الفصل الخامس

دَورٌ مِنْ أدْوَار التاريخ في الكتابة عَن الأندلس الإسلامية١

أعجب من زوال دولة الإسلام في الأندلس بقاء آثارها سارية حتى اليوم في كل ناحية من نواحي الحضارة الأوروبية، ويكفي أن نذكر من آثارها قيام دعوة الإنسانيين منذ القرن الثاني عشر للميلاد، ثم قيام دعوة النهضة ودعوة الإصلاح الديني وما يليها من الثورات الاجتماعية والسياسية، لنعلم بعد هذا الإجمال السريع أن آثار الإسلام في الأندلس قد أحاط بأصول كل حركة من حركات الثقافة الغربية الحديثة.

وقد كان للمؤرخين الأوروبيين مواقف مختلفة، متناقضة، في تقدير تلك الآثار بين الإنكار والاعتراف، وبين التهوين والإكبار.

كان موقف العداء والمحاربة أسبق تلك المواقف في عصر «التعصب الديني» من بقايا القرون الوسطى. فكان القائمون على ثقافة الغرب يتبعون خطة «الإخفاء والطمس» لمصادرة العلوم الإسلامية، ويتعمدون مطاردتها وإبعادها، وإن شهدوا بفضلها واعترفوا بمحاسنها؛ لأنها مصدر قوة للإسلام وآية من آيات «سحره» الذي يجتذب إليه قلوب المتعلمين من غير المسلمين.

ومضت القرون الوسطى ببقاياها فجاء بعدها عصر الكشف والتنقيب عن المجهولات في كل باب من أبواب المعرفة الإنسانية. فانكشفت في هذا العصر مفاخر الحضارة الإسلامية في الشرق والغرب، وكان للحضارة الأندلسية نصيبها الأوفر من عناية القوم لاتصالها بمواطنهم في صميم القارة الأوروبية، وهنا تفرقت مواقف المؤرخين والنقاد من الغربيين مع تفرق المقاصد والمصالح أو تفرق النظرات والآراء.

فمنهم من كان ينظر إلى موضوعه من خلال النزاع بين الكنيسة والمنشقين عليها، فينتصر لمن حرمتهم الكنيسة واضطهدتهم، وفي مقدمتهم أحرار الفكر المتأثرون بالثقافة الإسلامية، ولا بد — مع الدفاع عن هؤلاء — من الدفاع عن فلاسفة الإسلام وعلمائه وقادة الفكر والمعرفة في بلاده.

ومنهم من كان ينظر إلى هذا الموضوع التاريخي من خلال النزاع على حقوق السلطة القائمة فيتخذ من المواقف ما يناسب هواه: إن كان من أعوان السلطة فهو من المحافظين الجامدين، وإن كان من أعوان الحرية فهو في الجانب المقابل للمحافظة والجمود.

ومنهم من كان يعمل لحساب الاستعمار السياسي، فهو ينكر فضائل الإسلام أو يشهد لها الشهادة التي تقف عند حدود الماضي ولا تتعداها إلى الحاضر الذي غلبت فيه سيادة المستعمرين. فلا حرج عنده من الشهادة للإسلام بالعظمة التي صلحت في زمانها لتعظيم قومها، ولكنها ذهبت مع زمانها فهي الآن في خبر كان.

منذ الحرب العالمية الثانية تغيرت هذه المواقف جميعًا، وخلفتها مواقف أخرى أقرب إلى الإنصاف والاستقلال النظري؛ لأنها تصدر من بواعث «عامة» يقل فيها التوجيه والإملاء ويستلم أصحابها مطالب النشر ورغبات القراء، ويجرون مع العصر في مجراه الغالب عليه، وهو «النزعة العالمية» التي تؤثر الاطلاع على شئون العالم قديمها وحديثها وتتوسع في طلب الأخبار والمعلومات من جميع المصادر والجهات.

فالذين يكتبون اليوم عن الأندلس الإسلامية يجمعون بين النزعة العالمية ونزعة «الهواية الشخصية»، ولا ينسون مطالب النشر التي تتحرى ميول القراء ولا تقوم على التوجيه والإملاء من جانب الدول، أو جانب الهيئات التي تشبهها في اصطناع الدعاية.

•••

من أحدث المؤلفات التي ظهرت في هذا الدور — سنة ١٩٥٨م — كتاب «الأندلس» أو «إسبانيا في ظل المسلمين» لمؤلفه الأستاذ أدوين هول Edwin Hole المستشرق المعروف.

عمل هذا المؤلف بمصر وسوريا وتركيا والبلقان، ثم اغتنم فرصة العمل في وكالة «ملقة» القنصلية، فعكف على دراسة الحضارة الأندلسية من قريب، وقضى في هذه الدراسة زهاء خمس سنوات، خرج منها بهذا الكتاب الموجز الذي يقع في نحو مائتي صفحة، ويشتمل على أحداث الأقوال والآراء في تاريخ هذه الحضارة. وجملة ما يقال عن أقواله وآرائه أن الرجل أنصف حضارة الأندلس الإسلامية فيما فهمه وتأتَّى له أن يحكم عليه، ولكنه جهل منها بعض جوانبها — ولا سيما جانب الشعر والأدب — فأحال فيه التبعة على غيره، وبلغ بذلك غاية ما يستطيعه جاهل الشيء من إنصافه وتقديره.

يكاد المؤلف أن يقول عن جانب الثقافة من حضارة الإسلام في الأندلس إن الدولة الإسلامية قد صنعت الخوارق في ترقية العقول والأذواق، وإن ولاة الأمر فيها كانوا يعدون عدو الجياد حيث سار اللاحقون بهم في خطوهم الهزيل، فيتعثرون وهم يدرجون.

ففي كلمة «الكتاب» تتلخص المعجزة التي صنعتها الدول الإسلامية في القارة الأوروبية. قال المؤلف عن مكتبة الخليفة «الحكم»: إن عدد كتبها ومجاميعها قُدِّر بنحو أربعمائة ألف كتاب ومجموعة. وقد حاول الملك الفرنسي شارل الملقب بالحكيم بعد الحكم بأربعة قرون أن ينشئ مكتبته، فلم يستطع أن يجمع فيها أكثر من تسعمائة كتاب، ستمائة منها تبحث في اللاهوت.

وقد تجاوبت آفاق القارة الأوروبية من مشرقها إلى مغربها بسمعة الخلفاء المسلمين في طلب العلم والتحصيل والحرص على اقتناء الكتب النفيسة والمدونات النادرة، فكان «الكتاب» أعز الهدايا التي يخطب بها ود الخليفة بين ملوك القارة وأمرائها، وكانت السفارة الناجحة في بلاط قرطبة سفارة الملك الذي يزود رسوله بتحفة من تحف العلم والحكمة، ويقول المؤلف في سياق كلامه عن الكتب: «إن الرغبة في المعرفة كانت مستفيضة لا حدود لها، وقد حدث أن الإمبراطور البيزنطي أرسل إلى عبد الرحمن الثالث كتاب «ديو سقريدس، في العقاقير»، فعهد إلى جامعة الطب بترجمته وحل رموزه، وكان الحكم بن عبد الرحمن نفسه من كبار العلماء يشترك في البحث بالوفود إلى أطراف البلاد لشراء المخطوطات ودعوة العلماء إلى بلاطه؛ حيث يعاملون معاملة السخاء والحفاوة، فأصبحت إسبانيا قطبًا قويًّا يجذب أساطين العلم من كل مكان.»

وظل الكتاب في المغرب الإسلامي ذخيرة مضنونًا بها على الضياع حتى في أيام الإدبار والأفول بعد زوال الدولة في شبه الجزيرة الأندلسية. فلما استولى الإفرنج على سفينة محملة بالكتب والأمتعة لمولاي زيدان المراكشي في القرن السابع عشر، أرسل الأمير يطلب الكتب، ولم يحفل بما عداها من حمولة السفينة، ويقول المؤلف: إن المسألة أحيلت على محكمة التفتيش، وأرادت هذه المحكمة أن تبدي بعض السماحة في جوابها على الأمير المغربي، فقررت أن ترد إليه كتب العلم والجغرافيا وما إليها، وأن تحجز الكتب الدينية التي قد تعزز سطوة الإسلام، ورفع الأمر إلى مجلس الوزراء فرفض أكثر أعضائه اقتراح محكمة التفتيش، وأشاروا بإحراق الكتب العلمية والدينية على السواء، وتوسط النبيل المستنير المركيز دي فيلادا De Velada عند الملك؛ لإنقاذ هذه الذخيرة، فأمر الملك بحبسها وإغلاق الأبواب عليها في مكان حصين.

ويفيض المؤلف في استقصاء أخبار المكتبة الأندلسية من مصادرها، ولكنه يعنى في شرحه لآثارها وتعاليمها بجانب يقل المعنيون به من المؤرخين الغربيين، فلا يدع القارئ يفهم من الإفاضة في ذكر الكتب والمطلعين عليها أن المدرسة الأندلسية مدرسة معقولات ومحفوظات، قصاراها أن تخرج الفقهاء والحكماء وتحشو أذهانهم بمسائل العلم والأدب أو بمسائل الطب والهندسة وصناعات المرافق النافعة، ولا يدع القارئ يفهم أن المقبلين على المطالعة في إبان الدولة كانوا من تلك الزمرة التي يطلق عليها الأوروبيون اسم «ديدان الأوراق»، بل المفهوم من نوادر الكتاب وطرائفه أن الاطلاع على تلك الأوراق قد كان زادًا من أزواد المعيشة الصالحة، والحياة الإنسانية: حياة الحس والعاطفة، وحياة السلوك المهذب والكياسة العلمية وما توحيه من آداب المعاشرة الطيبة في البيئة الإسلامية وغيرها من البيئات الأوروبية، ولعل السياسة التي اشتغل بها المؤلف في مهام القناصل والرسل المحنكين الذين يتولون أعمالهم بين الأعداء والأصدقاء في أيام الحروب والقلاقل التي اتجهت به إلى البحث عن نصيب «الأندلسي المثقف» من مهام «الدبلوماسية» في تلك العصور المحفوفة بالظلمات والأخطار.

نقل المؤلف عن مخطوطة وجدت بمدينة فاس مما اطلع عليه المستشرق ليفي بروفنسال أخبار أول سفارة تبودلت بين الإمبراطور البيزنطي تيوفيلوس والخليفة عبد الرحمن الثاني، فقال في فصل العلاقات الخارجية:

أراد تيوفيلوس أن يثير حفيظة عبد الرحمن الثاني فذكَّره بذبح العباسيين لآبائه وأحب أن يرضيه بالزراية من خلفاء بغداد، فلم يسمهم بالأسماء التي اشتهروا بها كالمأمون والمعتصم، بل نسبهم إلى أمهاتهم من جواري القصور، ولكن الزناد لم ينقدح؛ لأن آباء عبد الرحمن نفسه لم يكونوا ممن ينكرون التسرِّي بالإماء، فأجابه جوابًا مفرغًا في قالب المجاملة مع التحفظ والاحتجاز، ووكل أمر السفارة إلى الشاعر النابه يحيى بن الحكم البكري الذي كان لرشاقته وجماله يلقب بالغزال …

قال المؤلف:

وقوبل الوفد في القسطنطينية بالحفاوة الملكية، ولكن الإمبراطور أضمر في نيته أن يضطر الغزال إلى الانحناء بين يديه على الرغم مما هو معلوم من تعذر ذلك. فأمر بفتح باب صغير في غرفة العرش لا يدخله القادم قائمًا. فلما أقبل الغزال جلس عند الباب وتقدم زاحفًا حتى بلغ ساحة العرش فنهض على قدميه، وكان الإمبراطور قد أحاط نفسه بعرض حافل بالأسلحة والنفائس يريد أن يروع السفير ويهوله، ولكنه لم يرع ولم يستهول ما رآه بل مضى على أثر وقوفه في إلقاء رسالته، وسلم الإمبراطور خطاب مولاه وودائع التحف والهدايا من المصنوعات والآنية الفاخرة، فكان لها أجمل الوقع في نفس الإمبراطور وكفلت للوفد الأندلسي طيب المقام وحسن الخدمة.

واهتم السفير اهتمامه الخاص بأهل البلد فحير علماءهم بالمشكلات الفكرية والمناقشات الذكية، وكال الضربات الموفقة لقادتهم وفرسانهم، وشاع خبره حتى انتهى إلى مسامع الملكة فأرسلت تستدعيه إلى حضرتها ومثل أمامها فسلَّم منحنيًا وأمعن النظر إليها كالمشدوه، فأمرت الترجمان أن يسأله: أتراه يمعن النظر إليها لجمالها أو لغرابة مرآها؟ فكان جوابه الحاضر: أنه قد رأى الحسان حافات بمليكه فلم ير منهن من تضارعها في جمالها، ودار الحديث بعد ذلك على هذه النغمة المحبوبة، واستجابت الملكة لرجاء الغزال أن تسمح له برؤية الحسان من خواتين المملكة، فجعل ينظر إليهن من الفروع إلى الأقدام، ثم قال ليلقي بحكمه المنتظر: إنهن في الحق لجميلات، ولكن لا وجه للمقارنة بينهن وبين الملكة التي تتنزه محاسنها وشمائلها عن النظيرات، ولا يحسن وصفها غير المجيدين من الشعراء، وعرض عليها أن ينظم هذا الوصف في قصيد من شعره يتغنى به الأندلسيون، فوثبت الملكة فرحًا ومنحته هدية نفيسة من حلاها، فأبى أن يأخذها وقال: إنه على نفاستها وعلى اعتزازه بما تمنحه الملكة من هدية كائنة ما كانت، يحسب أنها قد وفته فوق حقه من النعمة، ومنحته غاية ما في الوسع أن تمنحه بسماحها له أن يتملى النظر إلى طلعتها، وأنها شاءت أن تضاعف له العطاء فحسبها أن تزيده حظًّا من النظر إليها. ولم تكن الملكة تنتظر ما هو أحب إليها من ذلك، فلم تزل تدعوه إلى مجلسها كل يوم لتسأله عن مشاهداته ورحلاته وما وعاه من التواريخ والقصص، ثم تبعث إليه بعد انصرافه بالتحف الثمينة من الأنسجة والعطور …

•••

وليس في كتاب «الأندلس في ظل الإسلام» غير القليل مما لم يرد في المطولات من أخبار الترف والبذخ وظواهر الرغد والرخاء التي اشتهر بها في ذلك الفردوس المفقود، ولكن هذا الكتاب الحديث يورد أنباء البذخ والترف، ويتخللها هنا وهناك بنادرة أو عبرة تنم على إدراك لمعنى الحياة، موكل بالصفو الرفيع من لذات الروح وأشواق العاطفة الإنسانية، يتفقده الأندلسي المثقف ولو خلصت له متعة الجاه والثراء، ومسرة الملك والسطوة. فكان عبد الرحمن الناصر «يقيم نفسه مقام الحكم المطاع بين ملوك المسيحية، ويستقبل في عزته وعليائه وفودهم المتنازعة، كما يستقبل الملوك أنفسهم أحيانًا وقد حنوا أعناقهم العصية لمراسم الاستقبال في بلاط الخلافة. ولكنهم وجدوا بين أوراقه بعد وفاته أنه لا يذكر من أيام حكمه الطويل — نحو خمسين سنة — غير أربعة عشر يومًا يعدها من أيام الصفو التي لا تشوبها سحابة».

•••

كانت حضارة متاع ونعمة، وكانت حضارة عقل وفهم وعاطفة.

كانت حضارة «إنسانية» كاملة، تلك الحضارة التي وصفها صاحب كتاب «الأندلس في ظل الإسلام» متوخيًا لها الإنصاف غاية ما يستطيعه الكاتب الأوروبي المعتز بحضارته العصرية في القرن العشرين.

أما الذي فاته أن ينصفه من تلك الحضارة فهو الذي فاته أن يفهمه من خيرة المأثورات عنها، وهو بلاغتها الشعرية الشائقة: بلاغة الموشحات والألحان.

يقول صاحب الكتاب في الفصل الذي خصصه للكلام على الشعر الأندلسي: «إن أكثر هذه المنظومات مما لا يطيقه العقل الغربي، وهو رأي يصرح به الخبراء بتلك المنظومات، ولا نعرف من هو أحق بالحكم عليها من جارسيا جوميز Garcia Gomez الذي يجمع بين الأستاذية في العلم والذوق عقده للكلام على ابن قزمان أحد الشعراء المتأخرين: إن الصناعة اللفظية هي موضع العناية الكبرى في الأدب العربي، بين نثر مقيد بالأسجاع وبين ألوان من المجازات والأشباه والطلاوات واللوازم، تعوزها الحرارة والشعور، وكأنما هي كلها عرض من العروض المقنعة بالبراقع، حيث البسمات لآلئ والعيون أزهار بنفسجيات والرياحين جواهر والجداول سيوف. وإن القارئ ليجتهد اجتهاده بين ترجمات بير Peres أو شاك Schack فينوء ذهنه بما يطبق عليه من النسق المتفق المتواتر! خصور كالأغصان تنبثق من آكام الرمال، أو شاعر يشبه نفسه بالطير الذي أثقل ندى الممدوح جناحيه فأعياه أن يطير، أو برق يومض بين الغمام كأنه ضرام العشق في قلب الشاعر يتوهج من خلل دموعه، ونصفها — أو أكثر من نصفها — قوالب منقولة يحكيها النظامون من وحي الذاكرة.»

وهذا الخطأ الذريع في الحكم على الشعر العربي شائع غالب على أقوال المستشرقين، نفهمه ولا نرى صعوبة في فهمه إذا ذكرنا أن الغالب على هؤلاء المستشرقين أنهم من زمرة الحفاظ يشغلون بجانب «الحفظ» من الأدب ولا يشتغلون بلباب الأدب في لغاتهم ولا في لغات غيرهم من المشارقة أو المغاربة. فهم لا يحسنون الحكم على شاعر من أبناء جلدتهم، وأحرى بهم ألا يحسنوا الحكم على الشعراء من أبناء اللغات التي تخالف لغاتهم في تراكيبها ومصطلحاتها، ومن أبناء الأمم التي تخالف أممهم في أمزجتها وعاداتها، وقد ينظر الكثيرون منهم إلى القصيدة الرائعة فيقفون عند مجازاتها ويشعرون ﺑ «الربكة» التي يشعر بها عندنا من يقول مثلًا: هات الأسطوانة! فيحضر له السامع قرصًا من أقراص الغناء المسجل، فيختلط عليه الأمر بين ما توقعه من لفظ الكلمة وما رآه بعد ذلك من حقيقة المسمَّى.

وكذلك يشعر المستشرق بالربكة؛ حين يتوقف بذهنه عند مجازات التشبيه فيحسبها مقصودة لذاتها ويتقيد بقشورها اللفظية دون ثمراتها وبذورها، فلا يدري كيف يطرب العربي لهذا الشعر ولا يحاول أن يرجع بالعجب إلى نفسه قبل أن يتهم أمة كاملة بضلال الحس وسوء التعبير، وهي — فيما يعلم — من الأمم التي تفخر بلسانها وتنكر العجمة من ألفاظها ومعانيها.

ولقد كان من أقرب التفسيرات إلينا أن نرجع بأخطاء المستشرقين في فهم الشعر العربي إلى الفارق الأبدي «المزعوم» بين أذواق الشعراء في لغاتنا وأذواق الشعراء في لغاتهم على تباينها، وكنا نستقرب ذلك التفسير لولا أننا نعلم أن قراءنا يتذوقون شعرهم كما يتذوقون شعرنا، وأن الفوارق الكلامية لا تحول دون ظهور المعاني الإنسانية لمن يلتمسها في مواطنها ويتحرى أن يزنها بموازينها، وأن ينفذ إلى بواطنها. فليس بين الأذواق الإنسانية من فاصل في تمييز فنون البلاغة الخالدة، وإنما هو الفاصل بين «الحفظ» والذوق يحول دون الفهم الصحيح في اللغة الواحدة، فضلًا عن اللغات المتعددة، وهذا هو الفاصل بين المستشرقين «الحفاظ» وبين محاسن الشعر العربي في ظواهره وخفاياه.

على أن العذر ممهد لمن لا يستحسن؛ لأنه يجهل ولا يدعي أنه يعلم، وإنما اللوم على من يسيء النية قبل أن يسيء الفهم، فلا يرجى منه إنصاف.

١  الأزهر مارس ١٩٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤