سياحة إيطاليا

١

أوهام ومخاوف

حاولت أن أستريح عقيب الامتحان في شاربونيير، ولكن القيظ اشتد كثيرًا في الأسبوع الثالث من يوليو، فسألت أوجستا عن المكان الذي يصلح لنا مصيفًا وهل تود أن نعود إلى جنيف أو لوزان أو إلى مكان في سويسرا أو في سافوا، وفيها جبال وغابات وحراج وأنهار وبحيرات وحقول وكل ما تشتهي النفس. فقالت: إنها تفضل لأجلي أن نرحل إلى إيطاليا وأن يكون مقصدنا الأول، شواطئ البحر الأبيض في جوار جنوا وأنها تعرف قرى صغيرة تعد دراري على شاطئ البحر مثل پيلي وبرجامو وراپالو، فوافقتها وودعنا شاربونيير ومدام بوديه وزوجها وموسيو بيلهوم، وقد أكرموا وفادتنا ووعدناهم بالعودة إليهم.

وتخليت في ذلك اليوم عن كثير من الصحف والمجلات لثقل وزنها، ونفقة نقلها بالسكة الحديد والحمالين، وسافرنا من محطة بيراس إلى حدود إيطاليا، وأظنها محطة مودان وركبنا قطار باريس السريع الذي يهدف إلى رومه، فبلغنا جنوا بعد الظهر اليوم الثاني ونزلنا في فندق قريب من المحطة، وكانت رحلة جميلة تتخللها لمحات من جمال فرنسا وإيطاليا وشاطئ البحر أحيانًا، ولكنني شعرت في أعماق نفسي أننا مقبلان على المجهول وقد يكون فيه أخطار.

ولم أفاتح السيدة في هذا الأمر لفرط سرورها لإقبالها على إيطاليا، ولرغبتها في الترويح عن نفسها بعد ما عانت في سويسرا نحوًا من عام، وأرجعت حالتي النفسية وأوهامي إلى مزاجي العصبي ومخاوف المشتغلين بالدراسة والأدب أمثالي، فإنهم يطلون على الحياة بمنظار قاتم وكثيرًا ما يتوقعون خيرًا وشرًّا فلا يأتي هذا ولا يقع ذلك، ومن بين تلك المخاوف ما كان يصيبني من حداثة سني كلما شرعت في طبع كتاب مثل في «بيوت الناس» و«تحرير مصر»، وكنت أتوهم دائمًا أنني سأموت فجأة قبل أن أرى نسخة مطبوعة من هذين الكتابين، وقد رأيت أن هذه المخاوف لم تغادرني حتى بعد أن تقدمت السن بي، فكانت تعاودني تلك الحال أثناء إعداد كتبي الأخرى للطبع، ولا سيما التي أجعل لها في وهمي شأنًا خاصًّا مثل «حياة الشرق» و«تاريخ فلاسفة الإسلام» و«الشهاب الراصد». وما كان يصرفني عن الأوهام إلا أن أعدّ نفقات الطبع كاملة، وأكتب بيانًا أشبه بالوصية ليشرف أحد أصدقائي على صدور الكتاب. وبالجملة قد دلني طول الاختبار مع نفسي أنها مفطورة على الحزن والطيرة، وانتظار الموت وتوقع الآلام ولكن الله كان يلطف بي في كل حال، وكان هذا الشعور ينتابني قبيل الامتحانات المهمة والأسفار ذوات النتائج الحاسمة في حياتي؛ ولهذا صرفت من ذهني هذه المخاوف التي يزيدها سفر الليل ووقع حركة العجلات وأرواح الظلام وأشباحه التي تبدو خلال النوافذ، فترسم لي الظلمة من الأشجار والتلال أقزامًا وعمالقة، ومن كل عود أو سلك للبرق صورة مزعجة أو فكرة تدعو إلى الطيرة.

أما أوجستا فكانت أثناء تلك الرحلة تنام في ركن ركين من ديوان المركبة، وتتيقظ أحيانًا لتشرب ماءً أو لتصفّف شعرها أو لتلقي نظرة على وجهها في المرآة كعادة بنات حواء، ثم تسألني في رفق إن كنت تعبًا أو مستريحًا أو في حاجة إلى النوم.

جنوا

وعندما بلغنا جنوا وجدنا القيظ بها شديدًا فتغدينا ثم بدأنا رحلة من أجمل الرحلات على شاطئ البحر في ضواحيها، وللبحر في تلك الناحية جمال وجلال، وطفنا بالقرى وقد تحولت كلها مصايف فلم نجد مسكنًا ولا مقرًّا، وأخطأنا مرة خطأً جسيمًا ودخلنا بيتًا فخمًا له حديقة غناء توهمت أوجستا أنه فندق، وقد استبنت الخطأ منذ وطأته أقدامنا، فتقدم إلينا خدم لهم كرامة وليس عليهم سيما خدم الفنادق، وسألونا في ظرف وأدب إن كنا نريد مقابلة جناب الكونت فقلنا: نعم لعلمي بأن ألقاب الكونتات والبارونات رخيصة جدًّا في إيطاليا وأن معظمها موروث وبعضها تبيعه الكنسية.

وما كان أعظم دهشتنا عندما حضر للقائنا كونت حقيقي له كل مظاهر لقبه وآداب أمثاله، فرويت له القصة وقلت له: لقد خدعنا يا حضرة الكونت وزاد في خديعتنا تعب السفر يومًا وليلة فتفضل بقبول عذرنا، فابتسم الرجل وقال: هل أدلكما على فندق جميل في بقعة جميلة حقًّا؟ قلت: نعم، قال: جراند أوتيل راپالو، وهو لا يبعد عن هنا إلا بضع خطوات، وشكرناه وخرجنا نتعثر في أذيال الخجل من الخطأ في الذوق، ولكن الرجل ظن أنَّا من أهل روسيا وهم مشهورون بجفاء طباعهم وعدم تعودهم مظاهر النعمة والرفاهية، ولعلهم يقضون بعض أعمارهم في السجون فلا عجب إذا اتخذوا بيته فندقًا! وكنت — وأنا أغادر بيت الرجل وأمامي أوجستا وحولنا الخدم ينحنون لتوديعنا إكرامًا لمقام مولاهم الذي استقبلنا — أكاد أذوب خجلًا.

وقصدنا إلى فندق راپالو واتخذنا غرفة مطلة على البحر، وكان أمامنا منظر لا يعدله منظر وتحتنا كازينو ومطعم ومرقص تصعد إلينا موسيقاه وضوضاؤه مع صوت الأمواج المنعطفة على الشاطئ، ويهب علينا نسيم منعش، ولكن هذه الليلة نغَّصها مرض جلدي أصاب السيدة فجأة، وسبب لها انتشار حرارة شديدة في سائر بدنها ودمامل صغيرة، فخشيتْ أن تكون عدوى من القطار وأخذت تبكي وتندب حظها، فاستغثنا بإدارة الفندق فبعثوا إلينا بطبيب كهل اختصاصي في أمراض الجلد، فلما فحصها ابتسم وقال: pella molta delicata أي إن الجلد شديد الرقة والليونة وعلاجه حمام دافئ والتدليك بعصير الليمون. فسرت السيدة من هذا الثناء أكثر مما سرت من هوان المرض.

وأخذت حمامها ودلكت دماملها فاختفت ونامت نومًا هادئًا، وفي الصباح رحلنا إلى شاطئ بيلي وفيه فندق باسم بلاڤيستا، وقد عودني الزمن أن كل مكان يوصف بالمنظر الجميل بلافيستا فلا يكون مقامي فيه سعيدًا. وكان هذا الفندق آية في حسن الموقع وهو يطل على البحر وعلى خليج چنوا وعلى حديقة غناء، ولكن أصحاب المكان من أحط لصوص الفنادق، ومعظم ضيوفهم من الإنجليز والأمريكان، فدرج صاحب الفندق وأولاده وأصهاره الذين يشاركونه في العمل والخدمة على استغلال الضيوف مع الرخاء الذي كان سائدًا في تلك الأيام في كل أنحاء أوروبا. فقد كانت أجور هذا الفندق مرتفعة وكان طعامه رديئًا وخدمته معيبة. ولكننا تجملنا بالصبر وتحملنا فظاظة الطليان وطمعهم الأشعبي حيال ما كنا نصيب من متعة النفس وجمال المنظر. ولما كان الطعام لا يكفينا كنا نكمل نقصه بشراء الفواكه وأنواع الجبن والزبد والمربى، ونعمل الشاي لأنفسنا في غرفتنا، وكانت سفرة هؤلاء الأوغاد لا تتجاوز المكرونة والباذنجان الضلمة وبضع رقائق من لحم البقر المتناهي في السن، واسمه عند القصابين «الربع القافل» أي: الذي بلغ من الكبر عتيًّا.

كتب رينان

وكنا في كل صباح نستنقع في ماء البحر في أحد الحمامات المنتشرة على طول الشاطئ، وأذكر في هذه الأيام أنني تعلقت بقراءة كتب رينان «تاريخ شعب بني إسرائيل» و«حياة المسيح»، ولست أدري سبب هذا الشغف برينان في تلك الفترة، ولكن أسلوب الرجل سحرني وتاريخ حياته وشجاعته في حريته عندما خلع ثياب الكهنوت بهرتني، وأعجبني منه أنه قبل أن يكتب حياة المسيح وأعمال الرسل، ساح في الأرض المقدسة ومعه أخته هنريت التي لقيت حتفها في تلك البلاد، وكانت أوجستا تحفظ صلاته إلى منرڤا إلهة الحكمة والجمال عند الأقدمين عن ظهر قلب، وقد ألقاها الرجل عند زيارته الأكروبول بأثينا.

وما أزل أذكر بريق عينيها عندما كانت تقرأ لي أحيانًا في كتب رينان، ولا سيما تاريخ شعب إسرائيل.

وفي يوم من الأيام ونحن جالسان في الشرفة المطلة على البحر وحديقة الفندق، وأقرأ حياة المسيح بذلك الأسلوب الفاتن الساحر قلت لها: إن هذا الكتاب خير من الأناجيل الأربعة عند النصارى، ولو كانوا يعقلون لرفعوا رينان إلى مقام الرسل الذين وضعوا الأناجيل الأربعة بدلًا من تكفيره واضطهاده.

وقلت لها: إنني أحب رينان؛ لأنه ألف كتابًا عن ابن رشد فيلسوف الإسلام في الأندلس وكنت قرأته بالعربي في ترجمة المأسوف عليه فرح أنطون منذ بضع سنين، وقام بالرد عليه المرحوم محمد عبده في مجلة المنار، وأعلم أن رينان احتفى بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في باريس سنة ١٨٨٣ عندما كانا في باريس. وذكرت لها هذه القصة وأن نقطة الخلاف بين المفتي وفرح أنطون أن أنطون استنتج من كتاب رينان عن ابن رشد أن الإسلام أضيق عطنًا بالفلسفة وحرية الفكر من النصرانية، فرد عليه المفتي ردًّا مفحمًا ذاكرًا قتل فلاسفة النصارى بأمر الكنيسة ولا سيما برونو وأمثاله ومحاكم التفتيش. فاهتمت أوجستا بهذه المسألة الجديدة بالنسبة لها وقالت: إذن عندكم فلاسفة مسلمون؟ فابتسمتُ وذكرت لها أسماء عشرين فيلسوفًا في الشرق والغرب أمثال ابن سيناء وابن باجة والفارابي وغيرهم، فقالت لي: إن النصارى يضطهدون الحرية في كل مكان وإن اضطهادهم اليهود في روسيا لا مثيل له، فإنهم يصنعون في كل عام ما يسمى پوجروم وهو قتل اليهود بالجملة وجلدهم وسجنهم واغتصاب فتياتهم، ونهب أموالهم باسم الكنيسة الأرثوذكسية، تزداد هذه الفتنة عند عيد الفصح إذ يشيعون كذبًا وباطلًا أن اليهود يذبحون طفلًا مسيحيًّا؛ ليمزجوا دمه بالفطير ويعملونه ضحية العيد ويدبرون هذه المكيدة في بلاد عديدة وفي المدن التي يكثر فيها اليهود، ولا سيما أوديسا وبادولي ومويلف عاصمة مقاطعتنا.

وقالت: إن اليهود أبرياء من هذه التهمة؛ لأن دينهم يحرم عليهم النجاسة وإهراق الدماء.

فقلت لها: أما النجاسة فنعم ولا سيما في الطهارة والاستحمام وانتقاء الطعام وإحسان الذبح والتمييز بين الكاشير والطاريف، فابتسمت وقالت: أنت تعرف ذلك، قلت لها: ولم لا وفي بلادنا كثير من اليهود المسالمين والإسلام في الأندلس وتركيا وسائر بقاع الأرض فتح لهم صدره، وأمنَّهم على حياتهم وأموالهم وهم ما يزالون يعتبرون المسلمين «جوييم» أي: غرباء، فدهشت من معرفتي بعض كلمات عبرية.

ثم قالت: لا شك أنك منوَّر لا تدخل إلى ذهنك تلك الخزعبلات التي تذيعها الكنيسة للانتقام من اليهود، ثم إن عيسى المسيح لم يكن إلا يهوديًّا من أبناء هذا الشعب وقد ألَّهه النصارى هو وأمه وأضافوا لهما أبًّا ووالدًا مما ينافي العقل والذوق السليم، فإذا كانوا اتخذوا امرأة وولدها إلهين فكيف يعذبون قومهما إلى آخر الدهر؟ فضحكت وقلت: لأن هؤلاء القوم — في اعتقادهم — صلبوا ربهم.

قالت: ألم يقولوا: إنه قدم نفسه للصليب مختارًا لتخليص العالم. فلم أعرف كيف أجيب على نقدها الصحيح.

وقلت لها: إنك تدافعين بحرارة عن وجهة نظر المسلمين، ويشمل دفاعك شعب إسرائيل فقالت لي: نحن في روسيا أحرار الفكر ولا نكترث للأديان؛ لأن التحرر من العبودية بدأ عندنا بالتحرر من المعتقدات.

قلت: حتى عند تولستوي؟ أجابت: تولستوي رجل فذ وهو يعامل الأديان كلها بالمساواة، حتى كتب رسالة في الثناء على نبي المسلمين وحكمته وذكر بعض أحاديثه.

قلت لها: وإذن تشعرين بالسعادة ما دمت بعيدة عن روسيا المتعصبة لدينها.

قالت: ومتعصبة لحكمها الظالم، فإن القيصرية حليفة الأرثوذوكسية، وإذا قدر للقيصر أن يزول هو وأسرته لا بد أن تضعف الكنيسة الأرثوذوكسية وربما تزول من الوجود.

قلت: يبقى شعبك بدون دين.

قالت: وهذه فرنسا أثناء الثورة عبدت الكائن الأول، وجعل لها روبزپيير دينًا جديدًا، وقد درجوا من ذلك العهد على حرية الفكر. وهنا في إيطاليا تجد في كل ركن وزاوية كنيسة أو بيعة أو تمثالًا للعذراء والطفل، ولكن يندر أن تجد مسيحيًّا يعتقد حقًّا بدينه.

جولة في چنوا

وقالت: وبهذه المناسبة ينبغي لنا أن نزور كنائس جنوا الشهيرة، ففيها تحف كثيرة ولا سيما التصاوير من صنع الأساتذة الأوائل.

وفي اليوم التالي خرجنا لتلك الزيارة ورأينا اللوحات الباهرة والمباني الفخمة للمعابد وبعض قصور جنوى القديمة، ثم ألحت عليّ في زيارة الكامپوسانتو وهو قصر الموتى، وقد رأينا هناك من آيات الفن وبراعة التصوير وحذق المثالين والنحاتين والحفارين في المرمر ما يدهش الألباب ويبهر الأبصار ويذهل العقول.

فلكل قبر تمثال لصاحبه، فرأينا العرائس مزينات للزفاف والقباطنة في فلكهم المشحون والقواد يشهرون سيوفهم ويخوضون غمار المعارك، كل ذلك مرسومًا في المرمر والوجوه والأيدي وسائر الأعضاء ناطقة شاخصة كأنها أحياء. إن تلك المناظر تبلبل الأفكار وتسري لرؤيتها رعدة خوف وهزة إعجاب، ولم أرتجف من منظر مثل ما رأيت في كامپو سانتو في جنوى، فإنه يفوق مدافن نابولي وروما وتكاد الصور والأشباح تنطق وتحل فيها أرواح أصحابها.

وكانت أوجستا شديدة الانفعال وقالت لي: بقدر سروري لمشاهدتك هذه الأشياء الجميلة، أخشى أن تترك أثرًا سيئًا في نفسك؛ لأن دينكم ودين اليهود يحرم هذه الأشياء، قلت لها: لا أعرف عن عقيدة اليهود في التصاوير والتهاويل شيئًا، ولكن عن ديننا أقول لك: إن التحريم مقصور على الأصنام التي تتخذ للعبادة، أما التماثيل والتصاوير فمباحة؛ لأنها من الفنون الجميلة وكذلك الموسيقى والغناء والرقص والتمثيل.

قالت: أحب أن أرى مصر وأزور آثارها وأمشي في طرق القاهرة وأشرب من ماء النيل؛ لأني قرأت أن من يشرب من ماء النيل يعود إليه. قلت لها: من يدري قد تشربين وقد تعودين إلى ضفافه من يدري.

وجلسنا في الجالاريا وهي أفخم أسواق جنوى وأزخرها بالبضائع الحديثة وأثمنها، وفيها أفخر المقاهي ومشارب المثلوجات ودكاكين الحلوى والأقمشة النفيسة والتحف والألطاف، وجسنا خلال الشوارع في الأحياء الغنية والحارات والأزقة في الأحياء الفقيرة، ولمحنا تماثيل لكريستوف كولومب وأندريا دوريا وجوزيف متزيني وأذكرتني المدينة، وخليجها الفخم بنابولي والبندقية في وقت واحد، ولم يكن ينغص إقامتنا إلا فظاظة الفندقي وأهله وجشعهم وبخلهم ولؤمهم.

وزرنا أفخم الكنائس ومتحف الصور وفيه لوحات عظيمة من الأساتذة الأقدمين، وكنت أعرض عنها معتذرًا بأنني بعد أن زرت اللوڤر ولكسمبورج وناسونال جالري، ومتاحف روما والفاتيكان لا أحب أن أزور متحفًا إلا إذا كنت قرأت عن محتوياته كلامًا كثيرًا من آراء النقاد، وأضنّ بهذا الوقت أن يضيع دون أن أقرأ تاريخ المصوّر وصورته ورأي الباحثين في فنه، وإلا فأكون كالقروي الذي يزور العاصمة أو البندر، وينتقل في بلاهة وغفلة بين الأسواق.

فقالت لي: هل زرت فلورنس (فيرنزه)؟

قلت: كلا … قالت لي: اعذرني أن أقول لك: إنك لم تر شيئًا في الفنون إنك طفت برومه وبادوا وبولونيا والبندقية وباريس ولندن قبل اليوم، ولكنك لم تطف كما قلت كالقرويين في البندر وأنا طفت كالإنجليز والأمريكان.

قلت: هذا أشد ألمّا وأفدح مسبة؛ لأن القروي والفلاح والريفي معذورون لجهالتهم، أما السكسوني سواء أكان إنجليزيًّا أو أمريكيًّا فلا عذر له؛ لأنه متعلم أو شبه متعلم. قالت: سوف ترى فيرنزه وسوف تحب أن تزور ميونيخ وبرلين وفينيسا وأحب أن أكون في صحبتك في باريس لنزور اللوڤر ولكسمبورج معًا.

وقد أفاضت في الكلام على الفن فإذا هي أملك لناصيته منها في الموسيقى والأدب، وهذا لكثرة ما ساحت وسافرت بين العواصم بقصد التعلم والتنور وكثرة ما قرأت من الكتب. وكان معنا كتاب متزيني الذي صحبني في يوم ١٩ مارس وتحمل معي المطر والبرد وهطول الأمواه، كأفواه القرب في ذلك اليوم الذي لا ينسى فأريتها جلده، وقد تلطخت من أثر ذلك اليوم ولم أحاول إزالتها لتبقى ذكرى لما عانيت قبل لقائها، فقالت: ها نحن في مسقط رأس متزيني نفسه وقد جذبتنا روحه إلى وطنه ورأينا تمثاله، إن مثل هذه المصادفات في الحياة لها أثر بالغ في نفس الإنسان، ويظن الناس أنها مصادفات ولكنني أعتقد أنها خطط مرسومة وثابتة ولا بد من حدوثها وتنفيذها، حتى خطواتنا معدودة ومحسوبة.

فقلت: تعتقدين في القضاء والقدر؟

قالت: كما يعتقد عمر الخيام.

مكيدة

وحدث يومًا حادث يدل على غدر الطليان، فإننا كنا نستحم في حمام بحري تشرف عليه عجوز إيطالية حجمرش دردبيس، وكانت أوجستا تعطف على شيخوختها وتدفع أجرها مياومة وتزيدها عطاء وتتحدث إليها بالإيطالية. ففي أحد الأيام احتفت بنا المرأة فوق عادتها ودعتنا إلى شرب الشاي، وتلكأت في إعداد الشاي فعلّلنا ذلك بشيخوختها وفرحها بنا، ولشدّ ما كنا مخدوعين، فلم يكن تلكؤ هذه المرأة الغادرة التي ذكرتنا بعجائز الفنادق والحانات؛ إلا لأن مؤجريها ومسخريها لم يصلوا بعد. وإننا لنستعد لشرب الشاي ونشكر المرأة ونعدّ لها نفحة وإذا برجال من البوليس العلني والسري يدهمون المكان ويجلسون حولنا وأخذوا يتهامسون، وأخرج بعضهم ما يشبه التصاوير ويطيلون النظر إلينا، فكان في مسلكهم ما يلفت نظرنا، ولكننا لم نكف عن الحديث وكففنا عن الشاي الحرام الذي صنعته المرأة لنا مكيدة لا كرمًا وغدرًا لا وفاءً وطمعًا في كسب مدنس لا شكرًا، وقد تقدم إلينا رجل مهذب من الجماعة وحيّانا وقال بفرنسية فصيحة معذرة: يا سيدتي وسيدي لقد حدث سوء ظن وسوء فهم فقد وصفتكما لنا صاحبة الحمام بما يكاد ينطبق على رجل وامرأة من الروس تبحث عنهما الحكومة، ولكنها أخطأت خطأ جسيمًا ونحن نعتذر إليكما، نعمّا صباحًا ووداعًا يا سيدتي، فأجابت أوجستا وقالت: لم نلحظ شيئًا مما تذكر يا سيدي وإنْ كنا فهمنا الآن، ويسرنا أن يقوم كل مواطن بأداء واجبه نحو الأمن العام.

وتسلل رجال الشرطة في الفترة التي كان رئيسهم يخاطبنا، وقمنا في أثرهم ورأينا العجوز في طريقنا تكاد تذوب خجلًا مصطنعًا وقد شبكت أناملها علامة الأسى، كما يصنع الحزانى والثاكلين، ولا شك أن ضميرها لم يؤنبها ولكن الحزن برح بها؛ لأنها فقدت الجائزة المنتظرة التي فرت من يدها، فمرت أوجستا رافعة رأسها وألقت إليها ببضعة صلادي (نقود من نحاس) وقالت لها بالإيطالية: حساب الشاي. وخرجنا وكانت أوجستا منفعلة وقالت: كانت المرأة تود تسليمنا لو كنا نحن المقصودين أو لو أن رجال الشرطة أخطئوا في المقارنة بين وجهينا وبين التصاوير المحفوظة لديهم. فقلت لها: هذه إيطاليا وهذه جنوى بلد المافيا والكاربو ناري وموطن المؤامرات وأحزاب الفوضى واليد السوداء والوجوه الصفراء إلى آخر ما تعلمين فلا تغضبي. فقالت: لست غاضبة ولكن أشكر الله على أننا لم نذهب فريسة فتنة غادرة وغلطة جاسوس أو حماسة مخبر يريد الترقي على حساب الغرباء الأبرياء.

٢

إلى فلورنسا

وقصدنا إلى المدينة فسرنا في طرقها وتغدّينا في أحد مطاعم الجلاريا، وعقدنا العزم على الارتحال عن جنوى في عصر ذلك النهار. فلما عدنا إلى الفندق حزمنا أمتعتنا وربطنا حقائبنا ودفعنا حسابنا، وقصدنا إلى المحطة ولم يكن موعد القطار قد حل ولكننا وجدنا قطارًا فخمًا يقف بضع دقائق، فتبوأنا مقاعدنا وصففنا حاجتنا وانتوينا أن نأخذ تذاكرنا في القطار من بيلي حيث كنا إلى محطة جنوى، وفي جنوى نأخذ تذاكرنا إلى … وقد جلسنا في القطار مدة طويلة وقطعنا مسافة بعيدة ولم يمر بنا رقيب ولا مفتش، وكانت مقاعد القطار مريحة جدًّا وهي مسجفة بالمخمل ومزدانة بالحرير، وأرض المركبات مفروشة بالسجاد ولم نر قطارًا مثله في إيطاليا أو في فرنسا. فقالت لي أوجستا: إنه قطار خاص يصل إلى برلين مباشرة ولكن لا بد أن يقف في محطة جنوى، وأن هذا الزخرف وتلك العناية وتلك النظافة والزينة لا تكون إلا في القطر الألمانية السريعة. وبعد ساعة وصلنا إلى محطة جنوى ووقف القطار ولم نر أحدًا فترجلنا وحمل الحمالون متاعنا، وصحبت أوجستا إلى غرفة الانتظار وذهبت لأخذ التذاكر ولم تسألني عن الجهة التي نقصد إليها. وكنت قد صممت على اختيار البلد؛ لأفاجئها باختياري مفاجأة سارة.

وكان علينا أن ننتظر ساعة فاشتريت فاكهة وخبزًا ولحمًا باردًا وقنينة من الماء المعدني لها وجبنًا وشكولاته، وبعض الصحف الإيطالية والإنجليزية والفرنسية، ثم عدت إليها وقد قلقت لغيبتي فضحكت من مخاوفها ودعوتها إلى شرب القهوة بمقصف المحطة وقلت لها: إن الطعام باق إلى القطار.

وبعد نصف ساعة تقدمنا إلى أفريز القطار فوجدنا مركبة عليها كلمتان (جنوڤا — فيرنزه) فقالت: إلى أين نذهب؟ قلت: إلى المكان الذي تنقلنا إليه هذه المركبة فسرّت ودنت مني وقالت: إني أقبلك ولا حرج عليّ فإن التقبيل في المحطات مباح لكثرة ما فيها من فراق ولقاء، وتعلم هذا الدرس وأوصيك بانتهاز الفرص … وضحكنا وأخذنا مكاننا في مركبة من الدرجة الثانية، وسألنا أحد الموظفين عن موعد وصول القطار إلى فلورنس، فأجاب الساعة الرابعة عشرة يقصد الساعة الثانية بعد نصف الليل.

وقد وجدنا مقاعد المركبة مريحة جدًّا بحيث تستطيع أوجستا أن تضطجع إذا شاءت، وكنا ما زلنا بعد الغروب بقليل فبدأنا بالحديث وتناول الطعام إلى أن يحين وقت رقادها وأبقى ساهرًا على راحتها.

فقالت لي: إنها تشعر بتأنيب الضمير إذ كبدتني نفقاتها في الحل والترحال، ولم أكتف بما بذلته في سويسرا وفرنسا بل واصلت الرحلة إلى إيطاليا وأن مواردي محدودة، وأنني لم أعمل حسابها، فغضبت غضبًا صادقًا ولم أتغاضب وقلت لها: إنك تنغصين الساعات القليلة التي أعدّ نفسي فيها سعيدًا وتختلسين تحقيق أحلامي بهذه الدعوى، وإنني إنْ لم أعلم أن أمورنا مدبرة في السماء لم أكن لأتحرك من مكاني في قيظ شاربونيير أو جحيم ليون المحرقة، وخير لها ولي أن نكف عن هذا الحديث وأن تشاركني بهجتي في سفري إلى تلك المدينة الخالدة المشهورة بربيعها وجمالها. فقالت لي: أعدك بسداد ديونك علي. فقلت لها: بل أنا المدين لك بصحبتك وثقافتك وحسن تصريفك الأمور وفراق ابنك وهو محتاج إلى عنايتك. فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت: لو لم أكن معك لمتّ كمدًا من الوحدة ومن عائلة جاي التي تستغل عواطف الأمومة في قلبي، فقلت لها: من الخير أن نكف معًا عن الحديث في هذا حتى الصباح. فانتقلنا إلى كلام آخر وعرضنا صورة جيراننا في فندق بيلي، وكانوا أسرة من الأمريكان أغنياء الصناعة الذين يقضون أعمارهم في السياحة، وذكرتني بكبيرة السيدات فيهم وهي أشبه المخلوقات بالفرس، وجه فرس وفمها ورقبتها وصوتها، وكانت ضحكتها تشبه الصهيل وتعبّ النبيذ الإيطالي عبًّا، وتتكلم بلغة البلاد بلهجة أمريكية مضحكة، وتحدثنا عن أصحاب الفندق وكيف حسبوا علينا الحمام بالماء البارد (دوش) بفرنك وغسيل القميص بفرنكين وكي الجوارب بفرنك وأجرة الفوطة على المائدة بنصف فرنك والصابونة بفرنكين وصحن اللحم بخمسة فرنكات ولم تجد معهم مناقشة ولا مساومة.

فقالت: إن الأمريكان والإنجليز المنكودين أفسدوا طباعهم وأطمعوهم في خلق الله، فإنهم لا يبالون بالمال ولم يتعبوا في جمعه ولا ينفقونه في بلادهم ولا يسيحون للعلم والمعرفة، وإنما ليقولوا: إنهم زاروا أوروبا ولا سيما إيطاليا وأنهم يحبون الإباحية التي يعرفون أوكارها في نابولي ورومه. وقد دمغهم مارك توين بكتابه «الأبرار الأبرياء يسيحون خارج بلادهم» “Innocents abroad”، وقرأنا بعض الصحف ورجوتها أن تنقل لي بعض ما تكتبه الصحف الإيطالية، وكنت اشتريت مصادفة جريدة باسم «مارزوكو»، وظهر أنها أسبوعية أدبية تظهر في فلورنس، فراقتها جدًّا لأنها تكتب في الأدب والفنون والنقد، فنقلت لي بعض بحوثها، فألفيتها أشبه شيء بجريدة مصباح الشرق وعليها حلاوة في الأسلوب والديباجة وجمال في الطبع والحجم وحسن الطبع، فوعدتها أن تداوم قراءتها في مصدرها وهو فيرنزه.

وكان الظلام أسدل ستوره فلم نر شيئًا من جمال الطريق، وخفنا أننا إذا وصلنا إلى محطة كبيرة مثل ميلانو وتورينو يزحمنا المسافرون، فنفت هذا الوهم وقالت: إنها سوف تتمدد وأغطيها بغطاء من الصوف وأن ألزم أنا ركنًا وأتناوم كلما أقبلنا على محطة كبرى، فإن هذا القطار لا يقف إلا فيها وأهل البلاد يخجلون أن يقلقوا سيدة نائمة أو رجلًا متعبًا في ركن، وقد أخذ الكرى بمعاقد أجفانه، وعندنا قائمة ببيان المحطات ومواعيد الوصول إليها.

والعجيب في هذه البلاد أن كوميساري يكاد لا يريك وجهه؛ لأن أحدًا منهم لا يتهم مسافرًا بالانفلات واستغلال الحكومة بالباطل، ولا يقبل على كرامته أن يركب قطارًا بغير أجر كما هي الحال في بعض بلاد الشرق.

ثم مددنا السماط وألفينا مائدة متحركة لاصقة بالنافذة، فأكلنا وشربنا وتذوقنا الفاكهة والجبن وغسلنا أيادينا في مكان بالغ النظافة.

ثم عدنا ولم يكن أحدنا يدخن للأسف أو لحسن الحظ، ولكنني شعرت بميل شديد إلى لفيفة من طباق على غير عادتي، وقلت لها بين الدهشة والحياء، فضحكت وقالت لي: هذا جو إيطاليا وخاطر شيطاني فاطرده. فضحكنا وقالت: العجب أنك من مصر ولا تدخن سيجارة مصرية ولها شهرة عالمية، فقلت: بل الدخان التركي والدخان الروسي أشهر، نحن اشتهرنا بصنع السيجارة ولفّها ولصق ورقها ولكنكم معشر الروس اشتهرتم بزرع الطباق وتجويده، فقالت: حقك أن تدهش من روسية لا تدخن، فإن كل أصدقائي وصديقاتي في موسكو وبطرسبرج وأوديسا يدخنون، حتى أخواتي السيدات يكثرن منه، أما أزواجهن فحدثْ ولا تحرج، قلت لها: ولكنني لا أحب السيجارة الصغيرة البيضاء، فإنها لا تكفي كيفي وأتحدث عن سيجار هاڤانا، وقد سبق لي أن دخنته في هولاندا لرخصه وجودته وهو رخيص؛ لأنه يرد من جاوا ودخلت إنجلترا بصندوق ملآن سيجارًا، فسألني عامل الجمرك إن كان لاستعمالي الخاص أو للتجارة، فابتسمت وابتسم ووضع على حقيبتي علامة المرور؛ لأنني صارحته قبل أن يفتحها بما تحوي. ووجدت السيجار الواحد في لندن بثمن الصندوق كله.

وتكلمنا عن راسين وپيدو فتغير وجهها فقلت لها: لقد تعمدت أن أكلمك عنهم وأنني أشكرهم؛ لأنهم جمعوا بيننا، وأعذرهم؛ لأن ابنتهم كانت شديدة الغيرة منك وقد أشرت عليّ أن لا أظهر الحفاوة بك، وأن أتوجه إليها بمعظم الحديث لأصرف غيظها عنك، وهذا دليل على شعورك بحرج موقفنا معهم، قالت: كل هذا مقبول ومفهوم ولكن العجوز كانت قاسية، وطالما وخزتني بأقسى من وخز المسامير في قلبي. لقد قالت لي يومًا: ألا تخافين الله يا سيدتي لقد أرغمت هذا الشاب الصغير الوسيم على أن يلتحي وهو في نضارة الصبي ليبدو أكبر سنًّا مما هو خشية أن تتهمي بعشق شاب يصغرك سنًّا ولو ببضع سنين، إنه عندما عاودته العافية وامتلأ وجهه صار وسيمًا وعاوده الصبا والحسن، فكان يخلق بك أن تشيري عليه أن يحلق ذقنه إن كان ملتحيًا لا أن تحثِّيه على تنمية الشعر الخشن في وجهه الناعم، لقد همت ابنتي جان أن تنهاه عن ذلك، ولكنها خجلت وتعهدت أنا بمفاتحتك في هذا الأمر لتشيري عليه بالعدول، لقد ذهب زمن اللحى والشوارب وصار الكهول يظهرون بمظهر الشباب، وأنت تجعلين من صديقك كهلًا خشن الوجه، وهو يكاد يكون أمرد لا نبات بعارضيه ألا تخافين الله؟

قلت لها: متى كان ذلك؟

قالت: قبل رحيلنا بأسبوعين.

قلت: وماذا قلت لها ولم لم تخبريني؟

أجابت كنت أجاملها وأصانعها وأكتم أنفاسها بصبري، وتصنع الحلم أحيانًا والتغابي أحيانًا، فلما بلغ السيل الزبى وطم الوادي على القرى انفجرت ولم أبال، كنت أحب أن تطول إقامتنا هناك؛ لأنه أصلح لي ولك ولكن بعد أن هاجمتني المرأة القاسية البذيئة في عرضي شعرت بأن إقامتي عندهم لا تليق بي ونسيت نفسي.

فقلت لها: في أمثالنا كم في الحبس من مظلوم! اعلمي أنني التحيت منذ عامين منذ وطئت أقدامي ليون؛ لأنني رأيت شبانًا أصغر مني سنًّا في الكلية يلتحون ولهم لحى جميلة مستديرة ذهبية اللون أو سوداء فراقني منظرها، وعندي تصاوير كثيرة، فلو ذكرت لي بعض قولها لأبرزت لها صوري المؤرخة سنة ١٩٠٨ لأفحمها وأقطع لسانها؛ ولتعلم أن لا يد لك في هذا، وأنني لم أحلق لحيتي إلا في مصر، فإن أهلي أبسط عقلًا من هؤلاء الناس ولم يتعودوا في مصر أن يروا شابًّا ملتحيًا ويكرهون أن يروا شيخًا يتصابى أو صبيًّا يتمشيخ. أما اللحية المدببة والعارضان المزينان بالشعر القسطني والأسود، فأليق بتكوين وجهي وأجمل، وصحيح أن الطراز الجديد هو نعومة الرجال، وتقليد اليونان والرومان والإنجليز هم الذين أشاعوا هذا النوع من الخنوثة أما أهل فرنسا فلا.

قالت: سامحني إذا ذكرت لك هذه المسألة وأرجوك إن كانت حلاقة ذقنك تروقك، فلا تؤجلها فأنا أحب أن يراك الناس وسيمًا كما قالت ولا أحب أن توحي إلى نفسك أنك أكبر سنًّا مما أنت، وهذا الذي قالته عني محض افتراء، فإن أوراقي وجواز سفري بين يديك وفيه تاريخ ميلادي واسم بلدي وأهلي ولست مغامرة مجهولة حتى أتلمس إظهارك بسن أكبر من سنك اتقاء ملامة الناس. ثم بكت وأجهشت بالبكاء.

فذعرت وقلت لها: ألا قاتل الله بيدو وراسين والعانس الدميمة ورائحتهم وسيرتهم. نحن الآن في طريقنا إلى فيرنزه وقد فزنا ونجحنا ونجونا من القوم الظالمين في سويسرا وفرنسا وجنوى.

قالت: لم أر في فرنسا ظالمين بل ألفيتهم جميعًا على أكبر نصيب من الكرم والظرف وحسن العشرة، ولا أنسى أبدًا مدام بوديه وزوجها الجحش وموسيو بيلهوم، وقبل هؤلاء جميعًا موسيو لامبير وزوجته وأخت زوجته فقد قابلونا معًا، وتحدثوا معي وتلطفوا بنا وشعرت أنهم يحبونك من صميم قلوبهم.

وأشرف القطار على تورينو وتمددت وغطيتها، وقبعت في ركني وغطيت وجهي بمنديل ولم نشعر بأحد ولا بمن يفتح الباب ليطل علينا.

وكذلك في تورينو، ودخلنا أرض توسكانيا السعيدة، ودنت ساعة النزول وكانت أوجستا قد نامت فعلًا فلم أشأ أن أيقظها إلا في اللحظة الأخيرة؛ لأن القطار يقف بالمحطة أكثر من عشرين دقيقة.

٣

فلورنسا

عند وقوف القطار نزلنا وتقدم حمالون لنقل متاعنا، واخترنا فندقًا له مركبة تنتظر الواصلين في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وقفز إلى جوارنا رجلان فظيعا الشكل مريبان فلم نلتفت إليهما وإنْ يكن رابني من أمرهما أنهما لا يحملان متاعًا وقد أخذا يسترقان النظر إلينا، ولكن أوجستا كلمتني بغير انقطاع عن جنوى وليون وشاطئ البحر، وذكرت أسماء مصورين وشعراء، فدهشت لعدم المناسبة بين هذا الموضوع وبين تعب آخر الليل.

وبعد ربع ساعة وصلنا إلى الفندق وقيدنا اسمنا واخترنا غرفة واحدة. فما كان من الرجلين المصاحبين لنا إلا أن انحنيا على دفتر قيد المسافرين في الفندق، وأخذا اسمينا جهارًا وحييا كاتب الفندق وانصرفا، فنظر إلينا الرجل باسمًا وقال: لا يزعجكما مسلكهما فهذا واجبهما عند وصول قطار الليل، ونظام الشرطة يحتم أن نبعث إليهم ببيان في الصباح ولكنهم لا ينتظرون، فابتسمت أوجستا ولم تجب، ولزمتُ الصمت مقتديًا بها.

ولما خلونا في غرفتنا قالت: ألم تفطن إلى أنهما من رجال الشرطة السرية.

قلت: كلا!

قالت: ولأجل هذا أخذت أثرثر وأذكر أسماء المدن والأدباء والمصورين لأصرف عنا ذهنهما.

قلت: وماذا علينا أنحن ثائرون فارون من وجه العدالة، وأنا حديث العهد بشهادة الليسانس وهل أنت من ربات السوابق؟ إن هذا التمثيل منك يثير الشبهات ولو كنت شرطيًّا لارتبت في مسلكك.

قالت: غاظني أن نبدأ اليوم بفتنة العجوز ونختمه بمصاحبة الخفية في مركبة الفندق ولم أتعود شيئًا من هذا أبدًا، قلت: لأنك لم تسافري في قطار الليل الذي يصل بعد نصف الليل بساعتين؛ ولأنك في صحبة رجل والأزواج دائمًا موضع الظنون أكثر من امرأة وحيدة أو رجل بمفرده.

ونمنا نومة هنيئة وتعمدنا أن نتأخر في الفراش إلى ما بعد الضحى، وأن نستحم بماء ساخن وأن نفطر في غرفتنا وأن نبقى بها إلى موعد الغداء، وقد أشرتُ عليها بالغداء حيث نحن وأن لا نخرج إلى المدينة استكمالًا لراحتنا وأن لا نغادر الفندق إلا في اليوم التالي بعد أن نكون رسمنا خطة منظمة لعيشتنا في المدينة، وأن هذا أصلح لنا وأسلم عاقبة، وبعد فليس وراءنا واجب نؤديه غدًا وليس لنا معلم يحاسبنا فما يضرنا لو أخذنا يومًا هدنة بعد كل هذه الأسفار والمتاعب، ولا سيما وأن للغرفة شرفة مطلة على شارع نهر الأرنو وشباك يطل على حديقة غناء، فوافقتني وطلبت إليها أن لا تفض أربطة المتاع، ولا أن لا تفتح إلا حقيبة واحدة وهي التي تحتوي مناماتنا ومباذلنا وبعض أدوات التطرية والترفيه والثياب التحتانية، وأن نبقى يومًا وليلة كاملين بثياب التفضل لنستمتع بالراحة، فتمنعت أولًا استعجالًا برؤية المدينة العجيبة، ثم نزلتْ على رأيي كعادتها، وكان يومًا من أهنأ الأيام امتنعنا فيه عن الكلام وتقليب الماضي، وصمنا فيه عن القراءة واكتفينا بالنظر إلى النهر والحديقة والتهام الإفطار والغداء والعشاء وشهود الغروب، وفي أثناء الضحى قالت لي: تسمح لي بكلمة؟ قلت: نعم.

قالت: هذا الجسر الذي تراه من بعيد التقى عليه دانتي وبياتريس.

فتذكرت أنها أرسلت إليّ مرة بطاقة مصورة (كارت بوستال) فيها صورة دانتي وملهمته التي صعد مع روحها إلى السماء لينظم جنته وجحيمه.

قلت: زيدي ويا حبذا لو كان الكلام كله من هذا القبيل مؤيدًا بالمستندات فإن حجتك ثابتة بالبطاقة.

ثم سمعنا ألحانًا جميلة تتصاعد إلينا من الحديقة.

جولة في مدينة فلورنسا، ساحة القصر العتيق

في صباح اليوم التالي ٣٠ يوليو سنة ١٩١٠ خرجنا من الفندق، واتجهنا إلى ساحة القصر العتيق بلازو فيكيو وكان الوقت مبكرًا والنسيم عليلًا على أننا كنا في آخر شهر يوليو، وكان الجو مشبعًا برائحة وروح رائحة الأزهار والربيع وروح الجمال والتاريخ والجلال والذكريات.

شعرت للمرة الأولى بأنني في بلد عجيب خالد ساهر، ونظرت في الوجوه، وجوه الرجال والنساء والأطفال، فإذا طابع خاص من طوابع الجمال والفتنة والنبل، شعب رافع رأسه يحلم بالماضي ويستمتع بالحاضر ويثق بالمستقبل وخاصة النساء وهن العذارى والغواني بنات توسكانيا، وكلهن ذوات خفر وحور وسمرة جذابة وشعر أسود فاحم وأعين ساحرة وأهداب طويلة، وأفمام دقيقة كثمر الكريز وقدود فارعة وخصور نحيلة وسيقان جميلة وأقدام مستوية، وأيد ناطقة ذات أنامل كالعناب وحواس مرهفة ورءوس كرءوس الطير في لفتاتها وأعناق كأعناق الظباء، رأيت هؤلاء رائحات غاديات يسرن غير عجلات، بل مستأنيات كأنهن يتمتعن بكل لحظة من الزمن وبكل نظرة تلقى عليهن أو يلقينها على الناس والأشياء في ثياب فضفاضة ثمينة تزينها محاسنهن ذوات أطراف موشاة، وأذيال تجر وراءهن ولا يعلق بها تراب؛ لأن شوارع فيرنزه لا تراب فيها وبعضها من المرمر، وهي محفوفة بالحدائق والبساتين والتلال العالية المكسوة بالخضرة الدائمة.

وهؤلاء النساء والفتيات سبحان الخلاق العظيم هن حفيدات ربّات الجمال والحجال اللواتي أخلدهن المثالون والمصورون في لوحات تزداد حسنًا كلما تقادمت العهود عليها.

أية خسارة أصابتني بما قضيته في السياحة والأسفار قبل أن أرى تلك المدينة، كنت طائشًا جهولًا ما دام في الدنيا بلد كهذا، ولا أراه ولا أزوره ولا أقيم فيه ولا أختلط بأهله ولا أمتع النفس بخياله وجلاله. لم تكن الوجوه وحدها والأبدان، ولكن المباني المشيدة ومنعطفات الطرق والجماد والوجوه توحي وتلهم والجماد ينطق والضوء، وللضوء هنا تأثير عجيب وهنا العقل والروح والعاطفة، إن المشاعر تتنبه وتتجه إلى السمو وإلى المعالي وإلى المعاني الرفيعة، لا بد أن يكون في جو هذا البلد وفي هوائه وأرضه وسمائه ما لا يوجد في بلد آخر، إن مدينة ميونيخ تشبهها من بعيد، فلورنس كالصوت الجميل وميونيخ صدى الصوت يأتي من بعيد، إن الله أعد بقاعًا من الأرض وشرفها وجمّلها وزينها وأحسن خلقها، وجعلها فتنة خير وأبدعها وجعلها كنوزًا وجنات لخلقه. وهذه المدينة في مقدمتها ولعلها تبعث يوم القيام على صورتها وحالتها وهيأتها.

ليت لي حظ كتابة كتاب كامل عن فيرنزه تاريخها ومعالمها وجمالها وأبطالها وفنونها وماضيها وحاضرها، إذن لكتبته بحب وشغف وسعادة لا تحد. كل خطوة في هذه الأرض مباركة ومحفوفة بالهناء، وكل نظرة ترتد هانئة وهي تستزيد وكل نفس يتردّد في جوها ينعش النفس، وكل كلمة ينطق بها اللسان تثبت في الذاكرة وكأنها تؤدي معنى جديدًا، ليست المعاني السابقة في جعبته شيء يذكر. ما رومه وما باريس وما لندن وما برلين وفيينا؟ فيرنزه وميونيخ والقاهرة تلك مدن الجمال والجلال والسحر الحلالّ.

وفي الحال وبعد النظرة الأولى عددت نفسي فلورنسيًّا روحًا وفكرًا ومزاجًا، ووددت أن أعيش فيها وأن أسكنها وأن أعشقها وأعشق أهلها ولا أموت فيها أبدًا؛ لأن من يعيش فيها لا يموت أبدًا. أرأيت هذا هو الشعور الأول الذي صادف قلبي، ولا يزعمن أحد أنني كنت مفتونًا أو مسحورًا بصاحبتي، فقد كانت هي الأخرى مفتونة بما ترى ولم أسألها قط أن سبقت لها نعمة هذه الزيارة، لاعتقادي أنها نعمة تتجدد في كل مرة بل في كل يوم.

الكنيسة الكبرى (الدومو)

وقد حدث لي أنني رأيت الكنيسة الكبرى التي تسمى الدومو أي: القبة وأقسم غير حانث أنني استبنت فيها عنصرًا من عناصر الطبيعة مع أنها بناء من صنع الإنسان، بناء ضخم من المرمر الملون ولكني اعتقدتها بستانًا أو بحيرة جميلة أو صورة فخمة من صنع الخيال وشعرت بالحاجة الملحة لرؤيتها في كل يوم. ولم يكن لأية عاطفة دخل غير عاطفة الجمال، فإن داخل هذا المعبد المسيحي مقبض ومظلم ترى الناس فيه كالأشباح ولا تشعر بأي جاذبية للروح، وأنا لا أعتدي على العقيدة المسيحية التي كانت سببا في تشييدها في القرون الوسطى، ولكن أؤكد وأقسم وأثبت أن مهندسيها وواضعي خططها أو راسمي تصميمها وبانيها ومشيديها كانوا وثنيين من عباد فينوس ومنرڤا، وكل أرباب الجمال العتيق العريق كانوا پايين لايدينون بالمسيحية وكانوا يستلهمون الجمال وحده في وضع الأساس ورفع الجدران، ونصب الأعمدة وتنسيق الزوايا والأركان، ولا أدري عدد أساتذة الفن الذين اشتركوا في صنعها، ولكن أعلم أن جيوتو الجبار صنع بابها من مصراعين من خشب الساج وزين كل مصراع على حدة الأول جعله للجنة والثاني للنار، باب كنيسة يمثل النعيم والجحيم في صور بارزة من البرنز والنحاس، وقد جعله الفنان العظيم فتنة للعابدين وسوف أعود إليها. وأنا أتكلم عن الصباح الأول وأستطرد، وكم من استطراد يقودني القلب والعقل إليه وتدفعني الذكريات إليه دفعًا.

جلسنا في مقهى في ساحة القصر العتيق ومن العجب العاجب أن هذا المقهى يشبه بعض مقاهي القاهرة التي تصفّ مقاعدها في الطريق، وبينها مناضد نحاسية صغيرة وكل شيء مصنوع يسيطر عليه الفن والجمال، وطلبنا فنجانين من القهوة وتنسمنا هواء الصباح واحتسينا قهوة الصباح، وشربنا مع كل حسوة معنى من الجمال والرقة والرفعة وفعلت بنا القهوة فعل الخمر المعتقة، وكانت أوجستا غارقة في بحر التفكير لماذا؟ هل ندمت لأنها أوحت إليّ بزيارة هذا البلد فخشيت عليّ الفتنة، أم أنها أدركتها الغيرة من انشغالي بمحاسن البلد عن محاسنها، أم كانت سعيدة طروبًا تشاركني فرحتي وتحمد الله على أنها كانت في إيحائها موفقة، أنا الذي اخترت البلد وأنا الذي اتخذت تذاكر السفر إليها من جنوى، وأنا الذي فاجأتها مفاجأة سارة، لعلها هاجت شجونها من تذكر أحباب بذي سلم فأوشكت أن تمزج دمعًا جرى من مقلة بدم، «وذو سلم» هذه قد تكون جنيف أو بطرسبرج أو موسكو.

سقيفة لوچيا

وقالت لي: انظر هل رأيت وراءك؟ وكنت إذ ذاك مأخوذًا بواجهة القصر العتيق وساعته الكبرى التي تشبه وجه الزمان وتزري بألف ساعة لوستمنستر.

فنظرت ورائي وإذا بي أرى سقيفة ذات شرفة مرتفعة عن مستوى الطريق بضع خطوات، وقد صفت فيها تماثيل من البرنز في مجموعة منسقة على ضخامتها وفخامتها تشبه الدراري المنتظمة في سلك، والسلك صار عقدًا والعقد في جيد والجيد لحسناء فاتنة والحسناء الفاتنة هي المدينة، تلك السقيفة اسمها «لوچيا» وهي في أفخر وأعرق ساحة.

أرجو أن من يقرأ هذه الصحف أن يعفو عني ويعذرني إذا لم أعد إلى ذكر المحاسن والمفاخر والمباهج والمشاعر التي هاجتها في نفسي تلك الإقامة السعيدة في هذا البلد. فإنني إذن لا أنتهي ولا أفرغ ولا أشبع ولا أكلّ ولا أملّ، بل إن القول يتجدد ولا يتكرر والعواطف تنهال والمعاني تنثال، والمجال يتسع والطرق تتشعب والذكريات تتداعى والأعلام تترى، ويصبح الحديث مزيجًا من الجمال والتاريخ والأدب والسياسة والفن والشعر والدين والحق والباطل والإيمان والتقوى والفساد والموت والظلم والعدل والجور والقسوة والفسوق والإلحاد، ولست أنا بسبب هذه أو بعضها فقد وضعت قديمًا كتابًا عن نهضة الإحياء، «إحياء العلوم والآداب والفنون» ودرست هذه الفترة من الزمن دراسة وافية ونقلت كتاب «الأمير» لمكيافيلي أحد أعلام هذا البلد، وقرأت تاريخ إيطاليا لجويتشارديني أحد مؤرخي هذا البلد وأحببت ليونارد داڤنشي وميكل أنجلو وبوتشيلي بعض سادة الفن في هذا البلد، وترجمت لجيورولومو ساڤورنا رولا أحد أتقياء هذا البلد وشهداء هذا البلد، وقرأت نعيم دانتي وجحيمه وكوميديته الربانية التي نظمها مستوحيًا حبه لبياتريس إحدى فاتنات هذا البلد، وكذلك قصص بوكاتشيو أكبر قصاصي هذا البلد وواصفي حياته في جده ولهوه، وفي صحته ومرضه وفي شقوته وسعده. وإنني لأحب هذا البلد وأعيش وفي قلبي ركن لهذا البلد وفي نفسي حنين لهذا البلد كأنه حنين لوطن الجمال، وإن كنت أحببت تلك المرأة الذكية فقد أحببتها حقًّا في هذا البلد وأدركت أن كل ما سبق وما لحق من عشرتنا وأفكارنا وقربنا وبعدنا كان مقدمة لحياتنا في هذا البلد، ونتيجة لفراقنا بعد أن فصلنا عن هذا البلد.

قمنا من المقهى كالمشدوهين المأخوذين نود لو أن سبقنا إليه من أعد لنا مسكنًا وبوأ لنا منزلًا وجهز لنا طعامًا وفراشًا ومكتبًا ومركبة لنروح ونغدو. ولكن أوجستا نابغة في التدبير؛ ولذا بادرت بشراء «دليل الغريب النازح إلى ما في فيرنزه من المساكن والمطارح» والتعريب من عندي، وأخذنا نطوف بالبيوت، وقد وقعنا في غلطة كالتي وقنا فيها مع الكونت فياسكو أو بونچورنو في ضواحي راپالو. ولكن وقعتنا هذه المرة كانت مع شريف ظريف نسيج وحده يلبس لبوس القرن السابع عشر، ويعيش بمفرده ويؤلف كتابًا في تاريخ العالم ليس له أول يعرف ولا آخر يوصف، فتلطف بنا وهو جد متأنق وأرشدنا إلى بعض الشوارع التي يغشاها السائحون في الربيع من الإنجليز والأمريكان، وهي الآن لا شك خالية؛ لأن ساكنيها نزحوا بعد طول الإقامة، فاتجهنا إلى ساحة كبرى تتفرع من شارع المحكمة العليا والمكتبة العامة، ولعلها ساحة ميكل أنجلو ومنها إلى شارع ليونارد داڤنشي، وإنك لا تجد في فيرنزه إلا ساحة أو شارعًا أو زقاقًا أو طرقة أو عطفة تحمل اسمًا تاريخيًّا له رنين وله حنين له وقع في النفس.

وفي هذا الشارع الجميل اهتدينا إلى بيت سنيورا ماريا ساباتيني الداية، وهي تؤجر مسكنها وفيه غرفتان وحمام ومطبخ وشرفتان على الشارع والحديقة، ونرى من نوافذه الشمس والقمر ونطل على الخضرة والماء، وكل أثاثه جميل وجديد وهذه النعمة لقاء خمسين فرنكًا في الشهر، وأنها تسلمنا المسكن تو الساعة، فعقدنا ودفعنا وأسرعنا إلى الفندق فنقلنا أمتعتنا على مركبة يجرها جواد وأعطينا السائق عنوان البيت، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر كنا جالسين على مائدة الطعام نتغدى بالأكل الشهي الذي أعدته صاحبة البيت إكرامًا لضيافتنا، ثم ودعتنا وانصرفت بعد أن دلت علينا البدال والبقال والعطار والقصاب واللبان والبواب، وكل من تستقيم الحياة في البيوت بمعونته أو خدمته والفضل في هذا اليسر «لدليل الغريب النازح إلى ما في فيرنزه من المساكن والمطارح».

وذقت نعيم الاستجمام بعد الاستحمام، وفي الساعة السابعة فاجأتني أوجستا بعشاء من صنع يديها، وكانت هذه المرة الأولى التي بذلتْ يديها المخلوقتين للأقلام والقراطيس والمحابر ولمفاتيح البيانو وتنسيق الكتب والتحف، سخرتهما للطهي وتقليب الطعام قلعًا وقرعًا في الأوعية والأواني، وغرفها في الصحون والأطباق بالمغارف الغلاظ، وغسل الملاعق والشوكات وتصفيف الأدوات على منضدة الطعام، واستعجال بائع الثلج والفاكهي وغير ذلك من معدات العشاء. فهانت الدنيا في نظري وعزّ عليّ أن تنزل أوجستا بجلال قدرها وجمالها وأناقتها إلى مستوى الطاهية، فاحتججت عليها ورجوتها أن تستأجر «مرماتونا» وهذه كلمة إيطالية عريقة، وقد آن أوانها، فأقسمتْ ووكدت غير حانثة أنها لم تتذوق لذة كالتي ذاقتها وهي تعد هذا الطعام لنا، ولو أنها كانت بمفردها لفعلت هذا لنفسها ولم تشرك أحدًا في صنع طعامها، نعم لم يسبق لها «أن وقفت أمام النار» ولم تغسل «المواعين» ولم تقلب طعامًا مطبوخًا ولم تغرفه لأحد، ولكن من يدري لعل هذا الفن مكمل لثقافة المرأة وكان ينقصها، فأراد الله بها خيرًا. وهكذا كان عقل هذه السيدة يتكشف عن جواب لكل معضلة، وعن حل لكل مسألة وصدق من قال: إن الحب، لا الحاجة، يفتح الذهن ويفتق الحيلة.

وحدث في هذه الليلة أننا جلسنا لنقرأ وأخرجت كتابين الأول لهيبوليت تين والثاني لجون رسكين، وكلاهما في وصف آثار فيرنزه وشرح لفنونها وتراجم مقتضبة للفنانين والكتاب والمفكرين، وهما من كتب السياحة الراقية وليس لهما مثيل في اللغات الأخرى. لقد ودعنا رينان بتوديع جنوى وافتتحنا عهدًا جديدًا.

ورسمت أوجستا خطة فوضعت بيانًا للمصورين والمثالين وحصرت المتاحف وما احتوى كل منها من صور وتماثيل. وعرفت على الخريطة من دليل فلورنس للسائحين أماكن المكاتب والكنائس الشهيرة وبيوت أبطال التاريخ لنزورها، وأخذنا نقرأ كتاب تين وما تزال تلك الكتب عندي. وقرأنا لنصف الليل؛ لأننا امتلأنا حياة وبهجة وحبًّا للاطلاع، وكان الجو حارًّا فأشارت عليّ بالاستحمام قبل النوم، فإنه أجلب للنعاس وأدعى للراحة، فلما خلوت بنفسي قالت من وراء الباب: «أدعك ظهرك باللوفة (كذا)» وقد عرفت هذه الأداة النباتية العجيبة مني، فإنها أدعى لتنبيه الدورة الدموية بعد طول المطالعة وأضافت بصوت متهدج «لو أنني لم أتعود أن أخدم أحدًا في الحمام ولا ولدي نفسه، لدخلت عليك لأدعك ظهرك»، ففهمت أن عاطفتها قد بلغت الذروة، ولم أجد ما أجيب به على قولها. وخرجت ملتفًّا ببرنس ولبست ثيابي وقصدت إلى فراشي في الغرفة المطلة على الحديقة.

هذه الليلة من الليالي التي لا تنسى، وكنت طالما ذكرت لأوجستا ليلة وصولي إلى بيت راسين، وما لقيته من المسرة ولذة النعيم عقب السفر والمطر والجليد وجعلت لهم عليّ يدًا بما أذاقوني من الراحة بعد التعب، ولعلها تذكرت تلك اليد عندي، فأرادت أن تجعل لنفسها أخرى لا تقل عن يدهم، ولكن هذه اليد الجديدة تمتاز بأنها صادرة عن الحب والإخلاص وامتزاج العقلية والروحين، وأن الأخرى كانت صادرة عن المصلحة الباحتة، ولكنها لا تنسى ولا ينسي الجميل إلا الجاحدون ومن يشكر الله أو الناس فإنما يشكر لنفسه.

إن حياة الفن تقتضي حياة فنية والحياة الفنية هي البوهيمية، ولكننا لسنا فنانين ولا ناقدين فنيين وإنما هي أديبة ووالدة في إجازة وأنا طالب حقوق في إجازة، ولكنني شديد الشغف بالفنون الجميلة ولكنه شغف نظري، ونكبتي أنني لا أهدأ في مكان ولا أضيع وقتًا ولا أعترف بأن لبدني عليّ حقًّا وأنني حيث حططت رحالي أدعو ربي زدني علمًا، وأبدأ أسأل نفسي وأسأل الناس ماذا يمكن الإنسان أن يعرف ها هنا، وأي كتاب يقرأ وأي مكان نزور، فأخلق لنفسي متاعب حيث يجب أن أستريح وأرجو من العدم تبعات أتحملها وأتوهم أنها مقدسة وواجبات لم تخطر على بال أحد، وأتخيل أنها أصبحت محتمة الأداء، هذه كارثة بل كوارث!

ستيفن باركر

وكنت فيما مضى لقيت مصورًا أمريكيًّا في مصر اسمه «ستيفن باركر»، وتوثقت بيننا عرى المودة؛ لأننا غادرنا مصر في باخرة واحدة «برنس لدويج»، وصادف أن كان رفيقنا في الرحلة «بير بوهم ترى» الممثل الإنجليزي.

ولما افترقنا في مرسيليا قال پاركر: إن عنوانه الدائم فرنس ليمونز بقصر ستروزي بفلورانس، وأهدى إليّ بعد ذلك ديوان شعر من نظم صديقه قضى نحبه في مقتبل العمر في فيرنزه، واسم الديوان «قصائد منظومة بفلورنس». شاعر ومصور ورحلة بحرية مع ممثل شهير، أيقتضي هذا أن أبحث عن مقر الشاعر قبل موته ومعاني شعره ومقر باركر في يومنا هذا؛ لأنني في فيرنزه، ولم أعرف الشاعر قبل موته والصديق المصور رحل إلى أمريكا، ولكنه داء دفين لا علاج له يجب أن أفي للذكرى، ويجب عليّ أن أقصد إلى مكتب فرنس ليمونز وأسأل عن باركر وعن صاحبه المتوفى، لا بد أن أرى الأماكن والأشخاص والأشخاص الذين رأوا الأشخاص وإلا فلا راحة لي ولا هدوء بال، وأسأل نفسي وأنا أتجشم المشقات إذا لم ترد العناية أن أبحث وأفحص، وألتقي وأتعلم وأتلقى فلم وضعت في طريقي هؤلاء الأشخاص.

ولذا ذهبت إلى پالاتزو ستروزي وولجت بابها، وسألت عن ستيفن باركر فأجابني أنه في أمريكا الآن وأن أي مكتوب أسلمه إليهم يتعهدون بتوصيله إليه، وكانت أوجستا تقول لي: وماذا يجدي يا حبيبي هذا التنقيب والتفتيش فأقول لها: الوفاء. ها أنا في فيرنزه وربما كنت لا أظن أنني واردها فلا مانع من أن أتفقد صاحبي وأسأل عنه، ولعله هو الآخر ما كان يظن أن أصل إليها لانشغالي بطلب العلم في فرنسا، ولعل خطابي يبلغه فيذكرني ويذكر وطني ويذكر صاحبه الذي قضى نحبه في مكان بعيد عن بلاده، فتضحك ثم تصمت وتفكر وتقول: هذا معنى عجيب من معاني الحياة.

٤

كنز فنون ومعرض جمال

كانت الرابطة الأولى بيني وبين فيرنزه أنها كنز فنون ومعرض جمال ومدينة نادرة مثل أثينا في العصور القديمة بل هي أثينا القرون الوسطى. نعم لم يظهر فيها فلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسططاليس ولا شعراء كهومير وسوفوكليس وأورپيد وإيشيل، وسبب ذلك أن الدين المسيحي عقيم، بمعنى أنه لا يولد الأفكار؛ لأنه يسد أبواب الفكر المطلق، ولكن ظهر فيها فلاسفة وشعراء وساسة وفنانون. ألم يكن نيكولا ماكيا فيلي فيلسوفًا في الاجتماع والسياسة والتاريخ، وقد تطورت الأزمان. ودانتي اليجري كان شاعرًا ولكنه شاعر حكيم قد ألم بالدنيا والآخرة والجنة والنار، وساڤونا رولا ألم تكن له فلسفة في الأخلاق والإصلاح لقي في سبيلها حتفه، وليونارد داڤنشي لم يكن مصورًا ومثالًا فحسب، بل كان أيضًا فيلسوفًا ومؤلفًا ومخترعًا ومكتشفًا وعابدًا من عباد الجمال والحق والخير. لكل زمان أفكاره ومبادئه، إن المسيحية العقيمة بالمعنى الذي ذكرت أغلقت أبواب الفكر، وتوعدت رجال الفكر، ألم يعدموا برونو إحراقًا، ألم يلقوا بجاليليه من حالق، ألم يؤسسوا محكمة التفتيش، ألم يكن كريستوف كولومب فيلسوفًا اكتشف قارة جديدة بفكرة تخالف المسيحية؛ لأن المسيحية لا تدل أتباعها على أن الأرض كرة مستديرة.

فهذا البلد ليس كغيره من البلاد، إنه يحمل طابعًا خاصًّا به وإنه لتفوح منه عطور التاريخ وقد مرت به عواصف قواصف وحدثت فيه أحداث كالتي مرت بأثينا ورأى طغاة وجبابرة كالذين رأتهم أثينا أمثال أسرة مديتشي وبورچيا، وتحملت هذه المدينة واقعات حروب وذاقت آلام الجوع والمرض وذلك الحكم الأجنبي، ولبثت جمهورية وطمعت في جيرانها وطمع فيها القريب والغريب. ولكن هذه المدينة كانت دائمًا كالملكة المتوجة الباهرة الجمال لا يفنى شبابها، ولا تذوي محاسنها ولا يذبل ربيعها بل تتجدد حياتها في كل حين كما تتجدد مياه نهرها وتزدهر أزهارها في كل عام، وكما تعشق نساؤها وتتزوج وتحمل وتلد، وتقذف إلى الحياة فتيانًا وفتيات منهم النوابغ والعبقريون الذين يحملون الشعلة المقدسة.

مكيافيلي وساڤونارولا

وقد حملت نفسي تبعة جديدة، لا بد أن أستعين بنسخة إيطالية في إتمام ترجمتي لكتاب «الأمير»، وما دمت في بلد مكيافيلي لا بد أن أتتبع مواطنه، فأزور بيته ومغانيه وأقرأ من مؤلفاته ما أستطيع ولا بد أن أزور قبره في كنيسة سانتا ماريا نوڤيلا، وبيته ما يزال قائمًا في رقم ١٧ ڤيا جويتشارديني ومؤلفاته محفوظة في بيته، كما رأيت آثار ساڤونارولا وخط يده وتفسيره الإنجيل وبعض ثيابه والصليب الذي صلب عليه، أما بدنه فقد حرقوه بأمر الكنيسة وذروا رماده في نهر الأرنو كما فعلوا في أشلاء بعض الأولياء عند المسلمين في بغداد قبل ذلك بخمسماية عام. وهنا كتب عن مكيافيلي وعن ساڤونارولا وعن ليونارد وبوكاتشيو، فلنحصل منها ما يصل إلى يدنا ومن تصاويرهم وآثارهم.

وما دمنا بصدد هؤلاء العظماء فكيف لا ندرس حركة النهضة كلها (رينسانس) في القرون الثالث والرابع والخامس والسادس عشر، يقظة أوروبا بعد القرون الوسطى المظلمة.

ولا بد أن أوجستا أوشكت أن تفقد صوابها من هذا الهوس، ألم أكن متهوسًا في حب المعرفة ومجنونًا بالوقوف على كل شيء إجمالًا وتفصيلًا، نعم إنها كلها أشياء خليقة بالدرس والبحث، وإنها جديرة أن توقف عليها الأعمار والأموال ولكن أين الأعمار بل العمر الواحد الذي أستطيع وقفه على هذه الأمور كلها، وأين الأموال التي يحتاج لها بعض فروع أصل واحد من هذه الأصول. وهل يمكن لرجل واحد أن يحب كل هذه الأشياء ويتقنها، إنني أكره التخصص وأمقت الرجل الذي يصفونه بأنه متخصص في قراءة الوثائق الخاصة بعلاقة فرانسوا الأول بليوناردو أو بصلة ليونارد بكونت سفورتزا، وبتاريخ صورة جيوكوندا، وبتحقيق شخصية السيدة التي جلست للمصور حتى أتم رسم وجهها وعينيها وفمها وصدرها ويديها، ولكنني إذا شغفت بموضوع أجد نفسي كأحد هؤلاء المتهوسين بالتحقيق والتدقيق وفيهما تذهب الأعمار.

لقد قرأت قبل زيارة فلورنس كتاب الزنبقة الحمراء لأناتول فرانس وأعجبت بها. إنها قصة غرام وغيرة للكاتب نفسه وقد وصفها وروى واقعاتها في ذلك الإطار العجيب إطار فيرنزه، لا بلد في العالم تصلح للحب مثل بعض مدن إيطاليا كالبندقية وروما وفيرونا وبادوا؛ ولذا أتخذ شكسبير بعض هذه المدن مسرحًا لقصصه الغرامية العنيفة (أوتلو — روميو وجوليت — وحتى شيلوك اتخذ لها إطارًا إيطاليًّا).

فلم يكن أناتول فرانس مخطئًا بل ترسم خطوات سابقيه ولا سيما الناجحين، فوفق توفيقًا عظيمًا في اختيار الزمان والمكان، ولعله لم يحسن اختيار المعشوقة فقد اكتوى بنار حبها.

وليس من السهل أن تعيش في البلد وتعاني وتعشق، وتفكر ثم تنقل هذا بسرعة البرق إلى صفحات كتاب يباع ويشترى، لا بد للعاطفة أن تعتّق وتختمر كالجيد من الشراب الذي يطيب ويجود بالدفن في الدنان والخوابي ثم يخرج من بعد دفنه أي: يبعث من قبره. ولا يكون غير هذا إلا إذا كان العاشق الكاتب محترفًا ومرتزقًا وفي حاجة إلى الاتجار بعواطفه وأخبار عشقه.

لقد كان فرانس في هذه القصة في منتهى الرقة ثم في منتهى الوحشية، ولم يذكر فلورانس إلا لممًا، ليقنع القارئ بأنه رأى وأحس ولكن الحافز الأول عنده كان الحب، وكان الحب يمكن أن يحدث في باريس أو نيس أو تولوز أو في أي مكان آخر.

ولأجل هذا أردت أن أستشير صديقتي فيما أفعل قبل أن أضيع الأيام والليالي هباءً، فلم أجئ إلى فيرنزه لأحب، إن الحب مستطاع في كل زمان ومكان ولكن إضافة الجمال إلى النفس وازدياد المعرفة، وإطفاء نيران الشوق للحقيقة، ولو كانت نسبية ليست ممكنة في كل زمان ومكان.

٥

محاسن وأضداد

يكاد من يقرأ هذه المذكرات يظن أن أوجستا دامانسكي فيليبوڤنا كانت ملكًا طاهرًا وأنها خالية من العيوب، أو أنني على حداثة سني، ولم أكن تجاوزت الثانية والعشرين، وأتيت في مقتبل العمر حلم الشيوخ، أو أنني على الأقل لطول العهد ودورة عجلات الزمن تعمدت أن لا أذكر عنها إلا الخير، ولكن هذه الفكرة تنطوي على حسن الظن بها وبي وهذا شيء جميل ولكن الحق أجمل، ولا أنكر أنني عاشرتها وعاشرتني وأعيننا مفتحة ووعيت معايبها الإنسانية ومعايبها الخاصة بوصفها امرأة روسية مجهولة المذهب والذهب والذهاب (أي: الدين والمبدأ السياسي وغايتها من أسفارها)، ولم يكن من هذه شيء يهمني؛ لا لأنني اعتبرت معاشرتها تسليةً ولهوًا ولكنني عرفتها في حاضرها ولم أكن أعزم على أن أتزوج منها حتى أدقق في معرفة ماضيها، فقد عرفتها من سنتين والدة ذات ولد تعيش مستقلة في صحبة أمها وطفلها، وسواء أكانت مطلقة أم مفارقة أم هاربة من وجه زوجها، مظلومة أو ظالمة فلست أعتدي على عرض رجل ولا أعمل على تدمير حياة أسرة أو خراب بيت أو تشتيت شمل أم وأب وابن؛ لأن شيئًا من هذا لم يكن في طبعي ولا تطيب معه لذة ولا يتفق مع أغراضي في الحياة التي تطالبني بالهدوء والطمأنينة والبعد عن المشاكل.

ثم إن لهذه المرأة جوانب أخرى، فهي أكثر ثقافة وتهذيبًا ووحيدة لا رقيب عليها، وأنها على كل حال غريبة عن أهل سويسرا المبغوضين لديّ؛ لتفضيلهم المادة على كل شيء، والذين يودون لو استطاعوا أن يبيعوا الماء والهواء أو يرهنوا الجبال والبحيرات ليحصلوا على المال، وأنها من شعب عظيم يفنى في سبيل الحرية، ويهلك في محاربة الظلم، ولهم نوابغ أحببتهم وقدرتهم وعرفتهم من ثمارهم، أمثال تولستوي وتورجنيف، ثم إنها أنضج وأعقل وأذكى وآمن عاقبة، وأنها غريبة مثلي وكل غريب للغريب نسيب، ومهما وصلت بنا خطة الحوادث فلن يقال: إنني أفسدت بيتًا أو فرقت بين من جمع الله بينهما.

وفيما عدا ذلك رأيت وخبرت أنها امرأة من بيت كريم، والقرائن على ذلك ثقافتها ومستوى معيشتها وأدب نفسها، ولكنني كنت ناقدًا أثناء ذلك أدرك عيوب الشخص الذي أحبه أو الشيء الذي أستحليه، وقد عرفت عيوب أوجستا معرفة تامة وعرفت أنها تبذل قصارى الجهد لتظهر أمامي بمظهر الكمال المطلق مثل الأوانس أو الأرامل اللواتي يخفين حقيقتهن أثناء الخطبة، حتى يقع الرجل في الفخ فيذوق في شهر العسل مرارة الحنظل!

كانت أوجستا غيورًا شديدة الغيرة وساخرة لا تفوتها النكتة اللاذعة، وكانت محبة للمال لا لتوفره ولكن لتوفر أسباب راحتها، وكانت تعتقد في نفسها العلم الواسع والخبرة العميقة، وكانت تخفي عني أكثر مما تبدي، والذي نفعني ونفعها أثناء عشرتنا أنني لم أظهر كل ما كنت أشعر من حب وإعجاب، وما فلتت مني فلتة تدل على مقدار تعلقي بها وما ظنت يومًا أنها أصبحت ضرورة لازمة لحياتي. وإنني ما ارتحت إلى حديث امرأة ولطفها أو معاونتها العقلية كما ارتحت إليها. وكان في هذه السيدة نصيب وافر من مواهب الأمومة فهي في حاجة لأن تحيط أحدًا بحنانها، ولو لم يكن ابنها، فأمومتها فياضة من جميع النواحي ولم تكن متصنعة في هذه العاطفة أبدًا، فقد حرصت على حياتي وسهرت على صحتي وفرحت لنجاحي، ولم تحاول مرة أن تعطل عملي أو تحول وجهتي أو تحبط همتي أو تغريني بطعام أو شراب، أو لهو يعود علي بالضرر ولو كان وهميًّا، وكانت تغضب إذا دخنت سيجارة أو إذا قدم إنسان كائنًا من كان قدح خمر، أو أغراني شخص بالسهر أو عرضت نفسي لتعب يزيد عن طاقتي أو بذلت جهدًا قد تسوء عاقبته، أو أهملت في واجب نحو وطني وقومي وأهلي، وهي لا تعرف أحدًا منهم ولا تربطهم بها رابطة.

وقالت لي يومًا: إني أحبك حبًّا مصحوبًا باليأس؛ لأنني لا يخطر ببالي أن تتزوج مني، وإذا شئت وأردت وصممت فإنني أمتنع وأمانع وأقاوم ولو بالقوة وأفر منك ولو بالحيلة وأقاطعك ولو فيه ضرر عليك وعليّ، فهذه مسألة لا يجوز أن تخطر ببالك، ونحن لم نجتمع بفعل المصادفة والأقدار لأربطك إليّ وأقف عقبة في طريقك، فلا شك أن لك مستقبلًا سعيدًا ومن عناصره زيجة موفقة بفتاة من بنات وطنك ولغتك تعمل على إسعادك، وتعطيك نسلًا وهناءً وحياة محفوظة بالمسرات، ولا أقبل أن أسطو على ثقتك وقلبك فأغتصبها؛ لأن الظروف جمعت بنا في بلد ناء عن وطني ووطنك، ولا أحب أن يأتي وقت تبغضني فيه وتندم على ما فعلت بسببي وتقول: كانت هفوة شباب وغلطة طيش وخديعة امرأة لا ضمير لها. هذا كله يا حبيبي لا أريده وقد حسبت حسابه في يوم وليلة، ولا أخفي عنك أنني فكرت كثيرًا يوم تركنا مثوى راسين (بنسيون) في أن نفترق في لطف ومودة، وأن أختلق عذرًا أو أنتحل حيلة تسهل فراقنا ولو بادعاء السفر إلى روسيا، وأسافر فعلًا إلى الحدود ثم أعود إن لم تواتني الشجاعة على مصارحتك بالأمر، ولكنني أيقنت أن استمرار عشرتنا أمدًا ما لا يضرك مطلقًا وقد ينفعك؛ ولذلك كنت متلهفة على الاجتماع بك بعد فراقنا في جنيف، وأقول: إنني لم أشعر بأنني عروس تزف إلا في ذلك اليوم.

ولكن هذه المرأة التي ذابت في فيرنزه رقة ولطفًا وعطفًا هي التي قلت لها يوم غادرنا بيت راسين عندما داعبتها ضاحكًا: ماذا كنت تفعلين لو أنني أطعت إيعاز هؤلاء الناس الذين يزعمون أنهم يرعون مصلحتي، وسافرت عائدًا إلى ليون أو فضلت أن أقيم معهم، فأغضي عن هفوات العجوز بيدو وأحملها محملًا حسنًا وأنها تبذل لي النصح؟ فاصفرّ وجه أوجستا وارتجفت شفتاها وأوشكت أن تنفجر ولكنها كظمت غيطها وقالت: لو حدث هذا فلا شيء يصيبني وربما كان خيرًا لك ولي، إنني لا أرغمك على شيء فشاور نفسك قبل أن تقدم على عمل تأسف عليه، أتظن أنني أتذلل لك أو أتعلق بأهدابك أو أتشبث بأذيالك. إنني أشكرك على ما منحتني من الهناء أثناء تلك الفترة وشددت أزري وكفي. وقد أفترض أننا لم نلتق ولم يكن أحدنا في منهاج صاحبه فعلام ننسج لأنفسنا خيوط الكدر.

ولما رأيتها قد تسترسل تحت سلطان الغضب، فيزل لسانها بما لا يمكن الصلح بعده، وكنت أحرص في كل حال على أن لا أكسر زجاجة قلبها، فضحكت وقلت: ها أنت غضبت وأنت ترينني جالسًا معك في البيت الجديد فكيف تفكرين في كل هذه الخطوات والفروض والظنون؟ إن الدنيا هينة عندي في جنب رضاك. وكان صلحًا سريعًا بعد غضب سريع، وقد أرشدني قلبي إلى ما أرشد إليه صياد بغداد إذ قال للجن: لا أصدق أنك وأنت عملاق لا أبلغ أخمص قدمك كنت حبيسًا في هذا القمقم الصغير، فأثبت له الجن أنه كان مسحورًا ثم دخل سجنه النحاسي ليقنعه، فبادر الصياد إلى سدادة القمقم ووضعها على فوهته، وكذلك أوجستا فإنها لما علمت أنني اشتريتها بخصومها ووجدت الثمن بخسًا أخلصت لي وأظهرت لي أنها متفانية ولحقت بي إلى شاربونيير وكأنها قفزت في عالم مجهول؛ لأنها لم تكن تعلم ما يصادفنا في الحياة، ولكنها كانت مصممة على أن تصحبني وتعينني حتى أفوز في الامتحان لترى بنفسها نتيجة عشرتنا؛ ولتثبت لي أنها كانت عنصر خير ونجاح، وأن ظنون آل راسين قد خابت وأن نار مكايدهم قد خبت، فكان من حظها أنها راهنت على جواد رابح.

وإذن فلم أكن فريسة وهم في علاقتي بها ولم أكن من الجهل بأخلاق النساء في الدرجة التي توهم بها حداثة سني؛ لأنني وإنْ لم تسبق لي صلة وثيقة كهذه الصلة فإن القراءة والمراقبة والملاحظة تكفي. ولو كان حبي أعمى أصم إذن لازدريته وازدريت نفسي، ولم يكن ليرغمني على البقاء عليه أي هوى؛ لأنه لا حب إلا مع البصيرة الصافية وكذلك كما قال العرب قديمًا وجوته حديثًا: لا بصيرة لمن لا يحب.

لا أنكر أنني عاشرت أوجستا في أول الأمر على دغل، وأنني كنت أحذرها وأخشاها وأسيء الظن بها، حتى إنني فررت من وجهها فسافرت من لوزان إلى باريس، وكنت حسبتها امرأة الأقدار Femme fatale التي يجب على الرجل أن يهرب منها لينجو بحياته، ولكن كان هذا وهمًا من أوهام الشباب والأدب والفن، كما كنت أتوهم أنني قصير العمر وأنني أقضي نحبي في مقتبل الشباب.

نعمة الأسفار

وأظن أنني كنت أغالي في تقدير آرائي قبل أن أسافر إلى الأقطار البعيدة عن وطني، ولو أنني خلدت إلى أرض مصر التي نشأت فيها لعشت ومت على وتيرة واحدة. ولكن نعمة الله عليّ بالأسفار إلى سوريا ولبنان وتركيا واليونان منذ السابعة عشرة من عمري، ثم مواصلة الرحلة بعد ذلك بأعوام إلى أوروبا وإنجلترا والإقامة في فرنسا غّيرت حياتي، وبدَّلتْ نظرتي إلى الكون والوجود وإلى شخصي وجعلت الأفكار التي ظننتها ثابتة الأساس راسخة الأركان تتهاوى وتتداعى كالحجارة في جدار يريد أن ينقض، وإذا بكثير من الحقائق التي غرست في نفسي أوهام وأخيلة، وأن بيني وبين حقيقة واحدة لا جملة حقائق أبعاد شاسعة ومسافات بعيدة. ثم إن أسفاري في ثلاث ممالك في العهد الأخير وفي أكثر عهود الدنيا رخاء من شأنها أن تتيح للإنسان من سعة العقل، ورحابة الصدر ما يجعله قابلًا لكل صورة من صور الفكر البشري، وكأن الحوادث نفسها التي تتولد عن التنقل تطلعك على اختلاف أطوار الجنس الإنساني اختلافًا لا يكاد ينتهي، ولكل خلق من الأخلاق المختلفة قد اكتسب حق البقاء لصاحبه مستقلًّا عن سواه، ومنذ حللت مدينة فلورنس مهد الإحياء (رنيسانس) لمحت في فرح ورهبة بعض الأشياء الأزلية الخالدة أو القوانين العامة، وأظن المرجع لهذا الكشف يعود الفضل فيه إلى روح البلد وإلى تلك المرأة.

رأيت تحت هذا، الاختلاف بين أهل سويسرا وفرنسا وإيطاليا وكنت من قبل أعرف بريطانيا وأيرلاندا وألمانيا والنمسا، لمحت وحدة جامعة ومظهر هذه الجامعة إحساس عميق بتقدير قيم الأشياء، وهذه القيم تكاد تكون متشابهة في أصولها عند جميع الأمم في كل بلد وفي كل عصر وهي الحق والخير والجمال. وفي فيرنزه هذه بالذات رأيت العناصر الثلاثة مجتمعة، وفي سويسرا رأيت الحق يعلو أحيانًا على الرغم من قوة الظلم والباطل، وفي فرنسا رأيت كثيرًا من الخير، ولا أنكر أن للعاطفة التي كانت تملأ نفسي دخلًا عظيمًا في انتباهي ويقظتي وتفتح ذهني، وليست الأحاسيس والمشاعر وحدها هي التي تتيقظ، وترهف بل صفات العقل والروح أيضًا تنمو وتدق وتصقل. وقد يستعين الإنسان بالحب والصداقة الحميمة إذا كان محبًّا للاطلاع أو متوقد العجب، لا تنطفئ من نفسه جذوة الشوق إلى المعرفة والسعي في الوقوف على ما يعتقده حقيقة سواء أكانت ظاهرة أو خفية. وقد يجتمع الشوق إلى المعرفة والتشوف والحب إلى التنقل في وحدة تؤنسها صداقة وثيقة، وأمن منتظر أن يكون طويل المدى؛ لأنه لا يوجد أطول من آمال المحبين من طبقة المتأدبين وعشاق الفنون الرفيعة إذا لم يكونوا في حاجة للعمل الملح بأسباب العيش ولديهم الفراغ للتأمل ولو إلى أمد. وقد يعينك أن تكون متوكلًا لا متواكلًا، معتمدًا على تصرف الأقدار كثير الصبر واسع الصدر، محدود المطالب قليل المطامع مع غير تشدد في أن تكون طبائع الناس وفق رغائبك، وأن لا يجعل لصغائر الأمور شأنًا في حياته، وقد أرغمت نفسي في هذه السن الفطيرة على أن لا أبالي شيئًا، فأساس حياتي الزهادة وعدم الاكتراث للزعازع، وتقدير الشر الطارئ قبل الخير المنتظر، وهذا الترويض لنفسي أمكنني من ترويض غيري دون أن يشعر بضغط أو إرهاق.

هل كانت هذه الظواهر phenoméne عناصر خلق يتكون أو طبع موروثة تغذيه الغريزة الشرقية الإسلامية، أم شعر الخيام والمعري أم فلسفة شوبنهاور وقد تركتْ كلها أثارًا قوية منذ حداثة سني، فقد كان من أمراض نفسي أنني أندمج في حياة المفكرين الذين أحببتهم سواء أقرأت كتبهم أم عاشرتهم، كان الأدب والتاريخ جزءًا من حياتي. هل كنت أعيش في الخيال أم في الحقيقة. هذا البلد كله خيال؛ لأنه شعر وسياسة وجمال ودين وحب؛ وكله حقائق لأنه تاريخ وجمهوريات ونهضات وحروب، وقد صرت رجلًا في طرفة عين، رجلًا شرقيًّا في حضارة غربية، رجلًا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا ويتوهم أنه من أغنى الناس.

عود إلى فلورنسا

إن فيرنزه نفسها لا تحتوي الفنون الرفيعة وضروب الجمال والشعر، بل هي نفسها آية متجسدة ومعجزة وكتلة من نور الطبيعة والعقل الإنساني والإلهام الرباني تشع بأروع المعاني الخالدة، لا يستطيع الإنسان أن يعبر عما ينثال على ذهنه ومشاعره من الأحاسيس والعواطف القوية إلى درجة الانفعال متفرقة ومجتمعة، وإن الهزة التي تعروني الآن للذكرى المجردة كانت تعروني كل يوم كلما أسير في الطرق، وأدخل المتاحف وألقي نظرة ولو عابرة على تمثال أو بناء.

إن يد الطبيعة الصناع هي وحدها ذات الفضل الأول في هذه المدينة فقد وضعتها في واد جميل، وجعلت حولها تلالًا سندسية ذات مناظر فتانة وشقت ذلك النهر «لونجارنو» ثم توجتها بمرتفعات ڤيزوليه التي تبسط للنظر ما خفي من الجمال لسالك الوادي، وتفسح أمامه الآفاق فتبدو آيات الله في محاسنها. وإن الطبيعة هي التي جعلت الأرض خصيبة والأجسام السليمة والقدود الممشوقة والأعين الساحرة، حتى عند الرجال، وهي التي كوّنت العقول والأخلاق والمواهب ووضعت في الأعين من قوة النظر ودقة الفهم والتقدير، وفي الأيدي من القدرة على الحركة والاتزان، وفي الذوق من خلال التمييز بين الألوان في الطبيعة وبين الاستطاعة على تمثيلها بالمزج والخلط بينها. وأودعت القلب كنوزًا من الجمال وأوحت إلى صاحبها أن يفسرها، ويعبّر عنها ويبرزها ويظهرها بالألوان تارة وبالنحت والحفر في الأحجار والمعادن تارة أخرى، كما أودعت في اللسان الإنساني وما وراءه من ذاكرة وبلاغة وحسن انتقاء وعاطفة جيّاشة تمكنه من التعبير بالشعر والنثر. فكأن التعبير بالموسيقى والشعر والقصة والتصوير والنحت هو وظيفة هذه المدينة، وكأنها مخلوقة لتكون لسانًا ناطقًا وعينًا مبصرة وأذنًا مرهفة وذوقًا حساسًا. فمقامها بين المدن بحسب فهمي في تلك الفترة كمقام الأنبياء بين الأمم، ودليلي على ذلك كثرة ما حشدت الطبيعة في تلك المساحة الضيقة من العباقرة والنوابغ وأرباب الفنون وأصحاب العقول وربات الجمال، وذوات المحاسن الفاتنة وأنطقتهم جميعًا في فترة واحدة من الزمن أو في فترات متقاربة، ومن عجائب الخلق ومعجزاته أنها قد تجمع للفرد الإنساني الواحد جملة من المواهب، كما صنعت لليونارد داڤنشي ولميشيل انجلو ولدانتي ومكيافيلي، فإن دانتي لم يكن ناظم الكوميديا وحدها، بل كان واضع لغة جديدة وراسم خطة جديدة للحياة «ڤيتانوڤا»، فكان مجددًا ومنشئًا، وفعله في إيطاليا مثل فعل زرياب المغني المصلح الاجتماعي في الأندلس، وكان عاشقًا مثاليًّا لبياتريس خلق مثلًا أعلى جديدًا، ووضع مذهب التسامي في الحب وهو مذهب يصون الرجل عن التنزل إلى درك الشهوات بل يدعوه إلى أعلى ويصعده درجات، وأقنع أمثاله وأشباهه بأن هذا التسامي ممكن ومستطاع، وأن علاقة الرجل بالمرأة ليست غايتها النسل وحده أو قضاء الأوطار العابرة، بل إن لها غاية أرفع وأعلى وأبقى وأدوم.

كانت هذه الخواطر تملأ نفسي وفكري طول إقامتي وفي كل خطوة وعند كل نظرة، وقد غبطت الإنجليز الذين اتخذوها مباءة ومثوى يتسللون إليها من كل حدب في الربيع، وإن كان معظمهم مقلدًا ولا سيما طبقة الأغنياء والنساء الباحثات عن المغامرات، وكذلك أهل أمريكا، إلا أن مجرد العيشة في هذا الجو خليقة أن تلطف من خشونتهم وتلين من غلظتهم وترقق من حاشيتهم، فإن الثقافة الروحية تروض الوحوش الضارية، وإنْ يكن الألمان قد استفادوا من إيطاليا أكثر من الإنجليز وتركت حياتهم في أدبهم وحكمتهم آثارًا أقوى، أمثال جوته ولسنج ونيتشه وشوبنهاور بينما جاء بيرون إيطاليا، ولا سيما البندقية يبحث عن العشق المحرم وقد قرأت مكاتيبه الخاصة وهي تروي أحوال حبه وتسرد أسماء معشوقاته، ولكن قارن بين ما كتب وبين ما خطته يد هنري هينه (وقد قرأت كتبه في فيرنزه)، فتلقى الفرق الشديد في الاستلهام بين الرجلين، وتعطيك المقارنة فكرة صادقة عن الرجلين والشعبين.

لأجل هذا أو لبعض هذا نظرت إلى المرأة التي كانت تعاشرني نظرة جديدة، واتخذتها صديقة ودليلًا ومرشدة ومعينة وشكرت لها أنها أرادت من كل قلبها أن تجاريني في مسلكي وخطتي، وللمرة الأولى وجدت أن الجمال المادي والمعنوي والجو المنعش الذي يحيط بي لا يدفع بي إلى نزوات الشباب أو رغبة انتهاز فرصة الحرية والحياة في أوانها، فاتخذت غذاءً للروح وسكرت من هذه الخمر الحلال وأعرضت عن كل ما عداهما.

كنت واعيًا جدًّا ويقظًا وكنت مدركًا لكل معنى فلم أحفل بشيء قدر إشباع نهمي من هذا الجمال وتلك الفرصة المواتية، وكانت أوجستا سعيدة فرحة مرحة بأنها أسدت إليّ هذا الجميل، وأنني قدرت النعمة قدرها وحمدت الله ثم شكرت لها هذه المعونة.

٦

أثر فلورنسا في النفس والعقل والعواطف

لست بصدد ذكر حوادث الحياة اليومية ولا بوصف خطط المدينة، ولا بسرد معالمها وأعلامها أو الإمعان في ذكر تاريخها، فهذا كله قديم ومدون، وكذلك لست بسبب تعداد الآثار الفنية في متاحفها وقصورها، فكتب المؤرخين وأهل الفن كفيلة بذلك، ولكن الذي أكترث له هو أن أصور أثر هذا العالم الجميل في نفسي وفي عقلي وفي عواطفي ومشاعري، وأنني كلما كتبت أو شرحت أو حاولت التفسير والوصف أشعر بعجز اللغة عن التعبير وقصور الشعر والنثر عن التمثيل، أو تقديم صورة تقرب مما يختلج في النفس، وقد تأكدت أن الإنسان يرتج عليه أمام أقوى المؤثرات فيعوزه النطق ويبقى باهتًا مشدوهًا حيال ما يراه أو يسمعه، وكان من قبل يظن أنه قادر على الإفصاح بعد الإدراك فإذا هو يجد العيَّ مكان البلاغة والعجز مكان القدرة، فلا يرضى أبدًا عما يصنع أو يكتب أو يقول.

إنني أرثي لمن يلجئون للكتب للاستلهام في مثل هذا المجال أمثال ستندال من أشهر كتاب فرنسا، بل أول من طبق علم النفس في فن القصص، فإنه لم يستلهم الكتب في تدوين رحلته في إيطاليا بل سرق ونهب واختلس من أسلافه فدلّ بذلك على فقر روحه، وكذلك صنع ديماس الكبير، وأعجب كيف عمى هذان الكاتبان الكبيران وصمّا عن قراءة الكتاب الأعظم الذي فتح الله صفحاته لهما وبسطها بين أيديهما.

إن فيرنزه (ما أجمل هذا الاسم وما أوقع أثره في سمعي وفكري!) مثل الداية الماهرة والمولدة الحاذقة، تعين كل ذات حمل على وضع حملها ولا تصف ولادة بأنها عسرة قط، فإن فيرنزه تولد بنات الأفكار وتخرج الحي من الحي بل تخرج الحي من الميت، ولا يدخلها قط إنسان عنده مثقال ذرة من موهبة ويستنشق هواءها ويشرب ماءها ويأكل من خبزها، ويلقي نظرة على خضرتها الخالدة ثم يبطئ في التوليد أو الإظهار ما لم يكن عقيمًا مغرقًا في العقم كالصخر الصلد أو الأرض الجرداء، ولم أفز بشيء من هذه المواليد لفقر طبيعتي وجمود قريحتي ولم يزد حظي عن تفتّح ذهني وشعوره بنور جديد لم أكن من قبل أرى منه شعاعًا، وأخذت معنى جديدًا للحياة ولونًا جديدًا للأشياء والعواطف، وهذا ظفر كبير وخير كثير. لو كنت من أرباب المواهب ولو كامنة لخرجت من فيرنزه شاعرًا أو ناثرًا أو مصورًا أو مثالًا أو على الأقل ناقدًا، ولكنني وا أسفاه خرجت صفر اليدين باكيًا على أن الأقدار لم تهبني موهبة أو لم تتح لي فرصة كافية للحضانة والتوليد.

بين الفنانين البدائيين والمصريين القدماء

ومن لواذع الكلام التي تلقيتها من صديقتي أثناء مرورنا بمجموعة من تصوير مناظر دينية من صنع أوائل الفنانين، ويطلقون عليهم اسم الفطريين أي: البدائيين وهم الذين خطوا أبجدية التصوير في القرن الثالث عشر، ذهلت من تسميتهم وأعجبت بأعمالهم ولمحتُ أثر ذهولي في وجهها، وكانت تعلم أنني زرت متاحف رومه والبندقية وبادوا وبولونيا من قبل. فقلت لها: لم لا تسخرين من جهلي؟ فقالت: لم وأنا أعلم أن فرصة دراسة هذه الآثار لم تسنح لك من قبل بما يكفي لتكوين القدرة على النقد، غير أنك لا ترغب في أن تعجب بالأشياء تقليدًا بل اقتناعًا وهذا يقتضي دراسة عميقة طويلة المدى، وعلى كل حال فلستَ متخصصًا في نقد الفنون، ولا تدّعي ذلك فلو أردته فلا يتحقق لك إلا بعد أعوام وطيّ الأرض ونشر الكتب واللوحات والتماثيل في أنحاء الأرض القديمة والجديدة، فأعجبت بها وزدت احترامًا لها؛ لأنها كانت صريحة، وقلت لها أمر يدهشني في المقارنة بين هذا الفن وفنون المصريين القدماء. فهؤلاء البدائيون الفطريون primitifs الذين لا يرجع عملهم إلى أكثر من سبعة قرون يتحدون مع المصريين القدماء في شيء وهو الموضوع الديني وبساطة التخطيط والألوان، ولكن المصريين نقشوا أو نحتوا منذ خمسين قرنًا وفنونهم متشعبة، وهنا لا نرى إلا الأم والطفل ويوسف النجار وبعض المجوس يقدمون التمجيد والتقديس للوليد العظيم، أما مصورو مصر القديمة فكانوا يغترفون من بحر بل بحار ويحارون فيما يختارون وإن صورهم لناطقة وألوانهم لثابتة وحجارتهم تكاد تتكلم وتشير وتنادي.

فقالت أوجستا: أنا لم أزر مصر ولم أر فنونها وإن كنت قرأت عنها كثيرًا، ويمكنني أن أقول: إنه لا محل للمقارنة بين هذه الفنون وبين فنون بلادكم. فهذه الصور التي تراها المصورة بأقلام الفطريين كلها من صنع الخيال؛ لأنهم لم يكونوا درجوا على اتخاذ المثل الحية ولم يجرؤ واحد منهم على رسم جسد عار مثل ما صنع اليونان، وصنعت مصر قبلها وكانت العاطفة الدينية وحدها هي التي تدعوهم لاتخاذ الفن معبرًا عن العقيدة لتمجيد الأم والطفل والميلاد السعيد. أما عندكم فقد قرأت أن تقاطيع الوجوه وقسمات الجسم، ناطقة بأشباه أصحابها من الملوك والأمراء، وإنما الذي يؤسف له أن المصورين لم يعنوا بتسجيل صور أفراد الشعب، فقلت لها في رفق: من قال لك ذلك لم يصدقك، فإن الجدران في المعابد والمقابر حاشدة بصور الشعب في الجيش وفي الأسواق وفي الحياة اليومية وفي الصيد والقنص وفي الجنائز، وكذلك أوراق البردي، حتى إن صورة كيلوباترا وأقاربها وحاشيتها من الإغريق تحمل طابع الجنس اليوناني الذي انحدرت من أصلابه، وهي خواص سحنية مميزة تخالف خواص الجنس المصري.

قالت أوجستا: إني أرى التصوير المصري القديم يدخل في اختصاص التاريخ، وهذه التصاوير تدخل في محيط الفن لسبب واحد وهو أن الفن المصري انقطع بانقضاء الزمن فكل الوجود عندكم في الماضي، أما هؤلاء الناس فقد واصلوا العمل ولم ينفرط عقدهم، وصارت سلسلتهم متصلة الحلقات، أما أنتم فتوقفتم، ولو أن الفن المصري اتصلت حلقاته لبلغتم شأوًا بعيدًا وكذلك في كل ناحية من ناحيات الفكر، فانظرْ ماذا صنع قرنان أو ثلاثة من الزمن في هذه البلاد. وماذا كنتم أنتم تصنعون في خمسين قرنًا. فهل تعلم السبب؟ قلت: ربما الانحدار والتدهور والعقم في المواهب، أجابت كلا! بل الدين الإسلامي؛ لأنه حرم عبادة الأصنام، كما صنع دين اليهود ومتى صار شيء غير معبود صار مكروهًا وبغيضًا ومرذولًا، ألا ترى أن هذا الفن الأوروبي بدأ بالدين وتمجيد العذراء والمسيح والقديسيين وكذلك اليونان جعلوا فنهم مظهرًا لآلهتهم، فمن هي ڤينوس ومنرڤا وأبولو، أوليسوا آلهة وأربابًا وربّات. وكذلك اليهود جاء دينهم بالتوحيد والتنزيه، تنزيه الإله الواحد عن الشبه والتمثيل والتصوير، فصنع الجمال عندهم وعندكم يعد عبادة للمادة (تقصد إلى الشرك) هذا وحده أدّى إلى قتل مواهب الجمال فيما عدا الشعر والنثر والفلسفة. فدهشت من كلامها وقلت لها: ولكن ليس في الدين الإسلامي ما يحرم الجمال وتمجيده وتصويره. أجابت: إذا كان ما تقول صحيحًا، ولا إخاله كذلك فلا مصلحة لك في قول ما يخالف الحقيقة في مسألة عامة بحافز الوطنية، إن مصر هي مصر وطبيعتها ونهرها وجوها وواديها وخصوبتها هي هي، وشعبها كذلك ويمكن القول: بأنها ارتقت وترفهت وتعلمت واستوعبت ومناظرها باقية وأبناؤها زادوا ثقافة وتهذيبًا وامتزاجًا بالشعوب في كل أنحاء العالم، فما الذي عاقها عن إنتاج ما يفوق إنتاج أجدادكم.

الفن بين المصريين القدماء والمصريين المحدثين

يجب أن أرجع بضع سنين في مصر، منذ سنة ١٩٠٢ كان يدرس لنا الرسم في المدرسة الثانوية أستاذ إنجليزي طيب اسمه أندرسون، وكانت تبدو عليه بساطه أهل الفنون وهو أول من علمنا النقل عن الطبيعة في الرسم، فدربنا على تصوير كأس أو إناء أو زهرة طبيعية وجعل لنا ستوديو أو غرفة خاصة بالرسم (مرسم) في المدرسة، وكنا من قبل نجلس على مقاعدنا في الفرقة فكان لهذا الانتقال أثر في أنفسنا، وفي تلك السنة قال لنا عرضًا بالعربية: كل رسومكم زي الزفت كيف تكونون أحفاد الذين خلقوا البدائع في الصعيد وسقارة؟ أليست لكم أعين وذوق؟ إنكم ترسمون مجرد خطوط ولا تحسنون، وكيف رسم أجدادكم الألوان الباهرة؟ وفي آخر الدرس قال بالإنجليزية: زوروا آثاركم واذهبوا اليوم إلى معرض الصور الحديثة بشارع قصر النيل والدخول فيه مباح ومجانًا، فعقدت العزم على الذهاب بعد انصراف المدرسة وزرت المتحف وكان كل شيء في الأحياء الإفرنجية من القاهرة غريبًا وجديدًا؛ لأنني كنت أعيش في حارة أبو نبوت وحارة الوزان بدرب الجماميز بجوار المدرسة وهو حي أرقى نوعًا من حي الأزهر الشريف، وكنت أتهيب المشي في الشوارع الجديدة النظيفة ولكنني تشجعت، وهناك وجدت أندرسون نفسه وبعض الأجانب يلتفون حول اللوحات ويتكلمون، ورأيت من صنعه بعض لوحات ولا سيما صورة لمعبد أبي سمبل، وأدهشني أن تقاطيع الملوك والآلهة كانت ظاهرة واضحة مع أن كل التماثيل كانت في وضع واحد وهو الجلوس، والأصل منحوت في صخور الجبل وهذه الصورة الزيتية تمثل الصور الحجرية. وأخذت أتردد على هذا المعرض، وأجتذب إليه بعض رفاقي في المدرسة ورأيت أغلبهم لا يكترثون.

وأخذت أتتبع المعارض وكانت تعقد وقتًا في الربيع من كل عام. وكانت المجلات الإنجليزية المصورة بالألوان أحيانًا تغريني، واشتريت مرة مجلة باسم «ستوديو» وهي مصورة وقرأت بعض النقد في الصحف الإنجليزية، فأردت تقليد كتابها، وفي سنة ١٩٠٥ للمرة الأولى كتبت في جريدة اللواء مقالة صغيرة في وصف أحد المعارض ولم يكن نقدًا ولا تقريظًا بل مجرد سرد ووصف. وأخذت أسأل ماذا يمنع المصريين من تقليد الأجانب؟ ولما سافرت إلى أوروبا في سنة ١٩٠٦ أقبلت على المتاحف إقبال الجائع المحروم ولم أترك متحفًا لم أزره في نابولي وروما وفينسيا وبولونيا وبادوا وفيرونا وجنوى، فإنه لا تخلو بلدة إيطالية أو قرية من متحف مهما صغر؛ لأن في كل قرية أو بلدة كنيسة وفي كل كنيسة تصاوير قديمة وحديثة وتماثيل، وقد شهدت ألوف اللوحات في إيطاليا وفرنسا وهولاندا وبلجيكا وإنجلترا وسويسرا وميونيخ وفينا واللوڤر ولكسمبورج خصوصًا، وكان يعينني دليل بديكر وهو دليل أدبي فني يلفت أنظار الجهلاء أمثالي إلى شأن اللوحات والتماثيل المهمة. وأذكر أنني رأيت عشرات الآثار الجميلة، منها تمثال لاوكوون، ودرس التشريح لرمبراند وتمثال ڤينوس العارية المكسورة الذراع، وتمثال موسى في الفاتيكان من صنع ميكل أنجلو وله نموذج من الجبس في مكان آخر، واهتممت بتصاوير رفائيل وانقبضت من الفن الإنجليزي بقدر ما انشرح صدري للفن الأسباني لازدهار ألوانه وبراعة مصوريه.

الدعوة إلى تأسيس مدرسة للفنون الجميلة

وبعد أن عدت إلى مصر جعلت همي أن أدعو إلى تأسيس مدرسة للفنون الجميلة، كالتي رأيتها في باريس في شارع بونابرت وكانت الدعوة إلى مثل هذا العمل في سنة ١٩٠٦ تعدّ من هراء القول وصاحبها من السخافة بمكان، ولكن الله أدركني بدليل حاسم، وهو أن المرحوم مصطفى كامل وكان على قيد الحياة تقدم إلى مجلس نواب فرنسا بعريضة باسم مصر تستنجد فرنسا ضد بريطانيا ورفع إلى المجلس في نفس الوقت لوحة مصورة بالزيت تمثل مصر مقيدة بالأغلال الإنجليزية، وقد وقف لفيف من أهل مصر فيهم مصطفى كامل والشيخ علي يوسف وغيرهما يرفعون العريضة إلى فرنسا وتمثلها فتاة جميلة كريمة، وهذه اللوحة تقدمت سنة ١٨٩٣ على ما أتذكر فاتخذت منها حجة لضرورة تعليم التصوير وصنع التماثيل؛ لأنها على الأقل تنفع في مسألتنا السياسية. ولكن الحكومة المصرية في سنة ١٩٠٦ كانت واقعة تحت أقدام الإنجليز وعلى رأس الوكالة البريطانية عتلّ زنيم معتد بعد ذلك أثيم، فكان يسخر من كل نهضة أو حركة فكرية وكان يحب أن تبقى مصر في جهالة سوداء لترسف في أغلال الذل والاستعباد إلى الأبد، فكيف يسمح وهو القابض على زمام المال والمعارف بتأسيس مدرسة للفنون الجميلة أو تشجيع النحت والتصوير، وطالما انتقدت فنون مصر الحديثة التي تتجلى في تزويق بيوت العائدين من الحجاز وهي تمثل جمالًا ورجالًا ونساء لا يختلفون عن الجمال، ثم كانت تطبع صور تمثل أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة ودياب بن غانم وهي صور بشعة فظيعة، وكان هذا هو المظهر الوحيد لفنوننا الجميلة في سنة ١٩٠٦.

فلما اعترضت أوجستا على فقرنا الفني لم أستطع أن أشرح لها الأسباب على حقيقتها؛ لأن الشرح كان يقتضي أن أذكر نقائص أمتي وعجزها وضعفها. نعم إنها كانت تعرف وترى بعض نواحي جهادي بالصحف والمؤتمرات، وهي أمور عامة ولكنني لم أرد أن أذكر لها الحقيقة كاملة في كل ناحية من حياتنا. وكم من ناحية راكدة ومتقهقرة ومتدهورة تحتاج فيها مصر إلى الحياة والانتعاش والازدهار من ١٩٠٦ حتى الآن وبعد الآن؟!

خلود الفن

ما هذه الثروة يا رباه؟! ما هذه النعم؟! ما هذا الغنى؟! سبحانك ما أعظم كرمك وعطاءك لمن تحب وتختار! ما مال قارون؟! وما كنوز الذهب والفضة؟! ومن هم الأوغاد أرباب الملايين وملوك الحديد والبرنز والجاز والكهرباء والزيت والسموم والهموم حيال هذه الكنوز من العقول والمواهب والجمال؟! إن الذهب والطين والأوحال والرجال والمصارف والبنوك كلها فانية وهالكة، ولكن ذرة من هذه المواهب تزيد في الوزن عنها؛ لأنها خالدة وأزلية؛ لأنها معان ومن فيض الله ومتصلة بالله وباقية؛ لأنها أشعة من نوره، وكل الفنون والأفكار التي ألهمها الله لمخلوق سواء أكانت في الجاهلية أو الوثنية أو بعد ظهور الأديان، وسواء كان الملهم وثنيًّا عاكفًا على الأصنام أو ملحدًا أو مؤمنًا كلها لله وقربان لله ومدعاة لتمجيده وتسبيحه، وأضعف مصور أو شاعر أو فنان وأفقره وأحقره ولو كان لاصقًا بالتراب يعد إنسانًا وقدره أعظم ألوف المرات من أقدار الأغنياء جميعهم؛ لأن فنه وموهبته ونبوغه جزء منه، أما أرباب الأموال وحتى الملوك فكل ما يملكونه ويتحكمون فيه منفصل عنهم لا يخرجون من الدنيا بشيء منه، وقد يورثونه أبناءهم وأحفادهم ولكن حكم هؤلاء حكم أسلافهم ومورثيهم؛ ولهذا يتفانى صغار هذه الدنيا الذين يسمونهم عظماء ويتهالكون في اقتناء آثار الجمال، ويبذلون أموالهم في سبيل اقتنائها ويتشرفون بالحصول عليها وهم مستعدون لبذل مهجتهم إن استطاعوا أن يتشبهوا بمبدعيها، وقد يكون الشاعر أو المصور أو الموسيقى أو المثال قد مات جائعًا عاريًا مرتجفًا من البرد وتباع آثاره بالألوف؛ لأنه خالد وكل الآخرين زائلون، وهذه المدينة نفسها كانت دليلًا على هذا، فهؤلاء الكوزمات والمديتشات واللورنزات وبيتي وسفورزا وستروز مثلوا أدوار الميسّين أو حماة الفنون والآداب مثل خلفاء المسلمين الذين اشتهروا بحماية الشعراء والخطباء والكتاب، فخلد الخلفاء في أبيات من الشعر ولو لم تكن تلك القصائد ما عرف أحد أسماءهم ولا اكترث بهم.

ويحضرني حوار طريف بين عمر بن الخطاب وبين أحد أبناء هرم بن سنان ممدوح زهير بن أبي سلمى:

قال عمر وكان ناقدًا لبقًا وصريحًا وشجاعًا: لم لم يمدح زهير أحدًا غير جدكم.

قال حفيد هرم: لأن أحدًا من العرب لم يصله كما وصلناه، ولم يعطه ما أعطيناه.

أجاب عمر: إن بيتا من قصيدة من شعر زهير بكل ما ملكتم وورثتم فربحتم وكان مغبونًا في تلك الصفقة.

هذا عقل عربي صميم دقيق الفهم مدرك للحقيقة وكان خليفة راشدًا — رضي الله عنه.

لوحات وتماثيل

لك الله يا فيرنزه! ولكل من تنفس في جوك وعاش على أرضك، وأظلَّته سماؤك في كل الأجيال.

إنني لا أستطيع ولا في بضعة مجلدات أن أحصي ما رأيت أو أسرد ما أعجبني وأدهشني وأذهلني، لا لوفرة التحف وتعدد الألطاف بل لوفرة المزايا الفنية والمحاسن النوعية والمعاني التي لا تحصر لتلك الآثار من تماثيل ولوحات وطراز (تاپيسري)، ومنها القديم المنيف وفيها الجديد الطريف، وفيها تقسيم بحسب الفنانين وآخر بحسب القرون، وتقسيم آخر بحسب المدارس والمذاهب والأنواع كمناظر الطبيعة وصور الأشخاص والصور الرمزية والخيالية والأساطير من قديم عريق، ومن حديث قريب العهد، وكلها كثيرة العدد كثيرة الاختلاف شديدة التنوع. ففي الماضي كل الوجود، أنظر إلى تماثيل السقيفة (لوچيا) وفيها ميدوزا ذات الرأس التي كل شعرة من شعرها أفعى ملتوية وهي أسطورة أفرغها تشيليني في البرنز، وأنتقل منها إلى تمثال النبي دواد في شبابه في ساحة بياتزا لميكيل أنجلو وإلى تمثال حجري صغير لا يتجاوز حجم اليد والمعصم يمثل ليدا وفرخ الأوز في وضع غرامي خيالي، وهي من صنع ميكل أنجلو، تخيل اليد التي أنتجت تمثال موسى النبي وداود النبي هي التي أنتجت تمثال ليديا ذات الجفون الناعسة تقبل منقار طير، وترقد له رقدة عجيبة لتطفئ شهوتها وقد نشر الفرخ عليها جناحيه، بينما يصعد المصور إلى عنان السماء في موسى وداود، تراه يهبط ليروي بلغة الحجر حب إنسية لطير جامح، ولكن لا فرق في الجمال والمعنى والموهبة بين تمثال موسى البالغ أربعين مترًا مكعبًا من المرمر والفن والجمال، وبين حجم الكف والمعصم من حجر الطلس الأحمر في زاوية متواضعة من زوايا متحف الفن الحديث.

هنا تجد اللوحات التي فيها دعوة الطبيعة الجذابة من أشجار وأنهار وبحار وشموس وأقمار وكواكب، وترى ذلك كله في الجو الصافي الناضر وفي الألوان الرقيقة المتنوعة. وفيها اللوحات الواضحة المنيرة في الرسم والألوان، فتعجبك بضوئها وألوانها وغيرها تعجبك بقوتها في التعبير وثبات التكوين.

ومن أميز اللوحات تصاوير الأشخاص مثل إنتاج ليوناردو ومنها جيوكندا وجان باتيست وفرانسوا الأول ودوقة سفورزا، ومن أعجبها في القديم «العشاء الأخير» يمثل المسيح والحواريين، وبينهم يهوذا الأسخريوطي والفرق بين اللوحات الأولى، فقد صنعها ليوناردو عن الأشخاص أنفسهم أي: نقلًا عن الحياة، أما صورة العشاء الأخير فقد تخيل أشخاصها بأن انتقى نماذج بشرية من أحياء يشبهون في أخيلته وجوه الحواريين، وفي صورة جيوكوندا تجد السماء ثقيلة واطئة تغمر كل شيء في الأفق بضوء غائم تشطره الأشجار بسوقها السود، ومن اللوحات ما أبدعته يد ساندرو (بوتيشلي) وهو يستعمل الألوان فترى الأحمر الوردي في الثياب من المخمل والذهبي العسجدي في الوشى والتحلية والتطريز واللون الأصفر الفاقع، ثم اللون الأخضر في لوحة جوديت ولون الفجر وشفق الصباح ولمعة الخنجر في يدها.

وفي فن بوتيشلي ميل ظاهر ثائر للتجديد بالنسبة لعصره (القرن الخامس عشر)، واحتفاظ قوي مطمئن بالتقاليد. ولكن إنتاج بعض معاصريه من أبناء فيرنزه التي ما زالت وطن الفن الخالد، لا يضارع إنتاجه في صورة الربيع (بريما فيرا) وميلاد ڤينوس وصورته الرمزية عقوبة التميمة. وإنك إذ يبهرك جمال ليوناردو وفيليپو ليبي وساندرو تقدر أسلافهم وأساتذتهم؛ لأن هؤلاء الأفذاذ الذين ذكرتهم لم يكونوا ليظهروا أو يبهروا لو لم يتبعوا السبل التي فتحت لهم بعد جهاد العظماء السابقين.

معجزة الألوان في الرسم

وطالما بهرتني معجزة الألوان ومزجها وأظنها للفنان بمثابة دقة المثال؛ لأن اللون يعطي الحياة، فإن اللون الأخضر في صورة البريماڤيرا لا يقل شأنًا عن لون اللؤلؤ والدر والأصداف التي تملك الألباب في ميلاد ڤينوس، وكذلك الأحمر الأرجواني في تصاوير رفائيل والخمار المخطط في ثياب العذراء من صنعه. إن الحمرة الأرجوانية المشرقة تحت أشعة الشمس تحت ريشة هؤلاء تبدو حينًا قاسية صارمة وحينًا تبدو مهدئة مريحة للعين في ثياب أمير أو زفاف عروس، أو طيلسان مجوسي في مولد المسيح في هذا الضوء الباهظ الذي يغمر كل شيء حتى الملائكة الطائرين فوق السقيفة.

قد تتضاءل كل القيم الفنية في كل شيء كما رأينا في ظهور الكوبيست وروسو ليدا ونييه، وفي مقاييس اللوحات كما رأينا في فن جوستاف دوريه الذي يصور آدم وحواء وجنة الفردوس بحجم ظفر الأنملة (وقد رأيناه في بيته وقد صار متحف آثاره في مونمارتر)، وقد تتضاءل القيم في أخص خصائص الفن، كما نرى في الريالزم والسيريالزم (الواقعي وما وراء الواقعي) وتشويه الخلقة البشرية والاكتفاء بشكل ثلاثي للتدليل على الرأس البشرية (مثل صورة البهلوان) وتصاوير البحر الجديدة، وليس فيها من البحر إلا ألواحًا خشبية يفترض الناظر والناقد رغم أنفه أنها تمثل بقايا السفن! ولكن الألوان لا يمكن الاستغناء عنها، فهي التي تمثل ألوان النور والبرد والضباب في لندن وعلى جسور الأنهار وفي مدينة ليون وانعكاسات الرمادي والأزرق الصافي والأبيض اليقق، وانطباعات اللازوردي وانطباعات البنفسجي والفيروزي والياقوتي وكافة ألوان الجواهر والمعادن.

رسم الوجه

ولنعد إلى مهارة مصوري فيرنزه في رسم الوجه البشري. فمن صنع بوتشيلي صورة ثلاثة رجال الفتى والرجل والشيخ، وأريد أن أعبر عن دهشتي أمام هذه الرءوس الثلاثة، وقد جمع فيها الفن ما لم يسبقه أحد في التأليف بين السذاجة والدقة وعمق المعنى وبعد الآفاق.

ولكن سيد المصورين في كل ما تناوله ولا سيما الوجه الإنساني هو ليوناردو داڤنشي مصور الجيوكوندا ولم أرها في فلورنس؛ لأنها من كنوز اللوڤر وقد سرقت سنة ١٩١٢، وكادت الدنيا تجنّ لفقدها. إنها صورة امرأة ساحرة بابتسامتها ونظرتها وليس فيها غيرهما ولكن لم يصور أحد ابتسامة أو نظرة كما رسمها ليوناردو، إنها معجزة الأسرار والغموض والخفاء، إنها حيلة المرأة ومكرها وحياءها وشوقها وكبتها ورغبتها وصرختها وصمتها وبلاغتها وقوتها وضعفها، لقد فُتنت بهذه الصورة أمدًا طويلًا وما أزال أتحرك لها كلما رأيتها أو تذكرتها، وإن سرها لا يعلمه أحد غير مصورها ويمكنني أن أفسر النظرة والابتسامة، ولكن أفضل أن أحتفظ بسري لنفسي فإن فيه فتنة لغير صاحبه.

بين الأسماء العظيمة لأرباب الفنون الذين رأيت لوحاتهم دوناتيلو وبيليني وچير لانداچو وفرايا بارتولوميو ورفائيل وفيليبو ليبو وڤيروكيو وجيوتو وبنڤنتو تشيليني وعشرات غيرهم، وقد تأثرت بأعمالهم ولا سيما عودة چوديت وهي في متحف أوفيتشي بفيرنزه وهي من صنع بوتشيلي، كذلك المادونا (العذراء) ولكل عذراء صفة تميزها، فالعذارى خالدات بمئات الصور كذلك الطفل يسوع، وإن بوتشيلي العابد المتبتل المصور لميلاد المسيح في أكثر من سبع لوحات هو صاحب مارس وڤينوس وهي صورة وثنية فيها أجمل صورة للجسم البشري، وقد فتن بتصوير موسى النبي في خروجه من مصر على رأس شعبه وتصويره وهو يسقي لبنتي شعيب كما رسم دانتي وبياتريس وكل ذلك في مستهل القرن الخامس عشر، وقد رأيت له في فلورنس وحدها خمسًا وعشرين لوحة في متحف الأكاديمي ومتحف أوفيتشي وقصر بيتي وقصر كابوني (وهم غير آل كابوني الذين جعلت منهم أمريكا السكسونية قتلة ولصوصًا)، وفي كنيسة أوجنيسانتي.

وقد خطرت ببالي مسألة شغلتني وهي كيف صور بوتيشلي العذراء والطفل والقديسين والملائكة والمجوس؟ لقد علمنا أن داڤنشي نقل صورة جيوكوندا عن موناليزا وهي امرأة من لحم ودم أحضر لها ليوناردو الحواة والبهلوانات والموسيقيين والمهرجين ليطربوها ويلهوها ويعدوا نفسها للسرور والضحك حتى تبدو بأشرح صدر، وأعدل مزاج وأجمل وجه أثناء التصوير، ولكن العذارى والأطفال والملائكة وإلهات الجمال والحكمة كيف صورها بوتيشلي ورفائيل؟ الجواب سهل. نساء زمانهم المعاصرات وقد يكن معشوقاتهم أو معشوقات أصدقائهم أو زوجاتهم أو إخوانهم وبناتهم، فكل امرأة وكل رجل وكل صبي يصح أن يكون نموذجًا بشريًّا ولو كان مأجورًا، ولو كان بائسًا ولو كان متسولًا ما دام المصور يلمح في وجهه معنى من المعاني يصلح لفكرته، وقد تشاء الأقدار أن تخلد المرأة أو الرجل المجهول في لوحة باقية لا تقدر بمال بسبب المعنى والفكرة واليد الصناع، فتصبح قطعة من النسيج الخشن ورطل من الزيت وأوقية من الألوان ولوحة من الخشب بعد أن مرت بمخروط الذهن العبقري أغلى من الذهب والماس والزمردة والبلاتين مجتمعة.

لوحات بوكلين

وما أنس لا أنس لوحات بوكلين التي رأيتها مع أوجستا بعد ذلك بسنة في متحف بيتاكوتيك في ميونخ وفيها غرفة خاصة بآثار هذا المصور وحده وهو ألماني تخصص في رسم البحر، واتخذ له لونًا إلترامارين (الأزرق المستخرج من قاع البحر وهو أغلى الألوان). ولكن بوكلين رسم النامف (وهن نساء عاريات) في غشاء رقيق من ماء البحر وهن سابحات، فالماء يستر ويفضح ويكتم ويفصح ويخفي ويشرح، وهن يسبحن ويمرحن ويلعبن ويضحكن وكل واحدة منهن فتنة، وإنك ترى حبب الماء وزبده وموجاته الصغيرة وتلمس تياره ومده وجزره ولعب نسيمه كما تلمس تلك الأجسام الغضة البضة البيضاء بلون الفضة المشربة بلون الورد حتى الشرايين والأوردة بزرقة الدم النابض والعضلات الناطقة بحركة الحياة، وحتى ثنيات البطون وعاج النهود البارزة، وسواد الأعين الدعجاء وتكاد تعدّ الأهداب.

ولهذا المصور نفسه لوحة نادرة جديرة بالذكر في نفس المتحف بميونيخ وهي صورة عابدي النار وأخرى نعتها «جزيرة الموت».

أما عباد النار ففي غابة مظلمة قاتمة والكهنة أشباح أقزام مجللة بالبياض، أقزام بالنسبة لعمالقة الأشجار وبالنسبة لبعد الأفق. وهم ذاهبون مدبرون مولو وجوههم مقابل أتون صغير فيه نار موقدة وهم مقبلون عليها، وكلما بعد الأفق عن نظرك كلما توارى الكهنة، ولكن الصورة التي تمثل فكرة وليس فيها وجه إنساني واحد تبعث في نفسك رهبة غريبة هي حالة نفسية للمصور وقت أن صنعها. هل ساح في الهند؟ إن الصورة ليست من صنع الخيال؛ لأنها تنبض بالحياة وإن الغابة تبعث إليك بالرهبة التي توشك أن تكون رعبًا.

وأما اللوحة الأخرى فخليقة بأن تقف القلوب في الصدور وتبعث بالانقباض والضيق «جزيرة الموت»، ما هي إلا قطعة من شاطئ بحر مهجور وجدار متهدم حوله أشجار السرو وفي وسط الجزيرة قبر متهدم. هذه جزيرة الموت رآها بوكلين هي أيضًا، وتأثر بها ورسمها وليس فيها كائن حي لسبب بسيط صحيح وهو أنها جزيرة الموت.

أليس عجيبًا أن يجمع هذا المصور بين الحياة الضاحكة المتحركة المرحة الصاخبة في بنات الماء، وبين الألوان الزاهية الزاهرة حتى كاد لون البحر في الرسم يفوق لون البحر في البحر، ولا عجب فإن الشيء من معدنه لا يستغرب، والفضل فيه للعبقري؛ لأنك لو أخرجت طنًّا من لون «إلترامارين» وكدسته ولم تمر به ريشة بوكلين لما كان يزيد قدره عنه ثمنه بالفرنك أو المارك أو الدرهم والدينار.

ولكن نظرة العين وحركة اليد وعقل الرجل جعلت اللوحة أغلى من البحر. هذا استطراد لم يكن له موضع. ولا سيما وأن بوكلين ألماني حديث (القرن التاسع عشر)، وأنا بصدد أساتذة الفن في القديم لا الحديث، وإنما هو من وحي فيرنزه وقد دلتني عليه أوجستا وصحبتني فحججنا إليه.

ترى ماذا يحتاج الرجل الحديث في ثقافته؟ الرقص والموسيقى والأدب والفنون الجميلة وآداب المجتمع والأناقة في الثياب وممارسة الألعاب ورياضة البدن وسعة الاطلاع وكثرة الأسفار والإلمام بالأخبار، ومعرفة اللغات وحسن المحاضرة وإتقان فن الحديث ومغازلة النساء وإحسان فهم الأعمال، والوقوف على حيل الرجال ومعرفة أخلاق الناس والاحتفاظ بالأصدقاء وعلم السلاح، واتقاء الأعداء تارة بالحيلة وطورًا بالقوة وتدبير المعاش وموازنة المال وتذكر مواعيد المواسم والأعياد ومواليد الأقارب والأحباب ومشاركة القوم في أفراحهم وأتراحهم … كل هذه وغيرها بعد أن يكون وارثًا مالًا أو متعلمًا فنًّا أو متقنًا حرفة تكسبه القوت والكساء، وتقوم بأوده وأود ذويه وفي كسبه حق معلوم للسائل والمحروم، ثم لا بد أن يكون له جانب مع إله يعبده في أوقات عبادته واحترام لسادته وتوقير لأساتذته وشفقة على الضعفاء والمرضى.

ترى هل يستطيع إنسان أن يقوم بكل واجبه … بعض واجبه فتصبح الحياة رقًّا وعبودية … نسيت الحب والزواج والعدل في معاملة النساء والعفة والإباء، الرحمة يا رباه!

٧

بيت ماكياڤيللي

كانت حياتنا في فيرنزه منظمة مرتبة وخططنا معدة ممهدة.

في الصباح نقصد إلى معهد من معاهد العلم أو متحف من المتاحف لزيارة أثر من الآثار المشهورة له علاقة بدراستنا في الأدب أو التاريخ أو الفنون.

ومن هذه الآثار التي زرناها بشغف عظيم بيت مكيافيلي وهو ما يزال قائمًا في شارع جويتشارديني كما كان أثناء حياة صاحبه، وقد تتبعنا خطواته وتقلباته وتطور حياته، وقرأت أثناء تلك الفترة كتابًا عظيمًا وهو تاريخ الجمهوريات الإيطالية تأليف سيسموندي وإلى جانبه جزءًا من تاريخ جويتشارديني وهو وزير فيورنتيني (نسبة إيطالية إلى فيرنزه)، وشهدنا تمثال مكيافيلي في متحف أوفيتشي وزرنا قبر مكيافيلي في كنيسة سانتا ماريا نوڤيلا، وقد لحقه بعض البلى والتهدم ولكنه اسمه مكتوب عليه بوضوح وكذلك تاريخ مولده وتاريخ وفاته.

وكانت الأصبحة رائعة واضحة تغري بالطعام الشهي ورياضة البدن وسرعة الحركة وكثرتها وتبرئ الأجسام من علتها، وكانت أوجستا امرأة صبوحة ذات نشاط ودربة تبكر في يقظتها وتبادر إلى أداء ما يقتضيه الوقت والرغبة فهي مؤاتية، ففي هذا اليوم بكرنا كعادتنا وكانت السيدة المحبوبة تنسجم وتندمج في حياتي بقدرة فائقة، ولا يوجد في العالم امرأة مطيعة مهاودة مسالمة كالمرأة المحبة. وكانت هذه المرأة منسجمة في رزانة وتؤدة وتخفي اشتعالها بالباطن، ولكنها كانت تضيء وتبدو حرارتها ونورها في وجهها ومشيتها وقضاء حاجاتي كأنها أداة موسيقية طيعة، وكأنها كبتت إرادتها وقد عاودها جمال الشباب الأول كأنها عذراء مفتونة فبدت جميلة كثيرة الحركة تعمل أعمال البيت وكأنها ترقص أو تغني، فكان اهتمامها بطلبي كأنها صورة ثانية مني تلبي بل تتنبأ بما أريد، وقد أعدت كل ما تظن أنه ينفعني في زيارة آثار مكيافيلي وتصحبني في حماسة العالم والدليل المتنور وقد جمعت ما استطاعت من الكتب عن مكيافيلي من المكتبة العامة، واشترينا من الكتب مما له علاقة بتاريخ الرجل وعصره من الكتب والرسائل والصور وكذلك عن ساڤونارولا.

وفي فيرنزه أستاذ في الجامعة ألف كتبًا ضخمة عن عظمائها باللغة الإيطالية وكتبه مترجمة إلى الإنجليزية لتنوير الزائرين من الإنجليز والأمريكان، حتى وجدنا الجو التاريخي وكنا نشتم عبقه كأننا نعيش في زمنه، وترى هذه الفكرة مجسمة فيما كتبته في مقدمة كتاب الأمير وقد أهديتها مطبوعة إلى أوجست فيليبوفنا رمزًا إلى اسمها واعترافًا بفضلها عليّ في تلك الفترة وكان هذا عدلًا وواجبًا علي.

وكنا أثناء تلك الجولات الصباحية كأننا محمولين على أجنحة الملائكة وكأننا عروسان في شهر العسل، حتى إذا جاء المساء كنا كأننا في حفلة زفاف وكل الجدال والأدب وأشخاص التاريخ والفنون مدعوون لدينا يقيمون أفراحنا، ولم يكن معنا أحد من بني آدم غير أشباح الخيال والذكريات والكتب ومناظر المدينة، ولكن هذه الأشباح والأخيلة تتجسد بقوة الحب وبالشوق للمعرفة. وكانت هي تقرأ لنفسها وتكتب وقد تضاعف نشاطها ونمت حيويتها وازدهرت وقالت: إن هذه أسعد أيام حياتها وأهنأ لياليها، وكنا ننام قليلًا جدًّا ولكن مهما قلت ساعات النوم فهي تكفينا للحيوية التي تسري في أبداننا سريان الكهرباء في الأسلاك، فتصير نورًا وحرارة وقوة.

وقد فهمت كيف أن الحب والوفاء والشوق إلى المعرفة تضاعف حياة الإنسان وكيف يكون الجمال، جمال الطبيعة والفنون يضيف عمرًا إلى عمر الإنسان ولعل هذا أحد معاني البركة في الحياة، وأساس كل هذه الأشياء والقوى، الحب وهو أكسير الحياة وليس حب المرأة إلا صورة منها، وعرفت كيف يمكن ازدراء الشهوة البدنية حتى في مقتبل الشباب؛ لأن هذه الشهوة أو الحب الجنسي رغبة عند الجهلاء والأفدام لإكمال المتعة وشعور غامض برغبة التملك، وكانت لدينا شهوات روحية وعقلية كثيرة جدًّا، وقد أردت بتدوين هذه العبارة لأقول: إن كل ما يذكره المحبون عن الهوى العذري أو الهوى الأفلاطوني صحيح، بشرط أن يكون الحب الروحي مستندًا إلى رغبات عقلية تستغرق القوة ولا تؤذي شخص المحب، ويرجع الفضل في هذا إلى اعتدال مزاج المرأة وضعف حيوانيتها لا حيويتها، وأقرر أيضا أنه لا يمكن لرجل أن ينتج أو يفلح أو ينتصر بغير حب وبغير رعاية امرأة محبة، وإني أرثي لفاقدي الرجولة من أرباب المواهب بل أعتقد أنه لا موهبة بغير ذكورة، وما دام الرجل والمرأة واثقين من الاستجابة عند الاضطرار فالحياة مجيبة، وكذلك النمو والعظمة والفوز، ولكن إذا فقد هذا الشرط فلا أظن أن الأمور تستقيم أبدًا.

وذهبنا إلى المكتبة العامة فأعانتني على قراءة القوائم (كتالوج)، وأخرجنا منها الكتب الخاصة ببحوثنا وأهمها عن النهضة «رنيسانس» وتاريخ الفنون وتراجم مكيافيلي وساڤونا رولا، ومن أهم الكتب ما ألفه بروكهارت وسيموندز وهو بالإنجليزية في ثلاثة مجلدات.

بطيخة

وبينما كنا نسير ليلة في الميدان الكبير الموصل إلى منزلنا رأينا نورًا قويًّا وحوله أمة من الناس فقصدنا إليهما وحسبنا أن خطيبًا يخطب أو ممثلًا أو سامرًا حول مهرج باهر أو حاو حاذق. فلما وصلنا كانت دهشتنا عظيمة إذ رأينا قزمًا صغيرًا يتحكم في الجمهور وبين يديه بطيخة ضخمة أطول منه وأعظم وهو يبيع منها بالكيلو في أوراق شفافة، وقد جعل ثمن الكيلو فرنكين (ليرتان) فاشترينا وحملنا، فإذا بالبطيخة مثلوجة وإذا بقشرتها الخضراء رقيقة جدًّا ولتلك الفاكهة لحم متماسك وخفة وحلاوة شديدة ومشبعة، فلم نستطع أكل كل ما اشترينا ولم نزهد في بقيته فأبقيناه إلى الغداة فإذا البطيخة لم تفقد شيئًا من جفافها وخفتها وحلاوتها وتماسكها، وكأنها مقطوعة لساعتها وإن يكن أثر الثلج قد زال منها، فأكلناها بشهية عظيمة، ثم تعودنا في كل مساء أن نعرج في رواحنا على صاحبنا القزم، وكان دقيق الوجه واليدين حاذق القطع بالسكين في تلك البطيخة الضخمة الفخمة التي تشبه صورة مصغرة للكرة الأرضية (مايموند) ولم أر مثلها في باقي حياتي، وإنما رأيت ما يقرب منها في العريش، وأضخم ما رأيت في الأرياف لا يزيد عن ربعها.

وكانت أوجستا تحب الفاكهة فتجوس خلال الأسواق، وتشتري ما يروقها ومن ذلك الخوخ والبرقوق، وأسواق الفاكهة في إيطاليا تقوم على المساومة، ويدخلها الغش والغبن في معاملة الأجانب وفي بعض الباعة غلظة وجفاء طبع إلا القصاب الذي رتبناه، فكان له حانوت من أجمل وأنظم ما رأيت في مدن العالم فهو أشبه بهيكل مقدس؛ لأن له مدخلًا فخمًا مزينًا بالمرايا والمرمر وفي صدر الحانوت منصة عالية من المرمر والخشب الثمين، وأمامه عدد من الموازين اللامعة وقد صفت قطع اللحم وهي مرصوصة كالجواهر المرصّعة من كل جزء من الأنعام، وعلى أنصبة معينة للمفرد والمثنى والجمع من الطاعمين وبأثمان محددة، ثم إنك لا ترى زحمةً ولا دمًا ولا ذبابًا ولا قططًا ولا كلابًا ولا رمادًا ولا ترابًا، وكنت لا آكل اللحم ولكن أوجستا تأكله وتشرب النبيذ، ولم أشأ أن أستغويها للإقلال من أحدهما؛ لأنني أعرف أن أهل روسيا يغادرون بلادهم وفيهم ضعف موروث وميل للتغذية للتدفئة، وما دامت تعد لي طعامًا لا يدخله اللحم ولا تعرض عليّ بنت العناقيد فلا معنى للاعتراض عليها.

ساڤونارولا

وفي يوم ثان زرنا دير الدومينيك وهو الدير الذي نشأ فيه جيورولومو ساڤونارولا وله تاريخ حافل، وقد أصبح الدير كله متحفًا لهذا الرجل العظيم الشهيد الذي ضُحي به وحوكم وصلب وأحرق، لا كتبه وحدها بل جسمه وذُري رفاته في النهر. وكل ذنبه أنه عندما استشرى الشر في المدينة أراد أن يدعوها إلى الخير والاستقامة، وحاول أن يحكمها حكمًا دينيًّا فيه حزم وشدة ولولا مخالفته كنيسة روما وحملته عليها ما تعرضوا له؛ لأن الكنيسة تساعد الحكام الأقوياء ولو كانوا ظالمين بشرط مشاركتهم في استغلال الأمم، ولم يكن ساڤونا رولا ممن يحذقون فن الاستغلال بل كان ثائرًا على كل المظالم ولم يكن لبقًا ولا مداورًا فلقي حتفه جزاء إخلاصه واستقامته، وفي الدير آثاره وصومعته وفراشه وكتبه ومخطوطاته وتصاويره ومحابره وأقلامه، وكان شخصية جذابة وإنْ يكن على نصيب وافر من الدمامة، وقد كان لهذا الرجل أثر في نفسي وكتبت عنه رسالة وافية سلبها الإنجليز فيما سلبوا من مخطوطاتي في تفتيش منزلي في مصر سنة ١٩١٦ (وهو ما كان أدباء العرب يسمونه كبسة، كما حدث لولدي موسى بن شاكر في بغداد، فأخذوا كتبهم ومخطوطاتهم، وهذا عمل الشرطة في عهود الظلم).

وكان لساڤونا رولا في نفسي أثر آخر وهو أنني لما اطلعت على حياة الإمام حسين بن منصور الحلاج وسجنه وصلبه وإحراق أوصاله في بغداد سنة ٣٠٩ ﻫ (٩٢٢م) — قارنت بينهما، مع أن أوروبا كانت في قرونها الوسطى وكانت بغداد في عصرها الذهبي، ولكن المعقولية كانت واحدة، وقد حملني التحمس أنني نقشت صورة لساڤونا رولا أثناء إقامتي في فيرنزه كما رسمت صورة لأوجستا في ليلة بهيجة، وقلت لها: إن جو البلد يجعل من البليد فطنًا ومن العيي فصيحًا، وممن لا يرسم خطًّا مصورًا ماهرًا، وقد أعجبتها الصورة وهي ما تزال محفوظة بين أوراقي بتاريخها.

بين فلورنسا ونابلي وروما

فيرنزه مدينة نابغة عاشقة ونابولي مدينة مستهترة فاسقة وروما مدينة خالدة منافقة، وقد عشت في المدن الثلاث ورأيت أكثر من عشرين ألف أثر فني بين تماثيل منحوته ولوحات منقوشة، فوجدت في متحف الآثار اليونانية الرومانية بنابولي تيْسًا يلوط بجدي وفي بومپئ مناظر فحش ودعارة من تماثيل وصور، وقد وضعوها في خزانات خشبية لا ليصونوا أعين النظارة منها أو خوفًا على عفة العذارى، ولكن ليتقاضوا عليها أجرًا، وفي روما علمت أمورًا يحمر لها وجه الشيخ الأشيب والعجوز الشمطاء فضلًا عن الفتى الأمرد والعذراء، وهذه كلها من أسرار الأديرة وبعض رجال الدين.

أما في فيرنزه فلم أر شيئًا من هذا لا في الآثار ولا في الحياة اليومية؛ لأنها مدينة حماها الله من العيب في أدبها وفنونها، فلا تقع العين منها على ما يؤذي النظر أو يخدش الذهن النظيف، وفي زيارة عابرة لمتحف الفنون الحديثة رأينا في ركن مهمل مظلم تمثالًا صغيرًا من حجر الكلس الأحمر، وهو يشبه التيراكوتا Terracotta (الطين المحترق) من صنع ميكيل أنجلو (ولعله صنعه في لحظة مرح أو مزاح) يمثل ليديا، وهي إحدى بنات الأساطير القديمة قيل: إنها كانت ترقد ليضاجعها فرخ أوز عوّام Cygne. ولهذا الطير أثر في الآداب، فقد اتخذه فاجنر في أوبرا لوهنجرين وجعله قائدًا للزورق السحري الذي نقله من مكان إلى مكان.

فلا عجب إذا فكّر فنان أن هذا الطير العجيب (وهو على كل حال أقل غرابة من العنقاء) في أن يجعل فرخ الأوز ذكرًا تشتهيه امرأة (ليديا)، وترقد وترفع ساقيها ويغطيها بجناحيه ويضع منقاره في فمها، وأن تغمض عينيها من فرط اللذة. هذا هو تمثال «ليديا والطير» وهو ما لم نر سواه في فيرنزه مما يجرح شعور العفة، مع أن الجمال والفن يستبيحان كل شيء.

وناهيك بقصص بوكاتشيو وعددها مائة مكتوبة في فيرنزه وكلها مجون ولهو ولعب. ولكن ما قيمة القصص البيكاتشي حيال ما كتبه الآخرون في الشرق والغرب. وإن حب دانتي وبياتريس لخليق بأن يرفع قدر الأمة التي أنتجته إلى درجة القداسة، وفي فيرنزه تماثيل وتصاوير متعددة لدانتي وبياتريس بعضها واقعي وبعضها رمزي، وأجملها صورة لقائمها عند الجسر العتيق على نهر الأرنو، وقد ذهبنا لعبور هذا الجسر، ونشهد موضع اللقاء لننشق عبق التاريخ، وقادتنا أقدامنا إلى سلسلة من الحوانيت القديمة الباقية في مكانها منذ قرون وهي في مجموعها سوق الزخارف والتحف والألطاف والطراز والجواهر والمعادن النفيسة (أشبه الأسواق بخان الخليلي)، فدخلناها وقلبنا أجفاننا في بضائعها الثمينة واشترينا منها ما قدرنا عليه لا ما كنا في حاجة إليه، واتخذنا من بعضها ما يوصف بأنه تذكار ومن ذلك قطعة من الدنتلا تصلح غلالة لثوب السيدة. وهذه الدنتلا عمل دقيق بحجم الثنايا، وأفخر ما تكون في بلجيكا ومدينة ليل وفي فيرنزه، ويسر كل مشتر أو متفرج أن يرى وجهًا باشًّا هاشًّا ولسانًا عذبًا وصبرًا طويلًا وثمنًا معتدلًا وتحية وشكرًا سواء أتشتري أم لا تشتري وتنظر في وجه كل تاجر أو صائغ، فتجد معنى يدل على النعومة والرقة والعراقة وحسن الأدب.

ولكل بلد أساطير قديمة وحديثة ولفيرنزه أساطير كثيرة، وقد رأينا كتابًا يسجل واحدة منها وهي قصة العشق التي وقعت بين أميرة بلجيكية وموسيقى من أهل البلد، حتى إنها تخلت عن حقوقها الملكية وعصت أوامر والدها (ليوبولد الأول)، وهجرت قصورها وأهلها لتعيش في كنف الموسيقار الفيورنتيني، وقد قنعت بأنغام الڤيولون واستغنت بها عن موسيقى الجيوش البلجيكية، ولا سيما إذا كان معشوقها يطربها في ضوء القمر وقد عاشا في هذا البلد.

قرية فيزوليه

وقد صعدنا يومًا إلى فيزوليه وهي القرية بل الدرة التي تتوج البلد وتزيد زينته، وتبدو من الوادي باقة خضراء كالزمردة فإذا وصلنا إليها تكشفت لنا فيرنزه بمبانيها وقبابها وكامپانبل وهي أشبه بالمآذن، وللمباني بريق ذهبي وقت الشفق كأنها لوحة من صنع أمهر الفنانين وأحذقهم، وأبرعهم في مزج الألوان وتوقيتها، ثم يبدو نهر الأرنو وهو ينساب كالحية الرقطاء بين الأعشاب، ولكنها حية أليفة لا تنفث سمًّا ولا تريم ولا تبطش، ولا حفيف لها إلا حفيف أوراق الشجر التي تحيط بها.

ولم أنس جمال هذا المنظر طول حياتي ولعله من المناظر التي ادخرتها العناية لجنة الفردوس وقد أطلعت الإنسان على طرف منه تشويقًا وترغيبًا، وإنه لمنظر يتبدل ويتغير في كل وقت من أوقات النهار والليل بحسب انتقال الظلال وازدياد الأنوار ونقصها، وبحسب نور الشمس عند الشروق وفي الضحى وعند الطفل ثم قبيل الغروب، وكذلك في ضوء القمر الفضي، وفي الظلام الحالك لا تشعر وأنت في فيرنزه فيزوليه برهبة أو خوف ولا تتوقع خطرًا يداهمك أو أشرارًا يكمنون لك، فهذه المدينة وضاحيتها المتبوّئة عرش الجمال والسلام والأمن والاطمئنان كتبت السعادة لأهلها وأضيافها وحرستها العناية في نومها وصحوها. وعندما كنا في فيرنزه رأينا راهبًا يدعونا لزيارة كنيسة فيها آثار من القرن الثالث عشر (تريشنتي)، فضحكت أوجستا واعتذرنا له وقالت لي همسًا: إنه هو لا الآثار من القرن الثالث عشر.

قصور فلورنسا

ولم أقبل أن نقصر غدونا ورواحنا ونحن نسرح ونمرح على الأحياء الفخمة العريقة الآهلة بالقصور العظيمة، بل أردت أن نزور كل شارع وكل خط وزقاق وعطفة لأشرب روح البلد وأتشبع بها وأجعل خمرتها تشيع في أوصالي حتى تسكرني، وأطيل النظر في كل شيء وأستوعبه، ولم أعجب عجبي لهذه القصور الضخمة التي يرجع بناؤها إلى بضعة قرون، وهي ما زالت فاخرة باهرة ثم إنك لا تشعر ضخامتها، ولكنك ترى ظرفها ورقة تخطيطها ومهارة مهندسيها، والسر في الانسجام ومراعاة النسبة وإتقان الأوضاع والجمع بين السعة والضيق والنور والظل وما يفعل ذلك في فكرنا من أثر الاستحسان واللذة، ومهما أقل عن جمال بلازوڤكيو أو القصر العتيق الذي كان مقر الحكم في القرون الماضية، وأصبح اليوم متحفًا يضم بين جوانحه أغلى وأثمن وأجمل التحف والألطاف من معادن نفيسة وطراز ثمين وتماثيل ولوحات وآثار خالدة على وجه الدهر، ويعد هذا القصر ومتحف أوفيتشي وقصر بيتي من أعظم وأجمل آثار الدنيا وأفخر كنوزها.

وإننا ونحن نطأ أرض القصر ونرقى درجات سلالمه ونجوس خلال قاعاته، ونمتع النفوس بالنظر إلى جدرانه ونستنشق عبق التاريخ وحكمة القرون وجمال الفنون، يملأ قلوبنا وصدورنا، جو نسمات من الحب والإعجاب والدهشة، ونشعر بأن هذه الخطوات التي نخطوها تعد من أسعد خطوات الحياة في أرض مقدسة، هنا يتلاشى ذكر الأقزام والظالمين والملوك الطامعين وتنطفئ الأضواء الضئيلة الخافتة التي أشعلتها أيدي الطغيان ليوم وليلة، وتبدو لأعيننا الأنوار الباقية الباهرة التي تنير الأماكن وتضيئها وتلقي أشعتها القوية على وجوه العظماء والجميلات والحكماء والفاتنات التي حليت بها تلك الغرف السعيدة.

كانت أوجستا تسير بجانبي وقد تتقدمني وقد تتأخر عني وكأنها طفلة غريرة تسير للمرة الأولى في وسط غابة في فصل الربيع، وتمتع نفسها بالهواء والأزهار والأنهار والأشجار الباسقة، وهي مأخوذة ومسحورة وعلى وجهها المتألق نظرة البراءة والفرح والدهشة مع أن هذه لم تكن رؤيتها الأولى لتلك العجائب، ولكن في كل مرة يقع بصرها عليها تنفعل نفسها وينشرح صدرها وتجري في عروقها دماء قوية مندفعة بالحياة والحب، فكانت هي نفسها تحفة متحركة تشاركني في الإعجاب والفتنة بتلك التحف المعلقة أو المسندة، وهي في نظرها كائنات حية؛ لأنها تحمل رسالة العباقرة وأجزاء من مواهبهم وأشعة من أنوارهم؛ ولذا كنا نسير في صمت عميق كأننا في موكب الملائكة، وإذا تكلمنا يكون همسًا مع أن الكلام بصوت مرتفع مباح بل محبوب في المتاحف، ولكننا كنا نشعر أننا في أماكن مقدسة، في معابد وهياكل تقوم على حراستها العناية الإلهية؛ لأنها معابد الجمال والحق والفضيلة. هنا ألوان ثروة لا تحصى من الألوان. هنا مهارة وحذق على مدى الأجيال. هنا أفكار وعواطف ومحاولات من الروح للتعبير عن انفعالها في كل أحوال النفس. هنا تنطق الأيدي بدلًا من الألسنة وتنظر الأعين عوضًا عن الآذان، ولكنا نشعر بأن كل الحواس تشترك في هذه المتعة، العين والأذن والعقل والقلب، حتى إن اللمس نفسه يحاول أن يشارك بقية الأعضاء في الشعور؛ ولذا وضعوا أوراقًا مكتوبة تنهى الزائرين عن اللمس، ولكن كثيرين من النظارة كانوا على حين غفلة من الأحراس يمدون أناملهم؛ ليستمتعوا بلمس بعض التماثيل كما فعلت أنا في التحسيس على جسم ڤينوس وعلى ركبة موسى الكليم كلما وقع بصري على تمثالهما.

وكانت أوجستا في غاية الحكمة وحسن الذوق، فلم نكن نزور أكثر من متحف واحد في اليوم، ثم لا نستنفد آثارها في يوم بل نبقي ونستبقي كأنا نحسو خمرة معتقة ونتذوق فاكهة نادرة فلا نسرف، ونترك الوقت الكافي لما نشرب لنستوعبه وليشيع في أوصالنا وليفعل أثره، ولنشهد أثره في حياتنا اليومية وفي حركة عقولنا وروحنا.

ليس هذا الكتاب قصة ولا سردًا للتحف ولكنه تسجيل للأحاسيس والمشاعر والعواطف في فترة قصيرة، ولكنها من أكثر الفترات سعادة بل لعلها أسعدها في تلك الأيام وكل ما سبقها ومعظم ما لحقها.

تمثال النبي داوود

وكنا رأينا آثار ميكل أنجلو المحفوظة في فلورنس ولم يبق لنا إلا تمثال داود النبي، وهو موضوع في ميدان خاص به خارج المدينة وللميدان اسم بياتزالا (تصغير بياتزا) وهو على ربوة خضراء محاطة بالأزهار والأشجار.

وقد حدث في هذا اليوم العجيب أننا خرجنا عصرًا لزيارة ذلك التمثال الفريد؛ لأنه بجانب جماله وشهرته له قصة، فإن ميكل أنجلو بعد عودته من روما عثر في الطريق على قطعة ضخمة من المرمر مهملة ومنسية، فطلب إذنًا من المجلس البلدي أن يهبه إياها، ففرض عليه المجلس أن ينحت عليها تمثالًا؛ لأن غيره من النحاتين عجز عن الانتفاع بها وقد كلفت المدينة نفقة في قطعها ونقلها وضربت له موعدًا، فنقلها إلى مصنعه وفصّل منها تمثال داڤيد صبيًّا يتدرب على رمي الحجارة بالمقلاع. وواصل العمل ليلًا ونهارًا ليفي بوعده وكان موضوع التمثال يلهب عقله وجسده حتى كَلَّ بصره، ولم تضعف رغبته ولم تكل ذراعاه، فكان إذا أقبل الظلام ربط على جبينه مصباحًا معدنيًّا ثقيلًا؛ لأن الضوء لم يكن كافيًا فأعان عينيه بأعينٍ صناعية.

في هذا النهار لم ننس نقودنا ولكن لم يكن في بيتنا ولا في بنكنا ولا في خزانتنا ولا جيوبنا فلس واحد (صلدي)، فلما بلغنا سفح الربوة رأينا بيننا وبينها جسرًا على نهر الأرنو، وعلى الجسر شرطي والشرطي جابٍ يحصل على العبور نقودًا قدرها عن الشخص الواحد خمسة صلدي. فلما بلغنا الشرطي ظننا أنه واقف للحراسة ولم يخطر ببالنا أنه يجمع المال، فتظاهرنا بالبحث في جيوبنا ثم اعتذرنا له بلغته أن ليس معنا نقود.

فدهش الرجل وقال: «نينتي صلدي! باستو! «ليس عندكما دوانيق».

قلنا: إننا غريبان ها هنا.

قال: نينتي صلدي إيه أنكورا فوريستيري. لا نقود معكما وأنتما غريبان! وارتسمت على وجهه دهشة. فعبرنا قبل أن يفيق من دهشته ونحن نضحك؛ لأننا كنا في زمن لا نعرف فيه كيف نحمل الهم وإن كنا لا نحمل النقود، فلما صعدنا رأينا منظرًا عجبًا فإن عبقرية ميكل أنجلو كلها ظهرت في هذا التمثال، داود واقف على قدم واحدة، صبي جميل فاتن عاري البدن وهو يطوح بيده الحجر بالمقلاع، وقد تمكن المثال من إبراز عناصر الجمال في ذلك الجسم الفتي الجمال في الحركة، فكان أستاذ رودان الذي أظهر الحركة في الحجر بتمثال «الرجل الذي يمشي».

ووجه العجب أن السكون من خصائص الحجر، فإذا وفِّق المثال لإظهار الحركة في الحجر كان ذلك إعجازًا، فإذا لم نلتمس الحركة عند صانع موسى فأين نلتمسها؟

وقد أطلنا الجلوس والوقوف والدوران حول التمثال حتى أشبعنا نفسنا بالجمال والإعجاب والعبرة، وأثنينا على المهندس الفنان اللبق الذي اختار هذه البقعة النادرة لتزدان بداود. وبقينا إلى أن بزغ القمر وألقى أشعته على المرمر وفي ضوء القمر كنا نرى وجه النبي وصدره وعضلات ذراعيه وساقيه وجمال قامته الممشوقة ووجهه الحلو، ثم طفنا به طواف الوداع ونحن نمنِّي النفس بالعودة إليه ونحن نخشى أن تكون الأولى والأخيرة.

وأثناء عودتنا سردت عليّ أوجستا تاريخ داود ومزاميره وحكمته وحبه النساء وشجاعته في الحرب وصناعة الزرد والدروع، فقلت لها مداعبًا: «من يسمعك يحسبك حبرًا من أحبار بني إسرائيل في ثوب امرأة»، فحدجتني بنظرة قاسية وتغير لونها ثم ملكت نفسها ولها سيطرة عظيمة عليها، ثم قالت باسمة: أليست دراسة التوراة فرضًا على كل أديب؟ وأنت أحق بها وأجدر مني؛ لأن التوراة نزلت في بلادكم.

وعدنا للعبور فلم نلق الشرطي؛ لأن نوبته تنتهي بغروب الشمس فحمدنا الله على أننا لم نتعرض ثانية لوصمتي الاغتراب والإفلاس، ويسرني أن داود وسيرته مسجلان في القرآن الكريم ثم في بعض الشعر العربي:

ألم ينقضّ داود وليدًا
على جالوت في الهيجا شهابا
إذ اخترق الصفوف إليه عدْوًا
وما بالى السيوف ولا الحرابا
ومن يلبس من الإيمان درعًا
فلن يخشى الطعان ولن يهابا
وبالأحجار لا شيء سواها
رمى الجبّار فانكبَّ انكبابا
وألقى الأعزل الشاكي صريعًا
ليلقى من يد الله العقابا

٨

ليلة لا تنسى

عدنا إلى بيتنا في نور القمر ومر بنا الخباز والبقال والبدال والقصاب وبائع اللبن والزبد، وكنا لحسن الحظ نعاملهم مشاهرة، فأحضروا إلينا ما نطلب ولا أتذكر الآن على أي الوقود كانت تطهي أوجستا طعامنا، ولكن أظن أنه كان موقد الفحم للطهي الكبير وشعلة الكحول للصغائر كالشاي والقهوة فطهت عشاءً حسنًا، وبقينا نتناجى في ضوء القمر؛ لأنه كان يغمر الحديقة التي نطلّ عليها ويغمر شوارع البلد ويخلق في النفس فتنة وشعرًا ويوحي بالحب العنيف، مع أن نور القمر فضي هادئ كان يجدر أن يلهم الاطمئنان والسكينة، ولكن أثر القمر على أوجستا كان قويًّا شديدًا ولعل معظم أهل الفنون والأدب يتأثرون أكثر من سواهم بهذا الجرم السمائي العظيم لعلاقة غامضة بين أخلاقهم وبين الماء، فإن الماء يتأثر بالقمر مدًّا وجزرًا وكذلك حب أوجستا كان يتأثر بالقمر.

فكانت ليلة لا تنسى وقد تكون ذكرى داود تركت أثرًا في ذهنها أو جمال النزهة، أو كلمة الشرطي أو مجموع هذه المصادفات كلها. أكلنا أكلًا حسنًا وتحدثنا حديثًا طليًّا ولم نقرأ ولم نكتب وسهرنا ولم تغمض لنا عين.

وزاد النار لهيبًا أن أنغام قيثارة سفلية كانت تصعد إلينا في رفق من تحت الشرفة، فكانت ليلة كاملة حتى ولو لم يكن معنا صلدي.

تاريخ حياة بنڤنتو تشيليني

وأثناء حديثنا تذكرنا أن أول ما وقع عليه بصرنا في فيرنزه كان القصر العتيق وسقيفة لوچيا، ولكننا كنا في كل ضحى وظهر وعصر وغروب نكتشف جمالًا جديدًا وأثرًا لم نره أو كأننا لم نر؛ لأن الجمال يتجدد، وقد ألحت عليّ أوجستا أن تقرأ لي تاريخ حياة بنڤنتو تشيليني بقلمه، وقد بدأت فلم يعجبني أن الرجل مهوش ومختلق، نعم إنه كان مثالًا ومصورًا وكاتبًا أيضًا، ولكن كان فنه أجمل من أدبه، وكانت مغامرات حبه ومخاطرات حياته ومصادفات نجاته من الغرق والحرق والكمين والحقد الدفين ومن جحر الأفاعي المطيبة واللوادغ أكثر مما يصدقه العقل، فألقينا بالكتاب، واكتفينا بالنظر إلى تماثيل الرجل وهي أصدق أنباء من الكتب.

انفراج أزمة مالية

وفي الصباح حدث أمر غريب قد لا يصدق وقد يصح أن يدرج في مغامرات بنڤنتو تشيليني.

كنا مفلسين وننتظر وصول المال هي من موسكو وأنا من مصر. وقد آليت على نفسي أن أرجوها في تحويل نقودها إلى جنيف لتصل إلى يد زينا القيّمة على بوريس، وكان فيما يصل إلى يدي كفاية وفوق الكفاية، وليس لهذا الإعسار الطارئ؛ أي أثر لأن الثقة كانت في تلك السنوات كبيرة جدًّا والناس لا يكترثون للديون، فإذا لم يكن معك اليوم فسوف يرزقك الله غدًا.

وحدث أن وصل إلينا في وقت واحد في الصباح خطابان، وكنا نتسلم بريدنا من المكتب العام، خطاب لها وخطاب لي والخطابان من بنك واحد في فيرنزه «نرجو أن تحضر لأمر يهمك»، فذهبنا معًا وتقدم كل منا لموظف واحد فقال لي: عندنا حوالة بمبلغ كذا باسمك. وصرفها لي ثم نقدني قيمتها، وقبل أن أغادر المكان دعاني مرة ثانية وقال: حوالة أخرى من نفس المصدر ونفس المبلغ ونقدني إياها. وهذا الأمر نفسه حدث لأوجستا صرفت لها حوالتان بمبلغين متعادلين، وخرجنا من المصرف نجر الذيول تيهًا، وإنما يتيه الفتى إن أيسر بعد إعسار، وكان الحب والجمال والربيع في الذروة.

وخرجنا فسددنا ديوننا للتجار والموردين وصاحبة الدار، واشترينا كتبًا وأزهارًا وثيابًا لها وحليًّا وحللًا، وركبنا «كاروسا» بحصان، أي مركبة فرس مفرد، وطفنا الشوارع، وأكلنا في مطعم واكتشفنا مقهى في ساحة الدومو وهي الكاتدرائية الكبرى التي فتنت بعمارتها وألوان مرمرها، وإن كنت أبغض داخلها المظلم المقبض، وفي هذه القهوة النادرة مقاعد مريحة وأضواء هادئة وأوجه سمحة وأدب لقاء رائع وترحيب وصحف ومجلات من كل مكان، فشربنا قهوة لم نتذوق مثلها وكتبنا مكاتيب للذين فرجوا أزمتنا، وكتبت لولدها والقيمة عليه وأرسلت لهما نقودها، وتعاهدنا على أن لا نحرم أنفسنا من هذا المقهى. ثم انتقلنا فاعتذرت إليّ أوجستا وطلبت فسحة من الوقت تقضيها في بعض شئونها على أن نجتمع بعد ساعة أو ساعتين في البيت؛ فدهشت لأنها المرة الأولى التي تريد أن تفارقني باختيارها ولو لساعة واحدة، فتركتها ولم أكن تعودت أن أسير بمفردي في المدينة إلا إذا كنت في المكتبة. فعدت إلى المقهى لأخلوا بنفسي وأستوعب حلاوة الوحدة، أو مرارتها فإنك كثيرًا ما تجد في ذلك لذة، فجلست وطلبت ورقًا وقلمًا ومدادًا كعادتي إذا خلوت بنفسي في مكان عام؛ لأنني لا أحب أن أفكر إلا في البيت والمثوى، أما المقهى فوقت انتظار يحسن أن يشغل بالكتابة. ولكن فيم أكتب في هذه المدينة وقد تمثلت لي كائنًا حيًّا فيه زرقة السماء ونور الشمس وخضرة الحدائق والنهر المتدفق ثم الجمال، جمال الفنون والوجوه والعقول قديمًا وحديثًا، والأرستوقراطية النجيبة وفنون الحكم والتاريخ المجيد والجمهورية والملكية وتناحر الأحزاب وتزاحم الدين والفلسفة بالمناكب والسياسة والدسائس والأدب والفصاحة والشعر والمظالم والمحابس والمحاكمات والصلب والإحراق في سبيل المبادئ، واللهو والطرب والحب والسلوى وسحر الجفون وسحر الكلام والسحر الحلال والحرام، وأخت هارون وتلميذ هاروت وماروت والسموم في العطور، وفي القبلات وفي طي الخطاب وفي فرد القفاز وفي علبة السعوط وفي كأس الخمر، وموطن النوابغ الذين ذكرتهم على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، نوابغ أشدهم تفاهة هو مثال نابغ ومصور ومهندس معمار ومفكر وشاعر ومؤلف ورواية!

وهي مدينة بطبيعتها تدعو إلى المرح والموسيقى والرقص والغناء وأهلها ذواقون في الفنون كذوقهم في الجمال وفي أطايب الطعام؛ لأنهم يلتمسون الفاخر من كل شيء المأكول والمشروب والمشموم والمسموع والمقروء والمكتوب حتى مجلتهم «مارزوكو»، التي تعودنا قراءتها كانت مفخرة بين مجلات أوروبا، لا إيطاليا وحدها.

وكنت طلبت من أوجستا مطلبًا صعبًا وهو أن تقابل معي في النص الإيطالي كتاب الأمير على النصين الإنجليزي والفرنسي؛ لأنني رأيت من الغفلة والجحود أن ينعم الله عليّ بالكتاب الذي أنقله في بلد المؤلف وجوه وبيئته ثم أقصر في هذه المقارنة ومعي سيدة تتقن الإيطالية، وقد بدأت منذ عام أقرأ ملحمة دانتي، والمدينة النابضة بالحياة والأزياء والأزهار والأنغام تدعوني، ولكن العقل يربطني ويسحرني في هذا المقهى وأنا على قيد خطوات من الحركة، ولم أتعب ولم أمل ولكنني شعرت بنقص في شخصي لغيبة المرأة التي تعودت أن أسمع صوتها، وأنظر إلى عينيها وأتبع خفقات قلبها، وكنت أحسب أنني سأشعر بالقوة في غيبتها، فخططت بضع صفحات تصلح رءوس أقلام لما أحب أن أسهب فيه. فتناولت مجلات مصورة ونظرت فيها كمن يعيش في رؤيا.

وفي ختام الساعتين نهضت وكان الحر شديدًا والشقة بين الدومو والدار بعيدة، فاتخذت مركبة (كاروسا) فبلغت البيت بعد دقائق، وأثناء الطريق نظرت إلى موقف القزم بائع البطيخ فوجدته جالسًا تحت مظلة ضخمة، ولكن الزحمة حوله أقل منها في الليل، فترجلت وقصدت إليه واشتريت نصيبًا وافرًا من تلك الفاكهة اللذيذة التي تذكرني بوطني.

ولما وصلت الدار ودخلت وجدت أوجستا تخلع ثيابها وتضع أحمالها التي عادت بها من المدينة وهي فواكه وأسماك طازجة وثوبًا مطرزًا، ثم اعترضت على تسرعي في الحضور؛ لأنها ستنهمك في إعداد غداء شهي من السمك والمكرونة فقلت لها: «لقد علمتني النهم في الطعام» قالت: لا بأس فأنت في عطلة قلت لها: أي عطلة هذه؟! وأعدَّت الطعام وتغدينا واضطجعنا لنقيل في الظهيرة.

هدية كتب

وسألتها عن سبب غيبتها عني فقالت: أحببت أشياء تحبها أنت وأحببت أن أنتقي لك هدية. أما الذي أحبه ففواكه وأما الذي أهدته إليّ فكتب وتصاوير. أما الكتب فسلسلة أساتذة الفن الإيطالي ميكل أنجلو وجيوتو وڤيريكيو وبوتشيلي وليونارد وتيسيان وڤيلپولپبي. أما التصاوير فهي مجموعة مصغرة لأجمل اللوحات بألوانها ثم للتماثيل التي أحببتها، وقد كتبت على كل كتاب عبارة إهداء خاصة، وأحب أن أسجل بعض ما كتبت تدليلًا على عقلها وأدبها:

إلى واحد من الصفوة إلى روح منفرد في غمار الزحمة مرغم على الكفاح والجهاد القاسي بقلب رقيق وحس مرهف، إلى حالم قادم إلينا من بلد ناء ذكرى لأيام قضيناها معًا في فيرنزه في صيف سنة ١٩١٠.

وليس في هذا الإهداء وما يماثله في بقية الكتب مديح أو ثناء، وإلا لما سمحتُ لنفسي بتدوينه ونقله لولا كلمة «الصفوة» التي فلتت من قلمها، أما كوني روح منفرد في غمار الزحمة الإنسانية فصحيح ومن الحظ الحسن.

إن هذه الزحمة ليست قطعانًا بل بشرًا وبعضهم قد يكونون ملائكة وأرواحًا راقية ورجالًا كرامًا ونساء خليقات بالحب والتقدير، وأما أنني حالم فصحيح أيضًا؛ لأن كل مشغول بالمثل العليا هو حالم حقًّا ويتبع حظه خطة الأقدار، ولست مرغمًا على الكفاح والجهاد بل خيل إليها وما أنا إلا راغب في الكفاح وبدون الرغبة لا يتم شيء مطلقًا، ولكن قد يبدو أنني مرغم، ولو كنت هاويًا لكانت حياة الرجل مهزلة. وأي كفاح وأي جهاد في حياتي شهدتْ هذه المرأة الطيبة المسكينة الرقيقة الشعور الشديدة الشفقة؟ وقد افترقنا بعد ذلك بسنتين وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، فماذا كانت تقول لو كتبت لها الأقدار أن تصحبني عشر سنوات على الأقل بعد ذلك أو عشرين أو ثلاثين، لا شك أنها لم تكن تتحمل ولا تستطيع أن تسايرني في الدنيا لنعومتها واستعدادها لسهولة العطب أو سرعته. ولكن هذا هو الفرق الجوهري بين الأرستوقراطية الأوروبية التي تمثلها سواء في العقل أو في الحال حيال الديمقراطية الشرقية الخشنة، فلقد بدا لمحبوبتي استذكار دروسي وكتابتي للصحف واجتهادي في اجتماع المؤتمرات، ودخولي الامتحانات وانتظاري الرزق في بلد غريب، أنني مرهق وأنني أستدر الحنان والشفقة، وكانت جد مخطئة ولكن عن حسن قصد وشفقة، فقد علمت عني شيئًا وخفيت عنها أشياء، فقد كان وما زال وسوف يكون بإذن الله الكفاح والجهاد والمصابرة عناصر حياتي التي لا أعيش بدونها والهواء الذي أتنفسه والمجال الحيوي الذي أعيش فيه وبه وله، وأنه لا يخفى عليّ شيء من مصاعب الدنيا ومصائب الحياة وخصوصًا إذا أراد الإنسان أن يتحرى الحق جهده، وأن الكفاح وحب الحق والسعي جهدي إلى التشبه بأهل الفضل غايتي التي أسعى إليها، ولكن أوجستا الرحيمة أشفقت على شبابي ولعلها حسبت لبعض النعومة في خلقي وحب الترف أنني كنت خليقًا بأن أعيش عيشة المترفين المعتمدين على ما ورثوا من آبائهم وأجدادهم، ولعلها كانت ترى أن في مثل هذه الخطة لو سلكت الأقدار معي ضمانًا مؤكدًا لدوام علاقتنا وحبنا وراحة بالنا، وعلى كل حال فهذه نزعة يهودية رأسمالية لم أكن أحب أن ألمحها في صاحبتي.

تناقض في الأخلاق

ولكنني انطويت على نفسي؛ لأنه لا شك كنا في كثير من الأخلاق على طرفي نقيض، ولعل هذا التناقض كان سببًا في توثيق مودتنا، فقد كنت ثائرًا على المظالم في وطني وفي كل الأوطان، وكانت هي ممن يركنون إلى الحكم القيصري ويستندون إلى أعوانه وكنت أنا ممن يبغضون المال لذاته وكانت هي ممن يعتزون بالثروة الثابتة والمنقولة، وكانت هي ميَّالة للنكتة التي تبدأ بالمزاح وتنتهي بالاستهتار والازدراء اللاذعين، وكنت أنا أميل إلى الجد والشفقة على الضعفاء وأنأى بجانبي عن الشماتة وتحقير الضعيف، وكنت أحب الحياة وأتحملها وأرى المحافظة عليها واجبًا مقدسًا ولا أحافظ على حياتي مدفوعًا بالضرورات، ولكن قيامًا بالواجبات، وقد تنزل بي الخطوب وتنغص الهموم حياتي ويغمر السخط على مصير الأمور قوة نفسي فتخور عزيمتي أحيانًا وأبرم الحياة أحيانًا وأزدريها، كما حدث لي في السنوات الثلاث من ١٩٠٢ إلى ١٩٠٥، وكما حدث لي أثناء إقامتي في ليون قبل أن ألقى أوجستا في لوزان وجنيف، ولكنني مع ذلك سألت الله أن يبقي على حياتي التي أبغضتها لا مستجيبًا لميل أو هاربًا من خوف ولكن ملبيًا لنداء الواجب، وقد تقدمتُ إلى خدمة الغاية بالمحافظة على حياتي محافظة ظاهرية لأثبت رغبتي في الحياة، لا إعراضي عنها ولا احتقارها. لكن أوجستا وأنا أعذرها كل العذر شرعت بضع مرات في الانتحار بالسم، فمرة تداولت مع كاتبة يدها وكاتمة أسرارها «زينا» باللغة الروسية، وبدأ على وجهها من الانفعال ما كفى إلى فهم معاني الألفاظ المغلقة دوني في اللغة الروسية، فجاهرتها بأنني فهمت قصدها وعجبت له واحتججت عليه وعاتبتها. وفي مرة ثانية تجرعت السم فعلًا على حين غفلة مني وفي ضوء القمر؛ ولسبب تافه سخيف، وتعبت في تمريضها.

إذن كنا في أمور كثيرة على طرفي نقيض، ولكن كنا في أمور كثيرة على تمام الاتفاق، ويظهر أن أسباب الوفاق رجحت أسباب الخلاف فدامت المحبة وكان ربحها من عشرتي في العاطفة والكفاية والثمرات أرجح من كسبي؛ ولذا رضيت بالشركة رضى التاجر الحصيف الذي يتبع منفعته.

ولكنني لا أغمطها حقها، فكان جانب كبير من سلوكها صادرًا عن إخلاص وحب وعطف صادق. وكانت أحيانًا تضيق بي ذرعًا لصبري ومجاملتي وتحاشي أسباب النزاع معها؛ لأنه لا توجد امرأة على سطح الأرض تركن إلى سلم دائم مهما كانت مصلحتها تقتضيها، وقد أعجبني منها أنها جعلت الحب وكل ما يتصل به في المكان الثاني لتقنعني بأنها غير متكالبة على ما يتفانى فيه النساء في مثل شبابها وجمالها، واشتعال خيالها بنار الرغبات، وكان حظها في عشرتي غير موات فقد كنت في أول أمري ناقهًا وفيما تلا تلك الفترة كنت مشغولًا بالامتحان، والآن غارق في دراسة هؤلاء العباقرة من أهل فيرنزه ورجال الإحياء جملة، وفي أشد الشوق لمعرفة كل ناحيات إبداعهم وألوان حياتهم ومدى عبقرياتهم، وقد وجدت فيما قادتني هي إليه من الأدب والجمال وتصاوير الوجدان وألوان الأحاسيس ما ملك عليّ نفسي، وما لم ألمسه من قبل في سياحة أو زيارة أو دراسة سابقة، وأحببت أن أكون أديبًا متذوقًا وناقدًا منصفًا لجميع هذه التيارات القديمة والحديثة التي اجتازتها هذه المدينة.

وبالجملة كنت مجنونًا بالفنون والجمال والأدب والتاريخ والسياسة، وكانت أوجستا مجنونة بي ولم تجن بالفنون إلا مسايرة لي، أقصد إلى الجنون الثاني؛ لأن هذه المرأة المطلعة المثقفة لا بد أن رأت وقرأت قبلي بدليل أنها أرشدتني وقادت خطواتي، وقد هداني الله إلى انتهاز هذه الفرصة الفريدة لأصقل نفسي على حساب الحب، وكان إخلاصي للمعرفة والجمال أكثر من إخلاصي للحب. وهي متفانية في خدمتي، وكنت أستطيع الاستغناء عنها وهي لا تستطيعه عني، ولكنني لم أرغب في التخلي عنها قط إذ لو كنت حاطب ليل في فيرنزه فلم يكن يعوزني، وكان اتصالي بفتاة حسناء مثقفة من أيسر الأمور، وأقل ما أفيده إتقان لغة القوم وتفهم البلد والناس عن صديقة أصيلة.

حسنات مقابل إساءة واحدة

وفي عصر يوم من الأيام سبقتني إلى مكتب البريد بدقائق معدودة، فلما بلغتها رأيتها تتحدث إلى رجل أنيق جميل باللغة الروسية، فوقفت بعيدًا حتى انتهت من حديثها، وبدا مني كأني أريد الانصراف لأترك لها فرصة الصفاء وعدم التدخل كما تقضي به آداب الاجتماع الأوروبي حتى ولو كانت زوجتي، فأسرعت إليّ وإلى جانبها ذلك الرجل فقدمته إليّ بأنه روسي مهذب لمحها وعرف جنسها من سحنتها، فكلمها فرحبتُ به ودعوته إلى المقهى فاحمر وجهه، واعتذر وحيّاني وانصرف، فساد بيني وبينها صمت وظهر على وجهها الانفعال والغيظ، ثم انهالت عليّ بالنقد والعتاب؛ لأنني أسأت الظن بها ولم أعاتبها ولم أغضب ولم أظهر الغيظ، فكان جوابي سكوتي وصمتي ولما زادت انفجارًا صبرت وعضضت شفتي، وكانت تخبط خبط عشواء وتمشي على غير هدى، ثم قالت لي للمرة الأولى والأخيرة في حياتها: «أنت منافق»! فذعرت وأيقنت أنها فقدت عقلها؛ لأن تلك الصفة التي نسبتها إليّ في ساعة جنون أبعد شيء عني، وأدركت فورًا أنني لو أجبت أو أظهرت الغضب لعلني أفرّج كربها، وأحلّ عقدة ضيقها وأوسع فتق الخلاف.

فصبرت وكظمت غيظي وذكرت لها في نفسي كل محاسنها وعفوت عن هفوتها فبلغ بها الغيظ أعلى درجاته وكادت تتميز، وفجأة تركتني وقالت: سأتركك ولن تراني بعد اليوم، ثم سارت لا تلوي على شيء وتجلَّى فيها الخلق الروسي العريق، وربما نبضت عروقها بدم آخر أشد خطورة من الدماء الروسية، ولم أعهد فيها تلك القوة على السير السريع في اتجاه مجهول فلم أبال بها، وعوّلت على أن أعود إلى البيت فورًا لأحزم متاعي، وأدرك أول قطار يصادفني في المحطة، وعولت في نفسي على أن أعود إلى فيرنزه بعد أيام لأضع حدًّا بين هذه الفترة وفترة جديدة أكون فيها حرًّا طليقًا من قيود صداقة ظهرت فيها الصديقة بهذا المظهر.

وسرت في طريقي متمهلًا صارفًا ذهني عن التفكير فيها.

ولما بلغت البيت وجدته مظلمًا فصعدت ووضعت المفتاح في ثقبه، وعالجته حتى انفتح الباب. وعبرت العتبة وأشعلت السراج في غرفة الجلوس، وأخذت أقرأ وأفكر قليلًا في هذا البيت الصامت، ولا أدري كم طالت جلستي ولم تذهب بي الظنون أي مذهب، بل قصدت إلى النوم حتى الصباح وقمت إلى غرفة النوم لأضع ثيابي، فلما ضاءت الغرفة رأيت منظرًا مدهشًا. أوجستا جاثمة في ركن تبكي بكاءً مرًّا، فلما رأتني نهضت وطوقتني بذراعيها واندفعت تبكي وتعتذر وتستغفر وتقول: «لقد عدت إليّ. سامح جنتي وتجاوز عن سيئتي وارحم ضعفي فقد كدت أفقد عقلي خوفًا من سوء ظنك بي إلى آخر ما قالت، فطيبت خاطرها وجففت دموعها، وصارت المرأة الناضجة القارئة الكاتبة بين يدي كالطفل الخاطئ النادم، فقلت لها: خير ما نفعل أن ننسى، ليس بالمستحسن أن نسترسل، هيا اخلعي ثيابك وأعدي طعامك واصنعي لنا مجلسًا. فعادت إلى البكاء تسألني هل عفوت عني حقًّا قلت: «هل أنا البابا وأنت تشترين الغفران مني، كلا لم أعف لأنني لم أشعر بذنب».

قالت لي: قلت لك كلمة كبيرة وقد أحنقتني وأنت لم تخطئ في حقي أبدًا، وأخجلتني فصغرتُ في عين نفسي.

قلت لها: لقد أحسنت إليَّ في القرب والبعد وتحملت لأجلي، فهل أنسى كل هذه الحسنات المتعاقبة لقاء إساءة واحدة أنا أعلم أنها وليدة الغيظ والغضب؟

قالت: أصادق أنت، أصادر هذا القول عن قلبك.

قلت: نعم نعم.

واطمأنت وعادت الحياة إلى مجاريها، ولكنها بقيت أيامًا لا ترفع نظرها في وجهي، وتتعمد أن تتحاشى نظري من فرط الحياء، وأخيرًا سألتها من هذا الرجل الأنيق.

قالت: إنه بلاء من السماء. إنني أغادر مكتب البريد رأيته يتبعني ثم سألني بلغة روسية فصيحة ولهجة مهذبة عن جنسي واسمي فقلت له: إنني روسية مثلك ولكن اسمي لا حقَّ لك في معرفته وإن كنت دڤورنيك (وهو بواب العمارة ورمز التجسس) أو موظفًا في الأوخرانيا (مكتب الاستخبار)، فنحن في بلاد أجنبية وأنا سيدة متزوجة من رجل أجنبي، فاحمر وجهه وقال: أخطأت يا سيدتي أنا غريب ها هنا وقد رأيتك فرأيت قطعة من وطني، فقلت له: لست أنا الروسية الوحيدة الفريدة في فيرنزه، إن البلد يزخر بالروس واعلم أن زوجي عما قريب يصل إلى هذا المكان، وهو رجل حاد الطبع قوي المزاج شديد الغيرة، فإن رآك معي فقد يحدث ما لا تحمد عاقبته وقد حذرتك. فقال لي: أنا فلان وصفتي كيت ومكانتي كذا وكذا. فقلت: لم أسألك عن شيء من هذه التحف. ثم أقبلت وقلتُ: ها هو رجلي جاء فابتعدْ عني، فاضطرب وارتبك وكنت أنتظر منك أن تدنو مني وتتأبط ذراعي وأن لا تخذلني أمامه بطول الأناة والصبر، وأنا أعلم أنك تغلي كالمرجل وأنني سقطت من عينك وعزمت على قطيعتي، وأنا أذكر أنك قلت لي: أما مسائل النساء فأنا لا أتلمس فيها الأدلة والبراهين بل إن أضعف شبهة تصبح عندي يقينًا، ورأيتك تبتعد وتنتظر ثم تدعوه إلى الجلوس في مقهى.

قلت لها: ألم يكن هذا منطقيًّا على قواعد الأدب الاجتماعي، وهل كنت تنتظرين أن أجرد سيفي وأدعوه للمبارزة مثل بنڤنتو تشيليني، يقتل المزاحمين على معشوقاته لأتفه الأسباب، وينتحل أضعف الأعذار لإراقة الدماء؟

فضحكت وقالت: ولكنني لست معشوقة.

قلت لها: ولست أنا بنڤينتو وليس محرمًا عليك وأنت سيدة بالغة رشيدة وأستاذة أن تخاطبي رجلًا في غيبتي ما دمت واثقة من نفسك ثم إنك حرة.

قالت: لست حرة، إنك تقتلني، لو كنت حرة ما كنت الآن في هذا البلد، أنا تابعة لك … أنا طائعة، أنا جاريتك … نعم لم أنتظر أن تنهره أو تعنفه، ولكن انتظرت أن تأخذني من يدي بدون تحية له ولي؛ لأنني ملكك والمالك لا يستأذن مملوكه.

فقلت لها مداعبًا: يا مملوكتي صمتًا.

وهكذا انتهتْ هذه المشاجرة الوحيدة الفريدة في بابها.

وبعد أن أكلنا قالت لي: لا أحب أن أختم ليلتنا هكذا بل لا بد أن نخرج ونمشي في ضوء القمر ثم نعود معًا كما كنا نعود كل ليلة، وأنا لا أتطير ولكن لا أحب هذه العادة.

فقلت لها: الحق بيدك ولكنني متعب، لنفرض أننا خرجنا، ولنتخيل الأماكن التي مررنا بها فمن أصعب الأشياء على نفسي أن أعود إلى ثيابي بعد أو وضعتها لأجل وهم أو طيرة.

وأخذت أفكر في فراشي قبل النوم فيما وقع، فاهتديت إلى أنه خير ما وقع لنا في أيامنا وخير ما يصادفني في المستقبل ولكنه وقع عرضًا بغير قصد، فإن خير ما تعامل به المرأة المحبوبة أن لا يظهر الرجل كل عواطفه ونحوها وإلا زهدت فيه. ولم أرتبْ قط في روايتها عن ذلك الرجل المهذب، فإنه روسي أصابته نوبة حنين إلى الوطن، ولعله لا يعرف لغة البلاد أو ورد فيرنزه تقليدًا لغيره أو انتجاعًا للصحة أو مقتفيًا أثر أحرار هاربين، فأراد الاتصال بمن يصادفه من أهل جنسه.

عود إلى ساڤونا رولا

وفي الصباح خرجنا كعادتنا، أردنا أن نحقق بعض الأمور في شأن ساڤونا رولا، فأخذنا سمتنا إلى متحف سان ماركو وفيه صورته من صنع بارتولوميو، وعثرنا على صومعة ساڤونا رولا التي عاش فيها راهبًا قبل ظهور دعوته وهي غرفتان صغيرتان جدًّا لهما سقف على هيأة قبو بأبواب مستديرة ونافذتين ضيقتين مستديرتين، في الأولى منهما كرسي خشب كان يجلس عليه الراهب وصندوقان، الأول فيه ملابس كانت له مكتوب عليه بالإيطالية اسمه كاملًا، وأنه صلب وأحرق بفلورنس بأمر أهل المدينة سنة ١٤٩٨، وفي الصندوق غير ملابسه الصوفية الخشنة (بيضاء وسوداء) مسبحة كبيرة، وفي صندوق صغير مخطوط بيده فيه بعض تفسيره الإنجيل والتوراة وعلبة فيها صورته محفورة في الخشب، وفي غرفة نومه صليب منقوش وصورة المسيح من صنع فرايا بارتولوميو، وفي غرفة كبيرة مجاورة عظام ساڤونا رولا كتب عليها تاريخ صلبه، وعلى قبره تمثال لرأسه من صنع ميكال أنجلو نقلًا عن صورة فرايا بارتولوميو ولوحتان الأولى تمثل سيره إلى محل الصلب وإحراقه مع صاحبيه، وحولهم رجال الحكومة والكنيسة والشعب يعتدي عليه ويسبهم ويقذفهم، وبين محل الإعدام وبين قصر الحكومة جسر مؤقت سار عليه الثلاثة إلى محل الصلب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤