إلى القراء

يقول بعض الفلاسفة: إن العقول سواء من حيث الخلقة، وإنما يمتاز بعضها عن بعض بالتكيف والتوجيه، فيسمو البعض منها إلى أن يصل ذرى الرفعة والسمو، وينحدر البعض إلى أن يصل الدرك الأسفل من الجمود والانحطاط. ونحن لا تعنينا هذه العقول، أكانت سواسية أو لم تكن؛ لأننا لسنا بصدد تحليل العقول وإثبات مقاييسها، وإنما الذي يعنينا هنا هو عرض وتصوير مجموعة من الطباع البشرية، في مجموعة من البشر منتقاة من صميم المجتمع …

وإننا لا نشك في أن هذه الطباع ليست سواء وإلا لكانت خاضعة خضوعًا أعمى لتأثيرات البيئة والنشأة والتعليم، تُسيرها طبقًا لهذه التأثيرات، وتتكيف وفقًا لهذه النشأة التي فرضها عليها المجتمع. وإننا لا نجد هذه الطباع تَسير في طريق مفروض من بيئة، أو تتجه اتجاهًا مفروضًا من نشأة، إلا بقدر ما توجبه الضرورة … وكثيرًا ما تتمرد فتكسر القيود وتنطلق في أجواء رحبة لا تلوي على شيء، تدفعها غرائزها إلى تحقيق أمانيها المختلفة غير مبالية بقوانين البيئة وتعاليم النشأة. ولو لم تكن هذه الطباع متباينة بعض التباين تتمتع بشيء من الحرية، لخلا المجتمع من هذه النماذج النادرة الطريفة، ولما وجدنا هذه الضحية من ضحايا المجتمع تكسر قيود بيئتها وتتخذ من الوطنية دينًا يهديها سواء السبيل، ولما تعرفنا على هذا الفقيه الطاعن في السن الذي يتخذ من شرع الله حانوتًا لبيع الجرائم … ولما كانت هذه النماذج البشرية التي نقدمها للقراء.

ثم ماذا؟ … ثم إني لم أعمد في عرض هذه النماذج إلى الخيال فأستخدمه في التنميق والتزويق، أو إلى التحليل النفساني فأسخره لإثبات فكرة أو إدحاض أخرى … أجل إني لم ألجأ إلى كل ذلك، وإنما التجأت إلى المجتمع وانتزعت من مختلف طبقاته نماذج عشت مع بعضها وسمعت عن بعضها. نماذج حية أقدمها للقارئ لعله يتوصل بها إلى تفهم بعض طباع مجتمعه، فيلمس أنبل نفس في أحقر شخصية، ويلمس الإيمان القوي في قلب الرجل الضال، والزيغ والإلحاد تحت عمامة رجل الشرع.

إن المجتمع البسيط هو خير من يصور الطباع على فطرتها؛ لأنه خاضع للطبيعة، والطبيعة وحدها، يسيره ناموس الفطرة وحده لا يعرف التوجيه المقعد ولا التسيير المهذب …

ولهذا سنجد شخصيات نماذجنا يفهمون بعض الحقائق على طريقتهم الخاصة ويستنتجون بعض النتائج على أسلوبهم الخاص أيضًا، وقد يبدو لنا تفهمهم للحقائق خاطئًا واستنتاجهم للنتائج ضعيفًا وذلك لأننا سنقيس تفهمهم واستنتاجهم بمقاييس العلم والعقل المهذب، وسنحكم عليهم حكمًا خاطئًا لأننا سنخضع في حكمنا إلى قواعد وأصول تعلمناها وفرضها علينا العلم والعقل المثقف، مع أن هذه الشخصيات توصلت إلى ما توصلت إليه على ضوء فطرتها وهضمته بجهاز طبيعتها في محيطها الضيق وبيئتها المحدودة، مدفوعة بدافع الغريزة إلى إبراز البكر من كوامن النفوس وألوان الطباع.

أحمد رضا حوحو
قسنطينة في ٣٠ / ٩ / ٥٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤