيت كبير. صارَحه الطبيب بكل اشمئزاز: «يجب أن نفحص جسدك بالكامل.» ثم طرح عليه هذا الرجل المادي أسئلة وقِحة من بينها: «هل جلبت أطفالًا إلى هذا العالم؟»

ردَّ بيندون مُندهِشًا على نحوٍ منعه من الثأر لكرامته: «لا، على حد علمي.»

استمر الطبيب في فحص جسده بالضغط على مواضع مختلفة منه إضافةً إلى إجراء فحوصات طبية. كانت علوم الطب في تلك الأيام قد بدأت تصل إلى بدايات مرحلة الدقة. قال له الطبيب: «يجب عليك الخضوع للقتل الرحيم فورًا. كلما كان هذا أسرع، كان أفضل!»

لهث بيندون. كان يُحاوِل ألا يفهم التفسيرات والتوقُّعات العلمية التي بدأ الطبيب في سردها.

قال: «أتقصِد أن تقول … وعلمك ومعرفتك …»

«ليس بمقدورنا فعل شيء. ستتناول بعض المُسكِّنات. كل هذا نتيجة ما اقترفته يداك — إلى حد ما — كما تعلم.»

«لقد تعرَّضت لإغراءات شديدة في شبابي.»

«ليس الأمر كذلك بالقدر الذي تتصوَّره. إنك تنحدر من نسل سيئ. حتى لو كنت اتخذت الاحتياطات اللازمة، كان سينتهي بك الحال هكذا أيضًا. الخطأ هو أنك جئت إلى هذه الدنيا. إنه طيش وحماقة الأبوَين. كما أنك تجنَّبت مُمارَسة الرياضة، وهلمَّ جرًّا.»

«لم يكن هناك من ينصحني.»

«الأطباء مُستعِدون دائمًا لتقديم النصيحة.»

«كنتُ شابًّا مُفعَمًا بالنشاط والحيوية.»

«لن نتناقش في هذا؛ فالضرر قد وقع بالفعل. لقد عِشتَ حياتك بالفعل ولا يمكننا البدء من جديد. كان يتعين عليك عدم البدء من الأساس. صدِّقني، القتل الرحيم هو الحل!»

لعنه بيندون في سرِّه للحظات. كانت كل كلمة من الطبيب الفظ بمثابة صدمة لطباعه الراقية وأخلاقه الحسنة. كان الرجل فظًّا للغاية ولا يُبالي بمشاعر الآخرين وأبسط الأمور المُتعلِّقة بكينونة الإنسان، لكن من غير المُجدي بدء نزاع مع طبيب. قال: «عقيدتي تمنعني من الانتحار.»

«لقد قضَيت حياتك كلها تفعل هذا.»

«حسنًا، على أي حال، لقد أتيتُ هنا لاكتساب أسلوب حياة جاد من الآن.»

«يجب عليك هذا إذا قررت الاستمرار في الحياة. سوف تتألم. ولكن من منظور عملي، فات الأوان، لكن إذا كنت تعتزم هذا بالفعل، ربما يمكنني أن أصنع شيئًا من أجلك. سوف تُعاني كثيرًا. سوف تشعر بآلام مُبرِّحة.»

«آلام مُبرِّحة!»

«مُجرَّد ملاحظات مبدئية!»

«إلى متى يمكنني العيش؟ أقصد، قبل أن تبدأ الآلام في الظهور؛ بحق.»

«ستنتابُك عمَّا قريب. ربما في غضون ثلاثة أيام.»

حاوَل بيندون أن يحمله على تمديد المدة، وبينما هو في وسط مُناشَدته اللاهثة، أمسك جنبه بيده. وفجأةً أدرك بوضوح كبير كم هي حياته مُثيرة للشفقة الشديدة، ثم قال: «هذا أمر صعب. هذا أمر لا يُطاق! لم أُعادِ شخصًا في الحياة إلا نفسي. دائمًا ما كنت أُعامِل الجميع بعدل وإنصاف شديدَين.»

حدَّق فيه الطبيب دون أي تعاطُف لبضع ثوانٍ وكان يُفكِّر كم سيكون من الممتاز ألَّا يكون لبيندون أي ذرية قادمة تحمل هذا الكم من البؤس والشفقة في الحياة. كان يشعر بالتفاؤل ورفع سماعة الهاتف ليطلب وصفة من الصيدلية المركزية.

قاطَعه صوت بيندون من خلفه: «بحق الرب، سأظفر بها!»

التفت الطبيب ونظر إلى ما ارتسم على وجه بيندون ثم غيَّر الوصفة.

وبمُجرَّد انتهاء هذه المُقابَلة المُؤلِمة، سمح بيندون لنفسه بالتنفيس عن غضبه. كان قد اقتنع أن الطبيب ليس فقط فظًّا ويفتقر إلى مشاعر التعاطُف وأدنى قدر من التهذيب، بل إنه غير كفء تمامًا؛ لذا ذهب لأربعة أطباء آخرين مُصرًّا على إثبات صحة رأيه. ولكي يتقي أي مُفاجآت، احتفظ بهذه الوصفة الصغيرة في جيبه. وعند كل طبيب زاره كان يُعبِّر عن شكوكه الكبيرة في خبرة ومعرفة وصدق الطبيب الأول، ثم يبدأ في سرد أعراض مرضه، كاتمًا بعض الحقائق في كل مرة، لكن كان الطبيب يكتشفها دائمًا. وبالرغم من التقليل من شأن معالج آخر وهو ما راق للإخصائيين البارزين، لم يُعطِه أي منهم أملًا في التخلص من الألم الذي بدأ يلوح في حياته. وعندما زار آخر طبيب، أفصح عن كل ما يحمله من كراهية مُتراكِمة للطب. وهتف بحِدَّة: «مرَّت قرون وقرون وما زلتم عاجزين عن فعل شيء سوى الاعتراف بقلة حيلتكم. أقول لك أنقِذني، وبماذا ترد أنت؟»

ردَّ الطبيب: «أعلم أن الأمر مُؤلِم، لكن كان يجب عليك اتخاذ الاحتياطات.»

«وكيف كان لي أن أعرف؟»

«لم يكن من واجبنا مطاردتك.» التقط الطبيب خيطًا من القطن من كمه الأرجواني، ثم أكمل: «لماذا يجب علينا إنقاذك بالذات؟ هناك وجهة نظر تقول بأن أصحاب الخيال والعواطف مثلك يجب أن يرحلوا!»

«يرحلون؟»

«أجل، يموتون. إنها وجهة نظر.»

كان الطبيب شابًّا ذا وجه هادئ. التفت مُبتسِمًا إلى بيندون، واستطرد قائلًا: «نحن ماضون قدمًا في الأبحاث، وكما تعلم، نحن نُسدي النصيحة لمن يطلبها، ثم ننتظر إلى أن تسنح الفرصة.»

«تسنح الفرصة؟»

«ليس لدينا المعرفة التي تكفي لأن نملك زمام الأمور.»

«زمام الأمور؟»

«لا داعي لأن تُصاب بالقلق. ما زال أمام العلم شوط طويل. ويجب أن يستمر في النمو لعدة أجيال قادمة. نحن نُدرِك الآن أننا لا نعرف ما يكفي بعد، لكن الوقت المناسب سيأتي على أي حال. لن تعيش لترى هذا، لكن لا أُخفيك سرًّا، أنتم الأغنياء ورؤساء الأحزاب بتلاعُبكم الفطري بالعواطف والوطنية والدين وغير ذلك أفسدتم كل شيء. أليس هذا صحيحًا؟ انظر إلى العالم السفلي! وغير ذلك من الأمور. يتخيل بعضنا أننا في يومٍ ما سنمتلك المعرفة الكافية لتولِّي ما هو أكثر من مُجرَّد أمور التهوية والصرف الصحي! المعرفة تتراكم وتتزايد كما تعلم. ولا يوجد هناك أي عجلة. يومًا ما، ستُصبِح حياة البشر مختلفة.» ثم نظر إلى بيندون مُفكِّرًا، وأكمل: «لكن سيفنى الكثيرون قبل أن يأتي ذلك اليوم.»

حاوَل بيندون أن يُبيِّن للطبيب الشاب كم أن حديثه يبدو لرجل مريض مثله سخيفًا وغير ذي صلة بالموضوع، وكيف أن هذا أمر وقِح وغير مُتحضِّر بالنسبة إليه، وهو الرجل العجوز الذي يشغل منصبًا في عالم القوة والنفوذ الشديدَين. أصرَّ على أن الطبيب يتقاضى أجرًا ليُعالِج الناس، وشدَّد كثيرًا على عبارة «يتقاضى أجرًا» ولا يحق له حتى التفكير للحظات في تلك الأمور الأخرى. لكن الطبيب الشاب ردَّ قائلًا: «لكننا نفعل هذا.» مُصرًّا على ما يقول من حقائق ليُفقِد بيندون أعصابه.

عاد إلى منزله وقد بلغ به الحنق مبلغه. هؤلاء المُدَّعون الفشلة — الذين لا يقدرون على إنقاذ حياة رجل ذي نفوذ كبير مثله — يحلمون بأنهم يومًا ما سينتزعون السيطرة على المجتمع من أصحابها الحقيقيِّين وسيفرضون طغيانًا جديدًا على العالم لم يمر عليه من قبل. اللعنة على العلم! ظل يُفكِّر بعض الوقت وقد استشاط غضبًا من هذا الأمر الذي كان يفوق احتماله، ثم عاوَدته الآلام مرة أخرى مما جعله يتذكر الوصفة التي كتبها له الطبيب الفظ والتي كانت ما تزال تقبع في جيبه. أخرجها وتناوَل جرعة منها على الفور.

هذا الدواء خفَّف وسكَّن آلامه كثيرًا حتى استطاع الجلوس في الكرسي الذي يُشعِره بأكبر قدر من الارتياح بجانب مكتبته (من التسجيلات الفونوغرافية) وأخذ يُفكِّر في تقلُّبات الأمور. تلاشى سخطه وانزوى غضبه وعاطفته أمام الأثر الخفي للوصفة الطبية، وأصبح الرثاء والشفقة هما ما يُسيطِر عليه. حدَّق فيما حوله، في شقته الرائعة والمُؤثَّثة كأفخم ما يكون، وفي صوره المنحوتة والمُغطَّاة بعناية، وفي كل ما يدل على خسته التي غلَّفتها الأناقة والتهذيب. لمس زرًّا ليملأ الصوت الحزين لمزمار راعي تريستان الأجواء. تجوَّلت عيناه من شيء لآخر لتُشاهِدا الأشياء التي تملأ شقته؛ حيث كانت باهظة التكلفة كثيرة الزخارف شديدة التكلُّف، لكنها كانت ملكه. كانت تلك الأشياء تُمثِّل مبادئه ونظرته للجمال والرغبة وفكرته عما هو ثمين في الحياة. والآن سيتركها جميعًا ليُصبِح كغيره من البشر العاديين. شعر بيندون كأنه لسان لهب ضئيل يخبو تدريجيًّا، وفكَّر أنه لا بد أن كل كائن حي مصيره الموت. واغرورقت عيناه بالدموع.

ثم فكَّر فجأةً كم كان وحيدًا. لم يكن هناك من يهتم لأمره ولا من يحتاج إليه! يمكن أن ينتابه الألم الشديد في أي لحظة. وربما يدفعه للعواء كالكلب الجريح، ولن يأبه لحاله أحد. وطبقًا لكل الأطباء سيكون لديه سبب وجيه للصراخ بسبب الألم في غضون يوم أو أكثر. استدعى هذا لتفكيره ما قاله مُرشِده الروحي عن اضمحلال الإيمان والاستقامة وانحلال العصر. نظر لنفسه على أنه مثال حي على هذا يُثير الشفقة وهو الذي كان حاذقًا قويًّا ساخرًا ذا نفوذ وغنًى ورُقِي، يصرخ من الألم ولا يجد تعاطُفًا من أي شخص بسيط مخلص في أي مكان من العالم. لم يكن ثمة أحد مُحب مخلص يرفق بحاله؛ لم يجد راعيًا يعزف المزمار له. هل اختفى كل البسطاء المخلصين من على ظهر الكوكب القاسي العجول؟ تساءل ما إذا كان البشر السوقيون البغضاء الذين يجوبون طرق المدينة ليلَ نهار يُدرِكون ما تحمله نظرته إليهم من معنًى. كان مُتأكِّدًا أنهم إذا شعروا بهذا فسيُحاوِل بعضهم أن يُغيِّر هذا الرأي للأفضل. لقد تحوَّل العالم بالتأكيد من سيئ إلى أسوأ. وأصبح العيش فيه مُستحيلًا بالنسبة لأمثال بيندون. ربما يومًا ما … كان مُتأكِّدًا إلى حد كبير أن كل ما يحتاجه في الحياة هو التعاطُف. وندم لفترة أنه لم يترك أي قصائد من تأليفه أو أي صور غامضة أو أي شيء يحمل ذكراه حتى يأتي من سيتعاطف معه.

بدا من غير المعقول بالنسبة إليه أن نسله سينقرض لا محالة، لكن مُرشِده الروحي المُتعاطِف كان يتناول هذا الموضوع بصورة غامضة ومَجازِيَّة على نحوٍ أثار ضيق بيندون. اللعنة على العلم! لقد قضى على أي إيمان وأي أمل. سيتلاشى من العالم وسيختفي من قاعات العلم، ومن الشارع ومن المكتب، ومن المنزل، ومن الأعين الجميلة للنساء. ولن يفتقده أحد! بل سيُصبِح العالم، بوجه عام، أكثر سعادة.

فكَّر أنه لم يسبق له من قبل إظهار عواطفه ومشاعره الحقيقية. هل أصبح هو أيضًا لا يمتلك أي تعاطُف؟ القليل من الناس فقط يمكنهم إدراك كم كان يُخفي عمق مشاعره ببراعة تحت قناع من السخرية. لن يدركوا ما خسروه. إليزابيث على سبيل المثال لم تُدرِك …

احتفظ بهذه الفكرة وظل يُفكِّر في إليزابيث لبعض الوقت. كم كانت لا تفهمه!

أصبح هذا الخاطر لا يُحتمَل. يجب عليه تصحيح هذا قبل أي شيء. أدرك أنه ما زال هناك أمرٌ يجب عليه إنجازه في الحياة، وكان صراعه مع إليزابيث لم ينتهِ بعد. لم يكن قد استطاع تجاوُز تفكيره فيها كما كان يأمل ويدعو الله، لكن ما زال يمكنه إثارة إعجابها!

بدأ التفكير من هذا المنطلق. سيُثير إعجابها. سيثير إعجابها حتى تندم على معاملتها له للأبد. الأمر الذي يجب عليها إدراكه قبل أي شيء هو شهامته وأصالته! نعم! لقد أحبها من كل قلبه. لم يُدرِك هذه الحقيقة بوضوح قبل هذا، لكنه بالطبع كان سيترك لها كل ما يملك. أدرك هذا فورًا كأمر محسوم وحتمي. ستُدرِك إليزابيث كم كان طيبًا وكريمًا، وعندما تجد نفسها مُحاطة بكل ما يجعل الحياة مُحتمَلة بسببه، ستتذكر احتقارها وفتورها معه وستندم أشد الندم. وعندما تبحث عنه للاعتراف بندمها، ستكتشف أنه قد فات الأوان. ستُقابِل بابًا مُوصَدًا وسكونًا مُزدريًا ووجهًا أبيض شاحبًا قد فارق صاحبه الحياة. أغمض عينَيه وتخيَّل نفسه ميتًا وقد ابيضَّ وجهه.

ثم انتقل تفكيره إلى جانب آخر من الموضوع، لكنه كان عاقدًا العزم. فكَّر جيدًا قبل أن يُقدِم على فعل أي شيء لأن الدواء الذي كان يتناوله كان يُصيبه بقدر هائل من الكسل والسوداوية. عدَّل بعض التفاصيل في بعض الجوانب. إذا ترك لإليزابيث كل ما يملك، فهذا سيعني أنها ستحصل على الغرفة الفخمة التي يُقيم فيها، ولأسباب عدة كان لا يُبالي بأن يتركها لها. ومن ناحية أخرى، كان يتعين عليه أن يتركها لشخصٍ ما. كان هذا ما يُثير قلقه الشديد حيث كان لا يدري ما يتعين عليه فعله.

في النهاية، قرَّر أن يترك الأمر لزعيم الجماعة الدينية العصرية المُتعاطِف الذي كان الحديث معه فيما مضى مُمتِعًا للغاية. تنهَّد بيندون بانفعال وقال: «سيفهم، فهو يعرف ما يعنيه الشر؛ إنه يفهم معنى الإغراء الشديد للخطيئة. أجل، سيتفهم الأمر.» راق لبيندون أن يُحدِّث نفسه بهذا كي يخلع ضربًا من الوقار والجلال على اتباعه لسلوكيات فاسدة وغير أخلاقية وانحرافه عن السلوك القويم بعد أن وقع في هذا الشَّرَك بسبب غروره وفضوله اللذين لم يملك القدرة على التحكم فيهما. جلس يُفكِّر لبرهة كيف بلغ سوء سلوكه كل مبلغ. لمَ لا يُجرِّب أن يُؤلِّف سونيتة شعرية؟ قصيدة تحمل صوتًا حادًّا سيتردد على مر العصور؛ صوتًا حسيًّا وحزينًا وشريرًا. نسي أمر إليزابيث لفترة. وخلال نصف ساعة، كان قد حطَّم ثلاثة ملفات فونوغرافية، وأصابه الصداع، مما دفعه لتناوُل جرعة ثانية من الدواء ليهدأ وعاد إلى شهامته وإلى هدفه السابق.

في النهاية، بدأ في مُواجَهة مُشكِلة دينتون المَقيتة، وتطلَّب تحمُّل هذه الفكرة كل هذه الشهامة التي ظهرت لديه مُؤخَّرًا؛ لكن في النهاية، هذا الرجل الذي أُسيء فهمه كثيرًا تغلَّب على المُشكِلة بمُساعَدة الدواء المُهدِّئ وقرب انقضاء الأجل. إذا قرَّر إقصاء دينتون وإظهار أقل لمحة من عدم الثقة فيه وإذا حاوَل إقصاء هذا الشاب بأي طريقة كانت، فلربما تُسيء إليزابيث فهمه. نعم، سيظل دينتون معها. يجب أن تدفعه شهامته إلى السماح بهذا. في خِضم كل هذا، حاوَل بيندون التفكير في إليزابيث وحدها.

وقف مُتنهِّدًا، ومشى مُضطرِبًا نحو الهاتف الذي يُوصِله بمُحاميه. خلال عشر دقائق، ستصل وصية جرى التصديق عليها وتوقيعها ببصمة إبهامه؛ إلى مكتب مُحاميه الذي يبعد عنه ثلاثة أميال، ثم جلس بيندون لفترة من الوقت ساكنًا تمامًا.

وفجأة، خرج من أحلام اليقظة وأمسك جنبه بيد مُتفحِّصة.

وبعدها قفز فجأةً على قدمَيه بحماس وهرع إلى الهاتف. لم يتصل أي عميل بشركة القتل الرحيم بهذه العجلة من قبل.

في النهاية، وخلافًا لكل التوقعات، عاد دينتون وإليزابيث من استرقاق العمل الذي كانا قد وقعا في شَرَكه، دون أن يفترقا. خرجت إليزابيث من الغرفة الضيقة التي تقع تحت الأرض وتركت العمل في طرق الحديد وتخلَّصت من ارتداء الخيش الأزرق، كمن خرج من كابوس مُزعِج. أخذتهما ثروتهما مُجدَّدًا نحو ضوء الشمس؛ وبمُجرَّد أن علِما بأمر الوصية، لم يستطيعا تحمُّل التفكير في يوم آخر من العمل. صعدا بالمصاعد والسلالم إلى مستويات لم يصعدا إليها منذ اليوم الذي بدأت فيه مأساتهما. في البداية، كان يملؤها حماس شديد بسبب الهروب من العالم السفلي حتى إن مُجرَّد التفكير فيه كان لا يُطاق؛ لكن بعد مُضِي عدة أشهر، بدأت تتذكر بمشاعر الشفقة هؤلاء النسوة الشاحبات اللائي ما زلْن يعملن تحت الأرض، ويتبادلْن أخبار الفضائح والذكريات والأمور الحمقاء، وهن يكدحْن طوال ما تبقى من حياتهن.

كان اختيار إليزابيث للمَسكن الذي حصلا عليه يعكس مدى استحواذ مَشاعر الخلاص عليها. كان المسكن يقع على أقصى أطراف المدينة، وكان به عُليَّة، وشرفة تُطِل على جدار المدينة، مفتوحة لأشعة الشمس والخُضرة والسماء والرياح.

في هذه الشرفة، دار المشهد الأخير من قصتنا. كان هذا وقت غروب الشمس في أحد أيام الصيف وكانت تلال مُقاطَعة ساري واضحة للعيان وقد اكتست باللون الأزرق. مال دينتون على سور الشرفة ليُشاهِدها وجاءت إليزابيث لتجلس بجواره. كان المنظر فسيحًا للغاية وكانت شرفتهما تقع على ارتفاع خمسمائة قدم فوق المستوى القديم للأرض. كانت الأرض الزراعية المُستطيلة الشكل والتابعة لشركة الأغذية تتخلَّلها بعض أطلال الضواحي القديمة — التي كانت عبارة عن بضع حفر وسقائف غريبة الشكل — وكانت تقطعها مجاري مياه الصرف الصحي المُتلألئة. كانت تلك الأرض تصل في النهاية إلى مكان ناءٍ عند سفح التلال البعيدة. كان هذا يومًا ما المكان الذي احتلَّه أبناء يويا. وعلى السفوح البعيدة للجبال، كانت تربض آلات قديمة لا تُعرَف وظيفتها تعمل ببطء حيث اقتربت نهاية نوبة عملها، وكانت هناك دوَّارات رياح مُتوقِّفة عن العمل تقبع فوق قمة التل. وبمحاذاة الطريق الجنوبي الكبير، كان عمال الحقل التابعون لشركة العمالة يركبون مركبات آلية ضخمة ذات عجلات، عائدين بسرعة لتناوُل وجبات الطعام بعد انتهاء نوبة العمل. وفي الهواء، كان هناك العشرات من الطائرات الصغيرة الخاصة تتجه نحو المدينة. كان هذا المشهد المألوف لأعين دينتون وإليزابيث سيُثير دهشة عظيمة لدى أسلافهما. اتجهت أفكار دينتون نحو المُستقبَل في مُحاوَلة فاشلة لتخيُّل ما سيكون عليه هذا المشهد بعد مائتَي عام، لكن أفكاره ارتدَّت نحو الماضي.

تحدَّث عن شيء من معرفته المُتزايدة بذلك الزمن؛ كان يمكنه تخيُّل المدن الفيكتورية القديمة الطراز التي تراكَم السُّخام على أبنيتها وطرقها الصغيرة الضيقة غير المُمهَّدة وأراضيها المَشاع الواسعة وضواحيها غير المُنظَّمة والمُتهالِكة والأسوار غير المُنتظِمة. تخيل الريف القديم في زمن آل ستيوارت بقُراه الصغيرة ومدينة لندن عندما كانت مدينة صغيرة. تخيل إنجلترا التي كانت تملؤها الأديرة، ثم تخيل إنجلترا في زمن الرومان، ثم قبل ذلك عندما كانت بلدًا بربريًّا حيث كانت تتناثر أكواخ القبائل المُتناحِرة. لا بد أن هذه الأكواخ بُنِيت ثم تهدَّمت ثم بُنِيت مرة أخرى خلال عدة سنوات جعلت الفيلا والمعسكر الرومانيَّين يبدوان كما لو كانا بالأمس القريب، وقبل تلك السنوات وقبل حتى ظهور تلك الأكواخ، كان هناك بشرٌ يعيشون في الوادي. حتى في ذلك الزمن الذي يبدو حديثًا للغاية إذا نظر إليه المرء بمقاييس الزمن الجيولوجي، كان هذا الوادي موجودًا، وتلك التلال البعيدة التي كانت ربما أعلى ارتفاعًا من الآن وكانت قِمَمها مُغطَّاة بالثلوج ما زالت بعيدة، ونهر التيمز الذي يتدفق من تلال كوتسوولدز إلى البحر. لكن البشر كانوا أشباه بشر؛ مخلوقات تعيش في الظلام والجهل؛ كانوا يقعون ضحايا للحيوانات المُفترِسة والكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والعواصف والأوبئة والمجاعات المُتكرِّرة. استطاع البشر أن يتخذوا لأنفسهم موضعًا مُتقلقِلًا ومحفوفًا بالمخاطر بين الأُسود والدِّبَبة وكل أشكال العنف الوحشي التي كانت تُميِّز الحياة في الماضي. لقد تغلَّب الإنسان بالفعل على بعض هؤلاء الأعداء على الأقل.

ظل دينتون لفترة يُفكِّر في المشهد الفسيح أمامه يُحاوِل بدافع من غريزته أن يعثر على مكانه وقدره في الكون.

قال: «كل شيء كان مُصادَفة وحظًّا. لقد خرجنا من الأمر سالمين. لقد تجاوزنا الأمر ليس بسبب قوتنا، ومع ذلك … لا … لا أعلم.»

ثم صمت لوقت طويل قبل أن يتحدَّث مرة أخرى.

«برغم كل شيء، ما يزال هناك وقت طويل. لقد وُجِد البشر منذ نحو عشرين ألف عام فقط، بينما عمر الحياة عشرين مليون سنة. وماذا عن الأجيال؟ ماذا عن كل هذه الأجيال؟ الحياة هائلة ونحن جزء ضئيل للغاية منها، لكننا نُدرِك ونشعر، لسنا مُجرَّد ذرَّات ساكنة، بل نحن جزء من الحياة بقدر ما تسمح لنا قوتنا وإرادتنا، لكن حتى الموت جزء من الحياة وسواءٌ عشنا أو متنا، نظل في مُعترَك الحياة، ربما يُصبِح البشر أكثرَ حكمة بمرور الزمن. فهل سيفهمون؟»

ثم سكت مرة أخرى. لم تردَّ إليزابيث بأي شيء على ما قاله، لكنها ظلَّت تُشاهِد وجهه الحالم بحب لا حدود له. لم يكن عقلها نشِطًا بدرجة كبيرة ذلك المساء فقد استحوذت عليها حالة من الرضا الشديد. بعد فترة وجيزة، وضعت يدها على يده برقة ولطف. داعَب يدها بهدوء ولين بينما ظل نظره مُنصبًّا على المشهد الفسيح الذي غمرته أشعة الشمس الذهبية. جلسا حتى غَرَبت الشمس. ارتجفت إليزابيث من البرد؛ وأفاق دينتون فجأة من هذه الأفكار الكثيرة التي استبدَّت به ودخل ليُحضِر لها الشال كي تتقي برودة الجو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤