الفصل السادس والعشرون

الصحَافة في الإسْلام١

الجرائد الآن قوة لا تستبدل بغيرها، وليس من عصرنا هذا ما ينوب عنها إذا محيت منه، فقد وُجدت لمركزها الذي شغلته من قبل وتشغله الآن، وليس عندنا ما ينازعها عليه أو ينازعه عليها.

بلغت من التأثير على عقول الناس والمكانة من المجتمع أن قراءتها أصبحت عملًا من الأعمال اليومية لا يقصر فيه المغرمون بها وهم عادة من أرقى الناس فكرًا وأشدِّهم حرصًا على تحقيق معنى الإنسانية فيهم. ومعناها أن الإنسان مدني بطبعه، يميل إلى كل ما يجمعه بالناس، ويعمل على التقرب منهم بغريزته. ومن شأن هذا الميل أن يحمل صاحبه على الاهتمام بأخبار الناس لأنه واحد منهم يهمه ما يهمهم وهو لا يجد بغيته هذه إلا في الصحافة. لذلك أفرد لها العالم المتمدن من وقته ساعتين وهما ثلث وقت العامل ووقت المتعلم. وثلث وقت الوكل الذي لا يعنى في غير الراحة. وإذا نزعنا إلى المجاز في التعبير قلنا: إن حركة الأفلاك ودوران الكواكب شهرًا من السنة بما يتخلل ذلك من هطول السحاب، ونجوم النبات، وهبوب الرياح وتقلب الأحوال، وتداول الليل والنهار، وقف على الصحافة لا دخل فيه لعمل غيرها، ومع ذلك فلا يكون المجاز هنا قد تعدى الحقيقة بكثير، فإن الواقع ما نرى ونقول.

•••

تقسمت الأنباء بين الماضي والمستقبل والحاضر! فاختص التاريخ بعلم الماضي، والنبوءة بعلم المستقبل، واختصت الصحافة بالحاضر! فإذا استغنى العالم عن التاريخ والاستبصار بحوادثه ووقائعه بما كمل من خبرته وارتقى من عقله، أو كانت النبوءة قد قفل بابها وسدل حجابها، فلم نعد نسمع عن نبي يدعو الناس إليه، ويرغبهم فيما لديه، فهو لا يستغني عن الصحافة؛ لأنها نبأ الحاضر الذي لا يتجرد منه الإنسان إلا إلى حاضر آخر.

فالصحافة — هذه القوة العاملة — أصبحت من مستلزمات الرقي وضروريات الحياة الأدبية، فلا يخلو منها إلا مجتمع ناقص لم تتوافر فيه شروط الاجتماع، ولا نعلم ماذا كان يكون حال مصر وماذا كان يحل محل هذه النهضة العالية والحماسة السياسية المبثوثة بين جميع الطبقات المصرية إذا لم تنشر فيها الجرائد الآن.

ومما يدل على افتقار العالم إلى هذه القوة أنه لم يستقم أمره بدونها منذ بدأ يرقى ويفهم معنى الاجتماع، وإنما كانت تتقمص أشباحًا مختلفة غير الشبح الذي تظهر فيه في العصر الحاضر.

غاية الشعور هي تنبيه الشعور والحث على عمل الواجب ولفت الناس إلى ما يحيق بهم من الأخطار سواء كانت من أثر العادات أو من مناوأة الأعداء، وقد تحققت هذه الغاية بأساليب متباينة ووسائط تتناسب مع حالة العصور الأدبية، فتمثلت أولًا في الخطابة. كأَنْ يشعر العالم أو الأديب بنقص في المجتمع الذي يعيش فيه، أو بحاجة مواطنيه إلى الجهاد وغيره من مقومات الحياة في تلك الأزمان، فيحشد الجموع إلى ميادين البلد ويلقي عليهم خلاصة أفكاره، فيجرهم إلى العمل بها بما للخطابة من قوة التأثير، فكانت الخطابة عندهم بمقام الصحف السياسية منا.

ثم تمثلت في التدريس، فكان يؤدي وظيفة المجلات العلمية عندنا، ويندر أن يتعدى العلوم والآداب إلى السياسة إلا في قضية تتماس فيها السياسة بالعلم أو يضطر فيها المعلم إلى إبداء رأيه في شئون مملكته لتلامذته، وقد كان بينهم أبناء الملوك والأعيان؛ أي الذين تنفعهم دروس السياسة الممزوجة بالعلم.

•••

ولم يعرَ عن الخطابة شعب من الشعوب خصوصًا العرب، على أنهم ما كانوا يعرفون في جاهليتهم طريقة التدريس لقلة معلوماتهم، فتوافرت عزائمهم إلى الخطابة، فبرعوا فيها وأعطوها قسطًا من الإتقان وأقاموا لها النوادي والمجامع على مثال ما كان عند أمتي اليونان والرومان، وقد فاقوهم في بلاغة المعاني وسلامة التعابير.

ولما جاء الإسلام اتسعت دائرة معارفهم وحركت عقولهم المعضلات الشرعية لأول مرة، ثم العلمية بعد أن تقدموا وعرَّبوا كتب حكماء اليونان وغيرهم من أساطين الحكمة في الأمم القديمة، فاهتدوا إلى التدريس وبث الأفكار بواسطته، وكانوا يرحلون إلى المدرسين من قطر إلى قطر، بل من قارة إلى قارة، حتى تفرغ لهذا العمل كثير من العلماء الأجلاء، فاجتمعت عندهم بذلك دعائم الصحافة كما هي عند بقية الأمم، ورجحوها بأن دينهم يعينهم على التمكن منها، فإن الإسلام قرر مبدأها ووصف نموذجها وصف أعلم معاصريها.

فقال الكتاب العزيز: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

وقال النبي : «إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة من اتقاه الناس لشره.»

وقال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة يرضي بها جلساءه يهوي بها في نار جهنم.»

ولا ريب أن هذا أوضح تعريف للصحافة، فما هي على أكمل حالاتها إلا دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. يتفرغ لها جماعة اختصاصيون سماهم القرآن أمة. ومن أهم نموذجاتها عند العصريين ألا تكون أداة تخويف يهدد بها الأعداء، أو فرشاة مجاملة ومحاباة يتقرب بها إلى الملوك والأمراء، بل تكون عند ضمير صاحبها وعقله، وهذا منصوص في الحديثين الشريفين بحيث تنطبقان على الصحافة أكثر مما على الأفراد.

فلو وجدت المطابع في زمن علماء الإسلام الأولين، أو لو وُجِدوا هم في زمن المطابع، لما تأخروا عن الائتمار بأمر الله ولتوفقوا إلى استخدام الصحافة بمعناها المعروف.

ومثل أمامك رجلًا عالمًا يريد أن يهدي الناس إلى ما فيه خيرهم، كيف يهتدي إلى ذلك ويعمم مبادئه بين الناس يغير الصحافة وعنده معداتها، وبين يديه القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يقتبس من آدابها. لا شك أن أول ما يخطر بباله إنشاء صحيفة سياسية يطلع عليها الناس عامة ليكون نفعها أعم، وفائدتها أتم.

وغير ذلك، فمن مبادئ الإسلام إلقاء خطبة أسبوعية في كل مسجد على جموع المصلين، وقد قالوا: إن صلاة الجماعة تقدر بسبعين صلاة يؤديها المصلي منفردًا، وذلك ترغيبًا في سماع هذه الخطب، ودعوة للناس إلى حضورها للاتعاظ بما فيها، وما هذا إلا بمثابة صحيفة أسبوعية تصدر من كل مسجد مشتملة على النصائح والتحذيرات، فلا ينقصها إلا الطبع، أما النشر فهي حاصلة عليه.

فترى أن الإسلام أشار إلى الصحافة بمعناها الحقيقي، وأن صحافة الإسلام لا تختلف عن الصحافة العصرية إلا في أنها غير مطبوعة، أو أنها حسب اصطلاح الصحافيين كانت في تلك العصور وفي ذلك الدور تمثل للطبع في هذا العصر.

١  جريدة الدستور ٧ يناير ١٩٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤