قبل اللقاء

١

رحلة البحر

كانت رحلة البحر متعبة على الرغم من أن البحر كان في أول السفر هادئًا، والباخرة الألمانية «البرنس هنريش» التابعة لشركة نورد ويتش لويد كانت فخمة مريحة وعدد المسافرين قليلًا، فقد تغير وجه البحر فجأة وساءت الأحوال حقًّا واضطرت الباخرة للوقوف في عرض البحر وغضبت الطبيعة واصطلحت العناصر على معاكستنا وصرنا فعلًا كالريشة في مهب الريح واشتد البرد في ١٠ أبريل، وتدثرنا بالمعاطف وزادت حاجتنا للطعام وأسعفتنا الباخرة بالأغذية ولا سيما الحساء والشاي واللحوم الباردة في كل ساعتين تقريبًا، ما عدا وجبات الطعام الدسمة السخية.

وكنت وحيدًا على ظهر الباخرة أي: لا صديق ولا رفيق ولا مؤنس أو مواس. وكنت جمعت شجاعتي وعزمي لهذه الرحلة بعد نضال طال من فبراير إلى آخر مارس وغادرت مصر والربيع في أوج ازدهاره وسمت نضارته والشمس ساطعة والجو دافئًا والحياة ضاحكة. وكان هذا الصحو وذاك الجمال وتلك الحياة الوليدة والنور المتدفق تعين على تخفيف آلامي والإقلال من قوة المعركة الدائرة في صدري. فقد كانت المسألة صراعًا بين الحياة والموت والنور والظلام والمستقبل البسّام والأمل الضاحك المستبشر، وبين المستقبل العابس واليأس القاتل وخيبة الرجاء وأنا الوحيد الطريد الغريب الوجه واليد واللسان أهاجر في طلب العلم والرفعة، وخدمة الوطن ولا أطلع أحدًا من الخلائق على سري ولا أبوح لأحد بما انطوت عليه جوانحي ولا أعتمد على أحد ولا أركن إلى أحد ولا أنتظر معونة من أحد، وكنت إذ ذاك لا قليل الإيمان وحسب بل كنت عديم الإيمان بتاتًا لا لشدة ما لقيت من الظلم والأذى والأسى؛ بل لأن قلبي لم يتجه نحو النور الإلهي. لكنني كنت أشعر قوة غامضة تدفعني وتشجعني وتأخذ بيدي وتيسر لي الأمور المهمة في أوقاتها.

وربما كانت غريزة الحياة ودفعة الشباب والغيظ من الظلم والغبن والكيد من الغفلة المحيطة بي، وموت القلوب والأرواح حتى تخيلت مصر كلها مقبرة كبيرة أو قرافة لا حدود لها، وأنني أجوس خلال الموتى ولا بد لي أن أخرج من هذا المكان الذي يملأه الصمت والسكون ويسود عليه الظلام. إن هذه الحالة النفسية لم تغادر ذاكرتي وما زلت أشعر بها في كل الأوقات. كنت قبل سفري ألتمس المعونة من كل إنسان بكلمة أو بسمة مشجعة أو دعوة صالحة أو شعاع أمل فلا أجده حتى هؤلاء الناس الذي كانوا أصدقائي وأحبائي ورفقاء حياتي في المدرسة وجلسائي في النادي والمقهى، وجيراني وإخواني وأخداني وخلاني ما أكثر هذه الصفات في اللغة العربية وما أقل معانيها في عالم الحقيقة! فصممت وتوكلت على ماذا؟ تركت أهلي وبيتي وكتبي — وهي أعز الأشياء عندي وثيابي وكل ما اقتنيته وأحببته في ثماني سنين من أثاث ومتاع وذكريات وأشياء ألفت رؤيتها ولمسها، تركتها في بيت جميل في الحلمية الجديدة وقد اكتشفت بعد عودتي أن معظمها سرق وتبدد وضاع إلى الأبد.

لنرجع إلى الباخرة في صباح ١١ أبريل سنة ١٩٠٨.

وقفت فجأة وأذاع القبطان علينا نحن جماعة المسافرين — وما أشبهنا بالناجين في سفينة نوح — أننا وقفنا لا لعطل في الآلات ولا لعجز عن مواصلة الرحلة أو التغلب على هياج البحر؛ ولكن توقفنا لأن الباخرة التي سبقتنا شلزويج قد جنحت وأن باخرتنا مكلفة بإنقاذ المسافرين الذي ساء حظهم أكثر منا، ثم رأيت منظرًا عجبًا — قوارب النجاة تفصل الواحد بعد الآخر من باخرتنا والقارب الواحد يحركه عشرون بحارًا ويخوضون به غمار الأمواج التي أصبحت كالجبل، والأعجب أن تلك الأمواج كانت تنشق وتبلع القارب بالبحارة وتنطبق الأمواج عليه حتى لنعتقد أنه لن يظهر على وجه الماء، فتخرج من صدورنا آهات وحسرات ويبدو علينا الوجوم والخوف، وبعد عشر دقائق أو ربع ساعة يطفو القارب الذي حسبناه قد غرق فيعود إلينا الاطمئنان، وتخرج أصوات الفرح من أفواهنا، وقد نسينا أنفسنا وبقينا هكذا طول اليوم وبعض الليل وكانت تلك القوارب تعود إلينا محملة برجال ونساء مدثرين بأغطية من الصوف والفرو والجلود، ثم يقدم لهم الخمر والطعام ويتولى أطباء وممرضات تدليكهم وإنعاشهم أعني إنقاذهم من الموت.

تصور هذه الحال التي صادفتني في أول رحلتي!

الأرمنية الحسناء

وفي تلك الفترة — أيام معدودة — رأيت امرأة صبية جميلة علمت أنها أرمنية ظنَّتني تركيًّا فتحدثت إليَّ فأخبرتها أنني مصري فكلمتني بالعربي، ودعتني إلى صالون الباخرة وكان تقريبًا خاليًا وأخذت تسليني بالحديث والابتسام، ثم أخذت تدق على البيانو وتغنّي بالتركية والأرمنية بصوت جميل، وترنو إلي بأعين دعجاء، وترنو إلي بنظرات ذات معنى وقد فهمت كل مقاصدها، ولكنني كنت في شغل شاغل أكاد لا أعي معاني الكلام العادي فما بالك بغزل هذه الصبية الحسناء الناضجة؟ واعتبرت أنها مبعوثة الشيطان جاءت لتفتنني أو تسحرني لتحولني عن غايتي وكانت في مستهل العقد الثاني، وأرى تمام العقل وكمال الحكمة أن أفر من النساء لا تعلقًا بأهداب الفضيلة فإني لا أبرئ نفسي، ولكن لشدة امتلائي بأملي ومقصدي، فقد ملكت غايتي كل مشاعري. وبذلت الأرمنية الحسناء كل جهودها واستدرجتني إلى خلوة إثر خلوة حتى في ظلام الليل وشدة البرد في أركان خالية بعيدة عن كل رقيب فأزداد نفورًا وأحذق فن التخلص، ولكنها لم تيأس إلا عند وصولنا إلى مارسيليا، وعند الوداع رمتني بنظرة جمعت البغضاء والحقد والاحتقار، ولو استطاعت أن تقتلني لفعلت. ومع هذا كله صافحتني وضغطت يدي وأعطتني بطاقة باسمها وعنوانها في باريس. وكانت البطاقة معطرة، فوقفت في ديوان الجمرك أعالج دهشتي من قوة أمل المرأة وشدة عنادها وكيف أنها عزّ عليها أن أفلت من يدها مع أنني لم أكن شيئًا مذكورًا بين بقية الرجال المسافرين. ولكن المرأة لا تقبل الهزيمة وهذه بذاتها لم تعلم حالتي ولو علمت لعذرتني، والمرأة كما علمت بعد ذلك بالخبرة تعفو عن كل إنسان وتنسى كل سيئة، إلا أن تعرض نفسها ثم يُعرض عنها، إنها تذكر ذلك وتنسى كل شيء دونه ولو كان المال والبنون بل الحياة.

لقد اعتبرت هذه الحادثة أول انتصار أحرزته على المرأة عدوة الرجل وآماله وتطلعه إلى المجد، أول انتصار على نفسي، أول جهاد خرجت من معركته فائزًا. وبعد أن بعدت عني وغابت عن نظري قلت: كان الله لك وأعانك فإني أعطف عليك وأشكرك؛ لأنك أحببتني ولو لأجل معصية ولست بالرجل الذي يحب وليس في فتنة مال أو جمال أو جاه فماذا رأيت أو وجدت في، وقد ودعتني وهي تشك في رجولتي، فلا ملام ولا عتاب فالحق بيدها.

الوصول إلى ليون

ووجدت نفسي في ثغر مرسيليا وحيدًا ومعي حقائبي، وركبت مركبة إلى محطة السكة الحديد لألحق بالقطار السريع إلى مدينة ليون، وكان المطر ينهمر والمنظر كئيبًا مقبضًا فقلت: هذا الغيث فأل حسن لأشجع نفسي والحزن يكاد يقتلني، وجرى القطار السريع بنا في الدرجة الثالثة.

ووقفنا في محطات الوسط وقفات طويلة أورانج وأفنيون وفالنس وفيين، وكل وقفة نصف ساعة ودعوة إلى المقصف وفرصة لشراء الطعام والشراب ولا سيما الفاكهة والنبيذ.

وقد طال السفر ولكنني لم أنم ولم أذق طعامًا ولا شرابًا، وبلغنا ليون (محطة بيراش) عند نصف الليل، حسرة جديدة وخشية من عدم الاهتداء إلى فندق، ولكنني وجدت خارج الباب مركبة ضخمة عليها اسم فندق الغرباء فقلت: أي فندق أليق بي من هذا الخان الذي يحمل الطائفة التي أنتمي إليها، ألست غريبًا في مدينة ليون وفي المطر والربيع الذي انقلب شتاءً، وفي الليل البهيم ولم يكن معي أحد، وكانت المركبة فسيحة وعالية وعجلاتها من الحديد بغير إطارات من المطاط والحوذي متعجل وحزين لقلة الأضياف، والصيد الذي يعود به (وهو أنا) ضئيل هزيل فأخذت العربة تهتزّ وتترجرج وتتدحرج على أحجار الشوارع القلقة، فتذكرت كلمة دي كونسي؛ لأنني كنت قرأت “oh! stony heated Oxford street” آه يا شارع فيكتور هيجو أيها الشارع الذي قدّ قلبه من الصخر.

المدينة كئيبة مظلمة، تلك التي دعوتها بعد ذلك ليون الزاهرة، أين أزهارك في هذا الليل البهيم وتلك الوحدة القاتلة. ولو علم العالم أنني كنت أحمل في كيس حزام تمنطقت به خمسة جنيهات إنجليزية (فقط لا غير زيادة!) لضربني المشفقون بالسيوف، تلك المغامرة في سبيل العلم والوطن والشرق لا يؤيدها سوى خمسة دنانير. أهذا قلب من الحديد أم عقل من الورق الرقيق؟

بلغت فندق الغرباء فاستقبلتني غادة حسناء وضحكت لي ورحبت بي ولم أفهم كلمة مما قالت، غير أنها وضعتني حيث أستحق في غرفة في الدور الثالث مطلة على حوش خراب لقاء خمسة فرنكات. فلم أنم في البقية الباقية من الليل وتيقظت مع الديكة، وأسرعت بالنزول وقصدت إلى كلية الحقوق وطرقت باب البواب ولم ألاحظ أن الجامعة مغلقة في عطلة عيد الفصح «باك». وسألت عن الأستاذ إدوار لامبير، فقال لي البواب: «وا أسفاه يا سيدي! إنه مسافر في الريف»، ففهمت بالإشارة وعدت أدراجي يائسًا. وفهمت أنه لا بد أن يعود وأن الكلية سوف تفتح أبوابها بعد أيام، وسرت في الطرق على غير هدى حتى مررت بحانوت مساح أحذية وعليه إعلان «غرف مفروشة للإيجار»، فدخلت إليه ومسحت حذائي، وأشرت إلى الإعلان فأفاض في الكلام بفرنسية مخنَّثة مطاطة ووضع في يدي ورقة بعنوان، فخرجت ووصلت إلى عمارة بالدور السابع بشارع فيكتور هيجو، ووقع نظري على مدام كابيه، وهي امرأة سمينة منتفخة كالبالون، شقراء بخراء فضحكت لي وأبرزت أسنانًا صفراء عريضة متعرجة وأدخلتني إلى غرفة فسيحة فاستأجرتها فورًا ودفعت لها أجرة شهرية مقدمًا واكتشفت بعد ذلك وبعد فوات الفرصة أنها أيضًا على حوش تصفر فيه الرياح، ولكنني نقلت أمتعتي من فندق الغرباء مغتبطًا بوداع الخادمة الحسناء. وقلت: لعل في وجهي ما يمنع نساء ليون عن أن يسمحن لي بالنظر إلى شوارع بلدهن!

ثم بحثت عن مطعم فاهتديت إلى مطعم في شارع ستيلا فوقه بيت مغلق يسمونه كذلك؛ لأنه يبقى مفتوحًا طول الليل، ودفعت ثمن الطعام غداءً وعشاءً لشهر كامل وكل هذه العجلة ليست بسبب أمانتي أو حاجة العملاء لمالي القليل، ولكن لأضمن البقاء مجرد البقاء ساكنًا طاعمًا ثلاثين يومًا على الأقل — كل هذا وذاك ولم أفطر — وقصدت بمحض البحث والمشي على الأقدام تحت المطر مكتبة في ساحة بلكور، وطلبت من الرجل كتابًا في القانون الروماني وآخر في الاقتصاد السياسي وورقًا وكراسات وقلمًا وسألته عن الثمن، وعرضت عليه الثمن وتكلم طويلًا ففهمت أنه يمهلني إلى أن أعود لأخذ بقية الكتب بعد عطلة عيد الفصح، وطلب اسمي وعنواني ودونهما في ثبت عنده وقد وثق بي لشدة ما كان يبدو على وجهي من البساطة والذهول وسلامة النية وكلها تبعث على الثقة، وكانت هذه هي النقطة المشرقة الوحيدة في الرحلة.

وعند الظهر دخلت إلى المطعم وتناولت الغداء وهو لا ريب مطهي بشحم الحلوف، ولكن الخضر طازجة جميلة، حمص أخضر وبطاطس (بشائر) صغيرة الحجم ولحم لا أدري من أي جزء من الذبيحة وأية فاكهة.

ونقلت متاعي من الخان وصعدت إلى غرفتي في الدور السابع ٢١٥ درجة من درجات السلالم الخشبية الرحبة، فكنت ألهث وأتأوه وأستريح ويدركني دوار، فأتخيل أنني في السفينة وأشعر بدقات قلبي ووخزات في صدري فأفرح بها؛ لأنها في سبيل العلا والمجد!

ولم أكد أستريح حتى دق الباب ودخل عندي مسيو فاڤر، وهو المخنث السمسار ماسح الأحذية وطلب مني أجر الدلالة والحلوان فناولته خمسة فرنكات فأخذها كالمفجوع وثرثر كعادته، وابتسم وأصلح بيده طاقية شعره المصطنع المتقن ووضع في يدي بطاقته وانصرف بعد أن قال: إن غرفتي جميلة ولكنها باردة ثم صنع بشفتيه وأسنانه صوتًا عجيبًا يشبه اصطكاك الأسنان من البرد «برّ … برّ …»، فشعرت بالقشعريرة، وكأن القطب الشمالي انتقل إلى مسكني … ولو لم يتأفّف هذا الرقيع لتحمّلت البرد.

مقابلة مصري

ألقيت نظرة على البطاقة فإذا بها تحمل اسم شاب مصري وعنوانه «موسيو أ. م. شارع بواساك»، فأسرعت بالنزول، ها هو مصري من عملاء السمسار يقيم في ليون، فالبدار البدار إليه لأسمع صوته ينطق باللغة التي أفهمها. وكنت أستوقف الرجل أيًّا كان وأقدم له البطاقة وأقول له: «غريب etranger طالب etudiant»، فأشفق عليّ أحدهم وقادني إلى الشارع وهو يثرثر وأنا أقول له: نعم. نعم. نعم يا سيدي. ولا أدري ما أقول حتى بلغت بيت صاحبنا وهو يقطن غرفة منعزلة في الدور الأرضي وفي الحوش — أيضًا الحوش الثالث منذ وصولي — بئر عليه تنبيه بأن ماءه لا تشرب مع أن البلد يرويها نهران الرون والسون! ورأيت صاحبي الذي عرفته في مصر؛ لأنني رأيته مرة واحدة أصفر اللون ممتقعًا هزيلًا منكمشًا، فتصنع السرور للقائي سرورًا حزينًا واجمًا. وقال: «ليس هنا عادة الترحيب بالقهوة وأنا لا أدخن. قد اخترت هذه الغرفة السحيقة؛ لأنها فسيحة؛ ولأنها بعيدة عن أصحاب الدار ولي فيها كل الحرية أستقبل فيها البنات في أي وقت من الليل والنهار»، فدهشت لصراحته ولكنني ضغطت على ضروسي بأنيابي وضحكت لأظهر له أنني أفهم هذه الرغبة في الحرية الشخصية لاستقبال البنات، وبعد قليل دخل علينا شاب آخر قال: إنه طالب طب وهو أصفر الوجه خامل متداع كالجدار الذي يريد أن ينقض، ففرح بلقائي؛ لأنه يحب أن يسمع أخبار مصر ثم قال لي للوهلة الأولى: إنه بهائي وإنه مبعوث أحد الأمراء ليتم دراسة الطب لينشر البهائية في مصر. فتخيلت أنني في حلم، ثم سأل صاحب الغرفة عن حالة الإفراز فصمت الرجل ثم غمز بعينه للطبيب خشية اطلاعي على سره فقال له: أليس هو الآخر رجلًا وسيحدث له ذلك عشرات المرات ثم ضحكا. وقال الطبيب: إن صاحب الغرفة مريض بالبول الحار الذي يصاب به كل طالب على الأقل سبع مرات ولا يعدّ رجلًا دون ذلك، ففهمت أنه يشير إلى المرض السري المعروف باسم الجزيرة التي نفي إليها عرابي باشا. فانقبضتُ لبشرى الطبيب بأنني سأصاب به عشر مرات وقلت في نفسي بصوت غير مسموع لهما: «كذبت والله أيها البهائي الملعون في الأرض والسماء، فلن أصاب به؛ لأنني لن أخلو بامرأة قط قبل أن أتم عملي وأعود إلى مصر، إنك متكهن كذاب وكذّاب أشر». إذن هذه كانت عيادة لا زيارة، وصاحبي لا يحب الغرفة المنعزلة لأجل الحرية بل لأجل البنات الملوثات. ولأمر ما جدع قصير أنفه وسكن بجوار البئر المرة المذاق.

ولما انتهى التوتر الذي أصاب المجلس سألاني عن عنواني وغايتي ودراستي، وسبب وصولي في أواخر السنة الدراسية وكيف أقدمت على جامعة فرنسية، وأنا لا أتكلم كلمة بتلك اللغة ولا بد من حادث جسيم دعاني إلى السفر، وأنه لا يوجد في المدينة إلا طالبان أو ثلاثة يدرسان الطب وأنهم من أبناء الأغنياء. وهل اتصلت بأحد من الأساتذة، وفي أي فرقة أنا، وهل حصلت على شهادة الدراسة الثانوية، وهل أحمل شهادة الميلاد إلى آخر تلك الأسئلة التي غايتها العرقلة وظاهرها المعونة والمساعدة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فأجبت على كل سؤال بسؤال آخر فيه نكتة أو حيلة أو لغز، حتى مال ميزان النهار واستأذنتهما في الانصراف.

العودة إلى الفندق

عدت إلى غرفتي القريبة من السماء وتذكرت البيت المشهور: نلت أسباب السماء بسلم!

فقلت: المقصود به أنا، فالدور السابع قريب من السماء الأولى على الأقل!

وفتحت حقيبة الكتب وأخرجت قاموسًا وكراسة وقلمًا، وبدأت أقرأ كتاب القانون الروماني على ضوء مصباح من الغاز؛ (لأن الغرفة كانت مظلمة نهارًا وليلًا وليس بها إلا النافذة المطلة على الحوش). لقد فنيت في الأفنية، فناء الفندق وفناء غرفتي وفناء صاحبي العاشق الذي صار من شهداء الغرام، وكان يدّعي أنه جاء ليون ليدرس فلسفة سبنسر! إنك لا تدري مقدار اللذة النفسية والمتعة الروحية والحماسة العقلية التي شعرت بها في ذلك المساء حتى كدت أنسى العشاء أو أتهاون في أمره، لولا أنني خشيت أن صاحب المطعم يطمع في مالي القليل فينكر ما قبضه.

وكنت أشعر بالذل وأنا أخطو بعتبة المطعم لحقارته بالنسبة إلى المطاعم التي عرفتها في مصر وفي أوروبا في سياحتي الأولى (سنة ١٩٠٦)، ولكنني رضيت بنصيبي وقلت: أي فضل لي على مجاوري الأزهر وقد تخرج منهم الزعماء والعلماء وقادة الفكر في كل القرون وهم يفترشون الحصير، ويأكلون التوابل والأفوال وعيش الذرة وفتات الجبن ليلًا ونهارًا. ولكن ها هنا إدام من لحم وخضر وحساء ولحوم وفواكه، نعم إن الدهون مريبة والذبائح أو الموقوذة مشكوك فيها، ولكن الضرورات تبيح المحظورات وقد أخبرت صاحب المطعم أني لا أشرب النبيذ وأشرب بدله ماء فيشي أو إيفيان، فأحضر لي قنينة فلما فرغت ملأها من ماء نهر الرون على أن ثمنها لا يتجاوز قرشين.

طالب طب مصري

ولكن الليلة حدث أمر عجيب حقًّا، فإن صاحب المطعم لفت نظري إلى شخص جالس ودعاني إلى الجلوس معه فدهشت جدًّا؛ لأنه طالب طب قديم من أبناء الأعيان الكبار، وفرحت به حقًّا؛ لأني عرفته في مصر معرفة حسنة فكان أول سؤال له: من دلّك على هذا المطعم. كم تدفع للشهر؟

ولما علم قيمة ما أدفع قال لي: إن الرجل أكرمك؛ لأنني أدفع كذا، وقد اكتشفت بعد ذلك أنه خدعني حبًّا بالخديعة وكزازة ودناءة نفس؛ لأنه يدفع أقل مني مع أنه يتجرع النبيذ ظهرًا وعشاء ورجاني أن أقول لصاحب المطعم: إنه هو الذي دلّني عليه وهو الذي حدد الثمن الذي أدفعه.

وكانت دهشة ثانية.

وهذا الرجل ورث مالًا كثيرًا ونهب أموالًا أكثر وقضى في التعليم أضعاف ما يقضيه أي طالب في أنحاء العالم، ورسم خطة حياته في الوظائف والمواريث والزواج ونفذ الخطة كلها؛ لأنها كانت لا تتعدى بطنه وفرجه وكيس نقوده.

وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام

ولهذا الكائن العجيب نوادر وقصص وأخلاق شاذة، ولا أدري إن كان على قيد الحياة أم قضى، ولكنه على كل حال أحيل على المعاش من زمن طويل. إن بعض المسلمين من الأجناس الدخيلة كالزنوج والترك والجركس يحيرون الألباب، والذي فتح عيني أنني لم أكن طالبًا حديث العهد بالحياة، بل كنت مارستها من قبل ممارسة طويلة وعركت الدهر وعركني … في ظني.

جار جديد

وبعد ثلاثة أيام حملت إليّ الأقدار جارًا جديدًا هو الشقيق الأصغر لرجل من أعظم رجال مصر تعبت الدنيا في تعليمه. فلما توفي العظيم أرسلته الأسرة ليتعلم في ليون رجاء أن تكون كارثة الموت هذبت من طبعه، فجاء بخيله ورجله وأحمال من الثياب (حتى ثياب المرحوم) والعصي الثمينة والحلي النفسية وبعض الأثاث الخفيف الذي كان يحمله المرحوم في رحلاته ونقودًا ذهبية، وصكوكًا على المصارف ومكاتيب الثقة Lettres de Credit وبالجملة كل ما يتخذه أبناء اللوردات والبارونات في رحلة تعليمية طويلة، ثم إنه لا يحمل كتابًا ولا كراسة ولا أثارة من رغبة في التعليم، بل يحمل بين ثنايا صدره وأحشائه كل الرغبات المكتمة والظاهرة في الاستمتاع بكل الشهوات، وكان في الباخرة التي جنحت ولا أدري كيف اهتدى إلى الدور السابع في الركن الخفي الذي قدمته لي الحياة، ولا بد أن يكون قد عثر على موسيو فاڤر الوسيط كما عثرت فقاده إلى وكر مدام كابيه، فلما رأت أثاثه وجهازه وحقائبه وطروده وشحناته ومعاطفه وعصية وقفازاته وقبعاته (وكلها موروثة)، أيقنت أنه صيد سمين حقًّا ولا بد أن تكون قد نفحت الوسيط السمسار حلوانًا لم يحلم به في حياته ففغر فاه وتمشدق، وأخرج من الكلام ما لم يخرج شيخ الحواة من فمه. ثم قدمت للضيف القديم العزيز أفخر غرفة في البيت، وهو قاعة الصالون وبه الكوڤ (كهف) بسرير فخم وله باب سري على السلم من آثار حياة العشق؛ لأن المرأة الفرنسية تدخر فراشًا وبابًا سريًّا لمغامراتها أو الرجال يتواطئون معها؛ لأنهم الذين يبنون هذه البيوت والغرف والأبواب، ويضعون تصميمها ويجلبون أثاثها، فيجعلون للغرفة العامة الشريفة لاستقبال الأضياف في وضح النهار، سردابًا وبابًا لاستقبال أعز الأضياف لزوجاتهن أو عشيقاتهم، فيمكنه أن يصل ليلًا ويغادر فجرًا.

فإن المرأة بعد أن تستوثق من رتاج بابها تستقبل حبيبها في الصالون، وتسمر وتشرب وتتنقل ثم تنعطف بعد الهياج الجنسي إلى كهف الغرام. فكان فرح جاري بهذا المدخل والمخرج فوق كل فرح؛ لأنه المكان الذي ينشده طول حياته، فلما هدأ روعه وألقى عصي التسيار؛ لأنها كانت أكثر من عشر، التفت إليّ وعاهدني من تلقاء نفسه على الاستقامة والجد والاجتهاد؛ لأنه يعرف أنني أعرفه. فلم أصدّق حرفًا مما قال ولكنني تظاهرت بتصديقه. وقد عدّ هذه المصادفة أسعد مصادفة في حياته، وأنها علامة التوفيق إلخ.

وبعد لقاء الترحيب انقطع لترتيب متاعه وتصفيف ثيابه وقمصانه وأربطة عنقه ومعاطفه وثياب التفضل والأحذية والمباذل، فصار معرضًا ممتعًا حقًّا، فقلت له: يا فيهم (لأن هذا كان اسمه) أين الكتب ألم تحمل معك أي كتاب بأية لغة لتقرأه ولو للتسلية فقال: غدًا ترى!، ولكنني لم أره؛ لأنه احتج واعتذر برغبته في رؤية المدينة واعتماده على مصاحبتي، فاعتذرت له وقلت له: إنني هنا سأقرأ ليلًا ونهارًا حتى تفتح الجامعة أبوابها.

وواظبت على عملي وقراءتي وخروجي للغداء والعشاء في مطعمي، وبعد يوم حضر عملاق طويل هزيل ذو لحية سوداء أشبه ببوريس كارلوف في أبشع أدواره، فقدمتني مدام كاپيه للعملاق بوصفه حليلها وهو في الحقيقة خليلها وصناعته سمسار تجارة متجول يغيب أيامًا وليالي يطوف ما يطوف ثم يأوي إلى بيت قعيدته اللكاع البخراء الشقراء.

فعرض هو لا هي علينا أن نتناول إفطار الصباح معًا في المطبخ؛ لأن غرفة الطعام مؤجرة لي وبها هي الأخرى الكوڤ (كهف الغرام)، ولكن ليس لها باب للخروج؛ لأنها لا نافذة بها إلا المطلة على الحوش.

فقبلنا العرض لقاء ١٥ فرنكا في الشهر، والإفطار مكّون من قهوة وحليب وزبد وخبز على الطريقة الفرنسية، وقد رأيت بعد يومين أن السيدة تعد لكل منا فنجانًا صغيرًا ولحسة زبدة وكسرة خبز، بينما أعدت لعملاقها سلطانية ضخمة بالحليب والقهوة تذيب فيها ربع رطل زبدة. ورأيت تذمر جاري بالعربية وبالنظرات فقلت له: صهٍ هذه ضريبة وزيادة في الأجر فاعمل كما أعمل، فإنني أفطر مرة ثانية، ثم جاهرت بالود للعملاق والبخراء فكنت أصب في سلطانيته حليبي وزبدتي، فازدادت المرأة تقديرًا لخلقي، ثم قال الرجل: إنه سيقدر لي هذا الجميل ويوصي بي الأساتذة ليسهلوا لي النجاح؛ لأنه صديقهم جميعًا بغير استثناء، وأنا أعلم يقينًا أنه لا يدري أين مقر الجامعة، فشكرته وقلت: صبرًا. أما صاحبي فكان يغمز بعينه ويهمس ويتأفف؛ لأنه يريد أن يأخذ بكل حقه (حلفًا) ولم يلبث العملاق أن سافر وخلا البيت كعادته وكان فيهم عندما رأى دسامة الشقراء البخراء حاول أن يلقي عليها شباكه فاستجابت فكانت تضطجع على مقعد فسيح، ثم تنبطح وبين يديها قصة غرامية.

ستيفاني

وفي الليلة الثانية رأيت فتاة مليحة ادعت المرأة قرابتها ولكنها ريفية حسناء جدًّا اسمها ستيفاني، وبعد الغروب نزل فهيم وعاد محملًا بخيرات السهر والسمر والمنادمة من طعام وفاكهة وحلوى وقنينة من شراب لزج لذيذ الطعم شديد النشوة سريعها اسمه «بندكتين» عليه صورة قسيس سمين يعصر خمرًا؛ لأن هذا الشراب الجهنمي لا يصنع إلا في الدير، ودعوني إلى الصالون وهو غرفة، ومدّوا المائدة وأقسم عليّ أن أشرب كأسًا من البندكتين لأجل خاطره وإنقاذًا للموقف (أي موقف؟) وإثباتًا لرجولتي؛ لأن كل الرجال في فرنسا يشربون البندكتين، ولكني أكلت قليلًا من الألطاف التي حملها ولا سيما الفاكهة ورأيت البخراء تنتشي وتضحك وتغني وتغتلم وكذلك ستيفاني، ثم إن المرأة قالت للفتاة: «قومي يا استيفاني مع صديقك الشاب وعلميه بضع كلمات فرنسية؛ لأنه لا يجيد الكلام بها». فنهضت استيفاني على استحياء وسحبتني في وداعة الحمل إلى غرفتي، وفهمت أنا وهي أن هذا الجلاء كان ليخلو الجو لجاري والشقراء، وجلست ستيفاني لقائي وأغلقت الباب وأضاءت النور.

كانت جلسة لا تنسى ولذا أحببت أن أسجلها وما زلت حتى اليوم أدهش، وأعجب كيف أوتيت العزيمة والقوة لأتقي الوقوع، فقد تذكرت الوعود والعهود والماضي والمستقبل، وأنا في سكرة الشباب وحرارته حيال هذه الفتاة الناضجة الجميلة الوادعة، ولكن الجزء الواعي من عقلي أسعفني وزادني إسعافًا جهلي المطبق باللغة، ولكن هذا الأمر لا يحتاج إلى لغة. بيد أنني تناولت كتابًا في الهيروغليفي وأخذت أخط أحرفًا وصورًا، وأحاول تعليمها لغة أجدادي وهي صامتة ساهمة متحرقة. وكنت إذا لمستها مصادفة وشممت أنفاسها أكاد أفقد صوابي فأقول لنفسي بلغتي: «اخشع يا فلان … تذكر … قاوم … اذكر تلك الأرمنية على الباخرة وكيف نجوت منها … إنها كانت بلاءً طارئًا فهذه مقيمة …»، ولما مضت ساعتان وأيقنت استيفاني أنني ميئوس مني مع أنني شعلة نار، قالت لي: أظن أنك متعب جدًّا. فنم في فراشك وأنا بجوارك في الكوڤ المطبخ فإذا احتجت إلى شيء أثناء الليل فما عليك إلا أن تدعوني، ثم نهضت ومدت إليّ يدها فقبلت أناملها شكرًا. فاحمر وجه الفتاة وانفجرت باكية وخرجت وأغلقت بابي، وارتميت على فراشي منهوك القوى خائر البدن مختبل الفكر وأغمضت عيني.

إنني لم أر استيفاني بعد ذلك أبدًا، وفي الصباح رأيت كيف نجوت للمرة الثانية من حبائل المرأة وحمدت الله حمدًا جزيلًا.

ولا يذهب ظن قارئ ناقد إلى أن في هاتين الحادثتين وما تلاه مما يقرب منها من نوع الصراع بين رغبات الشباب والتمسك بالاستقامة، تلميحًا إلى اللطيفة اليوسفية! فلم يكن هناك فرعون ولا يوسف ولا زليخا على ظهر الباخرة الألمانية ولا في شارع هيجو في ليون! ولكن هذا لا يمنع أن شابًّا في العشرين من عمره من مواليد مصر المشهورة في كل القرون بالتعلق بالشهوات والاستهتار وإساءة استعمال الحرية بمجرد التخلص من الرقباء عندما يجد نفسه طليقًا تعرض له الفتنة، وتعرض عليه المتعة وهو في أشد الحاجة إلى تلبية صوت الطبيعة، ثم إنه يعرض عنها مختارًا ويجاهد نفسه وبدنه:

خرجت أجرُ الذيل تيهًا وإنما
يتيه الفتى إن عف وهو قدير

رحم الله محمود سامي البارودي الذي وعيت شعره، وعملت به من سن السابعة عشرة.

نعم إنني كنت في حال نفسية لا تسمح بالمرح وكنت طريد الظلم من بلدي ومجبرًا على ترك مدرسة الحقوق ومرغمًا على الاغتراب قليل المال عديم العون، ضعيف الأمل جاهلًا بلغة البلاد مستهدفًا لاضطهاد الإنجليز، بل والحكومة المصرية بعد نهاية دراستي التي لم أبدأها، كل هذه أمور من شأنها أن تصرف النفس والذهن عن احتضان أرمنية حسناء اهتاج البحر الهائج رغبتها أو عن فتاة ريفية حسناء في بيت داعر خرقاء بخراء شقراء جلبتها لتفتن شابًّا أجنبيًّا. ولكن هذه الحال النفسية ذاتها سلاح ذو حدين، وكما أنها تقصي الشاب عن الشهوات فهي خليقة بأن تغريه بالاستمتاع ولو ترويحًا للنفس وانتهازًا للفرص. ولكن الذي نفعني لم يكن المنطق ولا موازنة الأدلة ولا الإيمان الديني الذي يعدل قوله تعالى: «رأى برهان ربه» ولكن الغريزة وحدها، غريزة البقاء والطموح والوفاء مع نفسي، وبغض الظلم ورغبتي في أن أنجو بتحقيق أملي والخلاص من شماتة الأعداء.

اجتمعت هذه العناصر كلها فأنتجت هذه النتيجة ولم يكن الأمر نتيجة الوحي والإلهام. هذه حقيقة أقررها وقد علمت فيما بعد أن كل مرة انتصرت فيها على نفسي ازددت قوة على المقاومة، كأنه تدريب على الجندية أو رياضة بدنية تقوي العضلات وتشد أزر الرجل.

ولأرجعْ الآن إلى الجهاد الأصغر، فقد عرفت حالة البيت الذي أعيش فيه وحقيقة الجار المستهتر، ولا سيما ما استجد بينه وبين خليل المرأة وهجوم العملاق على فهيم ليلًا شاهرًا خنجرًا ففر من بين يديه إلى مكان لا يليق ذكره.

وفي هذه الفترة أدركنا مصري كريم هو الدكتور سامي كمال، وكان يطلب العلم واجتمع بالبخراء الشقراء وخليلها العملاق، وكانا يطمعان في مال الوارث الطائش وثيابه وعصيه ويمثلان فصولًا لاستغلاله وإرهابه، ففضحهما الدكتور سامي كمال ودافع عن فهيم، ولما ذكرني انبرى له الرجل والمرأة وقالا: لا داعي للكلام عن هذا الشاب، فليس لدينا ما نقول عنه إلا الخير فإن شاء أن يقيم بيننا فعلى الرحب والسعة، وإن أراد أن يفارقنا فنرد له كل ما دفع ولم ينتفع به. وكنت أثناء ذلك الحوار الذي تبودلت فيه التهم وقيلت: الألفاظ الغليظة «كالأطرش في الزفة» ابتسم حينًا وأهز رأسي أو أعبس إذا ارتفعت الأصوات ولكنني لم أنطق، وأسفر المجلس عن خروج الجار يجرر أذياله وحقائبه وعصية وأحذيته تاركًا معظم ما دفعه للبخراء؛ لأن العملاق قال: (وقد شرحوا لي ذلك فيما بعد) إنه يحتجز النقود بمثابة تعويض عن شرفه المثلوم! يقصد ذلك الركن الخراب الذي يمثل عرضه!

وأما أنا ففرحت في دخيلة نفسي؛ لأنني نجوت من ثرثرته وضوضائه واقتراضه على قلة مالي فرنكات قليلة في أزماته التي لم تكن تنتهي. وأسرف العملاق والشقراء في إكرامي ومجاملتي ظنًّا منهما أنني أبقى معهما طويلًا، وأنا أضمر الفرار بنهاية الشهر الذي دفعت أجرته وقد حرصت على تحسين علاقتي معهما.

٢

لقاء إدوارد لامبير ودعوتي الطلبة المصريين إلى الدراسة في ليون

في تلك الفترة فتحت الكلية أبوابها ولقيت الأستاذ إدوارد لامبير والتحقت بالدراسة، وبدأت أحضر المحاضرات مع الطلاب الفرنسيين ولم يكن في الكلية طالب مصري واحد؛ لأنني البادئ بالدعاية إلى ليون في مصر، فأقبل الطلاب بعد ذلك زرافات ووحدانًا وأنا أحتفظ لكل واحد من هؤلاء الشبان بأعمق الشكر؛ لأنهم لبَّوا دعوتي وأقبلوا وسمعوا نصحي وآنسوا وحشتي، وشرفوا مصر ورفعوا ذكرها عاليًا، ولم يأت شهر نوفمبر التالي (من أبريل إلى نوفمبر) حتى كان في ليون أكثر من خمسين طالبًا، ثم تزايدوا ونموا وربوا حتى بلغوا في سنتين نحوًا من ثلثمائة طالب في جميع كليات الجامعة ومدرسة التجارة العليا وبقية المعاهد.

وتأسس المعهد الشرقي خصوصًا للعلوم العربية والشريعة الإسلامية، واعتز لامبير بطلابه كما اعتزّوا به، فما قيمة المتاعب القليلة التي امتحنني الله بها في سبيل هذه الثمرة الناضجة الحلوة وتلك القطوف الدانية؟

وكنت أقصد الكلية صباح كل يوم وينظر إليّ الطلاب الفرنسيون نظرة تعجب من الطالب الذي بدأ دروسه في آخر السنة الدراسية، وهو فوق هذا لا ينطق إلا بكلمات قليلة ويتلقى المحاضرات ويدوَّن ما يسمع منها بأحرف عربية تارة وبأحرف لاتينية بنطق إنجليزي، ثم إنني لم أكن ألبس ثيابًا أنيقة كما يفعل معظمهم؛ لأنهم من أبناء الأعيان، وأجلس في ركن قريب من الأستاذ لأتلقى كلامه حرفًا حرفًا وأقول: «إذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن أكون جبانًا»، ثم نظرت في حالي فرأيت أن أقرأ الصحف صباح مساء، وأحضر تمثيل المسرحيات (كان الأجر للطلاب زهيدًا جدًّا وهو فرنك واحد)، وأقصد إلى الاجتماعات العامة وألتقف الكلمات وأغشى المجالس، وأتكلم خطأ وأرجو محدثي أن يصحح أغلاطي، وأبدأ كلامي دائمًا ببضع كلمات محفوظة مثل لتحيا فرنسا لتحيا الجمهورية، أحب ليون حبًّا جمًّا، ونساء ليون جميلات، ورجال ليون شجعان كرماء لضيوفهم، تحيا الحرية إلخ، مما يعين على نفخ أوداجهم ونفش ريشهم؛ لأنهم ديكة أصلاء وانقلبوا رجالًا، ويهز المدح أعطافهم، وهكذا قليلًا قليلًا حتى شققت طريقي.

مرض خطير ونصيحة الطبيب

وأثناء ذلك مرضت مرضًا خطيرًا في القلب والأعصاب، وأظنه من صدمات نفسية، الوحدة والاغتراب والفاقة والتعفف والكتمان والكبت، وفقدت شهية الطعام والنوم، وكنت أتمدد في فراشي عقيب الدروس بالساعات الطويلة لا أملك حراكًا ولا كلامًا، ولا أجد عناية من أحد؛ لأنني أكتم أمري، ولكنني عند الصباح أجمع من ضعفي قوة تكفي لحضور الدروس وأعاني شدة الحر والجوع وزراية المظهر. فلقيت رفيق المطعم ابن الباشا وطالب الطب الآخر الذي لقيته أول يوم عند الطالب المزمن ساكن الغرفة المنعزلة المصاب بالبول الحار (سيلان)، فشخص الأول الحاقد عليّ مرضي بأنه مرض القلب في آخر أطواره وأشار عليّ بالعودة إلى مصر أو دخول المستشفى لأنهي أيامي الأخيرة.

فتدخل الطالب البهائي وفنّد آراءه؛ لأنه كان أعلم منه وخالي الغرض غير حاقد عليّ، فنصحني بالذهاب إلى الأستاذ الدكتور مويسيه، وهذا الطبيب العظيم رجل لا أنسى فضله ما حييت، وإني مدين له بعد ربي إلى علمه وعطفه وأدبه ومواساته.

فقد تفَّرغ لي وفحصني فحصًا كاملًا، وهز رأسه، وقال: ليس بأحشائك الباطنة أي مرض عضوي. ولكن قال لي: هل لك صديقة صغيرة Petite amie؟

فاستفسرته حتى فهمت منه أنه يقصد إلى عشيقة من العاملات أو الطالبات أتنزه معها وأخلوا بها وأغازلها وأقضي منها وطرًا، فأجبته نفيًا وعللت عفّتي بخوفي من الأمراض الجنسية. فهز رأسه وقال: أي مرض جنسي يصيبك سواء أكان زهريًّا أو سيلانًا أنا كفيل بعلاجه أما المرض الذي يصيبك من الكبت والحرمان فلا قبل لي بعلاجه فإن امتنعت عن سماع نصحي، فخير لك أن ترحل إلى بلادك، فإن الكبت والرطوبة هنا وقيظ الصيف تصطلح عليك فتؤذيك ويعقبها مرض خطير. ثم وصف لي نظام طعام خاص ومياه معدنية ورجاني أن أدعوه في أي وقت أو أطرق باب عيادته متى شئت ولم يتقاض مني إلا أجر الطلاب وهو عشرة فرنكات مع أن عيادته مائة فرنك، وقد اتبعت نصيحته ولزمت عيادته طول إقامتي في أوروبا.

أما نصيحة العشق فقد أضمرت أن أخالفها معتمدًا على الله، وكذلك العود إلى الوطن فقد صممت أن أموت بعيدًا عن بلدي، وأن لا أعود إلا إذا أتممت دراستي وجاهدت ضد أعداء الوطن في كل مكان؛ لأنني بجانب ذلك الذي وصفوه بالعفة كان مصحوبًا بخجل شديد، فلا أذكر أنني تبعت فتاة في الطريق ولا نطقت بكلمة غزل ولا شربت خمرًا حتى النبيذ لم أذقه أثناء إقامتي، وما شربت الشاي والقهوة بنهي الطبيب وما دخنت قط! وعندما غادرت عيادة الطبيب شعرت بأنه كتبت لي حياة جديدة، فطلقت المطعم وبدأت أتناول الطعام في غرفتي من صنع يدي وهو حليب وخضر وفاكهة وجبن بغير دسم ولا ملح، وقد صبرت على هذا الطعام أشهرًا.

مصادر رزقي

أما مصادر رزقي فقد فتح الله أبوابها من مراسلة جريدة اللواء وبعض مبالغ ضئيلة أخرى، وكان مجموعها في الشهر لا يزيد عن ١٢ جنيهًا، فلما نشرت في الصحف المصرية أن نفقات الطالب لا تزيد في الشهر عن هذا القدر حقد عليّ الشبان المقبلون على ليون؛ لأنني فتحت أعين أولياء أمورهم وقالوا لهم: إن فلانًا هذا الذي يدعو إلى التعلم في ليون يعيش عيشة الكفاف بنفقة المحجور عليهم ولم يحسب حسابًا للملابس في برد الشتاء ولا للملاهي والكتب والدروس الخاصة ورحلات الصيف والشتاء وغشيان المجتمع، وتبادل الهدايا في الأعياد فأية عيشة هذه التي يرسمها لنا ويضع ميزانيتها ويكتفي بوصف جمال ليون وأنهارها وبساتينها وأشجارها وشوارعها وجسورها؟

وأنا كنت أعلم هذا كله وأكثر منه وأعلم أنني ظلمتهم بنشر هذه الفكرة الرخيصة، إنما كنت أقصد إلى تيسير الأمر على الآباء؛ ليبادروا بإرسال أولادهم أولًا ثم يرغمون على تسديد مطالبهم بالاتفاق بينهم وبين لامبير، ولكني كتمت هذا الأمر خشية أن يحجم الآباء؛ لأن معظمهم كان يخشى أن يضطهد أولادهم بعد عودتهم إلى مصر؛ لأن ليون كان منظورًا إليها بعين السخط وتعتبر الجالية المصرية فيها طلابًا ثائرين وكارهين للاحتلال وللحكومة المصرية الخاضعة. وقد زاد موقفنا حرجًا في سنة ١٩٠٩ بعد المؤتمر الوطني الذي عقد في چنيف وفي سنة ١٩١٠ عندما قتل الورداني المرحوم بطرس غالي باشا. ثم إن المقالات التي كنت أنشرها في جريدة اللواء ثم جريدة العلم بتوقيع قارئ ناقد كانت بغيضة إلى الرجعيين المصريين.

لم تكن نظرية العقد النفسية ومركبات النقص معروفة ولا شائعة في الطب البدني أو الطب النفساني في سنة ١٩٠٨. ولكنني أفسر حالتي الآن بما قاسيته في حياتي في تلك الفترة وما سبقها ولحقها وأقرر أن هذه الأعراض كاذبة ومفتراة، وأن هذه المتاعب تزيد النفس قوة وأن الجسم يتبع الروح في كل حالاته. والمرجع إلى صفاء الذهن وقوة الإرادة والثقة بالنفس. وعندما أشرقت أنوار الإيمان على قلبي زادني الإيمان انشراحًا وإقبالًا على عملي، ولكن الجهاز العصبي لا ينجو من الاهتزاز فيخلق في النفس حزنًا وهمًّا، وكنت أحاربهما بالتظاهر بالمرح والمزاح والضحك، تجلّدًا أمام الشامتين وصدري ينطوي على نار متأجّجة. وقد أرغمت على الصفح والتسامح حتى صارا فطرة، وقد دلَّتني الخبرة على أن الأقارب والأهل وأدنى الأصدقاء أشد ضررًا على الرجل من الغرباء والأغيار، وأن الدنيا مكان محزن حقًّا والشر سائد حقًّا والخير والحب نادران، وأن الإنسان مهما كان عقله وإرادته وعواطفه لا يستغني في مكافحة الحياة عن الإيمان الصادق؛ ليعتمد على الله ويركن إليه في ذلك المعترك القاتم الغامض المظلم الظالم.

اعترافات چان چاك روسو

كان من أوائل الكتب التي اشتريتها «اعترافات چان چاك روسو» وقد أغراني به بخس ثمنه وضخامة حجمه ووفرة صفحاته، فإن كمية المادة في المطبوعات كان لها قيمة في نظري بجانب نوع الكتب، فإن كان الموضوع يعجبني فأخلق بي أن أسر بتوافر اللذة التي أنالها واستدامتها أطول مدة ممكنة. هذا إلى شهرة هذا الفيلسوف العجيب الأطوار، فقد سبق لي أن قرأت عنه كثيرًا باللغة الإنجليزية فإن غرابة أطوار المؤلفين تعجب الإنجليز عادة، وفطنة نقادهم دلّتهم على أن هذا الحكيم المفلوك القليل الحظ من الدنيا كان أقدر وأخلص نية وأنقى ضميرًا وأجدى على قرائه من ڤولتير الكاهن المنافق. ولا يلومني أحد على هذه الخواطر، فإنني أكتب بصراحة ولا أحب أن أخفي شيئًا إذ ذهب عهد الخوف على الأستار، وليس يهمني الآن رفع القناع عن كل فكرة مهما كانت تفهة ما دامت كانت ذات أثر في تكوين عقلي، لقد أغراني الكتاب وكان في الإغراء بركة، فقد أقبلت على الكتاب بشغف لأستطلع أسرار هذا المعترف العجيب، فجاهدت في المطالعة وقطعت شوطًا طويلًا وتحملت السهر فازددت معرفة باللغة في وقت قصير ووعيت ألفاظًا عديدة نفعتني في قراءة الصحف والمجلات وكتب أخرى وفي الأحاديث والكتابة. فكنت مأخوذًا بالاعتراف، أحظى بقراءته وجعلته ثوابًا لي على ما أقرأ في كتب القانون وكان سلوى وعزاء وموعظة وداعيًا للصبر والتحمل.

وقد وجدت في شخص الحكيم المسكين شبهًا شديدًا بينه وبيني، فقد كان طريدًا شريدًا وقد علَّم نفسه بنفسه، وألقى بذاته في خضم الحياة وهو لا يحسن السباحة فاجتهد حتى أتقنها، وكان على الفطرة غير متصنع ولا متكلف وكنت كذلك، وكان يحب الحق والصراحة وهاجر من وطنه إلى أوطان أخرى في سن تقرب من سني، وكان لا يحفل بالمال إن قلّ عنده أو كثر. إلا خلة واحدة ذميمة كانت عنده أشفقت عليه منها وهو تعلقه بأذيال النساء، وكنت أرى أبغض شيء عندي المرأة ولا سيما التي تتودَّد إليّ لتغريني بنفسها؛ لأنني أعلم أنها تعطل وتعوّق وتستأثر وتنزف قوة الرجل العقلية والخلقية، أما المال فلم يكن لديّ منه ما يكفيها، ولكن بمرور الزمن عذرت روسو؛ لأن حياة أوروبا في زمنه كانت بدون المرأة قفرًا بلقعًا وصحراء مجدبة. فضلًا عن أنه حاول الاتصال بالرجال ولا سيما رجال الدين فرأى منهم ما لم يسر ولا تؤمن عاقبته، وخلة جميلة زادتني به تعلُّقًا وهو حبة الحرية ودفاعه عن الضعفاء ونهوضه لمقاومة أعداء المساواة الإنسانية، وكانت الرسالة الأولى التي قدمها لأكاديمية ليون «أسباب التفاوت بين البشر» فنالت جائزة. فهذه الأسباب كلها مجتمعة حببَّت هذا الرجل إليّ.

داعية إلى الثورة

أما ذكرى المراجع الإنجليزية التي هدتني إلى كتب روسو فلي العذر في ذلك كل العذر؛ لأنني قبل وصولي إلى مدينة ليون لم أكن أقرأ غير الإنجليزية والعرب لم يكتبوا عن روسو شيئًا فيه غناء لمثلي؛ لأنه ليس مؤلفًا يغريهم؛ لأنه مشهور بأنه من دعاة الثورة الفرنسية وكان المصريون في أول القرن العشرين يخشون ذكر الثورة؛ لأن الإنجليز أرهبوهم وأرعبوهم وأعان الإنجليز على الرعب والإرهاب وغرس بذورهما في نفوس المصريين حب الوزراء والكبراء وطبقة الباشوات للمناصب والمال، وطمعهم في المناصب واعتقادهم — وكانوا على حق — أن الإنجليز وحدهم هم الحاكمون المطاعون، وكانت جرائد الإنجليز تسميهم «أولي الحل والعقد وولاة الأمور» حتى بعد حادثة دنشواي التي لم ينهض لمقاومتها أحد غير مصطفى كامل، وكان سعد زغلول نفسه في وقتها وزيرًا للحقانية (العدل) وكان أخوه وكيلًا له في تلك الوزارة، بل كان أحد القضاة الذين كتبوا الحكم ومهروه بأسمائهم وهو من فريق الباشوات الذين نشئوا من طبقة الفلاحين كما كان أخوه الأكبر، ويزيد فتحي زغلول على شقيقه الذي صار زعيم مصر بعد حادث دنشواي بعشر سنين أنه كان مثقفًا ثقافة فرنسية، وكان عاكفًا على نقل بعض كتبهم إلى اللغة العربية، ولا سيما ما كان ضد حرية الأمم مثل مؤلفات جوستاف ليبون. وكانت غاية فتحي زغلول أن يقاوم النزعة الدستورية في مصر وأن يحارب مصطفى كامل ومبادئ الحزب الوطني. وهذا أمر لم يكن منكورًا في زمنه؛ لأن الإنجليز كانوا أقوياء والمصريين كانوا جهلاء وضعفاء ولا يؤمنون بالوطنية ولا سيما الطبقة المتعلمة المنتفعة بالوظائف وأرادت هذه الطبقة أن تجعل من نفسها أرستوقراطية تتحكم في رقاب الفقراء من الفلاحين وغيرهم، ولم تكن لديهم طريقة غير الزلفى للإنجليز واتخاذهم سادة ليتمكن أفراد هذه الطبقة من اتخاذ الفلاحين عبيدًا.

أرى عند الرجوع بفكري إلى تلك الأيام أن الأفكار تتزاحم عليّ، لا كطالب علم في بلد أوروبي أنا غريب فيه، ولكن كناقد متحرق على تحقيق العدل الاجتماعي في وطنه، أقارن حياتنا في بلادنا بحياة هؤلاء القوم في بلادهم، حياة العقل والخلق والجسد والروح.

تأسيس جمعية مصرية للطلاب المصريين في ليون

أقول: قضيت ما بقي من السنة الدراسية من وقت وصولي في أبريل إلى أوائل يوليو في عذاب النار، وتنقلت في الدور في أحياء شتى حتى اهتديت إلى موليير فقطنت في كنف أرمل حزينة ذات يتيمين تبعث بهما إلى المدرسة في كل صباح، وكنت أواصل الدرس ولا أطمع في التقدم إلى الامتحان في الدور الأول، ولكني أكافح وأكسب نفقتي بعرق جبيني بالتحرير في جريدة اللواء، وأعمل كشبان أمريكا أنفق معظم ما أربح في التعليم والكتب، وكان قد وصل إلى ليون عشرون طالبًا بسبب دعايتي في الصحف المصرية واقتداءً بي على ضعفي، وكان في مقدمة الذين وصلوا عبد الحليم البيلي وعبد الرحيم مصطفى وأمين عزمي وعبد الرءوف حلمي وإسماعيل كامل وعوض البحراوي ومحمد صادق فهمي ومحمد خيرت وغيرهم عشرات، بعضهم ترك كلية الحقوق الخديوية باختياره كما تركتها مرفوتًا أو مطرودًا لخطبة ألقيتُها في حفلة تأبين مصطفى كامل يوم الأربعين، ففرحت بهؤلاء الواردين واجتهدت في جمع كلمتهم بتأسيس جمعية مصرية للطلاب المصريين؛ ولعلمي بحب الرياسة والتناطح عليها عند كبار الأمة وصغارها محْوت نَفْسي وتواريت واكتفيت بإيجاد الأفكار حتى إذا انعقدت الجمعية العمومية قلت لهم: أقترح عليكم أن تكون جمعيتنا بدون رياسة دائمة بل ينتخب رئيس في كل جلسة أو على الأكثر لمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا. قال أحدهم: ولم هذه البدعة ولم لا ننتخب رئيسًا دائمًا مثلك لأنك صاحب الفكرة، قلت: لسبب بسيط وهو رغبتي في أن يتدرب كل واحد منا على الرياسة ولأجل أن يجود كل عقل بخير ما فيه من الأفكار. ففرحوا بهذا الرأي. وعلى الرغم من الإجماع ابتلانا الله بشخص ثرثار إذا تكلم أشبه صنبور الماء أو نافورة البستان أو نهر الجبل أو شلال الألفاظ الخالية من المعاني يريد أن يكون سكرتيرًا دائمًا بجانب الرئيس المؤقت فوافقت لمجرد الخلاص من ثرثرته ولعلمي بأنه لن يستقر في ليون أبدًا؛ لأنه لا يعرف كلمة فرنسية ولا يريد أن يتعلم؛ ولأنه حصل على تذكرة سفر من مصر إلى لندن ولما مرّ بليون أراد أن يزورها فطاب له المقام أيامًا، ولما أسرف في ملذاته العمياء باع تذكرة لندن بأبخس الأثمان.

أحوال الطلاب المصريين في ليون

كما بلينا بعامي أمّي صنعته خباز في بورسعيد اسمه الغزولي، وثبت على ظهر باخرة هاربًا حتى وصل إلى مرسيليا ومنها إلى ليون وبحث عنا حتى اهتدى. إلى هذا الحد وصلت شهرة المصريين في ليون حتى لجأ إليها الأميون والعاطلون والهاربون من أنحاء القطر. وقد تخذوا قهوة البيت الذهبي Maison d’orée للجلوس ولعب النرد والسمر فترتفع أصواتهم إلى عنان السماء، وتتعدى حدود القهوة إلى الطريق حتى يسمعها المارة، فكنت أمر بساحة بلكور فأسمع ضوضاءهم فأعلم أنهم في المقهى، فإذا خلا المقهى منهم وكان فيه ألف جالس لا تسمع لهم صوتًا ولا تسمع منهم إلا همسًا. فإذا جلست إليهم وكان هناك فرقة موسيقية علت أصواتهم على أعلى آلات العزف، ولو كانت من النحاس، بل ولو كان بينها بوق إسرافيل أو لو نفخ في الناقور فإنك تسمع أصواتهم ولا تسمع الناقور!

ثم إذا جلست تسمع عشرين صوتًا في وقت واحد فلا تعي شيئًا ولا تفهم رأيًا ولا يتاح لك أن تدرك قصدًا مما يقال.

ولذلك أخذت أتجنبهم بالتدريج توفيرًا لوقتي؛ لأنهم كانوا يجلسون هناك بالساعات الطويلة كآبائهم وإخوتهم في مقاهي مصر وهم يتكلمون العربية العامية فلا لغة فرنسية حفظوا ولا علمًا وعوا، وكان بعضهم يقامر على النرد ثم يختلفون فتشتعل نيران الشجار بينهم كعوام الأمم الأخرى، وبلغني أن أحدهم قال لهم يومًا وهم في حرارة الشجار والمقامرة والفراغ والكسل والثرثرة: يا لشماتة أعدائنا فينا!

قالوا: ماذا تقصد؟

قال: أهذه حياة طلاب علم اغتربوا في سبيل المعرفة ورفعة الوطن. ثم سرد لهم أخطاءهم وقال: إن بعضهم لا يعرف باب الكلية. وبعضهم لم يره لامبير ولا مرة وبعضهم مقيم في الريف، وقد احتظى واتخذ السراري وأخذ ينفق عن سعة إيراد أطيانه في صعيد مصر ويتكلم بلسان عربي بلهجة أهل الصعيد. ورأيت كل ذلك وعانيته وأنا صامت أتحرق وأرجوا أن يعتدل مزاجهم بعد أن يطفئوا جذوة الشباب؛ لأن المصري إذا فلت من المراقبة يكون كالشبل أو كالمهر الذي شم رائحة الحرية للمرة الأولى فيهيم على وجهه، ثم إن الشباب شعرة من الجنون.

أنبغ الطلاب

على أن هذه الدفعة الأولى التي وردت أواسط ١٩٠٨ وأواخرها وأوائل ١٩٠٩ انطوت على أنبغ الطلاب ومثلهم كطلائع المهاجرين من مكة إلى المدينة، وقد أعانهم الله على النجاح، فحلقوا في أجواء القانون والأدب والتاريخ والاقتصاد والسياسة وسائر العلوم الفرنسية باشتياق وإقبال حتى حازوا أعلى الدرجات، وظهر منهم نوابغ وفحول هم دعائم النهضة الحديثة التي بدأت في أوائل القرن العشرين في مصر، فالحمد لله على ذلك، وهم الذين أجابوا دعوتنا لعقد المؤتمرات الوطنية في جنيف وباريس وبروكسيل في ١٩٠٩ و١٩١٠ و١٩١١، فكانوا جيش مصر المجاهد وتلاميذ مصطفى كامل وأبناءه البكر، وهم الذين نهضوا بأعباء ثورة ١٩١٩ بعد أن غرسوا بذورها وتعهدوها بالسقيا، وهم الذين نفخوا في رماد الأمة فأشعلوا النار المقدسة في قلوبها.

دع لنا جزائرنا

فالتربة الفرنسية صالحة لنماء النهضات بلا ريب إذا لم تكن لفرنسا فائدة في إخمادها وإطفائها كما شهدت بالتجربة. فقد حدث في تلك الأيام أن تقدم جزائري اسمه ابن علي فخار وهو مسلم من تلمسان إلى امتحان الدكتوراه، ونجح وقدم أطروحة (تيز) في القراض وهو نوع من المعاملات النقدية المعروفة في الشريعة وتقدم بثيابه الوطنية لفحص أطروحته بالكلية أمام الأساتذة وحضر المصريون جميعًا وفاز بدرجة عالية، وتأثرت جدًّا بنجاحه وكان بيني وبينه مودة وكان يكلمني بالفرنسية؛ لأن الفرنسيين نجحوا في تجهيله وأبناء وطنه باللغة العربية، فكان إذا كلمني بها بلهجة أهل الجزائر لا أفهمه وإذا كلمته بلهجة مصر لا يفهمني، فاضطررنا نحن العربيين من شمال أفريقا أن نتكلم بلغة أعدائنا الأجنبية. فلما كان يوم الاحتفال بأطروحته أردت أن أتخذه قدوة وأؤدي له تحية وأشجع المصريين، فكتبت مقالًا مسهبًا في وصف الاحتفال ونشره اللواء، وجاء فيه عفوًا قولي: «إن أهل الجزائر وسائر شمال أفريقا عرب مثلنا ومسلمون يتطلعون إلى الحربة والاستقلال، فمتى يأتي اليوم الذي ينضم فيه شمل جميع العرب تحت لواء الحرية بعد خلع نير الاستعمار والاستبداد، إنني أرى في الأفق وميض برق، وأتخيل السيد الأستاذ ابن علي فخار من حملة الشعلة التي تضيء المستقبل»، ونشر اللواء هذه المقالة في صدره وورد في البريد على بعض الطلاب المصريين بإمضائي «قارئ ناقد» في شهر يونيو ١٩٠٨.

وحدث في يوم وصول البريد بهذا العدد من اللواء أنني غادرت الكلية مبكرًا حوالي الظهر، وقابلت ابن علي فخار ولكنه لم يرني ورأيت في يده اللواء منشورًا ووجهه غاضب وممتقع ولم أفهم لهذا الامتقاع سببًا. وقصدت إلى منزلي وبعد قليل وافاني رسول من قبل الأستاذ لامبير يطلب مقابلتي فأسرعت إليه، فوجدت في يده عدد اللواء ووجهه أصفر كالكركم يقطر غيظًا وجبهني بقوله: يا عزيزي لطفي إنك خربت بيت ابن علي فخار تحت ستار الوحدة في الدين والعواطف، وسوف يطرده المجلس البلدي في ليون من وظيفته التي هي مصدر عيشه وأسأت إليه من حيث أردت الإحسان.

فقلت له: وكيف كان ذلك يا أستاذي الأعز؟

قال: خذْ ألست كاتب هذا المقال؟

قلت: نعم.

قال: إنك تدعو إلى الثورة في الجزائر وفي شمال أفريقيا. اعمل معروفًا فينا واترك لنا جزائرنا وتونسنا ومراكشنا واصنع ما بدا لك في الإنجليز دفاعًا عن مصر.

قلت: إنني أمجد كلية الحقوق وأستجلب الطلاب المصريين وألوّح لهم بالمجد وأعمل على جمع كلمتهم حولك، وأنت حامل لوائنا ووالدنا والداعي لخيرنا ومؤسس نهضتنا وصديق مصطفى كامل وشريك جهاده في آخر سنة من حياته.

فلم أنل من الرجل غايتي ولم تنفع معه حيلتي.

وقال لي: ولو! اصنعْ جميلًا واترك لنا شمال أفريقتنا (هكذا) واصنع بالإنجليز لأجل وطنك ما بدا لك. لقد أسألت إليّ شخصيًّا.

فقلت له بحزم يكاد يكون يأسًا: لم أعلم قبل اليوم أن تونس والجزائر وشمال أفريقيا ملك لكم بل هي ملك أصحابها.

قال: لو رأيت رأس ابن فخار (أي: وجهه) وما عليه من الغضب والقنوط لفهمت قولي.

قلت: ولكن يا سيدي إنه ليس كاتب المقال بل أنا، وليس الموعز به؛ لأنه لا يفهم شيئًا ولو كان يفهم لعدّه مفخرة. فأنا لا أبالي به، ثم إنك علمتنا التضحية والبذل في سبيل الكرامة فاستقلت من منصب نظارة مدرسة الحقوق الخديوية لأجل كرامتك، ولم تخضع للإنجليزي دنلوب فكيف تعيب علينا الدعوة للحرية؟ سلام عليك.

وخرجت غاضبًا وصممت على أن أطلب تحويل اسمي إلى كلية باريس أو بوردو أوديجون (هذا جائز وسهل)، فبعث في أثري بالأستاذ عزيز ميرهم وكان طيب القلب فقال: خير وسيلة للمخرج أن تعتذر للأستاذ لامبير وتكتب خطاب أسف لابن علي فخار فلم أر جوابًا على كلام هذا الرجل الطيب (ميرهم) إلا نظرة جهنمية من النظرات التي أنستنيها مذلة طالب العلم في البلد النائي، ووحدة المسكن، ولكنني وجدتها الساعة وأدركها هو وأدرك ما وراءها وقال: «أنا ما لي وما لك قل وافعل ما بدا لك أنا واسطة خير ليس إلا» قلت له: أنت تحلم يا عزيز وتتكلم كأهل الكهف! ثم اطمئن فإنني عقدت العزم على مغادرة ليون إلى الأبد. فقال: كيف تترك ليون؟ إن لامبير يبني عليك كبار الآمال، ويتنبأ لك بمستقبل عظيم. قلت: لو كان هذا حقًّا ما صدمني في أعز شيء لدي ومع ذلك فالبركة فيمن دعوت ولبى دعوتي السلام عليك.

وعدت إلى منزلي. وبعد قليل تنازل الأستاذ الكبير إدوار لامبير بزيارتي، فخجلت واعتذرت إليه عن خلو داري من مظاهر الفخامة والغني وقلت له: اعتبرني مجاورًا في الأزهر. وضحك قال: إنهم في الأزهر يعيشون على الحصير في حالة تقشف تكاد تكون كزهد النساك، ما هذا الذي سمعته من ميرهم إنك اعتزمت على الرحيل ومن ذا الذي يتركك تفعل ما تشاء قبل أن تدخل الامتحان الأول؟ ألا ترى لي حقًّا عليك أرشدك إلى ما فيه الخير حتى تتم دراستك، هل تكبدت كل هذه الأهوال ليشمت بك دنلوب وهيل (ناظر مدرسة الحقوق) وقمحة (وكيلها) وكل أعداء مصطفى كامل، وتزيد فيك شماتة ديرو زاس ذلك الفرنسي الذي نسي وطنه؟ أمازح أنت؟ ومن يقابل فريد بك عند وصوله بعد أسبوع، ومن يلقي دروس الشريعة الإسلامية بالفرنسية على إخوانك في العام المقبل؟ أتريد أن تهجر المعسكر بعد التجنيد وتفر من خدمة وطنك. فضحكت وقلت له: إن ميرهم لم يفهم قصدي أنا أسافر بعد زمن في أواخر يوليو لأستريح في سويسرا أو هوت سافوا إلى نهاية العطلة المدرسية ليس إلا.

وفي نهاية الحديث قمت مع أستاذي وصحبته إلى باب داره زيادة في تكريمه لتنازله بزيارتي، وما أنا في العير ولا في النفير وأنا أضعف أبناء وطني وأقلهم شأنًا.

دعوات لامبير إلى مائدته

وكان هذا الرجل الفاضل قد غمرني بفضله وعطفه، وبالغ في إكرامي وأكثر من دعوتي ودعوة إخواني إلى ضيعة له في ضواحي ليون (كولونج سيرسون)، ولا سيما بعد أن غادرت زوجته الضيعة وبقيت أختها وهي صبية مليحة كريمة؛ لأن مدام لامبير كانت شحيحة فإذا دعانا لامبير للعشاء ونحن عصبة لا تعدّ لنا إلا لونًا واحدًا من الطعام وتقول: خذوا كفايتكم أيها السادة من هذا الطبق وهو المفرد العلم والصحن الأوحد في المائدة. ولما علمتُ ذلك كنت أتعشى قبل ذهابي إليها، وأتعفف وأمتنع عن اللحم والقهوة والنبيذ والحلو كعادتي، فإذا مرَّ بي وعاء الحمص الأخضر أتناول ثلاث حمصات وأقول بالعربي لإخواني: لأجل أن لا أخرج من المولد بلا حمص، فلما ترجمت للامبير كاد يغمى عليه من الضحك. ولما رأت السيدة زهدي قالت لي بمسمع من إخواني وهم يأكلون ملء بطونهم ليتعظوا: إن موسيو لطفي ملك من السماء إنه لا يأكل اللحم ولا يذوق النبيذ ولا يدخن، ويتحدث على الطعام يعظكم لعلكم تهتدون!

فلما سافرت للاصطياف وخلفتها شقيقتها وكانت فاضلة وجميلة وعذراء وحسناء، وترأس المائدة لثلاثين شابًّا مصريًّا يتأنقون ويتعطرون ويتزينون، أخذت تتفنن في طهي الطعام وتعديد ألوانه والإكثار من دجاج بريس (يشبه الدجاج البجاوي بمصر وهو أسمن الدجاج وأفخره)، وقال لامبير: «عليكم يا أبنائي الأعزة أن تأكلوا وتمرحوا فإن المنزل في يد سخية تود صاحبتها أن تسرفوا في الأكل حتى تتذكروا وطنكم الكريم الشهير بأطايب الطعام، فلا تخشوا أحدًا ولا تخافوا رقيبًا … إلى أن تعود مدام لامبير».

وضحك فضحكنا وشمر الفتيان عن سواعد الجد، وفتحوا اللها وأبرزوا الأنياب والأضراس وأنشبوا المخالب والأظفار في الأطباق، ورووا حديث استغفار الأوعية للاعقيها، فقالت الآنسة: أشكركم على أنكم خلعتم شرفًا على مائدتي التي هي مائدتكم. وفي آخر حفلة ارتجلت خطبة قصيرة في ذكر مآثر لامبير وزوجته وهي أولى الكلمات التي نطقت بها بالفرنسية في جماعة، وكنت من قبل أخشى أن أخاطب مفردًا مذكرًا كان أم مؤنثًا دع عنك المثنى والجمع.

مقاساة

لقد قاسيت أثناء إقامتي الأولى في ليون في هذه الأشهر الأربعة صنوف الحرمان بأنواعه، وذقت ألوان المرض وشعرت بألوان من الآلام بسبب لا يدركه أحد إلا إذا وقف عليه.

إنني غادرت المدارس الثانوية فاشلًا في الحصول على الشهادة الثانوية في أواخر سنة ١٩٠٣، وتعقدت في وجهي أسباب الاستمرار في الدراسة، وتغيرت ظروف حياتي فسخطت على الحياة وغضبت على التعلم وضاقت في نظري سبل النجاح وأرغمت على العمل لأكسب القوت الضروري والكساء، وتعلقت بالأدب والصحافة فعملت فيهما وحسنت حالي بعد قليل وادخرت مالا تمكنت به من السفر إلى أوروبا سنة ١٩٠٦ وعدت واشتغلت بالتحرير والترجمة وتعودت السعة في العيش والبذخ في النفقة، فلما رأيت أن أعود إلى التعليم من جديد وطلب الحقوق في بلاد الغربة، نضب معيني وجف مصدر الكسب، فاضطررت للقناعة بالكفاف بعد أن تعودت طول حياتي سعة الرزق، ولكنني استهنت بكل شيء في سبيل تحقيق غايتي، قاسيت الحرمان في كل باب، وترفعت عن كل شيء لا يترفع عنه من كان في سني، وقاسيت القيظ في ليون وهو أشد من حرّ مصر ثلاث مرات، وكدت أمرض بضربة الشمس مرات، وتعودت السير على أقدامي مسافات طويلة، وأنا أتصبب عرقًا وأشعر بالدوار وقد حكمت على نفسي بقصر غذائي على الخضر والفاكهة دون اللحم والنشويات، ففقدت المقاومة مع الإجهاد في الدرس، واعتكفت في كسر بيتي معظم الوقت لأحفظ نفسي من التبذل مع إخواني الطلاب المصريين، وكان بعضهم أكبر مني سنًّا ولكنهم ينظرون إلي نظرة الإعزاز والتعظيم، فأردت أن أحتفظ بهذه المهابة لأخدمهم، وبقيت بثوب واحد لا أبدله ثمانية أشهر واكتشفت أخلاق ثيابي وتمزيق نعالي ولم أتعود أن أرقعها؛ لأنني كنت في مصر أربح ثلاثين جنيهًا في الشهر وأصنع ثيابي من أجود الأصواف وكذلك أحذيتي من أفخر الجلد.

فيا هول اليوم الذي ذابت فيه نعالي وحالت ألوان ثيابي، وتمزقت أقمصتي ولم أستطع أن أصنع ثوبًا جديدًا ولا أشتري حذاءً لامعًا وأنا في أعز وأحلى أيام الشباب! وحولي شباب وراءهم ثروات طائلة ينفقون منها على مطالبهم، ورضيت أن أروح وأغدو بثوب شتوي ثقيل باهت اللون كنت ألبسه وأعتز به في شهر طوبة في مصر فقبلته في بئونه في ليون القائظة وهو من صنع ألكسندر الكبير الطرازي الشهير بلندن فبقي من آثار النعمة، وقرأت في تلك الأيام في درس الأستاذ منيون شعر دانتي «ليس أقسى على النفس من تذكر النعيم في أيام الشقاء» وأنا أريد والأيام تريد ولامبير يريد أن أكون زعيمًا لهؤلاء الطلاب الأغنياء ورئيسهم ومقدمهم وباقعتهم فكيف السبيل؟ ليس لي إلا الانزواء. فكنت أحرق الإرم وأعض على شفتي ولساني، وقلت: لو علمت أن هذا الثوب سيصحبني في هذا البؤس بعد أن سمعت مصطفى كامل باشا يعجب به ويسألني أين حكته ومن صانعه؟ فأجيبه وأنا منتفخ الأوداج صنعته في لندن يا سعادة الباشا! لو علمت مستقبل هذه البدلة لأحرقتها قبل أن يكتب عليّ هذا البؤس المرير، وكذلك الحذاء الذي أخذ يتحول بالتدريج إلى سلفه حذاء أبي القاسم، أنا الذي كنت أكرم قدمي بتفصيل الأحذية المدهشة من أفخر الجلد المسكوفي اللين العطر أروح وأغدو وقدمي على بلاط الشارع معرضة لمسمار يخرقها، وقد يكون مسممًا. كما أخذت أمشي كمن يمشي على قشر البيض على مهل أتبين مواضع القدم كالأعمى الذي يتحسس وشعرت بطائف من الجنون يكاد يلتهم عقلي.

ولكنني لم أسخط ولم ألعن ولم أغضب ولم أذرف الدمع ولم أحن إلى الوطن والأهل؛ لأنني كنت قوي الأمل وأتوهم أنني قوي الإرادة. وقلت: لو لم أفرض على نفسي العفة عن النساء واللحوم والخمر والدخان، فماذا كانت تكون حالي؟ لقد ألزمت نفسي الحرمان فلم أشعر بكل آلامه واكتفيت بأن أبعث إلى مصر في طلب ثلاث أو أربع بدلات من التي خلفتها وبعضها جديد لم ألبسه. ولا أدري أية غفلة وأي خبل جعلني أتركها ورائي مختزنة تأكلها العثاء في الصناديق القديمة المهجورة في البيت المتروك، لقد فررت من مصر بأعز ما عندي وهو أملي وطموحي وخلفت كل شيء من أعراض الدنيا عدا قليلًا من الكتب، ولم يفكر أحد من أهلي في إغاثتي بإرسال صندوق وجيه يشمل ثيابي وبعض كتبي، فكنت من الأعيان النبلاء في قلبي ومن أهل الفاقة في مظهري.

فأخذت قلمي وكتبتُ كتاب استنجاد ليرسلوا إلي بعض البدل وبعض النقود، وأنا أتحرق واليأس يكمن في قلبي من إجابة طلبي، ومن تلك الأيام نشأت في نفسي فكرة الخوف من المطالبة بحقوقي، وأسأت الظن بكل من أرسل إليه في طلب شيء هو من حقي. إن لم تكن هذه عقدة نفسية فماذا تكون؟ إلى اليوم أتردد وأكاد أتأكد أن لا يصلني شيء مما أطلب، وفقدت الثقة في معظم الناس، ولعمرك تلك الثقة إذا فقدت لا تعود، ثم ازددت زهدًا وبغضًا للمال الذي كان يجري بين يدي في أوقات لم تكن لي به حاجة ملحة ثم تلاشى ونضب وأنا في أشد الحاجة إليه، أليس هذا ما يطلق عليه الإنجليز لفظ “frustration” خيبة الأمل والرجاء؟

وحدث أنني شعرت من لامبير أنه أشار من طرف خفي في استحياء أنه مستعد لمعونتي بقرض حتى يصل المال إلى يدي، فضحكت أمامه وشكرته وعدت إلى غرفتي لأبكي وألازم الفراش ثم تجنبت لقاءه، ولم يتركني المصريون بألسنتهم في تلك الفترة فاتهموني بالتكبر والتعاظم والتعالي والتعالم وغموض الحياة وأنني لا أقابلهم؛ لأنني أخلو بمعشوقة غريبة الأطوار مثلي، وذهب بهم الخيال إلى وصفها كأنهم رأوها وترامت إلي غيبتهم، فعذرتهم والله وضحكت ذلك الضحك الذي قيل: إنه كالبكاء.

٣

ماري مادلين

حدث في ليلة من ليالي القمر في يوليو أن زارني في بيتي أحمد طاهر وهو طالب طب من أصلاب باشا تركي وأم زنجية، وكان شديد الدهاء سيئ الطوية، فدخل علي بحيلة أنه جاء ليزورني؛ لأنه اشتاق إلي، ثم استدرجني للخروج معه إلى بارك تيت دور «بستان رأس الذهب» وهو في أقصى المدينة، ولكنه أشبه البساتين بهايد بارك وكان المنظر جميلًا ونور القمر يغمر الأشجار والأزهار والهواء عليلًا، ولم تسبق لي زيارة هذا البستان فحمدت له هذه المكرمة، وعلى وفرة غنى هذا المولد فقد كان شحيحًا إلى الدرجة القصوى حتى ليحاسب على السنتيم (الجزء المئيني من الفرنك) أي: أنه دوانيقي وكان محبًّا لنفسه لأعلى درجة ولم يخطئ قط من وصف هذا الصنف بقوله: «ابن الأمه ما ألأمه»، وانظر إلى الدور الذي لعبه معي وأنقذني الله منه.

فإنه بعد فترة قصيرة في البستان اشتبك في سرعة البرق بامرأتين إحداهما قصيرة بادنة ذات صوت أجش وطبع خشن تطلق على نفسها اسم «تيريز راكان»، وهو اسم امرأة من دواعر إميل زولا تتواطأ مع خليلها على إغراق حليلها ليخلو لهما الجو، وكان اختيار المرأة لهذا الاسم لم يأت عرضًا ولا مصادفة بل قصدًا لتدلك على ميولها وطبعها، وسرعان ما تأبط طاهر ذراعها كأنه يعرفها من سنوات. وكانت تصحبها فتاة كزهرة الربيع جمالًا وطهارة، تبدو عليها المسكنة والحياء والاضطرار لمصاحبة تلك القصيرة الدميمة الجبارة التي اختارت «العبد والعصا معه».

ورأيا أن يتخلصا مني ومن الفتاة البريئة بتركنا معا، وتوغلا هما في أدغال البستان وبقيت الفتاة معي صامتة في ضوء القمر وتكاد الأرض تنشق وتبلعني، فأنا في أقسى الحرمان وفي أشد الزهد والنفور، والفتاة ذات حسن وبراءة لها وجه وضاء وشعر فاحم ويدان كالعاج دقة ولونًا، ناطقتان كأن أناملها ألسنة عذبة تشير وتنطق ولها نحر جميل عقلت فيه حلية فضية تنتهي بصليب، ولكنها في شدة الخجل والطهارة. فقالت لي بعد طول الصمت: ما اسمك وأين تقطن وماذا تدرس؟ فأجبتها وسألتها عن اسمها فقالت: ماري مادلين (اسم مقدس طاهر)، فقلت لها: ولم تصحب مادلين تيريز راكان الفظيعة الفظة الغليظة القلب والشفتين، فحدجت بي الفتاة وقالت لي: لقاء مصادفة، ومن أين لك هذا الأسود أمن أهل مارتينيك (جزيرة يملكها الفرنسيون)، فضحكتُ وشر البلية ما يضحك، وقلت لها: إنه زنجي أفريقي. فضحكتْ وقالت مثلًا فرنسيًّا يقرب من قولك: وافق شنٌّ طبقه. وأخذت «تدندن» بصوت رخيم وتنشد أغاني بريئة كالأطفال لتسري عن نفسها في رفقة رجل «لوح» مثلي لا يشعر بمحاسنها ولا ينطق بكلمة إعجاب أو حب، وهي لا تعلم ما بقلبي من الحنين والخوف والشك، وأخيرًا قالت لي: لا بد أن صاحبك قطع شوطًا بعيدًا مع تلك المخلوقة المرعبة، ففطنت إلى قصدها وأنا جد جذلان بأنني أتكلم مع فتاة كلامًا يمت إلى الحب ولو بأضعف صلة، وقلت لها: اسمعي يا آنسة مادلين! إن الطبائع تختلف فأنا مثلًا رجل خجول، ولا يمكنني أن أتمتع بحريتي مع فتاة إلا إذا عرفتها مدة طويلة وحدثت بيننا ألفة حقيقية، وأنا احترامي للفتاة يأبى علي أنتهز الفرصة وأتصل بها على عجل في ليلة قمرية في بستان عام بعد لقاء مصادفة، هذه حقيقة حالي فلا تصفيني بالجمود أو الفتور، لا تنسبي إليَّ التقصير في حق جمالك، فتناولتْ يدي وضغطت عليها وقالت: وأنا كذلك، واقتربت مني حتى لاصقتني فأشعلتني ولكن همومي كانت أثقل من أن تستخفها تلك الملاصقة.

ثم مالت إليّ وقالت: أين تقطن؟ قلت لها: شارع أوجست كومت رقم ٥٦. قال: وأنا أقطن على مقربة منك فنحن إذن جيران. أتستضيفني الليلة؟ قلت لها وقلبي يرتجف من الانفعال: على الرحب والسعة. قالت: وهل صاحبة البيت ثقيلة تنهاك عن الضيافة؟ قلت لها: وأنت هل تقبلين المبيت خارج بيتك؟ قالت لي: أنا لا يهمني، فقلت لها: وأنا لا يهمني.

قالت: إذن ماذا يدعو لبقائنا هنا وقد أوشك الليل أن ينتصف؟

قلت لها: وأنا أريد التخلص منها بكل حيلة: وصاحبتك أتتركينها؟

قالت: قلت لك: لقاء مصادفة، ثم إنها بعد أن عثرت على هذا الزنجي لن تفارقه حتى الصباح؛ لأنها تشم الأثير وسمعتهما يتهامسان باسمه.

قلت لها: وما هذا الأثير؟ قالت: وأي طالب أنت؟ إنه مخدر قوي ينفعهما في الحب. أراك بسيطًا مثلي. هيا بنا ودع تيريز راكان مع عبدها. ونهضتْ وأخذت بيدي وتأبطت ذراعي وهي تدندن مرحة وتثرثر، فشعرت بنشاط ونسيت نصف همومي، وأسرعنا الخطى حتى خرجنا من باب البستان وأنا لا أدري ماذا يكون من أمرنا، ولكنني أشفقت على الصغيرة التي رضيت بي واعتمدت عليّ، لقد اعتمدت على جدار متهدم وعاشق معدم!

وأخذنا نسير في الشوارع التي يغمرها نور القمر كأننا ذاهبان حقًّا إلى بيتنا وهي معتقدة ومتأكدة. حقًّا إن الإيمان ينقل الجبال وهي تهذي وتبدي وتعيد فرحة طائشة كالفراشة. وأنا سابح في بحار التفكير لأخترع حيلة للخلاص منها، أو توصيلها إلى دارها على الأكثر. وكنت من دقيقة إلى أخرى أنظر إلى عنقها المحلَّى بحلية الصليب الفضية وإلى عينيها الدعجاوين، وشعرها الفاحم وصدرها البارز وقدها التارز وثوبها الرخيص الأنيق وقبعتها المحلاة بثمرة الكريز وأزهاره.

وأخيرًا قالت لي: اسمع يا موسيو (كقولك: اسمع يا هذا) إن التقبيل جائز في نور القمر ولو في الشارع. ألم تألفني بعد؟ فخجلت من نفسي وقبلتها في جبينها وقد اخترت جبينها؛ لأنني أعلم أن القبلة فيه رمز الوداع ودليل البراءة والابتعاد عن الشهوة، فضحكت وقالت: يا لك من عفيف تقبل قبلة الوالد والأخ الشقيق … ألم يستهوك غير جبيني؟

قلت لها: لأنه وضاح عال مشرق. فراقها ذلك وضغطت على يدي، ثم لصقت بي وأخيرًا دنونا من البيت، بيتي ووقفنا فقالت: ماذا بك؟

قلت لها: هل أنت مصممة على قبول ضيافتي؟

قالت: أنا التي طلبت ضيافتك ولكن إذا كان هذا يحرج موقفك أو كنت متأخرًا في سداد الأجرة حتى تسهر العجوز لمراقبتك والتضييق عليك، فأنا لا أجبرك ولا أحرجك ولكنني سأشقى طول ليلي وربما غداة غد أفهمت؟

وعندما قالت هذا الكلام انتفضت حاقدًا على الدهر وعلى الليل والقمر، ولاعنًا أحمد طاهر وتيريز راكان والصيف والقيظ والشتاء والأرض وبعض كواكب السماء، وعاودتني شجاعتي ومجازفتي وفتوتي ويأسي … وقلت لها: صهٍ يا آنسة! تفضلي اصعدي. لسنا في حاجة إلى نور الثقاب فإن السلالم مضاءة.

فتقدمت وداست الدرج في رشاقة وخفة كخفة من يدب دبيبًا وتبعتها وتصنعت الضوضاء لأطمئنها. وكانت مدام جيجال التي أسكن عندها أرملة طيبة القلب شهدت باستقامتي وسوف تلتمس لي عذرًا؛ لأنها متمسكة بي لما وجدت من الراحة في جواري، وصعدنا وفتحت الباب ودخلنا وأنا أتكلم بصوت مرتفع لأنفي فكرة الخوف عن مادلين. ودخلنا وأشعلنا ضوء المصباح ودبت الحياة في الغرفة التي لم تشهد قبل هذه الليلة ولا بعدها صورة امرأة، ولم يرن في أركانها صوت أنثى ولم يتعطر أثاثها بأريج بنت من بنات حواء.

ولما جلست مادلين في ضوء النور القوي بعد ضوء القمر الباهت ظهرت لها محاسن كانت خافية، وأنعمت النظر في جبينها الذي قبلته وأنفها الجميل وأذنيها الصغيرين وشفتيها الرقيقتين وعينيها الدعجاوين المشعتين ينبعث منهما وهج غريب. اضطجعتْ على مقعد رحب وخلعت حذاءها لتستريح ولم يكد يستقر بنا المقام حتى سمعت نقرة خفيفة على الباب، فارتجفت الفتاة مذعورة وامتقع وجهها، وأما أنا فقد صممت على القتال والشجار لو أن الأنثى جيجال نطقت بكلمة أو نبست ببنت شفة عتابًا أو تصنعًا للغضب لكرامتها، فإن عندي من أخبار نساء ليون ما يكفي لرجم شياطين بلاد الجمهورية الثالثة كلها!

وفتحت الباب على مصراعيه ورأيت وجه السيدة وقلت: «ادخلي من فضلك» فارتبكت وقالت: شكرًا لك يا سيدي ولكني جئت لأسألك إن كنت في حاجة إلى خدمة أقدمها بين يديك. عندي لحم بارد وجبن ومربى البرتقال، وعندي بيض أستطيع أن أعده لك عجة أو مخفوقًا أو أنضجه قرعًا وقلعًا وخبز طازج، فضحكت وسألت مادلين وقلت لها: ألك يا عزيزتي ma chére في شيء من هذا؟ فاحمر وجهها وقالت: كلا، فبادرتُ مداد جيجال وقلت: بما أنك أرقت بسببي وتفضلت عليّ فكأنك قرأت ما في نفسي بعد نزهة طويلة متعبة، فهاتي من كل ما ذكرت نصيبًا. فقالت: حسنًا يا سيدي، وخرجت وهي تغلق الباب وراءها، فنهضت مادلين ووقفت أمام المرأة مصادفة وقالت: كيف تكلف العجوز كل هذا التعب في هذا الوقت من الليل؟

قلت لها: أوتظنين حضورك عندنا لا يساوي وليمة فاخرة.

فدنت مني وطوقتني بذراعيها وقالت: وأنا التي أسأت الظن بك، وحسبت أنك تريد التخلص مني فتلقاني بهذا الكرم. هل تمت الألفة بيننا فتسمح لي أن أقبلك … في جبينك دقة بدقة؟

واستأذنتُ مدلين في الانزواء خلف ستار لأخلع ثيابي وحذائي خشية أن تلحظ ما لحقها من بوار، ولبستُ ثياب الراحة ووضعت فوقها عباءة دمشقية اشتريتها من الشام في سنة ١٩٠٣ من سوق الحميدية، وهي من آثار الغنى القديم وهي من الحرير المخطط بألوان زاهية، ووضعت على رأسي طاقية سوداء مزركشة بالقصب هندية الصنع وانتعلت خفين حمراوين (كتنلة)، فلما رأتني بهرت وقالت: «سلطان مراكش»، فضحكت وسري عني وكأن حملًا ثقيلًا رفع عن كاهلي، وشعرت بما لم أشعر به من شهر سبتمبر في السنة الماضية منذ عزمت على طلب الحقوق في مصر وتركت عملي الذي كان يدر علي ثلاثين جنيهًا في الشهر، تركته باختياري وضحيت به في سبيل العلم والوطن … وقذف الرحمن في قلبي طمأنينة غريبة، كانت فارقتني، فقلت: هذه بوادر القنوط؛ لأنه إحدى الراحتين، ولكنني كذبت هذا الشعور الأخير وبدأت أفرح من قلبي، فاستبشرت خيرًا وتفاءلت بقدوم مادلين إلى غرفتي.

وسرعان ما دقت السيدة جيجيال الباب ففتحت لها ودخلت وبين يديها خوان عامر أشبه شيء بسماط العرب لما حوى من الأصناف المتعددة، فقد كان البيض كالمشمش الحموي، وأضافت إلى الأصناف التي ذكرتها قطعة ضخمة من الزبدة، وأحضرت رغيفًا ضخمًا من خبز ليون الذي هو أقرب إلى الفطائر منه إلى خبز القمح، فنهضت مادلين وأعانتها بوضعه على المائدة ثم قالت المرأة في حياء: إنني أعلم أن موسيو لا يشرب النبيذ وإلا فإن عندي منه قنينة معتقة من تعبئة سيكار، فلمعت عين مادلين ونظرت إلي مبتسمة فقلت لجيجال التي تضاعف حبي لها: إنني من شاربي الماء وماء إيفيان وفيشي، ولكن هذا لا يمنع أن الآنسة تشرب النبيذ. ففرحت المرأة وقالت: لك ذلك يا سيدي. وعادت بقنينة طال عليها القدم دفنها راهب في كهف قديم، وفتحتها بدون إذن مني وخرجت وردت الباب وراءها وهمست في أذني «إن الأطفال نيام» فقلت لها: اطمئني، تشير إلى خوفها من ضوضاء العاشقين إذا سكروا ليلًا حتى يقلقوا الرقود …!

وكان منظر مادلين وهي تقبل على الطعام في رقة واستحياء مع شدة الشهية منظرًا جميلًا حقًّا يبعث السعادة في القلب، ثم تبدت لها محاسن كانت خافية ولكنها بعد أن تذوقت النبيذ قال: لا يليق بي أن أواكلك وأنا في ثيابي … ولكن ليس لدي قميص للنوم … فقلت لها: خذي قميصًا من أقمصتي. وفتحت الدولاب أو الصوان (ما أثقلها كلمة!) وأخرجت قميصًا من أيام العز موشّى الأطراف بخيوط حمراء وكأنه مقصوص على قدها.

فلبسته وخرجت ضاحكة … وملأت علي المكان مرحًا … وغسلت وجهها وأيديها وتطيبت ببقايا طيب عثرت عليه في قنينة، فرأيت منها وهي في ثياب النوم منظرًا عجبًا، وبانت خفايا محاسنها وأعجبني تأنقها في تناول الطعام، ولا سيما رقة أناملها وكيف كانت تفتح شفتيها فيفتر ثغرها عن لآلئ ثناياها، وكيف كان يجري النبيذ وهو كالياقوت السائل وراء جيدها الشفاف، فيكاد يُرى لرقة بشرتها وبياض عنقها كأنه من فضة ناصعة البياض لامعة الأديم، وقد حدثتني نفسي بتقبيل عنقها وكان أشبه بعنق الظبية طولًا ونقاءً وحسن لفتة، فحرمت نفسي، يا لي من أحمق مريض! غضضت طرفي وأغلقت أذني وأخرستُ صوت الطبيعة الصارخ، إنه لجبن يستوجب الندم. إنه لذنب يستحق الاستغفار ذلك الجمود، ذلك البرود، ذلك التزمت، ذلك التحرك، ولكن أقسم غير حانث إنها شجاعة نادرة.

أخذت مادلين تأكل وتثرثر وتختلس النظر إلي ولسان حالها يقول: «تن تن تن! يا لك من ماكر. يحوي بيتك هذه النعم وتبدو صامتًا خجولًا ولا تتجرأ علي، كيف تهاودك نفسك على الصبر عني، ما أنت ما سرك ما خبرك، ألغز أنت؟ لو لم أطلب ضيافتي عليك بنفسي لخفتك وخشيت على نفسي من هذا الغموض والإبهام»، ولكنها كانت أذكى من أن تقول شيئًا من هذا ولكن عينها كانت تنطق بهذا وأكثر، وكنت آكل قليلًا جدًّا وأدس لها الطعام وأرغبها فيه وأطمع أن تأتي عليه كله.

وبعد أن أكلت حتى شبعت وانتعشت نهضت وقالت: «أحب أن أغسل يدي وفمي وأنظف هذه الصحون والأوعية، فلا أود أن تظن السيدة أنني مكسال»، وفي أقل من لمح الطرف فعلت ما أرادته، ثم أخذت تقلب في كتبي ودعتني للجلوس بجوارها على المقعد الطويل العريض، وأخذت تدعوني بألفاظ التدليل والتحبب، وبدت في عينيها يقظة الفراش وقالت لي: كفانا حديثًا، قم إلى سريرك ونم فلست أقصد إلى أن أقلقك طول الليل، وإن كان لا يهمني السهر الطويل وسأقضي بقية الليل على هذا «الشيزلونج» ويكفيني غطاء هذا القباء (تقصد العباءة) المخططة، ويبدو لي من جماع حالك أن فراشك لم يلمسه جسم امرأة فلا أحب أن أكون البادئة.

فقلت لها: لم تجر العادة يا مادلين بأن ينام الضيف في أقل الفراشين راحة للبدن.

قالت: لنتكلم بشيء من الصراحة، حبًّا بالله، حبًّا بالعذراء المقدسة أنا التي أقحمت نفسي عليك وفرقت بينك وبين الزنجي وإن كان فراقًا لا يؤبه له؛ لأنه صحبة كما أرى لا تلائمك. وقد خلصتني من رفيقة السوء ثم أكرمتني ودعوتني إلى مائدتك فأطمع في فراشك، فإنك إن ضجعت بجواري وهو ما يجب عليك أو ما جرت به العادة فإما أعجبك وإما أكربك، فإن أعجبتك فلن تلقاني غدًا إلا إذا التمستني. ولا أرى يا صاحبي أنك ممن يجرون خلف المرأة العابرة، فتشتاق إلي ويمنعك حياؤك أو استقامتك أو ندمك فيكون في بعض هذا ألم لك، وأنا من جانبي إن أحببتك لا يطاوعني قلبي أن ألقي بنفسي تحت قدميك، لا تكبرًا ولكن حرصًا على مودتك؛ لأن كل معروض يهان ولا سيما في الحب. وإما لا أعجبك فتبغض فراشك وتلعن الساعة التي لقيتني فيها. فسكت طويلًا وأنا شديد الإعجاب بعقلها وتحليلها وإصابتها الحق في كل ما قالت، كما أعجبني جمالها وأدبها في حديثها وطعامها ونظافتها ودقتها على فقرها الظاهر، وهو ما ألقى بها بين براثن تيريز راكان.

وقلت: ما كان أشد عذر الخلفاء الذين دفعوا مئات ألوف الذهب في جارية فطنة أديبة حلوة الحديث أو حسنة الصوت. وما أعظم الفطنة عند هؤلاء الفتيات الفقيرات اللواتي تقابلهن كل يوم بالمئات في الطرق، وذكرت طبيبي مويسيه وقلت: ما أمكرك يا سيدي عندما قلت لي: خذ لك صديقة صغيرة تسري عنك وتسليك في وحدتك، ما أصدق تشخيصك وأحكم علاجك.

ثم قلت لها: اسمعي يا مادلين! مستحيل أن تنامي على هذا المقعد، وإذا سمحت لي فإنني أضطجع بجانبك! قالت: باختيارك أم تورطًا؟ فضحكت وقتل: مختارًا راجيًا بإلحاح.

وقامت فأطفأت المصباح ونامت.

إن ما جرى في تلك الرقدة لا يهم أحدًا في العالم، ولكنه يهمني وحدي في علاقتي بربي وبري بوعدي ووفائي بعهدي.

إن مادلين كانت كالطفل البريء، لم تكد المسكينة تلمس الفراش بجنبها في الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى أخذ الكرى بمعاقد أجفانها، وقد فعل النبيذ المعتق أفاعيله بعد التعب.

ولكنني أنا لم أنم وأنا الذي تمنيت طول الليل وزوال النوم ووقوف الصبح عن الطلوع، وأنا الذي استمتعت بجوارها وترديد أنفاسها وعبق عطر الأنوثة منها، وأنا الذي سهرت على نومها فلم تأخذني سنة، ولا أمنت الظلام عليها وعجبت لاطمئنانها واستسلامها وتقلبها، ما أعظم تلك اللذة من كل شيء، أن ترى الفاكهة الناضجة، وتشمها وتضمها وتلمسها ثم تصونها، وتكتفي بلونها ورائحتها ويعز عليك أن تخدش قشرتها بيدك أو أسنانك.

إنني أكاد لا أصدق نفسي لو لم أكن متأكدًا ومفيقًا وواعيًا؛ ولذا قلت: إن الفصل في هذه القضية من اختصاص الحاكم العادل العالم وحده. نعم قد عراني الندم بعد ذلك بسنوات، ليس الندم على فضيلة وهي نعمة سابغة، بل الندم على هذا الاستمساك القاتل، وتلك التضحية السخيفة، وخشيتي أن يلتقي نظري بها في اليقظة فترميني بنظرة حقد واحتقار وشك في أنني رجل … ولكن ما علي، أنا هكذا يا مادلين ولا تسأليني ولا تخطئ في فهمي، ألم تلقي رجلًا جليدًا كأهل الأسكيمو أو القطب المتجمد الشمالي، تالله لو أنني صنعت من خشب أو من ثلج لتحرك الخشب وذاب الجليد، لحى الله عهد الشعراء الذين خرجوا يجرون الذيول تيهًا؛ لأنهم عفوا وهم قديرون.

ومع ذلك فقد وجدت منطقًا سقيمًا وعقلًا عليلًا أنهكه التعب وأعصابًا متعبة أدت إلى النقيضين، شدة الرغبة الصارخة وشدة الوفاء وحرمة العهد الذي أعطيته وأخذته؛ ولذا كوفئت وعوقبت، كوفئت بحسن العاقبة وعوقبت بالحرمان، وقد كانت تلك محنة كاملة وامتحانًا قاسيًا، ولعل شدته أعانتني على أن أجوزه بنجاح! ولم أنم في تلك الليلة إلا غرارًا وفتحت عيني في الصباح فألفيتها نائمة مستغرقة في النوم، نوم الأطفال، نوم براءة الملائكة، إنني لم أر ملكًا ولكنني تخيلته عندما أخذت عيني بالسلام والسكينة والابتسامة الطاهرة، وأول ما أخذ بصري أهداب عينيها ووضوح جبينها وانسجام تقاطيعها وسواد شعرها وغزارته، ورأيت قميص النوم منحسرًا عن ساقيها فتناولته وسترتها في حنان وعطف وبقيت أتأملها في خشوع ثم دنوت منها وقبلتها … في جبينها … ويظهر أن قبلتي كانت حارة؛ لأنها ملآنة بأشواق الليل والنهار والأشهر الطويلة، ففتحت عينيها وصارت ابتسامتها ضحكة مرحة وقالت بصوت جميل: صباح الخير يا سيدي (طعنة نجلاء). هل نمت جيدًا؟ لقد نمت أنا نومًا هنيئًا وحلمت أحلامًا سعيدة.

فقلت لها: نامي واستريحي فليس إلا الفجر ولا تنهضي إلا في الضحى، ولا بد أن تفطري في الفراش؛ لأنني علمت بالخبرة القصيرة أن الفرنسيين يعتبرون الإفطار في الفراش من أكبر النعم.

فقالت: كما تشاء ثم أغمضت عينيها وتقلبت على جنبها الأيمن.

رسول البنك

نهضت ولبست ثيابي وتسللت وقابلت مدام جيجال وهي تعد الإفطار لولديها، وطلبت إليها أن تعد إفطارًا حسنًا. فابتسمت لي وقالت: هل نمت براحة؟ قلت: نعم شكرًا لك وكانت تحوم على شفتيها كلمة تريد أن تقولها. فشجعتها وقلت لها: وأنت؟

قالت: دع الشباب يمر! Laisser passer, Jeunesse تريد بذلك أن تقول لي: إنني أعرف الشباب وأعذره، فقلت لها: آه لو تعلمين يا سيدتي! أرجوك أن تعدي إفطارًا حسنًا. فقالت: سيكون لك ما تشاء، ريثما يفطر الصبيان.

فانحدرت إلى الطريق واشتريت بعض الصحف ولشد ما غاظني قلة المال في يدي في هذا النهار. كنت أود أشتري لضيفتي فاكهة وهي رخيصة لأشهدها تأكل الكريز بشفتيها فيجتمع في نظري فاكهة أنبتتها الأرض وفاكهة خلقها الرحمن وأبدعها. فليس من المبالغة في شيء أن تشبَّه الشفاه الجميلة بثمر الكريز. وكنت أود أن أرى ثناياها تقضم خوخة ناضجة من خوخ ليون الشهي وألوانه تشبه لون خديها، وكنت أود أن أشتري لها أزهارًا ولو قليلة لتشم عطرها في الصباح وكنت وكنت. ولكن اليد قصيرة والعين بصيرة، لعن الله الحاجة في هذا الوقت وفي كل وقت … ثم تخيلت هذا الصباح الناشئ وكيف يتلوه الضحى وذهابي إلى الكلية وخروجي ظهرًا ثم الغرفة التي ستوحش بعد انصراف الفتاة، فإنها لا بد منصرفة ثم المساء. ولعنت مرة ثانية وثالثة ذلك المولَّد طالب الطب الذي سبب لي تلك النعمة التي تصحبها نقمة الذكرى والندم والحسرة والعودة إلى الوحدة التي اختفى شبحها سواد ليلة قصيرة وأنا لا أدري ما يتلوها وأخشاه.

أليست هذه الحياة عذابًا أليمًا في سبيل المجد والعلا. أين هما وكيف السبيل إليهما، إن الطريق شاقة وعسيرة ومتعثرة ووعرة، وأردت أن أطيل الغيبة عن البيت وقلبي لا يهاودني؛ لئلا تتخذ الفتاة من غيبتي إشارة وإذنًا بالانصراف وقد تكون هي حاقدة عليّ؛ لأنها على كل حال امرأة، وأجمل امرأة في العالم لا تملك أن تعطي أكثر مما وهبتها الطبيعة وها هي عرضته ومنحته في سماح ودعة وسخاء … ولكن المعروض عليه تنحى في لطف وأدب فهل يكفيان في الاعتذار. ولكن في حقيقة الأمر ما عذري؟ وهل تفهم مادلين العهود والوعود وآمالي وظروفي وخوفي من النساء. وها هي نظيفة سليمة جميلة وما لها وللتعفف وفتنة النساء، إنها تريد ما تفهم من لفظ «الحب» عند الفرنسيس لا أكثر ولا أقل. ولا بد أنه وقر في نفسها أنها لم تعجبني أو أنني على الأقل عنين، يا لها من فضيحة فإنه لن يدخل في ذهنها أي عذر أبديه لها فخير لي أن أتخلص من هذه الأوهام وأعتبر هذا اللقاء وتلك الليلة كأنها لم تكن، وأن أعمل كل جهدي على نسيان الذكرى بعد أن أودع الفتاة وداعًا حسنًا. وبعد أن صممت واعتمدت وتوكلت عدت إلى البيت مطمئنًّا.

لقد حازت مدام جيجال إعجابي عندما عدت إلى البيت، فإنها احترمت حقوق الضيافة ولم تقتحم غرفتي لتنسيقها بعد خروجي كعادتها في كل صباح، ودخلت الغرفة فوجدت مادلين قد تيقظت وشمرت عن ساعد الجد وأعادت إلى غرفتي نظامها وتنسيقها وتزينت وجلست كأنها زوجة عاقلة مشتاقة، فقابلتني مرحبة فرحة وهي تدعوني بقولها: سيدي «موسيو»؛ لأنها لم تر لها حقًّا في رفع التكليف بيننا ولتذكرني أني تركتها كما لقيتها، ولم أنتفع بفرصة الخلوة الصحيحة التي منحتني إياها وكنت أبتسم كلما رنت في أذني كلمة سيدي ولم أقابلها بالمثل وأدعوها بالآنسة، بل دعوتها مادلين وهو اسم قديسة طاهرة.

وبعد دخولي بلحظة دخلت مدام جيجال بمائدة الفطور وفيه حليب وقهوة وزبدة ومربى وجبن ونقانق ليونية (سجق) وفاكهة وخبز طازج، فأكلنا هنيئًا مريئًا وكانت الساعة التاسعة تدق عندما أخذنا نتأهب للخروج، أنا للكلية، وصاحبة الليلة إلى أين؟ قالت: إنها ذاهبة إلى طبيب الأسنان فعجبت وأنا أرى ثناياها كاللؤلؤ وإن كانت لم تعض على العناب بالبَرَد، فضحكتْ وقالت: أحببت الحلوى كثيرًا وأكثرت من أكل الشوكولاتة والجاتو والملبس وأنا بسبيل حشو أحد أضراسي، فأدركتني الغيرة من لمس الطبيب المجهول خدها وفمها وسماع تأوهها، فحاولت أن أحولها عن العيادة وأقنعها بسلامة أضراسها كأنها أصبحت ملكي … يا لبلاهة الإنسان، ثم تذكرت تصميمي الأخير على نسيانها فقلت لها: «الحق بيدك يجب العناية بالأضراس فهل أصحبك إلى عيادة الطبيب إن كانت في طريقي».

قالت: كما تحب ولكن لا أريد أن أقصيك عن خطتك وكفى ما أخذت من وقتك بفضولي وتطفلي يا سيدي. لا بد أن يكون صاحبك الزنجي وصاحبته البشعة قد سبحا في بحور عميقة طوال الليل، ولعلهما لا يفترقان هذا اليوم إن كان ذاك الزنجي ممن يستهويه التلذذ بالآلام، فإن هذه الغولة خبيرة بهذه الفنون المرذولة، ولعل العذراء تحميني من لقائها فلا بد أنها تعتبر مصاحبتي تعويذة مباركة مذ أعثرتها على صاحبك الذي هو أقرب إلى الأوشاب منه إلى الطلاب، وليس من طرازك أنت ولعل هذا التخالف شفيع لي عندك لاجتماعي بها فنحن نقيضان كما أنت نقيض ذاك الأسود. قلت: ولكنك لا تغفرين لي أنهما سبحا في بحور عميقة بينما أنت وأنا لم نتعدَّ الشاطئ بل نحن لم نقرب منه، فضحكت وفهمت قصدي كما فهمت قصدها. ووقفنا ودق قلبي، واستعدت لتوديعي. ثم قالت وهي غضبى: إن أردت أن تقبلني قبلة الوداع وأقبلك قبلة الشكر فأرجوك أن لا تقبلني في جبيني، فإننا لم نلتق حتى تودعني. وهممت بأن أجيبها، وإذا بجرس الباب الخارجي يدق ثم سمعت صوتًا عاليًا وخطوات تسرع واضطربت مادلين ولم أدر لاضطرابها سببًا، ودخلت علينا مدام جيجال بغير استئذان وهي تلهث وقالت: إن رجلًا رسميًّا بالباب وعلى رأسه قبعة عريضة وفي صدره سلسلة وفي يده محفظة كبيرة وهو يسأل عنك يا سيدي.

فقلت لها: دعيه يدخل فورًا وزججت بمادلين التي امتقع لونها وراء ستائر الفراش، وجلست مطمئنًّا وبعد لحظة دخل الرجل وبيده قبعة نابوليونية وحياني بأدب جم وقال: هل أنت السيد ماهوميت (محمد) لفتى (لطفي) جوما (جمعه) الطالب بالجامعة؟

قلت: نعم أنا.

قال: ألديك يا سيدي وثيقة تثبت شخصيتك؟

قلت: نعم وأبرزت له تذكرة الكلية وبها اسمي وصورتي، فنظر فيها بغير اكتراث وقال: إشعار من بنك كريدي لونيه، وناولني إياه فوقعت عليه باسمي ثم فتح محفظته وأخرج نقودًا ذهبية (يا له من عصر ذهبي!) أخذ يعد ألف فرنك، ثم أخرج إشعارًا آخر فيه مائتا فرنك وعدها من أوراق البنك الفرنسوية. ثم أخرج إشعارًا ثالثًا فيه مائة وخمسون فرنكًا وعدها ورقًا وقطعًا فضية ثم قال: ألف وثلثمائة وخمسون فرنكًا تمام يا سيدي؟ فنظرت إلى النقود مكدسة على المنضدة وأنا ذاهل، ثم طلبت منه كل إشعار على حدة لمراجعتها في ظنه ولكن للتأكد من أنها باسمي حقيقة؛ لأنني دهشت من وصول هذه النقود بهذه الكمية، وأنا في أشد الحاجة إليها وخشيت أن تكون لغيري لا لي وأن البنك وعماله قد أخطأوا، فلما أيقنت أنها باسمي ابتسمت وناولته خمسة فرنكات فابتسم الرجل واعتذر وقال: محظور علينا يا سيدي أن نقبل أي نفحة من النقود التي نسلمها إلى أصحابها وحياني وخرج مسرعًا. ومددت له يدي لأشكره فلم يرها، وخرج لا يلوي على شيء.

فجلست خائر القوى؛ لأنني ممن يدخرون الانفعال من طول ما مارسته، جلست صامتًا حائرًا مذهولًا. كيف وصلت إلى يدي هذه النقود في تلك اللحظة؟ لقد استغثت بطلب المدد من أشهر ولم يصلني جواب ولا رد ولا بشرى ولا إنذار بهذه النعمة … أيحدث أن كل مطالبي استجيبت في وقت واحد ووصلت إلى يدي في هذا اليوم السعيد. هل في ضيافة هذه البنت البريئة فأل سعيد، أم أن في تعففي وصبري سر الاستجابة. لقد احتقرت المال في هذه اللحظة ونظرت إلى ثيابي وحذائي الممزق وقدمي التي تطأ بلاط الشارع منذ شهرين وجواربي العتيقة المرقعة، وبدلتي الشتوية التي تغيَّر لونُها ونصلت صبغتها، وهذه هي الثياب والجوارب والحذاء التي تركت فيها مصر في شهر أبريل. هل أفرح بالمال أم أفرح باستجابة الطلب أم بتوافق المصادفات؟ ونسيت مادلين في مخبئها ولم أرض أن أمس النقود ورأيتها كجذوة من النار أو كثعابين صغيرة، إنني لا ريب مريض، أو أن الحرمان والوحدة وسوء المظهر قد أصابت نفسي بعقدة من نوع جديد!

وما زلت متراخي المفاصل وناديت بصوت منخفض: مادلين. اخرجي. الرجل رسول البنك، لا رسول الشرطة ولا رسول الكلية. فخرجت وهي ممتقعة وجلست بجواري خائرة هي الأخرى وقالت: كنت أشعر أنه سيمد يده إلى عنقي ولكنه لم ينظر في ناحيتي، ولم تنظر إلى المال قط.

فقلت لها: انظري هذه النقود وصلت إليَّ لقدومك فقدمك قدم الفرح والسعد!

فقالت: ما هذا الهذر؟ إنها مرسلة إليك من زمن طويل ولا علاقة لقدومي بها.

فقلت في نفسي: «هذا هو الفرق بين المعقولية الشرقية والمعقولية الغربية. نحن نتفاءل ونتطير وهم لا يدركون ذلك ولا يعونه ولا يشعرون به».

ثم قالت: لعله حظ ذلك الزنجي.

فعبست وقلت: أعوذ بالله بل حظك أنت

قالت: وأين تضع نقودك أتحملها كلها معك أو تتركها في غرفتك؟ لا بد أن تُودِعَهَا في البنك وأن يكون لك دفتر شيكات كما يفعل الأغنياء الذين لا أشك أنك منهم وإلا ما بعثك ذووك لتتعلم في هذه البلاد البعيدة بالنسبة لهم. ولم يكن هذا قد خطر ببالي؛ لأن خمسين جنيهًا مع وفرتها في ذلك الزمن لم تكن مما يودَع في المصارف.

فقلت لها: ألا تتركيني أفرح بالنقود على الأقل يومًا وليلة أروح وأغدو بها حتى أنسق طريقة صرفها.

قالت: بل أبق معك ما يقضي الضرورة؛ لأن الطرق هنا ولا سيما في الليل غير مأمونة، وماذا يضرك ما دام المال يبقى محفوظًا في الخزانة تطلب منه ما تشاء، ويمكنك أن تدفع بالورق بدلا من أن تحمل النقود.

قلت: هذا حسن سأبقي معي ثلثماية وخمسين فرنكا وأودع ألفًا.

قالت: كلا هذا كثير بل يكفي أن تحمل في جيبك خمسين فرنكًا ثم تدبر أمرك. ألا تكفي خمسون فرنكًا يا لك من مبذر!

قلت: حسن إذن أودع ألفًا ومائتي فرنك وأستبقي مائة وخمسين فرنكًا (ستة جنيهات بحساب الزمن الماضي).

قالت: أنت حر في مالك ولكن ما دمت تفضلت واستشرتني، فأنا لا أنصح بأكثر من خمسين فرنكًا. وإذا سمحت لي بمرافقتك بضع دقائق فإنني لا أفارقك حتى تودع نقودك وتأخذ علم الوصول، فإني بهذا وحده أطمئن على وداعك.

قلت: كما ترغبين هيا بنا، لا ريب أن يوم الكلية قد ولى وضاع علي.

قالت: ليس فيه ضياع؛ لأن الرجل كان يتعب في الوصول إليك إن لم يجدك في بيتك، ونزلنا فوقفت مادلين وقالت: الأفضل أن نتخذ مركبة تذهب بنا إلى المصرف مباشرة. فأعجبت بتدبيرها وقلت لها: أن نسير حتى تصادفنا مركبة على رأس الجسر. قالت: كذلك واجعلني على يمينك.

وسرنا وقابلنا حوذي فحملنا إلى مصرف «سيتي جنرال»، وهو بنك محلي ليوني فأودعت نقودي وأخذت دفتر الشيكات والإيصال، واستبقيت خمسين فرنكًا لا أكثر كما أشارت الفتاة الشفيقة العفيفة الأمينة، ولم نكد نخرج من باب المصرف حتى مدت لي يدها وقالت: الوداع يا سيدي إنها في حالتنا أدق من قولنا: «أوريڤوار»، فأخذت يدها بشيء من العنف وقلت لها: ما هذه الجفوة المتصنعة! … حقًّا إنك قاسية أهكذا يفترق الأصدقاء؟ قالت: لقد تأخرت عن عملي … ومديرة المصنع جافة الطبع وهي على مقربة من هذا المكان. قلت: ولكنك قلت: إنك تقصدين إلى طبيب الأسنان! قالت: نعم ووقت عيادته مضى وانقضى. قلت: اعتذري لمديرة المصنع برسالة هوائية (خطاب أزرق مستعجل) قالت متبرمة: لا بأس إذا شئت.

فتناولت يدها وقبلتها (وهي تشبه يد الموناليزا الجوكونده) وقلت لها: أرجوك أن تختاري الطريقة المثلى لنقضي هذا اليوم معًا، وإن شئت أن تعتذري لأحد وقد قبلت دعوتي لتطمئن بحريتك، قالت: نعم وأختار إذا شئت أن نذهب إلى شاربونيير الحمامات وهي من الضواحي القريبة نصل إليها بالقطار من محطة سان بول. ففرحت بهذا الاقتراح فرحًا شديدًا؛ لأنني كنت أفكر في مغادرة ليون بأية وسيلة.

قالت: ولكن لا بد لنا أن نتزود بالطعام.

قلت: عجبًا … شاربونيير الحمامات! ولا يكون بها مطعم.

قالت: أجل بها مطاعم وفنادق وكازينو وحمام ومياه معدنية وبستان فخم وقصور وفيها كل ما تشتهي النفس، ولكن لهذا كله ترى أهلها يبالغون في الأثمان والأجور. ونحن أهل ليون لا تخدعنا المظاهر هيا بنا نتزود. فدخلنا عند بدال وفاكهي وخباز وخرجنا محملين بما لذ طعمه وخف ثمنه. وتذكرت حذائي وشعرت بالخزي بعد أن حضر المال ولكن قلت: لا أظهر لها أنني كنت أنتظر الفيض لأشتري الأحذية والقمصان. ولعلها لم تلمح ذلك الحذاء وإن هي لمحته فلعلها لا تنسبه إلى الحاجة بل إلى البوهيمية وهي من خلال الحكماء والشعراء وإن لم أكن منهم، ثم إنها هي التي نهتني عن حمل النقود كلها أو معظمها.

يوم في شاربونيير

وبلغنا محطة سان بول والقطار على وشك القيام، وبلغنا مدينة الحمامات بعد نصف ساعة وأثناء الطريق سألتها عن عنوانها في مسكنها وعملها فقالت لي: من الخير أن لا نتوغل في التعارف ويكفينا من الأمور ظواهرها. ولنفترض أننا سفينتان صغيرتان تقابلتا في الظلام. قلت: ولكننا الآن في وضح النهار وفي قطار يقطع البر، لا سفينة تمخر البحر قالت: لست مثلك ألعب بالألفاظ؛ لأنني شبه أمية ولكن أقول لك: إننا نتم سهرتنا وأنا ما أزال في الليل … يا لها من ماكرة لا تترك ثأرها. كانت تزداد في نظري قدرًا وقيمة وأعجب بفطنتها وخلقها فهذه الأجوبة المسكتة تزيدني حيرةً وتلهفًا … ولم يبق على إقامتي في ليون قبل رحلة الصيف التي عزمت عليها إلا يوم أو يومان بعد أن حل الله عقدتي على مقدمها. هل أصطحبها. هل أحملها معي وأشركها في هذا الرزق الذي ورد إلي يوم قابلتها … ولكن كيف أنبش عش هذه المسكينة وأنقلها من بيئتها، هل أتخذها خليلة في الحل والترحال، أهذا ما أراده الدكتور مويسيه بقوله: «اتخذ صديقة صغيرة» أتكون مادلين تلك الصديقة الصغيرة التي قصد إليها طبيبي. إن عقلي وقلبي لا يقبلان أن أصطحبها زمنًا مهما طال أو قصر ثم ألقى بها في نهر الحياة. محال علي أن أعبث بطهارة بنت تثق بي وإن لم تكن عذراء ثم أتخلص منها بأهون سبيل، ومحال علي أن أخرجها من مهزلة الحب إلى مأساة الإجهاض أو من نعمة الاطمئنان إلى الكارثة الوحدة والحاجة بعد أن تذوق راحة الارتكان إلى رجل.

يجب علي أن أكون بعيد النظر ومخلصًا لنفسي على الأقل. وإني أقرر هنا بعد طول الخبرة والتجارب أن الوفاء والإخلاص من الفضائل التي تنفع الإنسان في نفسه وروحه وتضره في الحياة الدنيا وفي معترك الوجود الأرضي، وأن صاحب الفضائل معذب ومحتقر ومعدود مجنونًا وأبله؛ لأن الدنيا تسير على دولاب الرذائل. ولكن صاحب الفضائل لا يمكنه التخلص منها ولو تصنعًا فهو مقضي عليه أن يعيش فاضلًا، فإن حاد قيد شعرة تواطأ عليه كل الشرار ومزقوا جلده لا لخروجه على الفضائل، حاشا، بل لسابق طاعته للفضائل، ثم إنهم لا يأمنون جانبه لانطباعه على الخير، أقول هذا كله وأكثر منه وأنا لا أدري ما هو الخير وما هو الشر، ولكنها فطرة يفطر عليها الإنسان. إن منطق الواقع كان يقضي عليه أن أعمل بنصح الطبيب وقد تهيأت لي الظروف المواتية وأقضي الساعة واليوم والليلة، ولا أبالي بما يحدث بعد ذلك مثل ألوف الشبان.

لقد مسني الضر من تمسكي بالأفكار الراسخة. هل كان الحق في جانبي أم في جانب من قال: «فاز باللذة الجسور». إنني لم أستطع الجواب على هذا السؤال، وقد غرقت في الفكر حتى نسيت مادلين وهي موضوع تفكيري وقد أخذت تمثل أمامي جنس حواء وجميع بناتها لشد ما كنت متهوسًا بالفضيلة وبحساب النفس. وكنت أكبر بكثير من سنواتي العشرين على كثرة مما حاربتني الدنيا. وفجأة شعرت بمادلين تلتصق بي وإذا نحن في نفق حلق الذئب (چوردي لو) إحدى محطات ذلك الخط الصغير الموصل إلى شاربونيير. فقلت: يا لها من ذات شعور مرهف لعلها أحست أنني مشغول بها، فأرادت أن تذكرني أنها جالسة بجواري.

يا له من يوم سعيد حقًّا، شاربونيير على قربها من ليون ملآنة بالنور والماء والخضرة والبساتين ذات الثمار والأزهار وليون قاتمة كئيبة يملأها الضباب والرطوبة والظلام والبرد شتاءً، والقيظ صيفًا، لِمَ لم أقطن هذه الضاحية بل لم لا أقطنها في المستقبل، إن في هذه الزيارة فتحًا جديدًا، لقد أخذت النعم تتوالى علي في صحبة هذه الفتاة، ولكن لعله استدراج شيطاني فلا تخدعني تلك المصادفات، إنها غريبة التواتر والوقوع في يوم وليلة.

ولما غادرنا القطار تغيرت أطوار مادلين وظهر عليها المرح والفرح بالطبيعة الباسمة، وصارت كتلميذة مدرسة في نزهة، فجاريتها وصعدنا إلى الغابة الملتفة الأشجار وطفنا بالحدائق وأكلنا ما حملنا حتى أتينا عليه وتزودنا ثانية من دكاكين شاربونيير، وجلسنا في الكازينو وتفرجنا على الحمامات وشربنا من الماء المعدني الحديدي، ورأينا في مدخل الحمامات مجموعه من المرايا المقعرة والمحدبة والمنحنية تبدو فيها أوجه الناس وأبدانهم تارة عريضة وطورًا طويلة ومرة مربعة أو مثلثة على صورة مضحكة.

فقالت: هنا يستغلون غفلة الأضياف فإن الناظر لا يضحك من نفسه ولكن يضحك منه الآخرون وهو يدفع على ذلك أجرًا.

وعندما خيم المساء قلت لها: متى يغادر آخر قطار هذه البلدة، فإنني أريد أن نبقى في نور أمس كما كنا في بستان رأس الذهب.

قالت: طيب، ولا بد أن تعود إلى بيتك مبكرًا لتعوض الليلة البارحة.

قلت لها: اسمعي … لا بد أن تقضي الليلة معي.

قالت: لم؟

قلت: لسبب بسيط وهو أنني لا أستطيع أن أقضي الليل بدونك في مسكني، فإن لم تعودي معي وتنامي في فراشي فلن أنام ولن أعود ولا بد أن أنتقل منه أو أغادر البلد فلست متقدمًا إلى الامتحان في هذا الشهر.

قالت: لا مانع عندي وإن كنت لا أستطيع أن أغيب عن أهلي يومين متتالين، ثم إنني يا صاحبي لا أنفعك، وإن كنت أنت خشبًا أو حديدي الإرادة فلست مصنوعة من معدنك، وقد بدأت أتعلق بك وهذا الحب الأفلاطوني لا يعجبني، ولا يدخل في تكويني ولست أرضى به.

فأدهشتني تلك البنت بصراحتها وجرأتها وحمدت لها حرية الفكر وشجاعة القول، وأدركت أن تلك الشجاعة مستمدة من سلامة العقل وصحة المنطق ولا يضيرها فقرها، فقد كانت هادئة الطبع هدوء النبل وقد قعد بها الدهر، فلم تنل حقها من التعليم والتهذيب وأرغمت على العمل في مصنع القبعات لتنال القوت والكساء، ولكنها لا تبهرها النعمة؛ لأنها طيبة الأرومة ولا تداجي لأنها تبغض النفاق وكانت قوية الإرادة في الخير من حيث أظهرت الحرص علي بعد عشرة ليلة كالخبز القفار بغير إدام، وضعيفة الإرادة في الشر بدليل مرافقتها لتيريز راكان تلك الضبعة الشبيهة بالقرش والحوت الجشع الذي يلتهم أضعاف جسمه الناعم الغادر التي اختارت الأسود ولاذت به وتركت مادلين لي؛ لأنني بدوت لها خجولا لا أغري مثلها ولا تغريني. هذه واقعة معقدة حقًّا فأردت أن أقسو على مادلين وأعتصرها لأستخرج خير ما فيها وشر ما فيها، إن كان في كيان تلك البريئة التي لحقها ضيم الحياة شر.

فقلت لها: كل ما تقولين صدق ولا ريب فيه ولكن قولي لي بغير مداراة ولا مواراة أكنت تفضلين أن تتبادلي وتلك الضبعة إذا اختارك الأسود وترك صاحبتك لي؟ فوقفت البنت وقفة غضبى وقالت: أما هذا فأبدًا مطلقًا مهما طال الأجل! Ca jamais de la vie من تظنني يا سيدي؟ وأبرقت عيناها … إن ذاك الأسود يموت ويهلك دون أن ينال قلامة ظفر مني ولو ركع أمامي ركوع العابد Oh non إنني رأيتك ذا حياء تؤثر السكوت ولا تطيل النظر، ولا تتهجم وهذه صفات أعجبتني وقد صدقت فراستي. وبعد يا موسيو فلان فإننا أسرفنا في التحليل كما قترنا في التركيب، وأرى أننا لن نبلغ غاية. إن الحب هنا في ليون (ولم تقل: في فرنسا) ليس يقصد به إلى الزواج ولا الأولاد، بل الاستمتاع الوقتي وأخطر ما فيه الأمراض والإجهاض وأنا سليمة من الناحيتين؛ ولذا أحرص على نفسي ولا أجازف أبدًا. ولكنك شاب موسوس ومثلك كثير وهؤلاء ينتهون نهاية حزينة؛ لأنهم يفقدون الرجولة Teny خذها فقد قلت لك كل شيء، أنا لست جاهلة جهلًا مطبقًا نعم لا أقرأ الطان والفيجارو والكتب الضخمة كما تقرأ. ولست طفلًا غريرة، إن عمري واحد وعشرون سنة كاملة، أنا كبيرة وأغلب الظن إن صادفني كثير مثلك أن أتوج القديسة كاترين! فسألتها من تكون تلك القديسة. فضحكت وقالت: أنت لا تعرفها إنك ما زلت أخضر القلب لين العود، سانت كاترين يا حبيبي قديسة تحمي العوانس فإذا بلغت إحدى العذارى خمسًا وعشرين سنة انضمت إلى صفوف العوانس، وانضوت تحت لواء تلك القديسة البغيضة. أكلمك بهذه الصراحة فلا تغضب لقد صنعت لي كل شيء في مقدورك وأنا اخترتك على عيني وأقحمت نفسي على بيتك وأكلت زادك وقضيت يومي معك، وكنت سعيدة حقًّا فما وراء هذه النزهة وذلك القمر؟ نعود من جديد إلى غرفتك فترانا تلك العجوز، وتتهمني بالعشق والاستمتاع وأنا بريئة منها allons donc.
وسرنا في طريق المحطة وقد ملأتني تلك العاملة الصغيرة باليأس ولمحت ذلك في عيني فقالت: اسمع إننا صديقان Camarades رأيتك اليوم تهم بحمل نقودك كلها وهذه علامة السخاء والجود، ورأيت بيتك منظمًا نظيفًا وعلمت أنك لم تقرب النساء من قبل أو أنك قربتهن ثم تبت وترهبت وتنسكت. وأنا لا أريد أن أحولك عن فكرك لعلك تدخل الدير من يدري. إن في ليون كلية فخمة لعلم اللاهوت. ثم يا صاحبي ماذا يدعوني لأتدخل في شئونك. أنا دعوت نفسي أمس إلى بيتك وأنت تدعوني الليلة. فمن الغبن أن أرفض دعوتك ولست بنتًا مفتونة، وهذا الحب الأفلاطوني لا بأس به ولو مرة في العمر فهيا بنا نضحك ونلعب ونلهو ونتعشى ونسمع الموسيقى، أو نشهد التمثيل ثم نعود معًا إلى البيت كما عدنا أمس ونحن نوهم نفسينا ونوهم الناس أننا عشاق بحق. أتدري أنها لذة عظيمة؟!

فبدأ الغضب الحق في عيني ولعب الغيظ على شفتي، وكاد لساني يتحرك بما لا أحب فكظمت غيظي وقلت: مادلين … روِّحي عن نفسك وهدئي من روعك. إن هذه أمور لا يتكلم الناس فيها ولا يتعمقون لا صراحة ولا تلميحًا.

قالت: ولم وإذن فيم يتكلمون؟

وانطلقت مبتعدة عني كما لو كانت سهمًا فارق قوسه. ولم تلتفت نحوي، وسارت بخطى ثابتة لا تلوي على شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤