الفصل الثاني والثلاثون

الثَّقَافتَان١

من مباحث اليوم في دوائر الثقافة الإنجليزية مسألة الثقافة الإنسانية في العصر الحاضر، وأصح من ذلك أنها مسألة الثقافتين التي يخشى منها على الثقافة الإنسانية، ويريدون بهما ثقافة العلوم والصناعات من جانب وثقافة الآداب والفنون من جانب آخر، وكلتاهما نافعة إذا لم تنفرد بالفكر الإنساني كل الانفراد، ولكنها ناقصة النفع بل وشيكة أن تضر؛ إذا حجبت عن الفكر ما عداها من متممات التهذيب والتقويم.

أثار هذه المسألة في الأيام الأخيرة الأديب «سيرشارل سنو» في محاضرة من محاضراته المسموعة القيمة، ولخص فيها مشكلة الإنسان المتعلم في القرن العشرين، فإن اتساع ميادين المعرفة مع شيوع التخصص في حدوده الضيقة شطر الإنسان — كما يقول — شطرين، وجعله نصف إنساني لا يكتفى به في حسن الفهم وحسن التقدير وحسن التصرف، وقد عزله عن الفطرة التي تعتمد على العرف السليم ولم يعوضه عنها ما يغنيه ويهديه، لأنه أعطاه النظر من ناحية واحدة، وهو أخطر الأنظار.

ولم نسمع في هذا العالم محاضرة كان لها من الصدى ما كان لهذه المحاضرة منذ إلقائها إلى اليوم، أو محاضرة تلاحق التعقيب عليها كما يتلاحق من تعقيبات الصحافة والإذاعة والأندية الفكرية في موضوعها، وهو موضوع الثقافتين.

قال الأديب جون شارب في إذاعته: إنها أخطر بحث عن التعليم تناوله الباحثون منذ صدر تقرير هادو Hadaw قبل ثلاثين سنة.

قال ناقد الملحق الأدبي لصحيفة التيمس: إن الفراغ بين القوتين ليس من الأمور المزهود فيها، فلولا الفراغ لما أمكن سريان الشرارة الكهربائية، ولولاه لما تحركت السيارة التي نركبها، فإذا وجد فراغ بين نوعين من التعليم فليس من الحتم أن يئول ذلك إلى ضرر أو خسارة، وإنما الواجب أن يأتي الفراغ في الموضوع الملائم وبالقدر المطلوب.

ثم عاد الناقد المطلع إلى مسالة الفراغ بين الثقافتين العلمية والفنية في العصر الحاضر فقال: إنها في الحق من المشكلات الجسام يخففها إلى حين أن الإنسان المهذب في زماننا — سواء كان من العلميين أو الفنيين — لا يكتفي بنصيبه من العلم أو الفن، ولا يستغني عن شاغل من شواغل الرياضة البدنية أو من شواغل الموسيقى كالعزف على آلة من آلاتها والاستماع إلى أدوارها المحفوظة في قوالبها المسجلة، أو الاستماع إلى طرائف الإذاعة في مختلف الموضوعات.

إلا أنه ينتمي على الرغم من هذا العزاء الموقوت لو تعالج هذه المشكلة بما يجمع الفائدة من كلتا الثقافتين، ويكفل اللقاء للشطرين الإنسانيين في بنية واحدة لا تشتكي الزيع والانحراف في نظرتها إلى دنياها.

وقال الفيلسوف الرياضي الكبير برتراند رسل من كلمة نشرتها مجلة المساجلة: إن القطيعة بين الثقافتين لم تبلغ في الأزمنة الماضية ما بلغته الآن، إذا كانت القنطرة بين العدوتين قائمة على طول أو على قصر، ولكنها في الحقبة الأخيرة يوشك أن تنقصم فلا تلتقي إحداهما بالأخرى، ولا تسلم الثقافة من كلفة الادعاء والحذلقة، كما يحدث دائمًا عند الشعور بالنقص والرغبة في مداراة الجهل والسذاجة.

ويرى بعض المعقبين أن العلة ناشئة من تراكم الفضول والحشو على مواد الثقافة جريًا مع التقليد والعادة، فلو أعيد النظر في برنامج التعليم لم يتعذر إصلاح الخطأ وتصفية الفضول وإبقاء البقية الصالحة من ثقافة العلم وثقافة الفن التي لا يصعب تحصيلها على المتعلم، مع إعطاء التخصص حقه في عصره.

والذي نراه في جملة ما طالعناه من مباحث هذه المشكلة أن العلة فيها عند الغربيين راجعة إلى سبب أصيل لم يبتدئ في هذا القرن العشرين ولم تأت به الدراسة العلمية أو الحركة الصناعية في هذه السنوات منذ أربعين أو خمسين سنة.

إن العلة فيما نرى راجعة إلى قسمة الثقافة عند القوم إلى ثقافة إلهية وثقافة إنسانية، وراجعة قبل ذلك إلى قسمة الإنسان بين هذا العالم وبين العالم السماوي، وإلى المقابلة بينهما كما تتقابل مملكة السماء ومملكة العالم الدنيوي، أي مملكة الشيطان.

فمن قبل هذا العصر — عصر العلم والصناعة — كان الأوروبيون يقسمون الثقافة إلى قسم العلوم اللاهوتية وقسم العلوم التي سموها بالإنسانية تمييزًا لها من علوم اللاهوت وما يلحق بها من دراسة تعين عليها، وقد سرى هذا التقسيم منهم إلى الشرق مع سريان الحضارة إلينا من بلادهم، فسمعنا بيننا من يتحدث عن العلوم الدينية والعلوم الدنيوية.

فالدين الإسلامي يأمر المسلم بالنظر في السماوات والأرض؛ ليعلم كل العلم عندنا واحدًا يطلبه المتعلم لدينه ودنياه ما يؤدي إليه النظر فيهما وفيما بينهما، ويأمره بأن ينظر في سريرة الإنسان وفي أحوال الأمم فلا يفوته العلم بالإنسان الفرد ولا بالجماعات البشرية.

وأثر هذا الإحساس «بالوحدة الذهنية» أن تتم ثقافة المتعلم، ويسلم العقل من داء الفصام الثقافي الذي يفصل بين روحه وبدنه وبين دينه ودنياه.

وأثره في تاريخ التفكير أن نرى تلك الثقافة الواحدة في العالم الفقيه الفيلسوف الأديب، مع اشتغال بالطب أو بالوزارة أو بسياسة الأمور العامة، ولا نرى له نظيرًا في الأزمنة الحديثة، ولم نر له من قبل نظيرًا في الأزمنة الغابرة؛ لأن الثقافة فيها بطبيعتها كانت تنحصر بين حدودها التي لا تتفرق أو لا تدعو إلى التخصيص، لقلة محصولها في مختلف العلوم.

ولم تتأثر قواعد هذه الثقافة التامة بانتقال المسلمين إلى البلاد الغربية، بل هي أثرت هناك في تلاميذها من الغربيين، فرفعت أمامهم أمثلة نادرة من «الإنسان المثقف» كما ينبغي أن يكون.

من أمثلة أبو بكر بن زهر الذي يقول فيه صاحب نفح الطيب: «هو عين ذلك البيت وإن كانوا كلهم أعيانًا علماء، ورؤساء حكماء وزراء.»

ويقول فيه صاحب المطرب من أشعار أهل المغرب: «كان شيخنا الوزير أبو بكر بن زهر بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العلياء عند أهل المغرب، ومع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب.»

وصاحب هذه المعارف والرئاسات هو الذي يقول من الشعر في شوقه إلى طفله الصغير:

ولى واحد مثل فرخ القطا
صغير تخلف قلبي لديه
نأت عنه داري فيا وحشتا
لذاك الشخيص وذاك الوجيه
تشوقني وتشوقته
فيبكي علي وأبكي عليه

وهو الذي يقول وقد نظر في مشيبه إلى المرآة:

إني نظرت إلى المرآة إذ جليت
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخًا لست أعرفه
وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا؟
متى ترحَّل من هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة:
إن الذي أنكرته مقلتاك أتى
كانت سليمى تنادي يا أُخيَّ وقد
صارت سليمى تنادى اليوم يا أبتا

وهو الذي يقول في إحدى موشحاته:

سلِّم الأمر للقضا
فهو للنفس أنفع
واغتنم حين أقبلا
وجه بدر تهلَّلا
لا تقل بالهموم لا
كل ما فات وانقضى
ليس بالحزن يرجع

ومثل هذا الشعر يسلك بقائله في عداد النخبة من شعراء عصره وشعراء كل عصر، لو أنه تخصص للشعر ولم يزد عليه فضلًا من أفضال العلم أو الحكمة أو الرئاسة. ولكنه زاد عليه من كل فضل ما يسلكه بين خاصة أهله، ولم يفرضه عليه واجب من واجبات المنصب ولا حاجة من حاجات النفس إلى المال والمتعة، بل ترك من المتعة بمقدار ما استفاد من حكمة وأدب: متعة لا يبذل فيها هذا الثمن من يجهل كيف يكون متاع الأرواح والألباب.

ولقد كان هذا التوسع في المعرفة من نصيب البيوت والأسر، ولم يكن من نصيب نابغة فيها يعدونه فلتة الفلتات النادرة بين أبنائها، فليس بالنادر بينهم أن يتعاقب على النبوغ ثلاثة أجيال يميزون بينهم باسم الأب والابن والحفيد؛ لأنهم كلهم في شهرة العلم والنبوغ سواء.

•••

إن «ثقافة التامة» على هذه السنة مستطاعة في كل زمن، مستطاعة في زماننا هذا على الوجه الأمثل مع وفرة علومه وتعدد ألوان الثقافة فيه؛ لأنه كما تعددت فيه ألوان الثقافة تعددت فيه وسائل نشرها وتقريبها والوصول إليها في مصادرها، فمن لم يتسع وقته للاطلاع على المطولات لم يضق به الوقت عن الإلمام بالوسيط أو الوجيز في ضروريات المعرفة، ومن فاته الاطلاع لم يفته الشهود والاستماع، ومن فاته كل ذلك لم تفته مراجعة الصحف ومناقشة العارفين ومتابعة الأخبار مع السؤال والاستفسار.

وليس المطلوب بالبداهة إلغاء التخصص ولا الوقوف بالمعرفة الخاصة دون الغاية من الاستقصاء، فإن الإجادة في عمل الإنسان المثقف لا تنال بغير هذا الاستقصاء إلى غاية مداه المستطاع، ولكن إتقان التخصص هو الذي يوجب على صاحب العلم والفن أن ينطلق من قيوده ولا يغلق عليه أبواب علمه وفنه، فلا سبيل إلى إتقان شيء من الأشياء وراء الجدران المحكمة والأبواب المقفلة، ولا يعرف الحسن من يراه في وجه واحد، أو يعرف سكنى الدور من لم يخرج قط من داره، أو يعرف عقله من لم يعرف عقولًا أخرى لا مشابهة بينها وبينه.

فمن أجل التخصص نعرف ما حوله، وقوام الأمر من المعرفة الصحيحة في عصر «التخصص» أن نعرف كل ما يعرف من علم واحد، وألا نجهل الصلة بينه وبين سائر العلوم، فلا نلتقي بأصحابها لقاء الغرباء من عالم آخر، وما هو في الحقيقة غير العالم الذي نعيش فيه.

وزينة الثقافة، بل ضرورتها القصوى، ألا يكون المرء عالمًا في بابه وأميًّا في سائر الأبواب، فإن هذه الأمية في نقصها وسوء مغبتها أجدر بالمحو من أمية الجاهل بالألف والباء.

١  مجلة الأزهر ديسمبر ١٩٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤