الفصل الثالث عشر

العالَم العَربي اليَوْم١

«العالم العربي اليوم»٢ اسم كتاب بالإنجليزية ألفه الأستاذ مورو بيرجر Morroe Berger أستاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون والمشرف على برنامج دراسات الشرق الأوسط في تلك الجامعة.

ويقع كتابه هذا في قرابة خمسمائة صفحة حافلة بالمعلومات الواقعية عن العالم العربي، مستمدة من مراجع الإحصاء والمشاهدة، معروضة على أسلوب النظر العلمي في جملتها، ولكنها تنظر من وجهة نظر غربية كلما رجع الأمر إلى اختلاف التقدير.

والكتاب مفتتح بفصول متعددة عن القومية العربية في الزمن القديم، والقومية العربية في الزمن الحديث، وعن العلاقة بين هذه القومية وبين الإسلام بعد بعثة محمد ، وموجز ما يقال فيها:

إن الإسلام تقبل كثيرًا من شعائر اليهودية والمسيحية، ولكنه نقلها إلى العالم العربي، ثم استبدل أواصر العقيدة بأواصر النسب والعصبية التي كانت تجمع قبائل العرب كما كانت تفرق بينها.

والمؤلف يصف الديانة الإسلامية بأنها ديانة «مستقيمة بسيطة» أو بعبارة أخرى «مباشرة في اتجاهها غير معقدة» وأنها لاستقامتها وبساطتها لا تزال إلى الآن سهلة الاتجاه إلى «الجاهليين» في القارة الأفريقية، ولكنه يعود فيقول: إن تقدمها بين هؤلاء الجاهليين، لا يرجع إلى مجهود مقصود من جانب الإسلام باعتباره قوة عالمية مركزة؛ كما يرجع إلى القدوة المباشرة التي تأتي من اتصال المسلمين بغير المسلمين في أرجاء القارة الأفريقية.

والموضوع المهم في الكتاب كله هو موضوع الدين الإسلامي والحركات التي يسميها الغربيون بالعلمانية أو الدنيوية Secular وتسمى أحيانًا «باللادينية» عند المقابلة بين سلطة الكهنوت ورجال اللاهوت وسلطة الدولة والحكومة.

ويقرر المؤلف أن الإسلام لم يواجه الخرافات «اللادينية» للمرة الأولى.

فقَبْلَ احتكاك المسلمين بالعالم الغربي في القرن العشرين كانت لهم صلات كثيرة بالأمم التي خالفتهم في العقيدة وفي آداب الحضارة، وآخر هذه الصلات من وجهة المبادئ الاجتماعية الفكرية ودساتير السياسة والحكم صلة الإعجاب بالثورة الفرنسية، وما نجم عنها بين المسلمين من التَّنبُّه لحقوق الفرد وحقوق حرية التفكير ودعوات التجديد والتخلص من القديم.

إلا أن الجديد في الحركة اللادينية الأخيرة أنها «داخلية» في العالم العربي الإسلامي وليست بالخارجية الطارئة عليه من غير قومه وبلاده.

فقد كان المسلم يواجه ثقافة اليونان وثقافة الدول الأوروبية وثقافة الثورة الفرنسية وهو يستعد لها بالمقاومة على سنة الأمم مع الطارئ الغريب، أو الطارئ الذي يستدعي المقاومة لأنه يتغلب عليها، ثم يخضعها لسيطرته على غير إرادة منها.

أما «اللادينية» بعد جلاء الحكام الأجانب عن البلاد فمصدرها من الداخل لا من الخارج كما كان منذ أوائل القرن الثاني عشر إلى أوائل القرن العشرين، وليس لها من يقاومها غير المحافظين الذين يكرهون الجديد أو المحافظين الذين يقربون بين القديم والجديد، ويسميهم الغربيون بالمستحدثين أو «المودرنيست» Modernist.

ومن أهم فصول الكتاب فصل عقده المؤلف للبحث عن الإسلام في ناحية التشريع هل هو عقيدة دينية دنيوية أو هو كغيره من الديانات التي تنفصل فيها عقائد الإيمان عن شئون الحياة ومزاولات المعيشة ولا سيما شئون الحكم والسياسة؟

وربما ورد السؤال على صورة أخرى فيقال: هل أحكام التشريع في القرآن مسألة نظام وإدارة حكومية؟ أو هي مسألة أخلاق وسلوك ديني يستحق به المسلم حسن الجزاء في الآخرة؟

قال المؤلف في الصفحة الحادية والأربعين: «إن الصلة المكينة بين الإسلام والمجتمع العربي نشأت كما رأينا منذ قام محمد — صلوات الله عليه — بخلق دولة تنتظم العقائد الدينية والمعاملات التي في الأصل عليها العرب، وقد شمل الإسلام على الدوام كل جوانب الحياة الاجتماعية باعتباره قسطاس أخلاق وآداب، ولكنه لم ينجح قط في تقرير شريعة متناسقة من العلاقات بين الناس في مجتمعات المسلمين المختلفة. وقد نبه يوسف شاخت — وهو الباحث الحجة في هذا المطلب — إلى رأي يقول: إن النبي لم يحاول تبديل العرف القانوني عند العرب، بل أراد أن يعلم الناس كيف يعملون في الحياة الدنيا لكي يظفروا برجحان الكفة في حساب الآخرة.»

قال مؤلف الكتاب ما فحواه: إن الإسلام لا يكون على هذا الاعتبار دينًا دنيويًّا، أو شريعة اعتقاد معيشة «علمانية» في وقت واحد؛ لأن المعاملات كما يوجبها على المسلم هي فرائض أخلاق وعبادة لا يلزم من اتباعها أن تكون دستورًا للإرادة العلمية في نظم الحكومات.

ولكن الكثيرين من الغربيين يحسبون أنه قانون عملي، لأنه يوصي بما يوصي به من الأحكام والآداب التي تتناولها القوانين.

والمشكلة «العلمانية» في العصر الحاضر كما يراها المؤلف هي محاولة المسلم المستنير أن يدرك الحقيقة ويحسن تطبيقها عملًا في هذا الموضوع.

فهل يعتبر هذا المسلم أن دينه تكفَّلَ للمسلمين بنظام المعيشة والحياة العملية، كما تكفل لهم بشئون الإيمان والعبادة؟ أو يتبع في نظام المعيشة قانونًا موضوعًا لا يرتبط بنصوص الكتاب؟

إن المؤلف يقسم المستحدثين أو «المودرنيست» أمام هذه القضية إلى طائفتين؛ طائفة سابقة من أبناء الجيل الماضي، وطائفة لاحقة من أبناء هذا الجيل.

والفرق بينهما أن أبناء الجيل الماضي الذين درسوا علوم الحضارة الغربية قد درسوها في ديارها، وعاشوا بين أهلها، وكانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى من نشأ بعدهم من المتعلمين العصريين، فعادوا إلى بلادهم غرباء عنها، وكادت الصلة بينهم وبين الجمهرة الكبرى من مواطنيهم أن تنقطع كل الانقطاع.

والطائفة التالية من تلاميذ الحضارة الغربية قد عرفوها وهم في أوطانهم لم يفارقوها، وقد عرفوها في دور التعليم كما عرفوها في بيئات المعيشة الحضرية على الأكثر؛ لأن هذه البيئات قد تغيرت مع الزمن وتشابهت مظاهرها في مدائن الشرق ومدائن الغرب على نحو يقارب التشابه بين مظاهر الحضارة في أمم الغرب نفسه، حسب اختلاف مواقعها وتقاليدها.

وقد ضعفت دواعي المقاومة للحضارة الغربية بين أبناء هذا الجيل لهذا السبب الواضح، ولسبب آخر يرجع إلى تقدم المسلمين في سبيل الاستقلال عن سلطان الحكم الأجنبي، فإن مقاومة الحضارة الأوروبية كانت فيما مضى وجهًا من وجوه التمرد على أبناء تلك الحضارة القابضين على أزِمَّة الحكم والإدارة. فلما زال هذا السلطان، أو خفت وطأته، زال معه سبب كبير من أسباب العداء للتجديد العصري والاستحداث في فهم الدين.

ويختم المؤلف صفحات الكتاب بأسطر قليلة يقول فيها: إن مستقبل العرب سيكون من صنع أيديهم بعد اليوم، وسيتولونه ويتولون أمور دينهم ودنياهم كما يفهمونها، وسيكون للجمهرة الكبرى شأن لا يتجاهله المصلحون بين ظهرانيهم، لأن هذه الجمهرة قد أصبح لها خطرها المحسوس، وإن تكن في بعض البلدان قد أصبحت مهمة في تقرير سياستها قبل أن تتدرب على ولاية الأمر بأيديها.

قال المؤلف قبل أن يستطرد إلى الفصل الأخير عن التجديد أو الاستحداث وعلاقته بالجماهير:

إن الحكومات الغربية في الشرق الأدنى لا تستطيع أن تجد بين العرب طوائف ذات صبغة ديمقراطية حقة — ليبرالية — تسندها وتؤيدها، وكذلك يرى الباحثون في الإسلام من الغربيين أنه لا أمل للإسلام المتجدد على الرغم من اعترافهم باعتقادهم في الإسلام قوة الخلق والحيوية.

ويتحفظ المؤلف في إبداء رأيه بين هذه الآراء، ولكنه لا يجزم برفض ذلك الرأي الذي يرويه عمن سماهم بالباحثين في الإسلام من الغربيين، ولا نخاله يستطيع أن يخلص من عادة الوزن بالميزانين في القضية الواحدة كلما تعلقت بالشرق والغرب في شئون العقائد ومذاهب الاجتماع.

فهؤلاء الباحثون الغربيون يقدرون أن «استغراب» المسلم أو أخذه بنظام من نظم الحضارة الغربية لا يتأتى على غير وجه واحد: وهو الإعراض عن دينه أو الانقلاب عليه.

فأما استغراب المسيحية فغير مستحيل مع بقاء الغربيين على ديانتهم وهي شرقية كالإسلام في مصدرها، وكأنما وُجدت هذه الديانة «الشرقية» غريبة منذ اللحظة الأولى ولم «تستغرب» مرات في كل عهد من عهود التاريخ، وأول هذه المرات لم يجاوز القرن الأول للميلاد عند انتقالها من فلسطين إلى آسيا الصغرى ثم بلاد اليونان، وآخرها فروع المذاهب «الإنجيلية» في العالم الجديد، وهي في أصلها «استغراب» في بلاد أوروبا الوسطى واستغراب في أمم الشمال وأمم السكسون.

والمسلم في حساب هؤلاء الباحثين الغربيين يبدو لهم كأنه شخص واحد ولد في عهد البعثة المحمدية، وهو بعينه يولد ويعاد ميلاده من جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة، كذلك «اليهودي» التائه الذي تزعم الأساطير أنه عاش منذ أيام السيد المسيح ويعيش إلى يوم عودته في آخر الزمان!

فهذا المسلم في عهد البعثة المحمدية هو المسلم الذي يتكرر ميلاده على عهد التابعين، ثم على عهد الأمويين، ثم على عهد الأندلسيين، ثم على عهد الحضارة الأوروبية في القرن العشرين! فإما أن يحمل معه زمانه قبل أربعة عشر قرنًا أو ينتقل إلى زمان آخر فلا يبقى على عقيدة الإسلام.

ولو نظر هؤلاء الباحثون هذه النظرة بعينها إلى علاقة الحضارة بديانات الأمم على اختلافها لاستقاموا على جادَّة البحث وإن أخطئوا التقدير. نعم إنهم يستقيمون على جادَّة البحث لو قالوا مثلًا: إنهما طريقان لا تلتقيان في كل عقيدة وكل أمة: طريق الحضارة والعلم وطريق التدين والإيمان.

يستقيمون على جادة البحث النزيه وإن أخطئوا الفرض والتقدير.

ولكن الأمر الذي يستحيل عندهم هو بقاء المسلم وحده على التدين مع أخذه بأسباب الحضارة، ولهذا نقول عنهم: إنهم يزنون بميزانين، لا يساوون بين الحكمين في القضية الواحدة.

إنهم لا يقولون: إن الانتماء إلى الدين على سنة التدين في جميع العصور مستحيل على أمم الحضارة العصرية.

كلا! إنهم لا يقولون ذلك، فلماذا يقولون: إن حضارة المسلم وتدينه هما المستحيل بين أمم العالم وحضاراته؟

يقولون ذلك لأنهم يذكرون غيرهم ولا يذكرون أنفسهم حين يتحدثون عن المشرق والمغرب، وأول ما ينسونه أن الديانة المسيحية التي بقيت في الغرب هي ديانة شرقية المنبت، شرقية الأصول والجذور، شرقية الروح والفطرة، ولكنها استغربت مع الزمن مرة بعد مرة، ووجدوها غربية قبل أن يظهروا هم إلى عالم الوجود غربيين.

١  الأزهر يوليو ١٩٦٣.
٢  The Arab World Today.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤