المؤتمر الوطني سنة ١٩١٠

١

برقية استدعاء لحضور المؤتمر الوطني

وبينما كنا عند مكتب البريد بميدان القصر العتيق نسأل عن المكاتيب التي ترد إلينا وتحفظ به قدم إليّ أمين البريد رسالة برقية صادرة عن باريس، ففضضت غلافها وأظهرت دهشتي لوصولها إليّ ثم اكتشفت أنها أرسلت أولًا إلى ليون، ثم أرسلت إلى فيرنزه وإذا فيها طلب سفري فورًا إلى باريس لمباشرة تنظيم المؤتمر الوطني الثاني الذي تحدد انعقاده في ١٤ و١٥ و١٦ سنة ١٩١٠ بعاصمة فرنسا، ويستحلفني كاتبها بكل عزيز ومقدس لديّ أن لا أتخلف وأن أبادر بالسفر، وأن أتذكر وطني وحاجته إلى خدمتي إلى آخر هذه الجمل الحماسية التي لم أكن بحاجة إليها؛ لأني أتلهف على قيامي بالواجب، ولا يقف بي ولا يعوقني إلا ضيق ذات يدي.

ولكنني بادرت وبعثت إلى المرسل وهو المرحوم الدكتور المخلص منصور رفعت الذي لقي حتفه في مدينة فينا في أواسط الحرب العالمية الأولى، وهو شقيق المرحوم إسماعيل لبيب أحد أصدقاء المرحوم محمد فريد بك المخلصين، أرسلت إليه برقية أطمئنه بمبادرتي إلى إجابة طلبه؛ وليبلغ تحياتي إلى محمد فريد بك الذي ذكر اسمه وأنه في انتظاري، وقد شعرت فعلًا بهزة إذ كنت في أقصى درجات السعادة العقلية، وكنت هادئ البال مشتغلًا بالدراسة الفنية وإتمام تعريب كتاب الأمير لمكيافيلي، وكنت متمتعًا بصحتي في وسط هذا الجو الساحر الفاتن، ثم حملت هموم الرحلة الطويلة الشاقة وحسبت ألم الفراق بيني وبين تلك السيدة التي أخلصت لي وأطاعتني وتبعتني وخدمتني وفرحت بنجاحي، وبذلت جهودها في تنويري في الفنون وأعانتني بدراستها ومطالعتها.

وقد وقعت بيني وبين نفسي في ورطة خليقة بشتات الذهن وضعف الإرادة والتردد، ولا سيما وأني أقوم برحلاتي وتنقلي على نفقتي وأضيق على نفسي ليزيدني الله علمًا وخبرة. وقضيت ليلة على أحر من الجمر، وقد سألتني أوجستا ما عسى أن يكون في تلك البرقية التي لم أفاتحها في أمرها، وفي الصباح أفضيت إليها بنصها ووضعتها بين يديها وأظهرت لها ردي عليها.

فامتقعتْ وتغير وجهها ثم قالت: ما لم أكن أنتظره منها، قالت: هذه برقية مزيفة بعثت بصورتها لأصدقائك لتتركني وتتخلّى عني بعذر ظاهر، وهذه حيلة قديمة مطروقة وخطة معروفة مألوفة وحيلة لا تنطلي على مثلي وإن ظننت أنك تخدعني بها لتغدر بي فقد أخطأت، وكان أولى بك أن تصارحني أنك مللت عشرتي، وأن نفترق أصدقاء بدلًا من أن تجهد ذهنك ليتفتق لك عن هذه الفتنة إلخ.

فأصغيت إليها في صبر وشفقة وعرفان بالجميل؛ لأن هذه الثورة لا سبب لها إلا شيء واحد وهو تعلقها بي وشعورها بانقضاء أجل هذه الفترة من حياتنا، وانطواء بساط هذا الفردوس الأرضي فجأة وبغير انتظار، وذهبتْ بها الظنون كل مذهب وتخيلت حياة الوحدة وفقد الصديق وعيشتها في بيئة لا تلائمها، وإن يكن فيها ولدها وحشاشة قلبها وفلذة كبدها، فعجبت في نفسي كيف أن حب المرأة لرجل قد يتغلب على حبها لولدها ما دامت مطمئنة على حياته، وإن كان بعيدًا عنها وإن كانت عائلة الشرار جاي اليهود والروس المقيم هذا الولد في كنفهم يفتئون يخزونها بالإبر في مكاتيبهم وهي تعلم كيدهم وغيظهم وحيلتهم. ثم بعد أن شفت غليلها الأنثوي من القدح والهجاء، وسوء الظن بي وهي فريسة الغيرة والأوهام، انفجرت باكية فصبرتُ عليها حتى فرجت كربها ثم قلت لها: سأهدم أوهامك وظنونك ومطاعنك بكلمة واحدة. لقد عزمت على اصطحابك فترافقينني إلى باريس ولا تفارقينني أبدًا، وكنت في عام ١٩٠٨ قد سافرت إليها لتلتقي بي، وبحثت عني في فندق نوتردام دي لاجارد في شارع فوچيرار ومعك والدتك وابنك. فها هي الفرصة قد سنحت لنزور باريس معًا، فنمر في طريقنا بجنيف لنأخذ معنا زينا وبوريس، وإنني على كل حال شاكر لك فضلك وإخلاصك، وأنا أعرف الدافع والباعث على غضبك وحزنك وأن ما عندي يزيد مرات على ما عندك، وهذا سبب حيرتي وارتباكي ليلة أمس، وعندما نصل إلى باريس بإذن الله سترين بعينك إنْ كانت البرقية مزيفة أم صادقة، وإن كان محمد فريد رئيس الحزب يدخل في دسيسة كهذه ليعين أحد أبنائه على التخلص من سيدة. وبما أنك تكتبين إلى الصحف الروسية، ومنها برافدا وجازيت البورصة فلا مانع من أن تكتبي إليهما بعض الرسائل عن المؤتمر المصري، وأظن هذا يضع حدًّا لكل نزاع بيننا.

فسكتت واطمأنت وابتسمت وسألتني متى تعقد العزم على السفر، قلت لها: بيننا وبين انعقاد المؤتمر خمسة عشر يومًا وأظنها كافية لاتخاذ أهبتنا واستعدادنا وسفرنا ووصولنا، وأنا أضع بين يديك وضع الخطة وتحديد الأيام والأوقات للرحلة. فأطرقت وقالت: دعني أفكر، وقلت لها: لا نغير نظامنا هنا حتى الساعة الأخيرة، ولا نبادر بلمِّ شعثنا إلا في آخر اللحظة، فأفطرنا وخرجنا وأنا أشعر بحزن شديد على مفارقة فيرنزه وجمالها وفخامتها وجوها وآثارها، وعشنا من تلك الساعة في جو الوداع وهو جو أليم يقتل الفرح وهو مثل حالة الإنسان الذي يعرف دنو أجله بالدقيقة والثانية. فبحت لها بتلك العاطفة فبكت وقالت: إنها تأكل قلبي فلماذا تحرك شجوني، قلت لها: ليس الفراق إلا مقصورًا على البلد وهي بحمد الله باقية قائمة، والعود إليها من أسهل الأمور ولا سيما في الخريف، فتكون أجمل منها في الصيف، قالت: لكنني أشعر بأننا لن نعود إليها أبدًا وأن هذه هي الزيارة الأولى والأخيرة لنا فيها، وأنها كانت فلتة من الدهر وكانت خلسة في غفلة الزمن وهيهات أن تجود الأيام والليالي بهذه الفرصة مرة ثانية!

فقلت لها: يا لك من متطيرة! هيا بنا نقصد إلى كنيسة سانتا ماريا نوڤيلا التي أحببت عمارتها وتصويرها، فادخلي وأبقى في انتظارك حتى تصلي وتجمعي عواطفك وتتوجهي إلى ربك أن يعيدك إليها، فضحكت ضحكة ساخرة وقالت: أنا لا أحب كنائس النصارى أقصد إلى الكاثوليك ولا أؤمن بدينهم. لست حرة الفكر ولا ملحدة ولكنني لا أعبد آلهتهم، قلت: ومن تعبدين إذن؟ قالت: أعبد إلهك! إلهك أنت، قلت لها: هذا حسن جدًّا فصلي إلى إلهي وابتهلي إليه. قالت: إذن لا حاجة بي إلى كلام الكنيسة وأصنامها، أليس رب موسى وعيسى ومحمد في كل مكان؟ فوقفت في طريقي وقلت لها: أجل. أي: نعم بلى! قالت: انتهينا أتوجه إليه في أي بقعة وفي أي وقت أن لا يفرق بيننا، فجرحت هذه الكلمة قلبي فقلت: آمين، وتجدين أنني ارتبطت بهذه الرغبة على أن يدوم صفاء قلبك ووفائك.

فكرة خاصة بفيرنزه

وبدأنا سيرنا في الطرق وتنفيذ خطتنا فقالت لي ونحن نمر بشارع تورنابوني: ألست ترى فكرة خاصة بفيرنزه غير جمالها وطقسها ومقاصفها، أريد ماذا ترى وراء هذه المظاهر الفخمة الفاتنة؟

قلت لها: نعم لقد شعرت أن المدينة كائن حي كامرأة ذات حسن خالد، فهو يتجدد في كل عصر بل في كل عام وكل فصل وصباح ومساء. قالت: هذا تكلمنا فيه ولكنه خاص بالمظاهر المادية هل عندك غير هذا؟ قلت: كلا … لا بد أن أفكر أمدًا حتى تختمر فكرة المدينة في ذهني، قالت: لقد خطر ببالي فكرة أظنها تسربت إليّ من مطالعتي في كتاب تين وكتاب سيسموندي في تاريخ الجمهوريات الإيطالية «البندقية وفيرنزه وجنوى»، ورجع ذهني إلى تاريخ أثينا فوجدت أوجه مشابهة كثيرة بين البلدين في الوضع الطبيعي ونقاء الهواء ومهارة أهل الفنون وخصوبة الأرض وجمال المناظر، غير أن الفوارق في العقول، فأهل أثينا لهم عقول اتجهت إلى الفلسفة والسياسة، فجنت عليهم الفلسفة والسياسة جنايات كثيرة فعاشوا في حروب وجدل وكفاح أحزاب، وتزاحم بالمناكب على الزعامة والشهرة، أما فيرنزه فقد اتجهت عقول أهلها من قديم إلى الأدب والفنون، فتهذبت أخلاقهم وصفت سرائرهم وتدمثت أخلاقهم وظهرت عليهم آثار النعم وعاشوا معظم أوقاتهم في سلام، ولم يقسوا على أحد من زعمائهم غير المسكين ساڤونا رولا؛ لأنهم استضعفوه كما استضعف الرومان عيسى المسيح، قلت لها: هل الرومان أم اليهود استضعفوه؟ قالت: اليهود أبرياء من دمه؛ لأنه منهم ونبغ فيهم ويسوءهم أن يعدم، ويسرهم أن يجدد ملك سليمان، ولكنه يسوء الرومان أصحاب السلطان.

قلت: أسمع هذا الكلام للمرة الأولى في حياتي، ولكن نحن لا نحقق من كان سببًا في صلب المسيح حسب عقيدتهم، وعلى كل حال فأنا لا أعتقد أنه صلب بل شبِّه لهم حسب نصوص ديني فاستمري في كلامك، قالت: إذن أهل فيرنزه حكموا على واحد فقط وقضوا عليه؛ لأنه أراد أن يجمع في يديه سلطة الدين والدنيا وأراد أن يأمرهم بالاستقامة، وينهاهم عن الحب والمرح والخلاعة وأفراح الحياة وهذه تجري في دمائهم، أما آثينا فقد قتلت سقراط رجل الحق والخير ووضعت قوانين دراكون الشهيرة بقسوتها، وقتلت مئات من زعمائها وسجنتهم ونفتهم كما يخبرنا بلوطارك حتى ثمستوكليس الذي خلصهم من الفرس ونصرهم في موقعة ترموپوليس الحاسمة أرغموه على الفرار بحياته، فلجأ إلى ملك الفرس عدوه القديم فأكرم مثواه، والضيافة من أجمل خصال الشرق، وفعل أهل أثينا الأفاعيل بديموستين خطيبهم وزعيمهم حيال فيليب المقدوني وناصبوه العداء، وسمعوا فيه الوشايات وحكموا بسجنه ونفيه، فاضطر للموت مسمومًا، هذه المآسي الدامية وعاقبة الفضلاء لا نرى لها مثيلًا في فيرنزه مطلقًا، فلم يقتل دانتي ولا ميكافيلي ولا بترارك ولا ليوناردو وكانوا كلهم على نقيض معاصريهم، ومرجع هذا إلى اختلاف المعقولية مع اتفاق في الجو والطبيعة والجمال والحذق. ونسيت شيئًا وأن الفصاحة الكلامية لم توجد عند أهل فيرنزه، ولا الجدال العتيق ولا صنعة الأفوكاتية ولا سفسطة بروتاغوراس. وتوجد النزاعات والخصومات وتنمو في كل بلد يكثر كلام أهله ويشتهر المحامون والخطباء، وتشقى البلاد كما هي حال فرنسا الحديثة. أليس عند كل أمة قضايا؟ طبعًا نعم ولكن في فرنسا كما كان في آثينا يوجد محامون أكثر من القضايا والمتقاضين حتى وضع راسين أو كورني لا أتذكر مسرحية المتقاضين Les Plaideurs فما قولك في هذه الفكرة؟

فقلت لها مبهوتًا: أنت التي تظنين أرغب في فراقك وأحرم نفسي من حبيبة وعالمة وحكيمة ومعلمة وصديقة. ولو أنني لم أر في شوارع البلد رجلًا يقبل سيدة لقبلتك فأنا أقبل يدك التي يزينها هذا الميثين (قفاز من الدنتلة أسود اللون للأنامل والمعصم)، فضحكت وقالت: أنت تتملقني، إن أفكاري لا تزيد عن أفكار امرأة وأظن أن اجتماعنا يلهمني، فإذا افترقنا عدت كالصخرة أو الأرض المجدبة أو حفنة تراب. قلت لها: يحق لي أن أقول هذا، فقد غيرت نظري في كل شيء، قالت: ولكن آدم هو الأصل وحواء خلقت من أضلاعه، قلت: يا عزيزتي هذا رمز إلى أنها كانت تسكن جوانحه فلما انفصلت بقي بلا قلب حتى عثر عليها.

في متحف أوڤيتشي ومتحف جلاريا

وفي هذا اليوم قصرنا زيارتنا على التزود من بعض آثار متحف أوفيتشي، فرأينا «بشرى العذراء بالملك» من صنع كريدي والعذراء تعبد طفلها من فن كوريجيو ومادونا ديلاربي ديلسارتو، وعذراء رفائيل مادونا ديلكارد يلفو، وهذه أعيان تماثيل العذراء غير ما هو محفوظ في المتاحف الأخرى، ولا سيما صنع بوتشيلي. ثم وقفنا أمام فينوس مديتشي وهي التي عثر عليها في زمن مديتشي فنسبت إليهم ولكنها بيقين من صنع الإغريق، وكذلك تمثال الطفل الذي يخرج شوكة في قدمه اليسرى، ثم تمثال المعوز يتطلع إلى السماء في طلب الرزق، ثم تمثال المتصارعين، وهذه الأربعة التماثيل من أبدع ما صنعته الأيدي بعد إنتاج سيد الجميع في الصناعة فيدياس اليوناني، ثم ميكل أنجل الفيرونتيني، ثم ودعنا لافلورا لوحة تيسيانو الخالدة الجمال الزاهية الألوان الساطعة الجبين الفاتنة الأعين البديعة التكوين الحالكة الشعر النقية الثوب الحاملة الزهر. ثم صورة ليبران لنفسها بريشتها وهي صاحبة العصفور بالقفص، وكنا رأينا صورًا للمصورين أنفسهم بريشتهم مثل ليوناردو ورامبراند وميكل أنجلو وبويتشيلي. ورأينا لوحة ماريا مادلين لدولتشي وهي حلوة كاسم مبدعها ولوحات لبوتشيلي والأعمار الثلاثة لجيورجيوني وإنزال المسيح عن الصليب من صنع الراهب الأخ بارتولوميو، وهو الذي أخلص لساڤونا رولا وأخلده بالتصوير، وهذا الموضوع الذي يسمونه لاپيتا أي حنان الأم مع ولدها وقد عالجه جملة من المصورين، ومنهم ميكل أنجلو وجعله منه تمثالًا لقبره.

ثم خرجنا إلى متحف (جالاريا) قصر پيتي وفيها آثار لا تحصى، منها حواء صنع ألبرت دورير الفرنسي وعذراء أخرى لرفائيل (مادونا ديلا سجيولا، أي: الجالسة على الكرسي)، وفي حضنها الطفل ولعلها أجمل تصاوير العذراء قاطبة، وأخرى من صنعه مادونا الغراندوقه والأسرة المقدسة من صنع ليبي ويوحنا المعمدان في صباه ديل سارتو، وليونارد وله بعد الجوكوندا صورة للمعمدان وهو فتى، صورة فاتنة وعلى فم الصبي بسمة غامضة وتذكرنا ببسمة موناليزا مما دلني على أن السر في الراسم لا المرسوم، ومررنا بالقاعات مرورًا خاطفًا ونحن نترك في كل واحدة منها قطعة من قلبنا، فقالت أوجستا: «الإنسان مسكين كنبتة الخرشوف (أرضي شوكي) يترك مع كل من يحب وما يحب ورقة حتى لا يبقى له شيء!»

التأهب للسفر

وعزمنا أن نتغدى في مطعم؛ لأنها قالت لي: إنها لا تطيق بعد اليوم أن تبقى في البيت وحدها تعدّ الطعام في انتظاري؛ لئلا تفكر في الفرقة فتحرق الأكلة أو تزيد ملحها فضحكنا واختارت مطعمًا ألمانيا (رستوران جامبرينوس) ببياتزا فيكتور عمانوائيل وهي التي تولت عني التفاهم مع الخادم، فأكلنا خضرًا وأكلت هي رو مشتوك وأكلت عجة بيض بالمربى وكرنبًا وسمكًا وفاكهة (خوخ وبرقوق)، وشربنا قهوة مقطرة ودخنت سيجارًا وعرضت عليها بيرة ألمانية، فاعتذرت أولًا ثم قبلت وأحسست أنها انشرحت وسرت؛ لأنها أكلت طعامًا لم تتعب في إعداده، وانتقلنا إلى قهوة چياكوزا حتى نكسر حرارة القيظ ونثرثر في كل شيء إلا موضوع السفر، وبعد أن استرحنا ساعة أخذنا نطوف بالجسور على نهر الأرنو ولها منظر في الظهر غير مناظرها في الصباح والمساء، وفي الساعة الرابعة أخذنا الشاي في مشرب البيون تقوم بالخدمة فيه إنجليزيات لا رجال معهن، وأوجستا تحب الشاي كما يصنعه أهل إنجلترا، ولكن لا تحب الفتيات الجميلات ولكنها صبرت حتى شربنا، ثم قالت لي ونحن نتأهب للخروج: هذا يوم استثنائي لا نقدر على تكراره؛ لأنه يكلفنا ما لا نطيق، قلت لها: الأمر لك ولأبقين معك ريثما تعدّين الطعام وليكن أكلنا بسيطًا حتى لا يضيع وقتنا في سبيل بطوننا، أما الشاي والقهوة فلا أرضى عنك في صنعهما بديلًا.

ثم أخذنا نتزود للعشاء مما أعلم أنه يسرها ويلذ لها مثل الجبنة البيرجامو والمخللات الحريفة والأنشوا (أسماك مملحة صغيرة) وكاكاو ڤان هوتن، وكانت تنطق الهاء جيمًا مثل الروس وحاولت تقويم نطقها في هذا الاسم، فلم أستطع كما ينطق أهل الصعيد جرجا وإلا فيقولون: دردا والديش بدل الجيش مع أنها في أعلى درجات الثقافة، وتقرأ الأحرف ولا تنطقها تقليدًا بالسماع.

وقد أخذت الليالي طعمًا ولونًا ولذة جديدة، فقد أخذنا نطيل السهر ونكتفي بالقليل من النوم ونعمل على «الخواتيم» أي: ننظر ما ينقصنا في كل شيء مما بدأناه، فإن كنا كتابًا أسرعنا في الفراغ منه، وإن كان فكرة استقصيناها وإن كان متحفًا أو طريقًا أو قصرًا أو جسرًا لم نزره فعلنا.

وأرادت أن تشتري أشياء تجعلها بمثابة التذكار فقلت لها: أخذنا كثيرًا ولا يهمنا إلا الكتب وبعض التصاوير وعندنا منها ما يكفي ولا حاجة لنا في ثياب أو مصوغ، ولعل الله يعيننا في نقل ما نحمل في سهولة ويسر، ولكنها صممت على أخذ هدايا لزينا وبوريس. ثم أطرقت وقالت: على كل حال لا بد لي من النزول بچنيف أمدًا قصيرًا، ولا بد أن أحمل هدية لبيت جاي فقد خدموا ولدي وإن كانوا نغصوا حياتي!

ثم قالت: أتدري أنني لم أعقد العزم بعد على مصاحبتك إلى باريس.

فذعرت وعجبت وقلت لها: لماذا؟

قالت: عرفوك شابًّا عازبًا فيرونك رجلًا مصحوبًا بامرأة وطفل وفتاة يظنونها مربية، ألا تكفي لحيتك في التدليل على تقدمك في السن حتى تأخذ أسرة. فربما بقيت في جنيف إلى أن تعود، إن غيابك لا يزيد في أقصاه عن شهر يمكنني أن أتحمله، ولكن إبهاظ كاهلك بنا في باريس ومضاعفة مشغوليتك وتعبك، لا يجعلك متفرغًا لعملك وأصدقائك وصديقاتك.

فضحكت وقلت لها: أية صديقات تقصدين؟

قالت: المجهولات من بنات باريس اللواتي يغشين المؤتمرات، ويلتففن حول كل شاب وإنك واجد حتمًا روسيات وبولونيات متهوسات ومغازلات ومغامرات، فسفرنا معك يحرمك تلك المتع. وكانت تتكلم بين الجد والمزاح بتلك اللهجة التي تدل على ما تكتم وتخفي، وما خفي كان أعظم.

قلت لها: لقد أردت أن أقطع دابر هذه الظنون والشكوك فلم أستطع ولا حيلة لي.

قالت: وأين ننزل كلنا؟

قلت لها: نوتردام دي لو فيكتوار أو دي لاجار بفوجيرار.

قالت: سنرى عندما يحين الوقت.

وأخيرًا حان الحين وأخذت تعد الحقائب ودَعَتْ مدام سباتيني لتسلمها البيت، وحددنا يوم السفر. وأخذت تبكي بكاء الثاكلات وتودع الغرف وتلمس الأثاث والفراش والمقاعد، وقد تعمدت أن أمزج أمتعتي بأمتعتها حتى لا تشعر بوحشة.

فقالت لي: ربما نفترق في لوزان وأبقى بجنيف؛ لأن لوزان محطة الوصول لقطار ميلان — باريس.

قلت لها: إن حصل هذا فأنا غني عما يكون لي عندك إلى أن نلتقي.

قالت: إذن أنت تبيت فكرة مفارقتي وتريد تلهيني بثياب وكتب. وبكت من جديد.

قلت لها ضاحكًا: أنت المرحة بنت النكتة وأمها، أنّى لك هذا النهر من الدموع؟ إن نهر الأرنو لم يصل إليه هذا القدر من الماء. صوني دموعك فلسنا أول المحبين وآخرهم، وليس اللقاء والفراق كل ما ذقنا في الحياة.

فقالت: الحق أنني لم أشعر بألم كهذه المرة؛ لأننا عشنا وحيدين بلا رقيب وامتزجنا وانسجمنا، ولم تسبق لي هذه النعمة أبدًا فأنت الذي أضعفتني ورققت قلبي وأوهنت إرادتي.

قلت لها: لا تغضبي مما أقول، لست أول رجل عرفته فقد عرفت على الأقل زوجك ووالد ابنك، وهو الذي نقلك من الهوى العذري إلى حب المرأة الناضجة ثم تنسبين إليّ أنني أضعفت إرادتك. ولكن الحق أنك تحاولين إضعاف إرادتي ووهن عزمي وتصرفين رجلًا عن أداء واجبه ولم أعهدك تفعلين بل تشدّين أزري وعزيمتي.

ثم ظهر لي أنني أخطأت خطأً جسيمًا في القولين ونسيت فضلها وشكواها المرة من ماضيها، وما كان يجوز لي أن أتهمها بالقصور وقد بذلت قصارى الجهد في بلوغ غايتي. ولكنها سكنت وعضت على شفتها وأطالت النظر إلى الفضاء. ثم لمعت عيناها وقالت: أنا آسفة وأعتذر إليك. وكنت مازحة لا جادة، وكان صوتها تهتز نبراته ومن تلك اللحظة جمدت عيناها وطال صمتها ونشطت في أعمال البيت والكتابة، ورتق فتوق ثيابي وجواربي وأخذت تعزل أمتعتي وكتبي عن أمتعتها وكتبها.

فقلت لها: مهما تفعلين فإن هذا لن يزيد عبء الحمل ولا ينقصه فإن كثرت حاجاتي عن طاقتي تركتها بجملتها لك، واعلمي أنني درويش كالذين تعرفينهم في روسيا لست متعلقًا بالثياب والمتاع، وأستطيع أن أعيش سنة بدون شيء مما ترين، فأترك لك حقائبي بما فيها إذا تعمَّدت تركي في لوزان أو جهنم الحمراء وهذه مسألة انتهينا منها. وادّعيت الغضب وحاولت أن أخرج لأؤكد غضبي.

فقالت: لا داعي لتعذيبي في هذه الأيام القليلة أو الساعات الباقية. ثم أنشدت بالروسية أغنية شعبية لبوشكين تكاد تكون:

أنا الجسد وأنت روحي ما لي غنى عنك.
غنى عن الناس لكن لا غنى عنك.
لقد حيرتني وأهنتني واتهمتني وأنت تحاول أن تغير قلبي عليك.
ولكنك تزيد ناري فلا تقابل حبي بضّده.

قلت لها: لقد أفلت زمامنا واختل توازننا وهذا يضرنا ولا ينفعا، واعزمي على مصاحبتي رغم كل الصعوبات، وها أنا أجد لك حلًّا موفقًا لنذهب إلى باريس ولا تتخلفي في سويسرا بأي حال، فإذا استقرت حالنا في باريس، وليكن ذلك في فونتناي أوروز (وهي ضاحية تحبها) ابعثي في طلب بوريس وزينا، فإن باريس أقرب إلى جنيف من فيرنزه، فلمعتْ عيناها من جديد واحمر وجهها ونهضت وطوقتني بذراعيها، وألقت برأسها على كتفي وبكت حتى بلّلت ثوبي. فعجبت وغضبت ولكن تجلّدت وصبرت ثم قلت لها: لقد خارت قواي لست صخرة ولا جليدًا. قالت: اصفح عني. هذه آخر مرة. قلت لها: أكاد أعتذر عن السفر إذا كان يؤدي إلى موتك.

فصحت وتفصحت وقالت: كيف عرفت أنني سأموت؟ هل لو عرفت أن فراقك يقتلني تعدل عن السفر حقًّا؟

قلت لها: بكل تأكيد فليس الواجب نحو الوطن مقصلة لأحبابنا ولست إلا فردًا وغيري كثير.

قالت: ألا ترى هذا عصيانًا وذنبًا في حق الوطن.

قلت: كلا.

قالت: إذن سافر موفقًا سعيدًا، مطمئنًّا هادئًا. وعدني بأن تكتب لي في كل يوم خطابًا، وسأنتظرك إلى آخر نسمة من حياتي، إذا شاءت الأقدار أن لا أصحبك.

٢

محاولة انتحار

شددنا رحالنا وركبنا القطار في المساء وتعمدت هي أن تأخذ التذاكر بيدها وأخفتها عني وجلستْ بجانبي، ومنذ أخذنا مقعدنا تغيرت أوجستا فأحسست أنني لا أعرفها فقد كانت خنصرها مصابة بالدحاس، وتؤلمها وهي مضطرة لعلاجها بمكمدات الماء الحار (ولم أكن أعرف علاج صبغة اليود وهو علاج شاف)، وكانت تبكي فأسألها أن تكف وأكفكف دمعها فتعتذر بأنملها، وأعانها على البكاء أن لم يكن معنا في ديوان القطار رقيب ولا جار، فلم تغمض لها عين ولم يجف لها دمع ولم تأكل زادًا، حتى أورثتني الهم، وحاولت مداعبتها فقلت لها: لعلني مطلوب في الجهادية»، فلم تفهم النكتة؛ لأنها نكتة مصرية باحتة. فخجلت من نفسي وأسندتُ رأسها إلى كتفي كما يفعل المحبون في الأسفار فأبت، ولا أدري كيف قضينا الليلة ولكن أتذكر أننا بلغنا صباحًا محطة بولونيا وفيها يبقى القطار ساعة، فأرادت أن تنزل لتزور كنيسة صغيرة فيها صورة ثمينة لڤنشي وهي صورة المائدة (العشاء الأخير)، ثم عدنا إلى القطار ورأيت وجهها في ضوء النهار، فإذا هو شاحب وعيناها محوطتان من أسفل الجفون بإطار أزرق وأجفانها متورمة وشخصيتها منحلة، أما أنا فكنت منتعشًا من هواء الصباح فلمت نفسي على الابتهاج، وتحسن صحتي حيال حزنها وانحلال شخصيتها حتى في المسير والحركة، فأخجلني تماسكي وصبري حيال جزعها، ولم تذق طعامًا.

ولما ركبنا القطار في طريقنا إلى ميلانو ومررت بالبحيرات والحقول دعوتها للإفطار في مركبة الطعام، وبينا نحن نحظو ونعبر بين المركبات رأيتها تحاول جادة أن تلقي بنفسها بين العجلات، فقبضت عليها بيد من حديد وكادت تجذبني رغم إرادتها لولا لطف الله بنا، فأعدتها إلى مجلسنا ولم يشهد هذا المنظر المروع الإجرامي أحد لستر الله علينا. فلما دخلنا الديوان أقعدتها وغلقت النوافذ والأبواب وكنت أرغي وأزبد وأرتجف حتى هدأت أعصابي وقلت لها: إنني لم أعزم ولم أنتو ولم أفكر في الانتحار تحت عجلات قطار إيطالي، ولا ذنب لي ولا بلادي وأهلي حتى أموت شهيد الغرام صريع البخار والحديد والنار لسواد عينيك، وليس في وسعي أن أقضي النهار حتى نبلغ غاية سفرنا في مراقبتك والخوف عليك كطفل قاصر يخشى عليك من الأبواب والنوافذ، ومهما يكن بغضك الحياة فليس في خطتي أن أشهد مصرعك مكتوف الأيدي، لا شك يا سيدتي أنك مخبولة وأني أذكر بمزيد الأسى أنك شرعت في الانتحار قبل اليوم وكان عليّ أن أودعك، وسأبقى بجانبك حتى يقف القطار ثم أغادره وأنصرف لشأني تاركًا أمتعتي في أمانتك فقد بلغ السيل الزبى، ولعلك أيتها المادونا الصغيرة تقربين من وطن جولييت لتمثلي هذا الدور، ولكن اذكري أنه ليس من الوفاء لوحيدك أن تفجعيه باليتم، وليس من الوفاء لي أن تقتليني في عودتنا، فإما … وإمّا.

فرأيتها تركع في ركن وتتجه إلى الشرق وتصلّي، فكدت أغيب عن صوابي وانتظرت حتى انتهت من ابتهالها لمعبودها … ونهضت وجلست متماسكة الأوصال، وقالت: أنقدتني من الموت المحقق. فشكرًا لك ورددت إليّ عقلي فقد عزمت على الانتحار فعلًا ولم أحاول جذبك معي. وقد تبت.

قلت لها: عفوًا ليس المجال مجال شكر وتوبة. لقد حطمت أعصابي، فلا كنت ولا كانت مصاحبتك ولا فلورنس ولا ليونارد، لقد أيقنت أنك عنصر خمول وقتل للهمة، وبعد فلسنا زوجين ولا خليلين حتى الموت يا سيدتي، وقد عزمت على أن لا أموت بسببك أو سبب أي امرأة أخرى، ولو كنا في مدينة لسلمتك إلى رجال الشرطة، وأخليت تبعتي منك وبلا ريب لن أصحبك إلى باريس بل لن أصحبك بعد اليوم، وعليك أن تعدي علاقتنا منتهية فإن لكل شيء حدودًا. نعم لم أتخذك سلوى ولا ملهاة ولكنني أصحبك لتكوني أداة تعذيب لي ثم سبب موتي. فالزمي مكانك ولا تخاطبيني في شيء حتى يعود لي ثباتي ثم لا يكون كلامنا إلا سؤالًا وجوابًا، لقد خدمك الحظ بخلو الديوان من الرقباء والشهود. ثم أعرضت عنها.

وبعد ساعة سمعت أنينها وهي تقول لي: إن جرح خنصرها يدمي.

فقلت لها: ليس معي ما أسعفها به وليس في القطار أودة عمليات ولا صيدلاني ولا طبيب، فلتصبر حتى ميلانو.

قالت لي: أنا آسفة وأعدك أن لا أعود. وانقلبت طفلة نادمة.

قلت لها: أنت العالمة الأديبة الفنانة المدركة والأم الحنون تفعلين هذا، وقد شرعت في مثله أمامي في جنيف، فهذا داء في العقل لا يفارقك ولا أمان لامرأة تتهدد بالانتحار.

قالت: أنا نادمة أنا امرأة ضعيفة أكاد أجن فاحمني.

قلت: على أن تقسمي بإلهك الذي ما زلت لا أعرف من هو وأي الأرباب هو أن لا تحاولي الانتحار ما دمت معي في هذا القطار.

قالت: أقسم. قم بنا نأكل.

قلت: حتى تكتبي تعهدًا بذلك.

قالت: لا فائدة وكلمتي تكفي.

قلت: اسبقيني ولا أسايرك فإنني ألحق بك.

قالت: نعم. وتقدمت ولم أتبعها بنظري. وبعد ربع ساعة أدركتها في مركبة الطعام تلتهم إفطارًا شهيًّا. ولكنني فقدت شهيتي وعجبت لمعدة النساء التي تهضم الحب والبغض والشروع في الانتحار!

وعدنا إلى المركبة حتى بلغنا ميلانو وهي موقف ساعة، ولا أذكر إن كنا مررنا بتورينو ولكن أذكر أننا مررنا بنفق سمپلون وأذكر أنها قالت لي: قبلّني في الظلام، فضحكت من خيالها وقلت لها: نحن منفردين في ديواننا ويمكن أن أقبلك في النور فلم يكون الظلام، قالت: إن حب الاختلاس ألذ وأمتع، قلت: لم يصل بي التحايل إلى هذا الحد.

الوداع في لوزان

ونزلنا في ميلان وزرنا الدومو وعدنا واشترينا في الطريق فاكهة وطعامًا، وأدركنا القطار وبقينا فيه ساعات طويلة حتى بلغنا لوزان، وكان الصفاء قد عاد لنا وتحدثنا وكاشفتني بأنها عولت على أن نفترق في لوزان وأن آخذ سمتي إلى باريس بمفردي. فعاتبتها وقلت لها: بل أنا باق في لوزان إلى أن تعودي إليّ ولكنها لم تقتنع. ولما أيقنت أننا مفترقان ها هنا ندمتُ على قسوتي عليها، والتمست الأعذار لنفسي. فقالت: لم تقس ولكنك بالغت في تخويفي وأنا متعودة عهود الإرهاب؛ ولذا تجدني لا أخاف من أعدائي فكيف بك وأنت أحب الناس إلي أيها الطاغية الصغير. وأبت أن أبقى بلوزان بغير داع لنعود فنذوق الفراق من جديد، وأبيت أن أستمر في سفري إلا بعد أن تأخذ مكانها في قطار چنيف فقبلت، وقضينا ساعتين في لوزان حتى حل موعد قطارها، فودعتني ضاحكة باكية لله ما كان أجملها وما أعجب الجمع بين الابتسامة الحزينة والعين الدامعة!

افترقنا في لوزان، في محطة اللوزان، وكنا التقينا لأول مرة في شرفة رحبة مطلة على بحيرة ليمان والجبل الأبيض في ليلة البدر، وتحت أقدامنا تلك المحطة بأنوارها الحمراء والخضراء، وكان ذلك منذ عامين في نفس شهر أغسطس الذي تمتاز لياليه بسقوط النيازك والشهب. لقد ودعتها على المحطة وداعًا مختطفًا وتجلّدت ولكنها لم تتجلد، وكنت أود أن تسرع دقائق الوداع مسرعة؛ لأن الملل دب في نفسي خفية في بطء شديد مع أنني كنت مستهامًا. أما هي فلم يكن الملل قد دب إلى نفسها بل كان يحرقها الشوق الدائم، وتنهشها الغيرة لظنها أن سفري مدبر للخلاص منها.

ونظرت إليها فبدت لي المسكينة بنظرة حائرة ولهانة، وقد كنت لها صديقًا وسندًا وأنيسًا ونديمًا ومحدثًا ثلاثة أشهر. فلما توارت عن نظري كانت تجهش بالبكاء، وأنا أبتسم لأشجعها. ولكنني عندما تغلغل القطار في الأنفاق وغابت لوزان بمعالمها وابتلع البعد شبح صديقتي، حزنت عليها حزنًا شديدًا ولشد ما وددت أن أصطحبها إلى باريس، لولا أنها كانت في شوق شديد إلى طفلها، ولعلي أردت في حنايا وجداني أن أتركها لتجرب الحياة بمفردها لتأسى على ما كان من صحبتنا خلال تلك الأشهر الثلاثة. والمرأة مهما بلغ ذكاؤها وقوة إرادتها ووفرة مالها لا تعدل عندها كل النعم صداقة الرجل وحبه، وقد عزمت على أن أبعث إليها برسالة مطمئنة من محطة ديجون التي يقف فيها القطار السريع برهة طويلة، وأخذت أكتب المكتوب لينعشها غداة غد.

وكان نور المخدع ضئيلًا، وبعد أن فرغت من الرسالة إليها أخذت أضع مشروعًا لنزولي باريس ومقابلة إخواني، وحاولت أن أسدل ستارًا على الماضي القريب وعزمت عزمًا أكيدًا على أن لا أفكر في صاحبتي إلا عند ورود مكاتيبها وحين الإجابة عليها، وعزمت على أن لا أخون عهد الصديقة النائية، وأنا قادم على باريس فتنة أوروبا، وعزمت على أن أتفرغ لعملي.

٣

الوصول إلى باريس ومقابلة الآنسة دي روشبرون

وبلغت باريس في اليوم الثاني ولم تغادر صورة أوجستا ذهني، ونزلت بشارع فوجيرار رقم ٣٢ في غرفة علوية عند كهله مترملة لقاء ثلاثين فرنكًا مشاهرة دفعتها لها فورًا، وبعد وصولي واستقراري اغتسلت ولبست ثيابًا حسنة، وقصدت إلى العنوان المكتوب لي وهو «فاميلي هاوس» على قيد خطوات من بلاس إيتوال (ميدان الكوكب بشانزاليزية)، وهو خان أقرب إلى الفندق منه إلى المثوى العائلي (بنسيون دي فامي). وصعدت إلى الدرج وكان أول من لقيت وجه امرأة دميمة صفراء هزيلة اسمها الآنسة دي روشبرون، هي نفسها التي كانت تكاتبني منذ سنة تطلب مني مقالة في مجلة تزمع إصدارها نجدة للمسألة المصرية، وقد بعثت إليها فعلا بمقولة عن الثورة العرابية وعن جهاد مصطفى كامل.

كانت تلك المرأة تعمل كاتمة أسرار لجنة المؤتمر الوطني الثاني في باريس، عيّنها في هذه الوظيفة محمد فريد بك رئيس الحزب الوطني بعد أن سعت للتعرف إليه منذ أشهر.

قابلت هذه المرأة وحدها تدق على الآلة الطابعة في الغسق، وكنت أظن سأقابل فريد بك والدكتور منصور رفعت والدكتور عثمان غالب باشا قعيد الوطنية المصرية في باريس وحامد العلايلي، فانقبض صدري عندما رأيت وجه تلك البنت الدميمة، فلما عرفتها بنفسي تظاهرت بالفرح بهذا اللقاء المفاجئ، وأخذت تثرثر بلسان ذرب ونطق فسيح وعبارة بليغة ضاعت كلها محجوبة بتلك الدمامة التي لم أشهد مثلها في أقطار أوروبا، ولا سيما في باريس المشهورة بمحاسن النساء، فسمعت إليها على مضض.

فوعيت من أقوالها أنها تتكلم عن الزعيم الوطني فريد بك بقولها: «فريد»، وتصف حامد العلايلي بأنه «الأسمر الجميل الذي لا يعرف الفرنسية ولا الإنجليزية»، وعن غالب الباشا «الدكتور العجوز» وأنهم كلهم غائبون وأنهم يعيشون في هذا الخان، وتسألني لماذا لم أحضر متاعي وأين نزلت وكيف أصنع لأحضر جلسات اللجنة، وأنا سكرتيرها وأنها سكرتيرة مساعدة لي، ثم أخذت تهذي بقولها: إنها صدمت بلقائي؛ لأنها كانت الفاجرة الماكرة تتخيلني عملاقًا قوي البنية ملتحيًا بلحية بيضاء، وأن أكون من أبطال التاريخ كما دلت عليّ مكاتيبي ومقولاتي التي قرأتها منذ عام، وأنها وجدتني على نقيض ذلك فتيًّا أجرد أمرد قصير القامة، وأنها تعاني خيبة أمل “desepoir”؛ لأنني لست طويلًا عريضًا!

فلم أجب على هذا التودد وقلت لنفسي: «ما أسعد حظ أوجستا. وأنها لو رأت ولو في الكرى وجه أول امرأة رأيتها في باريس لاطمأنت على عفتي وقد تشمت بي!»

فقلت لها: يا آنسة …

قالت: الآنسة عزيزة دي روشبرون، فإنني فرنسوية نبيلة كما تعلم من تقديم لقبي بنسبة دي، ولكنني مسلمة أسلمت حديثًا، هداني إلى الإيمان فريد.

فلم أجب ولم أدهش وقلت في نفسي: يا لسوء حظ الإسلام وفرحة النصارى بانسلاخك.

وهممت بالقيام. فقالت: إلى أين؟

قلت: أطوف وألف لفة في مقهى حتى يحين وقت مجيء الباشوات والبكوات وبقية الزعماء.

الإعداد لخطابي في المؤتمر

وهبطت الدرج وأنا أشد ما أكون حزنًا، وحمدت الله على أنني اخترت مسكنًا بعيدًا عن هذا المستقر الذي تحرسه عزيزة، وسرت في الطريق فبهرني جمال باريس، ورأيت مقهى بديعًا عليه اسم «كافيه فوكيه»، فأعجبني واخترته مجلسًا وشربت قهوة ممزوجة بالحليب، وأخذت أفكر في الأيام المقبلة، فتذكرت أن عليَّ خطابًا ألقيه في المؤتمر وأن أستبقي عزيزة للنقر على الآلة الطابعة، وأن أشرك العلايلي في كتابة السر، فصممت على أن يكون موضوع خطابي في المؤتمر «وجوب حياد مصر حيادًا دوليًّا احترامًا لقناة السويس»؛ لأنها طريق بحرية دولية. وأردت أن أحدد علاقتي بالزعيم والكواكب التي تدور في فلكه أمثال غالب باشا والدكتور منصور رفعت (وهو شقيق إسماعيل لبيب بك) وأحمد لطفي بك المحامي، فأبقيت هذا إلى أن نجتمع بعد ساعة، ولما انتهيت من التفكير ودونت رءوس أقلام وعنوانات تمثلت لي فرصة سانحة لوجودي بباريس وهي أن أتردد على المكتبة الوطنية لأتم بحثي ودراستي في عهد الإحياء «رينيسنس» في إيطاليا لاستكمال فوائد إقامتي في فيرنزه، ورأيت أن أختم جلستي القصيرة في مقهى فوكيه بأن أكتب مكتوبًا إلى أوجستا لأعطيها عنوان الخان مستقر جماعة المؤتمر وعنوان غرفتي بشارع فوجيرار.

مقابلة محمد فريد

في تمام الساعة السابعة قصدت إلى فاميلي هاوس، فوجدت الحفل حاشدًا بالسادة والأعيان وقد حضروا لتناول العشاء؛ لأنهم مقيمون عائشون نائمون يقظون في الخان على حساب المؤتمر المصري المزمع اجتماعه؛ لأنهم وقفوا أيامهم ولياليهم على خدمة الوطن، فوجبت على الوطن نفقاتهم وهي من الأموال التي جمعت بالاكتتاب ولا أعلم من كان أمين الصندوق.

وفي تلك الليلة الأولى رأيت فريد بك وعشرات من البكوات الذين هاجروا من مصر جماعات وأفرادًا؛ ليساهموا في خدمة الوطن، وبينهم الدكتور محجوب ثابت، وجاء الأستاذ حسين هيكل مستخفيًا؛ لأنه كان طالب بعثة يخشى إن عرف أمره أن يقتص منه بالحرمان؛ لأن شوكة الإنجليز قوية، ورأيت أحد أبناء إدريس راغب بك وهو أكبر أنجاله سنًّا وكان لا يحسن التكلم بالعربية فقال على المائدة وهو يهمس في أذني: ليه ماتعملوش زي التركي الزغير؟

فاستعدت السؤال لأفهمه وبعد عناء في الاستفسار والاستقراء والتخمين والتنجيم وتقليب الألفاظ والمعاني، ضحكت ضحكًا شديدًا على غير عادتي؛ لأنني اكتشفت أن ابن البيك المصري العظيم يريد أن يقول: لماذا لم تعملوا كما عمل حزب تركيا الفتاة!

فانطلق يخاطبني بإنجليزية فصحى؛ لأنه كان في جامعة أكسفورد وهو يعبر بها أبلغ تعبير ولا يعرف العربية ولا الفرنسية، وهو الآخر جاء مستطلعًا مشتركًا بقلبه وبعض ماله كغيره، ولكني أحببته لجهله وسلامة قلبه؛ لأنه كان بمعزل عن كل شيء يهم وطنه، وذهب إلى تركيا ليعود إلينا بمثال «التركي الزغير»، ولا عجب فإن هؤلاء الناس ترك في دمائهم خضعوا لعبد الحميد طول القرن، فلما ظهر «التركي الزعير» أرادوا تقليده، فأفهمته بالإنجليزية التي يجيدها أننا لا نستطيع تقليد التركي الزغير؛ لأنه «ليس عندنا جيش ولا سلاح ولا أنور ولا نيازي ولا طلعت …».

ومحمد بك راغب هذا عنوان على عدد كبير جدًّا من أهل مصر الذين يعيشون فيها، وينتمون إلى الدولتين الحاكمتين قديمًا وحديثًا (تركيا وإنجلترا)، ولم أجد وطنيًّا صادقًا إلا الفلاح المتعلم الخالي من مطامع الوظائف. وكان المال دائمًا عقبة في سبيل الوطنية في الأمم الضعيفة المستسلمة؛ لأن الحاكمين يهددون الأغنياء في ثروتهم، كما كان الفقر عقبة أخرى؛ لأن الفقير النابغ عاجز عن التعليم ومحتاج إلى القوت، وفي الحق لا ذنب للفقر أو الغنى وإنما الذنب للصغار والضعة ودناءة النفوس، ولكن على كل حال كان الناشئون في الطبقة الوسطى أميل إلى التقدم والعواطف السامية أمثال مصطفى كامل.

وفي هذه الجلسة العشائية عرض عليَّ فريد بك وألح أن أنزل معهم بالخان؛ لأنه أقرب إليّ وأجدى؛ لأنني أكون ضيفًا على الجماعة (أي: أموال المؤتمر)، فاعتذرت بأنني ألفت النزول بأحياء الطلبة ما دمت طالبًا وأنني أستمتع بخلوة عذبة، وأنني طول اليوم أكون في صحبتهم أعمل معهم، وأنني لا أستطيع الطعام معهم؛ لأنني أتبع تدبيرًا طبيًّا وحمية غذائية، فقبل عذري وإعفائي من ذلك الاختلاط المشوش.

وذلك لأنني علمت أنهم ينفقون من الأموال التي جمعت في مصر على ذمة العمل السياسي، وقد درجت ودأبت طول حياتي على الاعتماد على الله ثم على ما أملك في الإنفاق على كل عمل عام أستطيعه ولم أعرف ولم أقبل معونة مادية من أحد؛ لأن من يفعل هذا يكون أجيرًا غير مأجور، ودهشت إذ علمت أن البيكوات والسادة الأعيان ينفقون من الأموال المجموعة على معيشتهم، وفيهم أغنياء كثير أمثال عمار بك وفؤاد حسيب بك والدكتور بدران حتى حامد العلايلي، ويرون هذا جائزًا وحلالًا؛ لأنهم يقومون بعمل وطني، ولعل بعضهم اكتتب بمال فاشتركوا جميعًا في الاغتراف منه، فاعتذرت لهم بأنني لم أكتتب بغير عمل ذهني ومجهودي العقلي فلا حق لي في أن أعيش على نفقة أحد، خصوصًا وأنني لست ممن يميلون إلى الترف والأناقة في المأكل والمشرب.

وسألني صاحبي العلايلي كيف وصلت، قلت له: في الدرجة الثالثة، وسألني على المدينة الإيطالية التي كنت بها فلما قلت له: فيرنزه، ضحك وقال: وماذا كان عنوانك يا لطفي، قلت: نمرة ٦ شارع ليونارد دافنشي، فأغرب في الضحك؛ لأنه لم يسمع باسم المدينة ولا باسم الفنان الكبير وأنه كان يتلذذ كلما نطقت بالاسمين بلهجة إيطالية، ودعاني إلى غرفته وأظهرني على حليته وحلله وأحذيته وأربطة عنقه وعصية، وعلى أطقم كثيرة من الأقمصة والجوارب، وحكى لي كثيرًا من مغامراته، وألح من جديد على ضيافته وأنها توفر عليّ كثيرًا وكيف أستبيح لنفسي البعد عنه بحجة الحمَّى (يريد الحمية) والتبذير (التدبير)، فضحكت كثيرًا ثم افترقنا وعدت إلى ركني السعيد في شارع فوجيرار على أن أعود في الصباح الباكر لنبدأ العمل.

وفي اليوم التالي قابلت فؤاد حسيب، وكان كاتبًا بالفرنسية طارئًا على الوطنية وقد تخرج في دير مسيحي وكان قسيسًا حتى أتقن اللغة ثم ألقى ثياب الرهبان، وانضم إلى المصريين يكتب في الصحف الفرنسية.

جواسيس على المؤتمر

ورأيت عمدًا ومشايخ بالعمائم والقفاطين، وكان معهم خالد الفوال بك وهو من أعيان دمياط وموظف بديوان الأوقاف، وكان دائمًا مخمورًا فعجبت لحاله فقال لي خبير به: إنه ليتجسس على المؤتمر وقد دفع مائة جنيه قيمة اشتراكه وهي طبعًا من المصاريف السرية، وكان يتظاهر بالسكر ليأمن المؤتمرون جانبه، ولكن أمره لم يكن خافيًا على أحد؛ لأنه لا يعقل أن يجمع بين وظيفة الحكومة وخدمة الخديوي والوطنية الثائرة على الاحتلال وعلى الخديوي. وكان هناك موظف آخر في محافظة مصر ع. س. وهو شخص ضخم صعيدي الموطن واللهجة، يزعم أنه جاء لأداء امتحان الحقوق، ويتقرب إلينا بالتظرف والنوادر، وكثرة أخرى من المشبوهين المندسين رسل فيلبيديس وهارفي باشا ووزارة الداخلية.

فلما خاطب بعض المخلصين فريد بك في أمرهم ضحك وقال: «يا إخواني لا تظهروا علمكم بأمرهم، فأولًا: نحن نستفيد من أموالهم التي يدفعونها بمثابة اشتراك، وثانيًا: ليس عندنا أسرار نخشى عليها. وإننا لو أظهرنا اهتمامنا بهم لبلغوا أمانيهم عند سادتهم وكادوا لنا كيدًا» ثم اتجه إليّ وقال: إن صاحبك الروح بالروح الذي اصطفيته في مؤتمر جنيف، حتى جعلناه سكرتيرًا ها هو جاء هذه السنة وقد قيل لي: إنه محمل بأموال الخديوي عباس ليقضي لبانته من التجسس علينا وعليك أنت بالذات؛ لأنه موظف رسمي بالمعية السنية (ديوان الخديو) ومصاهر أحب الناس إلى الخديوي وألصقهم به، هل يمكننا أن نجاهره العداء بتهمة التجسس، يا لطفي دع الخلق للخالق والله منتقم جبار. فقلت له: يا سعادة البيك، أنا لا يهمني هذا الأمر؛ لأنني لست موظفًا ولا عينًا ولا مليونيرًا لأخشى عواقب تجسسهم، وما دمت أنت ترى هذا الرأي فالقول لك. على أنني لا أعرف أحدًا من هؤلاء الناس لغيبتي الطويلة عن مصر.

فربت على ظهري وقال: «أنا أعرف المصريين جيدًا. إن هؤلاء اﻟﮐ … جميعًا غدًا ينقلبون خدمًا لنا وعبيدًا عندما تظهر قوتنا ونصبح ذوي الشأن، فهذه صنعتهم في كل عهد ودولة يعبدون الأقوياء ويخضعون لصاحب الأمر».

وفي هذه الأيام رأيت الأستاذ محمد حسين هيكل وكان يطلب الدكتوراه، وكان يقابلنا ونتحدث معه ونسير معه لكنه كان يبتعد قدر طاقته عن الظهور بمظهر الوطنية المتطرفة؛ لأنه مبعوث على نفقة الحكومة المصرية ويخشى أن تفصله من البعثة المدرسية، ولقيت شفيق منصور وكان حديث الانضمام إلى الحزب الوطني وحديث النجاة من قضية الورداني وتهمة الاشتراك في اغتيال بطرس غالي باشا، وعلمت أن الحكومة المصرية أرسلت لفيفًا من المصريين الموظفين والعاملين وجعلتهم جواسيس على لجنة المؤتمر، ومنهم خالد الفوال بك وعبد اللطيف سعودي بك وآخرون، وقد تظاهروا بأنهم وطنيون لأول مرة في حياتهم، كذلك أرسل الإنجليز جواسيس من الرجال والنساء، وكذلك حكومة فرنسا.

وكان رئيس الوزراء أريستيد بريان ثبت علينا العيون والأرصاد، ولا سيما رشبرون التي انتحلت الإسلام وأطلقت على نفسها اسم عزيزة دي روشبرون وكان لها تاريخ طويل.

ولما أدركت جو المؤتمر حمدت الله ألف مرة على انفرادي وعزلتي واتخاذ مسكني في غرفة في الدور الخامس في شارع فوجيرار عند أرملة مسنة، فكنت أتناول وجبات الطعام في مسكني، وأجتمع بإخواني في أوقات العمل قبل الظهر وبعده.

عبد الحميد سعيد

وفي تلك الفترة رأينا المرحوم عبد الحميد سعيد ولا بد أن يكون منظره قد أدخل البهجة والحبور على قلب عزيزة روشبرون، فقد كان عملاقًا حائزًا لكل الشروط وله لحية كثة وشوارب ضخمة وصوت جهوري كدق الطبول، وله حلية من الذهب والحجارة الكريمة في رقبته وصدره وأصابعه، ويتجمل بالطربوش ويحمل في يده عصا بل هراوة ويقهقه فتهتز أركان المكان. وقد روى لنا هذا البطل أنه ابن باشا ويملك أراضي واسعة في سخاطوب أو طحانوب لا أذكر وأنه منذ وطئت قدمه أرض باريس ليدرس الدكتوراه في القانون لم يغير سكنه في شقة فخمة، ولم يقطع فرضه في الصلاة ولا سنته وأنه أحضر معه ثلاثة خدم أحدهم إمام يؤذن له الأوقات ويؤمه في الصلوات الخمس، وآخر طاه يذبح له الذبائح على القواعد الإسلامية ويطهي له أصناف الطعام التي لا يستغني عنها (الملوخية والبامية والكشك والطاجن والمعمَّر والدمعة والرز المفلفل إلخ) وخادم ثالث (شماشرجي) أي: يعد له الثياب ويعني بها.

فأعجبت به وغبطته على نعمة الإيمان.

وحدث يومًا أن دب خلاف هين بينه وبين أحد أعضاء المؤتمر أثناء انعقاد جلسة من جلسات اللجنة، فنهض عبد الحميد بك سعيد، ورفع يديه حتى كادت تلامس السقف وقال بصوت دوى في العمارة كلها: يا فريد بك والله العظيم إن لم تمنعه عني فإنني أحمله بين يديَّ (وكان خصمه رجلًا قصيرًا هزيلًا) وألقي به من هذه النافذة. أنا والله ما حضرت إلا إكرامًا لك وللطفي باشا السيد، ثم أخذ ينظر إلى الرجل القصير ثم إلى النافذة كأنه يهم فعلًا بقتله. فدهشنا جميعًا ولا سيما أحمد لطفي بك، وقال لسعيد بك: هذا ليس كلامًا يقال. اقعد يا أخي … أنت في باريس عاصمة فرنسا، وأنت حائز لإجازة الحقوق وتدرس الدكتوراه، ثم تتهدد رجلًا مثلك في لجنة سياسية بالإعدام بدون محاكم أو دفاع فهل هو عبدك، ولو كان عبدك هل هو في أبعاديتك، فأين القانون الذي تعلمته، بل أين الإيمان الذي حدثتنا عنه وأنت عين ابن أعيان، اجلس يا شيخ ودعك من هذا الكلام الفارغ … إن باريس تهذب الوحش فضلًا عن الرجل المهذب!

فأرغى عبد الحميد وأزبد من جديد وكاد يهدم الهيكل مثل شمشون الجبار، وكان يقول: «عليَّ وعلى أصدقائي يا رب»، فنهض فريد بك وتعلق بإحدى يديه المرفوعتين إلى السقف واحتال عليه حتى أخرجه من الغرفة … ورفعت الجلسة للاستراحة بعد هذا العناء.

مشاركة الزعماء الهنود في أعمال المؤتمر

وجاء إلينا عنصر جديد من الرجال والنساء، هؤلاء هم الهنود المقيمون في بارس تحت رياسة السيدة الفاضلة طيبة الذكر والأثر الوطنية المخلصة مدام كاما، وكانت تقيم على قيد أمتار من «فاميلي هاوس» بشارع پونتيو Rue Pounthieu رقم ٢٥، وهو حي أرستوقراطي متصل بالشانزليزيه ويعيش في كنفها رهط من الوطنيين الهنود أمثال هارديال وشاتوبادايا وأكبرهم ساڤاركار الذي فر من لندن عقب اغتيال سير كرزون وايلي رأس الجاسوسية الإنجليزية على طلاب الهنود الذي قتله دنجرا الشهير، وسجن الشيخ جاويش بسبب تمجيده بمقال في اللواء بعنوان «اليوم يعدم دنجرا».

وكان سافاركار الطالب الهندي النابغ مقيمًا في لندن فاتهموه بالتحريض كما اتهموا الوزير الهندوكي القديم شيامدجي كريشنافارما. وكان هذا الوزير يصدر جريدة «الاجتماعي الهندي»، ويحمل فيها على الاستعمار البريطاني في الهند حملات صادقة. وكان الإنجليز يطيقونه رغم أنوفهم لمكانته السياسية والعلمية ولوفرة ثروته؛ ولأنه تلميذ سبنسر وقد وقف ثلاثين ألف جنيه على عالم يلقي دروسًا في فلسفة سبنسر في كلية أكسفورد، فكان الإنجليز يخجلون أن ينفوه أو يطردوه؛ لأنهم فتحوا أبواب بلادهم لكل لاجئ سياسي فوجب أن يعتبروه لاجئًا حرًّا وأن يحموه كما حموا ماتزيني، وكما كانوا يحمون في هذا الوقت نفسه لينين وهو يصدر مجلة الشرارة (اسكرا).

فتحملوا كريشنا فارما على مضض وهم يتربصون به الدوائر وهم يحرقون الإرم كلما أصدر عددًا من مجلته الشهرية، وقد زاد النار ضراما أنه خصص جزءًا كبيرًا من ماله لتأسيس وتأثيث بيت الهند “Indian House”؛ ليأوي إليه الطلاب الهنود المغتربون صيانة لهم وحفظًا لصحتهم وأخلاقهم، فقد علم القاصي والداني أن عمل كيرزون وايلي كان أن يضلل الشباب الهندي وهو رئيس لجنة استقبالهم والإشراف على إقامتهم وتعليمهم، وقد ثبت في قضية دنجرا أن كيرزون وايلي كان ينصح للشبان الهنود أن ينزلوا منازل، ظهر للملأ أنها مواخير لينصرفوا عن العلم والأدب والوطن إلى اللهو والغزل والدعارة، فتنهدّ قواهم ويمرضوا ويموتوا؛ ولأجل هذا قتله دنجرا وقتل معه طبيبًا هنديًّا مسلمًا اسمه محمد علي خان كان شريك كيرزون وايلي، وقال دنجرا في دفاعه: إنه يفضل أن يموت في سبيل وطنه لينقذ مئات الشبان.

وكان شيامدجي كريشنا فارما ماهرًا جدًّا في الفرار ونجا معه في سفينة واحدة إلى فرنسا سافاركار. فلما هجم البوليس الإنجليزي على بيت الهند لم يجد فيه هنديًّا واحدًا فحطَّم أثاثه واستولى على كل ما وجده من أوراق ووثائق وخرب البناء نفسه حتى لا يعود إليه أحد يستظل بظله، وكان كريشنا فارما حصيفًا، فلم تكد قدمه تطأ أرض فرنسا حتى بعث بهبة قدرها عشرة آلاف فرنك إعانة للمصابين بفيضان نهر السين «سنة ١٩١٠». وأرفقها بخطاب إلى رئيس الجمهورية قال فيه: إنه يعتذر لضآلة قيمة المنحة ولكنه غريب الديار مطرود من إنجلترا ومظلوم في تهمة باطلة. فلما طالبت إنجلترا بتسليمه اعتذرت حكومة باريس بأنه لاجئ سياسي ولا ترى الحكومة في مسلكه عيبًا ولا عليه غبارًا. وأقام كريشنا فارما في بيت جميل في أحياء الأعيان، وكانت معه زوجته، وطالما تغديت عنده وقضينا ساعات طويلة في الحديث والنقاش.

أما سافاركار فكان فقيرًا فلجأ إلى مدام كاما يعيش في كنفها. وكان بين كريشنا وكاما عداء شديد سببه التنافس في خدمة الوطن؛ ولأن كاما كانت كالرجل الحازم العازم الواعي بل أشد رجولة وقوة، وكانت سخية كريمة وهي أرملة في الخمسين من عمرها من جنس الپارسي (سلالة الفرس المقيمين في بومباي)، وهي تصدر مجلة باندي ما ترام والعنوان نفسه تحية الهندي لوطنه «عمي صباحًا يا أمنا الهند!»

فهؤلاء الهنود أقبلوا علينا؛ لأنهم انضموا إلينا في العام الماضي ١٩٠٩ في جنيف وجاءت كاما بأبنائها وبناتها وأحجم كريشنا فارما رغبة منه في عدم الاتصال بمنافسته، وحاولت أن أكون حلقة اتصال بينهما فلم أوفق وقالت لي مدام كاما: خل عنك يا ولدي فأنت لا تعرف عمق أحقاد كريشنا ولا تحيط بدهائه وأنا لا أطعن في وطنيته، ولكن أقول لك: إنه موظف قديم عند الإنجليز ولم ينل منهم كل أغراضه وهذا يكفي. ولكنني احترمت كريشنا وأحببته؛ لأنه أعان عشرات الشبان على الكفاح، ولا سيما سافاركار الذي ألف كتابًا في تاريخ الثورة الهندية (١٨٥٧).

ولم يكن سافاركار يدعو إلى الثورة السافرة ولا إهراق الدماء، وإن كان دنجرا من أخص أتباعه، ولكن مدام كاما كانت تدعو لها ولها يد حمراء في قذف القنابل التي أصابت لورد هاردنج نائب الملك في الهند، فقد قالت لأحد خلصائها: إنها انتهزت وجود بورتزف الثائر الروسي في بارس واتصلت به وجعلته يعلم بعض شبان الهنود صنع القنابل، فصنعوها في بيتها وسافروا بها إلى الهند وألقوها على نائب الملك.

موقف محمد فريد من الزعماء الهنود

كان فريد بك ينظر إلى هؤلاء الهنود شزرًا ويخشاهم؛ لأنه يخشى أن يتهم أعضاء المؤتمر المصري الوطني بالتآمر مع الهنود على الحكم البريطاني وهو يزمع أن يعود إلى وطنه.

ولكن كان ما خاف أن يكون وجاءه السجن والنفي عن طريق كتاب وطنيتي وهو ديوان شعر نظمه علي الغاياتي.

وكنت أقسم وقتي بين مؤتمرنا في فاميلي هاوس وبين مجامع الهنود، ورأيت مدام كاما تتأهب للحضور معنا محفوفة بعشرات الشبان والفتيات، وقد أعدت خطابًا، كما أخذ الشباب المتعلمون في لندن يكتبون لبعض أبناء الأعيان من المصريين المتعلمين في اكسفورد وكمبردج خطبًا يلقيها المصريون، وهم لا يجيدون النطق ببعض ألفاظها لقاء جعل معلوم لفقر الهنود على علمهم وغنى المصريين على عميق جهلهم، وبعض هذه الخطب مطبوع ومنسوب إلى الذي ألقاه كذبًا ومينًا، وكاتبه هارديال الذي كان في تلك الأيام في غاية الفاقة، وكتبتُ باسم فريد بك خطابًا مطولًا إلى مستر بلنت فأجاب بمكتوب طويل إلى فريد بك بوصفه رئيس المؤتمر ومعه خطاب جليل باللغة الفرنسية واشترط أن أتولى تلاوته، وهذا الخطاب نشر بالعربية في مصر مرارًا فلا داعي إلى تكراره، ولكن أقول: إن كل ما تكهن به بلنت عن سياسة الإنجليز الاستعمارية ومسالكهم الملتوية وخططهم الجهنمية قد تحقق كأنه كان يقرأ في كتاب مبسوط.

لقد سرني أنني قابلت لفيفًا من رجال الثورة الهندية في باريس وأكبرهم شأنًا مدام كاما وهارديال وسافاركار وشاتوباديا، وآخرين تجارًا مقيمين في باريس يتجرون في اللآلئ وزرت شيامدجي كريشنافارما، فوجدت راحة وسرورًا ومتعة في عشرة هؤلاء الهنود وهم أبطال ومخلصون وثقات ومتعلمون ومطلعون وعليهم هم الآخرين لفيف من الجواسيس الإنجليز والهنود (ولا سيما المسلمين منهم)، وقد رغب الوطنيون الهنود أن يشتركوا معنا في المؤتمر وأن يشدوا أزرنا بخطبهم وبحوثهم، وكان بعض الأغنياء من المصريين يعارضون في ذلك بحجة أن هذا المظهر يحرج صدور الإنجليز علينا، ويزيد أحقادهم، خصوصًا وأن الهنود يلجئون في بلادهم إلى القوة والمصريون يريدون أن يناضلوا على بساط القانون، ويتخذون ما وصفوه بالطرق المشروعة التي تطمئن الإنجليز، وكان فريد بك يميل إلى هذا الرأي إلى أن أقنعته وساعدني في ذلك الدكتور منصور رفعت وحامد العلايلي، وأقنعته بأن الهنود يتخذون من مؤتمرنا متنفسًا ولا يجوز لنا أن نمنعهم، وأننا في العام الماضي (سنة ١٩٠٩) اتخذنا أنصارًا من الأيرلنديين والألمان والاشتراكيين الفرنسيين (روانيه وجوريس) فكيف نمنع الشرقيين، وشرحت لفريد بك أن الإنجليز إذا علموا أن لنا أنصارًا من أمم مختلفة يتهيبون جانبنا ويحسبون لنا حسابًا، وأن هذه كانت خطة المرحوم مصطفى كامل في نضاله، وأنه نجح فيه في دنشواي وما بعد الاتفاق الودي بأنصاره من الفرنسيين وأحرار الإنجليز، فاقتنع — رحمه الله — ولكنه اشترط على من يخطب منهم ولا سيما مدام كاما أن لا يذكر المقاومة بالقوة أو تبرير إهراق الدماء (وكانت حوادث المرحوم الورداني ودنجرا يرن صداها في الآذان والأذهان)، فتعهدت له أن أقنع مدام كاما بضرورة عرض خطبتها علينا قبل إلقائها.

حضور كيرهاردي زعيم حزب العمال في المؤتمر

واشتغلنا وتعبنا أيامًا وليالي وكان في مقدمة مساعدينا الدكتور عثمان غالب باشا، وهو مقيم بشارع بولانجيه بباريس وكان يروي لنا من أخبار المرحوم مصطفى كامل الشيء الكثير؛ لأنه كان أكبر أصدقائه من المصريين في فرنسا، واتصلنا بالصحافة وكافة الأوساط السياسية، وحضر إلينا من إنجلترا مستر كيرهاردي زعيم حزب العمال ومؤسسه، وكانت خطتنا أن نعقد المؤتمر في أيام ثلاثة ١٤، ١٥ و١٦ سبتمبر وهي أيام الاحتلال البريطاني بعد موقعة التل الكبير. وفي الأسبوع الأخير قبل الموعد المحدد تفاقمت حوادث التجسس حولنا، وظهر لنا للأسف أن عزيزة روشبرون في مقدمة الجواسيس. ولما بدأنا نكشفها تظاهرت بالغضب وتركتنا.

مقابلة رئيس وزراء فرنسا ووزير داخليتها ومنع انعقاد المؤتمر في بارس

وفي يوم ١٠ سبتمبر وصلت دعوة باسم فريد بك، وأخرى باسمي لمقابلة وزير الداخلية مسيو بريان بقصر وزارة الداخلية فذهبنا إليها ومعنا حامد العلايلي.

وقابلنا رئيس مكتب الوزير فمهد إلي الحديث بأن إنجلترا تنظر إلى مؤتمرنا بعين السخط وأن حكومة فرنسا متحالفة مع بريطانيا منذ سنة ١٩٠٤، وأن الأحوال الدولية متحرجة وأنّا أحسنّا صنعًا في العام الماضي إذ عقدنا مؤتمرنا بمدينة جنيف وهي جمهورية حرة محايدة، فأجبناه ورددنا حججه فقال: إن خلاص المسألة في يد موسيو بريان، ودعانا إلى مقابلته، وكان في أول الأمر هاشًّا باشًّا ثم تغير وقال: «أنت طالب بكلية الحقوق في ليون وتعلم أن القانون لا يبيح لك الاشتغال بالسياسة»، فقلت له: نعم ولكنني لا أشتغل بسياسة فرنسا ولكن بسياسة وطني، وفرنسا وطن ثان لكل ضيف وهي أم الحرية وحقوق الإنسان، وتكلم فريد بك بعبارات بليغة.

فقال بريان: لأجل هذه الأسباب كلها أنصح لكم أن تعقدوا مؤتمركم خارج فرنسا، وليكن في سويسرا أو في إمارة لكسمبورج؛ لأننا لا نود أن نصدر أمرًا بطردكم من فرنسا (كذا)، وإذا صدر هذا الأمر تحرمون من الدخول وتقعون تحت مراقبة الشرطة السرية. فقلت له: إن فرنسا لا تفعل هذا؛ لأننا دعونا عشرات من أعضاء البرلمان الفرنسي والرايشتاج الألماني والبرلمان الإنجليزي، وأمليت عليه أسماءهم، وقلت: إن هؤلاء إذا صدر قرار نفينا يقدمون استجوابات بشأنه، على أننا مسالمون ولا يزيد عملنا في المؤتمر عن الخطابة والكتابة في حدود القانون، فاعتدل الرجل وقال: «على الرغم من هذا فإنني لا أريد أن أصدر قرارًا بطردكم ولا أريد أن يعقد مؤتمركم عندنا وأنصح لكم بمغادرة البلاد بطريق المودة».

فأشار لي فريد بك إشارة فهمت منها أن لا فائدة من مناقشة هذا الرجل ثم قال له: وكيف يمكننا الآن أن ننتقل بقضنا وقضيضنا إلى بلد آخر، ونغير خططنا وقد أزف الوقت واتخذنا أهبتنا في هذه العاصمة؟

قال بريان: الحقيقة أنني بذلت جهودًا كثيرة لأستبقيكم ولم أتمكن. فنهض فريد بك ونهضنا ونهض بريان لتوديعنا فقلت له مبتسمًا: لم أكن أظن يا سيدي الوزير الأكبر ورئيس المجلس أن كلمة دولة كائنة من كانت تكون هي العليا في باريس، وأنا أقصد إن إنجلترا تحكمت فيهم إلى هذه الدرجة.

فقال الرجل: ماذا تريد أن تقول؟

فقال فريد بك: أنت ونحن رجال قانون ونعد أفراد أسرة واحدة، وأنا أؤكد لكم أننا رأينا جواسيس من دولة أجنبية يحيطون بنا ويتبعون خطواتنا في كل مكان.

فابتسم بريان ابتسامة صفراء وتدلّت شفته السفلى، وكانت مثل شفة العجل الصغير وله شوارب متصلة بشعر كثيف حول فمه وقال: إن الأوهام يا سيدي تجعلكم ترون الإنجليز في كل مكان.

فقال فريد بك: سواء كانت أوهامًا أو حقائق فقد لمسناهم في باريس.

وتظاهرنا كلنا بالضحك لننقذ هذا الموقف الأليم. وخرجنا نجرر أذيال الأسف والندم على أننا وثقنا بدولة تحكمها النساء والإنجليز، واجتمعنا وتحرينا أن لا يكون بيننا ذو ريبة حتى لا يذيع سر هذه الخيبة، وبحثنا وتناقشنا واستعرضنا كل الممكنات والمستحيلات والمدن والدول التي نستطيع الالتجاء إليها قبل أن يعرف الأمر، ويشمت بنا الإنجليز أو يلجئون إلى دسيسة أخرى، فأبدى المرحوم أحمد وفيق اسم بروكسيل وكان فيها معرض دولي، فوافقنا على اختيارها وقررنا إيفاده في فجر اليوم التالي؛ ليهيئ لنا مكانًا وجوًّا للاجتماع فيها بعد ثلاثة أيام.

وقضينا الأيام والليالي الباقية في فضيحة فرنسا بإعلانات الجدران، وبتوزيع منشورات بالأيدي وفي التظلم إلى الصحافة، وقصدنا إلى بعض شركات السكة الحديد لنستأجر قطارًا خاصًّا فرفضت. وبذلنا جهودًا جبارة في لم شعثنا، وحصرنا العمل في خمسة أو ستة أشخاص لم يعلم غيرهم أحد بمقاصدنا ولا باتجاهنا، وعقدنا النية على أن يغادر المصريون المدعوون باريس في القطار السريع الذي يسافر إلى بروكسيل في أربع ساعات، وقد وفق الله وفيقًا في اتخاذ مكان فسيح بديع في قلب العاصمة البلجيكية، وحجز ثلاث طبقات في فندق كبير وكانت بروكسيل مزدحمة جدًّا بسبب المعرض الدولي.

وقد أراد الله أن يعقد المؤتمر الوطني المصري الثاني في نفس موعده الذي كان محددًا لانعقاده في باريس، وقد حضر إليه كل المدعوين والأعوان والأنصار وقد أبلغناهم الدعوة في وقتها المناسب، وعددنا هذا العمل نصرًا من الله.

ويوجد كتاب ضخم مطبوع باللغة الفرنسية فيه أخبار المؤتمر، فليطالعه من يريد الوقوف على أعمال هذا المؤتمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤