العمُّ نتيش

عرفت العم نتيش وكنت حينذاك أتمتع بريعان الشباب. احتل مكاني بين زمرة من شباب القرية؛ حيث كنا نقضي أيام عطلتنا المدرسية في اللهو واللعب والعبث البريء، وكان العم «نتيش» الذي لا يتخلف عن مجالسنا قد تخطى عتبة الشباب بأعوام وأخذ ينحدر مع السنين في منعرجات عقده الخامس، ولكنه كان فتيَّ التفكير كثير المرح، لا يعبأ بمسئوليات الحياة وتكاليفها الثقيلة، يقضي يومه ولا يفكر في غده، رغم أنه كان متزوجًا وله أطفال يطلبون منه التفكير في حاضرهم ومستقبلهم.

كان «نتيش» رجلًا بدويًّا، نشأ بالبادية وتربى بها، يكره المدن ويمقت تكاليفها المعقدة، بل يكره كل شيء معقد في الحياة، يهوى العيش البسيط ويقنع منه بأتفه الزاد، يميل إلى المرح واللهو ويتبرم من الجد والعمل، فقد كان كسولًا موهوبًا …

كان «نتيش» يعيش في أكناف عمه الذي استوطن الحاضرة منذ عهد طويل، وكوَّن ثروة متوسطة من عقار ومزارع، حاول عبثًا استغلال «نتيش» والاستعانة به في إدارة مزارعه وسير أعماله، مقابل ما يقوم به من تكاليف عيشه وعيش عائلته، فكان يعيش معه في مشاكل ومعارك لا تعرف الانتهاء، فبقدر ما كان عمه ذا حزم وعزم ونشاط يستوجبه ثراؤه وأعمال مزارعه، بقدر ما كان «نتيش» كسولًا برمًا بكل عمل جدي مثمر، يحلو له أن يقضي يومه في المقهى في لعب الورق و«الدومنة» في جو من المرح والمزاح.

•••

كان «نتيش» يحتل مكانته الفتية رغم تقدم سنه، وكنا نحبه ونستأنس به للطفه وظرفه. وكنا نشجعه على التمرد على عمه، ونحثه على عدم القيام بأي عمل يكلفه به، وكم كان يسره ذلك منا، ولهذا كان يلجأ إلينا كلما كلفه عمه بإنجاز عمل، وسريعًا ما نجد له حلًّا لمشكله (حلًّا يرضيه طبعًا)، ونجد له عذرًا يتقدم به لعمه، وينتهي كل شيء في رمشة عين، وننتقل فورًا إلى المزاح واللعب، ويذهب يقص علينا مغامراته الكثيرة مع عمه، يقصها علينا بأسلوبه الساذج ولهجته البدوية، فكنا نضحك لها ونطرب ونشجعه على الاستمرار في مناوءة عمه والتمرد على أوامره …

إنه الشباب سامحه الله وغفر ذنبه …

•••

وذات صباح بينما كنَّا جالسين في مقهانا المعتاد نتجاذب أطراف الأحاديث والنكات، إذ قدم علينا العم «نتيش» بقامته الفارعة الطول وهيكله النحيل المجرد من اللحم، وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى ابتدرناه بالسؤال عن مشاكله ومغامراته مع عمه، وابتسم «نتيش» ابتسامة عريضة وقال: «الدعوة مطينة يا لولاد …»

وألححنا عليه في محادثتنا عن هذه المسألة «المطينة»، فقال بكل هدوء وبساطة: زارني البارحة جماعة نصف الليل! … وجماعة نصف الليل في لغة العم «نتيش» هم اللصوص، قال: كنت البارحة وحدي في المنزل، حيث قضت زوجي والأطفال ليلتهم عند عمي، كنت مستلقيًا في فراشي أتصيد الكرى إذ لاحظت في غسق الليل لصيْنِ يتجولان في غرفتي باحثين عما غلا ثمنه وخَف وزنه، ولكن مع الأسف ماذا يملك نتيش سوى قدر من الطين وقصعة من خشب، والمؤنة تأتينا يومًا بعد يوم من دار عمي موزونة بميزان الذهب، لا تزيد درهمًا واحدًا عن حاجتنا … وكنت أنظر إليهما — وضوء المنور ساطع على وجهيهما — فقد كانا مطمئنين يظنان المنزل خاليًا، ولكن علامات الحسرة كانت بادية عليهما بوضوح، وغاضني أن يعودا من حيث أتيا بخُفي حنين، فنبهتهما إلى ملحفة جديدة من الصوف كانت في ركن خفي من أركان الغرفة لم ينتبها إليها وطلبتُ منهما ألا يعودا إلى أمثال هذه المنازل الفقيرة الخالية، ومنزل عمي على مقربة من هنا زاخرًا بمختلف الأرزاق والخيرات …

قلنا له: كيف تفعل ذلك وتُناول لصين غطاءك وغطاء أهلك؟

فضحك وقال: إنه ملك عمي استعرته منه، وما يضيره أن يصير في يد غيره، ولأي شيء تنفع أمواله! … قالها بكل بساطة وابتسامة الانتصار على عمه تعلو شفتيه.

•••

كان لنتيش غريم اسمه زيان، يكرهه كل الكره، لا لسبب أو داعٍ، وإنما كان يكرهه لوجه الله، كما يقول حينما نسأله عن الأسباب والدواعي. كانت إحدى ساقي زيان مستعارة من خشب؛ إذ فقد ساقه الأصلية في حادث اعتداء لصوص على مزرعة لعم نتيش كان يقوم بحراستها، وكان السبب الحقيقي لكره نتيش له، أنه أضاع ساقه من أجل أموال عمه، ولهذا يغدو ينتقده ويصفه بالبله ويقول: إني والله لا أسمح بضياع شعرة من رأسي من أجل أموال الدنيا كلها …

ويستمر في انتقاد زيان فيقول: أتظنوني مثل ذلك الأبله الذي فقد ساقه من أجل كيس من الشعير ينتفع به غيره؟

فماذا كانت فائدته، سوى ساق من الخشب، يكسر بها بلاط المساجد ويزعج بها عباد الله الآمنين؟!

قلنا: لو كنت مكانه، ألا تفعل مثله؟

قال: هيهات … ولا أذهب بكم بعيدًا، فقد أرغمني عمي في السنة الماضية على مشاركة عماله في حراسة الحبوب في البيدر، وكان بعضها صافيًا نقيًّا، ينتظر نقله إلى المخازن، والبعض مختلطًا بتبنه ينتظر هبوب الرياح المواتية لتصفيته. وكنا نتناوب الحراسة، وجاء دوري، وكأن اللص لم يكن ينتظر إلا ذلك.

قلنا مقاطعين: إن اللصوص يعرفون من دون شك تقديرك لهم وعطفك عليهم؟

ابتسم واسترسل يقول: وما كاد يستغرق الآخرون في النوم حتى شاهدت — وعلى ضوء النجوم — لصًّا يتقدم بخطوات بطيئة نحو البيدر، ولبلاهته ترك القمح النقي المصفى وقصد كومًا من الشعير المختلط بالتبن، فقلت له: لا تنزعج! دونك القمح النقي املأ منه كيسك واذهب بسلام … ولا أدري كيف انتبه أحد النائمين إلى ذلك، فأيقظ الآخرين واضطر المسكين إلى الفرار خالي الوفاض.

قلنا: وكيف كان موقف عمك من عملك هذا؟

قال: سخط علي ولكني أجبته أني لا أريد أن أشارك زيان الأبله في إزعاج خلق الله بساق من الخشب، أجني لعنات الناس من أجل كيس من القمح ينفع هذا المسكين ولا يؤثر على ثروته شيئًا.

قلنا له: إنك تعطف على اللصوص، وتشجعهم على أعمالهم الشائنة، وهذا لا يليق بك …

وكان جوابه: إن اللصوص مخلوقات مثلنا لهم الحق في الحياة والعيش، جعل الله رزقهم من أموال الذين لا يدفعون حق الله من الزكاة. وكان نتيش يعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا يُسرق إلا الذي لا يدفع حق الله من ماله.

قلنا له: لكنها مهنة غير شريفة وغير مشروعة.

قال: وما ذنبهم، إن الله خلقهم وخلقها وجمع بينهم.

قلنا: ستستمر إذن في الدفاع عنهم والعطف عليهم وتشجيعهم؟

قال ضاحكًا: سأشجعهم على نهب أموال عمي كلها، ما دام لا يحسن الانتفاع بها …

•••

وساءت الأحوال بينه وبين عمه، فلم يعد عمه قادرًا على احتماله، ففارقه وعاد نتيش إلى باديته يعيش بين عشيرته كما يحلو له أن يعيش تاركًا لنا فراغًا عظيمًا، وذكريات عذبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤