في مدينة النور

١

اللقاء الأول

لم أنس لقاءها على جسر شوردون، فقد كنت أسير متنزهًا في حديقة مونيونون في وقت العصر، فسمعت صوتًا يناديني فالتفت فإذا بالمليحة الملحة على الإفريز الآخر، وقد أمسكت بمظلة بيضاء وجعلت في يديها قفازين من الحرير الأسود تظهر الأنامل وتخفي الكف والمعصم وتصل إلى المرفق وهي مما يتحلى به نساء الطبقة العالية، فصافحتني وكلمتني كلامًا لا في العير ولا في النفير فلم أطل معها الوقوف.

وبعد أيام لقيتني في إحدى المكتبات وأرشدتني إلى كتب حديثة العهد بالظهور، وذكرت أسماء كتب قديمة جديرة باطلاعي، فاشتريت بعضها واشترت هي كتابًا أهدته إليَّ وافترقنا، ثم دعتني وقالت لي: إننا نسهر بعد العشاء منفردين، فلم أبطئ هذه المرة وذهبت بعد العشاء كما أشارت، وكان جمال الليل فاتنًا وكان القمر يتوسط كبد السماء فجلست معي في الشرفة الكبيرة المطلة على البحيرة والجبال، وتوارت أمها عن نظرنا بعد استقبال قصير وترحيب حار.

كنت ما أزال أشعر نحوها بنفور وإن يكن قد خففه رؤيتها في وسطها الطبيعي، السكن والأثاث والكتب والأمومة واللغة الروسية التي كانت ألفاظها تتناثر على مسمعي من فمها وفم أمها، ولم يكن منظر الطبيعة إلا ليزيد هذا الوسط ألفة وحرارة طبيعية.

أخذت المليحة الملحة ترحب بي وتشعرني بسرورها بوجودي، وكأنها أرادت أن تثبت لي أنها امرأة من بيت وأن لها أهلًا ومنزلة وأنها ليست من جوارح الطير ولا من ربات الجمال والمغامرات، وأنها بهذا وذاك تكون في نظري أكثر كرامة وأكثر قبولًا لدي.

ولم تكن تعلم أن بروشيه بثنائه عليها وعلى مواهبها قد أكمل الصورة المرغوبة، ورسمها في ذهني رسمًا زاهي الألوان، فلو عرفت ذلك لزادت غبطتها.

ولكني أخذت أسأل نفسي، علام كل هذا الاهتمام بشخصي … ولست ممن يطمع فيهم النساء ولا سيما من كانت كهذه الحسناء ميسورة وأديبة مشهورة تجرر أذيال العز، وتصحبها أمها في رحلة طويلة؟

لعلها بلهاء أو مخدوعة أو هاوية درس أخلاق بعض الرجال ولا سيما الذين تظن أنهم من نوع خاص.

أما الجمال فلست من أربابه، وأما الشباب والفراغ والجدة، فقد كنت شابًّا ولم أكن ذا مال ولا فراغ إلا بما تسمح به حياة الطلاب أثناء العطلة الصيفية، ولكن لعلها رأت في عيني صورة أثارت عاطفتها، ولعلها شعرت بحركة روحي وقلبي شعورًا باطنيًّا غير ناطق.

كانت هذه هواجسي، ولكن الحقيقة التي علمتها بعد ذلك علم اليقين أن ما قضت به الأقدار بيننا كان محتمًا أن يقع، فكانت أكثر حساسية وأسرع إلى أداء واجبها نحو الطبيعة والقدر. لقد كان شعور المرأة فيها قويًّا مبادرًا ملبيًا، وكفاها أن تراني فترة قصيرة في بيت دي ناڤا حتى شغلت بي، وما زالت تتعقبني وتلتمسني وتسأل عني «صرخة الطفل» الذي في عالم الغيب أو صيحة المرأة التي لم تجد مثلها المنشودة في الرجال يزينه الذكاء والهدوء واطمئنان القلب.

وها هي اليوم قد استدرجتني إلى عشها الأنيق حيث أمها كأم الطير حارسة، كل هذه الخواطر مرت بذهني مرور البرق كسلسلة صور متحركة.

وبعد هنيهة اعتذرت الأم بحاجتها إلى قضاء عمل بيتي وحيتني وانصرفت، واختلت المليحة الملحة بضيفها.

وقد حصل لي من الانفعال ما يحصل لكل شاب يخلو بامرأة شابة جميلة ذكية، وكنت محرومًا من مثل تلك الخلوة، حكمت بذلك على نفسي لأول عهدي بالإقامة في أوروبا لأجل التعليم، ولكني لم أكن وثابًا ولا قناصًا ولا نهازًا للفرص، وهذه هي الصفات التي لا تعجب النساء.

قامت المرأة وخطرت أمامي وتحدثت إلي واستعملت فتنتها ومحاسنها فكنت خجولًا، وتحدثت إلي في الأدب وفي الثورة وفي التاريخ وفي تولستوي وفي نهضة روسيا، وكانت بالطبع أوسع مني اطلاعًا بحكم نشأتها وإقامتها في أوروبا الشرقية والغربية، فبهرت وسررت وتمكنت بالتدريج أن أستل كثيرًا من نفوري منها، ولكنها لم تجذبني الجذب الكامل إليها.

وبعد فترة قضيتها ودعوة حارة للعودة ووعد فاتر مني بالرجوع كلما أحسست بالشوق، هممت بالقيام، فاستوقفتني وقالت لي: أرى من حديثك أنك غير ملم بأخبار ثورتنا الروسية التي بدأت منذ خمسين عامًا ولها أبطال عالميون مثل … وسردت على سمعي أسماء عشرات الرجال والنساء، وعددت كتبهم وتضحياتهم وتعذيبهم وسجونهم في سبيل الحرية القومية.

كانت المليحة الملحة تلبس ثوبًا أزرق من الحرير لاصقًا ببدنها يكاد يبدي تقاسيمه، وجلست على مقعد طويل. وأخذت تتحدث إلي في هذا الزخرف الجميل الذي اختص الله به سويسرا.

وتكلمنا في الأدب والفن والجمال والسياسة وهي تبطن الحب والولع، وأخذت تتلوى في وحدة الليل وضوء القمر، وخضنا غمار العواطف والأهواء في حذر شديد من ناحيتي، وكنت كلما أمعنت في الاستسلام بالكلام اشتد حذري وخوفي، وقد أثبتت الأيام أن حذري كان أصدق من هواي. وقد صور لي خيالي أن النساء الروسيات خطرات بالفطرة، وربما كانت الكثرة منهن أعينًا وآذانًا للقيصر، ولكن ماذا يهمني القيصر وألف فردة من أسرة رومانوف، وأي سر مكنون أو علم مصون يكون لدي حتى تبذل هذه الأنثى الذكية الحسناء عقلها ولسانها في استدراجي للحصول عليهما؟

وقالت لي: أنا مطلقة وقد نزحت من بلدي لأبتعد عن زوجي، وقد خرجت لصيد الأسماك مع دي ناڤا في قارب ثم قصرت عن هذه الرحلات خشية أن تغار زوجته وهي امرأة دميمة جدًّا، وقد عرفت دي ناڤا في ميلانو مذ كان محررًا في جريدة «أفانتي» الاشتراكية، ثم لقيته هنا مصادفة، ولا أدري كيف قبل أن يتزوج من هذه المرأة.

هل اجتمعنا في حياة سابقة؟

في تلك اللحظة، وكانت الساعة الأولى بعد نصف الليل وصلت النشوة إلى منتهاها، وقد هاج سكون الليل ورنين صوتها في هذا السكون سائر أشجاني وحواسي، فقلت في نفسي: علام أجالس هذه المرأة وهي تحدثني عن رجل آخر؛ لتثير غيرتي ولا تريد شيئًا آخر، فعلام أخرج على طبعي وأقوام فطرتي؟

وفجأة لمحت أناملها وهي تتكلم وتشير بها فطرق ذهني أنها أنامل ناطقة وأن راحتيها تكادان تشعان نورًا، وأنهما صنعتا من البللور الشفاف أو من الفضة البراقة، ومنحتا قوة النطق والإشارة فصمت وأغضيت، فقالت لي: ما بك يا سيدي؟ هل أنت متعب؟ ترى أنه آن أوان نومك وأنني أعوقك وأرغمك على السهر إلى هذه الساعة من الليل؟

فظننت أن هذا القول منها إذنًا رقيقًا لي في الانصراف، فنهضت متعبًا وقد تجهّم وجهي؛ لأن أمامي طريقًا طويلة شاقة سأقطعها في سواد الليل منفردًا حتى أبلغ منزلي الخلوي، فلم تمانع ووقفت هي الأخرى لتوديعي ولم تحاول منعي أو استبقائي … فقلت وأنا أودعها: أستودعك الله ولكن قبل أن نفترق أقول لك شيئًا واحدًا وقد قلت لي أشياء كثيرة، أتعلمين لم جلست وأطلت الجلوس حتى هذه الساعة من الهزيع الأخير من الليل؟

قالت: هذا بيتك وأنت فيه دائمًا على الرحب والسعة في أي وقت من أوقات النهار أو الليل.

قلت: لم يشعر الإنسان أثناء التقائه بإنسان آخر لم تسبق بينهما معرفة أنه شديد الانجذاب إليه، كأنهما اجتمعا في حياة سابقة كما يرى بقعة من الأرض فيتذكر على الرغم منه أنه سبق له أن رآها ووطئها ويكون في الحالتين كأنه في حلم عميق، حلم يقظة وصحو لا حلم نوم ونعاس؟ أتجيبين على هذا السؤال؟ وهل شعرت يومًا بهذا الشعور أو مثله؟

فامتقعت وترنحت وقالت: اجلس. أرجوك أن تجلس قليلًا. ليس علينا رقباء إن أمي نامت من زمن طويل وهي عميقة الرقاد فلا يهزها صوتنا إذا تكلمنا حتى الصباح.

قالت: متى خطر ببالك هذا الخاطر؟ وإلى ما تقصد بقولك؟

قلت: لم أقل: إنه خطر ببالي أو وقع لي ولم أقصد إلى شيء معين.

قالت: لقد شعرت هذا الشعور ومر بقلبي.

وكانت منفعلة بادية التأثر، وكنت قد صممت على شيء لا بد أن أنفذه في تلك الليلة قبل أن أنام.

قلت: هذا حسن وهذا الذي أردت أن أعرفه، أستودعك الله يا سيدتي.

ومددت إليها يدًا ثابتة فمدت إلي يدًا مرتجفة، وعاد روحها يطل من عينيها وأطالت مصافحتي وهي تقول: لا بد تعلم أن تقبيل أيدي السيدات عند اللقاء أو الوداع عادة محتومة في وطننا، وقد نقلها الفرنسيون عنا.

قلت: أعلم ذلك ولكني لم أحاول مطلقًا.

قالت: هل أصحبك إلى نصف الطريق.

فضحكت وقلت: أينا أحق بأن يصحب صاحبه إلى داره، وهبي أنني قبلت فكيف تعودين أنت بعد ذلك في الساعة الثالثة بعد نصف الليل؟ ألا تعلمين أنني أقيم في بيت بروشيه الذي تعرفينه معرفة جيدة ويعرفك كذلك هو وزوجته.

قالت: أعلم ذلك، ولكن من قال: إنني أصل إلى بيته؟ قلت: نصف الطريق ولم أزد وإن شئت أن تبقى فلك أن تبقى، وإن شئت أن تتحول من بيته إلى هذا المنزل القريب فأنا كفيلة أن أعد لك مسكنًا فيه لتكون على مقربة مني.

قلت: سأتحول حتمًا. سأتحول …

وخرجت أضرب في ظلام الليل على غير هدى وقد عقدت عزمي على شيء لا بد أن أفعله قبل أن يتنفس الصباح.

سرت وسط الحقول والحدائق والشوارع تكاد تكون خالية إلا من رجال الشرطة والمتخلفين عن فرشهم أمثالي.

فلما وصلت باب البيت دخلت وأنا أجد نفسي غريبًا وقد بدأت الوحشة تدب في نفسي، وقد فعلت هذه المرأة أفاعيلها حتى بغضت إليَّ الحياة التي كنت ألفتها في العزلة والدرس في عشرة عجوزين طيبي القلب والخلق، بروشيه وزوجته.

ولما صعدت إلى غرفتي الجميلة المطلة على البساتين النضرة وعلى جبال سويسرا وبحيرة ليمان لم أر فيها شيئًا من الجمال الذي رأيته عصر هذا النهار نفسه، وهذه أعراض مرض جديدة أخذ يدب في أوصالي، ولكنني كنت قد عقدت النية على عمل أعمله قبل أن يغمض جفني وقبل أن يطلع الفجر.

ولكن الفكرة التي طرأت علي أخذت تنمو وتكبر وتتضخم وتملأ عقلي وقلبي، هل صحيح أنني عرفت هذه المرأة في حياة سابقة وأنني كنت عنها عميًّا في اللقاء الأول وما تلاه؟ أم أن الرغبة والليل والحرمان خدعتني وهيأت لخيالي هذه الصورة الفاتنة، هل عرفتها قبل ذلك؟

وفجأة تذكرت كلمة حكيمة «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»، ولكن هل هذا التعارف وقع في حياة أخرى أم في عالم الوجود الأزلي قبل الميلاد الأرضي؟

نعم لقد شعرت بانجذاب إلى أشخاص معدودين، واتحدت أقداري وأقدار آخرين في طفولتي وفتوتي ومراهقتي، ولكني لم أشعر بهذا الخاطر بوضوح وقوة كما شعرت به هذه الليلة. ولكن إذا طرأ هذا الخاطر وكان حقًّا فلم لا أتذكر طروف تلك الحياة السابقة؟ وهل انفعلت هذه المرأة؛ لأنها أحست بما أحسست به؟ أم لأنها بخبرتها السابقة للرجال والحب (حتمًا) قد علمت أن هذه مبادأة أو أنها حيلة ابتدعتها لأقول لها: يخيل إلي بل أكاد أعتقد أنني عرفتك قبل الليلة، وأننا تحاببنا وتعاشرنا فهيا نعشق عشقًا جديدًا!

إن كان هذا فكرها فقد أخطأت خطأً جسيمًا، فقد كانت الفكرة قوية عندي وقد تملكتني بحيث لم أشعر بميل جثماني إليها على الرغم من تلويها وتثنيها وتصنعها ورفع ذراعيها إلى رأسها، وتشبيك أناملها الناصعة الشفافة فوق شعرها الفاحم وهذا وضع أنثوي فاتن للرجل.

ولو كانت رغبتي أقوى من عقلي لأقبلت عليها، فإن امرأة تجالس شابًّا في شرفة بيت إلى ما قبيل الفجر لا تفعل ذلك وهي تعلم أنها لا تتلقى الحكمة من فيه، وأن شابًّا في مثل سني لا يفعل هذا إكرامًا لذكائها وفطنتها، وأن امرأة تلح هذا الإلحاح وتتبع رجلًا هذا التتبع لا تفعل هذا حبًّا في فلسفته ولا طمعًا في ماله فلم يكن لي مال.

إنني أقبل كل تعليل إلا أني كنت مخدوعًا في شعوري وفكرتي. إن هذه حقيقة ثابتة مطلقة لا بد أن نكون التقينا. ولكن متى وأين؟

هذه نعمة الله على الإنسان إذ لو وعى ماضيه لهلك وجن، وانشغل بالماضي عن الحاضر وبالحاضر عن المستقبل وضاعت عليه الحياة ضيعة لا تعوض، فالذي خلق الحياة الأخرى والذي جمع بين الأرواح في أدوار وأطوار سابقة لا يعلم مداها إلا هو، هو أيضًا الذي منحها نعمة النسيان، ويكفي أن تشعر بأنك رأيت وعرفت، ولو أن الذي عرفته آتٍ من أقصى الأرض.

تم هذا اللقاء العجيب بمصادفة عجيبة، وقد ترعرع التعارف ونما وبدأ ببغض من ناحيتي وإقبال شديد من ناحيتها، وإعراض تام من ناحيتي وإعجاب وتعلق ناحيتها، وبقدر ما كنت مصممًا على القطيعة والفرار، كانت مصممة على الاتصال والتمسك بي.

هل أعد هذا فوزًا لها وهزيمة لي؟ أم أعده لقاءً محتومًا وقضاء مقدرًا، وبداية الأمر ما يزال عني خفيًّا وهو مدون ومسجل في كتاب القدر؟

ولكن كنت عقدت عزمي على عمل أعمله قبل أن يتنفس الصبح.

دخلت إلى غرفتي وأضأت نورها وأخذت أحزم كتبي وثيابي وأربط أوراقي؛ لأنني عزمت على الرحيل مبكرًا عن لوزان بل سويسرا بأسرها، لقد كان الفرار الأول والأخير من امرأة.

لم يكن من السهل أن تقهرني أو تغلبني على أمري أو تجبرني على التعلق بها امرأة كائنة من كانت.

أليست هي التي تعقبتني من بيت إلى بيت، وهي التي استعملت دهاءها لتجرني إلى بيتها، وهي التي كنت أفر منها وأتحاشى لقاءها وهي التي استبقتني إلى ما بعد نصف الليل لتقول لي: لعلك دخت من طول السهر وشعرت بحاجة إلى الرقاد، لتزحزحني.

ولو أنني عرفت روحها في عالم آخر أو حياة أخرى فلم تكن وحيدة بين سكان ذلك الكوكب المجهول أو الجنة الموقوتة، وربما كان العثور على غيرها أولى من العثور عليها.

وبعد أن فرغت من حزم أمتعتي والاستعداد للرحيل، قضيت البقية الباقية من الليل في اختيار المكان الذي ألجأ إليه.

لا بد أن يكون مكانًا أكثر حركة وأملًا وأرحب صدرًا وأطلق حرية، واستعرضت مالي وحسبت حسابي وأخرجت الخرائط، وقست الأبعاد وتذكرت المدن والبلاد، فإذا اسم يبرز أمامي من بين الأسماء كشعلة مضيئة «باريس».

إلى باريس

في الصباح الباكر حملوا إلي الإفطار فلم أذقه، واستدعيت مدام بروشيه وسددت لها حقوقها، ففجعت العجوز بخبر ارتحالي قبل إنذارها، وتشددت في بقائي أسبوعًا وأسرفت في الوعود بزيادة العناية بإقامتي وتغيير غرفتي إن شئت وتبديل طعامي إن رغبت «فقط وحسب لا تفارقنا على هذه الصورة المفاجئة!»

وكانت المرأة شيخة في السبعين من عمرها، قصيرة القامة بقدر ما كان زوجها طويل القامة، وكانت مجعدة الوجه ولكن وجهها يشعّ بنور الفضيلة والصبر والكفاح، وزوجها شيخ أشيب يكاد يكون ملكًا كريمًا نقي السريرة محبًّا للخير العام بعيدًا عن الأثرة صديقًا لعظماء عصره، ملمًّا بتواريخ العالم والآداب والعلوم، خبيرًا بجملة من الألسن يجيدها، وهذا هو الآخر جاء يستبقيني ويرجوني ويستعطفني حتى أوشكت أن أشفق عليهما، فأبقى وأنقض عزيمتي، وظننت أن زيادة الدفع يلهيهما عن الإلحاح في إطالة إقامتي، فنقدتهما ما يعدل إقامة أسبوع فغضبا وتأسفا وعاتباني على اتهامي إياهما بالطمع في مالي. وأخيرًا قلت لهما: إنني أفر من امرأة وإنني لا أطيق العزلة بعد الآن ولا أحب الاقتصار على طلب العلم وإطالة الدرس، فإن هذا ينخر شبابي ويوهن عزمي ويشعرني بكهولة مبكرة وأنا في الثانية والعشرين من عمري، فلست راهبًا ولا خلوتيًّا ولا صومعيًّا ولا زاهدًا ولا مستغنيًا عن الحب ولا عاجزًا عنه، كفاني قراءة ودرسًا عشرين عامًا، أكاد أموت من الغيظ والحرمان. لست أطيق بعد ذلك صبرًا، أتريدان أذبل في هذه المدينة الساكنة كأنها حسناء ميتة، أتريدان أرى البحيرة والجبال والقمر والوديان ونور القمر ثم أعود إلى غرفتي بين أربع حيطان؟ فافسحا لي الطريق حتى أنجو بنفسي قبل أن أغرق أو أحترق.

ولقد بللت دموع بروشيه لحيته كقطر الندى على باقة من أزهار الفل اليانعة، وأخذ يلهج وا ولداه وا طفلاه! لقد فهمتك.

وبكت امرأته كما تبكي الأمهات عندما يجدن أبناءهن في حرج يبدأن بالغضب ثم ينتهين بالحنان والألم، وخرجت مسرعة وهي تقول: اتركه يا بروشيه فقط وحسب أريد أن أصحبه إلى القطار. لا تدعه يسافر دون أن أعد له الغداء والعشاء فإن السفر إلى باريس طويل.

أما بروشيه فلم يتمالك نفسه وهو يقول: لقد خرجت زوجتي العجوز، الحق معك وأنا معك … أنت أحق الناس بالعناية وأجدرهم بالمحبة. أنت صريح أنت شريف! فقط وحسب عليك أن تحافظ على نفسك لا تخاطر بحياتك وصحتك.

ثم قال هامسًا: من المرأة التي تفر منها؟ أليست هي هذه الروسية الثرثارة؟ … هي بلا ريب أكاد أقسم على ذلك … لا تنظر إليها ولا تكترث لها. فقط وحسب أقول لك: إنها ليست جديرة بهذا الشرف، شرف فرار رجل مثلك من مطاردتها ما لم تكن قد وقعت في حبائلها وأحببتها. وهذا أيضًا إن كان قد حدث فأعرض عنها يومًا تنسها في عشيته … الوداع يا صديقي الوداع يا ولدي، لا بد أن أصحبك إلى القطار وأوصيك أن تكتب إلي كلما شعرت بالاحتياج إلى مشورة صديق خبير.

ثم انحنى وقبلني في جبيني.

ولكن هذا كله لم يزعزع عزيمتي، لقد صدقت نيتي على الرحيل إلى باريس، وقال بروشيه: إني أفرح إذ أراك تسافر إلى باريس مدينة النور وعاصمة العلم والسياسة والاجتماع وسرة الدنيا ومعرض الفنون، وأوصيك بغشيان المكتبات العامة والمتاحف، وأحذرك من النساء!

وكنت أحب كل الذي أوصاني به.

غادرت محطة لوزان دون أن أودع المليحة الملحة، ولما صرت في القطار أخذت آكل مما أعدت لي مدام بروشيه، ووصلت في الهزيع الأخير من الليل، فانتظرت في «الاستراحة» حتى الصباح، ورحت أضرب في طول العاصمة وعرضها حتى اهتديت إلى فندق «نوتردام دي لسبرانس» — سيدتنا ذات الأمل — في شارع فوجيرار على مقربة من مونبارناس وميدان المرصد ومدرسة الفنون الجميلة وكنيسة سان چرمان ومعهد الأكاديمي وشارع رين وبولڤار راسپاي، وكان لي بها عهد قديم منذ عامين (١٩٠٦)، إذ وردت العاصمة شابًّا طروبًا متفرجًا لا متعلمًا ومشتاقًا لا مساقًا، ومتطلعًا لا ضائقًا.

فلما استقر قراري في الفندق أخذت أجوس خلال الميادين والطرق، فرزت حدائق فرسايل وقصرها، وتخيلت ماري أنطوانيت جالسة على المقاعد الصغيرة في غرفة جلوسها التي ما زالت على حالها بعد موتها.

وما زلت في باريس أقرأ وأكتب وأشهد التمثيل في أرقى الملاعب، وأغشى مجالس الأدباء والعلماء حتى نسيت المليحة الملحة وتوارت في خزائن الذاكرة ذات المغاليق المحكمة الأقفال.

إنها لم تشفق علي ولم تراع شبابي وزعمت أن قولي: «لقد نشعر أحيانًا في حضرة شخص أنا التقينا به في عالم آخر» — هو من بحران الحمى أو من تعب السهر، إن لم أكن قد اتخذته حيلة ابتكرتها لأستدرجها. لقد كنت مخلصًا وصادقًا فعبرت عن خاطر عابر.

ولكنني كنت أنتقل رغم نفسي إلى تلك الشرفة بلوزان، وأرى بعين الخيال أيدي تلك المرأة البعيدة، تلك الأيدي الناطقة المتحركة التي كانت تعين لسانها في توضيح فكرها والإفصاح عن خواطرها، وشعرت بأنني كنت في تلك اللحظة منذ أيام وليالٍ معدودة أغلي غليان البركان، وأن تلك المرأة كانت تختبرني أو تجربني أو تشعلني بنيران الرغبة فيها تحت ستار الأدب والفن والروح وما إليها من اصطناعها. لقد فررت منها ونجوت بعقلي وقلبي.

متحف جوستاف مورو

نزلت في تمام السابعة من الفندق واخترقت پولڤارسان ميشيل (بول ميش) وشارع مونسيو ليبرانس وشارع مدام وباب متحف لكسمبورج ومجلس الشيوخ والحديقة الغناء، فدخلتها من بابها البحري وقصدت إلى تمثال ڤينوس، ولم يكن أحد من روادها قد تيقظ، غير أن فتيات باريس العاملات بدأن يردن مخترقات سبلها لاختصار الطريق بين شارعي لكسمبورج وداساس وميدان المرصد ومونبارناس، وكلهن ذوات ملاحة ورشاقة وفتنة وأناقة، وبينهن السمراوات كالرماح السمهرية والغضات البضات كالدجاج السمين والصفراوات الرقيقات كتماثيل العاج، وكلهن ضاحكات فرحات وقد يكون على كاهل الواحدة منهن ما ينوء به كاهل الرجل، وبعضهن مصحوبات بعاشقيهن وهم على موعد أو في توديع الصباح الذي يتلوه لذة اللقاء عند الظهر أو في المساء.

وكانت لي رغبة من زمن طويل أريد أن أحققها، وهي أن أزور متحف جوستاف مورو، فاتخذت مقعدي في عربة عابرة حتى بلغت متحفه وهو بيته الذي كان يعيش فيه ووقفه على آثاره بعد موته.

كان المتحف بدعة لا مثيل لها، فقد تمكن هذا المتفنن الجبار أن يرسم أعظم الصور في الموضوع والمغزى في لوحات بقدر أظفار الأصابع، وجعل لكل منها إطارًا يناسبها، والعجب في أمر هذه التصاوير العجيبة أنها واضحة جلية كأنها مصنوعة على لوحات كبيرة، ولا ينقصها شيء من التفاصيل التي ترى في الصور الطويلة العريضة، لقد كان هذا المتحف كشفًا جديدًا لي، وقد زرت اللوڤر، ورأيت لوحات روبنز مما يقاس بالأذرع والأمتار لا بأطراف البنان.

فهذه رقصة سالومية، ترى عينيها وفمها وانفعال الفن والهوى واضحًا في نظرتها، وترى دقائق جسمها المغطى بالأقنعة الرقيقة، وترى رأس يوحنا المعمدان وعليها أثر الذبح، وترى الدماء المتفجرة من عنقه وعينيه المنطفئتين ولم تغمض أجفانهما. وهذه صورة آدم وحواء والأفعى والتفاحة والشجرة بألوان ظاهرة، حتى أشعة الشمس التي تخترق أغصان الشجرة وأوراقها.

وظننت أنني أدركت السر في فن مورو فقلت: إنه الرسم الدقيق بالقلم قبل التلوين والدهان وأنها الفكرة الثابتة في ذهنه والقدرة على إبرازها، كالشاعر الذي ينظم بيتًا واحدًا فيه كل الجمال والمعاني المرغوبة، والآخر الذي ينظم ديوانًا كاملًا، وصانع العطر الذي يركزه في خردلة والآخر الذي يبيعك رطلًا ببضعة فرنكات ولا خير فيه.

رسالة

وضعت يدي في جيبي مصادفة فعثرت أناملي على أوراق شعرت بأنها غلاف، فأخرجته، فإذا به خطاب بعنواني بقي في قاع الجيب عفوًا وأنا أنقل البريد إلى الحقيبة الصغيرة، وترددت في فض غلافه ثم نظرت فاشتبهت في أن يكون بخط امرأة، وامرأة مجهولة لدي لم أر أثر يدها من قبل، وأخيرًا فتحته فإذا فيه:

لوزان في ١٧
سيدي العزيز

لا بد أنك تدهش من كتابتي إليك. لقد حصلت بعد لأي على عنوانك من الأستاذ بروشيه لقد عذبني كثيرًا حتى سمح لي به. واحتجت إلى وساطة زوجته وأوهمته أنك نسيت لدي شيئًا ثمينًا لا بد أن يصل إليك. وقد قال لي: إنه يفضل أن يبعث به مهما كلفه ذلك على أن يعطيني عنوانك بدون إذنك. إنه محق وشديد التقدير لك، ولو علم اللغو الذي أكتبه إليك لأبى ولو بجدع الأنف أن يبوح لي به. فأرجو أن تعرف له هذا الجميل، ولكنني أعتقد أن هذا الاعتذار لا يقوم شفيعًا لديك.

كيف سافرت إلى باريس «وخنت الود بدون ميعاد»؟ لعلك استأت مني في اجتماعنا بالشرفة. لقد كنت مخبولة وربما فاقدة العقل فلم أستعمل الحذر كله في مخاطبتك … فغضبت وجعلت بيني وبينك هذه المسافة الطويلة. لقد خرجت من لوزان وغادرتها لتبتعد عني، لقد حدثتني نفسي بذلك وأنت تصافحني، لقد هممت أن أستبقيك لأعتذر إليك وأرضيك مهما كلفني. ولكنني خجلت وأن أعلم أنك تغادر لوزان ولن أراك بعد الليلة، فلو حدث أنني لا أراك فأنا أستسمحك وأسألك العفو. لقد التقينا كما تلتقي السفن الماخرة عباب البحر في الظلام، فلم أستبن معالمك ولم تستبن معالمي وقد سار كل منا في طريقه.

من يدري؟ لعلنا نلتقي. إنني أشعر بذلك بل أكاد أكون واثقة منه. كما كنت واثقًا من أننا اجتمعنا في عالم آخر. ليتني أيدتك وشجعتك فقد كنت صادقًا مخلصًا، إنني أيضًا شعرت بهذا الشعور؛ ولذا اضطربت ووجلتُ ولا أدري لماذا. ليتني لم أفه بتلك الكلمة الخرقاء «لعلك تعبت من طول السهر». بعد أن غادرتني لم أنم. لقد شعرت أنني فقدتك إلى الأبد. ثم عاودني الأمل في لقائك. هل تشعر بذلك. إن مثلك لا يتعب من السهر مهما طال. إنك تعيش في الليل أكثر من عيشتك في النهار، إن حيويتك تبدأ بغروب الشمس وتتقوى بانسدال الظلام، ثم تبلغ أشدها بعد نصف الليل. لقد كنت عمياء صماء حمقاء. إذا سمحت لي فإني أحضر إلى باريس للقائك، إني أعرف شارع فوچيرار ولكني لا أعرف الفندق. ولكن المهم عندي أن أراك. إن لوزان تضغط على أعصابي، أكاد أختنق من جوها الصامت. لم أتحدث إليك. وعندما بدأت تفتح لي قلبك صدمتك بحماقتي، وكان علي أن أحوطك بالحب والعناية، حب الأخوات والأمهات، إن والدتي تذكرك دائمًا وتقول: (أقسم لك إنني لست مرائية ولا خادعة) أتعلمين يا أوجستا إنه نبيل الوجه والقامة، ألا تذكرين جبينه العالي ونظرته الهادئة الفاحصة وحياءه الجم؟ ولكنها لا تعرف ما جرى بيننا ولو عرفته لأنَّبتني. لقد كانت تحس بك الأنس والحماية وترجو أن تدوم علاقتنا؛ لأننا في حاجة معنوية إليك. فماذا أصنع.

بعده (في نفس الخطاب):

لقد ترددت كثيرًا في إرسال هذا الخطاب إليك وحاولت الاحتفاظ به، ولما امتنع بروشيه عن إعطائي عنوانك قلت: هذه رغبة القدر في أن لا أتصل بك. ولكن امتناعه أذلني فصممت على أن أحصل على العنوان علاجًا لجرح كرامتي. إن سكوتي وقبولي كان معناهما أنني خطر عليك وأنه يقيك شري ويحافظ عليك من شيء يؤذيك. فلم أرض أن أكون شيئًا مؤذيًا لك. ولا أظن أنك أوحيت إلى هذا الشيخ الطاعن في السن أن يقطع بيني وبينك؛ لأنك لو أردت هذا لما استطعت؛ لأنك سافرت متعجلًا في الصباح. لقد قصدت إلى بيته لأعتذر إليك فصدمني بخبر سفرك، حتى لم أصدقه في بداية الأمر.

فلما تحققت تأكدت أنك هجرت لوزان لأجلي. يا له من عار ويا له من ندم، ويا ليتك لم تزرني في بنسيون موران، ولكن الذي كان ووقع كان مكتوبًا. لعلني لا أرسل هذا الخطاب إنما أكتبه لأنفس عن نفسي، إذا وصل إلى يدك فاعلم أنه صرخة إخلاص وعقوبة أنا بها خليقة. لو اطلعت أمي على كل شيء لشاركتني في الاعتذار إليك؛ لأنها أحبتك وأعجبت بك. قالت: إنه سيد من النوع القديم ولو كان شابًّا. إنه وارث فلم أسألها عن ميراثك. إنما هي تقصد ميراث الخلال الكريمة التي كادت تنقرض من الدنيا.

هل تصفح عني؟ إن صفحت فاكتب لي.

(بعده):

ما زلت أتلو هذا الخطاب الطويل وأخجل من قراءته، ولكن مثلي لا بد لها أن تذل نفسها لتكفر عن سيئتها ولو لم أشعر بالميل إليك.

إن بلغك هذا الخطاب فمزقه ولا تحتفظ به.

كيف حالك في باريس؟ هل أنت سعيد وهل تقرأ كتبًا جديدة جميلة؟ وهل لك أصدقاء أو صديقات؟ إن باريس مدينة فاتنة … وخطرة ولست أحذرك منها ولكنني أخشى عليك فتنتها وفتنة النساء. ليس لي حق في هذا التحذير إنه فضول مني وتطفل. لا شك أنك رزين ومتزن ولا تقع في أفخاخ النساء المنصوبة في كل مكان. يا حبذا لو وجدتك في باريس إنني إذن أصحبك إلى متاحفها ومكتباتها وآثارها وكل جميل وثمين فيها، فإني بها جد خبيرة ولي فيها أصدقاء كثيرون من رجال الأدب والثورة أعرفك بهم جميعًا. ولكن هل يصح هذا الحلم الجميل. أبعث إليك بماذا؟ لقد كذبت على بروشيه لأحصل منه على عنوانك. ولكنني أرسل إليك بعض الكتب وبعض عسل سويسرا، ونصيبًا من جبن جرويير اللذيذ الطعم وفطير صنعته أمي. إنه طرد خفيف أرجوك أن تقبله هدية ولا تغضب علي.

(بعده … في ساعته ومكانه):

أؤكد لك أنني لا أعرف أحدًا من الرجال ولم أتصل بأحد غير زوجي، ومنذ خرجت من وطني أعيش عيشة الراهبات. صدقني أو لا تصدقني ولكن أقول الحقيقة لأنفس عن صدري. وأنا أعلم أن هذا لا يهمك؛ لأنك كنت تبغضني وكنت أسعى للحاق بك في كل مكان حتى قال لي بروشيه كلمة جارحة تحملتها على مضض: «لم تطاردين هذا الشاب يا سيدتي، إنه طالب مجتهد فدعيه.» هل شكوتني إليه؟ إنها كلمة كبيرة إنها تهمة لي بالخنا وهو يعلم أنني طاهرة الذيل. لقد فقدت احترامه لأجلك ولا ذنب لك ولا أجر لي. لست أدري متى أعزم على الرحيل من هنا إلى باريس، ولكنني أخشى أن أضايقك أو أقطع عليك حلمك اللذيذ، لعلك الآن مع فتاة فرنسية جميلة، باريسية حسناء. فتهزأ بي وبخطابي. إن كان كما أقول فأرجوك أن لا تطلعها عليه. إنهن لا يفهمن عواطفنا وأنت أشرف من أن تبيعني بثمن بخس. مزقْ خطابي ولا تقرأه واجعل ثمن وفائي أنك تصونه عن أعين النساء.

والآن قد أطلت عليك وألححت. إلى اللقاء أو الوداع. لا أدري. عنواني ببنسيون موران وإن شئت ففي شباك البريد سأذهب لأسأل عن جوابك كل يوم صباح مساء إلى أن يصل كما كنت تذهب لتأخذ بريدك. وكلما مررت ببناء البريد أصعد الدرج لأتذكرك.

أوجستا

فرغت من قراءة الخطاب وأعدته إلى غلافه ووضعته في جيبي الداخلي، ولكني فقدت هدوئي ومسرتي، لقد نغصت هذه المرأة ساعة زماني وسممت مجلسي وعرفت كيف تواجه قلبي.

لقد كتبت ببساطة تكاد تكون إخلاصًا ولا غاية لها من مطاردتي على أجنحة البريد، لقد كان خطها رديئًا جدًّا وغامضًا بل غير مقروء، وكان عليَّ أن أقرأه مرات لأستبين ألفاظه ومعانيه، ولكني قرأته للمرة الأولى قراءة ظاهرة، وقلت في نفسي: إن المهم أن أهملها وأفترض أنني لم أستلم خطابًا ولا كتابًا.

وارتفع قدر بروشيه في نظري ولكني لمته في قلبي، فليس من حقه أن يبوح بعنواني لهذه أو لسواها، وأي ثمين تركته عندها حتى يصدق بروشيه حيلتها، إنه فعل فعل أرباب الفنادق إذ يتجسسون ويبيعون أضيافهم بيع السماح. لعله أراد أن تبقى له يد عندها فباعني وأطلقها ورائي، فما علي إلا أن أغير عنواني وأتحول عن نوتردام دي لسبرانس هذه، وأن لا أترك عنوانًا أو أترك عنوانًا مفتعلًا فلا تتمكن من إيصال صوتها إلى أذني.

لم أحمد الله على شيء حمده على توفيقي إلى الفرار من لوزان إلى باريس، لقد تجسمت مخاوفي وتجسدت عاطفة البغض نحو المرأة في نفسي، تلك المرأة الروسية الغامضة التي حاولت اللعب بي.

٢

جولة في باريس

لقد زرت باريس قبل اليوم زيارة خاطفة في طريقي إلى إنجلترا سنة ١٩٠٦، ولكني لم أر منها شيئًا في تلك الزيارة السريعة غير غرفة الفندق ومكتبة في شارع ريڤولي دخلتها واشتريت منها ترجمة نابوليون بونابرت لبوريين، إذ كان هذا البطل العظيم أحد أبطال خيالي، وزرت قبره وأطللت على نهر السين بنظرة عجلى، ثم برمت بالحياة في بلد كبير لا أعرف كلمة من لسان أهله.

وزرت كنيسة نوتردام دي باري لذكرى هيجو الذي وصفها في أحدب نوتردام، ومررت على «المورج» البشع وهو معرض جثث القتلى والمنتحرين الغرقى، فاقشعر بدني عندما رأيت حسناء صريعة مطروحة على لوح من المرمر ملتفة في رداء أسود وكان وجهها ظاهر الجمال محتفظًا بمحاسنه بعد الموت الأليم، فحزنت وتوجعت وحقدت على الحياة والموت، وأحسست في قلبي وأنا أقطع تلك الشوارع أن في كل خطوة وزاوية قد جرى جانب من التاريخ، وكذلك في كل زاوية وخطوة قد جرت دماء صرعى المبادئ وصرعي الآمال وصرعى الهوى، وأحسست أن الذي يؤذيني اشتداد حساسيتي.

ولم أشعر في زيارتي الأولى بأن باريس البلد الوحيد الذي يفهم الحرية؛ لأن الحرية في نظري ثمرة الصراع الذي جرى في الثورة الفرنسية، أما الحرية المعاشية التي يستمتع بها الرجال والنساء فلم أدركها؛ لأنني لست في حاجة إليها إذ كنت زاهدًا.

ورأيت في شوارع باريس موكبين، موكب زفاف وموكب جنازة ولعلي رأيت هذين النقيضين للمرة الأولى في حياتي، فوقفت وعجبت كيف وقع مشهد الموت على قلوب العروسين الطائرين على جناح المركبة المزدانة بالورود، وكان النعش المستعجل مزدانًا بالورود أيضًا، ما أشق عمل الأزهار! وما أصعب موقفها بعد قطفها، وإنه من الخير أن تموت بعد الاقتطاف فورًا، فإنها لا تدري أتحمل هدية إلى معشوقة مدللة أم زينة لشعر راقصة وصدرها، أم تحفة لعروسين، أم تحية وداع للموتى! ما أضيق خيال الإنسان! لم يجد غير هذه النباتات الزاهية الملونة العطرة ليعبر بها عن عواطفه في الزينة والفرح بالحياة والتقرب إلى الأنثى وتقديس رابطة الزوجية ثم مشاركة الثاكلين واليتامى والأيامى في أحزانهم. وكذلك الموسيقى قد جعل الإنسان منها لغة عامة مطلقة. ترى ما كان يصنع لو عاش بغير موسيقى وأزهار؟

قضيت سهرتي وحيدًا في أحد مقاهي مونبارناس، ورأيت أناسًا من كل جنس ولون ونساء مانحات أفواههن وأفخاذهن لكل جالس أو عابر. ورأيت انبثاق الفجر في بولڤار راسپاي وأحسست بحنانه مرة … بعد مرة، ذلك الفجر الذي ينحني على الأشجار ويقبل أوراقها وأزهارها، ويعتصر خصور أغصانها اللدنة ويهزها نسيمه بلطف ويهمس في آذانها سرًّا من أسرار الليل الحافل بالخفايا.

وإذ كنت سائرًا في طريقي لأفطر في قهوة من قهوات بولڤار سان ميشيل أو مطعم من مطاعم الأوديون، رأيت شبانًا وكهولًا يقبلون فتيات في الطريق قبلات طويلة حارة على أعين العابرين وتحت ذقون الشرطة وفي الأركان الهادئة فدهشت.

طيف المليحة الملحة

ولكني أعود فأحقد على تلك المرأة التي كانت في تلك الشرفة المطلة على البحيرة والجبال. إنها لو قدمت إلى الآن وطرحت نفسها على قدمي فلن أعطف عليها ولن أشتهيها. إن الذي شغلني بها في لوزان شعوري بأنها ممتلئة حياةً وفطنة وذكاء وفصاحة. وأنني بعد اللقائين الأولين جعلت ألاحظها وأدرسها لأقف على سرها، فكان يخيل إلي أحيانًا أن جمال روحها يتغلب على جمال جسمها. وقد وهمت أنني تغلغلت في قرارة نفسها؛ لأنني لم أكن في علاقتي بها مشغوفًا بالجسد بل كنت مشغوفًا بالروح والعقل. وكانت هذه الروح تطل أحيانًا من عينيها وتغازلني وتفتنني في لمحة بصر، ثم تعود أدراجها مختفية وراء حدقتيها اللتين كانتا بلون المخمل السنجابي، وخلف هذه الأجفان اليقظة والأهداب المستطيلة.

هل أقول الصدق عندما أحاول أن أعبر عن فكرة غريبة، إنني كنت أحب أن أمتلك روحها وعقلها امتلاك العاشق للجسد … أعقد عقد الهوى بين جسمي وبين روحها. ولكن هذه المرأة لعلها فطنت إلى رغبتي وخافت عاقبة حبي، ولعلها تندم بعد سفري وتلتمس رضاي فإذا فعلت هذا فإنني حتمًا لن أصفح عنها ولن أرضى بلقائها، ثم أعود فأتخيلها تحت شجرة من أشجار البولفار في هذا الفجر الخافت، وأعجب من هذا أنني كنت إذا أقبلت على المقهى أو المطعم أظنها جالسة في انتظاري أو مقبلة علي، إنني لم أر شبحها مرة واحدة ولكنني أحسست به مرات عدة.

كانت تلبس الثوب الأزرق البسيط في ليلة الشرفة وتجلس على مقعد طويل، كرسي الباخرة — وقد رفعت ذراعيها إلى رأسها. هل وضعت على جبينها شريطًا من الحرير الأزرق؟ إنني لا أذكر، فإن كانت فعلت فقد بلغت مني كل غاية؛ لأنني كنت أحب هذا الوضع لدى النساء، هذا الاستلقاء في ثوب بسيط وزينة الجبين بشريط، ورفع الذراعين إلى الرأس. إنه الوضع الذي تكون المرأة فيه بالغة حد الفتنة، مرحبة بالحب في حياء وخفر، صامتة، ولكن كل ما فيها يصرخ وينادي، وقد فعلت هذه الخبيثة على الشرفة المطلة على البحيرة والجبال بخيالي هذا الذي كنت أحبه وأخشاه، ثم خذلتني إذ زعمت أن السهر قد أنهك قواي.

إنني أذكر جيدًا والدتها وطفلها وقد رأيته نائمًا، وأذكر قولها حين حنوت عليه: «إن من يمسك يد الطفل بيمناه يقبض على قلب أمه بيسراه»!

ما خلق الله أجمل منظرًا من طفل نائم وأمه تنحني بعطف عليه!

لقد عرفت هذه المرأة نقطة الضعف في درعي وأنني لا أنال إلا بحب الأطفال، وكانت هذه الطبيعة عندي أمرًا عجبًا، لقد كان عمري بعد العشرين بسنتين أو ثلاث ولكن غريزة الأبوة كانت في قوية غامرة طاغية، حتى كنت أشعر أنني أب للكبار وأريد أن أكون بارًّا بكل من أرى من صبي وكهل وشيخ وفتاة وامرأة.

هل كان مرضًا ذلك الحب العام الغزير؟ يكفي تحريك هذه العجلة حتى تدور الأداة كلها، كان حبي يشمل النبات والحيوان والإنسان من زهرة الخزامي إلى شجرة الماجنا كارتا، إلى ذلك الطفل النائم الذي تذكرته … هل كنت مريضًا حتى أحب كل هذه العوالم التي لا قبل لي بحفظ أسمائها وتعدادها، أم مغرورًا في قدرتي على تغذيتها بالحب الشامل؟

٣

حفلة الفنون الأربعة

كنت أمر بميدان المرصد وببال بولييه وأرقب الفنانين وصديقاتهم، وقد روى لي صديق فوصف لي حفلة الفنون الأربعة التي تقام كل عام بساحة بولييه وقال لي بكلام هادئ كمن يقطر السم في قارورة نقطة فنقطة: إن خلاصة المنظر يا صاحبي الزاهد فهو رجوع الإنسان إلى الطبيعة دون قيد ولا شرط فهي ليلة التحرر التام من جميع العبوديات، ليلة الفطرة وأما الذي رأيته واشتركت فيه فيعجز اللسان عن وصفه؛ لأنه فوق التصور وفوق الخيال، فكل ما يمكن قوله وفعله في تلك الليلة فيقال ويفعل ولا حرج ولا غضب. وبعد تلك الليلة بقيت نصف شهر كأنني في حلم عميق وغباء مطلق، وخرجت أسأل نفسي لماذا لا يستمر الناس على هذا النوع من الحياة، لقد صارت الدنيا والناس في نظري بعد تلك الليلة تفهة خاملة باردة، إذا بقيت في باريس إلى الموسم فإنني بلا شك أدخلك إلى هذه الحفلة.

فجفلت من هذا الوصف، وقلت له: أنا أدخل هذه الحفلة؟ لا تظن ذلك يا صاحبي. أنا لست إباحيًّا ولا متهتكًا ولا أحب الإباحية ولا التهتك أنت مخطئ في وهمك. أنت تدعوني زاهدًا هذا حسن ولكني لست زاهدًا إلا باختياري، ولكنني إذا خلعت رداء زهدي فلا أصل إلى ما تصف مطلقًا، إن طبعي يأباه. إنها حيوانية محضة، إن الحب الصحيح يحتاج إلى السر والكتمان، أما هذا الذي تصفه فلا أعرفه ولا أتذوقه ولا أتوق إليه. أتعلم أن وحوش الغاب التي تفترس الحيوان لتطعم تأبى أن تجتمع اجتماعًا كالذي وصفته؛ لأنها تتستر وكذلك الطير والزواحف. فهل تريد أن يكون الإنسان أقل منها، أنا أفهم التقبيل والعناق في الطريق وفي البساتين وعلى أفاريز السكة الحديد عند الوداع، ولكن إحياء ليلة بطولها رضاء للحواس فلا. لقد قرأت وصف الفنانين والمثالين وأخبار المصورين والنساء الذين يتخذونهن (مناقل) و«أمثالًا» عاريات، فراقني كل شيء منها إلا أن ينتهك الفنان حرمة الجمال الذي نقل عنه لوحته أو تمثاله. أترى لأناتول فرانس في أحد كتبه يصف تمثالًا «فاتنًا» صنعه فنان منذ أربعين عامًا، وكان يزوره الكاتب ويعجب به، كان تمثال امرأة رائعة الجمال، لم يخلق الله أجمل منها في باريس. وقد رأى امرأة شيخة دميمة متدلية الشفتين، بائسة جالسة على عتبة داره فلم يكترث لها فقالت له: إن السادة الأماثل يحييون السيدات فعجب لها ولجرأتها وهي في هذه الحال من الشيخوخة والدمامة والفقر. ورآها ثانية وثالثة ورابعة فصار يحييها ويرفع لها قبعته، وألحت عليه فطرة الاستطلاع فسأل عنها حتى علم ما لم يكن يود أن يعلمه … إنه الأصل الذي نقل عنه الفنان ذلك التمثال المعبود منذ أربعين عامًا، فصعق الكاتب ورأى أن يكفر عن ذنبه بتخليد اسمها في كتبه والاعتذار إليها والإحسان إليها قبل أن تموت. أترى هذا؟ إن الجمال زائل وإن الفكرة باقية؛ ولذا لا أرى أن يلوث المصور أو المثال معنى الجمال الخالد بامتلاك جسم الفتاة التي يورثها البقاء بفنه، بعد الزواج بين عقله وجمالها لا يجوز له أن يعقد زواجًا بين جسمه وجسمها. فكيف بهذا الانتهاك الذي تصفه في ساحة بولييه ليلة بطولها؟

فضحك صاحبي وقال لي مازحًا: «إن كل فتاة باريسية ترى أنك طالب ريفي، ولن ترضى عنك واحدة. ولو قلت لهن عشر ما قلت لي فإنهن يهجرنك إلى الأبد بعد أن يضحكن عليك ويسخرن منك. حذار أن تبوح لإحداهن بهذه الحنبلة العتيقة المضحكة».

فلم أتأثر بهذا الحديث.

بين فلوبير وجي دي موباسان

كنت أحب بارك مونصو وأحب أن أجلس إلى تمثال جي دي موباسان؛ لأنني قرأت كتبه وكانت المرأة الروسية حدثتني عنه؛ لأن أبناء جنسها يقرءون كتبه أكثر مما يقرءون إميل زولا، وقالت لي: إذا تذكرت وجه المرأة الراقدة تحت التمثال تقرأ في دلال وتفكير أحد مؤلفات الرجل، وجدت أنها تشبهني شبهًا شديدًا وهذه مصادفة غريبة. فكنت في زيارتي الأولى أقصد إلى تلك المقارنة لأتبين صدقها ثم صرت أزور لأستمتع بها وأتوهم أنها هي، ولكني بعد ذلك صرت أمقت التمثال وصاحبته وأعرض عنها وأقصر تأملي على وجه موباسان. وكان هذا الآخر كالثور العريض القفا، كان ذا عنق صلب غليظ كبني إسرائيل وله وجه فلاح فرنسي وقسوة خلقته وشاربان سميكان كثان كنبات بري ينبت وينمو بغير تشذيب. ولكن هذه الغلظة في الخلقة تزول من ذهني عندما أمعن النظر في عينيه وجبينه، لقد كانت عيناه تفيضان رحمة وعطفًا وذكاءً، وكان جبينه كصندوق من الفضة اللامعة حسن الصنع، ملآن بالجواهر الثمينة والتحف الغالية، كان جبينًا مسطحًا فسيحًا عاليًا كباب قصر منيف نبيل. وكنت أحب موباسان حبًّا جمًّا؛ لأنه أسعدني أيامًا وليالي لا تحصى، وعلمني كثيرًا من دروس الحياة وفتح عيني على طبيعة الرجل والمرأة ورفع لي عن كثير من قناع المجتمع، وحاز إعجابي لرشاقة أسلوبه ودقة تفكيره، وهو لا ريب أعظم قصاص في العالم ورب القصة القصيرة، يكتب وكأنه يحفر في مرمر ويختار اللفظ الشريف للمعنى المنيف، ويصنع الجملة كما يصوغ الصائغ حلقة الذهب، ويدمغ مظالم الإنسان بطابع من النقد المرير، ويفضح الغفلة والبلاهة دون تنديد أو تشنيع، وقد فهم طبيعة المرأة بأفضل مما فهمها زولا أو فلوبير. إن عند فلوبير زانية واحدة وهي مدام بوڤاري، ولكن موباسان تعج كتبه بمن فقنها في الشغف والشوق والخبث والاستهتار، وإن فلوبير عاش ومات أسير اللفظ والجملة والتركيب والصياغة والقوالب، أما موباسان فقد أسر اللفظ والجملة، واستولى على التركيب والصياغة والقوالب، لقد كان فلوبير أستاذًا عظيمًا ولكن موباسان كان راوية وفنانًا وقصاصًا وعالم نفس وإنسانًا.

كنت أعلم أن فلوبير خاله وأنه علمه وأرشده وأمره بإحراق كثير من مخطوطاته قبل نشرها ليدربه على التضحية، فإن الكاتب والشاعر لا يصل إلى شيء إن لم يُضح بما كتب أولًا وثانيًا وثالثًا.

وكنت أعلم أنه توفي فاقد العقل في مستشفى دكتور بلانش، نتيجة الإفراط في الغرام، كان متقدمًا في السن، وكان وهو في الأربعين من عمره يحب الأفريقيات والأمريكيات وسائر الأجنبيات ولا يهدأ مطلقًا. لقد عمر خاله ولكن أورثه حب الأفريقيات؛ لأنه سافر إلى تونس ليتزود من وصف قرطاجنة قبل أن يخط سطرًا واحدًا في «سالامبو»، ولكن ابن أخته عشق سالامبو لحمًا ودمًا. لقد فضحه خادمه فرانسوا.

«الهال» سوق باريس

وفي ليلة من الليالي دعاني صديقي إلى «الهال» … ما هو الهال؟ إنه سوق الخضر واللحوم والأسماك والدجاج والزبد والأزهار والطعام والشراب وسوق الجمال الريفي والدمامة الباريسية، بطن باريس وأحشاؤها … ولكن لا بد من الذهاب إليه في الهزيع الأخير من الليل.

فلما بلغنا الهال تخيلت أنني في معبد كبير أقيم لتمجيد الزاد، وإنه لكبير حتى يأبى الحصر والعد وأن الوارد عليه من الخيل والمركبات المحملة والعجلات الموسوقة لما يعجز عنه القيد بالفكر أو بالقلم، وليس ثمة أغرب ولا أعجب من ذلك الحشد الصاخب من النساء والرجال والغلمان والفتيات والحمالين والحوذية وباعة المآكل المطهية المعدة للطاعمين، وإنهم ليعدون بالألوف وهم يروحون ويغدون رافعين خافضين يزنون اللحوم والطيور والفاكهة، وينزلونها منازلها ويصففونها ويبينون أثمانها وينادون ويصيحون ويصخبون ويعرضون المئونة بالقطع بأبخس مما يبيعها تاجر المدينة بالجملة، إنك تأخذ أقة الخوخ بنصف فرنك وقد تدفع ثمنًا للخوخة الواحدة ثلاثة فرنكات في مطعم شهير، وترى الأسماك تلعب في أحواض من المرمر ملآنة بالماء فتختار منها ما قيمته فرنك واحد، فإذا هو يعدل عشرة فرنكات في الأسواق الأخرى. أما الزبدة فتلال وهضاب، وأما اللحوم فألوف الأطنان. وأما الخضر فحقول فكأنها جمعت لتموين جيش محارب لبضعة أشهر لا لتغذية مدينة يومًا وليلة. ما هذه الأرزاق وما مصادرها ومواردها؟

وكنت أسير وألتفت إلى كل عجيب وغريب وأنا أعلم أنني أرى صورًا وسحنًا ومناظر لم يجعل الله لها ضروبًا ولا أشباهًا في أي مكان آخر غير باريس. إن بابل نفسها لم تر منظرًا كهذا، ولا رومه وأتينا ولا منف ولا طيبة ولا بغداد في عهد هرون الرشيد، ولا قرطبة في زمن ابن الوليد ولا طوكيو ولا بكين ولا كلكتا ولا دهلي رأت سوقًا كهذه السوق، هنا ثروة أمة وخيراتها وجمالها ودمامتها. وإنها لجامعة للدرس ومتعة للنفس وصفحات مفتوحة بل مجلدات مطروحة للفراسة والتأمل والمقارنة، فهنا حمال لا يقل عن «جان فالجان» قوة، يحمل الطن على كتفه وظهره ولا ينوء به، وهذا العملاق يحول المركبة الكليلة تحت أعبائها بنقل عجلاتها وكأنه طفل يلهو بلعبته.

وكنت أختلس النظرات إلى بنات الفلاحين الغضات البضات ذوات الخدود الوردية والنهود الرمانية والقدود القضبانية والعيون الغزلانية والنحور الفضية، وهن أشبه بالأزهار المتفتحة، وإن كانت بعضهن ما تزلن بين النوم واليقظة، فقد وردن باريس مع الفجر من ضواحيها المتقاربة ونهضن من فرشهن الدافئة بعيد نصف الليل بساعة أو ساعتين، ولكل بنت منهن خطيب يصحبها أو قريب ينتظرها في السوق، ولكنهن مرحات فرحات يبعن ويقبضن الأثمان، ويضعنها في أكياس من الجلد جعلن مناطها في أكتافهن. وكان منظرهن يعجب أمثالي الذين يعيشون في المدن وأتمنى أن أعيش في الريف وأتمتع بملذاته الطازجة البريئة.

مناظر البؤس والشقاء

وكنت أرى البائسين والمدقعين والجياع يتتبعون الأحمال والأقفاص والأكياس؛ ليتلقوا ما قد يسقط من خروقها أو يلفت من حبائلها أو ما قد يكون لاصقًا بها، كورقة كرنب أو بطاطسة مجرحة أو عنق خرشوفة أو خوخة معطوبة أو كريزة متدحرجة أو حبيبات من الحمص الأخضر، ومن هؤلاء الملتقطين المترقبين نساء يحملن أطفالًا رضعًا أو يتبعهن صبي صغير، لا بد أن هيجو رأى مثله وتقصى تاريخ طفولته قبل أن يخلق أحد أبطال قصته «جاڤروش»، إنها لصورة أليمة قد سلبتني معظم لذتي، إن الذي يعيش على هذه الفضلات لا يمكن أن ينسى أبدًا حقده ونقمته على هذا المجتمع اللاهي السخيف، وإن الولد الذي يرى هذا المنظر وأدركه على حقيقته ثم سلك سبيل الحياة، واقتنى الملايين فلا يمكنه أن يعطف على أحد أو يحنو على أحد أو تأخذه الشفقة على إنسان أو حيوان، سوف يقول في نفسه: «لقد رأيت أمي تجمع فضلات الخضر وقمامة الأسواق لتطعمني وتطعم نفسها، بينما كان هؤلاء الأوغاد يأكلون ويشربون، إنهم كلهم مجرمون غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم بائسهم وعائلهم، مجنونهم وعاقلهم. إن الكل عندي سواء.» وإنه يكون على حق.

ولكني كنت مسرورًا برؤية كل شيء ولا أحب أن أعيش في قمقم أو في برج من العاج، بل أود لو استطعت أن أطلع على كل شيء؛ لتفرغ نفسي في قوالب شتى من اللذة والألم وشعور الخير والشر.

عاطفة الحنان والشفقة

لقد نشأت في نفسي منذ صغري عاطفة الحنان والشفقة على الضعاف والفقراء والمرضى واليتامى، وكان قلبي يتحرق كلما رأيت مسكينًا أو متسولًا، ولم يفارقني في صحوي ونومي منظر هؤلاء الأطفال والنساء العراة الأبدان في زمهرير الشتاء متكدسين على أرصفة الشوارع في القاهرة، مذ كنت صبيًّا أطوف في الليل وأرى أهل الغنى والمرح يمرون في مركباتهم الفخمة وثيابهم المزركشة ببطون ملأى بأفخر الأطعمة وأدمغة عامرة بأنواع الخمور، ولا يعيرون هذا الشقاء الممدد أمام أعينهم الوقحة لفتة إحسان أو يمدون إليه يدًا بصدقة، وقد دونت في إحدى مذكراتي عاطفة مرت بي في إحدى الليالي فقلت: «يا حي الأزبكية يا قلب القاهرة النابض، إذا أسدل الليل ستره سيجيء يوم يندم فيه الإنسان على أنه وضع حجرًا في أساسك، وبدلًا من أن تكون كعبة القصاد، قصاد اللهو والفجور، يتجنبك الناس كما يتجنبون الأماكن الموبوءة، وإذا مروا بك في أواخر الليل حين ينتهي آخر فصل من تلك الفصول المبكية المضحكة التي تمثل في شوارعك وبيوتك وحاناتك وملاعبك وأنديتك، لعلهم بدلًا من أن يروا رجالك ونساءك الذين كأنهم الدمى التي يلهو بها الأطفال، تتراءى لهم أشباح أولئك البؤساء الذين ذاقوا آلام البرد والجوع والعراء».

ولعل هذه المناظر وأمثالها ولدت في نفسي ميل التمرد والسخط على الناس، ولا سيما الأقوياء منهم الذين يبطشون والأغنياء الذين لا يحسنون ويبددون المال في غير ما خلق له.

وكنت في صباي أحسب السرور حرامًا عليَّ إذا رأيت الآخرين محرومين منه، فكنت أحزن كلما رأيت طفلًا جائعًا أو مريضًا أو طفلًا يطلب لعبة أو حلوى فلا ينالها، وأحمل هم كل والد تمزقت أحشاؤه؛ لأنه لم يستطع أن يدخل إلى بيته بهجة الأعياد، وكل أم عالجت أحلام أطفالها بالدموع، وطالما سرني قول المعري:

فلا نزلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا

نعم كنت أرى أنه خليق بي وبالناس أن لا يهنئوا بالعيش إلا إذا عملوا على إزالة الشقاء والجهل والفقر والمرض من هذه الأرض.

فلما أن رحلت إلى أوروبا وقرأت في صحفها أوصاف الفقر ومشاكل الحياة المادية، قويت في عاطفة الشفقة على الفقراء والغضب على ذئاب البشر الذين يطلبون الغنى حلالًا أو حرامًا، ويأكلون في أجوافهم نار جهنم والذين يهون عليهم أن ينعموا بالعيش وغيرهم يشقى:

وكلكم قد نال شبعًا لبطنه
وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه

إنه للؤم أن يشبع الفتى وغيره جائع، أن يلبس الثياب الأنيقة الجميلة الغالية يزهى بها وغيره عار، أن يتمتع وغيره نصيبه الحرمان.

لقد شهدت محافل في الغرب يخطب فيها رجال وقفوا أعمارهم على إصلاح الأمم وتعميم الإحسان ومحاربة الشقاء، وسمعت أقوالًا لأقطاب من العلماء تهتز لها أعواد المنابر وتثور لوقعها النفوس الحساسة، فكنت أحترمهم كل الاحترام، فكم جاهدوا وكم ضحوا وكم تعبوا وكم تألموا، وقد كانت حياتهم جهادًا مستمرًّا وبؤسًا مستمرًّا، لم يخرجوا من سجن إلا إلى سجن، ولم يرجعوا من منفى بعيد إلا إلى آخر أقصى وأقسى، ولم يسلموا من حمام إلا إلى حمام من لدن ظهورهم إلى قبورهم، كذلك المتمرد بلانكي وهؤلاء المصلحون باكونين وكوربوكتين وهاردي وجويس.

ماذا يفيد توزيع الثروة إذا كان الناس يعبدون المادة؟ وماذا يفيد تهديم الحكومات إذا كان الناس يميلون إلى التحكم؟ وماذا يفيد إلغاء الطبقات إذا كان الناس يميلون إلى التفوق؟ وماذا يفيد نزع السلاح إذا كان الناس لا يزالون يميلون إلى الاعتداء والاغتصاب وإلى حل مشاكلهم بالعنف لا بالإقناع، فإذا لم يجدوا سلاحًا عضوا بأسنانهم ومزَّقوا بأظفارهم؟

إن الذي يكفل سعادة البشر أن تتغير طبائعهم وتتهذب غرائزهم، فالداء من الداخل أيها الناس وليس من الخارج، ولعل النبي العربي — عليه الصلاة والسلام — وتولستوي الروسي هما اللذان حاولا العلاج الصحيح.

إن حضارة الشرق كانت حضارة مبادئ وقيم ولذلك لم تعش ولم تنجح؛ لأن المبادئ والقيم تتبع القوة وتتحول وتدور وتتطور، أما حضارة الغرب فحضارة المادة والقوة والأمر الواقع، هي حضارة بعيدة عن المبادئ، فما كاد الغرب يحس بقوته وضعف الشرق حتى حاول اكتساح بلادنا، ورأى هنا زيتًا فمد خرطومه «ليشفط الزيت»، ورأى هناك مغاوص لؤلؤ فمد أنامله ليتحلى باللؤلؤ، ورأى هناك قمحًا وذرة وقطنًا فمد فمه ويده ليأكل القمح والذرة؛ ولينسج القطن ليبيعه لنا بأبهظ الأثمان، ورأى هنا حجارة الماس فأغار عليها، وهناك ملحًا فاستولى عليه، وهنا توابل فاغتالها؛ لأجل هذا تجدني كافرًا بالغرب لتعديه، وكافرًا بالشرق لخضوعه.

تمثال البرد والجوع

وقبل أن آخذ سمتي للعودة أردت أن أرى تمثال البرد وتمثال الجوع والمستجدية الضريرة. فإن الفن في باريس قد دفع ثمنًا للعواطف الشريفة وسدد دينه للخير، ولم يقتصر على تصوير الجمال والعشق والأرداف والنهود والصدور والقدود بل جعلوا لهذه المآسي تصاوير وتهاويل خالدة تؤثر في القلوب المقدودة من الصخر أو الفولاذ؛ لا لأن الفنانين تعطفوا ولكن واحدًا منهم لم ينج من لذعات البرد والفقر والجوع. وإن تعجب لشيء فاعجب لصرعى الجمال الذين يستخفون بالشقاء في سبيل الفن ويهجرون بلادهم وأهلهم وقراهم وفيها اليُسر والرخاء وألوان من النعيم والبحبوحة ليعيشوا جائعين ومحرومين في مساكن أشبه ببروج الحمام على سطوح المنازل، يعانون بين جدرانها شدة الحر في الصيف وشدة البرد في الشتاء، ثم إن الحظ قد يواتي واحدًا من ألف منهم فيصعد سريعًا إلى قمة المجد والغنى، وإن الحظ ليهلك بقية الألف بين براثن المظالم ولا يشفق عليه أحد. وإن من هؤلاء المظلومين من يموت فيستولي الوسطاء والسماسرة على تراثه من اللوحات أو التماثيل فيكتشف فيها جمالًا وفنًّا كانوا عنه عميانًا، فتابع بمئات ألوف الدراهم والدنانير وكانت من قبل نسيًا منسيًّا ملقية في زوايا الإهمال تحت أكوام من القمامة والمقاذر والأوساخ، أو معلقة على جدار مطبخ أو مستعملة سدًّا لنافذة تحطم زجاجها.

عندما كنت واقفًا أمام تمثال البرد بعد تمثال الجوع والسائلة العمياء أطرقت وابتسمت وقلت: نعم إن التاريخ يعيد نفسه، والحقيقة واحدة ولا تتعدد ولكنها تتكرر فتبدو في مختلف الأشكال والألوان. لقد رأيت في «الهال» ثم في تمثال البرد والجوع، جنة الجياع وجحيم المستسلمين.

وكنت كلما مررت بمنظر في شارع أو بمحفل في مقهى أو بمعقل لفتوات الليل وفتيات الفجر، سمعت مجونًا وسخرية وهزلًا كأنه مسرحية هزلية متناهية في الهزل تمثل على مسرح المآسي والفواجع.

ولم يكن هذا بأغرب مما رأيت هذه الليلة في باريس في الحياة الحقيقية النابضة.

أليس من الغريب أن يقترن هذا الجلال بذلك المجون؟ وأن تلقى كل هذه العظمة في تيار من السخرية والهزل، وأن ينفخ الفم الواحد يومًا في الصور ويومًا في القيثار! إنه صوت باريس، صوت جبار مقلق يطن في الأذنين باستمرار، إنه كالشراب القوي الذي يورث الدوار والدوخة ولا يتحمله إنسان مثلي بدون ملطف يخفف من عنفوانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤