اللقاء

١

بيت آل راسين بحي پتي لانسي

لقد مضى على هذه الذكرى سبع وثلاثون سنة وهي تتجدد في خاطري وقلبي وذاكرتي وعلى رأس قلمي فأعدها وفاءً مفروضًا علي وأعد مرورها بخاطري نعمة من الله فتستحق الثناء والشكر.

في مثل هذا اليوم وكان يوم الأحد التقيت بمدام أوجستا دامانسكي فيليبوفنا كاتبة وأديبة عارفة باللغات والآداب وخبيرة بالفنون الرفيعة وعريقة في تاريخ الثورة العالمية، ومخلصة للجمال والحق والخير. التقيت بها في بيت ريفي في ضاحية بيتي لانسي بچنيف لأسرة راسين، رأيتها فعرفتها وتجددت بيننا صداقة أحكمت المصادفة الباحتة عروتها من صيف ١٩٠٨ في مدينة لوزان. وكان اليوم السابق على اللقاء ١٨ مارس يومًا مطيرًا عبوسًا قمطريرًا مثل نفس اليوم السابق للذكرى في هذا العام ١٩٤٧ في مصر.

وفي ذلك اليوم من سنة ١٩١٠ أمطرت السماء مدرارًا في ليون (حيث كنت)، وفي جنيف عندما بلغتها واستمر انهمار المطر طول اليوم وكنت بغير مأوى ولا صديق ولا رفيق ولا أنيس، قادمًا من ليون مقر دراستي شبه هارب من الظلام والبرد والوحدة، ضعيف البدن منكمش الروح منطويًا على نفسي شاعرًا بحزن عميق. جئت في عطلة الفصح ألتمس الشمس والهواء والنور والحنان والخضرة والماء والدفء والأنس والراحة والصحة في ضواحي جنيف بعد الضباب والظلام والرطوبة، ودخان المصانع وبرد المساكن ووحشة الوحدة وتعب الدرس ومرض الحنين إلى الوطن. فلما قابلتني الأمطار والثلوج والرياح العاصفة أول ما ترجلت من القطار في الساعة الأولى بعد ظهر السبت ١٨ مارس سنة ١٩١٠، ضاق صدري وأسأت الظن بالأقدار واتهمتها بالتآمر وعناصر الطبيعة عليَّ. عجبًا في مستهل الربيع ولم يبق على مولده إلا ثلاثة أيام تلقاني الطبيعة عابسة باكية وهي التي تبسم لبعث الأرض في شهر آذار، وتفرح بمولد الأزهار وتعروها هزة السرور ونشوة الوجود تصحبها موسيقى الأطيار، فاستسلمت ولم أجد بدًّا من الصبر.

وصممت على العودة إلى وكري الذي ألفته في البلد الذي فَررتُ منه فرارًا، وسئمت الإقامة فيه، ولذا تركت حقائبي وفيها متاعي وكتبي في مستودع السكة الحديد، وعولت على أن أتغدى في المدينة ثم أعود أدراجي في قطار المساء، فلما انحدرت إلى البلد اشتد نزول المطر، كأنما ينساب من أفواه القرب، وإن عندي الآن كتابًا ما يزال جلده ملطخًا بأوحال المطر؛ لأن الثلج كان ينهمر ملوثًا في سماء جنيف الصافية عجبًا، والكتاب ترجمة حال يوسف متزيني الثائر الإيطالي أقلبه بين يدي في مثل هذا اليوم، فيحرك أشجانًا مضى عليها نحو من أربعين سنة وما تزال تعتلج في صدري.

ولما تغديت في مطعم بشارع كوراتري آنست لطفًا ودعة في وجه السيدة التي قدمت إلي الطعام فسألتها عن مستقر لي إلى حين في ضواحي البلد فقالت لي: عليك بحي پتي لانسي واقصدْ إلى بيت آل راسين تجد ما يسرك، فنسيت عزمي على الرحيل وتضاءل ما لقيت في سبيل الوصول من البْرد والبَردَ. وقطعت مسافة طويلة في مركبة حتى بلغت الخط الذي هدتني إليه صاحبة المطعم، ووقفت أمام بيت كبير ذي حديقة فسيحة جرداء معتمة أشجارها بالجليد، وسرت إلى أن بلغت مدخلها فلقيتني امرأة نصف ذات وجه «كالح مالح»، ومزاج بارد جامد وسحنة عابسة يابسة وذوق ممجوج وصوت مثلوج، وأظهرتني على غرفة ذات شرفة، فشعرت بانقباض لرؤيتها ولاطفتها حتى أفلت من يدها.

وسرت هائمًا لا أدري أين أقصد وقد مال ميزان النهار ودقت الساعة السابعة ولم يبق على الغروب إلا دقائق معدودة، وأنا لم أر الشمس في شروقها حتى أكترث لغروبها ولكن ساعات النهار قفزت من يدي وأخذ الظلام يرخي ستوره. تأمل ولم أهتد إلى مبيت لي، والمطر ينهمر وثيابي مبللة وكتابي به بقع ولا أحمل مظلة تقيني في طريقي.

وكانت ربة الدار النكراء ترقبني عن بعد لترى أين تقودني أقدامي. فسرت قدمًا وأغمضت عيني برهة وكان الثلج والمطر قد خلعا على الطريق ثوبًا يبدو حينًا رائعًا وطورًا قاتمًا، وعاودني الضجر والقلق والوحشة التي ودعتني بعد غدائي، وظننت أن ليس لي عيش في هذا البلد ولن يكون لي فيه مضجع ولا مبيت إلا في فندق مطروق وهو أبغض المساكن إلي.

وهذا أثر من القدرية الشرقية التي تلازمنا حيث كنا، ومن فضائلها روح المغامرة وعدم اليأس من رحمة الله، لشد ما قاسيت في الشباب مغتربًا سائرًا وراء سراب الآمال متوكلًا على الله، فلم أعد أدراجي في الظلام وفي ضاحية تكاد تكون مهجورة لندرة المباني فيها، من للغريب في البلد النائي؟ فأطرقت وأنا أسير تحت المطر والجليد المتساقط، وشعرت بوحشة غريبة، وقد علمت فيما بعد أن المكان آهل بالمقبرة الكبرى سان جورج، وسمعت رنين النواقيس من كنيسة بعيدة، وهذا أذان المغرب عند الكاثوليك في مدينة زعيم البروتستانت كالڤان، يا له من تناقض: مطر غزير في أول الربيع وأجراس في بلدة الاحتجاج المسيحي، ومقبرة في الضاحية التي قصدت إليها ألتمس البعث والحياة!

ولكنني تقدمت نحو الصوت وتذكرت أحدب نوتردام الذي يدق الأجراس، فضحكت في وجه الطبيعة العابسة.

وفجأة رأيت نورًا ينبعث من نافذة وتمنيت من قلبي أن ألقى مع النور إنسانًا يبش ويهش للقائي، فضحكت ثانية لهذا الخاطر الخاطئ.

فلما دنوت من البيت ألفيت بعتبته طفلين: صبيًّا وفتاة، فابتسما لي فتفاءلتُ بهما وحييتهما، فأسرعت الفتاة إلي وقالت: عم مساء يا سيدي هل أدعو لك جدتي؟ قلت: نعم. وكأن جدتها وراء الباب تنتظرني فخرجت وحيتني وفتحت الباب ورحبت بي قائلة: ادخل بس من فضلك (أنتريه سولمن سلڤوپليه) وهو تعبير سويسري خاص بهم. ولم أكد أخطو وأنا لا أصدق حتى تناولتْ قبعتي ومعطفي، وأحضرت لي مباذل ورجتني أن أخلع حذائي، فوجدت نفسي في ردهة دافئة وسمعت أصواتًا ينبعث منها الدفء، دفء الروح والقلب.

وأدخلوني إلى قاعة استقبال وهي التي ينبعث منها النور الذي تمنيته واختفت العجوز جدة الصبيين، وظهرت سيدة تتقن لقاء الضيف وأجلستني ورحبت بي ثم قالت لي: تشرب فنجان شاي وتستريح.

قلت لها: نعم إذا تفضلت، ولست أبالي في أي بيت أكون أو في ضيافة من حللت، وقد شعرت أنني حللت على الرحب والسعة.

فقالت لي السيدة: هنا بيت راسين.

فدهشت حتى كدت أخرّ لله ساجدًا. وعندنا مبيت وقرى أراغب فينا. يا سيدي.

قلت: نعم، قالت: هل تقصد إلينا؟ قلت: نعم وكيف لا، قالت: أين متاعك؟ قلت: في مستودع المحطة قالت: عليّ بالإيصال لأبعث في طلبه، فقدمته إليها ونهضت واتصلت بالتليفون، وعادت فرحة وقالت: بعد ساعة يصل إليك متاعك ريثما تشرب الشاي، ألك بعد الشاي في حمام ساخن. قلت: نعم. كيف لا كأنك تقرئين ما في نفسي وتعلمين ما بها.

وجاء الشاي والفطير والعسل والزبدة والحليب وأخذ الطفلان يلهوان بجانبي، ويضحكان ويثرثران كتغريد الطير وأمهما تحتفي بي وتؤنسني وتتلطف بي، امرأة في الثلاثين أتقنت فن الترحيب واجتذاب قلوب الأضياف تحسن المصانعة، فنسيت في برهة متاعب النهار كله، وتجددت في نفسي الآمال التي كادت تودعني وعجبت من تصرف الأقدار التي سلمت لها قيادي. وتكلمت السيدة. وعزفت على البيانو وأطلعتني على مجلات مصورة ولم تسألني قط عن اسمي وجنسي وبلدي، ولم تساومني ولم تعرض علي غرفة ولم تشعرني أنها فندقية تاجرة ولا ربة نزل تؤجر على استقبالها، ولكنها أشعرتني أنني نزلت بقوم كرام يحبون الضيف.

وبعد ساعة أقبل حوذي يسعى من أقصى المدينة ينقل حقائبي. فقالت لي السيدة الشابة مدام جان راسين أما أمها فمدام پيدو: هيا يا سيدي اصعد إلى غرفتك وخذ ما تشاء من ثيابك للحمام. وقد أعدّ لك. وتقدمتني إلى غرفة فسيحة شرقية بحرية ذات أثاث جميل ونور ساطع ومقاعد وثيرة وفراش رحب ومناضد للكتب وخزائن للثياب.

ففتحت مغاليق الحقائب وأخرجت ما أنا بحاجة إليه وتوجهت إلى الحمام، ولهجت بحمد الله عندما رأيت بخار الماء الساخن يتصاعد ولمست بيدي حرارة الماء، وشممت عبق الصابون المعطر وأخذت أستمتع بالمستحم (بانيو) وحككت جلدي بلوفة مصرية، لله ما كان أجمل منظر رغوة الصابون وألطف فقاعاته الملونة بقوس قزح. ولله ما أعظم الشعور بنعمة النظافة والراحة بعد هذا اليوم الأليم المضني! ونظرت إلى وجهي في المرآة فلم أكد أعرف نفسي ورددت نضارتي إلى حسن اللقاء وفرحة أهل البيت وبراعة الترحيب، وهذا حمّام للروح يفوق في أثره حمام البدن.

قالت لي مدام راسين بعد ذلك بأسبوع — غير ممتنة ولا مباهية: لقد أقبلت علينا فأشفقنا من غبرة وجهك لشدة ما عانيت من المطر. وقد صدقت.

وخرجت إلى قاعة الجلوس فقالت لي ما يشبه في الشرق قولك: «نعيمًا»، ودعتني إلى غرفة الطعام للعشاء، وللمرة الأولى رأيت زوجها واسمه جان راسين (حنا تزوج من حنينة ولكن ما أعظم الفرق بينهما) وإلى جانبهما الطفلان فرد وميمي (من يدري ما فعل الدهر بتلك الأسرة، الجدّين والبنت والزوج والحفيدين؟)

وفي الحال رأيت أن راسين الزوج شخص مضحك يتصنع الوقار ويشعر بدمامته وحقارته في جنب جمال زوجته ووقارها، ونضج أنوثتها وجلال أمومتها.

ولكن أحسن الله ختامه إن كان حيًّا ورحمه الله إن كان ميتًا، فقد خدمني وتفضل علي بقضاء كل حاجة طلبتها إليه ولم يدخر وسعًا في شراء الصحف والكتب والأدوية والأزهار والألطاف التي كنت أكلفه بها، وكان دليلًا ناطقًا أي كتابًا متكلمًا ماهرًا في الحساب دقيقًا في الإحصاء، وبقدر ما كان وجه زوجته معبرًا عن المعاني والأحاسيس وذكاؤها شاملًا، كان وجه جان الزوج صامتًا مبهمًا مستسلمًا لا يشف عن فرح أو ترح، ولكن لمحت بعد زمن أن كل جهوده في أن يكون محبوبًا أو على الأقل مرضيًّا عنه، قد ذهبت أدراج الرياح، وأسفًا على حبه الضائع تحت أقدام تلك السيدة التي كانت تتلطف بكل مخلوق ما عدا زوجها.

لم يطل العشاء وعرفت السيدة أنني لا آكل اللحم ولا أتذوق النبيذ فتضاعفت تقديرها لي؛ لأن الضيف الذي يوفر اللحم والخمر في نزل عائلي — بانسيون دي فامي — نعمة من السماء، ولكن حنينة راسين قالت لي: لك الله يا سيدي فإن هذه الإفاقة Sobre تعجبني، فهل أنت متأكد أنك لست بحاجة إلى اللحم ولو شواءً وإلى النبيذ ولو خفيفًا؟

قلت: نعم، قالت: هل الدين ينهاك عنهما.

قلت: نعم والطبيب وحاجتي إلى صفاء الذهن.

وسهرنا بعد العشاء ساعة وكانت الأسرة تبذل جهدها في تغذية جو يشبه جو الحياة في الأسر، ولكنني كنت الضيف الوحيد المدلّل.

وعندما صعدت الدرج للنوم تبعتني السيدة وسألت في أي ساعة أتيقظ وأي إفطار أفضل.

فقلت لها: السابعة والشاي واللبن وقدحًا من ماء كرلسباد وحمامًا فاترًا. فابتسمت وقالت: ستجد ما يسرك، وسوف تلقى مفاجئة سارة غدًا صباحًا، فوقفت وأصغيتُ إليها وسألتها عن تلك المفاجئة.

أجابت في صوت خافت: إن عندنا سيدة تعرفك. قلت: تعرفني أنا؟ لا بد أن تكون مخطئة فإنني لا أعرف أحدًا في جنيف. قالت: إنها تعرفك باسمك وصفاتك وقد اعتذرت الليلة عن العشاء؛ لأنها متوعكة، فقلت لها: ما اسمها؟ قالت: غدًا تعرفها؛ لأنها لم تأذن لي في ذكره.

قلت لها: يا سيدتي سلي بنتك وابنك فقد دخلتُ بيتك لدعوتهما، وقد دلتني سيدة في المدينة على بيتكم متطوعة على غير معرفة سابقة، وضللت الطريق ونسيت الاسم وهداني إليكم ناقوس المغرب في الكنيسة.

قالت: لو صح كل هذا (ولا أرتاب في صحته)، فإنها مصادفة عجيبة جدًّا كما سترى غدًا. وكان يبدو في عين جان راسين في تلك اللحظة بريق غريب وخيل إلي أنها تريد أن تفضي إليَّ بسر عميق يتردد في صدرها، ولكنها كتمته وما زلت أسأل نفسي عن هذا السر الذي كادت تبوح به ولم تطاوعها نفسها ولم أحاول قط طوال عشرتنا أن أستدرجها إليه.

وقد تعود الأرق أن يلزمني في الليلة الأولى أينما كنت كلم بدلت فراشي ولو كان في جنة الفردوس لا بد لي من الأرق. وكنت في تلك الليلة ١٨/ ١٩ مارس سنة ١٩١٠ متعبًا جدًّا وكان الفراش مريحًا والجو مغريًا بالنوم العميق والنفس مطمئنة، ولكن الأرق الذي تعودته عاودني ولازمني وإن يكن خفف وطأته إيناس المضيفين وأمل اللقاء بشخص مجهول.

ولكنني تيقظت في الصباح فرحًا نشطًا متفائلًا مرحبًا باليوم الجديد.

وسمعت عند الفجر تغريد الطيور ثم لمحت من وراء النافذة أشعة الشمس بعد العاصفة.

وفي الساعة السابعة دقتْ علي الباب جان الخادمة التي حملت متاعي إلى الحمام، وخدمتني خدمة كاملة وهي من الإناث المخلوقات للطاعة وتلبية النداء وقضاء الحاجة، ذات وجه سمح وخلق كريم وقلب طيب، وكان فرحها بالإكراميات وكلمات الشكر يفرح من يحسن معاملتها، لها الله من فتاة طيبة.

الرد على تيودور روزڤلت

وقضيت ساعتين في أعظم متعة لي وهي إخراج كتبي من صندوقها وتصفيفها ولمسها ومفاجأتها، كأنها كائنات حية وعطفت خاصة على كتاب متزيني الذي قاسى معي برد الجو وانهمار المطر، وشعرت أن مؤلفه شاركني محنتي ولعل الله عطف علينا معًا فآوانا وأكرم مثوانا وأكبرنا مات في الغربة مكافحًا في سبيل وطنه، وقد اقتديت به فأصدرت من ذلك البيت جريدتين للدفاع عن وطني إحداهما بالعربية صوت الشعب مطبوعة على الحجر والثانية Egypt بالإنجليزية مطبوعة عند فيفر، وكاتبت صحف فرنسا ولا سيما إكلير (البرق) لصاحبها أرنست چوديه وفيها رددت على تيودور روزفلت الرئيس الأسبق لجمهورية الولايات المتحدة، وكان حمل على مصر حملة شعواء في القاهرة ولندن؛ لأن أبناء عمومته اليهود والإنجليز أكرموا مثواه على حسابنا في السودان ومصر، فردّ تحيتهم بالطعن في الوطنية المصرية، ولم يخجل هذا الرجل السخيف أن يحرض علينا الإنجليز، ويدعوهم إلى استعمال الهراوة في معاملتنا، فإن لم يرغبوا فليتخلّوا عن مصر لتحكمها الجمهورية الأمريكية.

وسبب هذه النكبة التي انصبت على رأسه أن المصريين بقيادة المرحوم الدكتور منصور رفعت رجموا فندق شبرد، وهو نزيله بالحجارة جزاء له وفاقًا على خطبته في قصر الحاكم العام التي أشاد فيها بفضل الإنجليز في مصر والسودان؛ لأنهم أتاحوا لراعي البقر هذا صيد الأسود والفيلة وكان رجلًا غليظ الكبد عريض القفا. وقد ساعدني الحظ بأن أوقعه الله في سلسلة أخطاء في كل بلد حله، وكان قلبه أعمى من لسانه، فحملت عليه ووصفته بأنه بهلوان دولي وأنه نموذج خائب يكذب الحرية الأمريكية وينقض مبادئها، وشايعتني صحف فرنسية وسويسرية كثيرة وكانت لي صلات ببعض محرري الصحف من عام ١٩٠٩ التي عقد أثناءها المؤتمر المصري الوطني الأولي في جنيف (سبتمبر سنة ١٩٠٩).

وهذا الرجل وهو عم روزڤلت الأخير الذي توفي سنة ١٩٤٥، وكان قد ختم مدة رياسته وحل محله تافت وما زالت بعد نعرة السياسة والرياسة، فنفس عن شراسته وقسوته بصيد السبع في أواسط أفريقيا، ثم نفث سمومه في الخرطوم والقاهرة ولندن وباريس وروما. وكان أسوأ إعلان لأخلاق الأمريكان وشر نذير لسياستهم في الشرق والغرب، وكشف القناع لنا ولغيرنا عن خليقة الأمريكان منذ أربعين عامًا، ولكن هذا الاستطراد الدخيل قد دعاني إليه ذكر متزيني فعليه الرحمة.

لقاء السيدة أوجستا دامانسكي

وفي الساعة ١١ صباحًا نزلت إلى قاعة الجلوس، فتلقتني صاحبة البيت بالبشر وقدمت إلي مدام أوجستا فيليبوفنا دامانسكي وحيتنا وانصرفت.

كانت هذه المرأة التي وصفتها في لقائنا الأول قد تغيرت نوعًا، وقد مضى سنتان إلا أشهرًا معدودة، ولكنها تحسنت على عادة النساء اللاتي لم يبلغن نهاية العقد الثالث، كانت بيضاء البشرة رقيقة الجلد جميلة العينين والصوت واليدين، سوداء الشعر جدًّا وأجمل ما في عينيها لونهما، فقد كانتا كالمخمل الأزرق الضارب إلى الخضرة، وكان حاجباها على طبيعتهما كما لو رسمهما نقاش ماهر بقلم فاحم، وجبينها عريضًا عاليًا، وكانت يداها ناطقتين وكأن بنانها ألسنة تعينها على البيان، ولها جلسة خاصة وشمم وشعور بالذات ورغبة في الفتنة.

كان الاحتشام والأناقة والشعور بالجمال من ميزات هذه المرأة، وكان منظرها يدعو إلى الاحترام والكرامة، ولعلها أرادت أن تدلني على أنها جديرة بمصاحبتي، فظهرت بوقار لا يتفق وشبابها، فهي أبعد عن الخلاعة والتبرج من أية امرأة سواها.

أين رأيتك يا سيدتي؟ نعم في ڤيلا بيانكا منذ عامين في لوزان في بيت دي ناڤا ثم في ڤيلا ترميدور في ضواحي لوزان، ثم في فندق مارتان المطل على البحيرة حيث قضينا سهرة ثم في منتزه مونيونان وفي دكان الكتب، وفي مكتب البريد. نعم. إني سعيد برؤيتك. تظنين أنني جئت قصدًا إليك، كنت أود ذلك من صميم قلبي ولكن كيف أعرف مقرك، إنها مصادفة باحتة. لعبة من القدر، لو أنك بعثت إلي بخطاب أو لو أن أحدًا قابلني وأخبرني قبل اليوم كان يجوز هذا الظن منك ولم أسأل عنك عند وصولي، ولو كنت أرغب في لقائك لفعلت. وأنت تذكرين حتمًا أنني كنت دائمًا أشكرك ولا أطيل الحديث معك. كلا لم أكن أخشى لقاءك ولكنني غضبت؛ لأنك أخبرت الأستاذ بروشيه صاحب فيلا ترميدور أنك رأيتني عند ناڤا، ولم أنزل في بيت دي ناڤا الإيطالي؛ إلا لأنه حلَّ محل بروشيه في فيلا بيانكا وهي ذات ذكريات عزيزة علي، فلما وجدت المكان خاليًا من ساكنيه السالفين أقمت فيه أيامًا إحياءً للعهد القديم ثم رحلت عنه والتمست بروشيه حتى عثرت عليه في ڤيلا ترميدور، وكنت أحب أن يشعر أنني لم أقم ساعة خارج بيته وقد بكى من الفرح عند لقائي وعد ذهابي إليه وفاءً مني ولم أستطع حيال دموعه وإخلاصه وهو شيخ كبير أن أفجعه بنزولي ضيفًا على غيره في بيته القديم فعزّ عليّ ذلك، ووجدته مر المذاق منك ولم تكن بيننا معرفة سابقة سبقها أو صاحبها أو لحقها ثأر لك عندي. هذا سبب نفوري وغضبتي، ولكن ما دامت الأقدار قد جمعتنا فقد زال ما كان في نفسي.

نعم أذكر جيدًا والدتك وطفلك وقد رأيته وهو نائم وأذكر قولك حين حنوتُ عليه: «إن من يمسك يد الطفل بيمناه يقبض على قلب الأم بيسراه»، وقد أعدتها في ذهني كثيرًا ولم أفهم معناها في وقتها. كلا كنت صادقًا في تلك الليلة وأظن صدقي هو الذي أخافك حتى صار خوفك ذعرًا لم أعرف سببه، لقد قلت لك، وأنا أذكر ذلك جيدًا أنه في الساعة الأولى بعد نصف الليل: «يخيل إلي أننا اجتمعنا في حياة سابقة من زمن طويل جدًّا مثل هذا الاجتماع في هذا المكان وهذا الوقت»، وأذكر أن القمر كان مضيئًا على جبل مونبلان وعلى مياه بحيرة ليمان وكان صفير القطر المتصاعد من المحطة يبشر باللقاء وينذر بالفراق. وأذكر أنك نهضت فجأة وقلت لي: يا سيدي، قد آن أوان … فنهضت وقلت لك: الرحيل رحيلي. فضحكت واعتذرت وتيقظت وكنت شبه نائم وقلت: نعم لقد أطلتُ المجلس وأمك لا بد تنتظرك في الغرفة المجاورة، طاب ليلك يا سيدتي وشكرًا على الشاي الذي شربته، والحديث الطلي الذي سمعته. وقد تركت بيتك الساعة ٢ صباحًا، ووصلت ڤيلا ترميدور الساعة ٣ فلم أنم؛ لأنني عزمت على السفر إلى باريس وشددت رحيلي في الساعة ٨.

وكتبت إلى بروشيه وقلت له: سافرت؛ لأن تلك السيدة الروسية أقلقت راحتي وأقضت مضجعي فتركت لها لوزان بمن فيها والحمد لله. على أننا في أغسطس وبعد ثلاثة أسابيع وصلني خطاب من بروشيه عجبت له أشد العجب إذ قال لي: إنك لحقت بي إلى باريس وذهبت إلى فندق ڤوياچير وهو عنواني الذي تركته لموسيو بروشيه، ولم تجديني وأنك كنت تبحثين عني ولما بلغت الفندق ومعك ولدك ووالدتك قيل لك: إنني سافرت منذ يوم أو يومين. كل هذا علمت به مصادفة ولكنني نسيته، فإن لم يكن في الأمر إلا أن أسألك عن سبب سفرك إلى باريس وسؤالك عني لكفى داعيًا لسروري بلقائك بعد هذه الأحداث كلها. لعلك أردت أن تفسري لي سبب ذعرك، وتناقض مسلكك إذ كنت تلحين علي أن أزورك وأنا أشرب فنجان شاي في بيتك ثم انقلبت بعد ساعة تقولين: «يا سيدي لعلك متعب حتى خطر ببالك هذا الهاجس وهو أننا التقينا قبل الليلة في حياة سابقة، فخير لك أن تأوي إلى فراشك». وأحب أن أؤكد لك أنني كنت صادقًا في قولي وفي شعوري ولم يكن ما قلته لك مصطنعًا ولا مفتعلًا، ولكنني أثق الآن أنني كنت مخطئًا. ولكنه لم يكن هذيان محموم ولا حلم محروم ولا استدراج خبير بقلوب النساء لعذراء مفتونة، فقد كنت منذ عامين أصغر سنًّا مني الآن وأنا اليوم لا أزال بعيدًا عن فنون قد تتقنها السيدة الذكية المجربة المدربة أكثر مما يتقنها شاب لا يزال طالب علم … ولا تغضبي إن لقاءنا هذا حل عقدة من لساني، وأحيا صورة الماضي في ذهني وجرأني على الأحداث فاقتحمتها طامعًا في تفسيرها مثل لغز أوديبوس، إن ما قلته لك في شرفة بيتك في لوزان كان لمحة قصيرة كالإلهام الذي ينعم به شاعر أو مصور في طرفة عين، ولكنه يكون واضحًا وضوحًا صارخًا أليمًا كآلام الوضع عند النساء لا بد أن يعبر عنه، كما أن المرأة لا بد أن تلد، إنك اليوم لا يمكنك أن تزحزحيني من مكاني هذا؛ لأنني لحسن الحظ لست في بيتك؛ ولأنني لحسن حظ أعظم لم ألهم بأننا اجتمعنا قبل الآن إلا في شوارع لوزان وعلى مائدة دي ناڤا، وفي شرفة مطلة على جبل وبركة ماء، وقال لي بروشيه في خطابه أيضًا: إنك قلت له: إن تلميذك هذا الشرقي غامض، فأجابك بأنك لا تقلين عني غموضًا؛ لأنك شرقية، ولم أفطن إلى قصده من قوله؛ لأنني أعرف أنك روسية صحيحة وروسيا دولة قيصرية في صميم أوروبا، نعم إنكم من شرق أوروبا، ولكن شتان بين شرق أوروبا وشرقنا. هذا كل ما أردت أن أقول لك قبل أن تنمقي لي كلمة جديدة أو تدبري لي (وضحكتُ …) فتنة.

وكادت السيدة أوجستا تنفجر من الغيظ والغضب، وكانت أثناء الحديث تتلون وتتلوى وتحمر وتصفر ولكنها ملكت أعصابها وكتمت ما بها، وتحكمت في لسانها وعواطفها وقالت لي: شكرًا لك على صراحتك التي لم أتعود مثلها إلا في وطني؛ ولأجل النفاق الأوروبي نحن نحتقر أهل هذه البلاد كلها، وشكرًا لك على أنك لم تجاملني ولم تغازلني؛ لئلا كنت أفر بعد أن استقرت بي النوى في هذه الضاحية لأكون قريبة من ولدي الوحيد، ولا مجال للاعتذار بيننا؛ لأنك لم تخطب ودي وما دامت الصدفة قد جمعت بيننا فأقول لك: إنني أعتقد في الأقدار ولا بد أن للأقدار من غاية جمعتنا، أريد أن أقول — سامحني: إنني لم أنتظر أن أراك كما أنت اليوم، فقد كبرت وزكوت وخرجت عن طور الفتوة الذي رأيتك فيه منذ عامين، فقد كنت فتًى … مخيفًا، وهذا الذي أرعبني ليلة الشرفة، فقد شعرت بقواي تخور عندما قلت لي … أتذكر ما قلت لي؟

قلت متصنعًا: كلا لا أذكر، فقد تكلمنا كثيرًا وذكرنا شكسبير وتولستوي وجوته.

قالت: لا. لا أقصد هذا الحديث، بل قلت لي: لم يشعر الإنسان أثناء التقائه بإنسان آخر لم تسبق بينهما معرفة أنه شديد الانجذاب إليه كأنهما اجتمعا في حياة سابقة، كما يرى بقعة من الأرض فيتذكر على الرغم منه أنه سبق أن رآها ووطئها، ويكون في الحالتين كأنه في حلم عميق، حلم يقظة وصحو لا حلم نوم ونعاس، هذا الذي قلته نصًّا بحروفه.

قلت: وماذا جرى بعد ذلك، فهل أجبت أم لم تجيبي؟

قالت: ذهلت واعترتني هزة وأخطأت خطأ ما زلت نادمة عليه، فقد تظاهرت بالضجر وأرغمتك على الانصراف، وبعد خروجك عضضت بنان الندم ورجعت لنفسي ألومها ولكن بعد فرار الفرصة. نعم ندمت وكتبت كلماتك بنصها … لقد كنت مشتعلًا مشعًّا، فخشيت إن لمستني أن أحترق بنارك فلما خرجت من يدي أسفت على أنني لم أستقبل تلك النار بحرارتها ونورها.

قلت: أتصدقين أنني بينما كنت قادمًا أمس بطريق بين حقلين، فتنبهت إلى أنني رأيتهما من قبل ولا أدري أفي رؤيا أم في غيرها، وقلت قبل أن أصل إلى نهايتهما: إنها تلتوي هكذا ثم تعتدل، فكان في الواقع ذاك الذي توهمته في الخيال، والآن قدمت البرهان لنفسي على أنني ليلة أغسطس في لوزان كنت جادًّا لا هازلًا وصريحًا لا متصنعًا، وغاية الأمر أنني كنت أصفى نفسًا وأطهر قلبًا.

قالت: لقد علمت من مدام راسين أنك لا تأكل اللحم ولا تشرب النبيذ ولا تدخن ولا تشرب القهوة، فأعجبت بصحوك وإفاقتك. وقد وصفتك لي الجدة مدام پيدو وصفًا وافيًا كافيًا فتهيبت لقاءك أمس وقالت لي: إن لون وجهك بلون التراب من التعب والضعف، فأشفقت عليك ولكنني اطمأننت إذ رأيتك سليمًا معافى ناضر الوجه، فإن كنت قادمًا تنتجع الصحة ففي خير مكان وقعت، وإن كنت تطلب الخلوة فقد أحسنت فيما اخترت ولن تجد من يعكر صفاء خلوتك. أما أنا ففي شغل شاغل أرقب تنشئة ولدي وهو في العاشرة من عمره، وأكتب للمطابع في موسكو وبطرسبرج وستصل الآنسة زينا في مساء هذا اليوم وهي كاتبة يدي ومساعدتي في تربية ابني وإعداد المواد لإنتاجي الأدبي، وهو مصدر عيشتي، وهي فتاة طيبة القلب فرحة بمشاهدة غرب أوروبا؛ لأنها من الحزب الاشتراكي الديمقراطي مثل كل فتياتنا اللواتي ينتسبن للأحزاب ويفكرون في مستقبل بلادهن قبل التفكير في الزواج.

ثم ضحكت السيدة لتخفف ضغط الجو العاصف الذي ساد مجلسنا ساعتين، وحضرت مدام راسين، ورأت بعين قلقة أن السلام سائد بيننا فقالت: لقد تركتكما قصدًا حتى تفضيا بما تريدان. إن الجو اليوم جميل جدًّا لم يكن منتظرًا بعد أمس وبعد المطر يجيء الصحو، وكأنها كانت تراقبنا أو تتسمع ولكن حاش لأدبها أن يكون كذلك.

ونهضت السيدة الروسية وعزفت على البيانو قطعة من وضع تشايكوفسكي وقطعة «حديقة تحت وقع المطر» من وضع ديبوسي، وأخذت توقع ألحانًا جميلة قوية بدأت بما يشبه تجمع العاصفة ثم صوت الرعد ولمحات البرق، ثم صوت الماء يقع رذاذًا والطيور تطير إلى الأشجار تدعو بعضها بعضًا بزقزقة مرتجفة، ثم المطر يتتابع انهياره بقوة وصوت الريح يتخلله، ثم تبدأ تلك الحركة في القلة والضعف ويبدو في الأنغام ما يشبه انقشاع الغيوم، وانقطاع صوت المطر، وتبدأ العصافير زقزقتها الرقيقة كأن الأمن عاد إليها، وتبدأ تطير ويخفت صوتها بالتدريج.

وكانت أوجستا لا يبدو منها إلا جانبها الأيمن ووجهها مغمور بجمال الموسيقى وسحرها وأناملها الدقيقة تضرب القطع البيضاء، وهي تلهث منصتة إلى نفسها كأنها تبذل مجهودًا جبارًا لتنال الجائزة في امتحان شاق، وجسمها يهتز هزة خفيفة تكاد لا ترى إلا لمن يتعمد الإمعان، وقد غمرها الطرب فسرى منها إليَّ ثم نهضت ونهضتُ لها وحييتها ولمست يدها لأشكرها، فإذا هي باردة كالجليد وعيناها لامعتان وصدرها يعلو ويهبط لشدة الانفعال، ولمحت لآلئ صغيرة من العرف تنبذ على جبينها ثم تهالكت على المقعد الأنيق بجواري.

ثم نهضنا إلى المائدة وجاء الزوج والطفلان، أما ابن السيدة أوجستا فكان نزيلًا على أسرة روسية تقطن بالمدينة فلم أره إلا عصرًا، وصعدت إلى غرفتي وفي الساعة الخامسة شربت حليبًا ورجتني جارتي أن أصحبها إلى محطة چنيف لنرحب بالآنسة زينا (زينا ييد)، وعلى جسر طويل موصل إلى السكة الحديد اعترضتنا فتاة تبيع البنفسج (زهر الربيع)، فأخذت منها باقة وقدمتها للسيدة فقالت: هذه أول مرة أرى البنفسج هذا العام إنه بسمة الربيع. وعدنا بزناييد.

قلب المرأة

وامتدت تلك العشرة وطابت وإن لم تطل.

ففي جنيف بضعة أسابيع.

وفي شاربونيير شهر وفي إيطاليا شهر.

وفي جنيف شهر وفي مصر خمسة أشهر.

وفي بوڤريه شهر ثم في ليون شهران.

ثم في جنيف شهر.

ولم تزد هذه الفترات في مجموعها عن عام بدأ في مارس سنة ١٩١٠، وانتهى في نوفمبر سنة ١٩١١ واجتمعنا بضع ساعات في يونيو سنة ١٩١٢ في ڤيڤي ثم افترقنا إلى الأبد ولم نلتق إلا في رؤيا كالحقيقة.

وما زال الدهر يجد في القطيعة بيننا حتى سنة ١٩٢٧، فجاءني منها خطاب أهملت لسوء حظي الرد عليه، وقد ندمت على تقصيري وما زلت نادمًا؛ لأن هذه السيدة أدت إلي من الفضل والجمائل ما لا يحصى وتحمَّلتْ بسببي آلامًا كثيرة واستهانت في سبيلي بما لا يستهان به وأدخلت إلى عقلي وقلبي وروحي خواطر ومبادئ ومشاعر تركت فيها آثارًا لا يمحوها الزمن ولم يكن إليها من سبيل أو ذريعة غيرها، وقد تفتحت في ظلها كل مواهبي ورغائبي وتجسدت كل حقائق الحياة في نظري بفعلها وقوتها وإيمانها، وأرشدتني إلى مطالعات ودراسات لم أكن أنالُها بدونها، وأعانتني في قراءات وتحصيل علوم، وسهرت عليّ سهر الشقيقة والزوجة والصديقة والأم الرءوم، جمال امرأة وخلالها وعقل الرجل وحسن تصرفه، ولكنها حيال هذه النعم كلها أدنتني بفعلة واحدة من الموت المحقق لولا عناية الله ورحمته. فأزهدتني في الحياة أعوامًا وأفقدت ثقتي في جنس الإنسان، وأخرجتني من حلم الأديب إلى غيظ المنتقم فكتبت «قلب المرأة» وبالغت في تسويد صحيفتها، وما كان ينبغي لي أن أفعل هذا، نعم لقد عراها الندم فترة ولكنني كنت إذ ذاك على شفا حفرة عميقة من اليأس ألتمس الشفاء فلا أجده، شفاء النفس والقلب، وأحوجتني إلى الضلال والعربدة أيامًا معدودة وما كان ينبغي لي لولاها. ولكن غفر الله لها فقد علمتُ أنها تألمت كثيرًا، وأشد ما آلمني منها أنها هتكت أستارًا وأباحت أسرارًا كنت أظنها مصونة إلى الأبد، غفر الله لها لقد كفرت عن سيئاتها ولا ريب أنها قضت نحبها، وقد اجتمعت بها بعد موتها مرة واحدة اجتماعًا لا شك فيه ورأيتها في الرؤى مرات عدة. وإنني أشعر بها الآن بجانبي ولأجلها وقفت اليوم والليلة على إحياء ذكراها عافيًا صافحًا مصافحًا سامحًا متسامحًا.

ليل ١٩ مارس سنة ١٩٤٧

٢

وصف عقل السيدة وأخلاقها

لقد نظرت إلى الدنيا والحياة خلال شخصيتها وأدركت للمرة الأولى فضل المرأة على الرجل الناشئ في تفتيح ذهنه وعينه وقلبه للجمال والحق والخير، وأن لا سبيل لبلوغ هذه الدرجة إلا في كنف قلب مخلص وروح صافية وعقل مدبر يخلق نوعًا من الصداقة وسطًا بين الحب والمودة وأداة لتهذيب النفس وكمالها وإظهار ما كمن فيها من الخير، ويعمل على تنقيتها وتطهيرها، وليس كل النساء بموهوبات هذه النعمة المزدوجة التي يسيطر بها العقل والفكر على الجسد، وتتحكم المشاعر العالية والعواطف السامية على ما يتطلبه البدن، قوة تلزم معها الرغبة الجامحة حدود القناعة الواجبة، وتترقى خلالها في مدارج الرفعة، ويتفتح تحت سيطرتها الذهن لكل ما كان عنه غافلًا أو معرضًا، ويقوم فيه جمال الروح دورًا أوليًّا ويلعب جمال المرأة وأنوثتها الصارخة دورًا ثانويًّا لا يتجاوز الاستمتاع بالأنس الذي يغذي الكيان المعنوي، ويقدم له الحرارة والقوة بالدرجة الملائمة. حينئذ يوجد التيار الكهربائي المناسب من حيث لا تحترق الأسلاك ولا يحدث التماس المدمر، وهذا ما يطلق عليه بعض الكتاب صفة الصداقة العاشقة «أميتيه أموزوز».

وصلتُ إلى چنيف أول الربيع ولم أكن أعرف ما هو الربيع والاعتراف بالحق فضيلة، وليس من العيب بعد أربعين عامًا أن أقرر الواقع. فأين لي وقد نشأت في مصر أن أتذوق جمال الربيع الذي لم يصفه الشعراء والكتاب إلا بعد الشعور به فجاء وصفهم صادقًا، لقد قرأت أوصاف الربيع في الكتاب ولكنّي لم أشعرْ به.

فليس في مصر ربيع إلا في شم النسيم وهو يوم يقضي في الأكل والشرب ويسفر دائمًا عن غرق بعض الفتيان إثناء تنزههم في زوارق في نهر النيل، وأظهر علامات شم النسيم شمّ البصل وأكل الحمص الأخضر (الملانة)، والسمك المملح تقليدًا للمصريين القدماء في عيد هاتور.

وكانت نفسي متطلعة مشوقة تحس أن الربيع وأعياد الربيع وجمال الربيع شيء غير هذا أو ذاك. وقد أرادت الطبيعة أن تشعرني بالعهد الجديد فختمت أيام الشتاء في جنيف بذلك المطر المدرار والجليد المنهمر. ثم كان يوم اللقاء الضاحك بعد يوم السفر الباكي، ثم خرجنا إلى لقاء زينا، يا لها من فتاة بسيطة لا يزينها غير جمال الشباب والروح! وقد عطلتها الطبيعة من كل جمال آخر.

ونحن في طريقنا على الجسر ذاهبين لاستقبالها اشتريت زهر البنفسج، وأهديته لتلك التي أصبحت صديقة لي. ولست أدري إن كانت أسرة راسين فطنت إلى الحب الذي ولد في دارهم ولادة سهلة سريعة بين اثنين أحدهما من الشمال والآخر من الجنوب.

في تلك الليلة الثانية جلسنا في قاعة الاستقبال، وشعرت أن مدام راسين الشابة رضيت أن تكون صديقة الطرفين وبذلت جهودها في أن تكون حبيبة إلينا جميعًا، وصار الحديث في الأدب والفنون الرفيعة والعزف على البيانو سلوانا وملهاتنا وبرنامج سهرتنا، وقد جئتُ للراحة بعد التعب فلا داعي للتبكير في النوم. وقد صار نومي لذيذًا هادئًا.

وكان همي أن لا أبارح حي بيتي لانسي ما استطعت وأنا أنحدر إلى المدينة إلا نادرًا، وهي التي استدرجتني، وكان العشاء يقدم قبل الغروب في الساعة السابعة، وهي التي عودتني السير على الأقدام ذهابًا وعودة، وهي التي شجعتني على اختراق غابة بواسي تلك الغابة الهادئة الآمنة التي تقابل حراج شامبل في الطرف الآخر من المدينة والبلديين جزأين من نهر الرون أولهما الأرڤ والآخر الرون، وقد عشت على ضفافهما جميعًا فكانت عيشتي على الأرڤ حزينة خامدة نقيض ما استمتعت به من نهر الرون الذي يمتد وراء الغابة، وكان لسيرنا في الغابة سرور بالغ، وكنا نشرف منها كل غروب على معالم المدينة بقبابها وأبراجها ويبدو لنا جبل مونبلان شامخًا. وللمرة الأولى ميزت جمال الشفق واصطباغ الآفاق بألوان حمراء ولازوردية وبنفسجية قاتمة، وأدركت لمحات تصفو فيها النفس وتخلص من أدران الحياة. لقد كنت أنظر إلى الحياة خلال مخروط من البلور، كنت أشعر بأن قامتي ترتفع وأنني أزداد طولًا وأن البعث يبشرني بحياة جديدة وأن البرء يدب في جسدي دبيب الشارب الذي لا يثمل.

لست أروي قصة ولا أتحدث حديثًا مسليًا ولكنني أسجل فضل الله علي وأحمده على رزق كريم، وقد صادف مجيء هذا الرزق معرفتي بهذه السيدة في هذه الظروف، وفي المكان والزمان المعنيين (جنيف ربيع ١٩١٠).

كان من الطبيعي أن تتلون حياتي بلون الربيع والجمال، وأن تتيقظ مشاعري النائمة أو تتفتح مشاعر وأحاسيس وأفكار جديدة. فأول ما كنت أحتاجه رؤية الطبيعة والطبيعة في سويسرا البحيرة والأنهار والجبال والغدران والأشجار والغاب والأزهار، فكانت السيدة في الأيام الأولى تصحبني إلى تلك النواحي نخرج مساء إلى المدينة سيرًا على الأقدام مخترقين غابة پويسي، وفيها انحدار كبير تبدأ في لانسي وتصب في قلب المدينة صبًّا، لم تكن هذه أولى الغابات التي أخترقها، فقد زرت غابات في (مورجينس) Morgins منذ سنتين ولكن هذه المرة الأولى أخترق غابة في العصر والغروب، ومعي سيدة وبيننا مودة وانسجام حتى إننا اخترقنا تلك الغابة من بعد نصف الليل عائدين من سهرة في چنيف في حفلة موسيقية ولم نتهيب، على أن الغابات لا تخلو من الشرار ليلًا على الأقل. ولكن المحبة تبعث الشجاعة في القلوب، ولا أنسى هذه الليلة وكان فيها القمر بدرًا، وقد سمعنا تغريد البلابل ووقفنا طويلًا نلتذ بصوتها في دهشة وكان الليل جميلًا جدًّا.
كانت الحياة مقسمة أقسامًا، وبدأت بأن أهديت إلى السيدة كتاب مذكرات سائحة في تركيا (مدام مارسيل تنبر تصف ثورة تركيا سنة ١٩٠٨)، فأهدت إلي كتاب ديمتري مرجكوفسكي في تاريخ نهضة الإحياء في إيطاليا رينيسنس Rennaisance. وكان هذا الكتاب فاتحة عهد جديد لي؛ لأنه أدى بي إلى دراسات طويلة وكتب كثيرة وانتهى بسفرنا إلى فلورنس وچنوا وپادوا وميلانو وبولونيا (وكنت من قبل خبيرًا بروما)، ولكن في سياحتي الأولى (١٩٠٦) كنت غرًّا وحدثًا وجاهلًا وغير مقدر لما يحط بي من معالم التاريخ والفنون الرفيعة.

وكان يهمني أن السيدة تروي لي ما تعرف عن المؤلفين، فوصفت لي مرجكوفسكي الذي رأته في باريس رجلًا حالمًا قصير القامة واسع العينين، كما حدثتني عن تشيكوف وقد رأته في آخر أيامه وتحدثت إليه. ومن الأمور الغريبة أن هذا الجانب من الحياة العقلية كان يجذبني جذبًا شديدًا، معرفة المؤلفين والوقوف على أخبارهم وتعقب حوادث حياتهم ومقدار الامتزاج بين حياتهم الخاصة، وحياة عقولهم وإنتاجهم، وكنت شديد الشغف بهذه الناحية، وبالطبع لم أفاتح فيه الصديقة الجديدة ولكنها كانت تكثر منه، فعلمت أن هذا وجه للتشابه بيننا، فكنت أطلب منها المزيد حتى طلبت إليها أن تدون لي في كراسة كل ما تعرفه عن هؤلاء الكتاب والمؤلفين الروس ففعلت جزاها الله خيرًا.

الحب السامي

أحب أن أعدل أفكار بعض الناس الذين يظنون أن الحب بين رجل وامرأة يستغرق بالطبع كل أوقاتهما ويصرفهما عن كل شيء سواه، وأن الحب يطمس على المواهب العقلية ويضعف الجسم والفكر، وأن معنى الحب عند هؤلاء هو الضياع. هذا قد يصدق أحيانًا إذا كان الحب مقصودًا به إلى غاية واحدة أو إذا كان بين أشخاص من طينة وضيعة أو طبيعة نازلة. أما إذا كان الحب ساميًا منورًا فهو ألزم اللزوميات لحياة العقل والفكر والروح ونشاط المواهب؛ ولذا اعتبرته في هذه الحالة بالذات ودون غيرها مما يكابد الرجل في حياته رزقًا من السماء ومنحة من الله وهبة من العلي.

لم أشعر بصحة وعافية موفورة ورغبة في الاطلاع والدرس، ولم تتفجر في نفسي ينابيع لم أعهدها قبل هذه العلاقة الميمونة العزيزة الذكرى. فإنني بعد بضعة أيام من التريض والحديث والمرافقة وكنت عزوفًا عن الطعام بأنواعه، تفتحت شهيتي فجأة في قرية Sutry على شاطئ البحيرة في عصر يوم سعيد، فأكلت للمرة الأولى بعد أعوام طويلة خبزًا ريفيًّا خشنًا وزبدة طازجة وجبنًا من نوع جريفيير ومربى البرتقال بمقادير مدهشة، ومن هذه الساعة عادت إلي شهية الطعام (ولكنني حافظت على عفتي من اللحم والنبيذ والتوابل)، وكانت السيدة تراقب طعامي وشرابي، فلم أدخن لفيفة من طباق مطلقًا إلا بعد فرقتنا.
فقرأت كثيرًا وكتبت كثيرًا وجعلت في كل يوم أربع ساعات لمواصلة مذاكرة دروسي وتلخيصها، واستقدمت من ليون مذكرات مخطوطة من زميلي في الدرس بيكير Bickert (وقد صار محاميًا في ليون وفي تونس)، واستعرت من كلية الحقوق في جنيف كتبًا ضخمة في الاقتصاد والاشتراكية (وكانت جزءًا من مقرر الاقتصاد) ومن القانون التجاري، وقرأت كتبًا في الاستعمار (تعليقًا على القانون أو التشريع الاستعماري في فرنسا ومن هنا جاء تخصصي في الاستعمار الإنجليزي)، وواظبت على قراءة المجلات الفرنسية والإنجليزية وكبريات الصحف اليومية التي كان يحضرها إلي موسيو راسين من مكتبات چنيف وارتبطت ببعض تلك المكاتب لاستجلاب المطبوعات الحديثة في كل فن، وعرفتني أوجستا بمكتبة دورية بالاشتراك الشهري، وصحبتي إلى مكتبة الجامعة وكنت أعرفها من سنتين وكنت أتردد عليها من قبل كل يوم وعندي إلى الآن إيصالات الكتب التي كنت أستعيرها للقراءة.

لقد أصابني نهم في الطعام (لا أتعدى فيه الحمية التي فرضتها على نفسي، ولكنني عوضت أعوام الجوع وانصراف الشهية بسبب الوحدة والرطوبة والسأم والهزال)، ونهم في المطالعة حتى كاد النهار والليل يزيدان في نظري عن أربع وعشرين ساعة، وكل الفضل في اتساع الحياة وطولها وعرضها وبركتها لهذه السيدة الحبيبة.

كانت تتكلم حينًا في سياسة بلادها وتفصل الأحزاب والمبادئ تفصيلًا يشمل وصف الرجال أمثال ميلوكوف، وتصف المعركة القائمة بين القيصرية والثوار وتاريخ الدوما، وقد رأيت أحد أعضائها المهاجرين إيناكين ولعله من حزب الثوار، وكان حي كاروج في تلك الفترة مقر الثوار نلمحهم في ذهابهم إلى الحفلات السياسية وسماع الخطب التي يلقيها أمثال جوريس والمساجلات بين الساسة والزعماء في بيت الشعب بساحة بلا نبليه.

وحدثتني عن تولستوي ودوستيوفسكي (وكان على قيد الحياة؛ لأنه لم يمت إلا في سنة ١٩١١)، وكتبتْ إليه خطابًا في ضيعة ياسيانا بوليانا، وكلمتني عن جوركي وكان يعيش في روما في تلك الفترة مع صديقه ممثل الأوبرا الشهير. وأغرتني بالسفر إلي بايروت في ألمانيا في موسم ڤاجنر؛ لأن حبها للموسيقى كان عظيمًا جدًّا، وقد أصغيت إلى الأوبرات للمرة الأولى في صحبتها وإن كنت شهدتها كثيرًا في مصر وباريس، ولم أفهم لها معنى ولم أطرب لموسيقاها. ولكنني سمعت معها لوهنجرين وطائفة من موسيقى فاجنر، فرأيت عالمًا عقليًّا روحيًّا كان مغلقًا دوني. وعجبت لمن كانوا من أهل مصر يعرضون عن الأوبرا ويدعون أن لا فائدة فيها إلا لمناظرها يقصدون جمال النساء ورقصهن.

وكانت السيدة في ذلك الوقت تترجم كتبًا لدانوتزيو وباربي دورڤيلي فسألتها عن اللغات التي تعرفها، أجابت الروسية والبولونية ولا فضل لها فيهما؛ لأنهما لازمتان لحياتها منذ الطفولة، والفرنسية والألمانية؛ لأنها تعلمتهما في المدرسة والإيطالية تعلمتها في الكتب ورجتني أن أساعدها في نقل كتاب من الإنجليزية لأرنولد بنيت Sacred and profane love، فرأيتها تقتحم تلك اللغة بسهولة عجيبة، ومن ذلك الوقت أيقنت أن الروس موهوبون علم لغات الأرض، فلما زارت مصر حاولت العربية وعندي أسطر من خط يدها ولكنها لم تحاول أن تقرأ كتابًا.

وقد علمتني مبادئ الألمانية والإيطالية ولم تحاول معي الروسية لصعوبتها. وروت في أثناء كلامها عن جوجول أكبر كتاب القصص، وهو الذي فطر الفن وأسسه، أنه في آخر حياته وقع تحت تأثير كاهن مسيحي بغَّض إليه التأليف والفن، ووسمهما بأنهما عبث وغواية من الشيطان فأحرق الرجل العظيم مخطوطاته وندم على نشر كتبه السابقة على هذه الفترة من عمره.

وفي يوم الأحد التالي ليوم اجتماعنا خرجنا مع أهل راسين إلى نزهة خلوية ركبنا فيها البحيرة والسكة الحديد، ومشينا في الحقول وأكلنا عند الظهر مشطورات بالجبن والبيض والفاكهة وكان يومًا جميلًا جدًّا وهو ٢٦ مارس.

وكانت مدام راسين تتعمد أن ننفرد وأن لا تقوم بدور العوازل وهذه بداية الغيرة فقاومنا هذه النزعة، ولكنني رأيت في عين جان (حنينة راسين) هذه العاطفة الجديدة الخطرة على حبنا. وكان جان راسين قد حملت إلينا كل ما لديها من الأواني والأوعية المعدة للأزهار؛ لأنها رأت شدة شغفي بإهداء الأزهار إلى أوجستا، فأشارت عليَّ السيدة أن أحمل إلى مدام راسين باقة من الزهر جبرًا لخاطرها، وكانت الأزهار في ذلك الموسم تُبَاعُ في جنيف في أركان الشوارع وعلى عجلات متنقلة ولا سيما النرجس والبنفسج والخُزامَى، وهذه أشياء كنت أسمع عنها في الشعر وأقرأ أسماءها في الكتب، والآن صرت أشتريها وأحملها وأزحم بها غرف البيت ولم أضع في غرفتي زهرة واحدة.

وكانت أوجستا تلح عليَّ في الخروج منفردًا لنفرح باللقاء بعد ذلك ونمارس الشوق، فعندما دنا يوم عيد الفصح ذهبت إلى خط لا أعرفه من جنيف لزيارة سيدتين مكتهلتين عرفتهما في سياحتي في مصيف مورجان الحمامات منذ سنتين وحفظت لهما الود هما مدام جوتز ومدام كورفون. ومدام جوتز سيدة في الستين من عمرها أنستُ بلقائها وأحببتها لطيبة قلبها وسلامة نيتها وسلاسة حديثها فذكرتني بجدتي مباركة، وأكثر ما حببني إليها سخريتها من الإنجليز السائحين في سويسرا الذي سجل الهزؤ بهم تويفر الكاتب الجنفوازي، وتحسن مدام جوتز تقليد هؤلاء المتغطرسين وهم يتكلمون الفرنسية، ويخافون تيارات الهواء ويحتجون على قلة الطعام وصغر حجم البيض في الإفطار إلخ.

ولم تدر مدام جوتز أن بيني وبين هؤلاء الباردين تارات تجعلني أسر كلما سمعت إلى تجريحهم ووصف سيئاتهم، ففرحت مدام جوتز برؤيتي، وأخذتني إلى مدام كورفون وهي زوجة رجل متخصص في زراعة أفخر الأزهار يصادق معظم ملوك أوروبا ويعاملهم في توريد بذور الأزهار لحدائقهم، وقد رأيت عنده مكاتيب الملوك والأمراء وتصاويرهم مهداة إليه وهو يقطن مع زوجته وأسرته قصرًا فخمًا من الخشب في أرض فسيحة تبلغ بضعة أفدنة كلها منزرعة بأفخر الأزهار وأندرها، ولهما أولاد، منهم قسيس وسيدات متزوجات، ومدام كورفون بحبوحة تحب الرياضة والتنقل ولا تتحرج في الكلام والدعابة مذ بلغت سنًّا تحميها من الريبة.

زيارة جون نينيه

فدعتني السيدتان إلى شاي في بيت كورفون وذهبتا معي لزيارة جون نينيه Ninet الكاتب المحارب السويسري وضيف مصر من عهد إسماعيل ومستشار عرابي أثناء الثورة العرابية، وهو الذي أفتى له عشية التل الكبير قبيل الموقعة بساعات بردم قنال السويس وعدم الثقة بوعود دلسبس، فجبن أحمد عرابي خوفًا من أوروبا فكان جبنه سبب نكبة مصر في التل الكبير؛ لأن القنال لو ردم في تلك الليلة ما استطاع الإنجليز هؤلاء اللصوص الحمر الثياب والوجوه والسود القلوب والأرواح أن يصلوا إلى جيشنا أو يدخلوا بلادنا كما فشلوا في كفر الدوار.

وكان نينيه عندما رأيته في التسعين من عمره أبيض الشعر مجعد الوجه مهيب الطلعة خافت الصوت أكبر من بلنت، الذي زرته في العام الماضي سبتمبر (١٩٠٩) بخمس عشرة أو عشرين سنة على الأقل.

ولم يكن في تمام وعيه ولكنه أدرك أنني من مصر وأنني عدو الإنجليز، وأنني جئت لزيارته لشكره، وكنت قرأت كل كتبه عن مصر منذ سنتين، بلد الخديويين — وإسماعيل باشا — وعرابي باشا — وضياع مصر على يد أوروبا — وعندي بعضها وقد عثرت على المجموعة في مكتبة جامعة جنيف وهي المكتبة العامة، وهو يعد من مفاخر سويسرا، وقد تأثرت كثيرًا بهذه الزيارة وشربت عنده قهوة والرجل مخدوم خدمة فائقة وبيته في غاية الأناقة والجمال، وقد توفي بعد ذلك ببضع سنين.

فلما أحييت الصداقة بهذه الزيارة بيني وبين السيدتين الفُضْليين دعوتهما إلى الغذاء في يوم العيد في بيت راسين. وأنبأت جان راسين بالدعوة ورجوتها أن تعد وليمة فخمة لا مجرد غذاء على الطريقة السويسرية. ففهمت غرضي وأغدقت علي المائدة وزينتها بالأزهار والأواني، وزينت الغرفة بالطنافس والزرابي وتجمل كل من في الدار لهذه المناسبة السعيدة.

وكانت حفلة كريمة جديرة بمقام السيدتين، وحملت إلي مدام جوتز تحفتين من صنع زوجها المأسوف عليه دي جوتز، وكان مصورًا شهيرًا في نوع الميناتير الملون بالمينا وهو المنقوش على المعادن، وكان هو الآخر ممن زاروا مصر وصنع للأسرة الخديوية تصاوير على طريقته، أما التحفتان فهما للأميرين أحمد فؤاد وحسين كامل ورجتني السيدة أن أعرضهما على الأميرين لعلهما يرغبان في اقتنائهما ولو لأجل ذكرى والدهما إسماعيل، ولما كنت لا أعرف أحدًا من أفراد هذه الأسرة الكريمة ما عدا الخديوي عباس ولا أحب أن أوصف بالتقرب إلى مكانتهم تزلفًا، اعتذرت إلى السيدة ورددتهما عليها فألحت علي أن أبقيهما عندي حتى ولو طال الأمد بين لقائنا وعودتي إلى وطني، وفطنت أنها تريد إهدائي هدية فشكرتها وكررت اعتذاري ولم أندم على هذا الإباء حتى بعد أن صار حسين كامل سلطانًا بعد ذلك بأربع سنين وفؤاد الكبير ملكًا بعد ذلك بسبع سنين مع عظيم تقدير الوطن لهما، فالكل أبناء إسماعيل وأحفاد محمد علي.

وكانت أوجستا أول من عرفني بأندرييف وهو كاتب قصاص عظيم قرأت كتبه، وتأثرت جدًّا ببعضها ولا سيما الحفرة أو البئر، وهو أول جيل الكتاب الذين كشفوا عن غموض النفس الروسية بطريقة جديدة أقوى من طريقة دوستوفسكي؛ لأن أندرييف عاش الثورة الجديدة واكتوى بنارها، دع عنك ما أفدته من تاريخ الأدب الروسي بفضلها وإرشادها وروايتها وإحضار الكتب إلي، وتشويقي قبل القراءة بتلخيصها لأكون على بينة كما كانت راسخة القدم في الآداب الأوروبية عامة وتتعقب النقد الأدبي في الكتب والمجلات.

٣

عيد العمال

لم تطل هذه الفترة الأولى إلا أسبوعين رحلت بعدهما إلى ليون ولم أبق بها إلا أيامًا معدودة لأن الوحدة والرطوبة والوجوه القديمة أعادت إلي الضعف والهزال، فزرت الكلية وحضرت بعض المحاضرات وقابلت الأستاذ لامبير وكنت فرحًا بالعودة إلى الدراسة وحاولت البقاء في بيتي الذي أنفقت عامين في تأثيثه وتنسيقه، ولكنني لما شعرت بالضعف يعاودني عقدت العزم على العودة إلى چنيف وعاهدني الطلاب على إرسال صورة من المحاضرات ولا سيما هوڤلان وبيك وجارو وبعض أصدقائي من المصريين، وشددت رحلي على أن أعود في يونيه قبل الامتحان بشهر على الأقل، على أن لا أقطن ليون المدينة، واخترت ضاحية باسمة فيها هواء وبساتين وحمامات وملعب للتمثيل.

ولما عدت إلى آل راسين فرحوا بي فرحًا شديدًا. وفي هذه المرة أصدرت الصحيفتين اللتين ذكرتهما صوت الشعب وEgypt وتوجد منها نسخ في كل مكتبات أوروبا العامة، ولكنها في مصر صودرتا ومنعتا من الدخول، ولكنني تمكنت من إيصال بعض النسخ بطريقة سرية.

ومن أهم ما أذكره في هذه الفترة الثانية عيد العمال في أول مايو سنة ١٩١٠، وكان الاحتفال به في جميع أنحاء أوروبا عظيمًا جدًّا ما عدا إنجلترا. وكانت حركة العمال قويت في فرنسا بتأثير جوريس وفي ألمانيا بتأثير أوجست بيبل وفي إنجلترا برياسة كير هاردي، ولكن الإنجليز لا يفهمون المظاهرات إلا نادرًا.

وفي هذا اليوم خرجنا إلى المدينة لنشهد المظاهرة الكبرى التي اشتركت فيها جميع طوائف الشعب، ولم أر مثلها إلا في مصر سنة ١٩١٩. وأثناء تلك المظاهرة السلمية الجميلة التي كان فيها الغرباء والنزيلات من الروس والبولونيين (من طلاب ولاجئين) أكثر من أهل مدينة جنيف نفسها لم يمد البوليس يده ولا لسانه. وقد أذكرتني بمظاهرات لوزان بمناسبة تسليم ڤاسلييف في صيف ١٩٠٨ إلى حكومة القيصر. وكانت زينا والسيدة أوجستا في المظاهرة تهتفان وتنشدان النشيد الدولي، وقد ذهبتا مع تيار البحر الخضم من البشر وغابتا عن نظري، وما زلت أسير في المواكب الزاخرة إلى غروب الشمس، فملت إلى مكان لشرب الشاي فعثرت عليهما هناك وعدنا معًا في ترام بيلير إلى پتي لانسي.

ولحظت في أعين أهل راسين نظرات السخط علينا؛ لأن هؤلاء البسطاء من طبقة البورجوازية يحقدون على كل من ينتمي إلى طبقة العمال لقرب عهدهم بالخروج منها (لأن موسيو پيدو ووالد جان راسين نجار عتيق)، وقالت لي جان: «إني أعجب للروس الثائرين المهاجرين ما علاقتهم بطبقة العمال؟»

فقلت لها: وما علاقتي أنا لعلك تقصدين إلى هذا؟ فاحمر وجهها وتلعثمت، قلت لها: يا عزيزتي جان كل هؤلاء مظلومون ومغلوبون على أمرهم في أوطانهم ويظهر لي أنهم يشعرون أن عدوهم المشترك هو الرأسمالية فهم يحتجون عليها، ويجدون لهم متنفسًا في أي مناسبة ممكنة.

وفي صباح اليوم الثاني (٢ مايو) سألت عن جانيت الخادمة فقالت لي العجوز: پيدو إنها في راحة اليوم ولا أظنك تسخط عليها وأنت الذي تحتفل بعيد أول مايو، وقد رأيت في فم هذه الشيخة من المكر ما أغناني عن الرد عليها، فقد كانت زوجة النجار القديم هي الأخرى حاقدة علي؛ لأنني ظاهرت العمال يومًا أو بعض يوم، وهذا لون من ألوان الحقد واللؤم السويسري، وهو حقد دفين ولؤم عريق يتجلى في استغلالهم الغرباء واضطهادهم، ولو أنهم في سبيل المال استطاعوا بيع الجبل الأبيض والبحيرات السبع ما ترددوا، وقد رأيت في وجه أوجستا وزينا من النضارة والشباب والفرحة ما أثلج صدري، فإنهما كانتا تعيشان بالعقل والروح وفي يقيني أن طبقتهما في المجتمع الروسي وفي بلادهما أرقى مائة مرة من طبقة پيدو وراسين، ولكن إنسانيتهما وثقافتهما كذلك أعظم وأعمق من طلاء الحضارة السكسونية الذي يتخذه السويسريون من أصحاب الفنادق والخانات ترويجًا لصنعتهم وتمويهًا واستجلابًا للأضياف من الإنجليز والأمريكيين.

وأحب أن أبادر بالقول قبل أن يغمرني النسيان: إنني أسجل هذه المناظر والأقوال والمشاعر كأنني أراها وأسمعها الساعة لا أمس الدابر. فهي حية حاضرة في ذهني ماثلة لعيني وأذني ناضرة في شعوري ظاهرة في ذاكرتي، لم تستطع الحوادث أن تنال من جدتها أو تضعف من قوتها، والسبب في ذلك معلوم لي وهو أنني كنت أعيش فيها وأحيا بها حياةً كاملة، إني أرى الوجوه وأسمع الأصوات وأكاد ألمس كل حركة وسكنة، بل إن الرؤى التي رأيتها في منامي في تلك الفترة ما زالت في ذاكرتي مختزنة بتفصيلها، وقد اتخذت من كل ذلك دليلًا على أنني كنت أعيش في تلك الأيام عيشة مشبعة غزيرة دسمة كأن الروح تشعر أنها فرصة الحياة للعواطف والعقل والقلب، فأوعزت إلى إرادتها أن تتلقاها بأعظم ما فيها من قوة وأكبر ما لديها من طاقة، وكان صدري منشرحًا وقلبي فرحًا وعقلي متيقظًا وجسمي آخذًا في النمو وكل حواسي أكثر صحوًا واستيعابًا. أليس هذا عجيبًا، هذا التوفيق في كل شيء وهذا البعث وتلك القدرة على العمل والإفاقة؟ لا شك أن العاطفة وحدها لم تكن لتعمل تلك المعجزة؛ لأنني لم أترك العاطفة تتحكم وحدها بل الروح الذي يتحكم في العقل والعاطفة والجسد، وكنت أعمل كل شيء بوعي كامل كلاعب الشطرنج الذي يدري أنه ينقل البيادق والأفراس بتدبير وبديهة حاضرة، ويعد عدته ويرسم خطته وهو شاعر أنه يلعب ليكسب المعركة.

كانت حياتي في تلك الفترة شبه انتصار في معركة على الموت والمرض والخمول الذهني واليأس في الغربة، فأراد الله لي أن أفوز في المعركة وأن ينصرني على عوامل الضعف والخيبة، وقد هيأ لي أسباب النصر وعناصره، وإني الآن بعد نضج العمر ومذاق الحياة والوصول إلى غروبها، وظهور الشفق في الأفق لأدهش من تلك الذكريات للحوادث والأيام المواتية. نعم أصابتني في تلك الفترة صدمات تحطم القلب، وتهد القوى وتضعف الجهد وتتهدد السعادة وتكاد تعصف بها ولا يمكنني أن أعدها أو أحصيها، ولكنني صمدت لها جميعًا، وتغلبت عليها واجتزتُ جميع عقباتها.

مذنّب هالي

كان شهر مايو هذا عجيبًا، وقد ظهر فيه هيلي ورئي في أنحاء العالم وأخيرًا قالوا: إنه سيظهر في سماء سويسرا في ليلة حدّدوها. فسهرنا في تلك الليلة وعولنا على أن نسير إلى المرصد الفلكي مع كل أهل الدار كافة، وكنت أكره أن أترك فراشي ليلًا لأشهد تلك الظاهرة. ولكنني علمت أن هذه الظاهرة لا تبدو للعيان إلا في كل ثمانين سنة مرة، فتحملت المشقة وقمت في نصف الليل ولا أدري من الذي أفتى بزيارة المرصد كأن المذنب لن يبدو إلا خلال العدسات المكبرة، أو أنه سيخضع في حركته لإرادة الرقباء من بني آدم ولا سيما أهل چنيف السعيدة، ولم أكد أخطو خارج الدار بضع خطوات وأرفع رأسي إلى الأفق الأعلى، وفي ظني أن الكوكب لن يبدو إلا بعد ساعة أو ساعتين، وإذا بي أرى منظرًا فخمًا رهيبًا لا ينسى، وإني آسف على أن الصور المتحركة لم تكن في سنة ١٩١٠ بلغت ما بلغته الآن لتسجل هذا المشهد الرائع الذي لا ينسى، فجأة رأيت سباعيًّا من النور مكونًا من عشرات الكواكب الكبيرة المصحوبة بعدد آخر أصغر حجمًا ومذيلة بسلسلة نورانية، وقد ملأت الأفق نورًا وبهاءً وهي تقطع أجواز الفضاء بسرعة عجيبة كأنها القطار السريع من الشمال إلى الجنوب، وكانت لشدة جمالها في موكبها ولغرابة المنظر وجلالته ولاعتقادك أنه لن يعود لك في هذه الدنيا، تكاد الروح تطير شعاعًا إليه، فبقيت في مكاني كما لو أن أقدامي شدت إلى الأرض بأمراس كتان مشدوهًا سابحًا سائحًا في عالم من الجمال والدهشة، لقد مرت بي فترة من الأزلية ولمستني يد علوية وأظن كل من شهد هذا المنظر يذكر هذا الشعور العجيب، ولعل كثيرًا ممن تحفزوا واستعدوا لمراقبة المذنب العظيم لم يروه ولم يدركوه إلا بعد أن فاتتهم فرصته؛ لأنهم كانوا يحسبون أنه سيظهر ثابتًا في الأفق كالثريا أو كالشعرى اليمانية أو كالنسر الطائر أو أخيه الواقع. ولكنه كان أغرب من هذه وذاك بل كان أغرب من القمر؛ لأنك ترى القمر ثابتًا وينتقل في منازله ببطء شديد، ولكن المذنب يجري لا مستقر له، وناهيك بهذا الكون الذي يتسع لأن يذرعه هذا الجرم المزدحم بالكواكب والأقمار ويطوف ركنًا من أركانه مطافًا مئينيًّا بحيث لا يظهر لأهل الأرض — ذلك الكوكب القاتم المطفأ — إلا في كل قرن مرة واحدة.

وعندما عدنا إلى المنزل قابلت فتاة بدرتني بسؤالها هل رأيت يا سيدي الكوكب؟ وكان وجهها مضيئًا مملوءًا عجبًا وإعجابًا وإيمانًا، فقلت لها: نعم وأنت؟ قالت: نعم رأيته ولم أعرف نعمة رؤيته إلا بعد أن مرق في السماء مروق السهم المخترق جوف الفضاء العلوي، ويا حبذا لو كنت أراه مرة أخرى، طبعًا لن أراه؛ لأنه لن يظهر إلا بعد ثمانين سنة أخرى وأين نكون بعد ثمانين سنة. طبعًا سنكون تحت التراب، قلت لها: من يدري؟ قالت: أترضى لي أن أعيش ثمانين عامًا أخرى؟ قلت: ربما ولكن لعلك تكونين بحيث يكون هذا الكوكب من أصغر ما تتمتع روحك برؤيته. فنظرت إلى السماء وقالت لي: من يدري!

٤

عائلة جاي

ذهبت مع أوجستا إلى بيت عائلة جاي التي يأوي عندها طفلها بوريس Boris، وهو بيت نصف قروي، فاتبعت عادة حسنة بجعل ولدها في عناية أسرة ريفية في ضواحي جنيف، ولكنني أعتقد أنهم يهود لاسمهم أولًا ولسحنة صغارهم وكبارهم، وكانت أمهم الشيخة على جانب من المكر يتضاءل عنده خبث مدام پيدو، كانت تنظر إلي نظرة ريبة وبغضاء مكتمة لم أدر سببها، وقد رأيتهم على جانب من الثقافة ودقة النظر، وأظن ارتياب الأم في نظرتها إلي أنها فطنت إلى ما بيني وبين أم الطفل الذي تكفله، وظنها أن الأم تخالف الفضيلة وأن صلتها بي قد تعوقها عن السهر على ولدها. وربما كانت العجوز وضعت عينها على السيدة لأحد ولديها لتتملكها، وإن قلوب النساء ولا سيما العجائز لا قرار لها ولا يصل أحد إلى عمقها، غير أنني شعرت بنفور هؤلاء القوم مني، وقد يكون حقد الطبقات؛ لأنهم مهاجرون وليسوا من أهل السياسة ليكون اضطهادهم في بلادهم بسببها، وكان هذا نقيض ما كانت عليه زينا من الميل والعطف والثقة بي لحداثة عهدها بالمجيء من وطنها، وسلامة قلبها ولم تلوثه الإقامة في چنيف وهم أهل حضارة مشوبة بضيق العقل والتعصب الديني والرياء في سبيل الربح المادي. ومنهم خبثاء وإن كانوا منتسبين إلى العلم مثل إرنست ناڤيل عالم الآثار المصرية، فقد كان طوال حياته عدوًّا لمصر وخادمًا للإنجليز، وقد سرق تمثالًا لرمسيس الثاني وهو قائم في بهو مكتبة الجامعة، فليست جنيف مفروشة بالأزهار لكل قادم، وليس كل من تأويه على جانب من الفضيلة أو يستحق التحية والإكرام وقد شهدت فيها عجائب.

الخلاصة في هذا الموقف أنني لم أبال كثيرًا بشعور هذه العجوز جاي نحوي؛ لأن زيارتي بيتها لم تتجاوز بضع دقائق لم ألف أثناءها إلا وجوهًا كالحة، ولكن بعد خروجي أخبرتني أوجستا أن رب هذه الأسرة كان مصورًا شهيرًا فدهشت، ثم قالت: وإن له لوحة شهيرة في متحف چنيف تمثل الجلجلة (صلب المسيح)، وإن الحكومة السويسرية حجبتها عن الجمهور سنين كثيرة ثم أباحت النظر إليها؛ لأن بعض المفتونات حاولن الانتحار عند رؤيتها.

فاتجهت فورًا إلى متحف چنيف وهو مجاور لدار التمثيل في ساحة الجنرال ديفور، وأنا لا أكترث لمتاحف سويسرا ولا ثقافتها؛ لأنها مصطنعة من باب التقليد ليقال: إن عندهم فنونًا أو آثارًا وليس لديهم عراقة في شيء مطلقًا وطبيعتهم تناقض الأصالة ويستغرقها التصنع والرياء. دخلت المتحف ونظرت إلى الصورة فهالني منظرها حقيقة، فإن الحزن والنكد والحسرة والغم الناطق والأسى الصارخ المنبعثة كلها من وجه نبي النصارى — عليه السلام — لا تطيقه النفس البشرية، وشعرت فورًا بانقباض لا حد له. إن نفس المصور جاي لم تكن منطوية على الإيمان ولم يدخلها شعاع من الأمل أو انشراح الصدر، فأفرغ كل هذا الهم الدفين في وجه عيسى بن مريم.

ولا عجب أن تحول مفتونة أو مجذوبة أن تقتل نفسها بالسم أو بالخنجر أو يغمى عليها على الأقل. أما كون جماعة جاي ينتمون إلى الدين اليهودي فإن صح فلا عجب، فإن أبشع وأبلغ وأنكى ما يصنعه يهودي أن يبغض المسيح لأهل ملته وأتباع دينه.

وأي إنسان تقع عينه على هذه الصورة ولا يضيق بها صدره ولا يغير رأيه في معبوده؟ فهذه ليست خدمة للفن ولا للعقيدة ولا الحقيقة. إن جو الصورة نفسه يمثل مهارة المصور، ثم هذا الالتواء في الأعضاء والتراخي الناطق بالقنوط وانحدار الوجه على الصدر، وهو وجه خلا من أدنى بارقة للرجاء أو الثقة بالنفس أو بالله، وقد لا يلام المصور إذا استند إلى النصوص المقدسة، ألم ينسب إلى السيد المسيح أنه قال: «إيلي إيلي ليما سبكتني» بالعبرية «إلهي إلهي لم تركتني أو تخليت عني»! غير أنني أعتقدها سوأة وجريمة ووصمة في جبين الفن.

ثم ما شأن چنيف البروتستية الكالڤانية المتحرجة ضد التصاوير والتهاويل والأصنام والأزلام والتماثيل، ما شأنها بصورة كبيرة ملونة للمسيح في متحف الفنون؟!

أنا أفهم هذا وذاك في إيطاليا وفرنسا مقر الكثلكة، اللتين تزخر كنائسهما بهذه الأشباه والأشباح ولا أفهمه في چنيف أو لوزان.

وخرجت من المتحف ناقمًا على رب الأسرة ذلك المصور الملحد أو اليهودي نقمتي على تلك العجوز أرملته أو أخته لا أدري، وقد ورثت في سحنتها وفي نظرتها صبغة من قلب مؤسس عائلتها. لست والحق متجنيًا على المصور ولكنني أحتج عليه وأنتقده، فقد رأيت مئات الصور للمسيح في أشد المواقف حزنًا وألمًا، ولا سيما «حنان الأم» (الپيتا) من صنع ميكل أنجلو وقد رسمها في شبابه، واختارها بعد ستين عاما شعارًا لقبره فرسمها قبيل موته، وهي تمثل العذراء وقد حملت على ركبتيها جسد ولدها متوفى بعد إنزاله من الصلب، وهي صورة تهيج الأشجان حقًّا؛ لأن مجلس الأم الحنون تحمل جثة وحيدها يثير أعمق الشعور، وقد استغل المصورون النصارى موقف الأم تحمل ابنها منذ الطفولة أعظم استغلال في استدرار العطف والرحمة حتى اتخذته نساء مصر للاستجداء، فكل سائلة في شوارع القاهرة تحمل رضيعًا، وقد تكون جميلة بالية الثياب فتمزق قلوب الرجال والنساء، ولم أر في صورة الپيتا من صنع أستاذ الفن الفلورنسي غير الكرامة والثقة والإيمان مع أنه كان شبه ملحد وخاصم الباباوات ورسم أحدهم في النار (شاييل سيستين) لما تأخر عن مدّه بالمال اللازم له!

وقد فاتحت أوجستا في هذه الصورة، ونصحت إليها أن تنقل ولدها من بيت هؤلاء الناس الذين خلت قلوبهم من الرحمة، فدافعت عنهم دفاعًا حارًّا. وقد صدقت كهانتي فيهم بعد ذلك بأعوام، فقد كتبت إلي خطابًا داميًا وأنا في مصر، فإنها سافرت يومًا إلى بلدة نائية في سويسرا لعمل لها، وكان ابنها في حضانتها فاشتاق الولد لهذه الأسرة ففر من بيت والدته وسار على أقدامه ليلًا ونهارًا إلى أن وصل إلى بيتهم في ضاحية جنيف التي ألفها فطردوه، ثم أخذت الشفقة أحدهم فسلمه إلى الشرطة فوضعه رجال البوليس في ملجأ المعوزين، فقضى ليلة في فراش أشبه بنعش الموتى. وكتبت إلي هذا الوصف في خطاب فلم يدهشني، وقد سافرتْ وتسلمت الطفل من الملجأ، وكان من خبث هذه الجماعة أنهم وضعوا بين يدي الطفل كتاب «عائلة روبنسون»، وهو كتاب يروي قصة طفل وحيد يتيم أو مهجور يعيش في كنف متسول، وقصدهم أن يشعروا الصغير بالذل والهوان ومرارة الوحدة مع أنهم كانوا يتقاضون من أمه مئات الفرنكات في كل شهر.

وهذا الذي حداني إلى الظن بيهوديتهم لقسوتهم وحبهم المال.

على أنني لا أضع كل التبعة على كاهل الكفلاء المأجورين، بل على كاهل زواج السيدة من كهل غني هو والد الطفل، وإن اختلاف الطباع والأمزجة وتفاوت السن وتعلق الزوج بالماديات وانصراف الوالدة إلى المثاليات، كل هذه أدت بالأسرة إلى التفكك فوقع الطلاق في السنة الرابعة من مولد الطفل، فكفلته جدته لأمه ثم أرادت الأم أن تصحبه إلى أوروبا الغربية خوفًا عليه من الوسط الروسي في بلدتهم مويلف وما تزال هي في نضرة الشباب والجمال وبحبوحة العيش، فكانت بين نارين عنايتها بفلذة كبدها وقناعة قلبها بمطالبه الملحة. وكان لأمها ضيعة في مقاطعة پادولي وكان لها أخوات قادرات في بطرسبرج وموسكو فما كان أخلقها بأن تأمنهن على ولدها إن كان سفرها إلى غرب أوروبا حتمًا عليها. ولكن عذرها أنها خشيت عليه النشأة في الأوساط الثورية التي بدأت تنمو وتزدهر في روسيا، وتدعو إلى الفوضوية والعدمية، ولم يتقدم أبوه لضمه إلى حضانته ولعلها هربت من روسيا؛ لتنفرد برعايته أو خوفًا من أن يحرمه مطلقها من حنانها، هذا ما لم أهتد إلى معرفته وكان جزءًا من الغموض الذي يكتنف قلبها وعقلها وماضيها، فلم تكن تجود علي إلا بالقليل من أخبارها ولم أكن أرى من حسن العشرة أن أحاول الوقوف على أسرارها، واكتفيت بأمرين؛ الأول: أنها مطلقة حقًّا من زوجها وأنها ليست مرتبطة برجل، والثاني: أنني رأيت أمها في سنة ١٩٠٨ بلوزان فتركت في نفسي أثرًا بالغًا بكمالها وعقلها وأدبها وحسن لقائها وكرم وفادتها.

وقد روت تلك الأم في أغسطس سنة ١٩٠٨ وهي تذرف الدمع أن فتاة نبيلة روسية من أشرف الطبقات وأكرم البيوت دخلت عليها في ثياب رثة، وبعد أن حيتهما طلبت منهما إبرة وخيطًا لترتق فتقًا في ثوبها المهلهل، وكانت الفتاة على جانب كبير من الجمال والثقافة والنبل، فقدمتا إليها ما طلبت ثم عرضتا عليها في استحياء أن تشرفهن بشرب فنجان من الشاي، فغضبت وقالت لهما: «أتظنان أنني دخلت بيتكما بحيلة الثوب لأستجدي أو لتتطوعا بإنقاذي من الجوع والظمأ. على رسلكما لقد أخطأتما خطأً بعيدًا، ولم أهجر وطني وأهلي وبيتي لألتمس من روسيات غير لاجئات «أي: ثائرات» مددًا أو زادًا أو نقودًا، طاب ليلكما»، ثم همت بالانصراف ولم تستطع إحداهما أو كلتاهما أن تثنيها عن عزمها وقد توسلتا وتشبثتا ونفتا جهدهما هذا الوهم من ذهنها بكل وسائل الاعتذار والتوكيد والتبجيل، فلم تجد معها وسيلة، فقلت للسيدة: «لعلها مصابة بدخل في عقلها بسبب وحدتها وغربتها وحاجتها». فقالت لي: هذا الذي أخشاه، وهو أشد ألمًا وحسرةً. وكل هذا في سبيل شعبها ووطنها وا رحمتاه!

وقد أحببت المرأة من تلك اللحظة لإنسانيتها وإدراكها ولم أرها في حياتي إلا في تلك المناسبة.

عيشتي وأعمالي في چنيف

كانت هذه الأسطر من صفحة الحياة وذكريات الصيف الأليم الذي قضيته في لوزان تلقي شعاعًا على صلتي بهذه الأسرة الأم والبنت والطفل، وقد بقيت في نفسي ذكرى حسنة عن الأم وكنت أنتظر أن أراها في چنيف، وكذلك بقيت في نفسي فكرة غامضة عن انتساب هذه السيدة الشابة للحرية والحركة الفكرية، التي كانت في تلك الفترة تغلي غليان المرجل ولا سيما أنها خبرتني أنها كاتبة ومؤلفة وتنقل عن اللغات ومطلعة على الآداب، فبيني وبينها على الأقل رابطة الأدب والاغتراب، وكل غريب للغريب نسيب، وقد خرجت من ليون هاربًا بعمري خائفًا من المرض الذي يتعقبني، مرض الجسم والروح، وفارًّا من جمود البلد وبرود طبيعة أهله ووحدة العيش في بيت مأجور.

نعم كنت أتسلى بالمطالعة في أوقات الفراغ وأغشى مجالس العلم وأستمع إلى محاضرات القانون، وأصرف همي في الدرس وأروّح عن نفسي بكلية الآداب ودراسة الهيروغليفي على الأستاذ لورتيه وكان من رفاقي في الدرس بيير مونتيه الذي اكتشف مقبرة بشنس في صان الحجر والمرحوم أحمد زكي شقيق الأستاذ توفيق سري، وشهدت مرضه ومصرعه في مقتبل العمر فحز في نفسي موته بعيدًا عن وطنه، وكنت أحاضر في قاعات المحاضرة وأشارك لامبير وهريو في تكوين المدارس العلمانية (ميسيون لاييك)، ومن بينها الليسيه الفرنسية التي تأسست في مصر لمقاومة النزعة الدينية في مدارس الفرير، وقد لفت كثير من أصحابي نظري إلى ضعفي وتغير حالتي، وأشاروا علي بانتهاز فرصة عطلة الفصح لأخرج عن هذا الأفق السمج المظلم لولا سماع الموسيقى وحضور حفلات التمثيل في تياتر سلستان، وقد عشت عيشة سعيدة في چنيف في بيت آل راسين وكنت أتسلم بريدًا ضخمًا، فإني لم أقطع صلتي بأصدقائي الأيرلنديين والهنود الذين عرفتهم في مؤتمر چنيف المصري سنة ١٩٠٩، وكان كثير من الفضلاء يبعثون إلي بكتبهم المطبوعة وكنت إلى جانب الدرس والحديث مع أوجستا ومدام راسين أخرج إلى النزهة حيث تقودنا أقدامنا، وأشتري الأزهار بكثرة لأوجستا، فقالت لي يومًا: إن زينا قالت لها: «إن فلانًا يحبك حبًّا شديدًا والدليل على ذلك إهداء الأزهار بكثرة هائلة. لو كنت مكانك لبادلته الحب»، فقلت لها: أتجرؤ فتاة أن تتحدث إلى سيدة رشيدة بهذا الكلام، فقالت: نعم وأي عيب في ذلك، إنك لا تعرف الحرية التي تتمتع بها الفتيات في روسيا إن عندنا مذهب نيشڤو! لا مولى في الأرض ولا في السماء!

قلت: أعوذ بالله، فضحكت وقالت: لستُ على هذا المبدأ ولكن هذا يدلك على الحرية، إذا زاد الضغط عن القدر المحتمل انفجر الوعاء ولا بد من التطرف للوصول إلى الاعتدال، فقلت لها: بماذا أجبت زينا كاتمة أسرارك وكاتبة يدك؟ فسكتت ثم قالت: قلت لها: ومن يدريك يا صغيرتي أنني لا أحبه!

٥

غيرة

وفي يوم من الأيام خرجنا عصرًا إلى شاطئ نهر الرون في مكان خال، وجلسنا على ضفة النهر وكان الغروب جميلًا والأفق بديعًا والنفس هادئة فقالت لي: إن المرأة مجنونة. قلت: أية امرأة؟ قالت: كل امرأة وأنا خاصة فإن الإنتاج العقلي عندي تصحبه رغبة شديدة في الإنتاج الجثماني … أريد أن ألد طفلًا يكون مثلك، فذعرت فابتسمت وقالت: هذه مجرد رغبة فقد انطبعت صورتك في نفسي وأريد انطباعها في بدني فأراك دائمًا. ثم إنني أغار عليك من جان راسين فإنها كالمطعونة في قلبها، وهي مغيظة محنقة، قلت لها: لم أر ذلك. قالت: الليلة أكشف لك سرها. ونهضنا من جلستنا وعدنا إلى البيت، وأويت إلى غرفتي وأوت أوجستا إلى غرفتها وغابت ثم استأذنت بعد برهة طويلة وهي خارجة من حمام وشعرها مبلل ووجهها على طبيعته. فلمحت للمرة الأولى في عينيها لونًا لم ألمحه من قبل، خضرة بزرقة خفيفة تجعل لون العين كلون من القطيفة النادرة، وكانت منفعلة ممتقعة وتحمل إلي فنجانًا من الشاي بيدها وقالت بصوت متهدج: صنعته لك بيدي.

وجلست إلى جانبي وكانت خائرة القوى فسألتها عن حالها وسبب اضطرابها قالت: كنت أفكر فيك وفي نفسي وهل أنا مخطئة إذ اقتحمت حياتك هكذا بغير دعوة منك وأنت شاب وطالب وغريب، وقد تعلقت بك وكان لفراقنا عند سفرك إلى ليون فجعة لم أر مثلها في حياتي، فكيف أربطك بنفسي وعليك واجبات، ونحن نختلف جنسًا ولغةً ودينًا وإن كنا متفقين طبعًا ومزاجًا وميولًا، وكنت أتمنى أن أصادقك وأعطف عليك وأحبك كما تحبك مدام جوتز ومدام كورفون حبًّا هادئًا رزينًا.

فقلت لها: على كل حال لست مصنوعًا من خشب البلوط، ولا من مرمر كارارا ولست جاهلًا بالنساء، ولا تظنين أنني صبي بكر ولكن لا أخفي عنك أنك تفاجئينني مفاجأة سارة.

قالت: صحيح؟ إذا أرت أن تحب زينا فأنا لا أمنعك.

فقلت: ويل لي إذا خطر ببالي هذا الخاطر.

قالت: إذن حب مدام راسين فإنها تحبك وهي كاثوليكية ومتزوجة وتبغض زوجها وتحتقره، وتغار عليك مني وترمقنا بعين الحسد والحقد وتوعز إلى أمها أن تتجسس علينا لترى مدى علاقتنا، ألا ترى أنها تكاد على المائدة تلتهمك بنظرها، وأنها تتفانى في رضائك وأنها تقشر لك الفاكهة وتتفنن في طهي ما يرضيك، وتتزين لك وتحقد علي كما عزفت لك على البيانو … وقالت لي: إنك بعثت إليها من ليون خطابًا قلت فيه: إن طبيبك قال لك: عد إلى المكان الذي كنت به فإنه أصلح لحياتك، وأنا أعلم سر عودتك ولكنني لم أشأ أن أكسر قلبها أو أثير غيظها، وأفضل أن تبقى غيرتها مكتومة في صدرها وهذا أقتل لها وأنفع لنا، قل: إنك عدت لأجلي فإنني لم أطق عنك صبرًا، وأوشكت أن أرحل عن چنيف وآتيك في ليون أليس كذلك أنك جئت لأجلي؟ قل لي هذا فأنا أحب أن أسمعه منك.

فقلت: أكون مبالغًا لقد جئت لأسباب كثيرة. إنني لا أزال ناقهًا ولم أبلغ نهاية التعب وبداية الصحة التي أرتضيها لنفسي، وأنا أحب مجلسك وحديثك، وقد تفاهمنا في أمور كثيرة، وأحب عزفك على البيانو أدوار شتراوس وبراهمس باخ فقد فتحت لي عالمًا جديدًا، وأحب صوتك ويديك الناطقتين وأحب حبك ابنك وعنايتك به وأرثي لطلاقك أو فرقتك من زوجك، أما مدام راسين هذه فلا يعقل أن أفكر فيها؛ لأنها زوجة وأم أولاد وصاحبة فندق وحولها آفات من أهلها وذويها، ثم إنها لا تجذبني ولكني أتأدب معها، ثم إنها امرأة سطحية جدًّا، وفوق هذه كلها لم أجئ إلى جنيف لأقارن بين النساء لأختار منهن واحدة، فإن مدينة ليون زاخرة بالجمال والفتنة ولكني لم أفكر في هذا قط وإخواني المصريون يسخرون من عفتي ويعيرونني بالتقوى، ويعتقدون أنني ماهر في التغمية عليهم ولا بد أن يكون لي فتاة أفضلها وأخفيها عنهم؛ لأنهم لم يروني قط في صحبة امرأة ولا يدخل في عقلهم أنني بعيد عن النساء بعدي عن اللحم والنبيذ والطباق والقهوة والشاي. ولكن هذا موضوع طويل.

موسيقار أمريكي

وعندئذ دق جرس العشاء فنزلنا معًا إلى المائدة ورأينا للمرة الأولى رجلًا طويلًا بادنًا يشبه في تقاطيعه وجه بيتهوفن، فقدمته مدام راسين إلي باسم مستر ويكس الأمريكي، فوجدته رجلًا مؤدبًا خجولًا متواضعًا يكاد يكون زاهدًا، وإلى جانبه عجوز عانس دميمة جدًّا متبرجة وقالت مدام راسين: هذه الآنسة بورتبيان شرفَّت بيتنا بعد مراسلة طويل حتى وثقت أننا نقطن بجوار كنيسة كاثوليكية؛ لأنها متعبدة، فانقبضت نفسي لها بقدر ما انبسطت لمستر ويكس الذي ظننته موسيقارًا موهوبًا لشدة الشبه بينه وبين بيتهوفن.

وكانت المائدة من قبل مقصورة على آل راسين، وعلينا فسرني قدوم الضيفين؛ لأن فيه فائدة محققة لخزانة الأسرة.

ولكن رأيت جان راسين باقية على عادتها معي من العناية، فلما قشرت لي الفاكهة مدت لها الآنسة العانس يدها بفاكهتها زاعمة أنها لا تعرف كيف تقشرها وترجوها أن تصنع لها ما صنعت لي، فأغضت عنها صاحبة البيت ولم تنظر إليها فابتسم ويكس ابتسامة ساحرة ساخرة، وكان يتكلم الإنجليزية ولكنه يفهم الفرنسية والألمانية.

وبعد العشاء قمنا إلى الصالون واعتذرت المدموازيل العانس العجوز بتعبها بعد السفر، وبعد فترة قصيرة نهضت أوجستا إلى البيانو وعزفت مقطوعة لشوبان، فرأيت ويكس مصغيًا إصغاءً تامًّا يتتبع في اهتمام زائد أناملها، وهي تجري على مفاتيح البيانو ولما انتهت صفق لها.

فقلت له: هل أجادت العزف؟ قال: نعم.

قلت: أتحب الموسيقى؟ قال: نعم.

ثم نهض وخلع حرملته أو مشلحا پلرين وانحنى يحيينا ثم جلس إلى البيانو بين دهشتنا وصمتنا ثم بدأ يعزف. دقة معلم عبقري وفنان عريق، فرأيت الانفعال في وجه أوجستا والعرق ينبذ في جبينها، عزف من باك ومن بيتهوفن من الذاكرة. ثم نهض وحيا وجلس في ركنه بعد أن لبس حرملته التي تجعله كالكاهن الحاج أو كالسائح في الجبال.

فعقد الإعجاب ألسنتنا إلا أوجستا فإنها قالت لي: قل له بالإنجليزية: إنني أعتذر إليه؛ لأنني تجرأت أن أعزف في حضرته فإنها لم تسمع أحدًا مثله من قبل، فابتسم في حياء وهو خافض البصر وقال: آسف لأن البيانو الخاص به لم يصل بعد وأنه لن يأتي إلى جنيف بل سيسبقه إلى تيزنيه وسيون وڤيڤي؛ لأنه سيحيي هناك بضع سهرات.

وكانت في عين جان راسين نظرة انتصار وفرح كبير؛ لأنها اعتبرت ظهور هذا الموسيقار هزيمة كبرى لأوجستا فقالت: «لم نعلم يا سيدي أنك موسيقي بارع حتى هذه الدرجة»، فأردت أن أنقذ الموقف وقلت: لأن بعضنا لا يقرأ مجلات الفنون فإن مستر ويكس عازف بيانو عالمي، وقد قلت ذلك مجازفًا وبنيته على الظن؛ لأن من يتبعه بيانو من أمريكا ويُدعى ليحيي حفلات في مدن سويسرا لا يمكن أن يكون مثل زيد وبكر وعمرو. فصمت ويكس ولم ينطق بكلمة، ولكنني عقبت قائلًا: يكفي النظر إلى وجه المايسترو ويكس ليعلم الناظر أنه مقسوم للموسيقى ومكتوبة عليه ومقدّر لها، فكل النوابغ متشابهون وهو أشبه من رأيت من الأحياء ببيتهوفن.

فنهض وانحنى وعزف من جديد وأجاد وأبدع. ثم نهض وحيا واعتذر بالتعب وأوى إلى غرفته.

وبقينا نحن الثلاثة، فقلت لمدام راسين: أنا أهنئك بهذا الضيف العظيم، قالت: ولكن إقامته قصيرة.

قلت: يجب علينا أن نفيد من إقامته بقدر المستطاع وأن نكرم مثواه، وانتهت السهرة وانفض المجلس، وقالت لي راسين: بقدر سروري بمستر ويكس فقد انقبضت لمقدم هذه الكالثوليكية العانس والعجوز المتبرجة التي تريد أن أقشر لها الفاكهة. فقلت لها: لا تجعلي اختلاف المذهب يتحكم في مصلحتك فهي على كل حال ضيفة كريمة.

فقالت، وهي تنظر إلى أوجستا: إن الإنسان يتحمل كثيرًا بحكم الصنعة وحكم الأقدار، ونظرت إلى أوجستا وقالت: أليس الأمر كذلك؟ فأجابتها: لا تكلفي نفسك يا سيدتي أكثر من طاقتها ولا تحملي عبئًا أثقل مما تستطيعين.

وصعدنا بعد أن ودعتنا إلى أول الدرج.

وفي الغداة تيقظت ووجدت ورقة مكتوبة ومطروحة على الأرض مدفوعة من الفراغ بين الباب والعتبة، فتناولتها وإذا بها بخط أوجستا وفيها تيقظ يا صديقي فإن الشمس تملأ الحديقة والهواء جميل والربيع يناديك، ولم يسبق لها أن تكتب لي ولكنني ذكرت أنها كانت تريد أن تخرج إلى نزهة في الصباح.

ولكنني أردت أن أقابل ويكس قبل أن أغادر البيت فقد سرتني عشرة هذا النابغ المتواضع.

سؤر الكأس

وبعد العمل والتعب جلسنا على مائدة الغداء وحدث حادث لم يسبق له مثيل، وكان على المائدة مستر ويكس وآل راسين ومعهم سيدة متقدمة في السن لطيفة العشرة تمتُّ لهم بصلة قرابة بعيدة قضت معظم أيامها في إنجلترا والعانس الدميمة المتزمتة.

وكانت أوجستا تأكل اللحم وتشرب النبيذ في إبريق، وقد ألحت علي أن أتذوق النبيذ مرة إكرامًا لمستر ويكس وأن مرة لا تعد عادة ولا تكسر الجرّة ولا تضر الصحة، ولم أفطن إلى قصدها، وقد أضاف ويكس رجاءه إلى رجائها وكذلك مدام راسين وليتها لم تفعل وقالت: إن عندها نبيذًا ألمانيًّا من كروم نهر الراين، فلم أشأ أن أظهر بمظهر التنطع وضيق العطن إلى هذه الدرجة، وقلت: لن أشرب إلا قدحًا واحدة. فقالت أوجستا: ونحن لم نطلب أكثر من ذلك.

فرفعت الكأس وتذوقت النبيذ ولست به خبيرًا ولكن كان طعمه ولذعته ونكهته مدهشة، فاستحسنته جدًّا وشربتها حتى نصف الكأس، فقالت مدام راسين: إنه ألطف من شاتونيف وأن أباها ذواقة، وفي وسط سكون وصمت حدث الحادث العجيب.

بدأ هكذا، قالت أوجستا: هل أعجبك النبيذ يا صديقي؟ وكانت تخاطبني من قبل مخاطبة السيدة للسيد بلفظ موسيو. قلت لها: نعم يا سيدتي، قالت: لتعلم في المستقبل أن لا ترفض لي رجاء، ثم مدَّت يدها إلى كأسي وما يزال بها نصفها وتناولتها ببطء، وقبل أن أفطن إلى قصدها رفعتها إلى شفتيها وشربت وقالت: هذا لتوكيد صداقتنا، فكادت أدوات السفرة تقع من يدي وانقطع الطعام وتبادل الأضياف نظرات ذات معنى، وأرغت العانس الدميمة وأزبدت، وجحظت عينا مدام راسين ودفن زوجها أنفه في الطبق، وأرسل ويكس ضحكة عالية وظهر في وجه أوجستا شيطان الطرب والفوز.

وقالت لي: ماذا جرى يا صديقي أليس لك أن أشرب سؤرك وأتذوق من الكأس التي تذوقتها؟ إننا في روسيا لا نقيم للأوضاع المتفق عليها في غرب أوروبا وزنًا ونعد أكثرها نفاقًا.

فلم أر أن أهزمها أو أغدر بها وأنا أعلم بواعث نفسها في تلك اللحظة، فقلت: وأنا أيضًا لا أبالي بالأوضاع المتفق عليها.

وتصنَّعت جان راسين ضحكة صفراء حزينة أشد من البكاء ولعبت تقاطيع وجهها ثم انفجرت بالبكاء، ثم تمتمت ببعض ألفاظ مبهمة. ولكنها لم تغادر المائدة، ولكن أحدًا منا لم يذق الطعام بعد ذلك.

وقمت إلى قاعة الجلوس وتبعتني السيدة العجوز قريبة أهل راسين، وجاء ويكس وقالت لي السيدة العجوز: ربما لا تعلم يا سيدي أن جان فتاة مسكينة (هكذا) وأنها بقيت إلى سن العشرين خرساء لا تتكلم، وأنها كانت منذ هنيهة في خطر شديد وربما يعاودها البكم، فذعرت وقلت لها: ماذا تقولين يا سيدتي؟ قالت: أقول لك الحق وأنها شفيت بانفعال شديد وقد يعاودها الأمر بانفعال مثله وأنا لا أعيب السيدة على شرب النبيذ من كأسك، فهذه عادة روسية بين العرس والعروس وإنْ تكن مجهولة في غرب أوروبا ولا أرى فيها عيبًا، ولكن جان فتاة خجول شديدة الحياء فهذا الأمر قد آلمها جدًّا؛ لأنه بغتها وأنت لا تعلم أنها كانت بكماء، قلت: وكذلك السيدة التي شربت لا تعلم وأنها لا تقصد شيئًا غير ما ذكرت من رغبتها رفع التكليف ولا أدري ماذا قام في ذهنها، على أنني لا أملك أن ألومها ولم يسرني هذا الأمر ولم يسؤني.

فقالت السيدة الطيبة: «ثم إنكم لستم في دير رهبان ولا مدرسة بنات ولا صومعة راهبات، ولم تأت السيدة أمرًا إدًّا، وأنا عشت في روسيا وأعرف عادات أهل البلاد. فلا تشغل بالك بجان وسأتولى بنفسي تهدئة خاطرها». فقال ويكس يسألني: هل يدور الأمر حول الكأس كما أظن، إنها زوبعة في فنجان. ليس الأمر عجيبًا وهل جوار الكنيسة الكاثوليكية يضع حرجًا على مسالكنا. فقلت له: أنا لا أفهم هذه المسألة. قال: ولا أنا ليس هذا خرقًا في درع سان چورچ ولا في مسوح كالڤن.

وذهبت إلى غرفتي فوجدت أوجستا قابعة بها فلما رأتني قالت: هل أنت عاتب أم ناقم علي أم ناقد مسلكي؟

قلت: لا هذا ولا ذاك، ولكنني فوجئت بالفعل ولو كنا على انفراد أو على اتفاق سابق لشكرتك، وقد وجدت في الأمر مظاهرة لا مسوغ لها ولكنني ناصرتك؛ لأن هذا واجبي فقد فعلت هذا لأجلي ولم أكن بحاجة إليه فإنه لا يزيد في علاقتنا ولا ينقص.

قالت: أراغب عني؟ قلت: ولا هذا موطن السؤال.

قالت: ولكنني قطعت على جان خط الرجعى وأعلنت لها أنني لا أبالي ولا أصبر على المكايدة، ولم أحرج موقفك بل أحرجت موقفي وفرحت أن هؤلاء السويسريين المنافقين يقضون علي بأنني تهتكت في هواك. وإن كنت هفوت أو أخطأت فلا بد في حالتي أن أهفو وأخطئ.

قلت لها: ولكن شيئًا واحدًا آلمني وهو ما أصاب المرأة من الانفعال والبكاء، ولعلك لا تعلمين أنها كانت بكماء خرساء وأن انفعالًا قد يعيد إليها البكم كما أزاله عنها انفعال سابق.

فقالت: بكماء خرساء؟ من قال هذا؟

قلت: مدام فلانة قريبتها.

قالت: ولكن عينيها ونظراتها ليست بكماء. إنها كادت تجنّ من الفرح عند نجاح ويكس في عزفه وظهوره تفوقه علي مع أنني هاوية متطوعة وهو محترف متقن. وعلى كل حال فلست نادمة.

تصميم على مغادرة منزل آل راسين

وفي صباح اليوم الثاني انتظرت مدام پيدو حتى الضحى، ثم ظهرت لي فجأة في ثياب قذرة مهلهلة ووجه كالح وأسنان صفراء محطمة وأيد معقدة وحذاء من خشب (سابو) وحيتني ووقفت صامتة ثم دخلت وأغلقت الباب وراءها وقالت: أريد أن أفاتحك في أمر. قلت: هاتي ما عندك. قالت: إن ابنتي تريد أن تزيد العناية بك وترعاك رعاية فائقة وتصونك من كل سوء وهذا باتفاقنا جميعًا ومعنا زوجها؛ ولذا نقترح عليك أن ننقل غرفتك إلى جوار غرفتها فهل توافق؟ فقلت لها: بلا ريب وأشكرها على هذا الجوار ولكن أين زوجها المحترم؟ قالت: في الدور التحتاني مع الأطفال.

قلت: ظننتهما في غرفة واحدة كعادة الأزواج.

قالت: كلا فإنك ومعشوقتك (كذا؟) تنامان في غرفتين منعزلتين وهذا لا يمنعكما الاجتماع وقتما تشاءان.

وانتظرت العجوز الخبيثة لترى تأثير كلمتها في نفسي، وكنت بريئًا من تهمتها ولا يغيظني شيء كالظلم والكذب، وقد عرفت العجوز كيف تغيظيني فصممت على أن أرد كيدها في نحرها فضحكت وقلت لها: لا ريب إذا نقلت غرفتي إلى جوار ابنتك العزيزة سيكون بيني وبينها ما ذكرت أنه بيني وبين السيدة الأخرى. قالت: هذه أشياء لا تقال، وعندما حضرتَ ونزلتَ بيتنا قلتُ للسيدة الروسية: «إن حبيبك قد وصلت» Votre amoureux est arrivé فلم تعترض ولم تغضب وسألت عن منظرك ومظهرك ووصفتك لها، ففرحت واحمر وجهها وكانت مريضة فزال مرضها.

قلت: قلت لها ذلك؟

قالت: نعم ولم لا ونحن نرقب هداياك إليها وتلك الأزهار التي تسرف في شرائها.

قلت: حسن جدًّا وعليك أن تعدي لي الغرفة التي تريدين وليكن الانتقال غدًا حتى أودع غرفتي هذه؛ لأنني شديد التعلق بالأماكن.

ففرحت العجوز وشكرتني وهى لا تدري ما عقدت عليه النية، وصممت عليه وهو أن أغادر هذا المكان.

وهرولت قائلة: سأبشر جان.

وأحسست برعشة تعروني وبرد يتمشى في عروقي.

وبعد هنيهة جاءت جان نفسها وهي باسمة ودخلت وأغلقت الباب وراءها.

وقالت: أشكرك وسوف ترى مني كل ما يسرك فقد قالت لي أمي كل شيء.

وفى تلك اللحظة سمعت صرخة مدوية، صرخة كصرخة الوحش الجريح ولم أستبن الكلام الذي قيل، ولكنني أيقنت بوقوع كارثة ولم أعلم مصدرها. فنهضت جان وأبلست ونهضتُ خارج الغرفة فرأيت غرفة أوجستا مفتوحة وهي واقفة ممتقعة تشير بيدها وترتجف من قمتها إلى أخمص قدمها وأمامها الماكرة پيدو تقول: لا تنكري!

فوقفت إلى جانب أوجستا وقلت لها: أنت التي صرخت هكذا! ماذا جرى؟

فأبلست پيدو بدورها وهرولت.

وأجهشت أوجستا بالبكاء، فقلت لها: لا تفكري فيما حدث. ماذا قالت تلك العجوز الشمطاء الساحرة؟

قالت: قالت لي: محبوبك سيسكن بجوار ابنتي، فقلت لها: اخرجي من هنا يا امرأة السوء، قالت: هل غاظك بعده عنك … لا تنكري.

قلت لها: لا عجب لقد وعدتني بأن تظهري سر مدام راسين، وها أنت أظهرته وقد صمَّمتُ على الرحيل من هذا المكان.

قالت: وأنا معك فلا تتخلّ عني ولا تتركني إني أتبعك إلى آخر الأرض.

قلت لها: لا آخر الأرض ولا أولها.

ودعوت الخادمة جانيت وكانت تبكي وقلت لها: أعدي حقائبي ريثما أحاسب مدام راسين وأتحدث بالتليفون. فقالت: يا سيدي يا له من نكد وغم يصيبني، وسارعت بالنزول فألفيت موسيو راسين الزوج المسكين، فحياني بلطف كعادته وناولني الصحف التي أحضرها لي من جنيف المدينة فقلت له: هذه هي المرة الأخيرة التي تسدي إليَّ فيها جميلًا.

وتحدثت في التليفون إلى ڤيلا دي روز بشامبل وهي بيت عرفته من قديم في حي من أجمل أحياء جنيف، وطلبت إليها أن تحجز لي غرفتين منفصلتين، وودعت ويكس والعجوز القريبة وحاسبت جان وأنا مشفق عليها وودعت ولديها وقلت لها: إنني لم أتفاءل خيرًا بوجه العانس المتكثلكة، ولا أحمل لك ضغنًا وكنت أنوي أن أقبل اقتراح أمك الوقورة لولا أنها كشفت سر الاتفاق، وأهانت السيدة المظلومة فعلّميها أن الأسرار لا تذاع والأستار لا تهتك على هذه الطريقة التي ألفها من ينتعل القباقيب. قالت: إن مدام أوجستا لا يصح لها أن تغضب من أمي؛ لأنها تعرف أنها عجوز خرقاء أصابها خرف وأنا لم أسمح لها أن تهين أضيافي في بيتي ولم يكن لها دخل وهي ظنت أنها تحسن إلي فأساءت، فاعدل بربك عن الرحيل فإنك لن تجد مكانًا كبيتنا وإن مدام فارين صاحبة فيلا دي روز ضيقة العطن تجمع في بيتها خليطًا لا تروقك عشرتهم. قلت لها: إنني أتخذه موطئ قدم إلى أن أستعد للسفر إلى ليون.

وهنا حضر راسين وفرك يديه وقال: يسرني أن صحتك تحسنت وأن واجبك يا سيدي …

فقالت له زوجته: صه يا شارل فلم يبق إلا أنك تتكلم عن الواجبات.

قلت: لا تحجري عليه يا سيدتي. قال: إن واجبك يا سيدي يقتضي أن تعني بصحتك حتى تستكمل عافيتك.

ومددت يدي بالحساب وكانت جانيت قد أعدت حقائبي، واستقدمنا سيارة وغادرنا بيت راسين في غروب الشمس تقريبًا.

٦

في شامبل

ووصلنا شامبل بعد نصف ساعة، فأنزلتنا مدام فارين على الرحب والسعة، وأعدت لنا العشاء في إحدى الغرفتين وتعمدت أن أضحك وأداعب أوجستا وقلت لها: تأبى بنات حواء إلا أن تخرجن بني آدم من الجنة كأن بيننا ثأرًا قديمًا ولم يكن إبليس في هذه المرة مسئولًا، ولكن المسئول حية تسعى هي مدام پيدو. قالت لي: أغاضب علي؟

قلت: كلا لقد صرنا على الأقل أحرارًا فإذا اتهمونا ونحن أبرياء فقد آن الأوان أن نستمر على تكذيبهم باستمرارنا في براءتنا؛ ولذا طلبت غرفتين منفصلتين وكان يمكنني أن أرضى بغرفة واحدة.

وتعلمت من مدام پيدو أن سويسرا وأتباع كالڤن قد درجوا على المحافظة على الظواهر وأتقنوا النفاق السكسوني من طول ما خدموا الإنجليز ووقفوا على أحوالهم.

وكان المجتمع في هذا المكان عجيبًا جميلًا، ففيه علماء ألمان وفتيات بولونيات وآنسة تتكهن بالمستقبل وتعمل الطوالع من مدينة براج، وتطلب القانون الروماني واسمها فراولين فراير، وقد أحاط السيدات والأوانس بأوجستا وأحببنها ولم يكترثن لي ففرحت بذلك وضمنت راحتي، ولم أر وجهًا كالحًا كوجه پيدو ولكنني حننت من قلبي للأطفال وﻟچانيت التي خدمتني بإخلاص، وحننت للمكان كله والليلة الأولى التي قضيتها تحت سقفه، وعجبت لتعاقب الحوادث وتواترها كأنها سلسلة فصول من رواية تجمع بين الضحك والبكاء من تأليف القضاء والقدر.

وفي اليوم التالي قالت لي أوجستا: أنا شاعرة أنني أسأت إليك وأقلقت راحتك، وأرهقتك وأرغمتك على ترك مكان تحبه وقد اخترته بنفسك. قلت لها: لم أخسر شيئًا ولكن أسفي على أنك بعدت عن مقر ابنك وعن مكان زينا، وعن أماكن تعودت أن تعيشي فيها أشهرًا. وعلى كل حال يا صاحبتي ليست جنيف وطني ولا وطنك ونحن أنَّى نكون فيها فنحن غرباء نكرم حيث ندفع الثمن ونأجر الخدم ونحاسن السادة، ولكنني لم أستطع أن أمالئ أسرة راسين إلى الدرجة التي أرادتها تلك القوادة الذميمة مدام پيدو.

فقالت أوجستا: إذن صحيح ما قالت لي: إنها دعتك لابنتها وقبلت دعوتها فقلت: لو كنت قبلت ما رحلت وما حدث شيء من هذا. الأمر كله منحصر في كلمتين أنك أشفقت من غيرتك وغيرة چان راسين، فتآمرت ومدام پيدو بغير وعي؛ لأن كلًّا منكما كانت تعمل لما تراه في مصلحتها، فأحدثتما زوبعة جنيت أنا ثمارها واكتوت جان البكماء بنارها، فلا نعود إلى هذا الحديث مطلقًا.

ودق جرس التليفون ودعتني الخادمة باسمي فدهشت من يكون في جنيف يعلم موطني الجديد بهذه السرعة.

وإذا بصوت چان راسين في التليفون: صباح الخير يا سيدي.

– نعم يا سيدتي.

– إن مدام … نسيت هنا شيئًا ثمينًا.

– أتحبين أن تخاطبيها.

– كلا بل فيك الكفاية.

– وماذا تريدين. كيف صحة زوجك وأولادك أولًا؟

– شكرًا لك، إنها نسيت قميص نومها في غرفتها.

– حسنًا افعلي به ما يسرك، ابعثي به مع رسول أو في البريد أو احتفظي به، فلن يكلف أحدنا مشقة الانتقال من أجله فليس قميص يوسف ولا بلقيس.

وقطعت الحديث. وأظن جان كانت تحب التحكك بنا والمماحكة لعلها تصل حبال المودة التي صرمتها أمها، فلم أمدّ لها ولم أخبر أوجستا. وقد ذكرت هذه المحادثة تدليلًا على لكاعة أهل جنيف وخبثهم، فإذا كنت خرجت ومعي السيدة، فماذا يهم أن أسمع ذكر قميصها أو ثيابها كافة، وليس القميص حتى ولو كان قميص النوم بعورة.

بين روسو وڤولتير

وقد بدأت فترة جديدة في حياتي وصار قربي من جنيف أنفع لي في الوصول إلى المكتبة الجامعية، فإن الطريق كان قصيرًا بين شامبل وساحة بلانباليه وساحة اللعب وميدان الجنرال ديفور بطل سويسرا الوحيد مثل الميجور داڤل في لوزان. ومن هناك إلى كاروج فشارع مونبلان والجسر الكبير وجزيرة جان جاك، وفي هذه الأسواق والمتاجر كل ما تشتهي النفس، وساحة بلير وموقف الكهرباء الموصل لپيتي لانسي.

وعرفتني أوجستا بمكتبة كبيرة على أن تطلعني على روائع الأدب الفرنسي، ولا سيما مؤلفات جان جاك روسو وفولتير، وأحضرت لي الاعتراف والعقد الاجتماعي وأسباب التفاوت بين البشر وإميل فالتهمتها، ثم أحضرت لي مؤلفات ڤولتير ومسرحياته وقصصه الفلسفية، فأحببت روسو وأبغضت فولتير ورأيت في الأول شبهًا بين مزاجه ومزاجي وصعلكة ومغامرة وثورة تروقني، ووجدت في فولتير عقلًا جبارًا هدامًا متهكمًا ساخرًا متأففًا، أما روسو فقد حاول البناء والتعمير وهو حكيم على الفطرة مخلص صادق متصوف صريح فضاح، لا يخشى في الحق لومة لائم، لم يلجأ إلى الملوك ولم يعش وراء سراويل سيدات البلاط مثل فولتير، ولم ينافق كما نافق فولتير الذي كان ملحدًا وممعنًا في الإلحاد ثم يتمسح بأعتاب البابا، ويهدي إليه كتبه وفيها طعن في حياة نبي المسلمين لينال رضاه وغفرانه، وهو لا يؤمن بالغفران ولا بجنة ولا نار، ثم يهدي إلى ملك إنجلترا كتبه وينظم في مدحه القصائد الطوال ويدخر المال ويقرضه، ويقطن قرية ڤرني في قصر فخم زرناه وأطلنا النظر إلى سحنته المرسومة ودخلنا غرفة نومه وبهو جلوسه وقاعة طعامه، وقد أقامت له القرية نافورة وتمثالًا كتبت تحته إلى موسيو دي فولتير؛ لأنه كان يقرض المجلس البلدي بغير فائدة ربوية. والفرق كبير بين الاثنين فأحببت روسو حبًّا عظيمًا، وقدرت فولتير وما وددت أن أكون من معاصريه لو أتيح لي أن أعيش في بعض القرون الماضية؛ لأن فلسفته كانت مزيجًا من الدس والإلحاد والجحود والكفران بالنعم والروغان والمداورة وحب الدنيا والتزلف إلى العظماء أمثال فردريك الثاني والبابا وملوك فرنسا وإنجلترا. أما روسو فكانت حياته سلسلة آلام وآمال وإخلاص وزهد وعفة وإيثار وحب الإنسانية والصعلكة النبيلة والحيرة الجميلة، والإيمان الراسخ بالله وبالحق والكفر بالظلم والاستبداد والثورة على الباطل وعلى الأوضاع المتفق عليها، وخصوصًا النفاق والمراءاة وتضحية الباقية الخالدة في سبيل المنافع العاجلة.

وكان روسو ظريفًا خفيف الروح صريحًا متوكلًا عصاميًّا معلم نفسه محبًّا للسياحة والتنقل دقيق الملاحظة، مرهف الأحاسيس وكانت له خصال ثلاث: الأناة، والحياء، والوفاء. فكان مستأنيًا أبغض شيء إليه العجل، وكان محسنًا إلى من يسيء إليه، يحن إلى وطنه وإلى أصدقائه وإلى الأماكن التي عاش فيها ولو ذاق فيها الألم، وكان شديد الحياء من نفسه قبل حيائه من الناس، وبعد هذا كله محبًّا للحرية والحق وللضعفاء، ولم تكن حياته إلا وفاء لمن أحبهم وأخلص لهم حتى ترك المرأة الحقيرة الخئون تيريزا ليڤاسير التي لم تفهم طبعه ولم تعرف مواهبه ولم تقدر فضائله، تلك التي كانت خادمة أو طاهية ثم لم يأنف فيلسوف الزمان أن يتخذها حليلة تحمل اسمه.

فدرست حياة چان وكتبه وداومت على تفهمها وصممت على أن أفتتح بفلسفته وأفكاره وآرائه ومبادئه محاضرات ألقيها على المتأدبين من أهل مصر عند عودتي إلى وطني، فهو لا بد أن يكون أقرب الناس إلى قلوب هذه الأمة.

وكنت أكثر الجلوس في جزيرة جان جاك في وسط بحيرة جنيف ومعي أوجستا، وكنا نسير معًا في ساحة بلانبليه، وأقول لها: في هذه الساحة وقف روسو منذ أكثر من مائة سنة وودع وطنه، فلا بد أن يكون في ذرات الأثير وفي طبقات الجو أثر لصورته فتضحك وتقول لي: هذا إغراق في الخيال وتعلق بأرواح قد لا يكون لها أثر في الكون.

خطباء سياسيون

وكنا نحضر خطبًا ومحاضرات في بيت الشعب وسمعنا سباستيان فور، وجان جوريس وبرتوني، وسباستيان فور هذا كان كهلًا مكافحًا وأهدافه محاربة المبشرين وإظهار فضائحهم وأكاذيبهم، وكان يتحدى ويدعو خصومه لمنازلته في ميدان الفصاحة والتاريخ والفلسفة، وكان إذا تحمس يخلع سترته ويشمر عن ساعديه، ويفيض بنهر منهمر من البلاغة المرتجلة.

أما جوريس فكان نوعًا آخر من الرجال، فقد شبهته أوجستا بخطباء اليونان والرومان الأقدمين وقالت لي: إنه أستاذ فلسفة وأدب في السوربون، وإنه غادر منصب التدريس لينصر الشعب المظلوم وينشر الاشتراكية، وقد تعودت من ذلك العهد أن أقرأ جريدة الإنسانية «إيومانتي».

وكان برتوني عاملًا سويسريًّا في مطبعة يعيش من عرق جبينه وجهد ذراعيه، ولكنه كان ينشر مبادئ العمال في أنحاء سويسرا وينتقل ويرحل ويؤلف اللجان ويكتب الرسائل ويبيع الكتب، ويجمع المال لنصرة المبدأ الذي يدافع عنه، وقد زرناه في بيته ورأينا امرأته وتحدثنا إليها.

وقد عشنا في جنيف حتى رأينا البوليس السويسري وهو مطبوع على الغدر والتلفيق والانتقام، يلصق ببرتوني وثلاثة من أنصاره ورفاقه تهمة التحريض على الثورة والشروع في قتل الشرطة، وأنه ورفاقه كانوا يعلقون منشورات ويلصقونها بالجدران تدعو إلى الفتنة وزعزعة الأمن إلى آخر تلك التهم الحاضرة في أذهان البوليس في كل مكان، والعجيب في أمر هذه التهمة في تلك البلدة الضيقة العقل المحكومة بجمهورية رجعية وحكومة رأسمالية، أنها عندما وصلت إلى محكمه الجنايات تقدم للدفاع عن برتوني لفيف من المحامين متطوعين، فشكرهم واعتذر لهم وقال: إنه سيتولى الدفاع عن نفسه بنفسه، فبهت الرأي العام؛ لأن برتوني لم يكن على علم بإجراءات المحاكم، ولكنه قال: ما دام في المحكمة محلفون فلست أبالي، فإن تهمة البوليس أوهن وأضعف وأخزى وأكذب من أن تقف على قدم واحدة فضلًا عن قدمين. وقد كان وصحَّ نظره وصدق رأيه.

وتحطمت التهمة بل التهم وحكم قضاة چنيف ببراءته بعد أن أبدى المحلفون رأيهم بأن لا جناية. وهلل الناس في المحكمة وهتفوا للعدل ولبرتوني، وتولى البوليس الذي لم يخجل المحافظة على النظام ومنع المظاهرات.

وكانت الآنسة فراير المجرية من براج تجالسنا وتأنس لنا، وتسألني في القانون الروماني؛ لأنها تطلب الحقوق في الجامعة. وكنا جالسين يومًا تحت ظل شجرة في حديقة الفندق، فنظرت في يدي ثم قالت لي: إن التي شربت من كأسك ستتبعك إلى آخر الدنيا وتطيعك في كل ما تأمر به. فدهشت جدًّا وقلت لها: أفصحي يا آنسة فقالت: أنا لا أتنبأ ولا أتكهن ولكن أروي لك مثلًا قديمًا مشهورًا.

ولما كنا منفردين ولم تسمع أوجستا هذا الحديث فلم أشأ أن أرويه لها؛ لأنني تذكرت حادثة الكأس، ولا أدري إن كانت عملتها عامدة أو مازحة تقصد إلى النكاية والمكايدة.

مجلة ميركوردي فرانس

وكنا نخرج أحيانًا في نزهات إلى ضفاف البحيرة، وانتهزت أوجستا فرصة زيارتنا المكتبات وأرشدتني إلى مجلة مركور دي فرانس ولم أكن سمعت بها ولا قرأتها، فكان اهتدائي إليها ظفرًا لي ومصدر معرفة واسعة بالأدب والفنون الحديثة.

وكانت تلك المجلة يصدرها الأستاذ ڤاليت وزوجته راشيلد، وكانت أوجستا تتكلم عن راشيلد كلام من عرفها وعاشرها، فأقبلت على المجلة ودلتني أوجستا على مفتاحها فهي تنشر للأساتذة الراسخين والنوابغ البادئين، وتميل إلى التجديد في كل شيء وتلخص الكتب والمجلات الأوروبية، وتصدر مرتين في الشهر وتطبع كل مرة في أكثر من مائتي صفحة بفرنك ونصف، فبادرت إلى الاشتراك فيها وما زلت مشتركًا إلى عام ١٩٣٨ أو ١٩٣٩ واحتفظت بمجموعتها، وشاءت الأقدار أن أكتب فيها مقالة في سنة ١٩٢٠، وعاملت مكتبتها فمدتني بالكتب الجديدة وفيها اطلعت على الحركة الجديدة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتى إنجلترا والمدارس الأدبية نثرًا وشعرًا، وتعرفت في صفحاتها إلى أكابر النقاد وتسلسلهم كابرًا عن كابر، فكانت جريدتا الطان والفيجارو ومجلة مركوردي فرانس تغذي نهمي في الأدب وتربط الماضي بالحاضر، فكم قرأت لپول ڤيرلين وارتور ريمپو وجان ريشبان وفرنسيس چام وريمي دي جورمون صاحب الشهريات الباهرة، وهي مزيج من الفلسفة والأدب والعلم، وما أزال أذكر بحثًا كتبه مارسيل كولون في تحليل أفكار دي جورمون في خمس وثلاثين صفحة، أما نقد الكتب والحركة العقلية وتلخيص الرسائل والبحوث الممتعة المسهبة فحدث ولا حرج، ثم الشعر الحديث للكونتس دي نواي وغير هؤلاء عشرات.

ولهذه السيدة المجتهدة يرجع الفضل في إيقاظ رغبتي وإشباع نهمي وتطلعي الدائم للاتصال بالعقول الكبيرة الدائمة الحركة في العلم والفلسفة والأدب.

ولما كانت أوجستا ترقب حركاتي ورأت ميلي إلى بوتوني، وتتبع محاضراته وقراءة رسائله وأرادت أن تحوِّلني عنه في لطف، لفتت نظري إلى بحث في مجلة سويسرية حرة تصف برتوني بأنه ليس اشتراكيًّا ولا شيوعيًّا ولكنه فوضوي أنارشيست، ولكنه فوضوي عقلي يريد أن يفكك أجزاء المجتمع انتصارًا لطائفته وهي طائفة العمال وأنه من مقاطعة تيسينو. وهي إن تكن مقاطعة سويسرية، إلا أن معظم أهلها إيطاليون متأثرون بالمبادئ الفوضوية، فشكرتها وقلت لها: إنني لا أحب برتوني ولا أعجب به ولكنني أحب أن أعرف كل المذاهب الفكرية لأقف على البواعث والدوافع والحوافز في هذه الأوروبا المحمية في سنة البركة ١٩١٠، فلا تخافي علي من الاندفاع، قالت: لا أخشى اندفاعًا ولكن هؤلاء الفوضويين في غرب أوروبا ليسوا إلا مقلدين لأهل روسيا وهناك منبت الفوضوية ومصدرها.

فضحكت وقلت لها: أتشيرين علي بالاتجاه إلى المصدر والمرجع في وطنه الأصيل، فقالت: كلا! لا سبيل إلى ذلك ولكن اقرأ كتاب «دخان في الهواء» لتورجنيف تقف على المبدأ من أوله وتعرف تطوره بأفضل مما تلتمسه في خطب برتوني وكتبه ومجامعه؛ لأنه عامل غير مثقف ولكن تورجنيف كان من زعماء الفكر ودراسة كتبه أليق وأخلق بغايتك.

الراقصة إيزيدورا دنكان

ثم دعتني إلى حفلة أحيتها إيزيدورا دنكان الراقصة العالمية، ولم أكن سمعت بها إلا في مجلة كوميديا الباريسية وكانت السيدة متحمسة جدًّا لهذه الحفلة وقالت: إنني سعيدة جدًّا لتلك الفرصة السانحة؛ لأن ثلاثة أمور أحب أن أطلعك عليها: الأول زيارة متاحف إيطاليا ولا سيما فلورنس، وموسم أوبرات فاجنر ببايروت وسماع صوت شالپاپين وهو أعظم من كاروزو وصديق لجوركي ويقيم معه في رومه، ومشاهدة رقص إيزيدورا دنكان. ولا أحب أن نفترق دون هذه الأمور الثلاثة.

فشكرتها وقلت لها: إن الذي أريده حقًّا هو سماع الأوبرات؛ لأنها تجمع كل هذه الفنون؛ لأن إيزيدورا دنكان لا تزيد عن أن تكون رئيسة لفرقة الباليه. فقالت: إنها ليست راقصة باليه بل هي عبقرية أفهمت الدنيا أن الرقص شعر الحركة الإنسانية كما أن القصيدة نظم موزون مقفى بالنسبة للنثر المكتوب والمحكي فكل رقصة لها معنى. وسوف ترى.

وكانت إيزيدورا ترقص في كازينو الكورسال وقد حضرنا الحفلة، وكانت أوجستا شديدة الانفعال وقد حاولت أن تعديني بانفعالها العميق فلم توفق، ولعل مرجع هذا الجمود مني أن جسمي كان أصم لا يستجيب لموسيقى الرقص وأتأثر بالموسيقى تأثرًا عقليًّا لا عضليًّا ولا يستخفني الطرب، وهذا نقص بلا ريب في الثقافة، ولقد حاولت عام ١٩٠٩ أن أتعلم الرقص لأحضر حفلة المحافظ في ربيع العام الماضي بليون، واتخذت لذلك كل عدة وتلقيت دروسًا عملية في مدرسة راقصة على أيدي سيدات مدربات. وحضرت المرقص وقضيت فيها سهرة ممتعة إلى الفجر، ولكنني لم أوفق التوفيق كله؛ لأنه ليس في دمي ولا في أعصابي نغم ولذلك لا أزن الشعر ولا أستطيع الغناء ولو في الحمام، ولا يمكن أن تخرج من فمي نغمة مضبوطة وإن كان هذا نقصًا في الثقافة أو جمودًا في المزاج فلم يدركني عليه أسف ولم أندب حظي أبدًا؛ لأنني لم أغن ولم أرقص لا بلغتي في بلدي ولا في غيرها.

ولكنني ذهبت مع أوجستا إلى إيزيدورا دنكان شغوفًا برؤية هذه المرأة لكثرة ما قرأت عنها في الصحف الإنجليزية؛ لأنها أسكوتلندية متحررة وأوروبية النزعة عالمية الشهرة كونية الفن.

وأحب أن أقول قبل الكلام عنها: إنني عندما مارست الرقص في ليون، وجدت أعظم تكذيب لمزاعم الجهلاء من الشرقيين عن أن الرقص مع النساء له أثر في إثارة الرغبات الجثمانية، فقد تأكدت بنفسي أن هذا كذب صراح؛ لأن الراقص يتتبع نغم الموسيقى ويوفق بين التوقيع وحركات البدن وهذه في نفسها لذة عقلية وبدنية لا دخل لها في سواها. نعم أعلم أن هناك مراقص في أوروبا وأمريكا تتخذ المراقصة والمخاصرة ستارًا بل وسيلة لغيرها وهذه دعارة وتهتك وعربدة وخلاعة مخالفة لنظم الرقص الفني الذي يعدّ جزءًا من ثقافة الفتى والفتاة في المجتمع الراقي.

كانت الساعة التاسعة عندما رفعت الستار عن مسرح إيزيدورا دنكان، ولهذه الفنانة العظمى مناظر خاصة وديكور خاص يقوم به عمال تابعون لها؛ لأنها ذات فرقة كاملة، ولها أوركسترا كاملة ولها حواريون وتوابع كالنجوم التي تتبع الكواكب السيارة في أفلامها، وهي الكوكب السيار، وأكون قد رأيت في هذا الربيع كوكبين سيارين أحدهما رامح وهو مذنب هيلي والثاني راقص وهو إيزيدورا دنكان، فلم يقل أحدهما: في نظري في الجمال والروعة ودقة الحركة، وإن كان يصح إطلاق صفة الكوكب على امرأة ممثلة أو راقصة فعلى إيزيدورا دنكان دون سواها لصح إطلاق هذا الوصف عليها إطلاقًا؛ لأن كل كواكب الفنون المسرحية عيال عليها.

وهذه المرأة لها بدن ليس مثل الأبدان فهو طوع إرادتها كأنه خال من العظام تنشره وتطويه وتفرده وتثنيه وتمدّه وتمطّه وتطيله وتقصره وتسهب فيه وتختصر، وأعصابها طوع عقلها وعضلاتها طوع أعصابها، وميزتها وحدتها كالقصيدة الملحنة أو الأغنية الموقعة، ثم هذا كله في مجموعة من المناظر العجيبة النابضة بالحياة.

وعندما ترقص تتنفس وتختلج تبعًا لرقصتها وكل عضو من أعضائها طروب يتبع النغم الرتيب كأنها بمجموعها ساعة دقيقة الصنع شديدة الضبط، تتبع الكواكب في حركتها الفلكية، وهي لا تنطق ولا تغني ولذة النفس منها بصرية سمعية، فأنت ترى هذا البدن اللين اللدن المرن وتسمع تلك الأنغام العجيبة، وتتحد اللذتان فتوجدان لذة عقلية مثل التي نصيبها عند سماع موسيقى فاجنر.

وقد حبست أنفاسي مرتين بغير قصد مني وطال احتباسها ولم أشعر بضيق، المرة الأولى عند سماعي أوبرا لوهنجرين والثانية عند مشاهدة رقص إيزيدورا. وفي كل منهما لم يكن لغير العقل لذة مطلقة ولا دخل لعاطفة الجمال، لا أدري إن كنت أقول ما يطابق آراء النقاد والخبراء ولكنني أقول ما شعرت به.

هذه المرأة قالوا عنها: إنها أحيت الرقص اليوناني القديم وأنها تقلد رقص الهياكل في الهند وفي دلف، وقالوا كثيرًا، ولكن أقول: إنها تبتكر رقصًا نوعيًّا مثل رقصة الأوزة، ورقصة النامف في الغاب وهي الفتيات اللواتي يتعقبهن پان، وهي تجعل من هذه الأشياء والكائنات صورة ذهنية تفسر بها المعاني تفسيرًا بالحركات حتى الجماد تعطيه الحياة، فقد رقصت في تلك الليلة رقصة الأوعية les vases لا نقصد الصحن أو السلطانية، ولكن نقصد إلى الأوعية من الصيني والقاشاني والخزف والذهب والعاج التي تفنن النحاتون والمصورون في صنعها في العهود القديمة لأسباب دينية أو فنية، وهي الأواني التي تعرض في المتاحف وقد حذقها أهل الصين واليابان، تخيل وتصور أن هذه الأواني ترقص أمام عينيك أو أن امرأة من لحم ودم وعظم تتخذ أوضاع تلك الأواني المختلفة، فتتبع الأوضاع بعضها بعضًا في أناة حتى تملأ عينيك ويتم تخيلك وتدرك النسبة بين الحقيقة والتقليد وترى الحياة تنبض في الجماد وترى الجماد الجميل يندمج مع الحياة في صورة امرأة عارية لا يسترها إلا مهلهلات من الأقمشة الشفافة بلون البحر أو الورد أو الفل أو الشفق أو الفضة.
وأرجو أن أكون صادقًا عندما أقول: إنني لم أر من بدنها إلا التوقيع، وكانت في رقصة الأوزة تبتكر أوضاعًا وحركات برأسها ويديها ورجليها وجذعها torse تجعلها كالإوزة في سبحاتها وفي طيرانها وحركة أجنحتها وفي طول رقبتها.

وكانت الموسيقى الموضوعة لكل منظر خاصة به تتمشى مع المناظر والحركات تمشيًا مدهشًا. ولم يكن الناس مسرورين أو مدهوشين أو معجبين بل كانوا مجانين وصرعى ومأخوذين، وكان أغرب الشيء أن المرأة المخلصة لفنها كانت هي أيضًا طروبًا وفخورًا، ومنتشية بنشوة الرقص الذي أبدعته وحققته للمرة الأولى في تاريخ الفنون.

وكان بجوارنا رجال وسيدات يصفقون ويصيحون ويبكون ويضحكون، ويعبرون بكل وسائل التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم، فهذه ساعات يقول العوام: إنها لا تحسب من العمر ولكن حقيقتها أنها هي التي دون سواها التي تحسب من العمر.

وكانت أوجستا ممتقعة من شدة الانفعال فاحترمت صمتها وسكرها وعبادتها الجمال والفن، وبي بعض ما بها ولا أقول كله؛ لأنه لو كان مثل ما بها ما وعيت لمراقبة جمهور النظارة.

وسرنا على الأقدام في الشوارع الساكنة وعبرنا جسر مونبلان وطرقنا بولفار دي فيلوسوف (شارع الفلاسفة) المعروف في جنيف مارين بالحديقة العامة، التي يسمونها باستيون وكم لي فيها من صباح وعصر ومساء وقراءات ومحادثات لا تنسى.

وقد اخترنا هذا الطريق؛ لأنه أقصر وأهدأ وكنا صامتين إلى أن وصلنا إلى شامبل وبيتنا وعثرنا على أفراد من جيراننا كانوا في الحفلة، ولكننا لم نقابلهم؛ لأننا اتخذنا سبيلًا غير التي أخذوها وبينهم مدموازيل فراير التي أطلقت عليها أوجستا لقب ساحرة براج (وماذا كانت تقول لو أنني رويت لها نبوءة الكأس؟).

ولما وصلنا الدار جاءت أوجستا إلى غرفتي وقد خف انفعالها وسألتني: أمسرور مما شاهدت أم حاقد عليّ؛ لأنني أضعت عليك سهرة؟

وهذه مداعبة تجعلني أسيء الظن بذوقي عفا الله عنها. فقلت لها: لقد أخطأت في واحد وهو أنني إذا اشتقت إلى مشاهدة رقصة النامف أو السيرين (عروس البحر) فلن أجد من يسعفني بها.

ولم أشهد إيزيدورا بعد ذلك أبدًا، ولكنني تتبعت أخبارها بشغف شديد وشهدت إحدى تلميذاتها بافولوفا في مصر وهي مقلدة لا مبتكرة، ولم يظهر لها ذكر ولا شأن إلا بعد موت شيخة الطريقة ومؤسسة المدرسة.

المولوية

وقد ذكرت إيزيدوا دنكان مرة عندما كنت في تكية المولوية في القاهرة، وحضرت حفلة راقصة موسيقية. وكانت فتنة وأعجوبة. فإن لهؤلاء المولوية فرقة موسيقية نادرة المثال أهم ما فيها الناي والدف والصنوج، وهم يجلسون صفًّا في شرفة عالية وفي ساحة التكية المكسوة بالخشب يحضر الشيخ والدراويش، ثم يذكرون ثم يبدءون رقصتهم الدينية وهي رمز إلى دورة الأفلاك كما أن الموسيقى التي تهبط عليهم تمثل أنغام الكواكب في دورتها، وشهدت مكان وقفة ابن شيخ التكية وقد ترك في موضعها بركة من العرق الذي نضج به بدنه أثناء ذلك المجهود المضني، وكانت حفلة جميلة وكانوا أساتذة في الموسيقى والرقص الروحي، ولكن لا أدري لماذا غضبت الحكومة المصرية عليهم فقوضت تكيتهم على عروشها، وشردت شيخها ودراويشها في الطرق وصادرت أموالهم وأوقافهم مع أنهم أرقى بكثير من فرقة البكتاشية الذين يسكنون في المغاور في حمى أحد أولياء الله (اسمه المغاوري) ولكن البكطاشية أحذر وأحذق، فإنهم يقطنون في ملكهم وتحميهم أمراء من الأسرة المالكة ولا سيما الأمير يوسف كمال الذي بنى له في تكيتهم مدفنًا.

أما إيزيدورا دنكان فقد قرأت بعد ذلك بسنوات كثيرة أنها عشقت شاعرًا روسيًّا شابًّا فتنت به فعذَّبها وأذاقها مرارة العيش ومرارة الحب من امرأة في خريفها لولدٍ في ربيعه، وقد دونتْ ذلك في مذكراتها التي نشرت في كتاب وكان لها ولدان ماتا بإهمال مربية مستهترة وهما يتنزهان على أحد جسور باريس، ومن ذلك التاريخ فقدت الفنانة العبقرية عقلها وحظها وانتحرت، ولكن أصدقاءها صاغوا خبر موتها في صورة فنية، فزعموا أنها كانت تقود سيارتها فاشتبكت أطراف شال الحرير بالعجل، والتفَّت على عنقها فراحت ضحية الشال والعجل مشنوقة! ولم أصدق هذه الرواية في وقتها ولكنني أشفقت عليها وكانت قبل وفاتها أسست مدرسة لفتيات تلقنهن فنها الخالد.

٧

الاستعداد للامتحان

كان يخيل إليّ في تلك الأيام التي بدأت برحلتي إلى چنيف أنني مقبل على عهد سعيد جدًّا. وقد تحقق ذلك التخيل كما يتحقق الحلم، فقد توافرت لي فيه أسباب السعادة المادية والمعنوية والعقلية والروحية، وكان شعوري بالواجب وانتظار الامتحان لشهادة الليسانس من عناصر هذه السعادة التي تكاثرت أسبابها، ولم تكن قلة المال والحرمان من بعض الكماليات بمنقصة هذه السعادة بل لعلها كانت من أسباب زيادتها.

وكانت فترة الإقامة في «شامپل» أهنا من الإقامة في «بيتي لانسي»؛ لأن بيت راسين على كل ما نالني فيه من هناء وطمأنينة وشعور بالعافية، وتفتح في رغبة الطعام وإقبال على الدرس واشتغال بالكتاب والدرس، كانت مشوبة بالحسد والحقد والخوف الخفي من چان راسين، وأمها العجوز وزوجها الأبله؛ لأنهم شهدوا بداية قصتنا ولم يشاركونا سعادتنا إلا تصنعًا ونفاقًا، فكانت جان تنفس علينا النزهة اليومية والأزهار التي أقدمها إلى أوجستا، وتطمع في أن تكون في موضع المحظية المفضلة.

وكان الزوج يسألني هل أقرأ كل المجلات والكتب والصحف التي يحملها إلي والتي تصل إلي بالبريد وأجمع بين هذا وبين المذاكرة والدرس؛ لأنه لم يغب عنه أنني أستعد لامتحان نهائي في بلد بعيد. وكانت الأم تحقد وتحسد وتلدغ بلسانها وتكوي بنظراتها وتلذع بابتسامتها الصفراء ودمدمتها المكتمة وتتساءل في نفسها لِمَ لمْ تكن هذه النعم الطارئة من نصيب ابنتها المحرومة من السعادة، ولم يكن في البيت من مخلوق مأمون العاقبة سوى الأب بيدو، وهو شيخ كبير يدمن الخمر ويعيش في كوخ في آخر الحديقة وهو أصل نعمة هؤلاء الناس جميعًا، ثم الخادمة چانيت التي كانت مثال الإخلاص وسلامة النية.

ولكن في شامپل أقبلنا معًا، سيدة ورجل على أن نعيش متجاورين ورآنا الجيران معًا في عملنا وذهابنا وعودتنا ولا يشعر أحد منهم بأنه هيأ لنا سكنًا أو خدمنا خدمة خاصة أو أن سعادتنا رهينة رضاه، وهكذا يوجد اللؤم الإنساني في كل مكان حتى لدى الذين تأجرهم على خدمتهم وتمدهم بالمعونة وخصوصًا عند هؤلاء.

وكان يدهشني ما واتاني الله به من قوة، وتفتح ذهن وإقبال على العمل وشعور بالسرور وبنضارة العيش.

وقد زادني فرحًا أنني أخذت أنظم فكري وعملي، وأجعل حياتي مطابقة لتفكير منطقي وأكلف نفسي فوق وسعها في القراءة والرياضة ولا أجد لذلك إلا استجابة واستعدادًا. وكان يرد إليّ في كل يوم بريد ضخم من مختلف الجهات وأتمكن من الإجابة على كل مكتوب وخطاب وأساير الحركة الفكرية الأوروبية والحالة السياسية العامة وأتتبَّع أنباء مصر وكانت هذه الأيام أليمة في نفسي لوجود بعض القضايا السياسية في القاهرة التي كانت تصلني أنباءُها في الصحف.

أما أوجستا التي سخرها الله لخدمتي ومعونتي وإيناسي وتنويري في كثير من الأمور والسهر على راحتي، فكانت هي الأخرى سعيدة هي وزينا وولدها الصغير بوريس.

ووصلني في يوم خطاب من رفيق الدرس في الكلية إرمان بيكر ينبئني فيه أنه لم يبق على الامتحان سوى ستة أسابيع، وأن الأساتذة يلخصون المحاضرات ويتناولون المبادئ العامة وأن الطلاب يجتمعون ويتناقشون، وأن بعض الأساتذة ولا سيما هوڤلان وكوهندي وإيمانيويل ليڤي قد سألوه عني؛ لأنهم يعرفون صداقتنا، ويسألني إرمان متى أعود وحسبت الزمن الذي قضيته في ذلك النعيم فوجدته سبعين أو ثمانين يومًا، ولكنني كنت أتوهمها سبعين شهرًا لشدة ما امتلأت به من الحياة والخير والنشاط والبركة.

فصممت على الانتقال إلى ليون لأستعد للامتحان في ميدان العمل، وفي جو الجامعة وفي وسط الأساتذة والتلاميذ، وخشيت عاقبة الوحدة والرطوبة ففكرت في عدم العودة إلى ليون والإقامة في شاربونيير إحدى ضواحيها وهي بالنسبة لها مثل حلوان للقاهرة وفيها خضرة وماء وهواء طلق وجبال عالية وبساتين.

وأنا أعلم أن هذا النبأ سيقع على صاحبتي وقوع الصاعقة ولكن أقنعت نفسي بأنني لم أجئ إلى أوروبا، ولم أتجشم المشقات والأضرار والأمراض لأمتع نفسي بالخضرة والماء والوجه الحسن. خضرة جنيف وماء البحيرة ووجهها، وإنما تلك النعم جاءت عرضًا ولا يصح أن تكون هدفًا أو غاية لي في هذه السن، وأنني لن أكون بحيث أنسى واجبي الأول بسبب متعة مدركة لن تفوت عليها الفرصة أبدًا، بينا فرصة الامتحان تفوت وتفر بسهولة وتعقبها غصّة بل غصص.

في جزيرة چان چاك روسو

وحددت يوم السفر وهو أول يونيو (وكان الامتحان يعقد في أواخر يوليو)، وقبيل ذلك اليوم بأيام انتهزت فرصة صفاء نفس أوجستا ورضاها ونضارتها وازدهارها، وسرنا على شاطئ البحيرة ثم جلسنا في جزيرة چان جاك وشربنا قهوة تركية (هكذا تسميها القيمة على الخان)، وما هي إلا قهوة مصرية بنُّها مطحون وصنفه جيد.

وقلت لها: عندي كلام أحب أن أقوله.

فانفعلت واضطربت وقالت: أنا أعرف ما تريد أن تقول، لقد آن أوان فراقنا وأنت ضجرت ومللت، وقد استعدت عافيتك وتحب أن تعود إلى مدرستك.

وانفجرت باكية على طريقة النساء ولم أكن أتخيلها تبكي؛ لأنها مرحة تبدو مستهترة أحيانًا وأحيانًا تقتل الحزن بالمرح والدعابة، وحضرتني كلمة أليمة كنت أراود نفسي أن أقولها «ألم تقولي لي على شرفة بيتك في لوزان في ليلة قمرية بعد نصف الليل: يبدو لي يا سيدي أنك متعب جدًّا، والأفضل لك أن تعود إلى بيتك وتنام!» ولكنني خشيت أن تكون شماتة أو تشفيًا ونفسي خالية منهما، فضحكت وهي تبكي لأخفف عنها وقلت لها: أنت تنقمين على المناظر Scéne ونحن لسنا مرتبطين بالرباط المقدس ولكن بيننا رباط أقوى وهو رباط العقل، وقد عهدتك كريمة حليمة ودودًا تفضلين مصلحتي الباقية على السعادة العابرة. وأنا قبل كل شيء طالب علم لا طالب أدب ولا طالب حب ولا طالب موسيقى ورقص، وغايتي وأملي أن أحقق أمنيتي وأماني آخرين ينتظرونني أو أتوهم أنهم ينتظرون، وقد لا يكون في الدنيا أحد أشد تعلُّقًا بي منك، وبعد فإن أحدًا لا يمل هذه البحيرة وهذا الشفق ولا يمل الصحة والعافية ولا يمل عشرتك ومجلسك ومسايرتك وحديثك، وقد صنع الله مني رجلًا جديدًا على يديك وبفضلك، وكنت أنتظر أنك تحثينني على ما أشاورك فيه، وقد قضيت شبابي في خدمة وطني وقومي أو هكذا توهّمت، وقد دنوت من هدفي في التعليم فهل تمانعين في بلوغ غايتي، أنت تعيشين بالمنطق والعقل وقد أبديت لك عذري، ولكن أعلم أن الحق في مثل هذه المواقف لا يقبل وأن الغلبة للعاطفة، ولكن ليس بين أمثالنا المجاهدين في سبيل المثل العليا، وعندنا شعر عربي يقول صاحبه:
لا تعذليه فإن العذل يوجعهُ
قد قلتِ حقًّا ولكن ليس يسمعهُ

فأنا أقول الحق وأنت لا تسمعين.

فجفت دموعها فورًا وتصنَّعت الضحك ولكنه ضحك كالبكاء أو أشد.

وقالت: أنا موافقة ولكن بشرط واحد وهو أن أتبعك ولو إلى آخر الأرض. وقد شربت من كأسك وندمت بعد ذلك؛ لأن عندنا مثلًا قديمًا «من يشرب سؤرك يطعك ويتبعك». وانا أتبعك بطاعتي.

قلت لها: هذا حسن اتفقنا ولي اعتراضان، الأول لا بد لي أن أسبقك لأهيئ لك مكانًا ووسطًا يرحب بك وأتمكن من الاندماج في الكلية وحياة الدرس، ثم تحلّين عليّ كما حللت عليك ونزلت بمكان مهيّأ، الثاني ماذا أنت فاعلة بولدك وكاتبة يدك؟

فقالت: هما يبقيان في جنيف، حتى ينتهي امتحانك ثم نعود.

قلت: ولو لم نعد إلى جنيف فكيف العمل؟

قالت: هذا مستقبل بعيد ونحن نفكر والله يدبر.

قلت: حسن ولكني لا أريد أن آخذ على كاهلي تبعة قاسية، وهي أنني فرقت بين والدة وولد.

قالت: لا تؤاخذني هذا هراء، فأنا لست طفلًا ولا ضحية غواية، ولست أنت الراغب في، ولست «عروسًا جفلانة» ولا صبية غريرة. وقد قضيت زمنًا بعيدة عن ابني حتى تعوَّد، ثم إن زينا كالأخت الشقيقة له وهي تحبه بإخلاص، وهذا كلام مفروغ منه وما عليك إلا أن تقول لي: هل حددت يومًا لسفرك؟

قلت: كلا.

فقالت: نحن الأن في أواخر مايو وأظن أن أول الشهر المقبل موعد مناسب على أن ألحق بك بعد أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر.

فاتفقنا. ثم نهضنا وغادرنا جزيرة جان جاك وقالت لي: لن نعود لهذه الجزيرة أبدًا؛ لأنني سمعت فيها نبأ فراقنا فزال حبها في قلبي. وقد صدقت نبوءتها ولم نجلس في هذه الجزيرة بعد ذلك اليوم أبدًا.

وقد تولت عني مفاوضة أصحاب الدار وقضينا الأيام الباقية من مايو في الاستعداد لسفري. وقد ودَّعت الجيران والأصدقاء وشكرتهم وودعت زينا وبوريس، وشددت رحلي في اليوم الأخير من مايو وتركت كثيرًا من الكتب والمتاع في أمانتها على أن تحملها إلي عند مجيئتها إلى ليون أو ضواحيها.

وكان هذا السفر من أقسى ما عانيت.

لو كنت من المتطيرين لصدقت أنني عوقبت بالحرمان والعذاب على البطر، ولو كنت ممن يعتقدون بالسحر لأيقنت أن الصديقة سحرتني، ولكنني لم أكن بطران ولا مضمرًا سوءًا ولا متحيلًا على الخلاص، وإنما أتبع الحق والخير وإنْ تألمت، ولا يقبل أنني تركت وطني وأهلي وأصدقائي في سبيل المعرفة وخدمة الوطن، ثم لا أترك صديقة لا تربطني بها رابطة في سبيل تحقيق غايتي، ولا سيما بعد أن شهدت أوبرا لوهنجرين ومقدمتها وفاتحتها، وفيها يصرخ البطل ويستغيث من طول أساره في كنف ڤينوس.

٨

الحياة في شاربونيير

وصلت شاربونيير في يوم شديد القيظ في أوله ثم شديد المطر في آخره وأودعت متاعي، ثم أخذت أطوف وأنشد السكن وأسأل كل رائح وغاد. وقد ذقت من الحر مرارة وعذابًا حتى أصابتني ضربة شمس مخففة، وبللت الأمطار في الجو المبرق المرعد الطافح بالكهرباء والغيوم المكمودة، بلَّلت الأمطار ثيابي ولم تجلب نسمة واحدة تلطف من حالتي. وفي ذلك اليوم تحملت الجوع والتعب وتخبطت في مجاهل واحتميت بكهوف، واكتشفت محاسن الطبيعة ولكنني كنت منصرفًا عنها مشغولًا بالمأوى وشاعرًا بوحدة أليمة، وفي وقت ما ندمت على عودتي إلى البلد الغريب وحيدًا.

وقلت: لو علمت أنني سألقى بعض ما لقيت لعدلت، وكنت طريح الفراش في غرفة فندق الكازينو لا يطرق بابي أحد، ولا أستطيع أن ألمس قبضة الباب أو جرس الخادم، أعاني بحرانًا وحمى ثم لا أذوق طعامًا ولا شرابًا، وبعد غيبوبة طويلة لم يعلم بها أحد إلا الله نهضت وخرجت فاهتديت إلى مسكن جميل مستقل عند مدام بوديه وزوجها، ونقلت إليه متاعي واستجممت يومًا ثم نظمت عملي وقصدت إلى الكلية، وأعدت أواصر القربى وصلات المودة وحضرت المحاضرات في الساعات المبكرة، وكنت أسافر من شاربونيير إلى محطة سان بول (وهي مثل باب اللوق في القاهرة)، وأذكر كل أساتذتي وإخواني بخير ولا سيما الأستاذ إدوار لامبير الذي فرح بي ودعاني إلى منزله، واطمأن علي، ثم أعود إلى الغداء عند موسيو بيلهوم، وأفطر عند مدام بوديه وأتعشى عند بيلهوم. وفي أسبوع واحد اتصلت اتصالًا وثيقًا بدراستي فلم يفتني شيء، وأكثرتُ من التردد على الأساتيذ أسألهم وأناقشهم لأفحص نفسي، وأقيس استعدادي واندمجت ونسيت جنيف ووجدت خضرة وماء وحدائق وفاكهة غضَّة وأزهارًا فاخرة في شاربونيير ولم أفكر أبدًا في الوجه الحسن، ووصلت إليّ من مصر ذخيرة من البن والشاي وطاحونة وتنكة وفناجين وتوابعها لأحظى بقهوة البن المصرية.

وأخذت أعمل بعد الظهر في بيتي ويزورني فيه الطلاب المصريون المقيمون في شاربونيير ومنهم المرحوم علي فوزي وصديقه عبد الحليم البيلي ومحمد بيومي وغيرهم، وكنت أشرب على السفرة ماء ڤيشي أو إيڤيان ولا أتذوق اللحم، فكان بيلهوم يكثر لي من الدجاج والسمك، ولا سيما (السومون) ويقول: إنه ينفع طلاب العلم والمتزوجين وأنت بلا ريب أعزب؛ لأنك طالب فأحذرك من النساء؛ لأن مرض الزهري منتشر في محافظتنا هذه ولا سيما ليون ونساء ليون مغريات جميلات حسنات التقاسيم ناضجات الأنوثة مثل دجاج بريس (مشهورة بدجاجها مثل الدجاج البجاوي بالفيوم)، ولكن لا تخدعنك الظواهر، وما دمت تصبر على الظمأ، فأنت تصبر عن النساء، قلت له: ولست صابرًا على الظمأ؛ لأنني أشرب ماء فيشي كما ترى، قال لي: الذي لا يشرب النبيذ في فرنسا نسميه ظمآنًا؛ لأننا لا نشرب الماء ونسميكم الشعوب الشاربة الماء، هذه المياه للمرضى أما الأصحاء «فينتع» أحدهم «لتر» النبيذ في الوجبة الواحدة ولم أرَكَ تشرب نقطة واحدة من دم العنقود، إن الزهري يا سيدي هو وباء الحضارة الحديثة سوف يفني العالم الجديد ولا سيما أوروبا وأمريكا.

وكانت تقام في فندق بيلهوم أفراح ومآدب كثيرة، وتعزف الموسيقى وتطلق أصوات الفرحين بالأغاني الشعبية، وهو رجل ضخم في الأربعين من عمره وديع كالطفل، كريم كحاتم، ثرثار كالنافورة، خدوم كالأخ الوفي، وقد أوصى بي الصيدلي وموظف البريد والبقال والبدال وتولى من شئوني ما لا يتقنه سواه، وينهاني عن غشيان الكازينو؛ لأن فيه موائد للعب الميسر ومصايد الشباب، ويشير عليّ بأكل الخوخ وشرب الشاي بغير سكر لمقاومة القيظ، وينهاني عن التدخين ولو تظرفًا أو مجاملة، فلما رويت له أنني نزلت بفندقه أول قدومي، وأصابني ما أصابني من ضربة الشمس والحمى أنحى عليّ باللائمة وقال: إنك دخلت غرفتك ولم تطلب شيئًا فظنناك هاربًا من الجندية أو تاجرًا أجنبيًّا فلم نتدخل في أمرك، ولو علمت شيئًا مما تحكي لدبرت لك المسكن وأنت جالس.

لقاء الرسام محمد ناجي

وبعد أيام وفي يوم شديد المطر بعد أسبوعين من إقامتي جاءت برقية من جنيف تنبئ بوصول أوجستا في الساعة ٤ من ذلك اليوم. وزارني في ذلك اليوم الأستاذ محمد ناجي (المصور وكان طالبًا بالحقوق معي في فرقة واحدة)، فصحبته إلى ليون وكان المطر شديد الانهمار فروى لي ناجي وصف سياحته في إيطاليا وزيارته المتاحف في روما وفلورنس، وأذكرني بسياحتي إليها منذ أربعة أعوام (١٩٠٦)، ولكنه تكلم بلسان الفنان الذي عرف ودرس، فلزمت الصمت خشية أن أكشف عن جهلي وأنا شديد الحسرة ونذرت أنني إذا نجحت في الامتحان فلا بد لي من السفر إلى فلورنس؛ لأن روما شديدة الحر في الصيف وودعته في محطة سان بول وقصدت إلى محطة بيراس وفي الساعة ٤ وصل القطار. ووصلت أوجستا فسافرنا توًّا إلى شاربونيير ومعنا المتاع ودخلنا على مدام بوديه عند الغروب والمطر ما يزال نازلًا، فلما رأت السيدة القادمة جحظت عيناها وقالت: هذه صديقتك، قلت: أكثر من ذلك، قالت: على الرحب والسعة. ودعت خادمتها فأعدت لها أجمل غرفة وأفسحها وأمرت بالتدفئة والحمام، وقدمت إلينا الشاي وأرسلت إلى بيلهوم ليبعث إلينا بالعشاء فقلت لها: ليعلم بيلهوم أن ضيفتي تأكل اللحم والعظم والجلد وتشرب النبيذ، أما طعامي فكما يعلم.

ولم تنم أوجستا قبل نصف الليل وقد روت لي كل شيء، تكلَّمت حتى تعبت واستراحت وتكلمت حتى تعبت أنا واسترحت، ثم تكلمنا معًا حتى تعبنا، وأطلعتها على نظام حياتي وأنني أغادر البيت والقرية في كل صباح، وأعود بعد الظهر ثم لا أخرج إلا نادرًا، فقالت: اصحبني إلى دار الكتب البلدية ثم مر بي نعد معًا إلى شاربونيير فكان لها ما أرادت، وإني أخجل من ذكر عفة هذه السيدة وقوة إرادتها وسيطرتها على نفسها سيطرة عجيبة، وقد وجدت عند مدام بيدو بيانو، فأخذت تعزف عليه ونشرت في غرفتها كتبها وصحفها وملأت محابرها وشرعت أقلامها وبدأت تقرأ، وتكتب بعد الظهر بعد مطالعتها الصباحية في المكتبة العامة.

ولما رأتني منهمكًا في دراستي عرضت على أن تقرأ علي أو تلخص لي أو تعينني على أية صورة، وكان هذا دأبها دائمًا، وقد أعانتني كثيرًا بذكائها وسرعة كتابتها وسهولة إحاطتها، ولا سيما في تاريخ القانون والقانون الدولي.

وكان ذهابنا للملاهي والملاعب نادرًا جدًّا فلم نقصد إلى تياترو سلسلتان إلا مرتين. وشهدنا في الأولى رواية روسية مترجمة عن الحياة السياسية، والأخرى تهذيب الأمير لموريس دوني ولم يكن لدينا من الوقت والفراغ ما يسمح بكثرة التنقل أو البعد عن مواطن العمل.

من أسعد فترات الحياة

كانت هذه الفترة من أسعد فترات حياتي، فإنني وإن كنت في جوار العلم وأحضان كليتي وبين أساتذتي وإخواني الطلاب أقصد إلى ليون في كل صباح أتابع دروسي، وأشارك في تكوين «خلوة الشرق» وهي المعهد الذي أسسه إدوار لامبير لمواصلة بحوثه في الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالشرائع الأخرى، وقمت بقسطي من إلقاء المحاضرات العامة فيها في الكلية وقد خلفني الأستاذ مصطفى عبد الرازق في فترة غيابي، وكنت ألقي تلك المحاضرات بالفرنسية ثم بالعربية لمصلحة إخواني المصريين والتعريف بالاصطلاحات.

ولي في جانب ذلك حياتي الخاصة في ضاحية قريبة من المدينة والجامعة، وتشرف عليها أوجستا إشراف الصديقة الحميمة والمدبرة الحكيمة التي تستهويها ملذات العلم والأدب والروح دون غيرها من الملذات.

وقد وجدت سرورًا كبيرًا في حياة الريف الفرنسية لما فيها من الطرافة والعراقة، وكان لحياة الريف الفرنسي لذة وجمال يفوقان لذة الحياة في ضواحي جنيف، فإنك هنا تشعر بأنك في وطن لا في اغتراب، وتشعر أن الناس لا يستغلونك لأنك سائح بل يعاونونك ويقدرونك ويألفونك ويساعدونك، ولا ينافقون في معاملتك كما يفعل أهل جنيف بقصد المكسب والمن عليك بأنهم أصحاب البلد والأرزاق والجبال والبحيرات والأنهار ويؤجرونها لك ويبيعون لك جمال الطبيعة بيعًا، ثم إن للجمال في ليون وضواحيها طابعًا خاصًّا، طابع الفطرة لا طابع الاصطناع، وكنا ننزل في بعض أيام الأحد إلى ليون ونقصد إلى رصيف نهر الرون حيث تعقد أسواق الخضر والفاكهة والأسماك الحية والصيد واللحوم الغريضة والطيور الطرية والأزهار والزبدة والجبن بأنواعها وقد نشروها على الأرض وتبيعها فتيات بالغات الحسن والنضارة، وكنا نرى النعم والأرزاق مكدسة تكديسًا كأن الله يرمي بالخيرات، ويقذف بها قذفًا ليتصرف فيها هؤلاء المزارعون الكرام لأهل المدينة، وتعقد الأسواق مع الفجر ويقبل أرباب البيوت وربات الأسر حتى إذا حلت الساعة التاسعة تهبط الأثمان هبوطًا عجيبًا. فمن الحمص الأخضر والبطاطس والفاصوليا والحميض تكاد تكون بلا ثمن ولا رغبة للبائعات إلا أن يتخلصن منها بأبخس الأثمان ليعدن إلى ضياعهن، أما الزبدة فكانت بغير مبالغة مكدسة كالهضاب، وكذلك أنواع الجبن والفواكه الناضجة ولا سيما الخوخ والكريز والبرقوق والعنب واللوز الأخضر والأزهار اليانعة تباع بغير عدد، وفيها الورد والنرجس والبنفسج، وكانت أوجستا تدهش لوفرة الأرزاق ورخصها حتى تغريها الأثمان بشراء ما لا نحتاج إليه فتأخذ أرنبًا جبليًّا غريضًا ودجاجة وسمكًا، وما نحن بحاجة إليها، ولكنها تتفنن في طهيها في ساعة فراغ، وتكثر من شراء الفاكهة مع أن شاربونيير زاخرة بالخوخ، وكان هذا موسمه في مقاطعة الرون وهو كموسم المشمس في القليوبية ولكنها غريزة المرأة والأم المدبرة التي تغلب تطبع المرأة على العلم والأدب، فهي تريد أن تغذي رجلها من صنع يديها فلم أمانع، واعتبرت هذا الشراء نوعًا من حمد الله على هذه النعم والاشتراك فيه إقرار بها، ثم إن الاتصال بهؤلاء الفتيات الناضرات القرويات الموردات الخدود الناعسات الطرف من أثر الكرى؛ لأنهن نهضن من فرشهن قبل الفجر ليدركن السوق في إبانها، كان هذا الاتصال يسرني ويشعرني أنني في صميم حياة فرنسا، وألمس الشباك وأتنفس ريحه وريحانه، وكنت أفرح عندما أرى فتاة منهن تحمل حقيبة من الجلد، وقد ملأتها بنقود الفضة والذهب وهي تقضم لقمة ضخمة من الخبز الذهبي وقطعة من الجبن وتروي هذا كله بقدح من نبيذ، وهي تبيع وتساوم وتبتسم.

ولا يعجب أحد من ذكرى هذه الأشياء في وقت الدرس والإنتاج العقلي، فقد عرفت بالخبرة أن راحة النفس وصحة البدن تبسط الحياة بسطًا، وتزيد الطاقة البشرية عشرة أضعاف وتزيد الشعور وترهف الحواس وكأنها تضخم اللذات وتكبرها مثل مكبرات الصوت، أو معظمات الأشياء في المجهر أو التلسكوب، وتجعل للعمر قيمة وقدرًا وتتخذ الأيام والليالي لونًا وطعمًا، وحتى الساعات والدقائق فما بالك بالأسابيع والأشهر. وهذا طعم لا يعرفه إلا من ذاقه ولا يعرف بالوصف بالكلام أو الكتابة.

كنت أعطف على السيدة وكانت تزيد هي عن العطف وتصفه باسم آخر هو المتعارف عليه في اللغات، وكانت ترمي قبل كل شيء إلى نجاحي في الامتحان؛ ولذلك تحول بيني وبين كل ما فيه تبديد القوى، وتحرص على نومي ويقظتي وتحدد مواعيدها وتشرف على مواعيدها وقالت: إن سعادتي لا تقدر هذه فرصة وحيدة في حياتي، ونحن لم نشعر بالحرية في حياتنا إلا في هذه الأيام وليس علينا رقيب ولا عذول ولا حاقد ولا حاسد؛ ولأجل هذا يجب علي أن أقدر هذه النعمة وأن أحرص عليها وأن لا أسرف في الانتفاع بها، وأن أدخر قوتك لما ينفعك نفعًا مؤكدًا مباشرًا، فإذا شعرت أنت بالصحة والفوز وصفاء القريحة زادت سعادتي بزيادة ثقتك بي وشعورك بكسب الحياة.

وكان هذا الكلام منها يدهشني؛ لأنني فهمت أنه جاوز حدود الصراحة، وكان لا بد لي أن أقابل معروفها بمثله بل بأضعافه وكانت متوثبة الذكاء ترى روح المغامرة والرمانس في كل شيء، فإذا تقابلنا في محطة سان بول تعد هذا اللقاء موعد غرام، وأننا مقبلان على سياحة بعيدة وتذكر لي فونتناي أو روز وهي ضاحية شهيرة لباريس يؤمها أهل الأدب من الروس، وتذكر لي أن ضاحية آنيير مشهورة بخضر السلدة التي يحبها أهل باريس، وهذه قرى على طريق. وتخبرني أنها وجدت في شاربونيير شبهًا كبيرًا وبين ضواحي باريس، وأحبت أن تلبس من حرير ليون الشهير وقد زرنا سوق الحرير وانتقت ما شاءت، وأحبت أن تزور لاكروا روس وهو حي صناع الحرير في أعلى ليون.

وكان يتبدى لنا من الجمال ولي أنا بالذات ما لم أكن أراه من قبل، وكانت معجبة بليون لكثرة جسورها وجمال مناظرها ليلًا واجتماع نهر الرون بالسون، والأول مذكر والثاني مؤنث فتشبه اجتماعها بالزفاف والزواج بين روحي النهرين، وتعجب من أسماء المحطات الصغيرة ويذهب الخيال بعيدًا، فمنها «نصف القمر» و«حلق الذئب» وتسألني عن هذه الأسماء فأقول لها: إن الأسماء يا حبيبتي لا تعلل، إلا اسمك فإنه رمز العظمة والفخامة ويقنعك بالانتماء إلى الملوك الأقدمين، فهذا أوجست إمبراطور روماني وفيليب ملك مقدوني ووالد الأسكندر العظيم، فتضحك من هذا التعليل.

وكانت تصلها من زينا مكاتيب يومية تنبئها بأخبار ولدها بوريس، وقد عرضت عليها أن تدعوهما فإن شاربونير لا تقل جمالًا وطيب مناخ عن ضواحي جنيف، ولكنها أصرت على بقائهما في كنف عائلة جاي وقالت لي: قد أفكر في هذا بعد أن ينتهي عملك ولم يبق بيننا وبين هذا إلا شهر وبضعة أيام، ولا يجوز لنا أن نشتت ذهننا في شئون شتى وليس في هذا الأمر تضحية علي، ولكنك أنت المضحي؛ ولذا علي أن أتفانى في خدمتك لأعوض عليك. فلا أفهم هذا القول من امرأة محبوبة لا تكلف رجلًا فوق طاقته.

وكانت الأمطار تهطل أحيانًا في شهر يونيو فنفضل أن نسير معًا تحت الطل أو نجلس نرقبه، ونتنفس الهواء النقي الذي يعقبه ولكن كان الرعد يرعبها والبرق يخيفها، وتبقى كالمأخوذة وتسد أذنيها بالقطن وتلزم الفراش أحيانًا.

أدب الشعوب (الفولكلور) والتجديد في الفنون والتطور في المدارس الأدبية

وكانت في تلك الأيام تقرأ كتب الفونس دوديه وباربي دورڤيلي وفلوبير وكتب كثيرٍ من المؤلفين المحدثين أمثال پول هرڤيو وإميل فاجيه، وتفضل نقد سانت بوف ومدام ريكامبيه تأليف إدوار هريو، وقد لفتت نظري للمرة الأولى إلى علم الفولكلور أي: أدب الشعوب ولغاتهم الدالة على أخلاقهم وفيها أغانيهم وأمثالهم فلم أعرف قدر هذا العلم إلا بعد سنوات عندما وجدت له علاقة وثيقة بالدراسة الجنائية والاجتماعية، وتذكر لي شارل موراس الكاتب الملكي النزعة (رويالست) وتصفه بأنه من أكبر الكتاب الأحياء في لغته، وإن كانت آلة تفكيره فاسدة؛ لأنه لا يعقل أن يكون للملكية أتباع في هذا الزمان، فلما ناقشتها في مبادئ هذا الرجل قالت لي: إنه مخلص في مبدئه لا حبًّا في الملكية ونقائصها ومفاسدها، ولكن بغضًا في الجمهورية التي تفشى الفساد في عهدها واستشرى الشر والرشوة والمذاهب الهدَّامة، وكانت قد اهتدت إلى مجلة أسبوعية تكتب بأقلام كتاب كبار من المعاصرين أمثال أناتول فرانس وپوانكريه فتقول لي: هذا التاريخ أبي؛ لأنه يحلل أهل هذا العصر ويجاري الزمان في سيره فتعلقت بهذا الجانب، وهي التي حدثتني عن التجديد في الفنون الرفيعة والتطور في المدارس الأدبية من شعر ونثر وتصوير ونحت وموسيقى، وأول من أسمعتني شعر تيوفيل جوتييه وبول ڤيرلين وأرتور رمپو وأرشدتني إلى معارض الرسم التي تقام في عواصم أوروبا، وأوجدت صلة بيني وبين رومان رولان مؤلف جان كريستوف وتواريخ الموسيقيين، وصار بعد مؤرخًا للتصوف الهندي (غاندي وراما كريشنا)، وكانت تتابع الأدب في بروكسيل، وتذكر أن الروح الفلمندي غير الألماني وأن موريس مترلنك وهو بلجيكي صار عالميًّا وطريقته وسط بين الرمزية والواقعية، وتقرأ القصص الألماني وتنقل بعضها إلى الروسية، وكذلك الكتب البولونية وتذكر من الأدب الإنجليزي جورج مرديث وأوسكاروايلد وتقول: إن اضطهاد أوسكار وايلد مظهر فاضح من مظاهر النفاق السكسوني، فهم يفعلون المخزيات ويتسترون، وأوصتني بقراءة صورة دوريان جراي وأغنية ليمان ردنج، ووصفت لي شخص وايلد كما رأته سيدة روسية في باريس في السنة الأخيرة من حياته، وكتبت وصفها في مجلة تصدر في موسكو وهي صورة مؤثرة.

وإني إذ أتذكر هذه الأشياء الآن وأقلب بعض الأوراق التي سجلت فيها أسماء الكتب، وبعض الحوادث في الحياة اليومية، أدهش من سعة رزقي في هذه الفترة الغزيرة الخير وأعدها من مفاتح الأقدار.

وكلما وصلت إلى يدها صحف ومجلات روسية تروي ما يجري في تلك البلاد من النضال العنيف بين القيصرية وطلاب الحرية، وشدة التنكيل بالثائرين في السجون والحصون وفي مجاهل سيبريا، وكانت عندي فكرة حسنة عن الحياة الروسية من قراءة كتاب البعث والحرب والسلام لتولستوي.

حركة العمال والاشتراكية

وكان في تلك الأيام (صيف ١٩١٠) حوادث آزيف وهو نوع جديد من الجاسوس الذي يلبس ثوب الثائر ليوقع بالثائرين، ويبلغ عنهم لتهلكهم مظالم القيصر، ومصرع الأب جاپون (صاحب مظاهرة العمال في الأحد الدموي)، وقد انقلب هو الآخر جاسوسًا فاستدرجه أتباعه السابقون وشنقوه في بيت خلوي جزاء خيانته، وقيل: إن الشرطة السرية هم الذين شنقوه. وظهر في باريس رجل اسمه بورتزيف وصل إلى شهرة كبيرة؛ لأنه كان جاسوسًا على الجواسيس وهو الذي أفشى أسرار آزيف ودل عليه وأرغمه على الفرار والاعتراف، وقد لقي حتفه منتحرًا في أسبانيا، وكانت هذه الأيام زاخرة بالحياة والحركة والمعركة حامية في كل أنحاء العالم ومن بينها مصر، وكذلك إنجلترا كانت تتمخص عن حركة العمال والاشتراكية على طريقتهم الجامدة الباردة. وصار الجمهوريون في فرنسا شيوعيين والأحرار ملحدين وأحزاب الشمال فوضويين، ونزل أناتول فرانس وأندريه جيد ومارسل سمبا إلى الشوارع لقيادة الحركات الجديدة.

فلا عجب إنْ كان الشباب المتعلم قد تأثر بهذه النهضة التي كانت تخفي وراءها تحفز أوروبا للحرب سنة ١٩١٢ ثم كظمت أوروبا غيظها سنتين، ريثما تستكمل استعدادها لتخوض غمار الحرب العالمية الأولى.

وإن الحضارة الأوروبية ازدهرت ونمت وتضخمت والأذهان تفتقت والنفوس اشتعلت والأمزجة توهجت، وأنذرت بنهاية هذه الحضارة التي عجل على نهايتها ساسة إنجلترا أمثال اسكويت ولويد جورج وكتشنر وغليوم الثاني وفرانسوا جوزيف والسلطان عبد الحميد وتيودور رزفلت، وكان بعض المفكرين رأوا علامة الخطر ونذير الهلاك وإشارة آخر زمن، ولا سيما أوزڤالد شبنجلر في ألمانيا وماكس نورداو في النمسا، ورومان رولان وأناتول فرانس في فرنسا وأوجست بيبل في ألمانيا، وحاولوا تفكير الدنيا وتذكيرها بواجبها.

ولكن أفلت الزمام من أيدي هؤلاء وتقدم الجناة والسفاحون وخدام المستبدين والمستعمرين، وعباد المال إلى المعركة التي كانت الضربة الأولى.

وأظن هذه الحالة وما تلاها يفسر الغليان الذي كنا نشعر به كأننا نودع العصر الحديث الذي لم نقض منه إلا عقدين من الزمان، فقد كان عمري في مستهل العقد الثالث، ولم أتمتع بالوعي والإدراك إلا منذ خمس سنين.

ولم تكن أوجستا ترى هذه الفكرة بوضوح، ولكنها قدمت إلي كل العناصر التي ساعدت على تكوين فكري.

٩

مكاتيب من الساسة الإنجليز والفرنسيين والاتصال بالهنود

وكان من أهم الأمور أن أسارع إلى جواز الامتحان لأتحرر من قيود الدراسة، وإنْ لم تكن الدراسة عاقتني عن المساهمة في مؤتمر جنيف (سبتمبر ٩٠٩)، ولم تعقني عن الاتصال برجال السياسة والأدب في أنحاء العالم، ولكنني ما زلت طالبًا ولا ينظر إلى قولي وفعلي إلا نظر الرجال إلى طالب علم في ريعان الشباب، وكانت ترد علي خطابات ومكاتيب من المرحومين بلنت وكير هاردي وتوم كيتل وهزلتون ووروتستين ولفيف من الساسة الإنجليز والفرنسيين، وقد اتصلت منذ عام بالهنود، ولا سيما شياد مجي كريشنا فارما صاحب مجلة إنديان سوسيو لوجيست ومدام كاما وهارديال وساڤاركار.

وكانت تصلني كتبهم المطبوعة والمخطوطة وأخبارهم المتتابعة، وقد نصحت لي أوجستا أن أخفف من وطأة اتصالاتي بالحياة العامة ريثما أجتاز الامتحان فعملت بنصحها.

وكانت المودة توثقت بين أوجستا وبين مدام بوديه، وهي من ربات الجمال اللواتي بلغن الكبر، ولكنها احتفظت ببقية من محاسنها وبكل كرامتها وفضلها وتمتاز كثيرًا عن زوجها بوديه فقد كان دميمًا قاصر العقل سخيفًا. وقد ذكرت مدام بوديه لأوجستا أن سخافة زوجها بلغت به أنه لما علم أنني من مصر أي من أفريقيا تولى تعليمي كيف أشعل السراج، وكيف أطفئه خوفًا عليه من أن لا يكون في بلادنا مصابيح تضاء بغاز الاستصباح، وأنه يجب علي أن أحرك المفتاح بالتوطئة، وأن لا أنفخ أبدًا في اللهب من أعلى الزجاجة لئلا تشتعل، فشكرته وقلت له: أحسنت يا سيدي بتحذيرك إياي فأنا قادم من سويسرا حيث يوجد في كل غرفة مصباح كهربائي وتدفئة كهربائية. وكانت مدام بوديه جالسة صامتة تحمر وتصفر أثناء كلام زوجها، فلما انصرفت أنَّبته وسخرت منه وقالت: تنصح هذا الرجل الذي غادر وطنه في سبيل العلم لا شك أنك جاهل. وشاجرته طول اليوم، فروت هذه القصة لأوجستا وقالت لها: منذ ذلك اليوم أخجل أن أرفع عيني في وجه السيد فلان.

وحدث أن جاءت فرقة تمثيل فرنسية وأقامت في إحدى البيوت المملوكة لموسيو بوديه. وحدث بينهم وبينه شقاق كالذي يحدث عادة بين الممثلين والملاك، واكتشف رئيس الفرقة أن اسم بوديه Baudet معناه الجحش! وفي شاربونيير في كل عام حفلة سبق للحمير.

وانتهزت الفرقة هذه الفرصة وأعدوا استعراضًا غنائيًّا ونظم أحدهم أغنية هزلية فيها «يوم الأحد يقام سبق الحمير في شاربونيير، وسوف نسوق لكسب الجائزة موسيو بوديه». وكان أهل شاربونيير جميعهم حاضرين تلك الحفلة وكان بوديه في الصف الأول، وقد لبس الردنجوت ووضع في عروة سترتة زرًّا يثبت أنه من أعضاء جوقة الشرف «لجيون دونير»، فضحك الناس وأغرقوا في الضحك واستعادوا هذه المقطوعة مرات عدة.

وكانت مدام بوديه أولى الضاحكات وقالت لزوجها بصوت مسموع: «هذا أقل ما تستحق لقاء نزاعك مع أهل الفنون» Ce tate servira bien.

واحتج بوديه ولكن رئيس الفرقة قال له: «نحن نمثل رئيس الجمهورية موسيو فاليير ونسخر منه ويشاركنا الجمهور، ولو كان بينه محافظ المدينة وعمدة القرية ورئيس الشرطة. أفتظن أننا نبالي باحتجاجك إن الفنون حرة والأدب طليق».

الامتحان

وعندما حل يوم الامتحان وكنت سأؤديه في ثلاثة أيام، تبعت حمية خاصة وانقطعت عن المذاكرة وقضيت يومين في الرياضة البدنية والسير في الحقول وفي غابة قريبة من شاربونيير، ولم أتناول خلال اليومين إلا الفاكهة والحليب ومحّ البيض (صفار) دون البياض وقليلًا من الشاي والقهوة.

وحدثت لي في هذا الامتحان بعض الحوادث العجيبة منها أنني في عشية الامتحان رأيت في الرؤيا بعض الأسئلة في القانونين التجاري والدولي، فاحتطت لذلك بمراجعة خاصة لهاتين المادتين، ولا سيما الأسئلة التي رأيتها في الرؤيا.

ودهشت إذ صادفتني هذه الأسئلة نفسها في الامتحان وأجبت عليها إجابة حسنة جدًّا.

وفي اليوم الثاني كنت أتوجس خيفة من امتحان عمانوئيل ليڤي الإسرائيلي؛ لأنه شديد الفطنة وشديد مع الطلاب في الامتحان ولا سيما الغرباء ويبدو في معظم أوقاته مستهترًا وهو خطيب سياسي اشتراكي النزعة وثقة في القانون المدني، ويفاخر في الدرس بأنه ابن خراط ولا يرجع الفضل في نجاحه إلا لاجتهاده، ويحقد على الأرستقراطية والبورجوازية حقدًا في محله.

وهو رجل لا يحب الاتصال بالطلاب ويتعالى ويتشامخ ويسمونه شيلوك؛ لأن له سحنة يهودية صارخة، وإن كان أبعد الناس عن الربا والمال.

فلما كان يوم امتحاني أمامه وهو الثاني أقبلت عليه وأمامه طالب ياباني، وقد اضطرب ابن طوكيو اضطرابًا شديدًا وأظنه كان مؤهلًا للرسوب أعظم تأهيل؛ لأنني لم أره طول العام في محاضرة أو مناظرة أو مكتبة.

فألقى عليه ليڤي سؤالًا لا يعدّ سهلًا ولا صعبًا ولكن بين بين، فاحمر الياباني؛ لأنه أصفر بالفطرة وقال له: أرجوك يا سيدي الأستاذ أن تكتب لي السؤال لأجيب عليه.

فنظر إلي ليڤي وقال نكتة هائلة، تنهَّد واستجمع قوته وضاق نفسه؛ لأنه مصاب بربو مزمن! وقال: وا أسفاه يا سيدي الياباني، إن خطي أردأ من نطقي، أشكرك وأرجوك الانسحاب!

فلما جلست بين يديه بعد الياباني قال لي: وأنت أيها السيد المصري، أجب على السؤال الذي عجز عنه سلفك إنْ شئت. فأجبته بتوسع، فقال: لا عجب فقد كانت عندك فرصة الإجابة بينما كان صاحبك مضطربًا فهذا لا يدّل على شيء. فأجبني عن كيت وكيت. فأجبته باسمًا، فقلب في أوراقي وقال: أنت من مواليد الإسكندرية سنة ١٨٨٦ قلت: نعم قال: بما أنك تعرف مقررك فما سبب الشائعة بأن الطلاب المصريين لا يستعدون؟ فقلت له: لا علم لي بهذه الشائعة. فألقى علي سؤالًا ثالثًا، وقال لي: لا تغضب ولكن أسألك ليطمئن قلبي: ما الفرق بين القانون المدني والقانون التجاري في آراء الفقهاء، قلت: أجيب من المراجع أم من واقع درسك. قال: يكون أوقع.

قلت: كالفرق بين الحسناء المحتشمة والدميمة اللعوب، فافتر ثغره عن ابتسامة عريضة؛ لأن هذه كانت نفس ألفاظه في محاضراته، فقال: أشكرك لا فائدة في تعذيبك وتضييع وقتي، فابتسمت وتركته ومررت أمام كل اللجان، وفي كل منها ثلاثة أساتذة محلفون وعميد الكلية.

وفي اليوم الثالث كان امتحاني في التشريع الاستعماري وتشريع العمال والمبادئ الاقتصادية.

نجاحي في الامتحان

وفي اليوم الثالث ظهرت النتيجة وهي نجاحي بتهنئة المحلفين، وهي نتيجة تعلن والأساتذة وقوف ويتلوها تصفيق جمهور الطلاب وأهلهم. وكانت هذه المرة الثانية التي نلت هذا الشرف في كلية الحقوق، وخرجت مسرورًا ووصلت إلى شاربونيير في الساعة الثانية بعد الظهر ولم أجد أوجستا ولم أرها في ليون، فقصدت إلى مطعم بيلهوم لعلها تكون سبقتني إليه، فوجدت في انتظاري برقية بالتهنئة وعليها توقيعها ومصدرها ليون محطة سان پول فكأنها ذهبت وعرفت ولم أرها لانشغالي.

وبعد هنيهة وصلت إلى شاربونير وهي تحمل أزهارًا وحلوى فرحًا بتلك النتيجة السارة، وكان وجهها مبللًا بالعرق من شدة العرق ومن دموع الفرح. وكان اليوم عظيمًا وأردت مداعبتها فأرسلت إليها برقية نصها:

وصلتني برقيتك وأشكرك وأقر لك بالفضل والمعونة وانتصاري انتصارك، وقد ساهمت فيه أكثر مني.

وعلم بيلهوم وأراد أن يكرمني فقدّم لنا في العشاء طعامًا فاخرًا، وقال: هذا العشاء على حساب البترون (أي: نفسه) وقدم لنا قنينة من نبيذ شمبانيا وقال: يا سيدي الزاهد إن الضرورات تبيح المحظورات ومشاركتك في سرورنا بك ضرورة، فقالت أوجستا: لا أنا ولا هو نشرب الشمبانيا، ولكننا نقبل هديتك على أن نأخذها معنا ونشربها في بيتنا في الوقت المناسب.

فقال: قبلت هذا الحل، وخرجت من مأزق معاقرة الخمر كما أخرجني من مأزق مثله الأستاذ لامبير في حفلة عامة في مدينة تارار في العام الماضي بقوله: «اتركوا تلميذي وابني ولا تلحوا عليه في شرب الشمبانيا فإنني لو أذنت له، فإن دينه وتقاليد قومه لا تسمح له، ثم إنه يشرب الماء ولا يشرب النبيذ مطلقًا، هيا يا سيداتي وآنساتي تفضلن بقبول عذره ولا تحقدوا علي، فإن في عنقي أمانة هؤلاء الشبان».

وكان معنا في هذه الحفلة عبد الحليم البيلي وعبد الرحيم مصطفى وعلي فوزي وعبد الرحمن فكري وغيرهم من طلاب الحقوق بليون، ولا سيما المقيمين في رعاية الأستاذ لا بورت، وفي ذلك اليوم خطبت بالفرنسية عقب خطبة الموسيو دي بريسانسيه عضو الشيوخ عن مقاطعة الرون، وهو رئيس تحرير قسم الخارجية في جريدة الطان، وكان مصابًا بالروماتيزم في ذراعه وقد شدهما إلى صدره بقماش، فلما تكلّمتُ وفتح الله عليّ بما نال رضاه نهض الشيخ الملتحي وصفق وقال: لقد سرني خطاب هذا الشاب، حتى انحلَّ رباط يديّ.

واغرورقت عينا لامبير بالدموع.

وكانت أوجستا تعرف هذه القصة فيما تعرف عن امتناعي عن النبيذ، فكان اعتذارها المقبول إلى صحاب المطعم، وتكفل بإرسال القنينة في جردل ثلج إلى بيتنا، فقدمتها أوجستا إلى مدام بوديه، وأنعشت شيخوخة زوجها من حيث لا يحتسب.

وفي تلك الليلة سهرنا في الكازينو وحضرنا التمثيل الموسيقي، وكان القمر في السماء (١٧ و١٨ يوليو)، وسرنا في الحديقة وشعرت بحرية وسعادة لم أشعر بمثلها منذ أربع سنوات أو ثماني، وهي مناسبات الشهادتين الابتدائية والثانوية وكل منهما تدل على قضاء مرحلة من الحياة والدخول في المرحلة التالية، ولكنني أخبرت أوجستا أنني عازم على أداء امتحان الدكتوراه، وأنني مجبر على أداء امتحان المعادلة في مصر بعد عام.

وقلت لها: الآن أنا طليق ولن أترك أوروبا قبل آخر هذا العام أو نصف العام المقبل؛ ولذا أضع نفسي تحت تصرفك لتضعي خطة السفر والاستراحة والسياحة والترفيه التي استحققناها معًا، ولم أكن أعلم عندما قلت هذا الكلام أنني في شهر سبتمبر من تلك السنة نفسها سنة (١٩١٠) سأكون في باريس وبروكسيل في سبيل المؤتمر المصري الوطني الثاني، وكنت أظن أن الدهر يسمح لي براحة ثلاثة أو أربعة أشهر على الأقل قبل استعدادي للدراسة الختامية.

طباع الشعب الفرنسي

كان الجو جميلًا في شاربونيير والفرح شاملًا والزمان مواتيًا والنجاح مؤذنًا بالسعادة المقبلة، والفرنسيون شعب مرح وأهل الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة يحتفظون بطباع أجدادهم وخلالهم، رجالًا وإناثًا حتى تكاد تراهم كما كانوا من مائة سنة، ومرجع الأمر في هذا خصوبة الأرض ومرح الحياة وجمال الطبيعة وبساطة العيش. نعم إنهم خفاف الأمزجة، ولكنهم شجعان وأذكياء والكثير منهم مخلص، وإنما عيبهم في ساستهم وقوادهم وضعف الإرادة أكبر عيوبهم، ثم مزاجهم الهوائي تارة والناري تارة أخرى، واستعداد الكثير منهم للجنون الوقتي كأنهم ولدوا جميعًا تحت سلطان القمر … الطيش والرعونة الغالبة في أقوالهم وأفعالهم والتقلب والتحول والتعلق السريع بما يسمونه عشقًا، والاهتمام بالأمور الظاهرة والسطحية، ولكن عندهم علماء عريقون في العلم وباحثون يستقصون الأشياء إلى نهايتها وعبقريات كونية ممتازة في كل فرع من فروع المعرفة، وعند كثير منهم وفاء، وفي أخلاقهم تناقض ولكن من يعرفهم ويعاشرهم لا يسعه إلا أن يحبهم، ويودّ لو أنه يندمج في أمتهم وأن لا يفارقهم أبدًا.

وتكاد حياتهم تكون صفحات من كتبهم، وقصصهم وأدبهم وألحانًا من موسيقاهم وتصاوير من لوحاتهم، ألا ترى إلى كتابهم ومتفننيهم يستلهمون الحياة مباشرة، سواء فيهم القديم والجديد، فهذا مونتاني يصف الحياة كما يراها ويسوق السخرية للموعظة وهو قسيس قديم ولا يبالي، ولا ينقطع هذا النوع من الرجال فيخلفه بعد مائتي سنة قسيس آخر هو إرنست رينان، لا يقل عنه دعابة حزينة ويفوقه في العلم والفطنة، ويهاجم المعتقدات صراحة ويجد من نفسه شجاعة تكفي لأن يخلع ثياب الكهنوت، ويتعرض للذم والاضطهاد ومتاعب الحياة ثم ينتج ذخائر الفلسفة والأدب ويصف المسيح — عليه السلام — بأنه ابن الإنسان نكاية فيمن يقولون: اتخذ الله ولدًا.

وهذا الشاعر الفخم والثائر الجبار ڤيكتور هيجو يؤلف كتاب الميرزابل (البؤساء) وكأنه ينزح من بحر، يكتب كما يفكر وكأنه يروي ما يرى ثم ينظم الشعر الرزين الغالي في الله والملائكة والملكوت والروح والشيطان، وفي تاريخ القرون والأجيال الماضية كأنه ينظم توراة جديدة ثم يمجدّ الثورة الفرنسية ويعادي بونابرت، ويتصدى لابن أخيه فيسلقه بألسنة حداد ويصفه بأنه نابوليون الصغير تحقيرًا لشأنه، ثم يؤلف تاريخ جريمة ويصف انقلاب الحكومة من جمهورية إلى إمبراطورية بأنه جناية على الإنسانية والوطن، ويصم كل من اشترك فيها بوصمة العار ثم هو يتعفف، ولا يذكر حياة السيدة أوچيني بسوء ولو شاء لنسف العرش الجديد بذكر مثالبها وحدها.

ثم جاء جيل جديد من الكتاب والنقاد يصفون هيجو بأنه أكبر منار في محيط الأوهام والأباطيل؛ لأن الأفكار سريعة التطور في فرنسا فهي ليست دولة ولكنها عالم بأجمعه.

أيام سعيدة وأعوام شقاوة

الأيام السعيدة التي تعقب نجاحي في الامتحان هي وحدها التي استمتعت بها وحسبتها أعيادًا يجب علي الاحتفال بها، وهي أيام معدودة في سنوات محدودة مثل ١٩٠٠ و١٩٠٧ و١٩١٠ و١٩١١ و١٩١٢، وكانت تتخللها أعوام شقاوة وعناء وعنت من الدهر فيخفف الله عني أهوال تلك السنوات بأيام غرّ محجَّلة يعقد فيها لواء الحرية والنصر لوطني مثل أيام مؤتمر جنيف سبتمبر سنة ١٩٠٩ ومؤتمر بروكسيل (١٩١٠).

ومن الآلام التي تتخلل تلك الأعوام انشغالي الدائم على رزقي أثناء دراستي، ولم يكن لي مصدر محدد معلوم إلا جهادي بقلمي وما يجود الله به علي من فيض نعمائه فتغنيني عن الناس. ومن أحزان تلك السنوات وفاة المرحومين الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل وقاسم أمين.

وفي تلك السنة (١٩١٠) إعدام المرحوم إبراهيم ناصف الورداني، وفي نفس أيام الامتحان كانت قضيته تنظر أمام محكمة الجنايات بمصر، وكانت الصحف المصرية تحمل إلي مرافعات المحامين وفي مقدمتهم محمد علي علوبة بك، وكانت مرافعة الهلباوي لا تهزني؛ لأنني أشعر بأنه يحاول الإخلاص ويبذل أقصى الجهد ليمحو عن نفسه وصمة المرافعة ضد الفلاحين إخوته وأبنائه وآبائه الذين شادوا مجده وأغنوه وأوصلوه إلى مكانة العظماء في غفلة الزمان، ولكنني تأثرت في نبذة الوداع التي وجّهها إلى إبراهيم ناصف أمام رئيس محكمة مالطي الجنس إنجليزي النزعة اسمه ديلبرغلو، وكان في شبابه مشمولًا بوصاية الطاغية كرومر، فحاول منع الهلباوي من الاستمرار في مرافعته قائلًا له: عليك أن تتوجه بخطابك إلى المحكمة لا إلى المتهم.

وكان الهلباوي حاضر البديهة فقال له: كنت أتمنى يا سعادة المستشار أن أتوجه للمحكمة بخطبة الوداع، ولكنني لا أودعها ولكن أودع موكلي الواقف بين يديها.

وكانت جريدة الطان الباريسية تأتي ببعض أخبار المحاكمة، ومن ذلك أنها سردت الأسباب التي قرر المتهم أنه اغتال حياة بطرس باشا لأجلها وهي خمسة: توقيع معاهدة الحكم في السودان، والقوانين الاستثنائية في تقييد الحرية، وممالأة الإنجليز في أحكامهم، وشذوذ مسلكه في معاملة أعضاء الجمعية التشريعية أثناء نظر مشروع مد امتياز شركة قنال السويس، الذي كان يدافع عنه سعد زغلول ويعارضه المرحوم إسماعيل أباظة باشا إلخ … الأسباب التي ذكرها الورداني.

وقد لاحظت أن الطان الباريسية كانت تعنى بذكر الحوادث المهمة التي تحدث في الشرق، فهي وحدها التي نشرت في العام الماضي نص الصلاة التي وجهها دنجرا قبل إعدامه في لندن لقتله سيركيرزون وايلي وطبيب هندوسي ممالئ للإنجليز، وبسبب هذه القضية قبض على ساڤاركار مؤلف كتاب الثورة الهندية الذي وصلني في مارس بجنيف، وهو ربيب وتلميذ مدام كاما المقيمة في باريس، وصديق شيامد چي كريشنا فارما صاحب مجلة إنديان سوسيولوجست، وقد قبض على ساڤاركار في لندن ونقل إلى الهند وحوكم وحكم عليه بالنفي المؤبد في جزيرة لاكاديف مالا ديف المشهورة بسوء جوها وفظاعة طقسها، فنقص وزنه في شهرين عشرين رطلًا.

وفي تلك الصلاة التي وجهها دنجرا إلى أمه الهند «باندي ماترام» تمنَّى أن يموت (وقد شنق فعلًا)، ثم يبعث مرات لا عدد لها (على مذهب التناسخ البوذي)، وفي كل مرة يتاح له أن يقتل عددًا من أعداء وطنه، ونشرتها جريدة الطان وقرأتها في جريدة ديلي ميل، ولكن علمت أن الشيخ عبد العزيز جاويش حكم عليه في مصر بالسجن ستة أشهر؛ لأنه كتب كلمة في اللواء يوم إعدام دنجرا عنوانها «اليوم يعدم دنجرا»، وكان وكيل إنجلترا في مصر حينذاك المدعو الدون جورست صديق الخديوي عباس حلمي.

كانت مثل هذه الحوادث تعكر صفاء أيامي، ولكنها تستحثني على المثابرة والمصابرة حتى أتم دراستي وأقوم بنصيب أوفى وأوفر في خدمة وطني.

وفي تلك السنة (١٩١٠) في فبراير عندما قتل بطرس غالي خطب سير إدوارد جراي خطبة في مجلس العموم يتهم مصر بالتعصب الديني، وانتشار المذاهب الثورية والفوضوية، فوفقني الله لكتابة خطاب مفتوح إلى أعضاء البرلمان الإنجليزي أرسلت منه ألف نسخة مطبوعة في ليون، ورددت فيه على هذه التهم ووصفت عمل الورداني بأنه عمل وطني سياسي فردي لا علاقة له بالدين ولا بالجمعيات السرية، ونشر هذا الكتاب الإنجليزي بترجمته العربية في العددين الأول والثاني لجريدة «العلم» التي حلت محل جريدة اللواء.

ولكن هذه الأعمال لم تكن كافية في نظري، وكنت أريد أن يزيدني الله علمًا وقوة لأقوم بنصيب أوفر، ولم يكن نشر جريدتي إيجيبت وصوت الشعب بكاف كذلك مع أنني كنت طالبًا وقانون وزارة المعارف الفرنسية يحرم الاشتغال بالسياسة على الطلاب في جامعات فرنسا، وقد لقيت عنتًا من موسيو إريستيد بريان وزير الداخلية، ومن دومرج وزير المعارف ومن عميد الكلية الأستاذ فلورير، ولكنه كان أقلهم تشددًا وأكثرهم فهمًا؛ ولأنني ذكرته بأنه ألزاسي الوطن والمولد والنشأة (وكان ذلك الحديث في بيته)، وأن كراهيتي للاحتلال البريطاني تشبه كراهيته لاحتلال ألمانيا للألزاس واللورين مسقط رأسه.

ليالي الروح الحائر

وكان من أثر انفعالي بتلك الحوادث أنني اتجهت في إنتاجي إلى نوع جديد من النثر هو الذي ظهر في «ليالي الروح الحائر»، ولا سيما مصرع طيبريوس أحد طغاة رومه وجوديت قاتلة هولڤرن، وقد جاء في حقها سفر في التوراة من الأسفار المحذوفة باسم «يهوديت»، وكنت أجمع إخواني المصريين وأدعوهم لسماع تلك النبذ التي كنت أعدها تجديدًا في الأدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤